المجلد الثانى: الجماعات اليهودية.. إشكاليات 3

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

كما أن حديث الصهاينة متأثر بتجربة يهود شرق أوربا من يهود اليديشية، الذين كانوا كتلة بشرية ضخمة (تشكل 80% من يهود العالم) تتميَّز بشكلٍّ مباشر عن محيطهاالحضاري. ولكن من الواضح أن هذا التميز ناجم عن عناصر حضارية حملها يهود اليديشية من الحضارات السابقة التي عاشوا في كنفها، وأدخلوا عليها عناصر تبنوها من الحضارة التي انتقلوا إليها. فاليديشية (أهم مظاهر خصوصيتهم) هي ألمانية العصور الوسطى التي كانوا يتحدثون بها قبل هجرتهم بعد أن دخلت عليها بضع كلمات سلافية وعبرية، ورداؤهم هو الكفتان (القفطان) رداء الأرستقراطية البولندية، وهو من أصل تتري تركي. كما أنهم تأثروا بمحيطهم السلافي في معتقداتهم الدينية، فالحسيدية هي نتاج الفكر الصوفي الفلاحي السلافي وعقائد المنشقين على الكنيسة الأرثوذكسية، وقبعتهم المعروفة بالستريميل المزينة بالفرو هي ذات أصل سلافي. ويمكن القول بأن خصوصية يهود اليديشية تكمن في عدة عناصر مستمدة من عدة حضارات، وأن وجودها مجتمعة فيهم هو ما قد يشكل خصوصيتهم. وقد كوَّن يهود اليديشية كتلة بشرية ضخمة مترابطة متميِّزة عن محيطها الحضاري مع تأثرها العميق به، ولذا فإنها تُعدُّ أقلية قومية مثل كثير من الأقليات القومية الأخرى التي كانت توجد داخل الإمبراطورية القيصرية، فهي لا تشكل شعباً يهودياً وإنما أقلية قومية شرق أوربية. وقد انطلق أعضاء حزب البوند من هذا المفهوم، وطلبوا حل مشكلة الجماعة اليهودية في شرق أوربا باعتبارها أقلية قومية يهودية شرق أوربية لا شعباً يهودياً عالمياً. وينطلق فكر دبنوف من المفهوم نفسه، فالحديث عن قومية الدياسبورا هو في واقع الأمر حديث عن الخصوصـيات اليهودية، وقومية الدياسـبورا هي حديث عن أقليات قومية، وعن أقلية قومية واحدة على وجه التحديد، وهي يهود اليديشية. ومن هنا كان رفض هؤلاء اللغة العبرية ودفاعهم عن اليديشية، لا باعتبارها لغة اليهود التي تُعبِّر عن خصوصية يهودية عالمية، وإنما باعتبارها لغة يهود شرق أوربا، التي تُعبِّر عن خصوصيتهم.

ولكن هذه الخصوصية اليهودية اليديشية وغيرها من الخصوصيات اليهودية، تم اكتساحها مع ظهور العلمانية الشاملة في الغرب وعصر العقل والاستنارة. فالفكر العلماني والعقلاني ينظر إلى الكون في إطار فكرة القانون العام والطبيعة البشرية العامة والإنسان الطبيعي. وقد ظهر هذا الفكر قبل تَطوُّر الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية التي أدَّت إلى تَراجُع فكرة الإنسان الطبيعي والإنسانية العامة، حيث حل محلها إدراك أعمق للطبيعة البشرية ولتَداخُل العناصر التاريخية والحضارية الخاصة مع بنية الطبيعة البشرية ذاتها. وقد طالب عصر العقل أعضاء الجماعة اليهودية وغيرهم بالتخلص من خصوصيتهم ليصبحوا بشراً بالمعنى العام للكلمة. وكان يُنظَر إلى اليهود الذين يُؤثرون الإبقاء على خصوصيتهم الدينية أو الإثنية على أنهم «دولة داخل دولة». وقد شن الفكر العقلاني هجوماً شرساً على جميع الأقليات العرْقية واللغوية والدينية في المجتمع الغربي وضمن ذلك الجماعة اليهودية، ودعاهم إلى التخلي عن انعزاليتهم وإلى إصلاح وتحديث هويتهم، أي تطبيعها وتخليصها من أية خصوصية تكون قد علقت بها.

وقد استجاب اليهود إلى هذه الدعوة وبسرعة غير عادية لأسباب عدة، من بينها عدم وجود خصوصية يهودية عالمية كما أسلفنا، وعدم وجود سلطة مركزية يهودية تحدد الخصوصية اليهودية وتحدد معاييرها. ويُلاحَظ أن أعضاء الجماعات اليهودية، بسبب غياب هذه السلطة، كانوا قد تشربوا قدراً كبيراً من الثقافة المحيطة بهم، عن وعي أو عن غير وعي، ولذا فلم يكن من الصعب إنجاز عملية التخلص من أية علامات على الخصوصية. كما ظهرت بين اليهود حركات إصلاح ديني وتنوير أسهمت في تخليص اليهود من أية خصوصية دينية أو غير دينية. ومع هذا، يجب ملاحظة أن أشكال العلمنة ومعدلاتها ذاتها كانت تختلف من بلد إلى آخر حسب الخصوصية الدينية والحضارية لهذا البلد أو ذاك.

وأكبر دليل على الاختفاء السريع للخصوصية هو ما حدث للكتلة البشرية الشرق أوربية الضخمة من يهود اليديشية، والتي كانت تشكل 80% من يهود العالم. فقد اختفت اليديشية، أهم مظاهر هذه الخصوصية بسرعة غير عادية، ولم يعد هناك سوى بضعة جيوب وأفراد يتحدثونها. وتُعَدُّ تجربة المهاجرين اليهود مع الولايات المتحدة من أهم التجارب في التخلص من الخصوصية، فقد كان أعضاء الجماعة اليهودية هم أسرع أقلية تمت أمركتها رغم كثرة الحديث عن انعزالهم وتطلعاتهم القومية، وذلك لأن المجتمع الأمريكي هو المجتمع العلماني النموذجي. وفي الوقت الحاضر، تدل الصورة العامة للخصوصيات اليهودية في العالم على تآكلها، وعلى تزايد معدلات اندماج اليهود في مجتمعاتهم.

وبطبيعة الحال، لا يمكن الحديث في الوقت الحاضر عن أية خصوصية إسرائيلية. ولكن، حتى إن ظهرت مثل هذه الخصوصية، فإنها لن تكون خصوصية يهودية عالمية وإنما خصوصية التجمع البشري الاستيطاني في الشرق الأوسط، ذلك المجتمع الذي يتحدث سكانه اللغة العبرية مع أنهم جاءوا من تشكيلات حضارية شتى وأحضروا معهم خصوصياتهم الحضارية المختلفة. والنزاع القائم بين الأرثوذكس وغير الأرثوذكس، وبين الدينيين واللادينيين، وبين السفارد والإشكناز، هو أكبر دليل على عدم وجود الخصوصية اليهودية العالمية أو العامة.

الاندمـــــــاج

Assimilation

«الاندماج» هو تَبنِّي أعضاء الأقليات عادات الشعوب التي يعيشون في كنفها، وكذلك تراثها الحضاري من مأكل وملبس وطرق تفكير ولغة، بحيث لا يختلفون في كثير من الوجوه عن بقية أعضاء المجتمع. والاندماج عكس الانعزال، وهو مختلف عن الانصهار (أي الذوبان الكامل في المجتمع المضيف أو مجتمع الأغلبية واختفاء أي شكل من أشكال الخصوصية). وأعضاء الجماعات اليهودية، باندماجهم في محيطهم الحضاري وانصهارهم أحياناً أو بانعزالهم عنه أحياناً أخرى، لا يختلفـون عن بقـية أعضـاء الأقليات والجماعات الإثنية، أو عن بقية البشر.

ولا يوجد قانون واحد يحكم ظاهرة اندماج أعضاء الجماعات اليهودية وانصهارهم أو انعزالهم، وبالتالي لا يمكن القول بأن اليهود يميلون بطبيعتهم إلى الانعزال عمنحولهم. كما لا يمكن الأخذ بعكس ذلك، كأن نقول إن اليهود يميلون بطبيعتهم إلى الاندماج فيمن حولهم، وهكذا. ففي غياب حركيات تاريخية اجتماعية يهودية مستقلة، لابدمن العودة إلى أُطر مرجعية مختلفة، ومن ثم فإن من الضروري دراسة كل حالة على حدة بالإشارة إلى مرجعيتها التاريخية والثقافية غير اليهودية. ومع هذا، سنحاول أن نصل في المداخل التالية إلى بعض التعميمات الفضفاضة بمقارنة الحالات المختلفة ومقارنة أوضاع الجماعات اليهودية بجماعات وأقليات أخرى.

الاندمـــــــاج البنيـــوي

Structural Assimilation

«الاندماج البنيوي» هو الاندماج النابع من حركيات المجتمع وبنيته وظروفه الموضوعية، هذا في مقابل «الدمج المدني» وهو إعطاء اليهود حقوقهم الدينية والسياسية والمدنية من خلال تشريعات وقوانين تصدرها الدولة وتشرف مؤسساتها على تنفيذها. وينطبق هذا الاندماج المدني على معظم يهود العالم الغربي، أي أغلبية يهود العالم.

وتتم عمـلية الدمـج المدني على مسـتوى البنية الشـكلية السطحية، ولذا فهي لا تضرب بجذورها في الواقع المتعين، ومن ثم فهي مهددة بالاختفاء في أية لحظة. وقد حدث شيء مماثل في ألمانيا في ثلاثينيات هذا القرن. فأعضاء الجماعة اليهودية كانوا قد حققوا درجات عالية من الاندماج المدني، بعد أن حصلوا على حقوقهم السياسية والدينية كافة، وبعد أن أُتيح لهم مختلف الوظائف وفتحت المؤسسات التعليمية أبوابها لهم. وقد تم ذلك بمقتضى القانون. ولكن حين وصل النظام النازي إلى الحكم، فقدوا كل هذه الحقوق بسبب بنية المجتمع الألماني وعلاقة أعضاء الجماعة اليهودية بها، والتي أدت في نهاية الأمر، إلى وصول النازيين إلى سدة الحكم.

ويمكن القول بأن آليات الدمج والعزل ليست مسألة ذاتية أو إرادية تماماً، وإنما مسألة لصيقة ببنية المجتمع، ومن ثم فهي قد تتجاوز رغبة المؤسسة الحاكمة في دمج الأقلية أو عزلها، بل وتتجاوز موقف أعضاء الأقلية من عمليتي الدمج والعزل. فمن المعروف أن الدولة الروسية القيصرية كانت راغبة تماماً في دمج اليهود، لأن هذا كان يخدم مصلحتها ويتفق مع رؤيتها. وبالفعل أصدرت الدولة الروسية العديد من القوانين لحث اليهود على الاندماج. ولكن كانت هناك عناصر عديدة ذات طابع بنيوي تعوق عملية الدمج المدني مثل تَخلُّف وفساد البيروقراطية الروسية التي كانت تشرف على عملية الدمج. كما أن تَخلُّف أعضاء الجماعات اليهودية لم يساعد كثيراً على عملية الدمج.

ولنضرب مثلاً آخر من كوبا. حينما استولت قوات كاسترو على الحكم، كانت الحكومة الثورية الجديدة متعاطفة تماماً مع أعضاء الجماعة اليهودية، وأصدرت التشريعات اللازمة لمنحهم حقوقهم السياسـية والمدنية ولتهيئة الجـو اللازم لممارسـة الشـعائر الدينية اليهودية. ولكن على المستوى البنيوي كان الاقتصاد الاشتراكي يضطر الحكومة لتأميم العديد من المصانع التي كان يمتلكها أعضاء الجماعة اليهودية والاستيلاء على رؤوس أموالهم وتصفية كثير من الوظائف التي كانوا يشغلونها (فهم كانوا مرتبطين بالاقتصاد القديم والمصالح الأمريكية). كل هذا يعني في واقع الأمر أن بنية المجتمع نفسها كانت تلفظهم، رغم كل المحاولات المخلصة من جانب الحكومة الثورية أن تحافظ عليهم وتستفيد من خبراتهم.

وقد يكون من المفيد أن نتناول بعض آليات الاندماج والانعزال البنيويين فيما يلي:

1 - يُلاحَظ حينما يتحـول أعضـاء الجـماعة الدينية إلى جماعة وظيفية، أي حينما يضطلعون بوظائف تتطلب نوعاً من الحياد والانفصال عن المجتمع، أنهم يحققون أقل درجات الاندماج، إذ أن عُزلَتهم تصبح أمراً وظيفياً مطلوباً. ومثال ذلك، الجماعة اليهودية في جزيرة إلفنتاين في مصر (قرب أسوان) والتي كانت تشكِّل جماعة وظيفية قتالية ابتداءً من عصر بسمتيك الثاني (594 - 588 ق.م)، وكذلك الجماعات اليهودية في الغرب والتي عمل بعض أعضائها أقنان بلاط في العصور الوسطى، وكذلك يهود الأرندا في بولندا ابتداءً من القرن الخامس عشر حتى القرن التاسع عشر. وحينما يترك اليهود هذه الوظيفة، فإن الأسباب الداعية إلى عزلتهم تنتفي ويبدأ أعضاء الجماعة في الاندماج في المجتمع بل والانصهار فيه، تماماً كما حدث في حالة يهود الصين في مدينة كايفنج. ويمكن النظر إلى انخراط بعض يهود اليديشية (من يهود شرق أوربا) في صفوف الطبقة العاملة والوسطى داخل منطقة الاستيطان في روسيا في أواخر القرن التاسع عشر، أو تَحوُّل المهاجرين منهم في الولايات المتحدة إلىعمال ومهنيين وتجار في القرن العشرين، بوصفه تعبيراً عن هذه العملية التي يتحوَّل من خلالها أعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة المنعزلة والتي توجد في مسام المجتمع إلى طبقة وسطى أو عاملة توجد في صلبه.

2 - يبدو أن أعضاء الجماعات اليهودية حينما ينخرطون في صفوف المهن الحرة، فيعملون كأطباء ومحامين ومديرين وموظفين كبار، تصبح معدلات الاندماج بينهم عالية للغاية شريطة وجود ظروف معينة أهمها ألا تكون المهنة مقصورة عليهم، وألا يعمل بها أعداد كبيرة من أعضاء الجـماعة اليهـودية، وإلا تَحـوَّلوا إلى جـماعة وسيطة. فحينما تضم مهنة ما أعداداً كبيرة من أعضاء الأغلبية، فإن الانتماء إلى المهنة والاستفادة بشبكة الاتصال التي يتم تَبادُل أسرار المهنة من خلالها سيتطلب التخلي عن كل خصوصية قومية. وهذا ما حدث في الصين في كايفنج، حين انخرط اليهود في سلك طبقة الماندرين من كبار الموظفين من خلال الامتحان الإمبراطوري في منتصف القـرن السابع عشر، فاندمجــوا فيهم وأصبحـوا صينيين تماماً. ونحن نرى أن ما يحدث للجماعات اليهودية في الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي (سابقاً) هو من هذا القبيل. فأبناء العمال اليهود وأعضاء الطبقة الوسطى يدخلون الجامعات بنسبة عالية ويتحولون إلى مهنيين وعلماء، وهنا فإن ولاءهم ينصرف إلى أعمالهم وبالتالي إلىجماعتهم الجديدة. كما أنهم جزءٌ لا يتجزأ من المجتمع في ثقافته ولغته، الأمر الذي يشجع اليهود على الاندماج الثقافي.

3 - يُلاحَظ أنه إذا ظهرت الخصوصية، وظهر التَميُّز والتمايز على المسـتويات الدينية والاقتصادية والثقافية، تصبح درجة العزلة عالية للغاية، إذ تدعم العزلة الاقتصادية العزلة الدينية التي تقوم بدورها بإضفاء القداسة على العزلة الاقتصادية. وربما كان وضع يهود الأرندا في أوكرانيا مثلاً متبلوراً يُجسِّد هذه الصورة، حيث كانوا يمثلون الإقطاع الاستيطاني البولندي في أوكرانيا، ويعملون بالأمور المالية والتجارية في وسط زراعي فلاحي، ويتحدثون اليديشية والبولندية في وسط يتحدث الأوكرانية. كما كانوا يهوداً يمثلون نخبة كاثوليكية في وسط أرثوذكسي، بل ويرتدون أزياء مختلفة عن تلك التي يرتديها الفلاحون، ويقصون شعورهم بطريقة متميِّزة في شكل لحية وسوالف، وبالتالي لم تكن تربطهم علاقات قوية بالمجتمعات التي يعيشون بين ظهرانيها. والصينيون، في جنوب آسيا، مَثَل آخر لهذا. وهذا يختلف عن تَميُّز الأقلية وتمايزهم على مستوى واحد فقط كما في حالة الأقلية القبطية في مصر، فالتميز ديني وحسب (وحتى على هذا المستوى توجد أرضية مشتركة عريضة)، أما على المستويات الثقافية والاقتصادية فهم جزء لا يتجزأ من التشكيل الحضاري العربي الإسلامي في مصر (يتحدثون العربية ولا يختلفون عن بقية أعضاء المجتمع في مأكلهم أو ملبسهم أو مشربهم).

4 - يزداد مستوى العزلة والخصوصية إن كان هناك وطن أصلي يتبعه أعضاء الأقلية ويشكل النقطة المرجعية النهائية لهم يستمدون منه هويتهم ورؤيتهم لأنفسهم. وربما كان الصينيون في جنوب شرق آسيا مثلاً جيداً لذلك، فالصين هي دائماً وطنهم الأصلي ونقطة جذب حضارية ضخمة لها ثقلها ووزنها بالنسبة إليهم. وتزداد معدلات الاندماج باختفاء مثل هذا المركز، إذ يستمد أعضاء الأقلية رؤيتهم لأنفسهم من المجتمع الذي يوجدون فيه أياً كانت درجة انعزالهم عنه. وغياب مثل هذا المركز يعني أيضاً غياب معايير مركزية دينية أو ثقافية، وهو ما يعني أن كل أقلية لابد أن تتطور بحسب المعايير المحلية. وهذا ما حدث للجماعات اليهودية في كل أنحاء العالم، فرغم انفصالهم النسبي عن الأغلبية، فقد استمدوا هويتهم المسـتقلة منها (بسـبب غـياب ثقافة يهـودية عـالمية ومركز يهودي واحد)، ومن ثم حققوا معدلات عالية من الاندماج (رغم استقلاليتهم الظاهرة)

5 - من الواضح أن ثمة علاقة بين معدلات الاندماج وحجم الجماعات اليهودية. فالجماعات الصغيرة تميل نحو الاندماج بسرعة على عكس الكتل البشرية الكبيرة، ومن هنا فإن تَركُّز أعداد كبيرة من أعضاء الجماعة اليهودية أو غيرها في منطقة سكنية واحدة يساعدها على العزلة ويؤكد خصوصيتها، إذ يُمكِّنها من ممارسة معظم الأنشطة الحياتية داخل نطاق الجماعة ومن خلال أعضائها، أما إذا خَفَّت الكثافة السكانية فإن معدلات الاندماج تتزايد. كما أن صغر حجم الجماعة يجعلها غير قادرة على المساهمة في صياغة الأفكار التي تسود المجتمع، ولهذا فإنها تَتبنَّى الأفكار السائدة وتستبطنها تماماً. وربما كانت منطقة الاستيطان في روسيا (ثم الاتحاد السوفيتي)، بكثافتها البشرية اليهودية، هي أكثر المناطق التي ساعدت على انتشار الخصوصية اليهودية الشرق أوربية اليديشية، حتى أن بعض مثقفي هذه الجماعة اليهودية كانوا يتحدثون عن قومية يهودية شرق أوربية يديشية. ولكن، بعد الثورة البلشفية في الاتحاد السوفيتي، فُتحت أمام اليهود أبواب الحراك الاجتماعي وسُمح لهم بترك منطقة الاستيطان. وقد ساهم هذا في نزوح اليهود وتَناثُرهم وزيادة معدلات الاندماج بينهم. والواقع أن انخراط أعضاء الجماعة في سلك المهنيين يساعد على هذه العملية إذ أن المهني يحاول أن يغتنم الفرص أينما وجدها، فيترك المنطقة ذات الكثافة السكانية اليهودية وينتقل إلى مناطق نائية تجعل حفاظه على خصوصيته كعضو في الجماعة اليهودية أمراً صعباً بالنسبة له.

6 - يُلاحَظ أن يهود العالم يوجدون الآن في مناطق حضرية كبيرة مثل نيويورك. ويُلاحَظ أن ذلك يشجع على الاندماج، ذلك لأن هذه المناطق غير مقصورة على أعضاء الجماعة اليهودية، وهنا فإنهم يجدون أنفسهم في محيط ثقافي غير يهودي يضطرهم إلى التعامل معه بشكل دائم ويومي والتكيف معه في نهاية الأمر، خصوصاً إذا كانوا لا يعيشون داخل جيتوات مقصورة عليهم، ومن الواضح أن نشوء مثل هذه الجيتوات في المدن الكبيرة الحديثة أمر صعب.

7 - تتزايد معدلات الاندماج في وجود نظم ديموقراطية تمنح اليهود حقوقهم السياسية والمدنية، وهو المناخ الذي يعيش فيه معظم يهود العالم الغربي، أي أغلبية يهود العالم.

يُلاحَظ تزايد معدلات الاندماج مع وجود دولة قومية قوية ذات مؤسسات مركزية تُيسِّر عملية دمج كل المواطنين، مثل: نظام تعليمي قوي، ونظام شرطة بوسعه أن يكبح جماح المتطرفين من أعضاء الأقلية والأغلبية، ونظام إعلامي يعمل على نشر الصورة القومية المطروحة. كما تَخْلق مثل هذه المؤسسات القومية المركزية فرصاً اقتصادية متزايدة يستطيع أعضاء الأقلية أن يحققوا من خلالها شيئاً من طموحاتهم. وبدون هذه المؤسسات، تظل الصورة القومية مجرد فكرة وطموح عام.

8 - يبدو أن العلاقات الاجتماعية كلما ازدادت قوة بين أعضاء الأغلبية قلَّت احتمالات الاندماج. بينما تتزايد فرص الاندماج بالنسبة لأعضاء الأقليات مع تَفكُّك النسيج المجتمعي واختفاء المعايير المركزية.

9 - يؤدي وجود أقليات دينية أو إثنية أخرى في المجتمع إلى تزايد معدلات الاندماج في بعض الحالات، إذ أن عضو الأقلية لا يصبح شيئاً فريداً مُحاصَراً وإنما يصبح عضواً في مجتمع ذي سلطة مركزية واحدة وأطراف متعددة. ولكن الوضع نفسه قد يؤدي إلى تزايُد الخصوصية. فمع وجود أقليات عديدة، تَضعُف سلطة المركز وتستمر الأطراف في تطوير خصوصياتها المختلفة وفي إضفاء نوع من الشرعية على فكرة الخصوصية.

هذه بعض التعميمات التي يجب التعامل معها بحذر شديد، ويجب ألا يركن الباحث لها وإنما أن ينظر لها باعتبارها مؤشرات عامة، قد تكون مضللة في ظروف معينة. ولذا ينبغي عليه أن يطرح أسئلة محددة، يحاول من خلال الإجابة عليها أن يصل إلى المنحنى الخاص للظاهرة. ولذا بدلاً من أن يتحدث عن " المهاجرين اليهود " بشكل عام، عليه أن يسأل عن نوعية المهاجرين اليهود الذين يصلون إلى المجتمع (مستواهم الاقتصادي - مستواهم التعليمي - مرحلتهم العمرية... إلخ). وبدلاً من أن يتحدث عن المجتمع المضيف بشكل مطلق عليه أن يتعامل مع هذا المجتمع في خصوصيته (درجة تقدُّمه - مدى احتياجه لخبرات معينة - نظام الحكم فيه... إلخ).

ويمكن أن نضرب مثلاً لذلك باليهود السفارد الذين هاجروا إلى فرنسا في القرن السابع عشر بعد طردهم من إسبانيا. وكانت عملية اندماجهم سريعة بسبب صغر حجم الجماعة اليهودية، ولأنهم كانوا ذوي خبرة بالشئون المالية المتقدمة التي كان المجتمع يحتاج إليها، كما أن لهجة اللادينو التي كانوا يتحدثونها كانت لهجة إسبانية غير بعيدة عن الفرنسية. ومن ناحية أخرى، لم يكن السفارد مختلفين كثيراً عن الفرنسيين في ردائهم وعاداتهم الثقافية. ويختلف هذا تماماً عن حالة اليهود الإشكناز الذين استوطنوا فرنسا وغيرها من بلاد أوربا في القرن التاسع عشر، فقد جاءوا من بولندا وكانوا يتحدثون اليديشية، كما أنهم كانوا يشتغلون بأعمال الربا والرهونات وتجارة التجزئة وكانوا مختلفين عن الفرنسيين في ردائهم وعاداتهم الثقافية، وكان مستواهم الحضاري بالنسبة للمجتمع الفرنسي مُتدنياً. وهو ما جعل عملية دمجهم طويلة وصعبة ومُعقَّدة.

وقد استخدمنا هنا معيارين: واحد اقتصادي (درجة الثراء) والآخر حضاري (التقدم والتخلف)، كما استخدمنا معياراً يتصل بالمجتمع المضيف (مدى حاجته للوافدين). إذا طبقنا هذه المعايير المركبة على ظاهرة مماثلة، فإنها قد تأتي بنتائج مختلفة تماماً. فقد تم توطين بعض أعضاء الجماعة اليهودية في بولندا (مع التجار الألمان) لتشجيع التجارة. وكان يهود ألمانيا يتمتعون بمستوى حضاري أكثر تركيباً بالقياس للوسط الفلاحي البولندي ثم الأوكراني، وهنا نجد أن التقدم الحضاري قد أدى إلى الانعزال، فاحتفظ المهاجرون اليهود الألمان بلغتهم التي تطورت وأصبحت اليديشية. وقد جاء اليهود بناء على حاجة المجتمع لهم، وبدعوة منه، وهو أمر يُفتَرض فيه أن يؤدي إلى اندماجهم، ولكن العكس قد حدث، لأن الدعوة لم تأت من المجتمع ككل وإنما من النخبة الحاكمة التي أرادت أن تستخدم العنصر اليهودي في تطوير البلاد من الناحية التجارية، كما أنها استخدمته فيما بعد في استغلال الفلاحين وفي قمع البورجوازية، الأمر أدى إلى عزلة شبه كاملة لأعضاء الجماعة اليهودية.

ومن المتصوَّر عقلياً أن يؤدي الاندماج إلى تقليل حدة التوتر ضد أعضاء الجماعات اليهودية، وهو ما يحدث بالفعل في معظم الأحيان، كما هو الحال في الولايات المتحدة وإنجلترا. ولكن من الثابت أيضاً أن اندماج أعضاء الجماعة اليهودية وتحرُّكهم من مسام المجتمع إلى مركزه وتواجـدهم فيها بأعـداد كـبيرة قد يثير الحقد ضدهم. كما أن غياب الحدود والإشارات المميِّزة قد يؤدي إلى تصاعُد معدل التوتر بين أعضاء الجماعة اليهودية وأعضاء الأغلبية، إذ تظهر الرغبة في تأكيد الحدود (بين أعضاء الأقلية والأغلبية)، ثم تظهر النماذج التفسيرية العنصرية التي تتحدث عن المؤامرة اليهودية الخفية، وعن تغلغل اليهود في كل مناحي الحياة وتَخفِّيهم وتآمرهم ضد المجتمع. ومن هنا كان النازيون يناصبون اليهود الاندماجيين العداء بسبب عدم وضوحهم، بينما كانوا يتعاونون مع الصهاينة لأنهم يقبلون هوية يهودية متميِّزة وواضحة ومستقلة غير مندمجة في المجتمع. ولهذا، ساهم النازيون في إحياء الثقافة العبرية وشجعوا النشاط الصهيوني. وإذا كان نظام الحكم شمولياً، وأصيب الاقتصاد بكساد وزادت معدلات البطالة، فقد يتحول الهمس العنصري إلى مُخطَّط للطرد والإبادة (كما حَدَث في ألمانيا النازية).

ويتصور معظم الباحثين أن تصاعُد معدلات العلمنة في المجتمع يزيد روح التسـامح تجـاه أعضاء الأقليات، ومن ثم تتزايد معدلات دمجهم. وهو افتراض سليم في بعض الأحيان، ولكن هناك أمثلة تدل على أن العكس قد يحدث. فمع تصاعُد معدلات العلمنة في الغرب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ظهرت موجة من العنصرية، تستند إلى محاولة تعريف الإنسان من خلال عنصر مادي كامن فيه (حجم جمجمته - لون جلده - لون شعره) وهو ما أدى إلى ظهور النظريات العنصرية الغربية التيخلقت التربة الخصبة للحركات الشمولية والفاشية التي قامت بعزل اليهود والحرب ضد دمجهم.

العــــزلة اللفظيـــة والاندمــــاج البنيــــوي

Verbal Isolation and Structural Assimilation

«العزلة اللفظية» هي أن يدَّعي أعضاء الجماعة اليهودية أن لهم هوية متميِّزة، مختلفة بشـكل جـوهري عن الهوية السائدة في المجتمع، في الوقت الذي تتآكل فيه هويتهم وتنتهي عزلتهم من خلال عمليات الدمج البنيوي. ولعل الولايات المتحدة أفضل مثل لذلك في الوقـت الحاضر. فرغم أن النبرة الإثنية اليهودية عالية للغاية، إلا أن الهوية اليهودية آخذة في التآكل وأكبر دليل على هذا معدلات الزواج المُختلَط العالية التي تزيد في بعض الولايات عن 60% من مجموع الزيجات اليهودية. ولذا لا يكف الصهاينة عن التحذير من الاندماج، باعتباره أكثر خطورة على اليهود من الإبادة النازية (الهولوكوست).

ويركن معظم الدارسين العرب إلى اقتباس ادعاءات اليهود عن هويتهم باعتبارها حقائق، ثم يدرسون واقع الجماعات اليهودية في إطار هذا الادعاء، ويبدأون في مراكمة الشواهد على صدقه، متجاهلين كماً هائلاً من المعلومات يدل على العكس. ومن الثابت تاريخياً أن الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة حققت أسرع معدلات الاندماج بالمقارنة بمعدلات اندماج الأقليات المهاجرة الأخرى.

الاندماج السياسي والاقتصادي والاندماج الحضاري: أشكالهما المختلفة

Political and Economic, and Cultural Assimilation: Their Different Forms عملية الاندماج عملية مركبة يوجد فيها أساساً طرفان: أعضاء الأغلبية وأعضاء الأقلية. ولكن الطرفين ليسا متساويين، إذ أن مجتمع الأغلبية هـو العنصر الحاسـم في تقرير طبيعة العلاقة بين الأغلبية والأقلية، فهو الذي يسم الأقلية بميسمه، ومن هنا فالمسئولية (الاجتماعية والأخلاقية) تقع على عاتق الأغلبية بالدرجة الأولى.

ويمكن أن ننظر للعلاقة بين الأغلبية والأقلية من منظور سياسي واقتصادي مباشر، كما يمكن أن ننظر إليها من منظور أكثر تركيباً، وهو المنظور الحضاري:

1 - منظور سياسي اقتصادي:

أ) يمكن القول بأن أعضاء الجماعات اليهودية يندمجون في النخبة الحاكمة ويصبحون جزءاً منها وتصبح مصالحهم من مصالحها، حينما يصبحون جماعة وظيفية وسيطة. وفي العصور الوسطى في الغرب، اندمج أعضاء الجماعات اليهودية في الطبقة الحاكمة وأصبحوا أقنان بلاط، ويهود أرندا في بولندا، ويهود بلاط في وسط أوربا وفي نواح أخرى منها. وغني عن القول أن اندماج اليهود في الطبقة الحاكمة يعني انعزالهم عن بقية الشعب.

ب) واندماج أعضاء الجماعات اليهودية في الطبقة الوسطى يختلف عن ذلك تماماً، وهذا ما حدث في أوربا بعد الثورة الفرنسية وفي الولايات المتحدة عند بدايات الاستيطان حينما جاء أعضاء الجماعات اليهودية بخبرات تجارية مهمة ورؤوس أموال كبيرة، فانخرطوا في سلك الطبقة المتوسطة واندمجوا فيها وفقدوا كثيراً من ملامحهم الإثنية.

جـ) اختلف الأمر تماماً مع وصول يهود اليديشية في أواخر القرن التاسع عشر، إذ تحوَّلت أعداد كبيرة منهم إلى عمال يعملون بصناعة النسـيج على وجـه الخصوص نتيجة ميراثهم الاقـتصادي الأوربي. ولكنهم، مع هذا، لم يكوِّنوا طبقة عمالية مستقلة تماماً، إذ كانوا جزءاً من الطبقة العاملة الأمريكية التي كانت تشكل جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الأمريكي. ومع منتصف القرن الحالي، كان أبناء العمال من أعضاء الجماعة اليهودية قد دخلوا الجامعات وأصبحوا مهنيين وانخرطوا في صفوف الطبقة الوسطى بحيث أصبحت أغلبية يهود العالم أعضاءً في هذه الطبقة، وهو ما يعني تزايد معدلات الاندماج.

د) يمكن أن يندمج أعـضاء الجـماعات اليهـودية في المصـالح الإمبريالية، وهذا هو جوهر الحل الصهيوني، إذ تذهب الصهيونية إلى أن أعضاء الجمـاعة اليهـودية في أوربا قد فشلوا تماماً، كجماعات وظيفية أو كأفراد، في الاندماج في التشكيلات الحضارية القومية الغربية. ولكنهم كدولة وظيفية قتالية استيطانية، يمكنهم تحقيق ما فشلوا فيه كأفراد، إذ أن هذه الدولة ستندمج في التشكيل الإمبريالي الغربي من خلال تمثيل مصالحه في الشرق الأوسط والدفاع عن هذه المصالح، وذلك نظير أن يقوم هو بتمويلها والدفاع عنها. والواقع أن هذا الوضع لا يختلف كثيراً عن وضع اليهود في العصور الوسطى في الغرب حينما اندمجوا في الطبقة الحاكمة في أوربا وانعزلوا عن بقية الشعب. فالدولة اليهودية أصبحت جزءاً من التشكيل الإمبريالي الغربي (وهو المقابل الموضوعي للنخبة الحاكمة) وانعزلت تماماً عن الدول المحيطة بها، وبهذا حل محل عزلة الجماعة الوظيفية عزلة الدولة الوظيفية.

1 - منظور حضاري:

إن غياب التَجانُس بين الجماعات اليهودية في العالم هو أكبر دليل على معدلات الاندماج الحضاري العالية، ذلك أن عدم التجانس يقف دليلاً على أنه لا توجد خصوصية يهودية عالمية بقدر ما توجد خصوصيات يهودية نابعة من المجتمعات المختلفة وتتحدد من خلالها وبسببها لا من خارجها ورغماً عنها. ويمكن أن نضرب العديد من الأمثلة على ذلك:

أ) خضع يهود كايفنج في الصين تماماً لحركيات المجتمع الصيني الحضارية، وهو المجتمع الذي كان يتسم بالتعددية الدينية ورَفْض مفهوم القومية. فالإمبراطورية هيالعالم، وبالتالي فهي تضم أقواماً مختلفة. ولم يتم حصر اليهود داخل دور اقتصادي أو اجتماعي محدَّد بل أتيحت أمامهم كل الوظائف، فبدأوا يتبنون لغة المجتمع الثقافيةوفقدوا أية خصوصية جلبوها معهم، وبدأت العناصر غير اليهـودية تدخـل اليهـودية (وهـذا تقـليد صيني في حـد ذاته: أن تستوعب العبادة عناصر من خارجها)، فاختلطتالعقيدة اليهودية بعبادة الأسلاف وأطلقت أسماء صينية على الإله، وانتهى الأمر بأن فقد اليهود هويتهم تماماً.

ب) اندمج أعضاء الجماعات اليهودية في الهند في مجتمعهم الهندي المبني على فكرة الطائفة المغلقة والفصل الحاد بين الجماعات، فتَبنَّى أعضاء الجماعات اليهودية هذه اللغة الثقافية وفصلوا بينهم وبين أعضاء المجتمع. بل وساد داخل الجماعات اليهودية نفسها هذا الفصل الحاد بين البيض والسود وبين اليهود البغدادية وغيرهم، بحيث تكونت طوائف مغلقة داخل الجماعات اليهودية. وثمة مفارقة طريفة تستحق الملاحظة وهي أن عزلة أعضاء الجماعة اليهودية هي في الواقع تعبير عن الاندماج وتعبير عن تَقبُّل لغة المجتمع الحضارية وعاداته وتقاليده.

جـ) اندمج يهود جمهورية جورجيا السوفيتية (سابقاً) تماماً في مجتمعهم، وتَبنَّوا مأكله وملبسه ولغته، وانخرطوا في شبكة العلاقات التقليدية التي ظلت قائمة بعد سنوات طويلة من الحكم البلشفي. وكانوا يشاركون الجورجيين في رفض الحكم السوفيتي المركزي. وحينما سنـحت ليهـود جـورجيا فرصة الهجـرة إلى إسرائيل، فعلوا ذلك. فهجرتهم الاستيطانية، هنا أيضاً، تعبير عن اندماجهم لا عن رفضهم مجتمعهم.

د ) تَحوَّل أعضاء الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة إلى أمريكيين يهود، وهم الأمريكيون الذين يكتسبون الهوية الأمريكية ويحتفظون بأبعاد إثنية خاصة لا تتناقض مع انتمائهم الأمريكي. والواقع أن الاستقلال النسبي الذي يتمتع به الأمريكيون اليهود في مجتمعهم هو، بالمثل، علامة على اندماجهم الكامل، فهذه هي اللغة الحضارية السائدة والنمط المتكرر في المجتمع. فالعقد الاجتماعي الأمريكي لا يمانع بتاتاً في أن يحتفظ المواطنون الأمريكيون برابطة ما مع وطنهم، وأن يحتفظوا بقَدْر من إثنيتهم الحقيقية أو الوهمية، ما دامت هذه الإثنية لا تتعارض مع انتمائهم لوطنهم الأمريكي ولا مع مصالحه. ولذا، فإن المجتمع الأمريكي مُكوَّن من أمريكيين إيطاليين (أي من أصل إيطالي) وأمريكيين أيرلنديين (من أصل أيرلندي) وهكذا. ويظهر مدى اندماج يهود الولايات المتحدة في مجتمعهم في موقفهم من تجارة الرقيق والحرب الأهلية الأمريكية. فيهود الشمال عارضوا هذه التجارة، شأنهم شأن أهل الشمال، وتَبنَّوا موقفاً مناوئاً لهذه التجارة. أما يهود الجنوب، فقد تَبنَّوا موقف أهل الجنوب، فاقتنوا العبيد والمحظيات السود، وكان منهم تجار الرقيق بمعدل يفوق المعدل على المستوى القومي. ولم تظهر شخصية يهودية واحدة في الجنوب عبَّرت عن تَحفُّظها على تجارة الرقيق، كما لم يُثر أي صحفي أو كاتب أو داعية يهودي أيَّ تساؤل بشأن العدالة الاقتصادية والاجتماعية لمؤسسة الرقيق. ولم يساهم اليهود في حركة تهريب العبيد إلى الشمال بهدف إعتاقهم، فلا يوجد سوى سجل لحالة واحدة. فاليهود، إذن، كانوا بشراً يشكلون جزءاً لا يتجزأ من محيطهم الحضاري والإنساني بكل ما يتضمن من خير وشر.

ذ ) و قد لاحظ بعض المراقبين أن يهود الجنوب الأمريكي حققوا حراكاً اجتماعياً أكثر من يهود الشمال وتم تَقبُّلهم من جانب المجتمع ومن جانب النخبة، كما شغلوا تقريباً مختلف الوظائف المتاحة لأعضاء النخبة. وتُفسَّر هذه الظاهرة على أساس وجود العبيد في الجنوب. فالجنوب تَبنَّى اللون (أي العرْق) معياراً وحيداً لتعريف الآخر وأساساً للتضامن، ومن ثم أسقط المعيار الديني أو الإثني، وأصبح اليهـودي (الأبيـض) أيضـاً جـزءاً لا يتجزأ من المجتمع الجنوبي، وذلك على عكس الشمال حيث كانت النخبة بروتستانتية بيضاء وتَبنَّت المعيار الإثني العرْقي الديني الذي صُنفت على أساسه الجماعات. فكان البروتستانت البيض في أعلى الهرم، والزنوج في أسفله، أما الكاثوليك البيض فكانوا يأتون في مرتبة أقل من البروتستانت البيض ويليهم في المنزلة اليهود البيض، وهكذا حتى نصل إلى قاع السلم. ويُلاحَظ، مع تزايد معدلات العلمنة، أن اللون أصبح الأساس الوحيد للتصنيف، ومن ثم تزايد اندماج اليهود والتحامهم بالنخبة. ومن هذا المنظور، لعبت مؤسسة الرقيق دوراً حاسماً في صياغة شكل الحياة العامة في الجنوب وفي العلاقات الاجتماعية والإنسانية فيه، وضمن ذلك حياة أعضاء الجماعة اليهودية وعلاقاتهم ببقية طبقات المجتمع وقطاعاته. وقد حدث هذا رغم أن أعضاء الجماعات اليهودية لم يلعبوا دوراً ملحوظاً أو مؤثراً أو فريداً في تأسيس أو تسيير هذه المؤسسة ولا في التصدي لها.

بل يمكننا القول بأن صهيونية الأمريكيين اليهود نفسها تعبِّر عن اندماجهم، فصهيونيتهم تعبير عن الأبعاد الإثنية في شخصيتهم الأمريكية، أي أنها نابعة عن حركية أمريكية خاصة لا حركية يهودية عامة. ولهذا، فهي تأخذ شكل صهيونية توطينية تدعم إسرائيل (مسقط الرأس!) مالياً وسياسياً ولا تأخذ شكل صهيونية استيطانية تتطلب الهجرة. كما أن سلوك اليهود لا يختلف كثيراً عن سلوك الأمريكيين الأيرلنديين الذين يشكلون لوبي ضغط لصالح بلدهم الأصلي، مع أنهم لا يفكرون أبداً في العودة إليه.

هـ) اندمج يهود جنوب أفريقيا في مجتمع يشجع الفصل بين الشعوب والأعراق. ولذا، شكَّل أعضاء الجماعات اليهودية هناك جماعة عرْقية مستقلة، وأصبحوا من أكثر الجماعات اليهودية صهيونيةً في العالم. وهنا يمكن القول بأن صهيونيتهم تعبير عن اندماجهم في مجتمعهم. لكن جنوب أفريقيا مجتمع استيطاني يعتبر الهجرة منه خيانة وطنية. ولذا، فإن صهيونية يهود جنوب أفريقيا هي الأخرى من النوع التوطيني لا الاستيطاني، وإن كانت توطينيتها تنبع من حركيات مختلفة تماماً.

و) يتجلَّى الاندماج في المؤسسات الاجتماعية والدينية للجماعات اليهودية المختلفة. فالقهال في بولندا، الذي يتم انتخاب أعضائه من بين أعضاء النخبة، لم يكن سوى صدى للسييم أو البرلمان البولندي الذي كان يضم النبلاء الذين كان من حقهم انتخاب الملك رئيساً لجمهورية بولندا الملكية. ويُلاحَظ أن إنجلترا التي يُوجَد فيها أسقف كانتربري باعتباره رئيساً للكنيسة الإنجليزية، يُوجَد فيها أيضاً منصب الحاخام الأكبر الذي يُعَدُّ صدى لأسقف كانتربري. كما تَقبَل المعابد اليهودية في بريطانيا التنظيم المركزي على نمط كنيسة إنجلترا. أما في الولايات المتحدة، حيث لا يوجد تنظيم مركزي ينتظم كل الكنائس الأمريكية، فإننا نجد أن المعابد اليهودية تَتبنَّى نوعاً من الوحدة الفيدرالية. ولا يوجد، بطبيعة الحال، منصب مثل الحاخام الأكبر.

ز) بل يمكن أن نرى الاندماج الحضاري متبدياً من خلال العقيدة اليهودية، فهي في العالم الإسلامي تميل نحو التوحيد والفلسفة. أما ألمانيا، بلد الإصلاح الديني، فقد ظهرت فيها اليهودية الإصلاحية. وفي روسيا وبولندا، حيث كانت توجد جماعات المنشقين والمتصوفة من الأرثوذكس، ظهرت الحسيدية. وهكذا، فإن العقيدة اليهودية تتبنى اللغة الحضارية السائدة. وفي الهند، كان اليهود يظنون أن اليهودية تُحرِّم أكل لحم البقر. وفي الصين، كانوا يؤمنون بحُرمة التضحية للأسلاف بلحم الخنزير، ولكنهم كانوا يأكلونه باعتباره لحماً مباحاً شرعياً، وهكذا. أما في إثيوبيا، فإن يهود الفلاشاه يصلون في مكان يُسمونه المسجد، ولهم كهنة يُسمون القساوسة، كما يوجد لديهم رهبان. ويتحدث يهود الفلاشاه الأمهرية ويتعبدون بالجعيزية، لغة الكنيسة القبطية في إثيوبيا، وهذا كله انعكاس للسياق الإسلامي المسيحي الذي يعيش الفلاشاه في كنفه.

اندمـــــــاج الجمــــاعات اليهـــــودية: تاريـــــخ

Assimilation of the Jewish Communities: History

ظواهر الاندماج والانصهار والانعزال بين اليهود قديمة قدم ظهور العبرانيين في التاريخ. فمن الواضح أن العبرانيين، أثناء وجودهم في مصر، تبنَّوا معظم مكونات الثقافة المصرية إن لم يكن كلها، وربما كانوا يتحدثون لغة المصريين القدماء، وفي فلسطين تبنوا لسان كنعان. أما العبادة اليسرائيلية، وهي عقيدة العبرانيين قبل تبلور اليهودية (كنسق ديني)، فقد تأثرت بالتراث الديني الكنعاني تأثراً عميقاً، واندمج العبرانيون في المحيط الكنعاني وفي عبادة بعل، ومن هنا سخط الأنبياء عليهم. وقد انصهر العبرانيون، الذين هجَّرهم الآشوريون من فلسطين، في محيطهم الثقافي إلى أن اختفوا تماماً، في حين اندمج هؤلاء الذين هجَّرهم البابليون. ولذا، حينما أصدر قورش الأخميني مرسومه الخاص بعودة اليهود، رفضت أغلبيتهم التمتع بهذا الامتياز. ويُعَدُّ انتشـار النزعـة الهيلينية بين اليهود، سـواء في فلسطين أو في مصر، تعبيراً آخر عن ظاهرة الاندماج. وبعد انحلال الدولة الرومانية، اندمج أعضاء الجماعات اليهودية في التشكيلين الحضاريين الإسلامي والمسيحي. وقد تَحدَّث يهود العالم العربي الإسلامي اللغة العربية، واشتغلوا بمعظم المهن والحرف، وتأثر تراثهم الديني بالفكر الديني الإسلامي. أما في العالم الغربي، فقد كان وضع اليهود متميِّزاً، إذ شكَّل اليهود فيه جماعة وظيفية وسيطة تضطلع بوظائف لا يقوم بها أعضاء الأغلبية وتحتفظ بعزلتها لضمان قيامها بهذه المهن. وانعكس هذا الوضع على التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية للجماعات اليهودية، مثل القهال والجيتو (في شرق أوربا أساساً)، وهي تنظيمات كانت تهدف إلى الحفاظ على عزلة اليهود. وقد ازدادت عزلة اليهود في بولندا التي احتفظوا فيها برطانتهم الألمانية اليديشية التي هاجرت معهم.

ولم تكن عزلة أعضاء الجماعات اليهودية مسألة مقصورة عليهم. فالمجتمعات التقليدية كانت قائمة على الفصل بين الطبقات والأقليات والجماعات لتسهيل عملية إدارة المجتمع في غياب مؤسسات الدولة المركزية القومية. ولكن، بَتفسُّخ النظام الإقطاعي في أواخر القرن الثامن عشر، ظهرت الدولة العلمانية القومية المركزية، وهي دولة تستمد شرعيتها من التاريخ المشترك ومن مقدرتها على إدارة المجتمع بكفاءة. كما أن هذه الشرعية تستند أيضاً إلى مدى تعبيرها عن روح الشعب وإرادته. وقد كانت الدولة القومية العلمانية دولة رأسمالية، في العادة، تحاول أن تخلق السوق القومية الموحـدة التي لم تَعُد بحـاجة إلى الجــماعات الوظيفية الوسيطة، إذ أنها تضطلع بمعظم مهامها. ولكل هذا، تساقط النظام القائم على الفصل بين طبقات الشعب وفئاته، وحل محله نظام يحاول دمج كل المواطنين الذين يدينون له وحده بالولاء، على عكس النظام الإقطاعي حيث تستند الدولة إلى شرعية دينية أو شرعية تقليدية، ولذا يدين الفرد بالولاء إما للكنيسة أو للنبيل أو للملك، وهكذا.

وتكتسب الدولة القومية العلمانية قدراً كبيراً من شرعيتها من التاريخ والتراث المشترك (الحقيقي أو الوهمي) لمجموعة البشر التي تعيش داخل حدودها، ولذا طالبت الثورة الليبرالية البورجوازية، والدولة القومية، أعضاء الجماعات اليهودية، وغيرهم من الجماعات، بأن يتخلوا عن خصوصيتهم الإقطاعية شبه القومية وأن يكتسبوا هوية عصرية متجانسة تعبِّر عن هذا التراث المشترك بين أعضاء المجتمع. وقد قال أحد خطباء الثورة الفرنسية في ديسمبر سنة 1789: " نحن نرفض أن نمنح اليهود كأمة أي شيء، أما اليهـود كأفراد فإننا نمنحهم كل شـيء ". وتم إعتاق أعضاء الجماعات اليهودية في معظم أنحاء أوربا، وبدأت عملية تحديثهم بحيث تم القضاء على تميزهم وتمايزهم الوظيفي والاقتصادي. وقد استجاب أعضاء الجماعات اليهودية لهذا النداء الذي شكَّل تياراً تاريخياً أفرز تحولاته الاجتماعية، خصوصاً وأن اليهودية الحاخامية (وهي الإطار الفكري ليهود أوربا) كانت في حالة أزمة حادة منذ دعوة شبتاي تسفي المشيحانية وظهور الحسيدية، فقامت بينهم حركة التنوير اليهودية الداعية إلى الاندماج. كما ظهرت اليهودية الإصلاحية التي حاولت تخليص اليهودية من الجوانب القومية فيها، وهي الجوانب التي تدعم ما يُسمَّى «الخصوصية اليهودية»، وتأكيد الجوانب الدينية الروحية حتى يتحقق للمواطن اليهودي الانتماء القومي الكامل والاندماج السوي. وقد حقق أعضاء الجماعات اليهودية بالفعل قسطاً كبيراً من الاندماج في فرنسا وإنجلترا.

وقد اتسمت محاولات الاندماج في بلدان شرق أوربا ووسطها بالبطء والتعثر بسبب ظهور القوميات العضوية فيها وبسبب سرعة معدل تَطوُّر الرأسمالية المحلية، الأمر الذي لم يتح لأعضاء الجماعات اليهودية الذين كانوا يلعبون دور الجماعة الوظيفية الوسيطة فرصة للتَأقلُم والتَكيُّف.

وإلى جانب هذا، كان يهود شرق أوربا من أكثر القطاعات الإنسانية تَخلُّفاً، كما أن قيادتهم لم تُدرك أبعاد التحدي القومي العلماني الجديد ومدى جاذبيته بالنسبة لجماهيرهم، الأمر الذي أعاق أعضاء الجماعة اليهودية عن الاستجابة الخلاقة للوضع الجديد في معظم الأحيان. ومن المفارقات أن هذا التخلف نفسه أدَّى إلى نتائج عكسية تماماً بالنسبة للشباب، إذ كانوا يهرعون إلى عالم الأغيار وينصهرون فيه، هرباً من الجو الخانق للجيتو.

ويركز الصهاينة على تَعثُّر محاولات التحديث والاندماج لتأكيد حتمية المشروع الصهيوني. ورغم كل الادعاءات عن فشل الاندماج، فإن الوضع الثقافي لليهود يثبت أن هذا الواقع هو الحقيقة الأساسية في حياة معظم الجماعات اليهودية إن لم يكن الحقيقة الأساسية في حياتها جميعاً. فنسبة الزواج المُختلَط في الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي (سابقاً)، اللذين يضمان أغلبية اليهود في العالم، مرتفع للغاية (تبلغ في المتوسط 50% وتصل في بعض المناطق إلى حوالي 80%). والاندماج وحده هو الذي يفسر سلوك أعضاء الجماعات اليهودية المتعيِّن، فهم يرفضون الهجرة إلى إسرائيل رغم تلويح الحركة الصهيونية لهم بخطر معاداة اليهود بل وبالإبادة. وفضلاً عن ذلك، فإنهم يرفضون زيارة الدولة الصهيونية للسياحة حيث لم يزرها سوى 15% من يهـود أمريكا الذين يفضـلون قضـاء إجـازاتهم في جزر الكاريبي.

وفي نهاية الأمر، لا تزال الغالبية العظمى من يهود العالم (75%) منتشرة في أنحاء العالم فيما يُسمَّى «المَهْجَر» أو «المَنْفَى» أو «الشتات»، وهو في واقع الأمر ليس بمَهْجَر ولا مَنْفَى ولا شتات، فهم موجودون في أوطانهم بشكل دائم لا مؤقت، وهم يعيشون هناك بحُرِّ إرادتهم دون قسر أو إكراه. والغالبية الساحقة من أبنائهم (90%) لا تتلقى أي تعليم يهودي ولا علاقة لها بما يُسمَّى «الثقافة اليهودية». وهذا الوضع ينهض دليلاً على اندماجهم وتَقبُّلهم مجتمعاتهم بكل محاسنها ومثالبها وتَبنِّيهم قيمها الحضارية والأخلاقية بشكل كامل. ويذهب بعض الدارسين إلى أن الدولة العلمانية (القومية الرأسمالية أو الأممية الاشتراكية) هي دولة تُعبِّر عن قوانين العقل، ومن ثم فهي لا تتعامل إلا مع الإنسان العام (الطبيعي أو العقلاني أو الأممي). ولذا، لابد من القضاء على أية خصوصية. والواقع أن اندماج يهود العالم الغربي، هذا الاندماج الكامل في مجتمعاتهم المتقدمة، تعبير عن هذا الاتجاه.

بيريك يوسيليفيتش (1768-1809(

Berek Yoselewicz

ضابط بولندي يهودي. وُلد في ليتوانيا ثم عمل بالتجارة وأصبح يهودي بلاط أمير فلنا. وفي إطار مهامه التجارية، سافر إلى باريس عام 1789 عشية الثورة الفرنسية وتأثر بأجوائها وأفكارها، ثم عاد إلى بولندا لينضم إلى العناصر القومية البولندية التي كانت تناضل ضد تقسيم بولندا. وقد انضم يوسيليفيتش ضمن عدد كبير آخر من أعضاء الجماعة اليهودية إلى حركة العصيان المسلح التي اندلعت عام 1794 ضد كلٍّ من روسيا وبروسيا. وقد تم تأسيس الفيلق اليهودي بقيادة يوسيليفيتش، والذي ضم خمسمائة يهودي ناشدهم يوسيليفيتش القتال « مثل الأسود والفهود من أجل طرد العدو من أرضنا ». وقد شاركت قواته في الدفاع عن حيّ براجا في وارسو والذي كان يضم أغلبية من اليهود ضد القوات الروسية. وبعد فشل العصيان، فرَّ يوسيليفيتش إلى النمسا ثم إلى فرنسا حيث انضم إلى الفيلق البولندي في الجيش الفرنسي، ثم أصبح ضابطاً في سلاح الفرسان الفرنسي وشارك في حروب نابليون. وبعد تأسيس دوقية وارسو عام 1807، انضم يوسيليفيتش إلى الجيش البولندي النظامي وتولى قيادة سرية خيالة ومُنح وساماً بولندياً، كما سُمح له بالانضمام إلى محفل ماسوني أرستقراطي يحمل اسم «الإخوة البولنديون المتحدون». وقد شارك يوسيليفيتش أيضاً في الحملة ضد النمسا عام 1809 وتولى قيادة سريتي خيالة، ولكنه قُتل في العام نفسه أثناء المعارك ليصبح بطلاً قومياً بولندياً.

وقد أشار كثير من اليهود الداعين للاندماج في بولندا إلى يوسـيليفيتش باعتبـاره نموذجاً لليهودي المندمج المنتمي إلى وطنه البولندي. وهو في الواقع من النماذج النادرة، إذ أن غالبية يهود بولندا كانوا مرتبطين بنظام الأرندا الذي جعلهم حلفاء الطبقة البولندية الحاكمة وأعداء لكل الطبقات الأخرى. كما أن ثقافة يهود بولندا اليديشية ساعدت على عَزْلهم لغوياً وثقافياً عن بقية الشعب البولندي. ولم ينجح يهود بولندا في الاندماج في الحركة القومية البولندية، ولذا فقد ظل يوسيليفيتش الاستثناء الذي يُثبت صحة القاعدة. وقد وصلت هذه العزلة إلى ذروتها إبان الحرب العالمية الثانية، حيث لم ينجح أعضاء المقاومة اليهودية في بولندا في التعاون مع المقاومة البولندية في نضالها ضدالمستعمر النازي.

الانصهار أو الذوبان

Dissolution

«الانصهار» أو «الذوبان» هو تَزايُد معدلات الاندماج إلى درجة أن أعضاء الجماعات اليهودية يفقدون هويتهم الدينية أو الإثنية الخاصة فيذوبون أو ينصهرون تماماً في الأغلبية بمرور الزمن. ويمكننا تخيل ذلك على شكل مُتَّصل يُشكل أحد طرفيه الانعزال الكامل، وهي حالة نادرة وتكاد تكون مستحيلة، وفي الطرف الآخر الانصهار، وهي حالة ليست متكررة وإن لم تكن محالة. فثمة أمثلة عديدة، عبر تواريخ الجماعات اليهودية، للانصهار الكامل. فلا يمكن تفسير اختفاء أسباط يسرائيل العشرة الذين هجَّرهمالآشوريون إلا على أساس أنهم انصهروا في الشعوب التي عاشوا بين ظهرانيها. والحالة الكلاسيكية للانصهار الكامل هي حالة يهود الصين (في مدينة كايفنج) حيث انخرطوا في السلك الوظيفي الإمبراطوري فتفرَّق أعضاء الجماعة، خصوصاً النخبة، واكتسبوا سمات وخصائص صينية بشكل متزايد وتزاوجوا مع الصينيين. ومع حلول القرن التاسع عشر، لم يكن قد بقي منهم سوى عدة أفراد لا يزيدون على أصابع اليدين.

ومن حالات الانصهار الأخرى، حالة اليهود السفارد في الولايات المتحدة الذين استوطنوا بعد المستوطنين البيوريتانيين ثم انصهروا تماماً في فترة وجيزة. ويُلاحَظ أن ثمة أعداداً كبيرة من أعضاء الجماعة اليهودية كانت تنصهر دون أن تنصهر الجماعة ذاتها، فتستمر الجماعة دون أن يتزايد عدد أعضائها، وهـذا يُفـسِّر قلة عدد اليهود في العالـم. وكان قد وصل عددهم في القرن الأول الميلادي (بحسب بعض التقديرات) ما بين خمسة وسبعة بل عشرة ملايين. ولعل هذا يُفسِّر مقولة «موت الشعب اليهودي»، فمن أهم أسباب موته (أي تَناقُص عدده بشكل ملحوظ) انصهار أعداد كبيرة منه.

ويمكن أن نشير إلى ذلك الاندماج الذي يقترب من الانصهار. فالنزعة الهيلينية بين أثرياء اليهود في القرنين السابقين على الميلاد واللاحقين له هي شكل من أشكال الاندماج يكاد يكون انصهاراً، كما يمكن القول أيضاً بأن الصيغة الفريسية لليهودية هي نتاج تفاعل الفكر اليهودي مع الحضارة الهيلينية، أي أنها مَثَل من أمثلة الاندماج. ويبدو أن قطاعات كبيرة من يهود ألمانيا، في القرن التاسع عشر، كانت تنصهر تماماً في المجتمع المسيحي وتتخلى عن أي شكل من أشكال الهوية الدينية اليهودية. ويمكن أن نُصنَّف أمركة يهود الولايات المتحدة باعتبار أنها من قبيل الأشكال الحادة من الاندماج الذي يقترب من الانصهار، ومن هنا يُشار إليهم بأنهم «الهيلينيون الجدد». وتشكل أمريكا اللاتينية مثلاً فذاً يتخطى تعميمنا الذي يفترض أن الاندماج يزداد تدريجياً إلى أن يصبح انصهاراً. ومع هذا نلاحظ عدم وجود معدلات عالية من الاندماج في كثير من بلاد أمريكا اللاتينية، وفي الوقت ذاته أظهرت هذه القارة مقـدرة فائقة على صهر اليهـود وهضمهم مباشرة دون عملية دمج تدريجية.

وعادةً ما تساوي الصهيونية بين الانصهار والاندماج برغم اختلافهما. فالجماعات الدينية العرْقية يمكنها أن تندمج في المجتمع دون أن تفقد قسماتها الخاصة. ويمكن ضرب أمثلة عديدة من تواريخ الجماعات اليهودية في العالم على الاندماج الذي لم يؤد بالضرورة إلى الانصهار كما حدث مع يهود الأندلس في الماضي، وكما يحدث مع يهود الولايات المتحدة في الوقت الحالي. وإن كانت هناك مؤشرات وقرائن عديدة تدل على أن أعضاء الجماعة اليهودية سيأخذون في الاختفاء من خلال الانصهار مع تَعاظُم معدلات العلمنة في المجتمع الأمريكي.

دمــــج اليــــــهود

Forcible Assimilation of the Jews

«دمج اليهود» هو جزء من عملية تحديث أعضاء الجماعات اليهودية وتحويلهم من جماعة وظيفية وسيطة إلى جزء لا يتجزأ من طبقات المجتمع الحديث، الذي ظهر بعد الانقلاب الصناعي الرأسمالي في الغرب. وهي عملية تَحوُّل اجتماعي ضخمة لم يكن أعضاء الجماعات اليهودية هم المسئولين عنها، ولم يكونوا الوحيدين الذين خاضوها، ويُشار إليها أحياناً بأنها «عملية تحويل اليهود إلى قطاع منتج».

وفي معظم الأحوال، كانت عملية الدمج تأخذ شكل القسر. والواقع أن عملية الدمج تتضمن نوعاً من الجهد الواعي والمُخطَّط، وهي بهذا المعنى مختلفة عن عملية الاندماج أو الانصهار التي تتم عادةً من خلال حركيات المجتمع وآلياته الكامنة التي ربما لا يدركها لا أعضاء الجماعة اليهودية ولا أعضاء مجتمع الأغلبية. ومع هذا، فإن عملية الدمج، بعد المراحل الأولى القسرية الواعية، تتحول عادةً إلى اندماج تلقائي غير واع. كما حدث في كثير من بلاد أوربا، ذلك لأن أعضاء الجماعة اليهودية عادةً ما يستبطنون المُثُل المفروضة عليهم، وتضبط سلوكهم من الداخل، وما كان قسرياً برانياً يصبح بعد قليل تلقائياً جوانياً.

الاندمـــاج : الموقـــف الصهيــــوني

Assimilation: The Zionist Position

يتفق الصهاينة والمعادون لليهود على رفض الاندماج قولاً وفعلاً. أما المعادون لليهود، فيرون اليهودي شخصية عضوية لا يمكن استيعابها في المجتمع، ولو تم استيعابها فإنها تصبح مثل البكتريا التي تسـبب تَآكُله وتَخـثُّره. واليهـود الذين يَّدعون أنهم اندمجوا في المجتمع هـم، بحسب هذه النظرة، أخطر العناصر اليهودية، لأنهم يصبحون اسمياً جزءاً من المجتمع يستقرون داخله، ولكنهم فعلياً (عن وعي أو عن غير وعي) يظلون جسماً غريباً عنه يشبه الخلية السرطانية التي تسبب انحلاله وتآكُله. ولذا، فإن الحل الوحيد للمسألة اليهودية، وفقاً لهذه الرؤية، هو الحل الصهيوني، أي استبعاد اليهود إلى رقعة خاصة بهم.

والموقف الصهيوني من الاندماج لا يختلف عن ذلك كثيراً، فالصهاينة يرون أن الاندماج أمر مستحيل لأن الهوية اليهودية العضوية لا يمكنها أن تحقق ذاتها إلا في تربة يهودية وفي وطن قومي يهودي. وبالتالي، فاليهودي الذي يدَّعي أنه اندمج هو شخصية كاذبة ومريضة نفسياً، منقسمة على نفسها كارهة لها مثله مثل المتسول الباحث عن انتماء قومي. واليهودي المندمج يعاني ازدواج الولاء، إذ ليس بإمكانه أن يَدين بالولاء إلا لوطنه اليهودي الذي تربطه به وشائج عضوية قوية. ويُشار إلى اليهود المندمجين في الأدبيات الصهيونية بوصفهم عبدة بعل إله الأغيار أو محبي بابل (أي المنفى).

ويسوي الصهاينة بين الاندماج والذوبان الكامل، أي الانصهار، إذ يرون أن كلاًّ منهما يؤدي بالضرورة إلى الآخر. رغم أن الاندماج هو أن يصبح الإنسان جزءاً من كل دون أن يفقد بالضرورة بعض صفاته الخاصة، أما الانصهار والذوبان فيفترضان فقدان الجزء لقسماته الخاصة. ولذا، يُشار إلى الاندماج في الأدبيات الصهيونية بأنه خطر يتهدد الحياة اليهودية، وجريمة وخطيئة وعار يحط من كرامة اليهود، ووصمة في جبينهم. ويتم الربط بين الاندماج والإبادة إذ يُشار إلى الانـدماج باعتــباره الإبادة الصامتة، مع أن الإبادة هنا روحية نفسية، وليست جسدية فعلية. ومع هذا، فإن الإبادة تؤدي في نهاية الأمر إلى اختفاء اليهودي المندمج فعلياً في مجتمع الأغيار، وهي الوظيفة نفسها التي تؤديها أفران الغاز. ومؤخراً صرح يوسي بيلين (نائب وزير خارجية إسرائيل) بأن الاندماج (والزواج المُختلَط) يهددان يهود أمريكا أكثر من تهديد العرب ليهود إسرائيل.

ومع هذا، تظهر فكرة الاندماج في الفكر الصهيوني ذاته بشكل آخر، إذ يُطالب الصهاينة بتطبيع الشخصية اليهودية، أي جعلها طبيعية مثل الشخصية غير اليهودية، وفي هذا تَقبُّل لمعايير مجتمعات الأغيار. كما أن الصهيونية تطمح إلى خلق دولة يهودية تندمج في المجتمـع الدولي حتى يصبح اليهود شعباً مثل كل الشعوب. لكن الاندماج، كما يظهر في الفكر الصهيوني، يُفترَض إمكانية تَحقُّقه على المستوى القومي وحسب، واستحالته في ذات الوقت على المستوى الفردي. وقد أثبت الواقع التاريخي أن كلا الافتراضين خاطئ. فأعضاء الأقليات آخذون في الاندماج، ولا تزال الدولة اليهودية مرفوضة من العرب.

ومن المفارقات التي يشير إليها دارسو الصهيونية أنها بدأت باعتبارها حركة تهدف إلى الحفاظ على الهوية اليهودية والخصوصية اليهودية، ولكنها في نهاية الأمر أدَّت إلى زيادة معدلات الاندماج. فقد ساهمت الصهيونية، ابتداءً، في زيادة معدلات العلمنة بين اليهود حين طرحـت تعريفـاً قومياً أو عرْقياً لليهودي ليحل محل التعريف الديني الإثني، وحين جعلت التزام اليهودي ينصبُّ على إثنيته أساساً، بينما جعلت الالتزام الديني مسـألة ثانوية مكملة للانتمـاء الإثني أو يُمثِّل تجلياً لـه. وقد أدَّى هذا بكثير من اليهود إلى التخلي عن عقيدتهم وعن كثير من شعائرها، وكانت هذه مصدراً أساسياً لخصوصيتهم. وقد تساءل الحاخام موريتز جوديمان، كبير حاخامات فيينا، في رده على تيودور هرتزل وعلى الدعوة القومية فقال: «من هو أكثر ذوباناً وانصهاراً: اليهودي القومي الذي يتجاهل الشعائر الخاصة بيوم السبت وبالطعام أم اليهودي المؤمن الذي يؤدي الشعائر الدينية ويكون في الوقت نفسه مواطناً كاملاً مخلصاً لبلاده؟». وتبلغ معدلات العلمنة ذروتها بين أعضاء الجماعات اليهودية الذين توجد أغلبيتهم الساحقة في مجتمعات علمانية، وهي تؤدي إلى مزيد من الاندماج والزواج المُختلَط، وفي نهاية الأمر إلى الانصهار.

وقد ذكر أحد المفكرين اليهود أن الصهيونية وإسرائيل تريان أن بإمكان يهود فرنسا أن يصبحوا أكثر فرنسية (أي أكثر اندماجاً في مجتمعهم). وهو يفسر عبارته هذه فيقول إن اليهودي بدأ بعد تحطيم الهيكل الثاني يحمل معه ما سماه فرويد «المبنى غير المنظور»، وهو عبء الشك والإحساس بالنقص وعدم الانتماء، فأينما ذهب اليهود وعملوا، مثلهم مثل بقية البشر، كانوا يشعرون بأن ثمة شيئاً ما ينقصـهم. فجميع الشـعوب الأخرى لها أرضها وقراها وشرطتها وجيشها، أما اليهود فكانوا يعيشون دائماً في شك. ولأن ثمة مبنى جديداً منظوراً يراه الجميع وهو إسرائيل، فقد اختفى الشك والإحساس بالنقص، ومن ثم يستطيع كل اليهود الآن أن يشعروا بالهدوء ويمكنهم الاندماج في مجتمعاتهم. وبرغم عدم اتفاقنا مع مقدمات الكاتب، فيُلاحَظ من الناحية الفعلية أن انتشار الصهيونية هو غطاء براق يخفي معدلات الاندماج العالية. بل إن الصهيونية أصبحت هي الوسيلة التي يريح بها اليهودي المندمج ضميره، إذ يمكنه أن يُجزل العطاء للدولة اليهودية ويحقق بذلك إحساساً زائفاً ومتضخماً بالهوية والانتماء ثم ينصرف بعد ذلك لحياته العلمانية الأمريكية اللذيذة بكل جوارحه. وقد لاحظ بن جوريون هذه الظاهرة وحَذَّر منها.

ويُعَدُّ الاندماج من أهم الأسباب التي تؤدي إلى ما يُسمَّى في علم الاجتماع في الغرب ظاهرة «موت الشعب اليهودي»، أي تَناقُص أعداد اليهود بشكل ملحوظ الأمر الذي يؤدي إلى اختفاء بعض الجماعات اليهودية. وقد شُكِّلت في إسرائيل لجنة صهيونية تهدف إلى مكافحة الاندماج بين أعضاء الجماعات اليهودية.

الــــزواج المختلـــــط

Mixed Marriage; Intermarriage

تُحرِّم اليهودية الزواج بين اليهود وغير اليهود، وهي في هذا لا تختلف عن كثير من الأديان. ولكن هذا الحظر في شكله المتطرف يُعبِّر عن الطبقة الحلولية الكمونية التي تفصل الشعب المقدَّس عن الآخرين الذين لا يتمتعون بالقداسة نفسها. فقد جاء في العهد القديم: « ولا تصاهرهم. بنتك لا تعط لابنه وبنته لا تأخذ لابنك » (تثنية 7/3). ولكن رغم هذا الحظر، فإن أنبياء اليهود وزعماءهم كانوا يتزوجون من غير اليهوديات. فقد تزوج إبراهيم من هاجر المصرية، وتزوج حفيده يعقوب من امرأتين من الأغيار، وتزوج رءوبين وسيمون ويهودا من كنعانيات، وتزوج دان من مؤابية، وتزوج زبلون (وقبله موسى) من مَدْيَنية، وتزوج يوسف من مصرية، وتزوج داود من امرأة حيثية أنجبت له سليمان الذي تزوج من إناث من جميع الأجناس المعروفة في زمنه. ومع هذا، منع يعقوب دينه من الزواج من شكيم، وحذَّرت راحيل أولادها من الزواج من بنات كنعان. ومن الواضح أن الهدف من الحظر في هذه المرحلة لم يكن دينياً بقدر ما كان عرْقياً. فراحيل، مثلاً، كانت حسب الرواية التوراتية وثنية تسرق الأصنام وتخبئها. ومع هذا، يرد في العهد القديم أن تحريم الزواج مردّه أن اليهودي قد يعبد آلهة آخرىن. وبعد العودة من بابل، طبق نحميا وعزرا قوانين تحريم الزواج المُختلَط تطبيقاً صارماً وحرفياً، وطالبا اليهود الذين تزوجوا من أجنبيات بأن يطلِّقوا زوجاتهم. ورغم أن التحريم كان يتجه أساساً، كما يبدو، نحو الأقوام الكنعانية السبعة (الوثنية)، فإن الفقهاء اليهود وسّعوا نطاقه بحيث أصبح ينطبق على كل الأغيار دون تمييز، بل امتد الأمر ليشمل القرّائين والسامريين.

وعلى هذا النحو، كان زواج اليهودي من غير اليهودية يُعتبَر فجوراً وزنى مستمرين، والأولاد الذين يُولَدون من هذه المعاشرة المرذولة يُعتبَرون أبناء زنى أو «مامزير». وقد كان يُعَدُّ يهودياً من يُولَد لأم يهودية وأب غير يهودي. أما من يُولَد لأب يهودي وأم غير يهودية فلا يُعتبَر يهودياً.

وقد حاول فقهاء اليهود تبرير هذا الحظر الديني. فحاول موسى بن ميمون تفسيره تفسيراً عقلياً. أما راشي، فقد اكتفى بتأكيد أنه بلا سبب. وتحريم الزواج المُختلَط، حسب تَصوُّره، أمر مَلَكي (باعتبار أن الإله هو الملك: ملك اليهود)، ولذا يجب عدم التساؤل عن سببه كما يجب عدم التساؤل بشأن فكرة الشعب المختار. ومع هذا، فقد استمر الزواج المُختلَط بين اليهود وغيرهم، واختفى يهود الصين، على سبيل المثال، بسبب زواجهم بالمسلمين وبغيرهم.

وقد تزايدت معدلات الزواج المُختلَط بشكل ملحوظ في العصر الحديث للأسباب التالية:

1 ـ كان الذكور اليهود، حتى عهد قريب، هم الذين يتزوجون من إناث غير يهوديات. ولكن الوضع تغيَّر مؤخراً (خصوصاً بعد حركة التمركز حول الأنثى)، إذ أن كثيراً من الإناث اليهوديات اخترقن الحاجز الديني والنفسي الخاص بحظر الزواج المُختلَط، فتصاعدت نسبته بينهن حتى كادت تقترب من مثيلتها بين الرجال.

2 ـ كان الزواج المُختلَط ظاهرة تكاد تكون مقصورة على المتعلمين، فهم أكثر انفتاحاً وتَقبُّلاً لبقية أعضاء المجتمع وأكثر معرفة بأسلوب حياته.ولكن لُوحظ مؤخراً أن معدلات الزواج المُختلَط بين غير المتعلمين بدأت تقترب من مثيلتها بين المتعلمين.ولا شك في أن الإعلام يلعب دوراً أساسياً في هذا،فهو يساعد على تحطيم كل الحواجز وعلى إزالة ما قد يحيط بعضو الأقلية (أو عضو الأغلبية) من أسرار،ويروِّج ثقافة شعبية عامة وأسلوب حياة عام يشارك فيه الجميع.

3 ـ لُوحظ أن أعضاء الجماعات اليهودية الذين يتزوجون وهم في سن متقدمة نوعاً ما أكثر استعداداً للزواج المُختلَط. يرجع ذلك إلى أن مثل هؤلاء قد حققوا لأنفسهم استقلالاً اقتصادياً، وهم عادةً جزء من شبكة علاقات وصداقات مركبة تضم يهوداً وغير يهود. وكل هذا يعني أنهم لا يخافون من عَزْلهم عن الشبكة اليهودية. كما أن إمكان العثور على قرين مناسب داخل الجماعة اليهودية، بالنسبة ليهودي متقدم في السن، ليس مسألة متيسرة.

4 ـ لُوحظ كذلك أن أعضاء الجماعات اليهودية الذين يتزوجون للمرة الثانية أكثر استعداداً للزواج المُختلَط، فهم يبحثون عن زوجة من «نوع مختلف»، وعن «أسلوب حياة مختلف»، ولذا فهم لا يمانعون في الانسلاخ عن الشبكة اليهودية، بل ربما يرحبون بذلك.

5 ـ لُوحظ أن اليهود العلمانيين أو الإثنيين يُقبلون على الزواج المُختلَط بمعدلات عالية تفوق كثيراً المعدلات السائدة بين اليهود الذين يعتبرون أنفسهم يهوداً بالمعنى الديني. ويعود هذا إلى أن اليهودي الإثني أو العلماني هو يهـودي لا يكترث كثيراً بيهوديتـه كبُعد أسـاسي من أبعاد رؤيته للكون، فهي شيء من قبيل الفلكلور (انظر: «الهوية اليهودية الجديدة في المجتمعات العلمانية الغربية الحديثة»).

6 ـ لُوحظ أن أعضاء الجماعات اليهودية الذين يُعرِّفون هويتهم دينياً، ومع هذا لا ينتمون إلى أية فرقة يهودية، هم أكثر إقبالاً على الزواج المُختلَط من اليهود الذين ينتمون إلى فرقة دينية محدَّدة، فرغم أنهم يسمون أنفسهم عادةً «يهوداً متدينين» إلا أنهم في غالب الأمر غير مكترثين كثيراً بهويتهم الدينية (رغم ادعاء الانتماء الديني) ولا يمارسون إلا قدراً صغيراً من الشعائر.

7 ـ فيما يخص اليهود المنتمين لإحدى الفرق الدينية، لُوحظ أن الزواج المُختلَط يكاد ينعدم بين اليهود الأرثوذكس ويصل إلى معدلات عالية بين اليهود الإصلاحيين ويليهماليهود المحافظون. فاليهود الأرثوذكس يعيشون حسب الرؤية والقيم اليهودية ويقيمون الشعائر اليهودية، الأمر الذي يجعل مشاركة غير اليهودي أمراً صعباً بل من المستحيل في مثـل هذه الحياة. أمـا اليهود المحافظـون، والإصـلاحيون بدرجة أكبر، فهم يؤمنون بأشكال مُخفَّفة من اليهودية لا تحكم العقيدة والشعائر اليهودية كل جوانبها، ولذا يمكن لغير اليهودي المشاركة فيها بسهولة ويُسر.

8 ـ لُوحظ أن أعضاء الجماعات اليهودية حينما يتخلون عن دور الجماعات الوظيفية ويندمجون اقتصادياً في المجتمع، تأخذ معدلات الزواج المُختلَط في الزيادة. فعضو الجماعة الوظيفية هو جزء من شبكة يهوديـة قويـة تتحكم في جوانب حياته الدينية والزمنية وتضمن بقاءه، وفي ذات الوقت تقوم بضبط إيقاع حياته من الخارج ومن الداخـل.

9 ـ يؤدي وجود أعضاء الجماعات اليهودية في وظائف معيَّنة مثل المهن الحرة إلى تَزايُد معدلات الزواج المُختلَط، ويعود هذا إلى أن حياة من يشغل مثل هذه الوظائف تتسم بدرجة عالية من الحركية والتنقل والبُعد عن المراكز السكانية اليهودية. كما أن كثيراً من عملائه ليسوا بالضرورة من أعضاء الجماعة اليهودية.

10 ـ لُوحظ أن معدلات الزواج المُختلَط في العصر الحديث ترتبط ارتباطاً عكسياً بحجم الجماعة اليهودية، فيَقل الزواج المُختلَط إذا كان حجم الجماعة كبيراً، وهو ما يتيح فرصة العثور على القرين اليهودي المناسب، ويزيد إذا كان حجمها صغيراً إذ تتناقص هذه الفرصة. ومن هنا يؤدي تَوزُّع اليهود في العديد من المراكز السكانية إلى زيادة معدلات الزواج المُختلَط.

11 ـ قد يُقال ـ رغم تَعدُّد المراكز ـ إن أعداداً كبيرة من أعضاء الجماعات اليهودية مُركَّزة في المدن الغربية الكبرى ومن ثم لابد أن تتراجع نسبة الزواج المُختلَط حسبما ذكرنا في البند السابق. ولكن الأمر عكس ذلك، فسكان المدن الكبرى هم أعضاء في الجيسيلشافت (المجتمع التعاقدي) حيث الوحدة الأساسية هي الفرد الحركي الذي ينتقل من مكان لآخر ولا يرتبط بالجماينيشافت (المجتمع التراحمي)، ولذا، فرغم وجود تجمعات يهودية كبيرة في المدن الغربية الكبرى إلا أنها في واقع الأمر مجرد تجمعاتوحسب وليست جماعات أو مجتمعات، ولهذا يَصعُب على اليهودي أن يصل إلى القرين اليهودي المناسب. كما أن سـكان المدن يكـونون عـادةً أكثر انفتاحاً وحركية من سكان الريف. ولهـذا، ورغم وجود أعضاء الجماعات اليهودية بأعداد كبيرة في المدن الغربية الكبرى، فإن معدلات الزواج المُختلَط آخذة في التزايد بينهم.

12 ـ يؤدي تَزايُد اندماج أعضاء الجماعات اليهودية في المجتمعات التي يعيشون فيها إلى ازدياد معدلات الزواج المُختلَط، إذ تتاح لهم الفرص الاقتصادية والحراك السياسي والاجتماعي، ويبدأ أسلوب حياتهم في الاقتراب من أسلوب حياة أعضاء الأغلبية ويتساقط كثير من المحظورات.

13 ـ وفي العصر الحديث، فإن السبب الأساسي والحاسم في تَصاعُد معدلات الزواج المُختلَط في المجتمعات الغربية، بدرجات ليس لها مثيل في تجارب أعضاء الجماعات اليهودية والتاريخية، هو تصاعد معدلات العلمنة في هذه المجتمعات. ومن المعروف أن المجتمعات العلمانية يسود فيها قدر كبير من التسامح. ولكن التسامح العلماني لا يعني (في تَصوُّرنا) التعايش بين الانتماءات الدينية المختلفة، وإنما يعني، في واقع الأمر، التعايش بين أعضاء المجتمع بعد أن يُهمِّش كل منهم انتماءه الديني أو الإثني ويتجاوزه بحيث يتعايش الجميع فيما يُسمَّى «رقعة الحياة العامة» التي تتحكم فيها القيم العلمانية مثل المنفعة وتعظيم الإنتاج واللذة. وعادةً ما تختفي في مثل هذه المجتمعات الرموز الدينية المقصورة على الجماعة الدينية ويحل محلها رموز المجتـمع ككل (نشيد وطني ـ تاريـخ مشترك ـ الانتماء لأرض الأجداد) أو رموز ذات مضمون اجتماعي طبقي (منازل من نوع خاص - رداء من نوع خاص - سيارات.. إلخ). وهذه الرموز تُسقط الخصوصيات الدينية والإثنية. كما تسود هذه المجتمعات قيم ثقافية مشتركة من حب للموسيقى الشعبية أو فنان بعينه وهكذا.

14 ـ وقد واكبت هذا عملية ضخمة لإعادة تعريف الهوية اليهودية لتتفق مع الأوضاع (والحقوق والواجبات) الجديدة في عصر ما بعد الانعتاق، بحيث يصبح بإمكان اليهودي أن يكون يهودياً ومواطناً عادياً في آن واحد. وكان التصور أن تعريف الهوية الجديد سيحفظ يهودية اليهودي (الدينية أو الإثنية) وسيحقق لها الاستمرار داخل مجتمعات ما بعد الانعتاق، بخاصة المجتمع الأمريكي، وهو مجتمع حقق الانعتاق تماماً لكل أعضاء الأقليات فيه، كما أنه وطن نصف يهود العالم.

ولكن يبدو أن هذا الحلم تَبخَّر تماماً، إذ ظهر أن تطوير الهوية اليهودية على هذا النحو أدى في واقع الأمر إلى ظهور ما يُسمَّى «اليهودي غير اليهودي»، أي اليهودي الذي تم تهميش يهوديته بحيث أصبحت عنصراً ثانوياً في هويته العامة، لا تُوجِّه سلوكه ولا تشكل إطاراً عقائدياً كلياً يضبط حياته من الداخل والخارج. فيهودية اليهودي غير اليهودي تظهر في تَمسُّكه ببعض الشعائر (إن كان متديناً) ولا تتجاوز قدراً من التمسك الرومانسي بما يُسمَّى «التراث اليهودي» (الذي لا يعرف عنه شـيئاً) أو تأييد إسـرائيل بشـكل أكثر حدة من أقرانه الأمريكـيين، وإن كان ذلك لا يخـتلف في مُجـمله عن الموقـف الأمريكي العام.

وهذا التعريف للهوية اليهودية يجعلها هامشية تماماً لا تتدخل في ترتيب الأولويات الجوهرية. ولذا، فإن دَخَل إنسان يهودي في علاقة رومانسية مع شخص غير يهودي وبدأ يفكر في الزواج منه فسيجد أن هوية الطرف الآخر (اليهودية) هوية هامشية لا تتدخل في تحديد الاختيارات الأساسية والقرارات المصيرية، ولن يكون لها دخل كبيرفي حياتهما وأن بالإمكان تحقيق هذه الهوية الهامشية داخل الزواج مع تحييدها. فهذه الاختيارات والقرارات سيتم تحديدها على أُسس علمانية لا دينية، لا علاقة لهابالمسيحية أو اليهودية. فاقتناء عمل فني يهودي ودفع تبرعات لأحد صناديق الغوث اليهودية وتأييد إسرائيل لن يسبب مشاكل كبيرة. هذا على خلاف أن تكون الهويةاليهودية هي أساس ترتيب الأولويات والمعايير الأخلاقية التي يحكم بها اليهودي على حياته وأن تكون هي الإطار الذي يحدد من خلاله الهدف من وجوده ووَضْعه في المجتمع والتاريخ.

15 ـ لاحَظ أحد الباحثين أن هوية اليهود الجدد الهشة يمكن أن تكون حافزاً على الزواج المُختلَط. ففي المجتمعات العلمانية ثمة بحث دؤوب عن اللذة والمتعة والمغامرة والإثارة. ويُعَدُّ الزواج بين يهودي وغير يهودي شكلاً من أشكال الإثارة الذي لا يُكلِّف كثيراً باعتبار أن يهودية الطرف اليهودي (ومسيحية الطرف المسيحي) مُهمَّشة، ومن ثم يمكن استدعاؤها للإثارة ويمكن تجميدها عند اتخاذ القرارات المصيرية.

16 ـ ومما يساعد على تَصاعُد معدلات الزواج المُختلَط أن معظم اليهود لا يعارضونه في الوقت الحاضر، كما يوجد عدد لا بأس به من الحاخامات الإصلاحيين ممن تَقبَّلوا عقد الزيجات المُختلَطة، ولذا فإن من يتزوج من غير يهـودي لن يجد نفســه خـارج الجماعة اليهوديـة.

ونسبة الزيجات المُختلَطة في العصر الحديث آخذة في التصاعد بشكل يثير قلق القيادات اليهودية (ويسمونه «الهولوكوست الصامت»). فقد وصلت نسبة الزيجات المُختلَطة في كوبنهاجن (بين عامي 1880 و1905) إلى 68% من جملة الزيجات. ووصلت في ألمانيا (عام 1932) إلى نحو ستين زيجة مُختلَطة بين كل مائة زيجة يهودية، وفي أمستردام 70% (عام 1930). وفي الولايات المتحدة تصل النسبة في الوقت الحاضر إلى أعلى من هذا في بعض المناطق، ولكن النسبة العامة بين عامي 1985 و1990 هي 25% من كل الزيجات اليهودية التي تمت في هذه الفترة. وتصل النسبة في بعض المناطق إلى 80%. وفي روسيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء لا يختلف الوضع عن هذا كثيراً.

ويحدث أحياناً أن يَتهوَّد الفرد الذي تزوج يهودياَ أو يهوديةً. ولفظ «يهودي»، بالنسبة لمثل هؤلاء الأفراد، ذو مضمون ديني يُسقط الجانب الإثني والقومي تماماً، ولكنه ديني من حيث الاسم فقط، لأن اعتناق اليهودية خطوة يتخذها المتهود حتى لا يسبب حرجاً لرفيق حياته الجديد أمام أسرته. فالدافع وراء التهود هنا في غالب الأمر علماني وليس دينياً. ويبلغ عدد الذين تهودوا بسبب الزواج المُختلَط في الولايات المتحدة حوالي 185 ألفاً يسمون الواضح منهم في الوقت الحاضر «يهودي باختياره» (بالإنجليزية: جو باي تشويس Jew by choice) بدلاً من «كونفرت convert» أي «متهود» أو «مهتد» بسبب الإيحاءات القدحية لهذه الكلمة. وهذا العدد صغير (بالنسبة لعدد من لم يتهودوا، والذي يُقال إنه بلغ 210 ألف) كما أنه آخذ في التناقص مع تَصاعُد معدلات العلمنة في المجتمع، لأن الضغوط الاجتماعية التي تدفع الطرف غير اليهودي نحو التهوُّد قد ضعفت. وقد ورد في تقرير لمركز كوهين للدراسات اليهودية الحديثة في جامعة برانديز أن العنصر غير اليهودي يتهود في زيجة واحدة من كل أربع زيجات مُختلَطة.

ويقول الحاخام آرثر هرتزبرج إن معدلات الزواج المُختلَط في المجتمعات المنفتحة، مثل الولايات المتحدة وبلاد غرب أوربا (حيث تم فيها إعتاق اليهود) تصل منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى حوالي الثلث في الجيل الثالث (أحفاد المهاجرين أو اليهود الذين تم إعتاقهم). ثم يأخذ هذا المعدل في الازدياد بعد ذلك (حدث ذلك في نيويورك وفيلادلفيا عام 1840، وحدث في برلــين وفيــينا عـام 1920، وحــدث مــرة أخرى في الولايات المتحـدة في الثمانينيات). وقد كانت موجات الهجرة في الماضي هي التي تُقلِّل معدل الزيجات المُختلَطة، ذلك لأن المهاجرين (وأغلبيتهم من شرق أوربا) كانوا من خلفيات يهودية تقليدية يُعَدُّ الزواج المُختلَط فيها جريمة أخلاقية. ومع التكيف التدريجي يزداد معدل الزواج المُختلَط.

وهذا يعني أن معدلات الزواج المُختلَط ستتزايد بشكل ملحوظ مع تَوقُّف الهجرة من خارج الولايات المتحدة (إذ أن مصدر المهاجرين الأساسي، الاتحاد السوفيتي سابقاً، قد بدأ يجف تماماً). وإذا وصل مهاجرون فهم عادةً يتسمون بمعدلات عالية من العلمنة، ويكون هناك عادةً طرف غير يهودي في الأسرة المهاجرة. أما أبناء الزيجاتالمُختلَطة فوضعهم لا يقل سلبية (من منظور يهودي). فقد لُوحظ أن 90% من أولاد الزيجات المُختلَطة في الاتحاد السوفيتي سابقاً يختارون ألا يُصنَّفوا «يهوداً». ولا يختلف الوضع كثيراً في الولايات المتحدة، فقد قيل إنه لو أن نصف كل أبناء الزيجات المُختلَطة نشأوا يهوداً، لما حدث أي نقصان في أعداد اليهود، ولكن الدراساتالأخيرة أثبتت أن هذا لا يحدث، فنسبة من يُنشأون باعتبارهم يهوداً يصل إلى الربع (أو حتى الخُمس حسب بعض الإحصاءات). ويوجد الآن في أمريكا الشمالية 415 ألف شخص فوق سن الثامنة عشرة من أصل يهودي ولكنهم نُشِّئوا على غير اليهودية. ويوجد 700 ألف دون سن الثامنة عشرة لم يتم تعريفهم بوصفهم يهود اً، رغم أن لهم أباً أو جداً يهودياً وهذا يؤدي إلى تَناقُص الأعداد. وحتى حينما يتقرَّر أن يُنشَّأ أبناء مثل هذه الزيجات على أنهم يهود، فعادةً ما يكونون يهوداً اسماً وأبعد ما يكونون عن اليهودية بالمعنى الديني أو الإثني. وقد لُوحظ أنهم يصبحون عادةً من أكثر العناصر إقبالاً على الزواج المُختلَط.

ولا تعترف اليهودية الأرثوذكسية بالزيجات المُختلَطة. أما اليهودية المحافظة، فتشترط على الطرف غير اليهودي أن يَتهوَّد. ومع هذا، فهي لا تَطرُد من الأبرشية من يتزوج من خارج وسط اليهود، بل وتسمح له بعض المعابد المحافظة بحضور الصلوات على شرط أن يوافق على أن يكون ثمرة الزواج يهوداً. أما اليهودية الإصلاحية، فإنها توافق على الزيجات المُختلَطة (وتترك الأمر لكل حاخام لكي يقرر ما يراه مناسباً)، وتشجع الطرف غير اليهودي على التهود ولكنها لا تشترطه، وتعتبر أن اليهودي وزوجته غير اليهودية أعضاء في الأبرشية، أي أنها تُقّر حق الطرف غير اليهودي في حضور الصلوات.

أما بالنسبة للموقف من أبناء هذه الزيجات، فإن اليهودية الأرثوذكسية لا تعترف إلا بمن وُلد منهم لأم يهودية، أما من وُلد لأب يهودي فليس يهودياً (على عكس موقف اليهودية الإصلاحية).

ومن المشاكل الأخرى التي يُثيرها أبناء الزواج المُختلَط انضمامهم للمدارس اليهودية، فبعض الأطفال غير يهود ومع هذا يسجلهم آباؤهم في مثل هذه المدارس ليُعرِّفوهمبالجذور الإثنية أو الدينية للطرف اليهودي في الأسرة أو ليطرحوا أمامهم البدائل الدينية المختلفة (ومن بينها البديل اليهودي) حتى يختار الطفل بنفسه فيما بعد. ويخلق هذا مشاكل لا حصر لها لهذه المدارس، التي تُعدّ المقررات التي تلائم الدارسين اليهود وحسب.

والصهيونية تعتبر الزواج المُختلَط أكبر خطر يتهدد اليهود واليهودية. ومن المستحيل عقد مثل هذا الزواج في إسرائيل حيث تسيطر المؤسسة الأرثوذكسية. ويواجه المامزير، أي أبناء الزيجات المُختلَطة، مشاكل وتعقيدات كثيرة لأنهم أطفال غير شرعيين. وقد ازدادت المشكلة تفاقماً بعد هجرة اليهود السوفييت، حيث إن معدلات الزواج المُختلَط بينهم مرتفعة بشكل ملحوظ.

الإبــادة الصامتــة

Silent Holocaust

«الإبادة الصامتة» مُصطلَح شائع في الولايات المتحدة (في الأوساط الصهيونية) يُستخدَم للإشارة إلى معدلات الاندماج والزواج المُختلَط المرتفعة باعتبارهما عناصر ستؤدي إلى إبادة اليهود وإلى «موت الشعب اليهودي».

الشعب العضوي (فولكVolk )

تعبير «الشعب العضوي» هو ترجمتنا للكلمة الألمانية «فولك Volk» التي تُستخدَم بمنطوقها الألماني في كثير من اللغات الأوربية. والشعب العضوي هو الشعب الذي يترابط أعضاؤه ترابط الأجزاء في الكائن العضوي الواحد والذي تربطه رابطة عضوية بأرضه وتراثه. ويُشار إلى الفكر القومي، الذي يَصدُر عن مفهوم الشعب باعتباره الفولك أو الكيان العضوي المتماسك، بعبارة «الفكر القومي العضوي» كما يُقال «القومية العضوية».

القوميــــــة العضويــــــة

Volk (Organic) Nationalism

«القومية العضوية» هي شكل القومية التي يُعبِّر الشعب من خلالها عن نفسه ككيان عضوي متماسك، يحوي داخله مركزه، فهو مرجعية ذاته، أي أنه يدور في إطار المرجعية الكامنة، والنموذج الكامن وراء هذه الفكرة هو نموذج عضوي مادي واحد. والشعب العضوي والقومية العضوية هما البديل والمقابل العلماني والحلولي الكموني الواحدي لفكرة الجماعة الدينية أو الأمة بالمفهوم الديني. ومفهوم القومية العضوية مفهوم رحمي تماماً يُلغي إرادة الإنسان الفرد وحريته. وقد ظهرت فكرة القومية العضوية في الغرب، خصوصاً في ألمانيا في القرن التاسع عشر، تحت تأثير الفكر المعادي للاستنارة. والقومية العضوية تدور في إطار الأفكار التالية:

1 ـ الشعب هو كلٌ عضوي متماسك يشبه علاقة أعضائه، الواحد بالآخر وبمجموع الشعب، علاقة أجزاء الكائن الحي بعضه بالبعض الآخر، ومن ثم فإن الشعب الحقيقي لا يقبل التفتيت ولا يمكن فصل أحد أعضائه عنه. وإذا غيَّر أحد أعضاء الفولك مكانه وانتقل من ألمانيا إلى روسيا مثلاً فهو يظل ألمانياً.

2 ـ الانتماء القومي لهذا الشعب ليس مسألة اختيار أو دعاية وإنما رابطة كلية عضوية حتمية تكاد تكون بيولوجية في حتميتها (إن لم تكن كذلك بالفعل) تربط بين الفرد والجماعة التي يتبعها، ولذا فإن الانتماء لشعب معيَّن مسألة تُورَّث ولا تُكتسَب.

3 ـ لا تقتصر الرابطة العضوية على العلاقة بين الفرد والشعب وإنما تمتد لتربط بين الشعب ككل والأرض التي يعيش عليها وبها. فالشعب العضوي يستمد الحياة من أرضه وتربته، وهي أيضاً تستمد منه الحياة، فهو وحده القادر على تعميرها.

4 ـ تمتد العلاقة العضوية لتشمل أيضاً الأشكال الثقافية والاجتماعية التي تسـود بين أعضاء هذا الشعب العضوي والتي أبدعها أعضاؤه على مـر التاريخ. فهـذه الأشكال تُعبِّر عن عبقرية هذا الشعب وروحه (بالألمانيـة: فولكس جايست Volksgeist)، ولهذا السبب فإن الآخر الغريب لا يمكنه أن يمتلك ناصية الخطاب الحضاري لهذا الشعب مهما بذل من جهد، فثقافة الشعب العضوي مسألة موروثة تجري في الدم تقريباً ولا يمكن اكتسابها مهما بلغ الآخر من ذكاء ومهارة.

5 ـ والشعب العضوي يحوي داخله (وداخل أرضه وتراثه) عناصر قوته وانحلاله وتَطوُّره ورُقيِّـه، كما أن قوانين حركته التي ينمو على أساسها كامنة فيه أيضاً، أي أنه يدور في إطار المرجعية المادية الكامنة. ويُلاحَظ اختفاء كل المسافات بين الشعب ومصادر قوته وأرضه وتراثه، فالجميع يُكوِّنون كُلاًًّ متماسكاً مستمراً عضوياً لا ثغرات فيه ولا انقطاع.

6 ـ ويمكننا أن نقول إن فكرة الشعب العضوي (والقومية العلمانية) ككل هي حلولية مرحلة وحدة الوجود المادية (من النوع الثنائي الصلب). فالمُطلَق حلَّ في المادة (الأرض والشعب والتراث أو الشعب المرتبط بأرضه وتراثه) وفقد تَجاوُزه وتنزهَّه وذاب في الشعب، بحيث أصبح الشعب هو ذاته القيمة المطلقة ومرجعية ذاته. ولعل النمط الكامن الأساسي وراء فكرة الشعب العضوي هو النمط الذي ورد في أسفار موسى الخمسة، فالعبرانيون أمة أو قبيلة اختارها الإله وحل فيها أو سكن في وسطها، وهو إله مقصور على أعضاء هذه القبيلة، ولذا كان ينتقل معهم في ترحالهم (أو كانوا يحملونه معهم في سفينة العهد) وكان يساعدهم (وحدهم دون سواهم) ضد أعدائهم ويغار عليهم، وكانوا لا يترددون في الضغط عليه كي يستجيب إلى طلباتهم. وقد تعدلت هذه الصورة قليلاً بعد ذلك في كتب الأنبياء. ولكن أسفار موسى الخمسة ظلت أكثر أسفار العهد القديم قداسة، وأصبح تاريخها المقدَّس، وما جاء فيها من صُوَر حلولية كمونية عضوية من أهم مفردات الوجدان الغربي. ومع تَصاعُد معدلات العلمنة، أعيد إنتاج هذه الصورة القَبَلية العضوية الحلولية على هيئة الفكر العلماني القومي. وقد أَحَلَّ هذا الفكر، محل الإله الواحد المتجاوز (المُنزَّه عن الطبيعة والتاريخ، مركز الكون،المفارق له)، كياناً عضوياً متماسكاً هو الشعب أو الأمة التي تحوي مركزها داخلها، فهي موضع الحلول والكمون وفوق الجميع. وأصبحت الأمة، ذلك الكيان العضوي المُنغلق على ذاته، مصدر السلطات وموضع التقديس، وأصبحت الهوية القومية والحفاظ عليها (بغض النظر عن أية قيم) قيمة مطلقة ومرجعية نهائية (تَوثُّن الذات كما سماها أحد المفكرين العرب). بل وأصبح تراب الوطن أو أرضه موضع التقديس، فهو الرقعة التي تتحقق عليها الذات القومية المقدَّسة. وقد تم التعبير عن هذا من خلال مفهوم الدم والتربة: الدم الذي يجري في عروق أبناء الشعب والتراب أو التربة التي يعيش عليها، وهما العنصران اللذان يجسدان فكرة الوطن. وأصبح الصالح العام لهذا الوطن، وهذه الدولة التي تمثله وتمثل الشعب، هو المُطلَق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو الخير الأعظم والمُطلَق الأوحد، ولهذا فإن العمل ضد صالح الدولة وإفشاء أسرارها (المقدَّسة المُطلَقة) خيانة عظمى عقوبته عادةً الإعدام. وباختصار شديد، أصبح الوطن المقدَّس (والشعب المقدَّس) مرجعية ذاته وأصبحت مصلحته قيمة نهائية، ومن ثم أصبح من المستحيل محاكمة أي شعب من منظور منظومة قيمية خارجة عنه.

7 ـ أفرزت فكرة الشعب العضوي والقومية العضوية مجموعة شعارات ومفردات ذات طابع عضوي حلولي كموني واحدي (شبه صوفي) عنصري،مثل:«أمتنا فوق الجميع»، و«الأمة ذات الرسالة الخالدة»،«المصير القومي الواحد المحتوم»، «المجال الحيوي للشعب».

8 ـ مفهوم الشعب العضوي مفهوم استبعادي، نسق مغلق لا يسمح بأي شكل من أشكال عدم التجانس ويفصل بحدة بين أعضاء الشعب العضوي والشعوب الأخرى. كما أن أعضاء الأقليات الذين يعيشون بين أعضاء هذا الشعب يصبحون بالمثل شعباً عضوياً، ولكنهم شعب عضوي منبوذ.

9 ـ فكرة الشعب العضوي والقومية العضوية تُترجم عادةً إلى فكر عرْقي يؤكد التفاوت بين الناس والأعراق، فينسب التَميُّز للأنا الجماعية العضوية والتدني للآخر. فالأنا هي تَجسُّد المركز الكامن في العالم، والآخر مجرد مادة وحسب، والأنا هو المرجعية النهائية والمقدَّس، والآخر هو التابع المباح. ويشكل الفكر العضوي الاستبعادي الأرضية الفلسفية للرؤية العنصرية داخل أوربا والرؤية الإمبريالية خارجها. وقد حقَّق المفهوم شيوعاً كبيراً في أوربا ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر. وكانت الكتب العنصرية أكثر الكتب شيوعاً في أوربا في تلك الفترة. ومن هنا، فإن الفكر الإمبريالي، والفكر النازي والصهيوني، وكذلك فكر أعداء اليهود، فكر عضوي.

10ـ يُعبِّر الشعب العضوي عن إرادته من خلال الدولة القومية المطلقة التي تكون مرجعية ذاتها، ويُعبِّر عن هذه الإرادة في حالة النُظُم الشمولية من خلال إرادة الزعيم.

ويُميِّز بعض المؤرخين بين القومية العضوية من جهة والقومية الليبرالية (التعاقدية) من جهة أخرى. فإذا كان أعضاء القومية العضوية لا يختارون مسألة انتمائهم القومي بل يرثونه بشكل يكاد يكون بيولوجياً، فإن أعضاء القومية الليبرالية ـ حسب رأي هؤلاء المؤرخين ـ يختارون هذا الانتماء ويدخلون في تعاقد يمكن فكّه على الأقل من الناحية النظرية. ويُصنَّف الفكر القومي الألماني والسلافي بوصفه فكراً عضوياً يُبشر بقومية عضوية، وذلك على عكس النظريات القومية في كلٍّ من فرنسا وإنجلترا. ونحن نرى أن التمييز قد يفسر بعض نقط الاختلاف التي لا أهمية لها، ولكنه يُخبئ نقط تشابه ذات أهمية محورية. كما نذهب إلى أن الحضارة الغربية العلمانية العلمية ككل تدور في إطار عضوي وفي إطار المرجعية المادية الكامنة، فالنموذج يحوي مركزه داخله، وقد تَقلُّ درجة تَماسُكه واستبعاديته وحلوليته في حالة التشكيلين الحضاريين الفرنسي والإنجليزي (والقومية الفرنسية والإنجليزية)، وقد تزيد هذه الدرجة في حالة التشكيلين الألماني والسلافي (الجامعة الألمانية والجامعة السلافية) وفي حالة الصهيونية. ولكن الإطار الذي يدور في إطاره الجميع هو المرجعية المادية الكامنة والحلولية العضوية، فتصبح الأمة مرجعية ذاتها، وتصبح هي ذاتها مصدر شرعيتها، وتصبح إرادتها مصدر وحدتها وتَماسُكها (تماماً كما أن إرادة القوة في المنظومة النيتشوية هي مصدر تَماسُك الفرد ووحدته وهويته).

الشعب العضوي المنبوذ

Pariah Volk

«الشعب العضوي المنبوذ» عبارة قمنا بصياغتها للتعبير عن نموذج تفسيري كامن في معظم الكتابات الصهيونية والمعادية لليهود. ويعود هذا النموذج إلى الفكر الألماني الرومانسي الذي طرح فكرة الشعب العضوي (بالألمانية: فولك Volk)، والتي ترى أن الانتماء القومي ليس مسألة اختيار أو إيمان، وإنما هو رابطة كلية عضوية حتمية تكاد تكون بيولوجية في حتميتها بين الفرد والجماعة التي يتبعها والتربة (الأرض) التي تتواجد عليها هذه الجماعة، ومن هنا الحديث عن التربة والدم. وحسب هذا النموذج، تتسم الأشكال الثقافية والاجتماعية المختلفة التي تسود بين أعضاء هذه الجماعة بأنها هي الأخرى مترابطة ترابطاً عضوياً لا تنفصم عراه، وبأنها فريدة تُعبِّر عن عبقرية الجماعة. ويؤكد نموذج الشعب العضوي الاختلافات بين الجماعات البشرية المختلفة على حساب المساواة بين أعضاء الجنس البشري. ولهذا نجد أنه أفرز مجموعة شعارات ذات طابع عضوي عنصري شبه صوفي، مثل: روح الشعب - أمة واحدة ذات رسالة خالدة ـ المصير القومي الواحد الحتمي والأمة فوق الجميع - المجال الحيويللشعب. وقد استُخدم هذا النموذج لتبرير التوسع ولاستبعاد الآخرين بل وإبادتهم. كما تَحكَّم في إدراك الإنسان الغربي لكل المجموعات البشرية وضمنهم اليهود، بحيث أصبح هناك شـعب عضوي ألماني وشـعب عضوي إنجليزي وشعب عضوي يهودي، كل منها مترابط ترابطاً عضوياً ويضرب بجذوره في تربته. وقد تَبنَّى الفكر الصهيوني هذا النموذج التفسيري الذي عبَّر عنه مارتن بوبر في كتاباته حيث يجعل من الشعب العضوي ركيزة أساسية لرؤية العالم.

ومن مفارقات الأمور أن إحدى خصائص الشعوب العضوية أنها تَنبُذ العناصر الغريبة عنها والتي تُوجَد بين ظهرانيها مثل اليهود. ولهذا كان النموذج الذي أسبغ على اليهود هوية عضوية فريدة، وحوَّلهم من مجرد أقلية دينية أو جماعة دينية إلى كيان مستقل، يأخذ شكل شعب عضوي له صفات ثابتة محددة يضرب بجذوره في فلسطين، هو نفسه الذي جعل منهم مادة بشرية غريبة لم تُشكِّل قط جزءاً من التاريخ الحقيقي للغرب وإنما وقفت دائماً على هامشه. بل إن وجودهم داخل الحضارة الغربية لم يكن دائماً أمراً إيجابياً، ومن ثم فلا مكان لهم في هذه الحضارة، أي أن «الشعب العضوي» تَحوَّل إلى «شعب عضوي منبوذ». وقد أدَّى هذا النموذج إلى الهجوم علىخصوصية الشعب العضوي اليهودي وإظهار مدى قبحها وضرورة القضاء عليها، فظهرت الدعاوى المعادية لليهود، كما ظهرت الدعوات إلى دمجهم في المجتمعات الغربية بعد إصلاحهم وتطبيعهم، أي بعد أن يتخلصوا من خصوصيتهم وسماتهم السلبية، بأن يتخلوا عن يهوديتهم، وهذا هو فكر عصر الاستنارة والتنوير.

ويمكن القول بأن نموذج الشعب العضوي المنبوذ هو الحلقة التي تربط بين العداء لليهودية والصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة. وتنطلق صهيونية غير اليهود من فكرة أن الفولك أو «الشعب العضوي اليهودي» لا مكان له حقاً في العالم الغربي (وهذه هي نفسها دعوى أعداء اليهود) ولكن يمكن الاستفادة منه كأداة يمكن توظيفها لصالح الغرب في مشروعاته المختلفة التي أصبح من أهمها، مع مرور الوقت، المشروع الاستيطاني في فلسطين. ويستند نموذج الشعب العضوي المنبوذ إلى عنصرين أساسيين في الحضارة الغربية:

1 ـ موقف الحضارة الغربية المسيحية من اليهود. ويمكن القول بأن نموذج الشعب العضوي يعود إلى فكرة الشعب الشاهد، أي اليهود بوصفهم أقلية دينية رفضت المسيح، وتقف في ذُلِّها وخضوعها وتَدنِّيها شاهداً على صدق العقيدة المسيحية وعلى عظمة الكنيسة. ولذا، دافعت الكنيسة الكاثوليكية عن بقاء اليهود كجماعة مستقلة وحمتهم ضد الهجمات الشعبية حتى يقوموا بدورهم في الشهادة. ثم تحوَّلت هذه الفكرة إلى العقيدة الاسترجاعية أو الألفية في الفكر البروتستانتي، وهي عقيدة تُحوِّل اليهود إلى أداة من أدوات الخلاص إذ أنه لا يمكن أن يتم الخلاص النهائي إلا بعودة اليهود.

2 ـ الأمر الآخر الذي يعود إليه نموذج الشعب العضوي المنبوذ هو الدور الذي لعبه اليهود في المجتمع الغربي كجماعة وظيفية وسيطة تشتغل بالتجارة والربا والنشاطات المالية. ويمكن القول بأن الشعب العضوي المنبوذ، في كثير من الأحوال، هو الجماعة الوظيفية التي فَقَدت وظيفتها.

ويُلاحَظ أن كلا الأمرين يضع اليهود على هامش التاريخ الغربي لا في صميمه، كما يجعلهم مجرد أداة إما للخلاص النهائي أو للربح.

ويمكن القول أيضاً بأن نموذج الشعب العضوي المنبوذ هو تعبير علماني عن فكرة الشعب المختار والشعب المقدَّس (الدينية)، فالشعب المختار شعب مقدَّس، والقداسة تعني الانفصال عن كل الشعوب، فهو شعب عضوي، ولكن إحدى علامات اختياره هي أن كل الشعوب ترفضه، فهو شعب عضوي مقدَّس منبوذ.

وقد تداخل العنصران الديني والدنيوي لبعض الوقت. ومع تَزايُد علمنة الحضارة الغربية، فَقدَ النموذج كثيراً من ديباجاته الدينية ليصبح نموذجاً دنيوياً محضاً. ومن هذا المنظور، تم الهجوم على اليهود لا باعتبارهم قتلة المسيح وإنما باعتبارهم شعباً عضوياً بالمعنى العرْقي. كما أن استخدام اليهود كوسيلة أخذ يفقد ديباجاته الدينية تدريجياً، حيث أصبح اليهودي غير مُثقَل بأية قيمة وتَحوَّل إلى أداة محضة.

ويمكننا أن نَعُدَّ مارتن لوثر من أوائل المفكرين الذين تعاملوا مع اليهود من منطلق هذا المفهوم في صيغته الدينية، فقد وصف اليهود انطلاقاً من عدائه العميق لهم بأنهم « عبء ثقيل علينا وبلاء وجودنا»، وأشـار إلى أكاذيبهم وطالب بمسـاعدتهم للعـودة إلى أرضهـم في يهـودا « فالتخلص من اليهود هو الهدف الأسمى ». ومن الواضح أن لوثر لم يكن قد أدرك بعد إمكانية الاستفادة منهم وإمكانية نفعهم. ويُعَدُّ الفيلسوف إسبينوزا من أوائل المفكرين الذين بَلْوروا هذا المفهوم في صيغته العلمانية، إذ شن هجوماً شرساً على اليهود وطالب بالقضاء على خصوصيتهم بدمجهم أو عودتهم إلى فلسطين.

وشهدت الفترة نفسها ظهور فكرة الاستفادة من «الشعب العضوي المنبوذ» كأداة. فقد دافع كرومويل عن عودة اليهود إلى إنجلترا بسبب نفعهم وإمكانية استخدامهم كجواسيس. وقد بدأت تظهر فائدة اليهود في تلك الفترة كعنصر استيطاني يمكن استخدامه في المشاريع الاستيطانية في سورينام وكايين وكوراساو.

ويُعَدُّ نموذج الشعب العضوي المنبوذ حجر الزاوية في فكر الاستنارة، فقد هاجم كلٌّ من فولتير وهولباخ اليهود على أنهم شعب عضوي له صفاته السلبية الخاصة به. وعرَّف الفيلسوف هردر اليهود بأنهم غرس طفيلي في أوربا يلتصق بكل الشعوب الأوربية ويمتص نخاعها. ويُلاحَظ وجود المفهوم نفسه في كتابات فخته الذي أكّد أيضاً الفساد الأخلاقي عند اليهود وأكد أنهم يُكوِّنون دولة داخل الدولة. ولذا، عارض منحهم الحقوق المدنية والسياسية، إذ أن ذلك لن يتحقق إلا بأن تُقطَع رؤوسهم ذات ليلة وتُوضَع مكانها رؤوس أخرى لا تحوي فكرة يهودية واحدة. وقد اقترح فخته، ومن قبله فولتير، حلاًّ صهيونياً لمشكلة الشعب العضوي المنبوذ، فقال: "لا يوجد بديل إلا بغزو أرض الميعاد وإرسالهم إليها، لأنهم لو حصلوا على حقوقهم المدنية في أوربا فإنهم سيدوسون على كل المواطنين الآخرين".

وقد بدأت تظهر في هذه الفترة فكرة نفع اليهود. وقد عبَّر الكاتب الإنجليزي أديسون، محرر مجلة الإسبكتاتور ، عن هذا الجانب من المفهوم بشكل دقيق للغاية في مقال بتاريخ 27 ديسمبر 1712 قال فيه: « إن اليهود منتشرون في جميع المناطق التجارية في العالم حتى أنهم أصبحوا الأداة التي تتحدث من خلالها الأمم التي تفصل بينها مسافات شاسعة، فهم مثل الأوتاد والمسامير في بناء شامخ. ورغم أنهم بلا قيمة في حد ذاتهم، فإن أهميتهم مطلقة لأنهم يحفظون للهيكل كله تماسكه ». وما يهمه من اليهود كشعب عضوي، إذن، هو كونهم أداة مهمة وحسب. ولذلك فهو لا يَشُنُّ عليهم هجوماً ولا يُشهِّر بهم، فما يهمه هو توظيف هذه الكتلة البشرية. وستتكفل عملية التوظيف هذه بتخليص أوربا منهم بالطرق السلمية، أي أن نموذج الشعب العضوي المنبوذ تَحوُّل تدريجياً ليصبح نموذج الشعب العضوي المنبوذ النافع (وهذا هو جوهر الصهيونية). وقد طُرحت في عصر الاستنارة إشكالية مدى نفع اليهود وإمكانية إصلاحهم حتى يتسنى الاستفادة منهم.

وهكذا أصبح نموذج الشعب العضوي المنبوذ نموذجاً تفسيرياً أساسياً في الوجدان العقلي والعاطفي في الغرب بما يؤدي إليه من حلول صهيونية واضحة أو كامنة. وقد أصبح هذا النموذج، مع بداية القرن التاسع عشر، بُعداً أساسياً في الفكر السياسي الغربي تجاه اليهود والشرق. كما تمت مزاوجة المسألة اليهودية (الشعب المنبوذ) بالمسألة الشرقية (الدولة العثمانية وتقسيمها) بحيث يمكن حل المسألة الأولى، أي التخلص من اليهود، عن طريق استخدامهم كمادة بشرية في المسألة الثانية. وكان نابليون من أوائل السياسيين الذين توصلوا إلى هذه الصيغة. فهو أول سياسي يدعو اليهود، من حيث هم يهود، إلى الاستيطان في فلسطين، محاولاً الاستفادة منهم كمادة استيطانية في مشروعه الاستعماري. أما على مستوى فرنسا ذاتها، فقد كان الأمر جدُّ مختلف. فقد أصدر نابليون من التشريعات ما قضى عليهم كشعب عضوي، ووضع الخطط التي أدَّت في نهاية الأمر إلى دمجهم في الأمة الفرنسية.

ونموذج الشعب العضوي المنبوذ هو ذاته النموذج الرئيسي وراء فكر بول باستيل زعيم حركة الديسمبريين في روسيا، فقد كان يرى أن اليهود « يحافظون دوماً على روابط وثيقة بدرجة لا تُصدَّق، بسبب الدين والسيطرة الحاخامية على أوجه الحياة جميعاً »، أي أنهم شعب عضوي. والحل هو « إما تخليص اليهود من خصوصيتهم، واستيعابهم استيعاباً تاماً، أو مساعدتهم على تأسيس دولتهم الخاصة المستقلة في منطقة ما من آسيا الصغرى. ولهذا يجب تعيين نقطة تَجمُّع الشعب اليهودي بمساعدة بعض الجنود. وإذا تَجمَّع في مكان واحد جميع اليهود الروس والبولنديين، فإن عددهم سيبلغ أكثر من مليونين، وبعد أن يجتازوا أوربا التركية فإنهم يستطيعون أن يعبروا إلى تركيا الآسيوية حيث يمكنهم بعد الاستيلاء على أرض كافية لتأسيس دولة يهودية مستقلة». وبهذا، فإن باستيل ينظر إلى اليهود باعتبارهم مادة استيطانية يمكنه استخدامها كوسيلة في الصراع الناشب بين روسيا القيصرية والدولة العثمانية.

وقد أصبح النموذج أيضاً بُعداً أساسياً في الفكر الاستعماري الإنجليزي، فنجد أن لورد شافتسبري يتحدث عن اليهود باعتبارهم عنصراً مستقلاً له سماته القومية المستقلة، ولكنه عنصر طفيلي فاسد. وانطلاقاً من هذا، فقد عارض مَنْحَهم الحقوق الدينية، ولكنه بذل جهوداً كبيرة في سبيل اتخاذ الخطوات اللازمة لتوطينهم في فلسطين. وقد تبنَّت وزارة المستعمرات رأيه منذ عام 1840.

ويستمر هذا الخط ليصل إلى بلفور الذي كان يؤمن إيماناً جازماً بأن اليهود كيان تختلط فيه القومية بالدين. وأنهم كيان غريب على الحضارة الغربية التي لم تسـتطع اسـتيعابهم. وكان بلفور يرى أن اليهـود، بطفيليتهم وعدم انتمائهم، يشـكلون عبئاً على الحضـارة الغربية، فاستصدر عام 1905 من القوانين ما يُوقف مد الهجرة اليهودية إلى إنجلترا. ولكن وزارته وافقت في العام نفسه على مشروع شرق أفريقيا. ثم ساهم بلفور، بعد ذلك، في استصدار الوعد الذي سُمي باسمه. والواقع أن كلا المشروعينيهدف إلى تخليص أوربا من اليهود، وذلك عن طريق الاستفادة منهم في مكان آخر.

وفي الفكر الاشتراكي الغربي، ظهر نموذج الشعب العضوي المنبوذ في فكر فورييه وتلاميذه، خصوصاً توسينيل وأدولف إلايزا الذي شبَّه اليهود بالبكتريا القذرة التيتحمل العفن إلى أي مكان تحل فيه. ويُلاحَظ أن الصورة المجازية هنا عضوية، تماماً مثل الشعب العضوي، وهي صورة مجازية استخدمها الزعيم الصهيوني نوردو والزعيم النازي هتلر. وقد تَبنَّى هؤلاء حلاًّ صهيونياً للمسألة اليهودية وطلبوا من اليهود أن يرحلوا إلى "بلادهم"!

وحينما ظهرت الصهيونية بين اليهود، كان هناك تَلازُم أيضاً بين نموذج الشعب العضوي المنبوذ وبين الاستيطان الصهيوني. وقد تَقبَّل كثير من الصهاينة هذا النموذج التفسيري وأسسوا عليها نظريتهم الصهيونية، فرددوا أن اليهود طفيليون، كريهون لا أخلاقيون، ويجب تطبيعهم عن طريق تطويعهم من أجل خدمة المشروع الاستعماري الغربي وتوطينهم في فلسطين. وفي أوائل القرن الحالي، كانت الزعامة الصهيونية في ألمانيا تؤكد تَدنِّي اليهود ووضاعتهم وعدم انتمائهم لإسباغ الشرعية والمعقولية على المشروع الصهيوني. ولهذا فقد قَبلت المقولات الأساسية لمعاداة اليهود واستوعبتها في بناء النسق الفكري الصهيوني ذاته. وقد ظهر الفكر النازي في هذه التربة، وهو فكر ينطلق من فكرة أن الشعب العضوي الألماني والشعب العضوي اليهودي المنبوذ يجب ألا يختلطا حتى يحتفظ كلٌّ بهويته العضوية. وقد بيَّن ألفريد روزنبرج، أهم مُنظِّري العقيدة النازية، إبان محاكمته في نورمبرج، أنه تَبنَّى رؤية بوبر حيث أعلن أن اليهود يجب يعودوا إلى أرض آسيا حتى يمكنهم (هناك فقط) العثور على جذور الدم اليهودي.

وقد وردت في قوانين نورمبرج الفقرة التالية عن الصهيونية ومبرراتها: "لو كان لليهود [أي الشعب العضوي المنبوذ] دولة خاصة بهـم تضمهـم جميعـاً في وطــن واحـد، لأمكن اعتبار المشكـلة اليهوديــة محلولة حتى بالنسبة إلى اليهود أنفسهم". ومن ثم، فــإن النازيين لم يكونوا ضد المشاريع الاستيطانية الصهيونية التـي تهـدف إلى التخلـص من اليهــود. ولكن، لسوء حظ ألمانيا واليهـود، لم يكن لدى ألمانيا مستعمرات في آسيا وأفريقيا (بعد إجهاض مشروعها الاستعماري على أيدي الدول الاستعمارية الأخرى). وربما، لو وُجدت مثل هذه المستعمرات الألمانية، لقام هتلر بكفاءته المعهودة بنقل فائض أوربا المنبوذ وانتفع منه ومن إمكانياته، بدلاً من إبادته وحرقه. ولكن مجال ألمانيا الحيوي في أوربا كان آهلاً بالسكان، ولذا، لم يكن بوسع هتلر سوى إبادة اليهود بدلاً من نقلهم (حسب منطق أوربا العملي المادي).

وقد لاحَظ كثير من المثقفين الألمان اللوثريين أعداء النازية ذلك التَطابُق بين الفكرة الغربية الخاصة بالشعب العضوي ونموذج الشعب العضوي كما عبَّر عنها الصهاينة، وقال ريتشارد كودينهوف كاليرجي، وهو من أكبر مناهضي العنصرية، إن القوميتين اليهودية والنازية حركتان حولتا الدنيا والمادة إلى مقولات ميتافيزيقية، أي إلى دين، وكلتاهما تُضفي صفة نسبية على كل القيم باستثناء القيم العرْقية وعلاقات الدم والتربة، بحيث تختفي جميع المعايير إلا معيارالعرْق. ثم أشار كاليرجي إلى أن كلتا الحركتين قبلتا القول بأن ألمانيا لا يمكنها استيعاب اليهود.

وقد اختفى نموذج الشعب العضوي المنبوذ إلى حدٍّ كبير من كتابات الصهاينة والمفكرين الغربيين بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنه لا يزال النموذج الفعال الكامن في كل الكتابات والمشاريع الصهيونية. وقد ظهرت في الآونة الأخيرة فكرة الشعب المقدَّس بين أعضاء جماعة جوش إيمونيم. وعندهم، كذلك، أن هذا الشعب يعيش وحده ولا يُحسَب بين الأمم، فهو شعب مقدَّس عضوي منبوذ. وتَنبُع أهمية فكرة الشعب العضوي المنبوذ من أنها تُبيِّن العلاقة العضوية الكامنة بين الصهاينة وأعداء اليهود.

الباب الخامس: منفى وعودة أم هـجرات وانتشار؟

إحسـاس اليهودي الدائم بالنفي الأزلي ورغبته الثابتة في العـودة

The Jewish Sense of Eternal Exile and Permanent Desire for Return

»إحساس اليهودي الدائم بالنفي ورغبته في العودة» هي عبارة تُبلوِّر النموذج الكامن وراء كثير من الدراسات التي تتناول الجماعات اليهودية في العالم، إذ يتم رصد أعضاء الجماعات اليهودية وتحركاتهم وكأن عندهم إحساساً بالنفي الأزلي ورغبة دائمة في العودة، وكأن هذا الإحساس وهذه الرغبة هما جزء من جوهر يهودي ثابت ومن المكونات الأساسية لطبيعة اليهود البشرية.

واليهودي حسب هذا النموذج التفسيري هو غريب ينتقل من مكان لآخر (ومن هنا صورة اليهودي المتجول)، الذي يحس بأنه في المَنْفَى، ومن ثم فعنده رغبة عـارمة دائمة في إنهـاء حالة النفي هـذه والعــودة إلى « وطنه الأصلي » فلسطين. ولذا أصبحت عبارات مثل «المَنْفَى» و«الشتات» و«الدياسبورا» و«العودة» كلمات متواترة مألوفة في الأدبيات الخاصة باليهود واليهودية (الصهيونية والمعادية لليهود وغيرها)، وتم تطبيعها تماماً، وكأنها مجرد وصف موضوعي ومحايد لأعضاء الجماعات اليهودية ولسلوكهم.

وفي مداخل هذا الجزء والذي يليه سنقوم بتفكيك هذه المفاهيم وإعادة تركيبها في ضوء دراستنا للتواريخ المتعينة لأعضاء الجماعات اليهودية حتى نبيِّن ضعف المقدرة التفسيرية لمثل هذه المفاهيم. وسنقترح اصطلاح «الانتشار» بديلاً عن «النفي والعودة» باعتباره أكثر تفسيرية.

المنـفى وااـعــودة

Exile and Return

تشير كلمة «جالوت»، أو «جولا» إلى المَنْفَى، والمَنْفَى القهري بالذات خارج إرتس يسرائيل أي فلسطين (مقابل المَنْفَى الطوعي أي «تيفوتسـوت»)، ولذا فهي تُترجَم عادةً إلى العربية بكلمة «المَنْفَى». كما تُستخدَم كلمة «دياسبورا» أي «الشتات» للإشارة إلى الجماعـات اليهودية التي تعيش مشتتة بين الشعوب الأخرى. وأحياناً تُستخدَم كلمة «دياسبورا» بشكل محايد بحيث تعني «الانتشار» بوصفه ظاهرة إنسانية عادية طبيعية. ويستخدم اليهود الإصلاحيون والاندماجيون المصطلح بهذا المعنى. وفي اللغة العربية، تُستخدَم كلمتا «الشتات» و«المَهْجَر» للإشارة إلى المكان الذي هاجر إليه اليهود أو هُجِّروا إليه. وتعني الكلمات السابقة («المَنْفَى» و«الدياسبورا» و«الشتات» و«المَهْجَر») وجود أعضاء الجماعات اليهودية المؤقت خارج إرتس يسرائيل (أي فلسطين) حتى تتحقق لهم الحالة الأصلية العادية والطبيعية بعودتهم إليها.

أما العودة فيُشار إليها في المصطلح الديني بكلمة «تشوفاه» (بمعنى التوبة أيضاً، على عكس «حزره» وهي عودة بالمعنى الدنيوي)، كما تُوجَد عبارة «كيبوتس جاليوت» أي «تجميع المنفيين» (بالإنجليزية:إنجاذرينج أوف ذي إكزايلز (ingathering of the exiles

وتشكل عقيدة المَنْفَى والعودة إحدى النقاط المحورية في الرؤية اليهودية إلى التاريخ والكون، وهي ترتبط، مثل كل العقائد الدينية اليهودية، بعقائد أخرى مثل عقيدة الماشيَّح والشعب المختار. وحسب هذه العقيدة، فإن إله اليهود حَكَم على شعبه المختار بالنفي والتشتت في بقاع الأرض لسبب يختلف الحاخامات اليهود في تحديده. وستستمر حالة المَنْفَى هذه إلى أن يعود الماشيَّح المخلِّص. وكالمعتاد، أحاط بهذه العقيدة ضرب من القداسة والخصوصية، فنجد أن الشعور بالنفي ليس نتيجة حتمية للنفي ذاته وإنما هو إحساس مقصور على اليهود حينما يبتعدون عن أرض الميعاد، وذلك بسبب ارتباطهم الحلولي أو العضوي بها، أي أنهم يجعلون المَنْفَى سمة أساسية وخاصية مقصورة على ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي»، ويصبح الإحساس بالغربة أمراً ينفرد به اليهود وحدهم. أما الفلسطينيون، فليس من حقهم ممارسة هذه الأحساسيس السامية إن نُفوا من أرض فلسطين أو ابتعدوا عنها، وذلك لانتفاء الصلة الحلولية أو العضوية بالأرض المقدَّسة. ونجد أيضاً أن «الشخيناه» (التجسيد الأنثوي للإله) قد نُفيَت مع الشعب خارج الأرض المقدَّسة، ولم يبق منها إلا جزء في حائط المبكى يذرف الدموع كل عام في ذكرى خراب أو هدم الهيكل.

وقد قامت القبَّالاه اللوريانية، بمنحاها الحلولي المتطرف، بتحويل النفي إلى صورة مجازية كونية شاملة. فبعد تَهشُّم الأوعية (شيفرات هكليم) أصبحت كل المخلوقات في حالة تَبعثر وشتات دائم وسقطت من حالة التماسك العضوي الناجم عن الحلول الإلهي في الإنسان والطبيعة. ومن ثم، فإن النفي حالة تنسحب على الكون بأسره، وضمن ذلك الإله ذاته الذي تَبعثَّر وتَشتَّت بعد هذه الواقعة الكونية. ويمكن أن تتم عملية الخلاص ـ خلاص الإله والكون والإنسان ـ بالتدريج. وهي عملية يشارك فيها الإنسان، ولكنها تعتمد بالدرجة الأولى على اليهود. فهم باتباعهم الوصايا الإلهية، وتنفيذهم الأوامر والنواهي، يمكنهم أن يساعدوا الرب والكون وسـائر المخـلوقات على العـودة إلى حالة التكامل والتماسك الأصلية. وتحوُّل النفي إلى حادثة كونية (في القبَّالاه اللوريانية) هو صدى لحادثة الصلب في المسيحية.

وقد حار المفسرون اليهود في تفسير عقيدة وظاهرة النفي هذه والتي لا تتفق مع كونهم الشعب المختار. ولذلك فُسِّر النفي بأنه إحدى علامات التميُّز والاختيار. فاليهود الذين تقطن الشخيناه في وسطهم، والذين يقطنون بدورهم وسط الأغيار، لا يحملون أوزارهم وحدهم وإنما يحملون أيضاً أوزار الأمم كافة. ولذلك، فإنهم بمثابة المشحاء (جمع «ماشيَّح») المصلوبين من أجل البشر، وهم بمثابة الروح التي تُوجَد في المادة. وبالتالي، فإن نفيهم تمهيد لخلاص البشر. وهكذا يصبح النفي عقوبةً على الذنوب وعلامةً من علامات التميز في آن واحد. وحينما يَحلُّ اليوم الموعود، سيأتي الماشيَّح ويقود شعبه ويعود به إلى الأرض المقدَّسة. ولكن بعض الحاخامات ذهبوا إلى أن المَنْفَى والشتات عقاب حَلَّ على اليهود بسبب تَركْهم طُرُق الرب و بسبب تأغرقهم. ويذهب المسيحيون إلى أن الشتات عقاب لليهود على إنكارهم المسيح عيسى بن مريم.

وقد تركت عقيدة النفي أثرها العميق على الوجدان اليهودي، فقد أضعفت إحساس اليهود بالزمان والمكان، وأضفت طابعاً مؤقتاً على كل شيء. وربما ساعد اضطلاع اليهود بدور الجماعة الوظيفية واشتغالهم المستمر بالتجارة والأعمال المالية والربا، وانتقالهم من مكان إلى مكان دون الانتماء الكامل لأي مكان (فالجماعة الوظيفية تُوجَد في المجتمع لكنها لا تصبح منه) ربما ساعد كل هذا على استمرار عقيدة المَنْفَى والعودة، وعلى اكتسابها هذه المركزية.

ولكن الموقف الديني التقليدي من المَنْفَى والعودة ليس واضحاً ولا قاطعاً. فعلى سبيل المثال، أكد الحاخامات أن محاولة العودة الفردية والفعلية، دون انتظار مقدم الماشيَّح، هو من قبيل التجديف والهرطقة، ومن قبيل «دحيكات هاكتس» أي «التعجيل بالنهاية»، أو من قبيل تَحدِّي الإرادة الإلهية. وقد عارض بعض اليهود الأرثوذكس الحركة الصهيونية بالفعل لأنها عودة مشيحانية دون ماشيَّح. بل إن هناك أوامر قاطعة في التلمود بألا يترك اليهودي بلده أو منفاه ليعود إلى بابل، لأن من يعيش في بابل كأنه يعيش في أرض يسرائيل. وجاء في موضع آخر: « صلوا لسلامة الدولة، فلولا خوف الناس منها لابتلع بعضهم بعضاً ». وقد أكد أحد الحاخامات أن مبدأ أو عقيدة العودة إلى فلسطين لا تُوجَد أية إشارة إلىها في كافة المحاولات التي تمت في العصور الوسطى لصياغة عقيدة يهودية. وقد نادى دعاة حركة التنوير اليهودية بأن المَنْفَى واقع مؤلم ومؤقت يجب أن يزول عن طريق الاندماج. أما العودة إلى صهيون، فهي مجرد فكرة روحية وليست رغبة حرفية. وقد حذفت اليهودية الإصلاحية الصلوات التي تُذكِّر اليهود بصهيون.

ولكن تُوجَد في اليهودية الحاخامية، وفي التلمود، نصوص ومواقف يُفهم منها أن هناك ضرباً من التَقبُّل أو التأييد لفكرة إنهاء المَنْفَى والعودة. وقد ذكر بعض الحاخامات أن كل يهودي يتعيَّن علىه أن يوّد (في قلبه) العودة إلى الأرض، فإن لم يتمكن من العودة فعلىه أن يساعد على الأقل في إرسال يهودي آخر، أي أن كلاًّ من الصهيونية الاستيطانية والصهيونية التوطينية كامنتان في النسق الديني اليهودي ذي الطبيعة الجيولوجية التراكمية.

وعلى وجه العموم، يمكن القول بأن أعضاء الجماعات اليهودية قد قبلوا وجودهم في الأوطان التي كانوا يعيشون فيها، وأن الحديث عن المَنْفَى أصبح جزءاً من الخطاب الديني، وأصبحت العودة تَطلُّعاً دينياً وتعبيراً عن حب صهيون، أي تعبيراً عن التَعلُّق الديني بالأرض المقدَّسة وهو تَعلُّق ذو طبيعة مجازية، لا يترجم نفسه إلى عودة حرفية إلى فلسطين، حتى وإن خلق استعداداً كامناً لذلك. ولكن، مع بدايات العصر الحديث والحركة الإمبريالية، وظهور الفكر الوضعي والتجريبي والنماذج المادية العلمانية المعرفية وتفسيرات العهد القديم الحلولية والحرفية، بدأ يظهر في صفوف المسيحيين البروتستانت فكر استرجاعي قوي تَرَك أثراً عميقاً في الجماعات اليهودية في أوربا، وبدأت تظهر حركات مشيحانية تهدف إلى تحويل فكرة العودة من تَطلُّع ديني مجازي إلى عودة فعلية، أي إلى استيطان. وقد تدعمت الفكرة مع ظهور الفكر القومي الغربي والتعريفات العرْقية للإنسان. ومع تَصاعُد الحركة الإمبريالية، بدأت الأفكار الصهيونية تتغلغل بين اليهود، خصوصاً وأن هذا قد تَزامَن مع ضعف اليهودية الحاخامية الأرثوذكسية التي تَقبَّلت المَنْفَى كحالة نهائية. وأخيراً، ظهرت الصهيونية بين اليهود في أواخر القرن التاسع عشر وأخذت من التراث الديني اليهودي ما يتفق مع أهوائها السياسية، واستولت على الخطاب الديني، وحوَّلت كل المفاهيم الدينية المجازية إلى مفاهيم قومية حرفية.

وطرحت الصهيونية رؤية للتاريخ تَصدُر عن تَصوُّر أن اليهود في حالة نفي قسرية فعلية منذ هَدْم الهيكل، وأنهم لو تُركوا وشأنهم لعادوا إلى فلسطين بدون تَردُّد. بل إن التواريخ الصهيونية ترى أن ثمة نمطاً متكرراً فيما يُسمَّى «التاريخ اليهودي»: نفي من فلسطين ثم عودة إليها، ونفي إلى مصر ثم عودة إلى فلسطين، ونفي إلى بابل ثم عودة إلى فلسطين، وأخيراً نفي إلى أرجاء العالم بأسره ثم عودة نهائية إلى إسرائيل، أي فلسطين.

إن إحدى مقولات الصهيونية الأساسية هي أن وجود اليهود على هيئة جماعات في أنحاء العالم هو حالة مؤقتة، وأن هذا الوجود إن هو إلا جسر يَعبُر عليه الشعب اليهودي إلى فلسطين. ومن دعاة هذا الرأي بن جوريون وممثلو الصهيونية الاستيطانية. ولكن ليس كل الصهاينة على هذا الرأي. فالصهيونية الإثنية، على سبيل المثال، ترى أن وجود الجماعات اليهودية خارج فلسطين ليس أمراً مؤقتاً وإنما حقيقة ثابتة، وأن هذه الجماعات لا تحتاج إلى إسرائيل موطناً، وإنما تحتاج إليها كمركز روحي لا كبلد يهاجر إليه جميع اليهود، فالنفي هنا حالة ثقافية ومن ثم يتم علاجه بطرق ثقافية أيضاً!

وبعد إنشاء إسرائيل، لم يهرْع اليهود إلى أرض الميعاد، ولم يتم تجميع المَنْفَيين كما كان يتوقع الصهاينة، وهو ما اضطر بن جوريون إلى ابتداع مصطلح «منفيُّو الروح» ليصف اليهود الذين يحيون حياة جسدية مريحة في المَنْفَى، ولكنهم بلا شك معذبو الروح. وهو بهذا يتبنَّى الصيغة الصهيونية الثقافية. ولكن المُلاحَظ أن منفيِّي الروح هم الأغلبية العظمى بين يهود العالم، أي أن اليهودية حتى بعـد إنشـاء الدولة الصهـيونية لا تزال يهـودية الدياسبورا. ولذلك فالجالوت، أو «المَنْفَى القسري» أصبح يُسمَّى «تيفوتسوت»، أو «المَنْفَى الاختياري »، وهذا تَناقُض عميق في المصطلح. ويبدو أن الولايات المتحدة تشكل تحدياً عميقاً لفكرة المَنْفَى، إذ أنها تشكل نقطة جذب هائلة للغالبية الساحقة من يهود العالم. وقد اتجهت لها الكتلة البشرية اليهودية من شرق أوربا (يهود اليديشية) وغيرها من أنحاء العالم. ولم تتجه سوى أقلية صغيرة إلى فلسطين، لأن أبواب الولايات المتحدة كانت مُوصَدة دونها. وقد بدأ يهود الولايات المتحدة ينظرون إلى إسرائيل لا باعتبارها وطناً قومياً، وإنما باعتبارها «الوطن الأصلي» أو «مسقط الرأس»، تماماً كما ينظر الأمريكيون من أصل أيرلندي إلى أيرلندا. ولكن هذه النظرة تفترض أن الولايات المتحدة ليست بمَنْفَى وإنما البلد التي يهاجر إليها أعضاء الجماعات اليهودية بمحض إرادتهم، بحثاً عن فرص جديدة. وإن كانت الولايات المتحدة ليست هي أرض الميعاد التي تُحقِّق أحلامهم الدينية ـ وهي أحلام أصابها الضمور على أية حال ـ فهي على الأقل «جولدن مدينا » أي البلد الذهبي التي حققت لهم معظم أحلامهم الدنيوية. وهذه الرؤية تعني أن يهود الولايات المتحدة لا يعتبرون بلدهم الجديد مَنْفَى. وبالفعل، نجد أن كتاب هوارد ساخار الأخير الذي صدر بعنوان الدياسبورا لا يضم فصولاً عن الولايات المتحدة، وذلك باعتبار أنها وطن قومي جديد. كما تعني هذه الرؤية أن يهود الولايات المتحدة لا يفكرون أيضاً في العودة لأن العودة لا تكون إلا إلى الوطن الأصلي. بل إن من الطريف أن الحاخام مناحم شنيرسون وحاخامات جماعة الناطوري كارتا (المعادية للصهيونية) يعتبرون دولة إسرائيل جزءاً من المَنْفَى.

أما في إسرائيل، فقد ظهر جيل جديد من الصابرا لا يفهم سيكولوجيا يهود المَنْفَى، وإن فهمها فهو لا يُكِّن لها احتراماً كبيراً. وهذا الانقسام بين يهود العالم ويهود إسرائيلمن الصابرا وغيرهم يمثل مشكلة ضخمة تواجه الفكر الصهيوني. بل يبدو أن الولايات المتحدة بجاذبيتها تُهدِّد المستوطن الصهيوني ذاته، إذ أن أعداداً كبيرة منالمستوطنين، وضمن ذلك الصابرا يهاجرون إلى الولايات المتحدة فيتركون الوطن إلى المَنْفَى! ويُطلَق على المهاجرين الإسرائيليين إلى الولايات المتحدة الدياسبوراالإسرائيلية.

وينطلق الصهاينة من افتراض وحدة الشعب اليهودي وضرورة تجميع المنفيين وصَهْرهم ومَزْجهم في شخصية نمطية واحدة (برغم تَعدُّد خلفياتهم الثقافية والحضـارية) حتى يُشْـفَوا من كل أمراض المنفـى. ولكن، كلما تم مَزْج أو صَهْر مجموعة من المهاجرين، تأتي مجموعة جديدة من المَنْفَى فيستعيد من انصهر كثيراً من السمات الحضارية التي كان قد فقدها إما من خلال الالتحام بالمهاجرين الجدد، إن كانوا من بني جلدتهم، أو من خلال مجابهتهم إن كانوا من تَجمُّع قومي آخر، أي أن تجميع المنفيين يتعارض بشكل حادّ مع مَزْجهم وصَهْرهم. وتظهر هذه المشكلة في موقف جماعات السفارد واليهود الشرقيين من المهاجرين الأشكناز واليهود الغربيين وخصوصاًالسوفييت.

ونحن لا نستخدم كلمات ذات طابع عاطفي عقائدي مُتحيِّز، مثل «المَنْفَى » أو «الشتات»، إلا إذا تَطلَّب السياق ذلك، ونستخدم بدلاً من ذلك مصطلحـات محايـدة فنقـول: الجماعـات اليهودية في العالم وانتشارها فيه.

العـودة

Return

تشير كلمة «العودة» في الأدبيات اليهودية والصهيونية إلى عودة اليهود إلى فلسطين، أي «إرتس يسرائيل» أو «صهيون» أو «أرض الميعاد» بعد نفيهم منها.

وقد تكون العودة تحت قيادة الماشيَّح، وقد يقوم بها اليهودي بإرادته، دون انتظار مشيئة الإله. انظر: «المَنْفَى والعودة».

الشـــــــــــــــتات

Dispersion; Diaspora; Exile

«الشتات» مصطلح يُستخدَم أحياناً للإشارة إلى «المَنْفَى» أو «الدياسبورا».

الدياسبورا

Diaspora

«دياسبورا» كلمة يونانية تعني «الشتات» أو «الانتشار». وقد كانت الدياسبورا نمطاً شائعاً في العالم الهيليني الروماني، فلم يكن مقصوراً على اليهود بل كانت هناك جماعات من التجار اليونانيين الذين يؤسسون جماعاتهم ومجتمعاتهم الصغيرة في المدن التي يستقرون فيها، فكانوا يبنون فيها معابدهم ويعبدون آلهتهم، ويمارسون جميع مؤسسات حياتهم الهيلينية الأخرى مثل الجيمنازيوم. كما أن المدن اليونانية المختلفة خارج بلاد اليونان، بسكانها من المستوطنين اليونانيين، كانت تشكل دياسبورا. وبرغم أن الكلمة محايدة إلى حدٍّ كبير، لأن الانتشار تم بإرادة المنتشرين، إلا أنها في نهاية الأمر تعني تَشتُّتاً من مركز ما، والمركز في العقل الإنساني أفضل من الأطراف. أما في الكتابات اليهودية والصهيونية، فهي تحمل معنى سلبياً أكيداً، باعتبار أن اليهودي الموجود خارج فلسطين أو «إرتس يسرائيل» أو «صهيون» (في المصطلح الديني) أو «الوطن القومي» (في المصطلح السياسي) موجود خارج وطنه رغم أنفه، وبالتالي فهو في المَنْفَى. وتُميِّز هذه الكتابات بين المَنْفَى الاختياري والمَنْفَى القسري. ويتجلى ذلك في العبرية على وجه الخصوص إذ توجد كلمة «جولا» بمعنى المَنْفَى القسري، كما حدث ليهود المملكة الجنوبية حينما هُجِّروا إلى بابل. وتوجد كلمة «تيفوتسوت» بمعنى «المَنْفَى الاختياري أو الطوعي»، وهي تشير إلى اليهودي الذي يترك فلسطين بمحض إرادته ليستوطن بلداً آخر، وإلى الجماعات اليهودية التي ترفض العودة إلى فلسطين رغم وجود سلطة سياسية يهودية مستقلة أو سلطة شبه مستقلة، كما حدث ليهود بابل أيضاً بعد عودة نحميا وعزرا، وكما هو حادث ليهود العالم الغربي بل ويهود العالم بأسره الآن.

وقد ظهر استخدام جديد لكلمة «دياسبورا». فكثير من يهود الولايات المتحدة يرفضون استخدام الكلمة بمعنى «المَنْفَى المؤقت»، فالولايات المتحدة أو كندا هي وطنهم النهائي وليس المؤقت. ولذا، ففي كتاب هوارد ساخار الأخير الدياسبورا (عام 1985) لا توجد أية إشارة إلى الجماعات اليهودية في إسرائيل أو أمريكا الشمالية (الولايات المتحدة أو كندا) باعتبار أنهما لا يشكلان «مَنْفَى»، وبالتالي لا يمكن الحديث عنهما باعتبارهما دياسبورا. فكأن كلمة «دياسبورا» تستبعد كلاًّ من فلسطين والولايات المتحدة وكندا!

ونحن نُفضِّل في هذه الموسوعة أن نشير إلى «الجماعات اليهـودية في العـالم وانتشارهــا فيه» باعتبار أن استخدام كلمة «مَنْفَى»، أو حتى كلمة «دياسبورا»، يفترض علاقة قومية ما بين أعضاء هذه الجماعات وفلسطين، وهو ما تدحضه قراءة سلوكهم وأحداث التاريخ قراءة متأنية.

والواقع أن أعضاء الجماعات اليهودية في العالم قد يرتبطون عاطفياً أو دينياً بإسرائيل (فلسطين)، ولكن حياتهم ككل تكون في العادة أكثر تركيباً، ومحاولة تفسير جميع تجاربهم التاريخية (المتنوعة وغير المتجانسة) في ضوء عنصر واحد، هو أمر تعسفي يَسقُط في الأحادية ويتجاهل منحنى الظواهر الخاص ويختزلها كلها داخل نمط واحد.

وقد نحت آرثر كوستلر مصطلح «الدياسبورا الخزرية»، كما ظهر مؤخراً مصطلح «الدياسبورا الإسرائيلية». وقد استُخدم من قبل مصطلح «الدياسبورا السامرية».

انظر: «المَنْفَى والعودة» - «العودة» - «الشتات».

المنفى القسري (الجالوت أو الجولا)

Galut

«المَنْفَى القسري» ترجمة للكلمة العبرية «الجالوت» أو «الجولا»، وهي ممقابل كلمة «تيفوتسوت» أو «المَنْفَى الطوعي». وكلمة «جالوت» ترجمة عبرية غير دقيقة لكلمة «دياسبورا» ذات المعنى المحايد إلى حدٍّ ما، فهي تعني كلاًّ من التشتت والانتشار. والانتشار يمكن أن يكون تلقائياً ويمكن كذلك أن يكون إرادياً، أما «الجالوت» فليس كذلك بل حالة يخضع لها الإنسان وتُفرَض عليه فرضاً.

المنفى الطوعي (تيفوتسوت)

Tefuzot

«المَنْفَى الطوعي» ترجمة للكلمة العبرية «تيفوتسوت» المُشتَقة من فعل «هفّيتس»، بمعنى «نثر» أو «بَعثَر» أو «فرَّق»، وهي مقابل كلمة «جالوت»، أي «المَنْفَى القسري»، وهما المقابل العبري غير الدقيق لكلمة «دياسبورا» اليونانية. فكلمة «دياسبورا» محايدة نوعاً، وتصف واقعاً قائماً، أي انتشار بعض الجماعات اليونانية خارج اليونان في مدن حوض البحر الأبيض المتوسط، وهو انتشار لم يتم قسراً. أما «تيفوتسوت» و«الجالوت» فهما يُدخلان في الاعتبار عنصر الإرادة والحالة العقلية. وعلى أية حال، فإن كلمة «تيفوتسوت» أقرب في المعنى إلى كلمة «دياسبورا».

شريعة الدولة هي الشريعة

Dina de Malkuta dina

«شريعة الدولة هي الشريعة» هي الترجمة العربية للعبارة الأرامية الآتية: «دينا دي ملكوتا دينا». وهي من أهم المبادئ في تاريخ الشريعة اليهودية. وقد ظهر المفهوم، أول ما ظهر، خارج فلسطين في صفوف الجماعة اليهودية في بابل أثناء حكم الأسرة الساسانية الفارسية، إذ أن وضع الجماعة اليهودية تَطلَّب توضيح قضية نطاق الشريعة اليهودية مقابل نطاق قانون أو شريعة الدولة، والعبارة في نهاية الأمر هي محاولة لحل قضية الولاء وازدواجه. وقد قَلَّصت عبارة «شريعة الدولة هي الشريعة» نطاق تطبيق شريعة التوراة، إذ أنها تتضمن اعترافاً بالقانون المدني غير اليهودي، كما تعترف بأنه يَحلُّ محل الشريعة الدينية في الأمور الدنيوية، وهو ما يعني وجوب اتباع شريعة الدولة حتى لو تناقضت مع الشريعة اليهودية. ولم يكن هذا المبدأ ينطبق بطبيعة الحال على الطقوس والشعائر الدينية. وينم تَبنِّي هذا المبدأ عن مقدرة أعضاءالجماعات اليهودية على التكيف مع محيطهم الحضاري والاندماج فيه، وهو الأمر الذي هيأ البقاء لليهود والاستمرار لليهودية. وقد استُخدمت هذه المقولة أحياناً لتقويض دعائم الشريعة اليهودية، كما حدث مع دعاة التنوير الذين آمنوا بالنظرية السياسية الغربية التي حوَّلت الدولة إلى مُطلَق، فاستخدموا هذه المقولة لهدم سلطة الدين. ومعنى هذا أنهم ولَّدوا الفكر العلماني الإلحادي من داخل النسق الديني ذاته.

تجميــــــع المنفـــــيين

Ingathering of the Exiles

«تجميع المنفيين» ترجمة للعبارة العبرية «كيبوتس جاليوت». وهو مصطلح ديني تبنته الصهيونية يشير إلى فكرة عودة كل أعضاء الجماعات اليهودية المنفيين أو المنتشرين في أنحاء العالم إلى فلسطين وتجميعهم هناك. لكن تجميع المنفيين (حسب التصور اليهودي الأرثوذكسي التقليدي) هو مَثَل أعلى ديني لا يتحقق إلا بعد عودة الماشيَّح كما لا يتحقق إلا بإرادة الإله، وعلى المؤمن أن ينتظر بصبر وأناة إلى أن يأذن الإله بذلك. ولكن الصهيونية، كعادتها، فهمت الفكرة فهماً حرفياً وجعلتها أساس عقيدتها السياسية، وجعلت من واجب اليهودي ألا ينتظر الإرادة الإلهية بل يعمل من أجل هذا الهدف بنفسه، وهو ما يُسمَّى «التعجيل بالنهاية». وأصبحت العبارة تعني استيطان اليهود في فلسطين (إسرائيل). ورغم كل المحاولات الصهيوينة الدائبة، لم يتحقق هذا الهدف حتى الآن، إذ تظل غالبية من يُقال لهم المنفيين من أعضاء الشعب اليهودي لا تَشعُر بحالة النفي الافتراضية. ومن ثم، فإنهم يؤثرون البقاء في أوطانهم على العودة إلى أرض الميعاد.

التعجيـل بالنهايـة (دحيكات هاكتـس)

(Forcing the End )Dahikat ha-Ketz

«التعجيل بالنهاية» ترجمة للعبارة العبرية «دحيكات هاكتس»، ومعناها «الضغط على الإله لإجبار الماشيَّح على المجيء»، ويُشار إلى المُعجِّلين بالنهاية على أنهم «دوحاكي هاكتس». فاليهودية الحاخامية، في أحد جوانبها، تؤمن بأن العودة إلى أرض الميعاد ستتم في الوقت الذي يحدده الإله وبالطريقة التي يقررها، وأن العودة ليست فعلاً يحدث بمشيئة البشر. وقد جاء في التلمود (سفر الكتبوت): "لا تعودوا ولا تحاولوا أن تُرغموا الإله".

وقد اتهم الحاخامات الصهيونية بأنها تسعى إلى التعجيل بالنهاية وتَحدِّي مشيئة الإله. والصهيونية ذاتها واعية بأن موقفها من العودة مختلف عن الموقف الديني التقليدي الذي انتقده بن جوريون ووصفه بالسلبية والاتكالية.

بدايــة الخـــــلاص

Beginning of Redemption

«بداية الخلاص» ترجمة للعبارة العبرية «هتحالات جئولاه». وهي محاولة تستهدف تَجاوُز المفهوم التلمودي الذي يُحرِّم على اليهود العودة إلى أرض الميعاد، ويفرضعليهم انتظار وصول الماشيَّح بمشيئة الإله. وقد وُصف من يحاول أن يأخذ الأمور في يديه بأنه يستعجل النهاية (دوحاكي هاكتس). وقد كانت متتالية الخلاص كما يلي: نفي ـ انتظار ـ عودة الماشيَّح ـ عودة اليهود معه أو تحت قيادته.

ولكن، بعد صهينة اليهودية، بدأت قطاعات داخل اليهودية الأرثوذكسية ذاتها تحاول أن تصل إلى تَفاهُم مع الصهيونية، فَعدَّلت المتتالية إلى ما يلي: نفي ـ عودة بعض اليهود للإعداد للخلاص ـ عودة الماشيَّح ـ عودة اليهود. وبالتالي، فإن الاستيطان الصهيوني يصبح من قبيل العودة للإعداد لعودة الماشيَّح، وتصبح الدولة الصهيونية بداية الخلاص، أي أن عودة الماشيَّح تصبح نتيجة عودة اليهود لا سبباً لها. وهذا تكرار للنمط الحلولي الذي نلاحظه في اليهودية: تَوازي الإله والإنسان ثم تفوُّق الإنسان على الإله في الأهمية.

الشتات السامري أو انتشار السامريين

Samaritan Diaspora

يُشار إلى «الشتات السامري» أحياناً بمصطلح «الدياسبورا السامرية». ويتمثل الشتات السامري في واقعة هجرة بعض السامريين من فلسطين وانتشارهم في مدن وبلادمختلفة واستيطانهم فيها بشكل نهائي ودائم، ثم تأسيس جماعات سامرية مختلفة، وقد تأسست جماعات سامرية في كلٍّ من: سالونيكا وروما وحلب ودمشق وغزة وعسقلان ومصر. وقد بدأ انتشار السامريين من فلسطين مع الفتح اليوناني للمنطقة في عام 323 ق.م.

الشتات الخزري أو انتشار يهود الخزر

Khazar Diaspora

«الشتات الخزري» عبارة تُستخدَم للإشارة إلى شتات أو هجرة سكان إمبراطورية الخزر اليهودية منها بعد سقوطها إلى أماكن متفرقة من أهمها المجر ثم بولندا. وثمة نظرية تذهب إلى أن تَزايُد عدد يهود بولندا ابتداءً من القرن الثاني عشر لا يعود إلى هجرة يهود أوربا إليها أثناء حروب الفرنجة، كما تقول معظم الدراسات التاريخية، وإنما يعود إلى الشتات الخزري واستيطان بقايا يهود الخزر فيها. ولو صَدَقت هذه المقولة، فإن أصل معظم يهود العالم خزري تركي وليس سامياً. وعلى كلٍّ، لم تَعُد هذه نقطة مهمة في الأدبيات الصهيونية، باعتبار أن الصهاينة يؤسسون نظريتهم في الحقوق لا على أساس عرْقي وإنما على أساس إثني وعلى أساس الأمر الواقع، الإرهاب والقوة.

البلد الذهبي (جولدن مدينا)

Golden Medina

«جولدن مدينا» عبارة يديشية تعني «البلد الذهبي»، وكان يستخدمها المهاجرون اليهود من شرق أوربا (يهود اليديشية) للإشارة إلى الولايات المتحدة.

وبمعنى من المعاني، لا تزال الولايات المتحدة هي « الجولدن مدينا» أو البلد الذهبي التي يتجه إليها يهود العالم، ومنهم الإسرائيليون، بدلاً من أرض الميعاد، وهذا ما حدا بالبعض للإشارة إلىها بأنها الـ «جولدن كاف golden calf»» أي «العجل الذهبي». والجولدن مدينا هي أرض الميعاد العلمانية، التي لا تَعد أحداً بالخلاص الروحي، ولكنها تَعد الجميع بخلاص الجسد من خلال السلع والترف والراحة. ولعل تَصاعُد معدلات العلمنة بين يهود العالم هو الذي يجعلهم يتجهون بهذه الصورة إلى الولايات المتحدة. وقد أثبت المهاجرون السوفييت أن ولاءهم الحقيقي يتجه نحو صهيون العلمانية هذه، وأن دولة إسرائيل إن هي إلا مبيت مؤقت ينتظرون فيه وصول الإشارة على هيئة تأشيرة هجرة إلى الولايات المتحدة.

الدياسـبورا الثانية

Second Diaspora

«الدياسبورا الثانية» مصطلح يتواتر في الخطاب الصهيوني للإشارة إلى هجرة اليهود السوفييت إلى الولايات المتحدة بدلاً من إسرائيل، باعتبار أنهم ينتقلون من دياسبوراأولى (الاتحاد السوفيتي) إلى دياسبورا ثانية (الولايات المتحدة). وقد قال أحد المتحدثين الصهاينة إن اليهود السوفييت حوَّلوا الوكالة اليهودية والدولة الصهيونية إلى ما يشبه شركة رحلات سياحية متخصصة في نقل المسافرين اليهود السوفييت من مَنْفَى إلى آخر.

الخـروج الثـــاني (أو خــروج صهيــون(

(Second Exodus )or Exodus of Zion

«الخروج الثاني» مصطلح يُستخدَم للإشارة إلى عدة مدلولات متناقضة. والخروج الأول هو، في العادة، الخروج من مصر إلى أرض كنعان، أي فلسطين. أما مصطلح «الخروج الثاني»، فيُستخدَم للإشارة إلى هجرة الصهاينة من بلادهم واستيطانهم فلسطين، فهو خروج للتحرر من العبودية عن طريق الاستيلاء على الأرض الفلسطينية، وهو يشبه خروج جماعة يسرائيل من مصر تحت قيادة موسى واستيلاءهم على أرض كنعان، بل إن هذا الخروج الثاني يعد أهم من الأول إذ أنه خروج نهائي وأخير.

ويُستخدَم المصطلح مؤخراً للإشارة إلى نزوح كثير من المستوطنين الصهاينة من إسرائيل، فكأن خروجهم الأول كان من أوطانهم الأصلية أما خروجهم الثاني فهو منالمُستوطَن الصهيوني. كما تتحدث الصحف الإسرائيلية عن «خروج صهيون»، أي خروج اليهود من وطنهم القومي.

الدياسبورا الإسرائيلية

Israeli Diaspora

«الدياسبورا الإسرائيلية» عبارة تُستخدَم للإشارة إلى المستوطنين الصهاينة الذين ينزحون عن إسرائيل ويستوطنون خارجها، في الولايات المتحدة عادةً. وهذا المصطلح ينطوي على تَناقُض عميق. فكلمة «دياسبورا» تشير عادةً إلى اليهود الموجــودين خارج فلسطين برغـم إرادتهم، ولذا فهم «منفـيون». ولكـن أن تكــون الدياسبورا إسرائيلية، أي مجموعة بشرية يهودية كانت تقطن في أرض الميعاد ذاتها، في ظل الكومنولث اليهودي الثالث أي الدولة الصهيونية، وتقرر بكامل إرادتها أن تهاجر (بحثاً عن الرزق والحراك الاجتماعي غالباً)، فهذا أمر صعب، إذ كيف يمكن الحديث عن «دياسبورا» أو عن «مَنْفَى» إذا لم يكن هناك قسر؟ ويمكن أن نقول (لذلك) إن كلمة «دياسبورا» مُستخدَمة هنا بمعناها المحايد أي مجرد الانتشار.

والواقع أن الدياسبورا الإسرائيلية تتحدى نظامنا التصنيفي، فالمهاجرون الإسرائيليون ليسوا صهاينة استيطانيين بطبيعة الحال، إذ أنهـم تخلَّوا عن المشـروع الصهيوني. كما أنهم ليـسوا بصهاينة توطينيين، إذ ليس من المُحتَمل أن يقوموا بتشجيع الآخرين على الاستيطان. ومجرد وجودهم في البلد الذهبي (جولدن مدينا)، أي الولايات المتحدة، يقف دليلاً على عدم جاذبية الدولة الصهيونية. وهم يسببون كثيراً من الحرج ليهود الولايات المتحدة وللصهاينة التوطينيين حين يُطرَح هذا السؤال: هل من الواجب إغاثةهؤلاء اللاجئين باعتبارهم « يهوداً » أم يجب مقاطعتهم باعتبارهم مرتدين أو هابطين تركوا أرض الميعاد ونكصوا على أعقابهم؟

ويبلغ عدد أعضاء الدياسبورا الإسرائيلية في الولايات المتحدة حوالي 500 ألف حسب التقديرات الرسمية. وحسب التقديرات غير الرسمية، يبلغ العدد 750 ألفاً، ولكنه يبلغ مليوناً إن حسبنا أبناء المهاجرين. وقد أشارت إحدى الصحف الإسرائيلية إلى هذه الظاهرة باعتبارها «خروج صهيون». كما ذكرت صحيفة أخرى للإسرائيليين أن عدد سكان الدولة الصهيونية (عند إنشائها في عام 1948) كان لا يتجاوز 700 ألف، أي أقل من عدد المهاجرين منها، وهو ما يُفقدها كثيراً من الشرعية.

انتشـــــار الجماعــــات اليهوديــــة

Diffusion of the Jewish Communities

نحاول في هذه الموسوعة أن نستخدم الكلمة المحايدة «انتشار» (وأحياناً «هجرة» أو «تهجير») بدلاً من العبارات الشائعة مثل «المَنْفَى» و«الدياسبورا» و«الشتات» و«المَهْجَر»، فهي جميعاً مصطلحات وعبارات إما مُشتقَّة مباشرةً من المُعجم الديني اليهودي أو متأثرة به، فمقدرتها التفسيرية والتصنيفية والوصفية ضعيفة.

الباب السادس: هجرات وانتشار أعضاء الجماعات اليهودية

هـجرات أعضـــاء الجـماعــات اليهــودية: مقـــدمة

Migrations of Memebers of Jewish Communities: Introduction

يُلاحَظ أننا في هذه الموسوعة لا نستخدم مصطلح «الهجرة اليهودية» قدر استطاعتنا وإنما نستخدم بدلاً من ذلك مصطلح «هجرة أعضاء الجماعات اليهودية»، فالمصطلح الأول يعني أن ثمة حركيات مستقلة ذات طابع يهودي هي التي تحكم عملية الهجرة وتدفعها. ونحن نذهب إلى أن أعضاء الجماعات اليهودية المختلفة خاضعون لحركيات جذب وطرد لا تختلف كثيراً عما يخضع له سائر أعضاء المجتمع الذي ينتمون إليه. كما أننا نستخدم مصطلح «انتشار» لنصف ظاهرة هجرة أعضاء الجماعات واستقرارهم في أرجاء المعمورة. ويُلاحَظ أننا نُميِّز بين الاستقرار والاستيطان، فالأول لا ينطوي على أي عنف أو اغتصاب أرض، أما الثاني فهو على عكس ذلك.

وتذهب التواريخ الصهيونية والمعادية لليهود إلى أن أعضاء الجماعات اليهودية لا يستقرون في وطن واحد، فهم دائمو التنقل والترحال والهجرة (وهذا تعبير عن إحساسهم الأزلي بالنفي ورغبتهم الثابتة في العودة إلى أرض الميعاد!). وتُجرِّد التواريخ الصهيونية هذه السمة وتعتبرها، مثلها مثل سمات أخرى كالهامشية والطفيلية، سمةً مُطلَقة تتصف بها «الهوية اليهودية» وما يُسمَّى «التاريخ اليهودي». ولكننا نرى أنه لا توجد «هوية يهودية» واحدة أو «تاريخ يهودي» وإنما هناك هويات يهودية وتواريخ يهودية (أو تجارب تاريخية) للجماعات اليهودية تختلف باختلاف الزمان والمكان. وإذا درسنا هذه التجارب في سياقها المتعيِّن، فسوف نكتشف أن الهجرة ليست سمة مُطلَقة ولا تنطبق على اليهود أينما وُجدوا. فالجماعة اليهودية في إثيوبيا والمسماة بالفلاشاه مكثت مئات السنين في موطنها لا تتحرك منه ولا تغادره، ولم تهاجر إلا في الثمانينيات حينما قامت الدولة الصهيونية بتهجير أعضائها في ظروف المجاعة في أفريقيا لتحرز انتصاراً مذهبياً أمام يهود العالم، ولتظهر مرة أخرى بمظهر الدولة التي "تنقذ" اليهـود. كما أن يهود بابل ظلوا في موطنهم منذ الألف الأول قبل الميـلاد حتى عام 1951، حينما قام العملاء الصهاينة المتخفون بإلقاء المتفجرات عليهم ليبثوا الرعـب في قلـوبهم ولإيـهامهم بأن حياتهم تحفها المخاطر. أما اليهود الذين هُجِّرو إلى آشور (أسباط يسرائيل العشرة المفـقودة)، فيبـدو أنهـم انصـهروا تمامـاً واختفوا. وفي الوقت الحاضر، فإن خروج يهود الاتحاد السوفيتي هو نتيجة حركيات داخلية خاصة بالمجتمع السوفيتي ولانهيار المنظومات الاشتراكية.

ومع هذا، توجد جماعات إنسانية تتنقل بشكل دائم وتنتقل من مكان لآخر، ويعود هذا التنقل إلى ظاهرة إنسانية لها آلياتها وحركياتها التاريخية والإنسانية المفهومة.

وقد قضت القبائل التركية مئات السنين في التجوال، وكان من بينها قبيلة الخزر التي تهوَّد أعضاؤها فيما بعد. ويمكن الإشارة كذلك إلى المغول وحروب الفرنجة، وإلى هجرة قبائل الهون الذين تُمثِّل غزواتهم جزءاً من عمليات التنقل التي تعود إلى أسباب اقتصادية وسكانية وحضارية مختلفة. وفي العصر الحديث، يمكن الإشارة إلى هجرةالأرمن والأيرلنديين ومجموعات بشرية أخرى هاجرت من أوربا إلى الولايات المتحدة وغيرها من البلدان لعدة أسباب مركبة.

ويُلاحَظ أن كثيراً من أعضاء الجماعات اليهودية يتنقلون ويهاجرون لأنهم أعضاء في جماعات وظيفية، قتالية أو استيطانية أو تجارية. ولهذا السـبب، انتقل بعض الجنود العبرانيين إلى مصـر ليعملوا كمرتزقة، كما وطَّن السلوقيون والرومان اليهود كعنصر استيطاني في بعض أرجاء إمبراطورياتهما. ومع حلول العصور الوسطى في الغرب، خضع أعضاء الجماعات اليهودية لعمليات من الطرد والتهجير والتوطين كجماعة وظيفية وسيطة مرتبطة بحرفتي التجارة والربا. فالجماعة الوسيطة لا جذور لها في المجتمع، تعيش في مسامه، وهي دائماً على استعداد للرحيل لأن المجتمع يبقيها بمقدار نفعها وبمقدار اضطلاعها بوظيفتها. ولذا، فإن أعضاء الجماعة الوسيطة دائمو التنقل، لا يشتغلون بالأعمال الزراعية ولا بالأعمال الإنتاجية التي تتطلب الاستقرار. ومع ظهور طبقات محلية، واضطلاع الدولة القومية الحديثة بدور اليهود، زادت عمليات الطرد وبالتالي التنقل. وصورة «اليهودي التائه»، برغم إيحاءاتها الدينية والعنصرية المختلفة، تضرب بجذورها في عملية التنقل هذه.

وإذا نظرنا إلى أهم فترتين تَنقَّل فيهما أعضاء الجماعات اليهودية (المرحلة العبرانية ثم المرحلة الحديثة في أوربا من منتصف القرن التاسع عشر حتى منتصف القرنالعشرين)، فسنكتشف أن العبرانيين وأعضاء الجماعات اليهودية كانوا يشكلون جزءاً من كلٍّ أكبر. لقد كان العبرانيون جزءاً من جماعات سامية ضخمة تتحرك في الشرق الأدنى القديم، ابتداءً من الألف الثاني قَبْل الميلاد، وتضم الخابيرو والأخلامو والآراميين والهكسوس وغيرهم. ونحن نسمِّي هذه المرحلة المرحلة السامية السديمية لأنمعالم الأشياء لم تكن واضحة ولأن القبائل والأقوام المهاجرة المتنقلة كانت متداخلة. كما شهدت مرحلة الإمبراطوريات الكبرى، البابلية والآشورية ثم الفارسية واليونانيةوالرومانية، بدايات الهجرة التي تعاظمت بالتدريج حتى وصلت ذروتها مع نهاية الألف الأول قبل الميلاد وأصبح عدد اليهود خارج فلسطين أكثر من ضعف عددهم داخلها. ويُلاحَظ أن الهجرة اليهودية تتعاظم داخل إطار الإمبراطوريات التي تُيسِّر لهم حرية الحركة.

وهجرة يهود شرق أوربا (يهود اليديشية) إلى الولايات المتحدة وكندا وفلسطين وغيرها من الدول الاستيطانية بأعداد هائلة، حتى انتقلت الكتلة البشرية اليهودية إلى الولايات المتحدة وإســرائيل (فلسـطين)، هي بالمثل هجرة تمت داخل إطار إمبراطوري. فقد تمت داخل التشكيل الاستعماري الغربي وتجربته الاستيطانية في أنحاء العالم، تلك التجربة التي بدأت في القرن السابع عشر وزادت حدتها في أوائل القرن التاسع عشر ووصلت ذروتها في أواخره، واستمرت بعد ذلك ثم بدأت تخبو بعد الحربالعالمية الثانية مع تَوقُّف الانفجار السكاني في الغرب. لقد هاجر من سكان أوربا نحو 65 مليوناً خلال قرن ونصف القرن (1800 ـ 1950)، وكان من بينهم الإيطاليونوالأيرلنديون والألمان وكثير من سكان شرق أوربا، وكان من بين هؤلاء أعضاء الجماعات اليهودية. وقد هاجر إبان هذه الفترة أربعة ملايين يهودي، أي 6% من جملة المهاجرين، كانوا لا يشكلون سوى 1.5ـ 2% من سكان أوربا، أي أن معدل الهجرة بين اليهود كان أربعة أضعاف معدلها العام. ولكن، في الفترة من عام 1801 إلى عام 1921، هاجر نحو ثمانية ملايين أيرلندي، ولاتزال عملية الهجرة مستمرة من بلد لا يزيد عدد سكانه على ثلاثة ملايين ونصف المليون. وكانت هجرة الأيرلنديين أكثر من هجرة اليهود كما أنها كانت محمومة. وبلغت نسبة اليهود الذين يرجعون إلى بلادهم الأصلية 8%، أما نسبة الأيرلنديين العائدين فكانت لا تزيد على 7%. ويُلاحَظ أن الهجرة اليهودية إلى الولايات المتحدة كانت تضم في الأساس عناصر إشكنازية.

وقد كانت الهجرة اليهودية تأخذ في الماضي شكل التقهقر من المناطق المتقدمة إلى المناطق الأقل تقدماً؛ من الشرق القديم إلى أوربا التي كانت من أكثر مناطق العالم تخلفاً. وفي أوربا نفسها، أخذت الهجرة في العصور الوسطى شكل التحرك من إنجلترا وفرنسا إلى ألمانيا ومنها إلى شرق أوربا أكثر المناطق تخلفاً. وابتداءً من القرن السابع عشر، أخذت الهجرة شكلاً مغايراً وهو الهجرة من الأماكن الأقل تقدماً إلى الأماكن الأكثر تقدماً؛ من شرق أوربا إلى وسطها وإلى إنجلترا والولايات المتحدة. وإذا كان هذا هو نمط الهجرة، فإن الولايات المتحدة تصبح منطقياً نقطة الجذب المُطلَقة، وهذا هو الوضع القائم حتى الوقت الحالي.

ويُلاحَظ أن العنصر المشترك في كلتا الهجرتين (من البلاد المتقدمة إلى المتخلفة والعكس) هو أن اليهود كانوا عنصراً استيطانياً ريادياً يبحث عن الفرص الجديدة للاستثمار والحراك. وحينما كانت الفرصة موجودة في المناطق المتخلفة، كانت الهجرة تتجه نحوها. ولكن، مع الثورة التجارية، تغيَّر الوضع تماماً وأصبح البحث عن الفرص الاقتصادية يدور في الدول الاستيطانية المتقدمة. ويُلاحَظ أن هجرة اليهود قلما كانت تتجه إلى فلسطين.

وهنا لابد من التفرقة بين الهجرة والاستعمار الاستيطاني. فالهجرة من بلد إلى آخر تعني قبول أهل البلد الجديد للقادمـين نظراً للحاجة إليهـم، وهي تنتهي باستقرار المهاجر في بلده الجديد. ولكن إذا فَرَض القادمون الجدد أنفسهم عن طريق العنف، فإن من الصعب أن نسمي ذلك «هجرة». والواقع أننا يمكن أن نتحدث عن هجرة الأيرلنديين إلى الولايات المتحدة واستقرارهم فيها بعد أن استوطنها الإنسان الأبيض وأباد سكانها الأصليين، حيث لم تَعُد هناك حاجة إلى العنف من جانب المهاجرين الجدد بعد أن تولى المستوطنون الأوئل هذه المهمة نيابة عنهم. أما في جنوب أفريقيا (حتى وقت قريب) وفي فلسطين، فإن الوضع جدُّ مختلف، ذلك أن السكان الأصليين لا يزالون مستمرين في المقاومة، وهو ما يجعل العنف ضدهم ضرورياً. وعلى هذا، فيمكن الحديث عن استيطان الهولنديين في جنوب أفريقيا والصهاينة في فلسطين، أو عن هجرتهم للاستيطان أو هجرتهم الاستيطانية.

ويُلاحَظ أن كثيراً من المهاجرين اليهود تم توطينهم في أمريكا اللاتينية، بل وفي روسيا السوفيتية، بمعرفة مؤسسات يهودية توطينية كوَّنها يهود العالم الغربي لتحويل تيار الهجرة عن بلادهم للحفاظ على وضعهم الطبقي ومكانتهم الاجتماعية. ولذا، فنحن نفرِّق بين «الاستيطان» و«التوطين». ويستطيع القارئ أن يعود إلى مداخل البابالمعنون «الصهيونية التوطينية» والباب المعنون «المؤسسات التوطينية».

الاســتقرار

Settlement

«الاستقرار» هو أن يهاجر شخص من بلده نتيجة ظروف موضوعية (عوامل طَرْد في الوطن الأصلي) أو ذاتية (رغبة في الحراك الاجتماعي) فيحمل متاعه ويذهب إلى بلد آخر يوافق على هجرته أو يرحب به. ويتم ذلك عادةً في إطار قانوني. ومن ثم، فإن هجرة أعضاء الجماعات اليهودية من أوربا إلى الولايات المتحدة هي عملية استقرار في الوطن الجديد. و«الاستقرار»، بطبيعة الحال، غير «الاستيطان». وفي اللغة الإنجليزية لا يُوجَد سوى كلمة واحدة هي «ستلمنت settlement» للتعبير عن المعنيين المختلفين.

هجرات أعضاء الجماعات اليهودية حتى بداية العصر الحديث

Migrations of Memebers of Jewish Communities up to the Beginning of Modern Times

ينتقل بعض أعضاء الجماعات اليهودية من وطن إلى آخر بحثاً عن الرزق ولتحسين المستوى المعيشي بصفة عامة، أو لأسباب أخرى مثل التهجير والطرد أو الاضطهاد أحياناً. وإن قبلنا الرأي القائل بأن الخابيرو الذين ورد اسمهم في لوحات تل العمارنة هم العبرانيون، فإن أول إشارة إليهم كانت باعتبارهم شعباً متجولاً. وقد اتسمت حياة العبرانيين في عصر الآباء ( منذ عام 2000 ق.م) بالتنقل البدوي من بلد إلى آخر وبالبقاء على حواف المدن أو على طُرُق التجارة. وفي هذه المرحلة، استوطنت بعض العناصر العبرانية أرض كنعان وفي مصر دون أن تضرب جذوراً في أي منهما. وقد خرج العبرانيون من مصر أو هاجروا منها (عام 1645 ق.م) ليبدأوا فترة أخرى من التجوال في سيناء انتهت بالتغلغل العبراني في كنعان (عام 1189 ق.م) الذي أعقبته فترة من الاستقرار النسبي بعد قيام اتحاد القبائل العبرانية في شكل المملكة العبرانية المتحدة ثم المملكتين العبرانيتين: المملكة الشمالية والمملكة الجنوبية. وقد انتهت هذه المرحلة بالتهجير الآشـوري ثم التهجير البابلـي.

وبعد هذه المرحلة، ينتهي التهجير ليبدأ اليهود في الانتشار في بقاع الأرض بوصفهم جماعات يهودية لا يربطها رابط سوى الانتماء إلى العقيدة الدينية الإثنية نفسها. وتبدأ هذه المرحلة حين فضلت أعداد كبيرة من اليهود الاستمرار في بابل مُكوِّنةً بذلك نواة أول جماعة يهودية تستقر خارج فلسطين بعد مرحلة التهجير البابلي. ومن الممكن أيضاً الإشارة إلي الجماعة الصغيرة في جزيرة إلفنتاين التي كانت تشكل حامية عسكرية تحمي حدود مصر الجنوبية.

ثم قامت الإمبراطورية اليونانية بفرض هيمنتها على أجزاء كبيرة من البحر الأبيض والشرق الأدنى القديم (332 ق.م)، وهو ما يسَّر عملية انتقال اليهود وانتشارهم، فاستقرت أعداد كبيرة منهم (كجماعات وظيفية استيطانية وقتالية ومالية) في مصر، وفي الإسكندرية على وجه الخصوص. كما استقروا في برقة وقبرص وآسيا الصغرى. وقد بدأ الانتشار في أوربا الغربية في تلك المرحلة أيضاً.

وحين قضى الرومان على فلسطين كإحدى نقاط تَجمُّع الجماعات اليهودية وأحد مراكزها، وحتى حين هدم تيتوس الهيكل (عام 70م)، لم يؤثر ذلك كثيراً في حركة تَدفُّق اليهود أو على شكلها، إذ أنها بدأت على أية حال قبل ذلك التاريخ، حيث استمر تَدفُّق اليهود خارج فلسطين وإلى مختلف البلدان، خصوصاً إلى أوربا وحوض البحر الأبيض المتوسط. ويُقال إن هجرة اليهود إلى الجزيرة العربية تعود إلى هذه الفترة أو بعدها، وقد تم طَرْد اليهود منها مع ظهور الإسلام، ولكن يبدو أن أعداداً كبيرة لم تغادرها. كما أن الجماعة اليهودية في اليمن لم تتأثر بقرار الطرد، فقد بقيت أعداد منها واستمر وجودها حتى العصر الحديث. وفي أوائل القرن العشرين، قام المستوطنون الصهاينة بتوطين عدد من يهود اليمن في فلسطين لسد حاجتهم إلى العمالة، ثم هاجرت أغلبيتهم في عام 1948 إلى فلسطين، ولا تزال توجد بقايا من هذه الأقلية في صعدا وغيرها من المناطق.

وقد شهدت بداية العصور الوسطى في الغرب (القرن الرابع الميلادي) شيئاً من الاستقرار النسبي بالنسبة إلى الجماعات اليهودية في الغرب المسيحي ثم في الشرق الإسلامي بسبب استقرار الأحوال السياسية والاقتصادية فيها. وبدأ نمط الهجرة في هذه الفترة يتضح، أي الهجرة من البلاد المتقدمة إلى البلاد المتخلفة؛ وقد كانت أوربا من أكثر المناطق تخلفاً في العالم آنذاك. وكانت توجد ثلاثة خطوط أساسية للهجرة إلى أوربا: من فلسطين إلى جنوب إيطاليا ومنها عَبْر جبال الألب إلى فرنسا وألمانيا، ومن الإمبراطورية الرومانية الشرقية (بيزنطة) عَبْر وادي الدانوب إلى وسط أوربا، ومن العراق ومصر عَبْر المغرب إلى إسبانيا. وهكذا انتقلت الكثافة السكانية اليهودية (بين عامي 500 ق.م 1000م) من الشرق الأوسط إلى أوربا.

ورغم أن نمط الهجرة إلى البلاد الأكثر تخلفاً هو النمط السائد، إلا أنه ليس النمط الوحيد، فمع تدهور الخلافة العباسية في القرن العاشر، هاجرت كذلك أعداد من اليهود المقيمين في العراق إلى الهند والصين. ولذا، قد يكون من الأفضل أن نقول إن هجرة أعضاء الجماعات اليهودية تتجه حيث توجد فرص أكبر لممارسة نشاطهم الاقتصادي، وأحياناً ما تتيح البلاد المتخلفة هذه الفرصة لهم أكثر من البلاد المتقدمة، خصوصاً حين تبدأ هذه البلاد في التآكل والانهيار ويصبح عدم الاستقرار سمة أساسية فيها.

ومع إرهاصات التحول التجاري الرأسمالي في المجتمع الغربي في القرن الحادي عشر، ومع ظهور طبقات من التجار والمموِّلين المسيحيين، تم طَرْد اليهود من إنجلترا في عام 1290 (ويُقال إن عددهم كان لا يتجاوز أربعة آلاف)، كما طُردوا من فرنسا عامي 1306 و1394، فاستقروا في بادئ الأمر في ألمانيا وإيطاليا وشبه جزيرة أيبريا، ولكنهم طُردوا أيضـاً من إســبانيا في عام 1492 ثم من البرتغال، فهاجروا أساساً إلى شمال أفريقيا وإلى إيطاليا وصقلية. كما هاجرت أعداد كبيرة (نصفهم كما يُقال) إلى الإمبراطورية العثمانية التي كانت تشجع اليهود على الهجرة إليها لتنشيط التجارة. ولقد تدخلت الدول الغربية لمنع هجرة اليهود منها خشية أن يؤدي ذلك إلى انهيار النظام المصرفي والمالي والتجاري، الذي كان اليهود يلعبون فيه دوراً أساسياً. وقد شهدت هذه الفترة سقوط مملكة الخزر اليهودية في القرن العاشر حيث هاجر سكانها إلى المجر ثم إلى بولندا.

الصفحة التالية ß إضغط هنا