المجلد الرابع: الجماعات اليهودية.. تواريخ 6

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

ورغم أن مؤسسة الكهانة قد اختفت في اليهودية تماماً مع هدم الهيكل على يد تيتوس، ومع اختفاء العبادة القربانية، ومع أن اليهودية لا تقبل، على المستوى النظري، الوساطة بين الخالق والمخلوق، فإن مؤسسة الكهانة استمرت بعد أن أخذت شكلاً جديداً هو الحاخامية حيث يحل الحاخام محل الكاهن. ويعود هذا إلى الأسباب التالية:

أ) رغم اختفاء الهيكل والعبادة القربانية المركزية، إلا أن الرؤية الحلولية التي تشكل الإطار العقائدي لمؤسسة الكهانة ظلت قائمة بل زادت حدة. ولذا، تعمَّق الإحساس لدى اليهود بأنهم الشعب المختار، وأنهم أمة من الكهنة والقديسين والأنبياء اختارهم الإله ليكونوا بمنزلة الكهنة للشعوب الأخرى.

ب) بانتشار اليهود خارج فلسطين وتحوُّلهم إلى جماعات وظيفية منعزلة مغلقة، تشابكت السلطة الدنيوية والسلطة الدينية مرة أخرى حتى أن الحاخام (مع أنه لم يكن كاهناً) كان القائد الديني الفعلي للجماعة اليهودية الذي يقوم بشئون الإفتاء الديني والتجارة وإقراض المال والأعمال المالية والقضاء والزواج وفض المنازعات والإشراف على تنفيذ القوانين الخاصة بالطعام وبالعديد من المهام الدينية الاجتماعية الأخرى.

ومن الصعب تحديد مَن من نسل هارون و مَن من قبيلة اللاويين في وقتنا الحاضر، إذ تُوجَد قطاعات كبيرة من اليهود، وخصوصاً اليهود الأرثوذكس، يؤمنون بأن كل يهودي يُسمَّى «كوهين» لابد أن يكون من نسل اللاويين، وكذلك كل من يدعى «كاتس»، باعتبار أن اسمه اختصار لتعبير «كوهين تساديك»، وكذلك من يدعى «سيجال» فهو اختصار «سيجان ليفي» أي «نائب اللاوي أو مرافقه». ومن المفروض أن كل اليهود الذين يحملون هذه الأسماء تنطبق عليهم قوانين الكهانة، فهم يقفون في المعابد اليهودية أثناء صلوات أيام الأعياد وفي أيام السبت فيغطون وجوههم ويباركون الناس، ولهم الأولوية في أن يقرأوا التوراة في المعبد متخطين بقية المصلين ومنهماللاويون. ولا يزال الكهنة يتلقون ما يُسمَّى «فدية البكريّ». ففي الماضي كان على اليهودي أن يكرس ابنه البكر لخدمة الرب، ولكن أُعفي أبكار الأسر من هذه المهمة بعدقيام سبط اللاويين بأعباء الكهانة نظير فدية يقدمها الآباء للكهنة عند إنجابهم أبكاراً ذكوراً. كما لا تزال قوانين عدم لمس الموتى قائمة، ولذلك تُخطَّط المدافن اليهودية بطريقة تجعل بإمكان الكاهن أن يزور أقاربه دون أن تُدنَّس طهارته.

وتُسبِّب كل هذه الشعائر مشاكل للدولة الصهيونية. فعلى سبيل المثال، ونظراً لأن من المحظور أن يجمع سقف واحد بين الكاهن وجثة ميت، فقد اضطرت مستشفى الهاداساه في إسرائيل إلى استخدام أبواب دائرية للمشرحة الملحقة بالمستشفى حتى تكون بمنزلة حاجز دائم بين الكاهن الذي يزور أقاربه في المستشفى والجثث الموجودة في المشرحة، فالباب العادي لا يمكنه أن يؤدي هذه الوظيفة الدينية. وقد واجه الإسرائيليون المشكلة نفسها بشكل آخر بعد استيلائهم على طريق القدس - الخليل، فهذا الطريق قد بناه العرب دون أي اعتبار للتحريمات اليهودية الخاصة بالكهانة. ولهذا، فإن الطريق يمر ببعض المقابر اليهودية، الأمر الذي يجعل استخدام هذا الطريق غير الطاهر محظوراً على الكهنة. ولهذا، فقد ثُبتت لافتة تعطي إشارات إلى طريق بديل «طاهر».

ولا تزال قوانين الزواج الخاصة بالكهنة سارية المفعول، وهو ما يُسبِّب زيادة المامزير أي الأطفال غير الشرعيين في إسرائيل، ويجعل الحياة صعبة لكل من يحمل اسم «كوهين» أو «سيجال» أو «كاتس»، وخصوصاً أن كثيراً منهم لا يعرف هذه القوانين اليهودية. ولا تعترف اليهودية الإصلاحية أو المحافظة بأي قانون من قوانين الكهنة هذه.

وقد بدأت الدولة الصهيونية في العودة إلى شيء يشبه العبادة القربانية التي تدور حول الهيكل، ومن ثم عاد الاهتمام بالكهنة. وتُوجَد مدرستان تلموديتان بالقرب من حائطالمبكى يدرس فيهما نحو مائتي طالب شعائر العبادة القربانية للقيام بها عند إعادة تشييد الهيكل. وقد بدأت مجموعة من الإسرائيليين في البحث عن شجرة العائلة الخاصةبالكهنة اليهود حتى يتم تقرير من هو المؤهل للقيام بهذه الشعائر (لعله يكون من نسل هارون أو صادوق). كما عُقد عام 1990 مؤتمر في إسرائيل لليهود الذين يعتقدون أنهم من أصل كهنوتي. وبدأ معهد الهيكل في إعداد الملابس الخاصة التي يتعيَّن على الكهنة ارتداؤها.

كوهين

Cohen

«كوهين» كلمة عبرية تعني «كاهن» ويُعتبَر حامل هذا اللقب سليل الكهنة ومن نسل هارون أخي موسى الكاهن الأعظم. وتنطبق عليه المحظورات المختلفة مثل ضرورة أن يتزوج من عذراء فلا يتزوج مطلقة، وأن يتمتع بكل المزايا كأن يقوم بتلاوة التوراة في المعبد اليهودي.

ومن الأسماء الأخرى المرادفة لكلمة «كوهين» في المعنى، كلمة «كاهن» و «كوهان» و «كاجان» و«كان» و«كوجين» و«كون» و«كوون» و«كوين» و«كوفين». وأحياناً يُترجَم الاسم فيقال مثلاً «أجرانات»، وهي ترجمة روسية لكلمة «هاروني» أو من «نسل هارون».

وكلمة «كاتس» اختصار لكلمة «كوهين تساديك» أي «كاهن الاستقامة والتقوى» ولها نفس دلالة كلمة «كوهين»، وأحياناً تُزاد الصيغة لتصبح «كاتزنلسون» أو «كاتسمان» أو «كاتزنشتاين» أو «كوهنهايم» أو «كوهنشتاين».

وهناك الكثير من اليهود يحملون مثل هذه الأسماء ولا يعرفون شيئاً عنها ثم يفاجأون بأنهم كهنة تنطبق عليهم المحظورات مثل عدم الزواج من مطلقة الأمر الذي يسبب لهم الكثير من المشاكل في إسرائيل.

الكاهن الأعظم

High Priest

«الكاهن الأعظم» هو المقابل العربي للكلمة العبرية «كوهنْ هاجدول» وهو كبير موظفي الهيكل. وقد كانت وظيفة الكاهن الأعظم في الأصل مقصورة على أسرة صادوق من ذرية هارون. وهو الذي كان يدخل قدس الأقداس في يوم الغفران ليتفوه بالاسم المقدَّس، وكان هو أيضاً رئيس السنهدرين. ومع أن وظيفة كبير الكهنة كانت دينية، فقد كانت لها أبعادها الدنيوية، فالكاهن الأعظم كان يُعَدُّ من رجالات المملكة العبرانية وجزءاً من الأرستقراطية الحاكمة. ولعل هذا هو السبب في أن الصراع كان ينشب دائماً بينه وبين الأنبياء الذين كانوا يمثلون القوى الشعبية في كثير من الأحوال.

وكان الملك يضطلع أحياناً بوظيفة كبير الكهنة كما فعل داود (1004 ـ 965 ق.م) (صموئيل ثاني 6/12ـ 19). وفي الترتيب الهرمي للمجتمع العبراني، كان الملك يسبق الكاهن الأعظم في المنزلة، ولذلك خلع سليمان كبير الكهنة ونفاه. وفي حفل تكريس الهيكل، كان سليمان الموظف الأساسي، أما بقية الكهنة فكانوا يقومون بالأعمال الوضيعة. وقد جاء وَصْف الكاهن الأعظم وردائه في سفر اللاويين (16/11 ـ 17). وكان الرداء يُسمَّى «إفود»، وهو ثوب يشبه الصُّدرة، كان يلبسه رئيس الكهنة العبراني أثناء خدمة الكهنوت، وكان هذا الثوب يُصنع من كتان دقيق ومبروم بلون الذهب واللون الأزرق والأرجواني والقرمزي. وكان يُثبَّت على الجسم بواسطة شريطين للكتفين من فوق، وحزام من أسفل، وعلى كلٍّ من شريطي الكتف كان يوجد حجر جَزْع منقوشة عليه أسماء قبائل يسرائيل الاثنتي عشرة. وكان الثوب يتصل بالصدرة بواسطة سلاسل ذهب. وكانت الصدرة تحتوي على اثني عشر حجراً كريماً موضوعة في أربعة صفوف وفيها وسائل القرعة المقدَّسة: الأوريم والتُميِّم والتي كانت تُستخدَم في تَبيُّن إرادة الإله. وكان الكاهن يلبس تحت الإفود ثوب الإفود الأزرق الذي كان يمتد إلى قدمي الكاهن. وكانت الأحجار الاثنا عشر تحمل أسماء قبائل يسرائيل الاثنتي عشرة وتشير إلى أن الكاهن يمثل كل الشعب وأنه يُقدّم العبادة عنهم وباسمهم (خروج 28/31 ـ 35 و 39/22 ـ 26).

وحيث إن الهيكل لم تكن تتبعه أية أراض زراعية، كان اليهود يرسـلون إليه التبرعات (نصـف شيكل) وهـو ما كان يُدر عليه مالاً وفيراً. كما أن بعض أثرياء اليهود، على عادة الأثرياء في الشرق الأدنى القديم، كانوا يودعون أموالهم فيه. وقد أدَّى هذا إلى تعميق البُعد الدنيوي لوظيفة الكاهن الأعظم لأن دخله كان يُعَدُّ أهم مصدر ليهودفلسطين.

ومع دخول العبرانيين، ابتداءً من القرن السادس قبل الميلاد، في إطار الإمبراطوريات الكبرى (البابلية والفارسية واليونانية والرومانية) التي كانت تحتفظ لنفسها بسلطة القرار في الشئون العسكرية والخارجية وتترك للشعوب المحكومة شيئاً من الاستقلال الذاتي لإدارة شئونها الدينية والداخلية، بدأت وظيفة الكاهن الأعظم تكتسب أهمية متزايدة، وخصوصاً أن الفُرس كانوا يفضلون التعاون مع طبقة كهنوتية مأمونة الجانب على التعاون مع أرستقراطية عسكرية أو مع أعضاء أسرة داود المالكة. وبالفعل، تم تقسيم السلطة في فلسطين، فكان المرزبان (مندوب الإمبراطورية) يُمسك بالسلطة الدنيوية ويترك السلطة الروحية والشئون الداخلية في يد كبير الكهنة. وتَحوَّل اليهود إلى جماعة يرأسها الكاهـن الأعظـم حيث ورث شارة الملكية وأصبح يمسح بالزيت بدلاً من الملك. ولا يعني هذا أنه أصبح ملكاً وإنما يعني أنه أصبح يرأس نخبة حاكمة تضم اللاويين والكهنة وأثرياء اليهود الذين كانوا يقودون الشعب ويديرون شئونه الداخلية من خلال إطار تنظيمي هرمي لحساب الإمبراطورية الحاكمة. وقد اعترف البطالمةبهذا المنصب وبالمجمع الكبير، واعتبروهما ممثلين للشعب اليهودي وأعفوهما من الضرائب، واعترفوا بحرية اليهود في ممارسة شعائر أسلافهم.

ولكن، ورغم قوة مركز الكاهن الأعظم، ظهرت مراكز قوة أخرى تعاون معها السلوقيون وهي طبقة أثرياء اليهود ملتزمي الضرائب والتجار وغيرهم ممن أصبح همهم السيطرة على منصب الكاهن الأعظم، ولذا كان يتم التعيين في هذا المنصب عن طريق الرشوة. وقد أصبح الكاهن الأعظم لا يعيَّن مدى الحياة، الأمر الذي زاد ضعفه. كما أن المنصب لم يَعُد مقصوراً على أسرة صادوق.

وكانت الأسرة الحشمونية أسرة من الملوك الكهنة إذ كان الملك هو نفسه كبير الكهنة. فقد انتخب يوناثان شقيق يهودا المكابي قائداً وكاهناً أعظم (160 ـ 142 ق.م).

شهدت هذه الفترة ظهور فرقة الصدوقيين، وهم من كبار الكهنة ويمثلون مصالح فئتهم، حيث التفوا حول النخبة الحاكمة وتحالفوا معها. وفي مقابل ذلك، ظهر الفريسيون الذين كانوا يضمون في صفوفهم كثيراً من الكتبة شراح الشريعة الذين دافعوا عن الشريعة الشفوية. كما كانوا يضمون في صفوفهم فقراء الكهنة ومتوسطي الحال منهم. وقد عارض الفريسيون قيام ملوك الحشمونيين بحمل لقب كبير الكهنة. وانفصلت الوظيفتان بالفعل عام 63 ق.م في عهد هيركانوس الثاني.

ومع احتدام الصراع الطبقي داخل المجتمع العبراني اليهودي في فلسطين، واحتدام الصراع بين القوى الدولية (السلوقيين ضد البطالمة والرومان ضد الجميع)، احتدم الصراع حول منصب كبير الكهنة. ففرَّ الكاهن الأعظم أونياس الرابع إلى مصر وأسس بإيعاز من البطالمة هيكلاً (145 ق.م) وعبادة قربانية يهودية كان هو كاهنها الأعظم. وحينما تولى هيرود الحكم (37 ق.م ـ 4م)، ولم يكن بوسعه أن يشغل هذا المنصب لأنه كان من أصل أدومي، حرص على السيطرة على كبير الكهنة فكان يعيِّن ويَعْزل كما يشاء. وحينما أصبحت فلسطين مقاطعة رومانية، أصبح الكاهن الأعظم مجرد موظف روماني، بل إن رداءه الكهنوتي كان عهدة عند الحاكم الروماني لا يعطيه للكاهن الأعظم إلا قبل الاحتفال بعيد الغفران على أن يستردها منه بعد ذلك مباشرة. وأصبح الكاهن الأعظم محطّ سخرية اليهود، فكانوا يُطلقون عليه النكات. وحينما نشب التمرد اليهودي الأول ضد الرومان (66 ـ 70م)، قام الغيورون بطرد الأرستقراطية الكهنوتية التي كانت تقيم في القدس، وذبحوا بعض أعضائها، واختاروا كبير الكهنة من صفوف الفقراء وبالقرعة. وكان هؤلاء الكهنة آخر من شغل هذا المنصب فبعد دخول تيتوس إلى القدس، وبعد تحطيمه الهيكل (70م)، اختفت العبادة القربانية تماماً واختفى الصدوقيون وظهر الحاخامات باعتبارهم قوة ذات طابع ديني قوي واضح وطابع دنيوي خافت.

بعــل

Baal

«بعل» كلمة فينيقية تعني «السيد» أو «المولى» أو «الزوج» أو «المالك» أو «الرب». ورغم أن مجمع الآلهة الكنعاني كان يترأسه «إيل»، فإن ابنه بعل إله الخصب (الذي كان يُعرَف أيضاً باسم «هدد») كان يلعب الدور الأساسي في المجمع، وقد أصبحت كلمة «بعل» مرادفة لكلمة «إله» بحيث أصبح هناك «بعل شامَيم» (بعل السماء)، أي «إله السماء»، و«بعل هارعد»، أي «إله الرعد». وقد أصبح «بعل شاميم» الرب السامي الأسمى في الألف الأخير قبل الميلاد، كما أصبح تجسيداً للشمس والسماء ذاتها، ولذا فهو مانح المطر والشمس والخصب والمحصولات. كما كان لكل بلد إله يبدأ اسمه بكلمة «بعل» وينتهي باسم تلك البلد أو المدينة، مثل «بعل فغور» أو «بعل جرمون». ولم يكن البعليم (جمع بعل)، مثل يهوه، آلهة حرب، بل كانت آلهة طبيعة مسالمة تمثل قوى الخصب والحياة وتتزاوج فيما بينها، فهي تنقسم إلى ذكور وإناث، وكانت زوجة بعل تُسمَّى «بعلة» أو «عشتارت» أو «عشيراه» أو «عنات». وكان الكنعانيون يختارون الأماكن المرتفعة، كالجبال والتلال، فيبنون عليها أبنية تصبح مذابح يخصصونها للإله. ومنذ دخولهم إلى فلسطين، أخذ العبرانيون عن الكنعانيين الكثير بما في ذلك الزراعة وعبادة بعل. وكانوا يعبدون يهوه وبعلاً جنباً إلى جنب.وقد سمَّى شاؤول أحد أبنائه يوناثان (أي: يهوه أعطى)، وسمَّى الآخر إيشبعل (أي: رجل بعل).كما أنهم عبدوا يهوه من خلال طقوس الخصوبة المرتبطة بعبادة بعل.وكان عامتهم يرون أن يهوه هو الإله القومي (إله التاريخ)،وأن بعلاً هو مانح الخصوبة (إله الطبيـعة)، ولــذا كانــوا يلجأون إلى يهوه في المناسبات القومية وفي لحظات الأزمة ويلجأون إلى بعل في حياتهم اليومية.

وقد حاول الأنبياء في القرن التاسع قبل الميلاد، ابتداءً من إلياهو على وجه الخصوص، إقناع الشعب بأن يهوه هو الإله القومي واليومي، وأنه هو إله الطبيعة والتاريخ. وربما كانت ثورة الأنبياء رد فعل لما قامت به إيزابيل، زوجة الملك آخاب، التي بنت معبداً للإله بعل بجوار معبد يهوه في السامرة، وبذا أصبحت عبادة بعل عبادة مستقلة. وبعد سقوط أسرة عمري، بدأ ياهو في تنقية العبادات. ومع هذا، استمرت عناصر من عبادة بعل، الأمر الذي اضطر معه أنبياء القرن الثامن قبل الميلاد إلى العودة للهجوم عليها مرة أخرى.

وقد تركت عبادة بعل أثرها العميق في عبادة يهوه. والواقع أن الإشارة إلى يهوه بأنه «الأب»،وإلى الإنسان بأنه «ابن الإله»،هي أثر من آثار عبادة بعل.وقد تَطوَّر مفهوم الإله في العقلية الدينية اليسرائيلية بعد أن أصبح يهوه حاملاً لصفات البعولة (البعلية) وقدراتها.

وتقترن عبادة بعل في الوجدان الديني الإثني اليهودي بالخروج من الانعزالية اليهودية لأن عبدة بعل يعبدون إله الأغيار. ويجب أن نتذكر أن اليهود الأوائل كانوا يؤمنون بإله قومي واحد ولم يكونوا موحدين. ولــذا، فــإن الاسـتنكار اليهــودي لعبــادة بعل ليس دينياً وحسب وإنمـا هو قـومي أيضــاً. وفي الأدب الصهــيوني، يُقــارن أعضـاء الجمـاعــات اليهودية المندمجون في مجتمعاتهم بعبدة بعل.

العجل الذهبي

Golden Calf

« العجل الذهبي» تمثال من الذهب عبده أعضاء جماعة يسرائيل عند قاعدة جبل سيناء، عندما كان موسى يتعبد فوق الجبل. وعبادة العجل الذهبي تعبير عن الطبقة الحلولية داخل التركيب الجيولوجي التراكمي اليهودي. وقد جمع هارون الحلي الذهبية منهم بعد إلحاح شديد منهم، وصهرها وصبها على هيئة تمثال كان يُعَدُّ تجسداً للإله. وقـد غضب الإلـه على شـعبه وقرَّر إبادتهم، ولكن موسـى تضرع أمامـه: « لماذا يارب يحمَى غضبك على شعبك الذي أخرجته من أرض مصر بقوة عظيمة ويد شديدة، لماذا يتكلم المصريون قائلين أخرجهم بخبث ليقتلهم في الجبال ويفنيهم عن وجه الأرض. ارجع عن حُمُوّ غضبك، واندم على الشر بشعبك... فندم الرب على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه » (خروج 32/12ـ 14). ويُلاحَظ أن احتجاج موسى على الرب ينبع من تَصوُّر حلولي له، أي أن كلاًًّ من الحادثة والاحتجاج عليها ينبعان من الرؤية الحلولية الكمونية نفسها. وقد حطَّم موسى لوحي الشهادة في لحظة غضبه، ثم أخذ العجل الذي صنعوه وأحرقه بالنار وطحنه حتى صار ناعماً وذَرَّاه على وجه الماء وسقى أعضاء جماعة يسرائيل (خروج 32/20)، ثم قتل نحو ثلاثة آلاف رجل.

وقد سبَّبت هذه الحادثة كثيراً من الحرج للحاخامات والمفسّرين اليهود بسبب اشتراك هارون في عبادة العجل (وخصوصاً أن اللاويين رفضوا الاشتراك في تلك السقطة). ولم تكن عبادة العجول الذهبية أمراً غريباً في الديانة الكنعانية القديمة إذ كان الثور رمزاً محبَّباً للخصب، وكانت كلمة «إيل» تشير إلى الثور الأب في عبادتهم. ورغم الوصية الثانية من الوصايا العشر (خروج 20/4)، فقد وجدت صور الثور وتماثيله طريقها إلى عبادات العبرانيين وفنونهم. ففي أيام سليمان، وقت بناء الهيكل، نجد أن الحوض المسمَّى «البحر المسبوك» أو «بحر النحاس»، يصور المعاني الوثنية في الكون، إذ يرتكز على اثنى عشر ثوراً، كل ثلاثة منها تتجه صوب إحدى الجهات الأربع (ملوك أول 7/3: 26). وقد بُعثت عبادة العجول الذهبية من جديد على يد الملك يربعام في دان وبيت إيل (ويُقال إن يربعام تعلَّم عبادة العجل من عبادة عجل آبيس في مصر، كما يُقال أيضاً إنها هي عبادة هاتور نفسها، البقرة المقدَّسة). وثمة رأي يذهب إلى أن العجول لم تكن تجسيداً ليهوه وإنما كانت قاعدة لتمثال، لتجلٍّ غير مرئي ليهوه.

وفي الدراسات اليهودية الحديثة، يكتسب العجل الذهبي دلالات مختلطة، فالصهاينة يستخدمونه رمزاً لليهود الذين يعيشون خارج الأرض المقدَّسة، ويرفضون الهجرة إليها بسبب المستوى المادي المرتفع الذي حققوه في المنفى. أما أعداء الصهيونية فيستخدمونه للإشارة إلى النزعة الحلولية الوثنية التي بعثتها الصهيونية بين اليهود والمتمثلة في عبادة العجل الذهبي الجديد، أي الدولة الصهيونية. وبعد حرب أكتوبر، شبَّه بعض الإسرائيليين نظرية الأمن الإسرائيلية بالعجل الذهبي باعتبار أنها أدخلت الأمن الزائف على قلوب الإسرائيليين.

الترافيم (أصنام)

Teraphim

«ترافيم» كلمة مجهولة الأصل، وإن كان العَالم و. ف. ألبريت يرى أنها تعني «الخرق القديمة» وأنها من الجذر الكنعاني «ترب» ومعناها «يستهلك». وقد أشار هوفنر إلى مصدر حوراني حيثي هو كلمة «تاربيس» أي (روح حامية أو شريرة). وكانت تُعَدُّ إلهة الأسرة أو ربما إله خصب.

والترافيم أصنام صغيرة، فقد خبأتها راحيل تحت حداجة الجمل وجلست عليها حين حاولت أن تسرقها من أبيها (تكوين 31/35). وحسب القانون البابلي، كان لمن عنده آلهة الأسرة الحق في أن يرث نصيب البكر. ولكن يبدو أن بعضها كان كبير الحجم حيث وضعت ميكال الترافيم في مكان داود، فظن رسل شاؤول أنه نائم في فراشه (صموئيل أول 19/13). ويبدو أن عبادة يسرائيل كانت تُحرِّم اقتناء أصنام الترافيم، وإن كانت لا تُمانع في ارتباط شخصيات العهد القديم بها. ومع هذا، فثمة إشارات أخرى في العهد القديم تساوي بين الترافيم وخطبة العرافة (صموئيل أول 15/23) وتبيَّن أن يوشيا في إصلاحه الديني أباد « السحرة والعرافين والترافيم والأصنام وجميع الرجاسات التي رئيت في يهودا وفي أورشليم » (ملوك ثاني 23/24). ومع ذلك، فقد وُجد بين اليهود من يسأل عن الترافيم حتى بعد الرجوع من بابل.

ولعل هذا التأرجح بين موقفين متناقضين تماماً هو تعبير آخر عن الخاصية الجيولوجية في اليهودية.

الأفـود (أصنام)

Ephod

«إفود» كلمة عبرانية لا يُعرَف معناها على وجه الدقة، وهي تُستخدَم في العهد القديم كمصطلح له معنيان مختلفان:

1 ـ فهو يجئ بمعنى صورة أو صنم تشبه الترافيم، في شكلها وطبيعتها ووظيفتها، كانت توضع في الهيكل. وقد صنع جدعون إفوداً لأعضاء جماعة يسـرائيل وأضلهم (قضاة 8/24 ـ 27). وقد صـنع ميخا، من قبيلة إفرايم، إفوداً وترافيم. ويبدو أن الهيكل في نوب كان يضم، في زمن شاؤول، إفوداً خُبئ وراء سيف جوليات (صموئيل أول21/10). وقد استمر استخدام الإفود حتى عصر الملوك. ولا نعرف بالضبط ما وظيفة الإفود، ويبدو أنها لم تكن موضع عبادة جماعة يسرائيل (على الأقل ليس دائماً) وإنما كانت تُستخدَم في معرفة المستقبل والتنبؤ به. وعلى أية حال، فإن استخدام صورة الزنى المجازية للإشارة إلى ما فعله أعضاء جماعة يسرائيل مع جدعون أمام الإفود يدل على قيامهم بشكل من أشكال العبادة الوثنية.

2 ـ المعنى الثاني يشير إلى رداء كان يرتديه الكاهن الأعظم. وقد ارتدى صموئيل إفوداً من الكتان وهو في شيلوه (صموئيل أول 2/18). وكذلك داود، حينما أحضرتابوت الإله إلى القدس (صموئيل ثاني 6/14). والإفود هو أيضاً رداء الكاهن الأعظم.

والإفود بمعناه الأول، واستمرار وجوده، وارتباط جماعة يسرائيل به، يدل على أن عبادة يسرائيل القربانية كانت تتضمن عناصر كثيرة غير توحيدية.

خيمــــة الاجتمـــــاع (خيــــمة الشــــهادة)

Tabernacle; Sanctuary; Tent of Congregation

«خيمة الاجتماع» أو «خيمة الشهادة» يقابلها في العبرية كلمة «مشكن»، أي «مسكن»، وكذلك «أوهيل موعيد»، أي «خيمة الاجتماع»، وهي خيمة أو خباء كان يحملها العبرانيون القدامى (جماعة يسرائيل) في تجوالهم، وكانت تُقام خارج المضارب ليسكن الإله فيها بين شعبه (حسب التصور العبراني) وليكشف فيها عن وجوده ويُبلغ إرادته، وليتوجَّه إليه فيها من يطلبه (خروج 33/7 ـ 11). فهو خباء المحضر أو خيمة الاجتماع. كما سُمِّيت أيضاً «بيت الإله». وعبارة «خيمة الاجتماع» تعبير عن الطبقة الحلولية قبل اكتمال الثالوث الحلولي (الإله - الشعب - الأرض) إذ لا يوجد سوى العنصرين الأول والثاني وحسب، ومن هنا تنقلهما في طريقهما إلى العنصر الثالث لتكتمل دائرة القداسة وتنغلق.

وفي يوم اكتمال بناء الخيمة، أظهر الإله ذاته على هيئة سحابة غطَّت الخيمة وملأتها. وبعد ذلك، تحوَّلت السحابة إلى عمود يسير أمام أعضاء جماعة يسرائيل في رحلاتهم، فكان إذا وقف العمود فوق الخيمة ينزل الشعب، وإذا انتقل نُقلت الخيمة وتبع الجمهور السحابة. وفي الليل، كانت السحابة تستحيل إلى عمود نار فيكون الإله سائراً أمامهم (خروج 13/20 ـ 22،40/34 ـ 37، عدد 9/15 ـ 23، 10/33 ـ 36، 11/24 ـ 25). وقد أتى وصف خيمة الاجتماع في سفر الخروج (26 ،27، 35، 38 ): قاعدتها مستطيلة، طولها ثلاثون ذراعاً وعرضها عشر أذرع وارتفاعها عشر أذرع أيضاً، وزواياها قائمة. والخيمة تكون محاطة بسور. وفي الفناء، بين الخيمة والباب الخارجي، كان يُقام مذبح المحرقة، وبجواره مغسلة من النحاس بين باب الخيمة والمذبح (بحر النحاس) يكون فيها ماء لغسل أيدي وأرجل الكهنة عند دخولهم المقدَّس. أما الجزء الداخلي، فيكون في أوله على اليمين مائدة خبز القربان (أو خبز الوجه «ليحيم هابانيم»)،وعلى اليسار شمعدان المنيوراه فمذبح البخور الذهبي الذي يُحرَق فيه البخور ليل نهار، ثم قلب المقدَّس الذي يُسمَّى «قدس الأقداس» ويضم تابوت العهد.وتُسمَّى خيمة الاجتماع «خيمة الشهادة» أيضاً لأنها تحوي لوحي الشهادة والوصايا العشر.

ويعكـس الجزء الكهنوتي من أسـفار موسى الخمسـة، في جانب منه، الفكر الديني لكهنة هيكل القدس، والذي يعلق أكبر الأهمية على أن يسكن الإله وسط شعبه. ومن هنا، فقد نقل ذلك الجزء مقر الخيمة من خارج المضارب أو المحلة إلى وسطها. وأصبح التصور أن الخيمة تنصب في الوسط، تحيط بها خيام الكهنة واللاويين ثم خيام بقية القبائل حواليهم في أربعة أقسام. وعندما انتهت رحلات الشعب، استقرَّت الخيمة في الجلجال (أول معسكر لجماعة يسرائيل بعد عبور الأردن ودخول أرض كنعان) ثم نُقلت إلى شيلوه حيث بقيت مدة ثلاثمائة أو أربعمائة سنة، ومنها انتقلت إلى جبعون ثم إلى الهيكل الذي تشبه بنيته بنية خيمة الاجتماع.

ويُلاحَظ تأثير هندسة المعبد المصري في خيمة الاجتماع بتقسيمها إلى المقدس وقدس الأقداس. ولا شك في أن تنظيم الكهنة هرمياً كان ذا أصل مصري أيضاً، فكان لا يُسمَح إلا لكبار الكهنة بدخول المقدس، ولم يكن يدخل قدس الأقداس سوى كبيرهم.

وكان أعضاء جماعة يسرائيل، كما تَقدَّم، يحملون خيمة الاجتماع معهم أينما ذهبوا، لتُقام في وسط مساكنهم. وقد أثارت إقامة مكان واحد للعبادة وتقديم القرابين جدلاً بين الكهان فيما بعد، فرأي كهان الهيكل المرتبطون بالحكومة المركزية أن القرابين لا تجوز إلا في الهيكل الكائن في العاصمة، والذي هو امتداد لخيمة الاجتماع. بينما رأي فريق آخر أن الحكمة من جعل الخيمة متنقلة هي جواز تقديم القرابين في أي معبد من المعابد المحلية.

وكلمة «تابرناكل Tabernacle» الإنجليزية تشير إلى كل من خيمة الاجتماع والسوكاه التي تُقام في عيد المظال.

تابوت العهد (تابوت الشهادة - سفينة العهد)

Ark of the Covenant

«تابوت العهد» أو «تابوت الشهادة» يقابلها في العبرية «أرون هابريت يهوه»، أي «تابوت ميثاق يهوه»، أو «تابوت يهوه صباءوت»، أي «رب الجنود» أو «التابوت المقدَّس». وفي اللغة العبرية، توجد كلمتان «تيبا» و«أرون»، بمعنى «صندوق»، وتُترجَمان إلى كلمة «آرك» الإنجليزية.

لكن الكلمة الأولى لا تُستخدَم إلا للإشارة إلى سفينة نوح، أو الصندوق الذي وُضع فيه موسى. أما الثانية، فتُستخدَم في سياق ديني بمعنى تابوت أو صندوق. وتابوت العهد من أكثر الأشياء المقدَّسة تعبيراً عن النزعة الحلولية في اليهودية، فكان أعضاء جماعة يسرائيل يتصورون أن روح يهوه تحل فيه، وكان الكهنة يحملونه في المعارك على أعمدة طويلة كرمز واضح على وجود يهوه وسط الجنود. وجاء في سفر العدد أن العبرانيين عندما رحلوا في البرية في أيام التيه، كان التابوت يُحمَل أمام الشعب، ويتقدمه عمود السحاب نهاراً وعمود النار ليلاً. وكان إذا حُمل التابوت يقول: «قم يارب فلتتبدد أعداؤك ويهرب مبغضوك من أمامك ». وإذا حل التابوت يقول أيضاً « ارجع يارب إلى ربوات ألوف يسرائيل » (عدد 10/33 ـ 36). وكان هذا التابوت يُعَدُّ أكثر الأشياء الشعائرية قداسة عند العبرانيين القدامى.

وحينما يكفُّ العبرانيون عن الترحال، كان التابوت يوضع في قدس الأقداس، داخل خيمة الاجتماع، حيث لا يراه إلا الكاهن الأعظم في يوم الغفران. ولكنهم كانوا يخرجونه أثناء معاركهم الحربية، فهو يضمن لحامله النصر، وهو الذي يُوجِّه الجنود أثناء المعارك.

وجاء وصف التابوت في سفر الخروج (25/10 ـ 22)، وهو صندوق مصنوع من خشب السنط طوله ذراعان ونصف، أي ثلاثة أقدام وثلاثة أرباع القدم، وكلٌّ من عرضه وارتفاعه ذراع ونصف، أي قدمان وربع القدم، مُحلَّى بالذهب من الداخل والخارج، يقف عليه ملاكان (كروبان) ناشرين أجنحتهما رمزاً للوجود الإلهي (شخيناه) بين الشعب المختار. وأصبح التابوت ذاته رمزاً للعرش الإلهي. ويُقال إن الإله قد أخبر موسى بأنه سيقابله بين الملاكين. ولم يكن يُسمَح لأحد بأن يمس التابوت باعتباره محرماً (تابو). وكان التابوت يحتوي على المن، وعصا هارون، ولوحى الشريعة أو العهد، ثم وُضع بجانبه كتاب التوراه، ولكن المن وعصا هارون كانا قد اختفيا مع حكم سليمان. ومن الواضح أن في هذا الوصف إسقاطاً لقيم وتخيلات مرحلة مركبة لاحقة على مرحلة التيه التي كانت تتَّسم بالبساطة والبداوة. كما أنه، بتطور الديانة اليهودية، جرى تفسير وجود التابوت تفسيراً أكثر عمقاً من التفسير السابق. فقد أصبح التابوت شيئاً مقدَّساً بناه موسى تنفيذاً لأمر الإله (ليضع فيه اللوحين اللذين كتب عليهما الوصايا العشر) ليحمله أعضاء جماعة يسرائيل معهم في ترحالهم، على أن يقوم أعضاء من سبط اللاويين بحمله. ثم وُضعت التوراة بجانب اللوحين، ومن ثم فإنه يُسمَّى أحياناً «تابوت الشهادة». وصار التابوت رمزاً للعهد مع الإله، وأصبح تلامُس جناحي الملاكين رمزاً للزواج المقدَّس بين الشعب والإله.

بقي التابوت مدة بالخيمة في الجلجال، ثم نُقل إلى شيلوه حين وقع في أيدي الفلستيين الذين أخذوه إلى أشدود ووضعوه بجانب صنم داجون. وحسب الرواية التوراتية، اضطر الفلستيون إلى إرجاعه بسبب الكوارث التي حاقت بهم، ثم نقل إلى القدس (بعد 300 أو 400 سنة) أثناء حكم داود. وقد حفظ سليمان التابوت، في قدس الأقداس بالهيكل، وسط العالم تماماً، وأمامه حجر الأساس الذي هو مركز الدنيا (حسب التصور اليهودي).

ويُقال إن منَسَّى وضع تمثالاً منحوتاً بدلاً من التابوت داخل الهيكل غير أن يوشيا أرجعه، وقال يوسيفوس عن التابوت إنه « لم يكن يحتوي على أي شيء بالمرة ».

ولم يأت ذكر التابوت ضمن الغنائم التي حملها البابليون معهم وأُعيدت فيما بعد. وثمة رأي يقول إن التابوت من بين مواد العبادة الشعائرية لقبيلة إفرايم، ويُوجَد داخله حجران يحل فيهما يهوه. كما يرى جوستاف لوبون أن تابوت العهد مقتبس من الفكر المصري القديم الذي كان يعرف نظائر عدة لهذا التابوت المقدَّس (مراكب الشمس). لكن الطقوس الدينية التي كانت تحيط بتابوت العهد تشير إلى طبيعة العبرانيين البدوية، كما تشير إلى أنهم كانوا شعباً متنقلاً كثير الترحال. ولا يُعرَف، على وجه الدقة، مصير هذا التابوت. فعند بناء الهيكل الثاني، لم يكن له من أثر ولم يأت ذكره، وإن قيل إنه مخبّأ فوق أحد الجبال أو تحت الهيكل إلى أن يعود الماشيَّح. وهناك رأي يذهب إلى أنه أُعيد بناؤه في هيكل هيرود. وعلى أية حال، فإن تابوت العهد لم يختف دون أن يترك أثراً في الديانة، وتابوت لفائف الشريعة هو امتداد لفكرة تابوت العهد. وهناك اعتقاد عند الإثيوبيين بأن تابوت العهد (الأصلي) موجود في إثيوبيا.

الباب الثانى عشر: الهيكل

الهيـــكل والعبــــادة القربانيـــة المركزيـــة

The Temple and the Central Sacrificial Cult

«الهيكل» كلمة يقابلها في العبرية «بيت همقداش»، أي «بيت المقدس»، أو «هيخال»، وهي كلمة تعني «البيت الكبير» في كثير من اللغات السامية (الأكادية والكنعانيةوغيرهما). والبيت الكبير أو العظيم هو الطريقة التي كان يُشار بها إلى مسكن الإله، فكلمة «فرعون» تعني «البيت الكبير» وهي تشبه إلى حدٍّ ما عبارة «الباب العالي». وقد تبدَّت الطبقة الحلولية اليهودية التي تراكمت داخل التركيب الجيولوجي اليهودي في شكل تقديس الأرض الذي تمثَّل في عبادة يسرائيل والعبادة القربانية المركزيةالمرتبطة بالدول العبرانية المتحدة (1020 ق.م) التي قام الكهنة بالإشراف على إقامة شعائرها. ومركز هذه العبادة القربانية هو الهيكل.

ومن أهم أسماء الهيكل «بيت يهوه»، لأنه أساساً مسكن للإله وليس مكاناً للعبادة (على عكس الكعبة مثلاً). ومن هنا، ورغم أنه كان مصرَّحاً للكهنة بل لعبيد الهيكل بالدخول فيه، فلم يكن يُسمَح لهم بالتحرك فيه بحرية كاملة. ولم يكن يُسمَح لأحد على الإطلاق بدخول قدس الأقداس إلا الكاهن الأعظم في يوم الغفران.

والهيكل أهم مبنى للعبادة اليسرائيلية، ومركز العبادة القربانية المركزية. وبعد هدمه عام 70م، لم يحل محله مبنى مركزي مماثل. وكان يحج إليه اليهود في أعياد الحج الثلاثة: عيد الفصح، وعيد الأسابيع، وعيد المظال. وبعد العودة من بابل، كان السنهدرين يجتمع في إحدى القاعات الملحقة به.

وفي بداية عباداتهم كان العبرانيون، أعضاء جماعة يسرائيل، يحملون في تجوالهم تابوت العهد الذي كان يُوضَع في خيمة الشهادة أو الاجتماع. ومع استقرارهم في كنعان كانوا يُقدِّمون الضحايا والقرابين والهبات للآلهة في هيكل محلي أو مذبح متواضع مبني على تل عال يُسمَّى «المذبح» أو «المحرقة». وكان هذا الوضع تعبيراً عن استقلالية القبائل وعلاقتها الفيدرالية. ومع هذا كان تابوت العهد يُعَدُّ مركز العبادة اليسرائيلية. وبعد تدمير شيلوه (1050 ق.م)، وبعد استيلاء الفلستيين عليه أحضره داود إلى جبل صهيون في القدس حيث بنى خيمة له. وقد ظهرت مراكز العبادة اليسرائيلية في أماكن مختلفة، ولكن أياً منها لم يفلح في أن يصبح مركزاً دينياً لكل القبائل العبرانية المتناثرة. ولذا فمع تَركُّز السلطة في يد الملوك تركزت العبادة القربانية نفسها في مكان واحد هو الهيكل في القدس. والتي كانت تقع على الحدود بين عديد من القبائل، كما أنها لم تكن تابعة لأيٍّ من القبائل باعتبار أنها من المدن التي تم الاستيلاء عليها مؤخراً. ولكل هذا، أصبحت القدس مركزاً دينياً للقبائل العبرانية، ومن ثم لعبادة يسرائيل القربانية. وتاريخ بناء الهيكل هو أيضاً تاريخ تَحوُّل عبادة يسرائيل (البدوية المتجولة أو القبلية الفدرالية) إلى العبادة القربانية المركزية (المستقرة).

الهــــيكل: مكانـته فـــي الوجـــــدان اليهــــودي

TheTemple: Its Status in the Jewish Imagination

يشغل الهيكل مكانة خاصة في الوجدان اليهودي، كما يعبِّر عن التيار الحلولي، فهو يُسمَّى «لبنان» لأنه يُطهِّر يسرائيل من خطاياها ويجعلها بيضاء كاللبن (وبذلك تم ربط الكلمة العبرية «لبن» بكلمة «لبنان»). وكان التصور أنه يقع في مركز العالم فقد بُنيَ في وسط القدس التي تقع في وسط الدنيا (فقدس الأقداس الذي يقع في وسط الهيكل هو بمنزلة سُرَّة العالم، ويُوجَد أمامه حجر الأساس: النقطة التي عندها خلق الإله العالم). والهيكل كنز الإله مثل جماعة يسرائيل، وهو عنده أثمن من السماوات بل من الأرض التي خلقها بيد واحدة بينما خلق الهيكل بيديه كلتيهما. بل إن الإله قرَّر بناء الهيكل قبل خلق الكون نفسه، فكأن الهيكل مثل اللوجوس (أو الكلمة المقدَّسة)، أو ابن الإله في اللاهوت المسيحي.

ويبدو أن الحاخامات اليهود قد أخضعوا الهيكل، منذ البداية، لكثير من التأملات الكونية. ويذهب أحد العلماء إلى أن هذه التأملات هي وحدها التي تفسر معمار الهيكل وتصميمه. وقد أورد يوسيفوس بعض هذه التأملات، فذكر أن الفناء الذي يحيط بالهيكل بمنزلة البحر، والمقدَّس هو الأرض، وقدس الأقداس هو السماء، والرقم (12)، وهو تعداد كثير من الأشياء الشعائرية، هو شهور السنة. بل إن رداء الكاهن الأعظم كان له أيضاً المغزى الكوني نفسه.

ويبدو أن الصورة المجازية الأساسية في القبَّالاه هي المقابلة بين الإنسان والكون، فالإنسان كون صغير (ميكروكوزم) يشبه الكون الأكبر (ماكروكوزم)، وهو تَصوُّر يعود إلى التأملات المبكّرة للحاخامات حيث كانوا يرون أن الهيكل يشبه جسم الإنسان.

ويشكل هدم الهيكل صورة أساسية في الوجدان الديني اليهودي، فهو يُذكَر عند الميلاد والموت. وعند الزواج، يُحطَّم أمام العروسين كوب فارغ لتذكيرهم بهدم الهيكل (وقد يُنثَر بعض الرماد على جبهة العريس). وفي الماضي، حينما كان اليهودي يطلي منزله، كان الحاخامات يوصـونه بأن يترك مربعاً صـغيراً دون طـلاء حتى يتذكر واقعةهدم الهيكل. وفي كل عام، يُحتفَل بذكرى هدم الهيكل بالصيام في التاسع من آب. وعند كل وجبة، ومع كل صلاة في الصباح، يتذكر اليهود الأتقياء الهيكل، ويصلون من أجل أن تتاح لهم فرصة العودة إلى الأرض المقدَّسة والاشتراك في بناء الهيكل. كما تُتلَى صلاة خاصة في منتصف الليل حتى يُعجِّل الإله بإعادة بناء الهيكل. ويذهب الشرع اليهودي إلى أن اليهودي يتعيَّن علىه أن يمزِّق ثيابه حينما يرى الهيكل لأول مرة وبعد مرور ثلاثين يوماً من آخر مرة رآه فيها. وفي القبَّالاه، يشكّل قدس الأقداسالمخدع الذي يضاجع فيه الملك، أي الإله، عروسه ماترونيت أو الشخيناه (وهي التعبير الأنثوي عن الإله، وهي أيضاً جماعة يسرائيل). ومن ثم، فإن هدم الهيكل يعني نفيالشخيناه، أي جماعة يسرائيل. ولكن هذا النفي ينعكس على الإله نفسه « فالملك بدونها ليس بملك وليس بعظيم ولا يُسبِّح أحد بحمده » على حد قول الحاخامات، أي أن هدمالهيكل يؤدي إلى شتات الشخيناه/الشعب وإلى نفيها. ومن ثم، فإن هدم الهيكل يؤدي إلى شتات الإله وبعثرته ونفيه. وهذا ممكن داخل إطار حلولي حيث يصبح الإله متوحداًتماماً مع مخلوقاته لا يفصل بينهما فاصل، وحيث يعني نفي الواحد نفي الآخر.

ويرى الصهاينة أن ظهور الصهيونية يعود إلى اللحظة نفسها التي هدم فيها تيتوس الهيكل وفرض على اليهود الشتات. وهم، بهذا، يعلمون الصورة الأساسية في الوجدان اليهودي، ويتبنونها كصورة أساسية في فكرهم السياسي، فيعمقون تَزاوُج الديني والدنيوي. ويقوم الصهاينة بالتأريخ لوقائع تاريخ العبرانيين، وتواريخ أعضاء الجماعات اليهـودية في فلسـطين، بمصطلحات مثـل «الهـيكل الأول» و«الهـيكل الثاني». ويشير بن جوريون وكثير من العلماء الإسرائيليين إلى دولة إسرائيل باعتبارها «الهيكلالثالث».

هيـــكل ســـليمان

Solomon's Temple

اشترى داود أرضاً من أرونا اليبوسي ليبني فيها هيكلاً مركزياً، ولكنه لم يشرع هو نفسه في عملية البناء (وتبرر التوراة ذلك بأن الرب منعه من ذلك لوقوعه في خطأ قتل أوريا الحيثي)، فوقعت المهمة على عاتق ابنه سليمان الذي أنجزها في الفترة 960 - 953 ق.م. ولذا، فإن هذا الهيكل يُسمَّى «هيكل سليمان» أو «الهيكل الأول». وحسب التصور اليهودي، قام سليمان ببناء الهيكل فوق جبل موريا، وهو جبل بيت المقدس أو هضبة الحرم التي يُوجَد فوقها المسجد الأقصى وقبة الصخرة. ويُشار إلى هذا الجبل في الكتابات الإنجليزية باسم «جبل الهيكل» أو «تمبل ماونت Temple Mount»، وهو بالعبرية «هر هبايت»، أي «جبل البيت» (بيت الإله).

ومن الصعب الوصول إلى وصف دقيق لهيكل سليمان، فالمصدران الأساسيان لمثل هذا الوصف هما كتاب الملوك الأول (6/8)، والأخبار الثاني (2/4) في العهد القديم، وهما مختلفان في عديد من التفاصيل المهمة. كما أن المصادر الأخرى تعطي تفاصيل تناقض أحياناً تلك التي وردت في هذين المصدرين الأساسيين.

وهيكل سليمان جزء من مُركَّب معماري ملكي يضم قصر الملك ومباني أخرى، مثل: بناء للصناع، وقاعة للاجتماعات، وبهو للعرش، وبـهو للمحكمـة العليا، وبناء كبير للحريم، وبيت لابنة فرعون زوجة سليمان. وكان هذا المركب المعماري ملحقاً به المذبح الصغير الذي يضم تابوت العهد. وكان يحيط بكل هذه المباني فناء واسع. وكانمثل هذه المركبات المعمارية أمراً شائعاً في الشرق الأدنى القديم. وقد أُقيم هيكل سليمان مكان المذبح الصغير، يحيط به فناء مقصور عليه، أعلى من الفناء الخارجي، ومنثم فهو يفصله عن المركب المعماري الأكبر. وكان أفراد الشعب، أو (العبرانيون أو جماعة يسرائيل) يجتمعون في هذا الفناء في مواسم الحج والمناسبات الأخرى. وكانت هناك عدة بوّابات يمكن دخول فناء المعبد من خلالها. وثمة إشارة إلى البوابة العليا، وبوابة الملك، والبوابة الجديدة، وبوابة المجلس، وبوابة السجن، ولكننا لا نعرفمواقعها الحالية على وجه الدقة. وتبلغ أبعاد هيكل سليمان 90 قدماً طولاً و30 قدماً عرضاً و45 قدماً ارتفاعاً. وهو لا يختلف كثيراً في تقسيمه الثلاثي (المدخل، والهيكلأو البهو المقدَّس، وقدس الأقداس) عن الهياكل الكنعانية. كما تم العثور على هيكل في سوريا، بجوار قصر ملكي يعود تاريخه إلى القرن الثامن أو التاسع قبل الميلاد، يكاديكون نسخة من هيكل سليمان.

ولوصف محتويات الفناء (كما يراها المتقدم من الخارج إلى الداخل)، نقول: على يمين الداخل إلى المعبد، ساحة تسميها بعض المراجع ساحة الكهنة. وعلى مقربة من المعبد نفسه، هناك حوض مصبوب من البرونز لحرق الذبائح، وعلى اليسار يوجد حوض يُسمَّى «بحر النحاس» أو «البحر المسبوك»، وهو إناء ضخم قاعدته مكونة من اثنى عشر ثوراً تمثل القبائل العبرانية، وتتجه كل ثلاثة منها إلى إحدى الجهات الأصلية. وكان الكهنة يغتسلون في هذا الحوض، ولكن بعض الباحثين يذهبون إلى أنه ذو دلالة رمزية فقط وليست له أية وظيفة عملية. ويبدو أنه كان هناك أيضاً عشرة أحواض من النحاس تُغسَل فيها الذبائح.

ثم يصعد الداخل عشر درجات (1) (الأرقام تقابل تلك الموجودة في مخطط هيكل سليمان) في مرقاة تفضي إلى رواق معمَّد، وهناك سيجد عمودي ياقين (2) وبوعز (3) يقفان بلا سقف يحملانهما، ويُقال إنهما قد يكونان رمزين لآلهة دينية بدائية قديمة. ويذهب أحد علماء العهد القديم إلى أنهما كانا يُستخدمان كمذبحي نار تُحرَق فيهما شحوم الحيوانات، أو ربما كانا رمزين لشجرة الحياة أو مبخرتين. ويذهب أحد العلماء إلى أن كلمتي «ياقين» و«بوعز» هما أول كلمتين في شعارين ملكيين، أولهما يقول: "ليؤسس (ياقين) الرب عرش داود ومملكته لورثته إلى الأبد"، ويقول الثاني: "بمقدرة (بوعز) الرب سيفرح الملك". كما أن هناك رأياً آخر يذهب إلى أن العمودين هما رمز الشمس والقمر، أو رمز عمود الدخان وعمود النار اللذين كانا يتقدمان العبرانيين في الصحراء. وبعد العمودين، توجد قاعة المدخل (4) بعداها 25, 16 و32 قدماً، ويُطلَق عليها لفظ «أولام» (والكلمة من الأكادية وتعني الواجهة)، ووظيفتها فصل الهيكل (المقدَّس) عن العالم الخارجي (المدنَّس). ويُوجَد في الواجهة باب المعبد الخارجي الذي يفتح على البهو المقدَّس(5)، والذي يُشار إليه باسم «بيت هامقداش» أي «البيت المقدَّس» أو «بيت أدوناي»، أي «بيت الإله». وهو أيضاً «الهيكل» و«الحرم» و«المقدَّس»، وبعداه 65 و32.5 قدم، وهو الجزء الذي كانت تتم فيه معظم شعائر العبادة القربانية، فكأنها هي الهيكل وما عداها ملحقات.

وكانت حوائط البهو المقدَّس وأرضه مغطاة بخشب السرو، وكانت الحوائط مطعمة بالذهب ومنقوشة عليها صور نخيل وأزهار وملائكة. أما سقفه وأبوابه فكانت من خشب الأرز، يقف على جانبيه عشرة شمعدانات ذهبية (مينوراه)، خمسة عل كل جانب، ويُقال إنها كانت موضوعة على عشر موائد. كما أن الهيكل كان يضم مذبحاً للبخور مطعماً بالذهب (ويُلاحَظ أن الأواني القربانية الموجودة خارج الهيكل مصنوعة من البرونز أو النحاس، أما داخله فمن الذهب، وهو ما يرمز إلى تَزايُد درجات القداسة). وكان الهيكل يضم أيضاً مائدة «خبز التقدمة» أو «خبز الوجه» الذي يُقدَّم لوجه الإله. وهذه عادة وثنية حيث كان الكهان يقومون بإطعام الإله (كما كان الحال عند المصريين القدماء). وكان هـذا الجزء الداخلي من الهـيكل مزوداً بنوافذ، ولا يدخله سوى الكهنة، وإن كان يُسمَح عند الضرورة بدخول عبيد الهيكل للقيام بالأعمال التي لا قداسة لها. ويلي ذلك بابان من خشب الأرز مطعمان بالذهب ويفتحان على غرفة مربعة (32.5× 32.5 قدم) لا نوافذ لها، أرضها أكثر ارتفاعاً من أرض الهيكل، ولذا فإن ارتفاع الحجرة كان 32.5 قدم أيضاً وهو ما يجعلها مكعباً تماماً. هذه الغرفة هي قدس الأقداس (6) التي لا يدخلها سوى كبير الكهنة في يوم الغفران، فينطق باسم يهوه الذي كان محرَّماً على اليهود النطق به. وفي داخل محراب قدس الأقداس نفسه، يوضع تابوت العهد أو تابوت الشهادة، وعلى يمينه ويـساره كان هنـاك تمثالا مـلاكين (كروبين) مذهبان من خشـب الزيتون بارتفـاع 10 أذرع وطـول جنـاح الملاك 5 أذرع، وهما رمز الحماية الإلهية. وتابوت العهد أهم الأشياء الشعائرية لأنه إذا كان الهيكل بيت الإله، فالتابوت هو المكان الذي يرمز إلى وجوده في الهيكل، وإلى حلوله بين الشعب. والهيكل يتجه من الغرب إلى الشرق، وتحيط به مبانٍ من ثلاثة طوابق من جميع الجوانب ما عدا البوابة، وقد كانت هذه المباني مقسمة إلى حجرات وصوامع لتخزين الأواني والكنوز والهدايا بل أحياناً الأسلحة (7). وقد بُني الهيكل على هيئة قلعة الأمر الذي كان يدعم دوره في السياسة المحلية والدولية كمصدر للشرعية.

وكان العبرانيون القدامى يجهلون أصول فنون الهندسة والعمارة وألوان الفنون الأخرى، نظراً لحياتهم البدوية كرعاة، ونظراً لعدم وجود تقاليد حضارية ثابتة لديهم، على خلاف الحال في مصر وبعض البلاد المجاورة. ولكل هذا، فحينما بدأ سليمان في تشييد الهيكل، استجلب المهندسين والبنائين من صيدا وصور، إذ ساعده ملكها وحليفه حيرام فصنع له أواني الهيكل التي قام بتنفيذها رجل نصف يهودي من صور. أما الأعمال التي لا تحتاج إلى كثير من المهارة، فقد حُشد لها 180 ألف عامل (30 ألف عبراني و150 ألف كنعاني، وكان هناك ثلاثة آلاف يعملون رؤساء للعمال). وكان العمال مسخرين على ما جرت به العادة في تلك الأيام. وقد تم استيراد القسم الأعظم منمواد البناء من فينيقيا. وثمة إشارة في العهد القديم، وفي الأساطير الدينية اليهودية، إلى عدم استخدام أية أدوات حديدية في قطع أحجار البناء. وقد كرس سليمان جزءاً كبيراً من ثروة الدولة والأيدي العاملة فيها لبناء الهيكل. ولذا، فبعد الانتهاء منه، قامت عدة ثورات انتهت بانقسام الدولة العبرانية المتحدة وتساقط العبادة القربانية المركزية.

وكما أسلفنا، لا يختلف هيكل سليمان في معماره عن الهياكل الكنعانية التي يبدو أنها تأثرت بالطراز الفرعوني الذي أخذه الفينيقيون من مصر وأضافوا إليه ما أخذوه من الآشوريين والبابليين من ضروب التزيين. ولذلك، فإن الطراز الذي بُني عليه الهيكل يُسمَّى «الطراز الفرعوني الآشوري»، وذلك على عكس هيكل هيرود الذي اتبع أساليب المعمار اليوناني الروماني. وقد كان العبرانيون يعتقدون أن هيكل سليمان إحدى عجائب العالم، لكن هذا كان راجعاً إلى جهلهم بأن هناك معابد مصرية وآشورية عجيبة في ضخامتها.

وقد فقد الهيكل كثيراً من أهميته عند انقسام مملكة سليمان إلى مملكتين صغيرتين (928 ق.م)، إذ شيَّد ملوك المملكة الشمالية مراكز مستقلة للعبادة. فبنى يربعام معبدين أو هيكلين أحدهما في دان بالشمال والآخر في بيت إيل، وجعل فيهما عجولاً ذهبية، واتخذهما مزاراً ملكياً مقدَّساً له. وقد أحاط المعبدين بهالة من القدسية حتى يضرب العبادة المركزية ويحول دون ذهاب مواطني مملكته إلى هيكل القدس. ورغم التحالفات التي كانت تُعقَد أحياناً بين ملوك الشمال والجنوب، فإن الهيكل لم يستعد قَطّ مركزيته القديمة. ومن المعروف كذلك أن أونياس الثالث (أو الرابع)، الكاهن اليهودي الأعظم الذي خُلع من منصبه في فلسطين، فرّ إلى مصر وشيَّد معبداً آخر (في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد) في لينتوبوليس على موقع أحد المعابد المصرية القديمة، وذلك بهدف تقديم الخدمات الدينية للجماعة اليهودية في مصر. وقد تم ذلك بإيعاز من البطالمة لخلق مركز جذب يهودي في مصر يهيمن عليه البطالمة. وكثيراً ما كان ملوك اليهود يضطرون إلى إدخال العبادات غير اليهودية تعبيراً عن تحالفاتهم السياسية. فأنشأ سليمان مذابح لآلهة زوجاته الأجنبيات، الأمر الذي يتنافى مع مبدأ التوحيد. كما أن العبادات المختلفة كانت تعبيراً عن التبعية السياسية، فقد أدخل منَسَّى العبادة الآشورية تعبيراً عن خضوعه للآشوريين. وهجم فرعون مصر شيشنق على مملكة يهودا ونهب نفائس الهيكل، كما هاجمه يوآش ملك المملكة الشمالية ونهبه هو الآخر. وقد هدم نبوختنصر البابلي هيكل سليمان عام 586 ق.م، وحمل كل أوانيه المقدَّسة إلى بابل.

هيـــكل زروبابــــل

Zerubabel's Temple

مع هدم هيكل سليمان قام زروبابل (أحد كبار الكهنة الذين سمح لهم الإمبراطور الفارسي قورش بالعودة إلى فلسطين) بإعادة بناء الهيكل في الفترة 520 ـ 515 ق.م، أي في أربعة أعوام (في حين استغرق بناء هيكل سليمان سبعة أعوام)، ويُسمَّى هذا الهيكل «هيكل زروبابل». ويذكر العهد القديم أن الهيكل الثاني بُني بأمر من إله يسرائيل، وبأمر أباطرة الفرس: قورش ودارا الأول وأرتحشتا (عزرا 6/14). ولذا، فقد كانت تُقدَّم فيه قرابين يومية لصالح حامي صهيون الوثني. وكان مرسـوماً على مدخله خريطة لمدينة سوسة عاصمة الإمبراطورية الفارسية. ولم يكن هذا الهيكل (هيكل زروبابل) في عظمة هيكل سليمان. ولا تُوجَد إشارات كثيرة إلى شكله المعماري ولا إلى تقسيمه، ولكن معظم الباحثين يميلون إلى القول بأنه لم يكن يختلف كثيراً عن الهيكل الأول في بنيته، ويعود هذا إلى أنه حينما هاجم نبوختنصر هذا الهيكل، فإنه لم يهدمه وإنما نهبه وحرقه. ولكن لم تحترق سوى الأجزاء الخشبية كالسقف والبوابات الخشبية وكسوة الحوائط الخشبية. أما الهيكل المعماري، فقد بقي كما هو، فاستخدمه العائدون من بابل دون تغيير. أما فيما يتصل بمحتويات الهيكل، فنحن نعرف أن قدس الأقداس كان فارغاً تماماً لأن سفينة العهد قد اختفت، ولم تكن توجد سوى صخرة عالية يضع الكاهن الأعظم عليها المبخرة. وكان هيكل زرو بابل يضم أيضاً أواني هيكل سليمان الأخرى كالشمعدانات الذهبية ومائدة قربان الوجه ومذبح البخور.

وقد لعب هذا الهيكل، مثله مثل سابقه، دوراً أساسياً في إسباغ شرعية على فئة الكهنة التي صارت الفئة الإدارية الأساسية في مقاطعة يهود (أو يهودا) الفارسية. ولأن النظام الملكي لم يُسترجَع، فقد اكتسبت النخبة الكهنوتية والعبادة القربانية أهمية خاصة، وأصبح استرجاع الملكية جزءاً من عالم آخر الأيام وحسب. وقد نهب أنطيوخوس الرابع هذا الهيكل في القرن الثاني قبل الميلاد، وبنى فيه مذبحاً لزيوس. ويُقال إن خلفاءه قدموا أواني الهيكل للمعبد اليهودي في أنطاكية. وعند اندلاع التمرد الحشموني، أعاد المتمردون تكريس الهيكل ووُضعت فيه أوان وأدخلوا عليه بعض التعديلات. وقد اجتاحه بومبي، ونهبه كراسوس بعد ذلك.

هيكـل هــيرود (الهيـكل الثـــاني)

(Herod's Temple (Second Temple

«هيكل هيرود» هو الهيكل الذي بناه الملك هيرود (27 ق.م ـ 4م) الذي عيَّنه الرومان ملكاً، أي حاكماً رومانياً يحمل لقب «ملك» ويشار إلى هذا الهيكل بأنه «الهيكل الثاني». وفي بعض الأحيان يُستخدَم هذا المصطلح الأخير للإشارة إلى الهيكل الذي أسَّسه زروبابل، وبذا يكون هيكل هيرود الهيكل الثالث (وإن كان هذا المصطلح الأخير يشير عادةً إلى الهيكل الذي سيُشيَّد في آخر الأيام مع بداية العصر المشيحاني). وحينما اعتلى هيرود العرش، وجد هيكل زروبابل متواضعاً للغاية، فقرر بناء هيكل آخر لإرضاء اليهود، ولكنه قرر أن يبني في الوقت نفسه معبداً لآلهة مدينة روما حتى ينال رضا الإمبراطور أوغسطس ويثبت ولاءه له. ويبدو أن هذا المعبد الروماني الوثني كان لا يختلف كثيراً في بنيته المعمارية عن الهيكل اليهودي. وقد بدأ هيرود في بناء الهيكل عام 20 ـ 19 ق.م، فهدم الهيكل القديم واستمر العمل في البناء وقتاً طويلاً، فمات دون إتمامه، واستمر البناء حتى عهد أجريبا الثاني (64م)، بل كانت لا تزال هناك حاجة إلى اللمسات الأخيرة حينما هدمه تيتوس عام 70م. ولما كانت أهداف الهيكل دنيوية إلى حدٍّ كبير (أي لزيادة هيبة الدولة)، فإننا نجد أن التركيز كان على رموز الدولة، ولذلك فقد بُني الهيكل على الطراز اليوناني الروماني السائد. وقد وسَّع هيرود نطاق الهيكل ليضم مساحة واسعة، فبنى سلسلة من الحوائط مكوَّنة من صفين من الأعمدة طولهما 5050 قدماً، تضم منطقة مساحتها 915×1520×1595×1025 قدماً. ويمكن الوصول إلى الهيكل من خلال عدة بوابات وأربعة جسور. وكان ملاصقاً للسور برج أنطونيا الذي بناه سيمون الحشموني (البيرة). وقد قام هيرود بتوسيعه وإصلاحه وأعاد تسميته، فنسبه إلى قيصر روما مارك أنطوني، وكانت تحتله حامية رومانية. وكان السور يضم أروقة معمَّدة أكبرهاالرواق الملكي الذي كان على شكل بازيليكا (مبنى روماني مستطيل في أحد طرفيه جزء ناتئ نصف دائري) كان يتجمع فيه التجار الذين يبيعون ذبائح القرابين والصرافون الذين يحوِّلون العملات إلى الشيكل المقدَّس الذي كان على اليهود دفعه للهيكل. وكان هناك داخل هذه الأسوار مباشرة ما يُسمَّى «ساحة الأغيار» لأن غير اليهود كان مسموحاً لهم بالدخول فيها. ثم تتوالى الساحات الأخرى على هيئة مصاطب، وكان هناك حائط شبكي حجري يفصل ساحة الأغيار عن الهيكل نفسه.

وكان يمكن الوصول إلى الهيكل من خلال بوابة تُسمَّى «البوابة الجميلة» (1) (الأرقام تقابل تلك الموجودة في مخطط هيكل هيرود).

تليها الساحة الأمامية وهي ساحة النساء (2) التي كان يحيط بها أربع حجرات للأخشاب (3) والمصابين بالبرص (4) والمنذورين (5) والزيوت (6). وكان هناك سلم له اثنتا عشرة درجة (7) يؤدي إلى بوابة تُسـمَّى «بوابة نيكانور» سمـاها يوسيفوس «البوابة الكورنثية» (8). وكان الكهنة (اللاويون) يقفون على هذه الدرجات وينشدونأناشيدهم فتشاهدهم النساء. وبعد ذلك، ساحة اليسرائيليين أو الرجال (9). وفي أقصى يسار الداخل، كانت هناك غرفة مصنوعة من الحجر المنحوت، وهي التي كان يجتمع فيها السنهدرين (10). وبعد ذلك، على اليسار أيضاً، كان هناك المذبح لتقديم القرابين (11). وكان على اليمين مكان الذبح (12) ويقابله ساحة الكهنة (13) في منتصفها سلم (14) يؤدي إلى الهيكل نفسه، وعلى يساره مغسل (15) يغتسل فيه الكهنة. وكانت بعض شعائر العبادة القربانية تتم في ساحة الكهنة. وكان الهيكل نفسه مبنياً من الرخام الأبيض يزينه رواق معمَّد في واجهته (16). وحينما كان باب الهيكل يُفتَح، كان بوسع الناس أن يروا الحرم. وكان هيكل هيرود، مثله مثل الهيكـل الأول، مُقسَّماً إلى البهـو المقدَّس (17) وقـدس الأقداس (18). ويحتوي البهو المقدَّس على شمعدانات المينوراه، ومائدة خبز الوجه ومذبح البخور. وكان سقفه من خشب الأرز المطعم بالذهب. وكان مزوَّداً بنوافذ على عكس قدس الأقداس الذي كان مظلماً وخاوياً. ولم يكن الحائط الغربي أو حائط المبكى جزءاً من الهيكل نفسه وإنما كان جزءاً من سوره الخارجي الذي أشرنا إليه. والوصف السابق لهيكل هيرود هو الذي ورد عند يوسيفوس. وهو مختلف عن الأوصاف التي وردت في كتب المدراش. وقد هدم تيتوس الهيكل الثاني عام 70م.

الهيـكل الثــاني

Second Temple

يُشار بتعبير «الهيكل الثاني» إلى هيكل هيرود الذي هدمه تيتوس.

الهيكـل الثالث

Third Temple

«الهيكل الثالث» مصطلح ديني يهودي، يشير إلى عودة اليهود بقيادة الماشيَّح إلى صهيون لإعادة بناء الهيكل في آخر الأيام. ويُشار إلى ذلك بتعبير «الهيكل الثالث» إذ أن الأول هو هيكل سليمان الذي هدمه نبوختنصر، والثاني هو هيكل هيرود الذي هدمه تيتوس، والثالث والأخير هو الذي سيُبنى في العصر المشيحاني، وبالتالي فهو مرتبط بالرؤى الأخروية لا بالتاريخ الإنساني. ومع هذا، فقد عَلمن الصهاينة هذه الرؤية وجعـلوا الاسـتيطان الصهيوني هوالعودة المشـيحانية. وبالتالي، فإن الدولة الصهيونية هي الهيكل الثالث أو الكومنولث الثالث. ويُستخدَم هذا المصطلح، في أحيان نادرة، للإشارة إلى هيكل هيرود باعتبار أن الهيكل الثاني هو هيكل زروبابل الذي هدمه هيرود ليبني هيكله.

مراسم العبادة في الهيكل

Temple Rituals

كانت مراسم العبادة في الهيكل تختلف من فترة إلى أخرى، ولكن ملامحها الأساسية ظلت ثابتة. ففي كل صباح، كان أحد الكهنة ينظف ضريح القرابين من الرماد ثم يُذكي النيران. وبعد ذلك، كانت تُقدَّم قرابين اليوم (الجديدة) المكونة من حَمَل وخبز ومشروبات. وكان الكاهن الأعظم (أو من ينوب عنه) يدخل البهو المقدَّس، وينظف الشـمعدانات، ويحرق البخور على مذبـح البخور، ويُقدِّم قربان خبز الوجه. وعند الغروب، كانت معظم الشعائر تُعاد من جديد. كان هذا هو النمط السائد للعبادة والقرابين في الأعياد وفي يوم السبت. وكان الكاهن الأعظم يدخل قدس الأقداس في يوم الغفران، وكان التفوه باسم يهوه يمثل ذروة هذه العبادة، حيث كانت هذه اللحظة تشكل نقطة التماس بين الإله والشـعب والأرض، فهي النقـطة التي يتجسـد فيها الحلول الكامل.

والعبادة القربانية المركزية تدور في إطار حلولي، ولذا يُلاحَظ أن القداسة تتغلغل تماماً في المؤسسات القومية السياسية، وكان المعبد المركزي (الملحق بالقصر الملكي) والعبادة القربانية المركزية هما التعبير المتعين عن تَداخُل المطلق والنسبي والمقدَّس والزمني. وقد كانت الشرعية السياسية متداخلة تماماً مع الشرعية الدينية، ولذا يُلاحَظ أن تأسيس الأسر المالكة في الشرق الأدنى القديم يصاحبه دائماً تأسيس معبد مركزي حتى يمكنها تركيز السلطة. ولم يشكل العبرانيون القدامى (جماعة يسرائيل) استثناء من القاعدة، فقد تم تأسيس الهيكل المركزي ليصبح الرمز الواضح والمتجسد للحلول الإلهي وللشرعية الدينية التي كان يحتاج إليها النظام السياسي. فكان حكم الأسرة الداودية (نسبة إلى داود) يستند إلى الهيكل. وعلى مستوى العلاقات الدولية، كان الهيكل يعطي الدولة الجديدة هيبة أمام الزوار الأجانب، ويؤكد لهم شرعية النظام الجديد، كما أن هيمنة الدولة العبرانية عـلى بعـض المناطق المجاورة لها كان يتم بموافقة الكهنة، ويهوه بطبيعة الحال.

وكان تركيز العبادة القربانية تركيزاً لموارد الدولة أيضاً، وقد كانت القرابين من أهم هذه الموارد إلى جانب الضرائب وجزية الرؤوس التي فرضها سليمان على جميع رعاياه بحيث كان على كل ذكر يهودي أن يدفع نصف شيكل كل عام (وهو الشيكل المقدَّس). لهذا، لم يسمح بتقديم أية قرابين خارج الهيكل بعد تأسيسه. وكان الهيكل، شأنه شأن كثير من الهياكل في الشرق الأدنى القديم، مصرفاً يضع فيه الأثرياء نقودهم ويرسلون إليه النذور والقرابين، كما كانت تُحفَظ فيه رموز الدولة وطنافسها.

وقد استمر هذا الوضع مع هيكل هيرود الذي أشار إليه ول ديورانت بأنه « المصرف القومي»، وأشــار إليـه يهـودا مينوهـين بأنـه «الهيكل/السوق »، حيث كان يُوجَد الباعة وتجار الماشية والصيارفة، وكان هذا هو سرّ غضب السيد المسيح عند زيارته للهيكل.

ولما كان الهيكل هو الخزانة القومية أو المصرف القومي للدولة العبرانية المتحدة (ثم المملكة الجنوبية)، فإننا نجد أن القوات الغازية كانت تحاول نهبه أثناء الحروب كجزء من الحرب الاقتصادية وكجزء من محاولة ضرب الشرعية السياسية.

وكان الكهنة اللاويون يقومون على خدمة الهيكل، يترأسهم الكاهن الأعظم، وهو ما جعل فئة الكهنة من أكثر الفئات نفوذاً. وكانت فرقة الصدوقيين تعبِّر عـن مصالح هـذه الفئة وتدافع عن عبادة الهيكل القربانية. أما فرقة الفريسيين، فكانت تمثل المعارضة. ولذا، فقد كانت هذه الفرقة تؤيد إنشاء المعابد اليهودية المستقلة لأنها تحقق انفصال اليهودية عن الهيكل والكهنة.

وكان يقوم بالأعمال الوضيعة مجموعة من عبيد الهيكل في هيكل سليمان يُشار إليهم بالنثينيم أو الجبعونيين.

قـدس الأقــداس

Holy of Holies

مصطلح «قدس الأقداس» تقابله في العبرية كلمة «دبير»، ويبدو أنها من أصل عبري بمعنى «تكلم»، أي أن الإله تكلم وأعطى المشورة والوحي. وهو أقدس الأماكن في هيكل القدس. وقدس الأقداس عبارة عن مكعب حجري مصمت (بدون نوافذ) أقيم على مستوى أعلى من الجزء المسمَّى «الهيكل» في هيكل سليمان. وكان قدس الأقداس يضم تابوت العهد (تماماً مثل قدس الأقداس في خيمة الاجتماع) والذي كان يزينه ملاكان يشبهان الملائكة التي تظهر في الرسـوم البابلــية، وربمـا كان لهما وجهان بشريَّان مثل تلك الرسوم. وقــد قـام بتصمـيم هـذين الملاكــين (والأوعـية المقـدَّسة والأدوات الطقوسية الأخرى) فنان من صور بأمر حيرام ملك صور. وربما نُفِّـذ التمثــال في هيـكل هيرود بشكل أقرب إلى الفن التجريدي، دون تفاصيل واقعية، وذلك احتراماً لنهي التوراة عن اتخاذ التماثيل المنحوتة، فكان الملاك الحارس يتخذ شكل كتلة وسطى يحف بها جناحان مدببان. وربما جاء من هنا الاعتقاد الشعبي لدى الرومان بأن اليهود يعبدون في قدس الأقداس صنماً على شكل رأس حمار إذ بدا لهم جسم الملاك (كروب) بين الجناحين كرأس حمار بين الأذنين الطويلتين، وذلك إذا وضعنا في الحسبان الفرق الشاسع بين الفن الرومـاني الوثنـي التمثيلي والفن العبري الذي كان قد بدأ يميل نحو التجريد كما هو الحال في الحضارات السامية.

وكان التصور السائد أن الملاكين هما رمز لاسمي الإله يهوه وإلوهيم، وأن روح الإله (الشخيناه) تحل في هذا التابوت. وكان يفصل قدس الأقداس عن بقية الهيكل ستارة وسلسلة من الذهب أو باب. ولم يكن يدخله سوى كبير الكهنة في يوم الغفران ليتفوَّه باسم الإله (يهوه) الذي لا يستطيع أحد أن يتفوه به في أي مكان أو زمان (ولعل التـأثير المصـري واضـح في هـذه العـادة). وجاء في الأجاداه أن فلســطين توجد في مركز الدنيـا والقدس في وسـط فلسـطين، والهيكل في وسط القدس، ويقع قدس الأقداس في وسط الهيكل، أي أن قدس الأقداس يقع في وسط الدنيا تماماً ويُوجَد أمامه حجر الأساس. ويزعم بعض الحاخامات أن حجر الأساس هو الصخرة الشريفة الموجودة في مسجد الصخرة. ويُعتبَر قدس الأقداس، في التأملات الكونية التي تخص الهيكل، السماء السابعة.

ولما كان قدس الأقداس أكثر الأماكن قداسة لدى اليهود ولا يحق لهم أن تطأه أقدامهم، لذا فإنه يَحرُم عليهم أن يذهبوا إلى جبل موريا (جبل بيت المقدس) أو هضبة الحرم التي يُوجَد فيها المسجد الأقصى، وذلك حتى لا يدوسوا على الموضع القديم لقدس الأقداس عن طريق الخطأ. ويزعم شلومو جورين أن أبحاثه قد حدَّدت (على وجه الدقة) مكان قدس الأقداس، ومن ثم يحق لليهود دخول منطقة المسجد الأقصى.

جـــبل الهيـكل

Temple Mount

«جبل الهيكل» مصطلح يقابله في العبرية تعبير «هر هبايت». ويُشار إليه في الدراسات العربية بمصطلح «هضبة الحرم». كما يُقال له أيضاً «جبل موريا» و«جبل بيت المقدس»، وهي منطقة في جنوب شرقي القدس. ويذهب اليهود إلى أن الهيكلين الأول والثاني قد شُيِّدا على هذه الهضبة، وأن تضحية إبراهيم بإسحق تمت على هذا الجبل. وتُعتبَر هذه البقعة أكثر الأماكن قداسة بالنسبة إلى اليهود. ومن ثم، فإنهم لا يمكنهم دخولها إلا بعد تطبيق بعض شعائر الطهارة التي تحتاج إقامتها إلى رماد البقرة الحمراء، وهو أمر مستحيل في الوقت الحاضر، ومن ثم يذهب معظم فقهاء اليهود إلى أن من المحرَّم على اليهود دخول هذه المنطقة.

ويُوجَد في هـذه المنطقـة ما يزيد على مائة أثر إسـلامي، من أهمهـا: المسجد الأقصى ومسجد القبة.

الحـــــــج

Pilgrimage

يتعيَّن على كل يهودي أن يحج ثلاث مرات في العام إلى القدس: عيد الفصح، وعيد الأسابيع، وعيد المظال. ولذا، فإن هذه الأعياد تُسمَّى «أعياد الحج». وقد جاء في العهد القديم (تثنية 16/16) «ثلاث مرات في السنة يحضر جميع ذكورك أمام الرب إلهك في المكان الذي يختاره في عيد الفطير [الفصح] وعيد الأسابيع وعيد المظال، ولا يحضروا أمام الإله فارغين ». ولذلك، كان اليهود يقدمون في حجهم قرباناً مشوياً للهيكل («الشواء» يقابلها في العبرية كلمة «شواه» وفي اليونانية كلمة «هولوكوست»)حيث كان يُشوَى إلى أن يحترق تماماً فلا يبقى منه شيء للكهنة.

وكان اليهود في بادئ الأمر يحجون إلى مكان غير القدس يُسمَّى «شيلوه». ولكن حينما دخل داود إلى القدس، أصبحت القدس مكان العبادة اليسرائيلية والمكان الذي يحج إليه أعضاء جماعة يسرائيل. وقد أسس ملوك المملكة الشمالية هيكلاً حتى لا يحج أحد من المملكة إلى القدس في المملكة الجنوبية، كما أن أونياس بنى هيكلاً في مصر للغرض نفسه بإيعاز من البطالمة. وقد توقف الحج تماماً بعد هدم الهيكل، ومع هذا استمر بعض اليهود في الحج في الأيام المذكورة، وخصوصاً في عيد المظال. وقد بُعثت فكرة الحج في العصور الوسطى تحت تأثير القرّائين. أما الآن، فلا يؤدي فريضة الحج سوى المغالين في التقوى والورع.

هــــــــدم الهيــــــــكل

Destruction of the Temple

تشير عبارة «هدم الهيكل» عادةً إلى عملية هدم الهيكل على يد تيتوس عام 70م، وإن كان من المعروف أن نبوختنصر كان قد هدمه من قبل عام 586 ق.م. كما أنهيرود هدمه عام 20 ـ 19 ق.م، ليعيد تشييده مرة أخرى. وقد هُدم الهيكل، حسب الكتابات الفقهية اليهودية، في التاسع من آب، ولذا يصوم اليهود في ذلك اليوم. لكن هناك من يذهب إلى أن هدم الهيكل تم في 7 أو حتى 10 آب. ولحسم هذا التناقض، تقول هذه الكتابات إن هدم الهيكل بدأ في التاسع من آب وانتهى في العاشر منه. وتذهب الكتابات الصهيونية، والمتأثرة بها، إلى أن هدم الهيكل على يد الرومان هو الذي تَسبَّب في تشتت اليهود في المنفى على هيئة أقليات، مع أن انتشار اليهود في بقاع الأرض كافة كان قد بدأ قبل ذلك بزمن طويل وبدون قسر. والواقع أن مجموع اليهود خارج فلسطين كان يفوق بكثير عددهم داخلها قبل هدم الهيكل.

وتجب ملاحظة الفرق بين عمليتي هدم الهيكل ونهبه، إذ نُهب عدة مرات قبل هدمه، فقد نُهب مثلاً على يد شيشنق فرعون مصر، ومرة أخرى على يد يوآش ملك المملكة الشمالية. ويرى بعض حاخامات اليهود أن هدم الهيكل كان عقاباً لهم على ما اقترفوه من ذنوب. وهذا الرأي يأخذ به المسيحيون، حيث يرون أن ذنب اليهود الأكبر هو إنكارهم أن المسيح عيسى بن مريم هو الماشيَّح. ويُشار إلى هدم الهيكل بتعبيرات أخرى مثل «خراب الهيكل»، ولكننا نفضل تعبير «هدم الهيكل» لحياده النسبي. وفي الكتابات العبرية، يُشار إلى تخريب الهيكل بكلمة «حوربان» التي تُستخدَم للإشارة إلى أي دمار يلحق باليهود، ومن ذلك الإبادة النازية ليهود أوربا.

خـــــــراب الهيـــــــكل

Destruction of the Temple

«خراب الهيكل» هو «هدم الهيكل».

نهـــــب الهيـــــكل

Pillage of the Temple

كان الهيكل يُعَدُّ المصرف القومي للدولة العبرانية، يرسل إليه العبرانيون القـرابين والنقود، ويودع الأثرياء نقودهم فيه، كما كانت تُحفَظ فيه رموز الدولة وطنافسها (مثل شمعدان المينوراه). ولذا، كانت القوات الغازية تحاول، أثناء الحروب، نهب الهيكل كنوع من الحرب الاقتصادية وكنوع من محاولة ضرب الشرعية السياسية. وقد هجمشيشنق الأول فرعون مصر على الهيكل ونهبه (918 ـ 917)، وكذا بن هدد، وملوك آخرون من ملوك آرام دمشق. كما نهبه يوآش ملك المملكة الشمالية (800 ـ 784). بل إن ملوك المملكة الجنوبية كانوا يُضطرون أحياناً إلى أَخْذ بعض طنافسه ليدفعوا الجزية المفروضة عليهم من قبَل الإمبراطوريات المهمينة. وهذا ما فعله حزقيا (727 ـ 698) الذي أخذ الذهب من أبواب الهيكل لدفع الجزية لسناخريب الذي قام فيما بعد بنهب الهيكل.

وقد أعطى آحاز (743 - 727) ثيران الهيكل التي كانت تحمل الوعاء المسمَّى «بحر النحاس»، وكذلك بعض الأواني الأخرى المخصصة للهيكل، جزيةً لملك آشور. أما بحر النحاس نفسه (أي الوعاء)، فقد كسره الكلدانيون، وحملوا قطعه المعدنية إلى بابل، لكن هذه الحادثة الأخيرة هي من قبيل هدم الهيكل لا نهبه. أما الهيكل الثاني، فقد نهبه أنطيوخوس الرابع (175 ـ 164)، وبنى فيه مذبحاً لزيوس، كما اجتاحـه بومبي ونهــبه قنصـل سـوريا الرومـاني كراسـوس (حوالي 55 ق.م).

إعـــادة بنـــاء الهيــكل

Rebuilding the Temple

عبارة «إعادة بناء الهيكل» تُستخدَم بمعنيين:

1 ـ إعادة بناء الهيكل بعد عودة اليهود من بابل بمرسوم قورش الأخميني (538 ق.م)، ومن ثَم فإنه يُسمَّى «الهيكل الثاني» تمييزاً له عن الهيكل الأول الذي هدمه نبوختنصر. وقد أصدر ملك الفرس دارا الأول أمراً بالاستمرار في بناء الهيكل بعد أن اعترضت بعض الأقوام المقيمة في أرض فلسطين على عملية إعادة البناء هذه. والواقع أن استخدام العبارة بهذه الصورة أمر نادر، إذ أن الاستخدام الأكثر شـيوعاً يشـير إلى:

2 ـ إعادة بناء الهيكل بعد عودة الشعب اليهودي إلى صهيون، في آخر الأيام، تحت قيادة الماشيَّح. وهذا هو الهيكل الثالث باعتبار أن الهيكل الثاني هو الذي بناه هيرودوهدمه تيتوس.

ويذهب الفقه اليهودي إلى أن الهيكل لابد أن يُعاد بناؤه وتُقام شعائر العبادة القربانية مرة أخرى. ولهذا، فقد تم تدوين هذه الشعائر في التلمود مع وصف دقيق للهيكل. ويتلو اليهود في صلواتهم أدعية من أجل إعادة بناء الهيكل. ولكن الآراء تتضارب، مع هذا، حول مسألة موعد وكيفية بناء الهيكل في المستقبل. والرأي الفقهي الغالب هو أن اليهود يتعيَّن علىهم أن ينتظروا إلى أن يحل العصر المشيحاني بمشيئة الإله، وحينئذ يمكنهم أن يشرعوا في بنائه، ومن ثم يجب ألا يتعجل اليهود الأمور ويقوموا بإعادة بنائه، فمثل هـذا الفعـل من قبيل الهـرطقة، والتعـجيل بالنهاية (دحيكات هاكتس). ويذهب موسى بن ميمون إلى أن الهيكل لن يُبنَى بأيد بشرية، كما يذهب راشي إلى أن الهيكل الثالث سينزل كاملاً من السماء. ويرى فقهاء اليهود أن جميع اليهود مدنسون الآن، بسبب ملامستهم الموتى أو المقابر، ولابد أن يتم تطهيرهم برماد البقرة الصغيرة الحمراء. ولما كان اليهود (جميعاً) غير طاهرين، بل يستحيل تطهيرهم (بسبب عدم وجود الرماد المطلوب لهذه العملية)، وحيث إن أرض الهيكل (جبل موريا أو هضبة الحرم) لا تزال طاهرة، فإن دخول أي يهودي إليها يُعدُّ خطيئة. ويضاف إلى هذا أن جميع اليهود، حتى الطاهر منهم، يَحرُم عليه دخول قدس الأقداس. ولما كان مكانه غير معروف لأحد على وجه الدقة، فإن من المحتمل أن تطأ قدما أحدهم هذه البقعة. ولهذا، فإن دخول اليهود إلى هذه المنطقة محرَّم تماماً. وفي الفقه اليهودي كذلك أن تقديم القرابين أمر محرم لأن استعادة العبادة القربانية لابد أن يتم بعد عودة الماشيَّح التي ستتم بمشيئة الإله.

ولكن هناك رأياً فقهياً يذهب إلى نقيض ذلك، حيث يرى أن اليهود يتعيَّن علىهم إقامة بناء مؤقت قبل العصر المشيحاني، وأنه يحل لليهود دخول منطقة جبل موريا، لكن هذا هو رأي الأقلية ولم يصبح جزءاً من أحكام الشرع اليهودي. ولكن هذا الرأي ظل مدوَّناً مطروحاً بسبب طبيعة اليهودية كتركيب جيولوجي.

وقد اسـتفاد الصهاينة من هـذا التناقـض داخل التركيبة الجيولوجية، فوصفوا الرؤية الحاخامية الأرثوذكسية بالسلبية، وقرروا أخذ زمام الأمور في أيديهم. وقد أعلن الحاخام شلومو جورين أنه حدد مكان قدس الأقداس، وبالتالي يستطيع اليهود زيارة جبل موريا.

ويمكننا الآن أن نعرض لرأي الفرق اليهودية المختلفة في العصر الحديث في مسألة إعادة بناء الهيكل، يمكننا منذ البداية أن نقسمهم إلى صهاينة وغير صهاينة. أما غير الصهاينة، فيعارضون العودة الفعلية ومن ثم إعادة بناء الهيكل. وقد حذف الإصلاحيون الأدعية الخاصة بإعادة بناء الهيكل، ويستعملون كلمة «تمبل Temple» الإنجليزية، أي «المعبد»، منذ عام 1818 للإشارة إلى الهياكل اليهودية. وهم، في الواقع، يقصدون أن المعبد، أينما وُجد، حلّ محل الهيكل، وأن الهيكل لن يتم استرجاعه أبداً. أما الأرثوذكس، فيفضلون استخدام الكلمة اليونانية «سيناجوج» للإشارة إلى المعبد اليهودي، على أن تظل كلمة «هيكل» محدَّدة الدلالة، لا تشير إلا إلى هيكل القدس. وقد احتفظ الأرثوذكـس بالأدعية الخاصـة بالعـودة، وتبعـهم المحافظون. وتظل العودة، بالنسبة إلى الأرثوذكس، مسألة مرتبطة بعودة الماشيَّح. أما بالنسبة إلى المحافظين، فهي تشبه المجاز والتطلع الطوباوي المثالي.

أما الصهاينة، فينقسمون في موقفهم من قضية إعادة بناء الهيكل إلى قسمين: صهاينة لادينيين وصهاينة دينيين. وفي الواقع، فإن الفريق الأول لا يكترث كثيراً بالعبادة القربانية، ولا بإعادة بناء الهيكل. ولذا، فهم ينظرون إلى القضية من منظور عملي، ويرون أن محاولة الصهاينة المتدينين إعادة بناء الهيكل هي مسألة هَوَس ديني يهدد المُستوطَن الصهيوني بالخطر دون عائد مادي ملموس. ومن ثم، نجد أن مسألة إعادة بناء الهيكل لا تتمتع بشعبية كبيرة داخل إسرائيل التي تتمتع بـ ـ أو تعاني من ـ واحد من أعلى مستويات العلمنة في العالم. وقد أشار تيدي كوليك (عمدة القـدس) إلى المهـووسين الذين قامـوا بوضع حـجر أسـاس بناء الهيكل، وبيَّن أنهم يسيرون في خط شبتاي تسفي؛ ذلك الماشيَّح الدجال الذي ألهب حماس معظم اليهود في القرن السابع عشر، ووعدهم بالعودة إلى فلسطين، وعيَّن بعض أتباعه حكاماً للأرض، ثم انتهت الحركة بالفشل، الأمر الذي رجّ اليهودية رجاً من أساسها وألقى بها في أزمة لم تُفق منها قط. وقد عارض الحاخام جورين، صاحب فتوى موقع قدس الأقداس، مسألة وضع أساس الهيكل الثالث.

ويرى الصهاينة المتدينون (المتطرفون) المسألة من منظور مختلف، فمسألة إعادة بناء الهيكل مسألة ذات أهمية مركزية بالنسبة إليهم، ولذا فإنهم يركزون جُلَّ اهتمامهم على هذه العملية، والقضية بالنسبة إليهم مسألة عقائدية وليست علمية. والواقع أن كثيراً من المنظمات الإرهابية الصهيونية الجديدة قد جعلت إعادة بناء الهيكل، وهدم الآثار الإسلامية الموجودة في هذا الموقع، من أهم أهدافها.

وقد قامت عدة محاولات من جانب الجماعات الصهيونية تستهدف تفجير الأماكن المقدَّسة الإسلامية في القدس، أو حرقها، بل ضُبطت مؤامرة لإلقاء القنابل عليها من الجو. وهناك منظمة يهودية تُسمَّى «أمناء جبل الهيكل»، التي يموِّلها المليونير الأمريكي (المسيحي الأصولي) تري رايزنهوفر، جعلت بناء الهيكل الثالث هدفها الأساسي. وتقود عضو الكنيست جيؤلاه كوهين حملة لتأكيد أن المنطقة التي يُوجَد عليها الآن كلٌ من المسجد الأقصى ومسجد الصخرة هي المنطقة التي كان يُوجَد عليها الهيكل، ومن ثمفلليهود حقوق مطلقة فيها. وقد أُسِّست مدرستان تلموديتان عاليتان بالقرب من حائط المبكى لتدريب مائتي طالب على شعائر العبادة القربانية، ليقوموا بها عند بناء الهيكل الثالث. وإحدى هذه المدارس، معهد الهيكل (بالعبرية: يشيفات هَبايت)، وظيفتها الأساسية محاولة التعجيل بإعادة بناء الهيكل. وقد بدأت هذه المدرسة في إعداد أدواتالعبادة القربانية، وانتهت من ثمان وثلاثين منها تم وضعها في متحـف، وهي في سـبيلها إلى إعداد الخمـس والسـتين الباقية. وتُوجَد جماعات أخرى تدرس شجرات العائلات الخاصة بالكهنة حتى تمكن الإجـابة عن سـؤال نصه: مَن منهم المُؤهَل لتقديم القرابين؟ وقد عُقد عام 1990 مؤتمر يضم اليهود الذين يعتقدون أنهم من نسل الكهنة. وهناك في فندق الهيكل في القدس مجسَّم مصغَّر للهيكل، وينوون أن يبنوا مجسماً آخر أكبر حجماً يتكلف مليون دولار يتم جمعها من يهود العالم دون سواهم.

وقد قامت جماعة أمناء جبل الهيكل بوضع حجر الأساس للهيكل الثالث في احتفال تحت إشراف رئيس الجماعة المدعو جرشوم سالمون. وقد حضر الاحتفال، الذي جرى في منتصف شهر أكتوبر عام 1989، كاهن يرتدي ملابس كهنوتية خاصة مصنوعة من الكتان المغزول باليد من ستة خيوط مجدولة تم إعدادها في معهد الهيكل. وقد استخدموا في الاحتفال بعض الأواني الشعائرية، وبوق الشوفار، وأدوات موسيقية مثل الأكورديون. أما حجر الأساس نفسه، فحجمه متر مكعب، وقد قام حفاران يهوديان من القدس بإعداده دون استخدام أية أدوات حديدية (كما تتطلب الشعائر). وقد حاولوا الوصول بالحجر إلى ساحة حائط البراق عند حائط المبكى، ولكن الشرطة الإسرائيلية تصدت لهم فحُمل الحجر إلى مخزن الحـفارين وأُودع فيه. وتتجـه النية إلى زراعـة حـديقة حوله. ويساند أمناء جبل الهيكل بعض أعضاء المؤسسة الدينية في إسرائيل.

ورغم هذا الانقسام، بشأن إعادة بناء الهيكل، فإننا نجد أن بعض الأطروحات التي صُنِّفت في الماضي باعتبارها دينية مهووسة ومتطرفة، صارت مقبولة بل أصبحت جزءاً من الخطاب السياسي الصهيوني، أو ضمن برامج الأحزاب المعتدلة! ولذا فليس من المستبعد أن نجد جميع الصهاينة (الأقلية المتدينة والأغلبية الملحدة) تؤيد كلها بعد قليل إعادة بناء الهيكل باعتباره أمراً أساسياً للعقيدة الصهيونية لا تكتمل بدونه.

ويرى المسيحيون الأصوليون أن بناء الهيكل هو الشرط الأساسي للعودة الثانية للمسيح. وقد عُقد مؤتمر عام 1990 تحت رعاية وزارة الأديان في إسرائيل لمناقشة هذه القضية، ولتقرير ما إذا كان على اليهود في العصر الحديث إعادة بناء الهيكل.

حائـط المبـكى

Wailing Wall

«حائط المبكى» ترجمة لتعبير «ويلنج وول Wailing Wall» الإنجليزي ويقابله في العبرية «كوتيل معْرافي»، أي «الحائط الغربي»، والذي يسميه المسلمون العرب «حائط البراق»، ويُقال إنه جزء من السور الخارجي الذي بناه هيرود ليحيط بالهيكل والمباني الملحقة به. ويُعتبَر هذا الحائط من أقدس الأماكن الدينية عند اليهود في الوقتالحاضر، ويبلغ طوله مائة وستين قدماً. أما ارتفاعه فهو ستون قدماً. وقد سُمِّي هذا الحائط باسم «حائط المبكى» لأن الصلوات حوله تأخذ شكل عويل ونواح. ولقد جاء فيالأساطير اليهودية أن الحائط نفسه يذرف الدموع في التاسع من آب، وهو التاريخ الذي قام فيه تيتوس بهدم الهيكل.

ومنذ القضاء على تمرد بركوخبا ضد الرومان، صار موقع الهيكل المهدَّم، لا الحائط، مركزاً للتطلعات الدينية اليهودية. لكن التاريخ الذي بدأت تقام فيه الصلوات بالقرب من الحائط غير معروف، فالمصادر المدراشية تشير إلى «حائط الهيكل الغربي» أو «الحائط الغربي»، ولكن هذا الحائط المشار إليه لا تتركه الحضرة الإلهية البتة، ومن ثم فهو حائط أزلي لم يتهدم ولن يُهدَم. ومن الواضح أن الإشارة لم تكن إلى حائط المبكى، وإنما إلى الحائط الغربي لقدس الأقداس. ولما كان الهيكل قد هُدم بالفعل، فلابد أن الحديث كان يحمل مدلولاً رمزياً وحسب.

والواقع أن كل المصادر التي تتحدث عن يهود القدس (حتى القرن السادس عشر) تُلاحظ ارتباطهم بموقع الهيكل وحسب، ولا توجد أية إشارة محدَّدة إلى الحائط الغربي.كما أن الكاتب اليهودي نحمانيدس (القرن الثالث عشر) لم يذكر الحائط الغربي في وصفه التفصيلي لموقع الهيكل عام 1267، ولم يأت له ذكر أيضاً في المصادر اليهودية التي تتضمن وصفاً للقدس حتى القرن الخامس عشر. ويبدو أن حائط المبكى قد أصبح محل قداسة خاصة ابتداءً من 1520م، في أعقاب الفتح العثماني وبعد هجرة يهود المارانو حَمَلة لواء النزعة الحلولية المتطرفة في اليهودية. ولعل هذا يفسر بداية تقديس الحائط. فالنزعة الحلولية، كما أسلفنا، تتبدَّى دائماً في صورة تقديس الأماكن والأشياء، من تمائم وأحجبة وحوائط، إيماناً بأن الإله يتجلى في كل كبيرة وصغيرة. كما أنه قد يكون هناك تشبُّه بالمسلمين فيما يخص الكعبة والحجر الأسود. ولذا، نجد أن حديث الحاخامات الرمزي عن الشخيناه في علاقتها بالحائط يكتسب مدلولاً حرفياً. وقد تعمَّق هذا الإيمان في القرن التاسع عشر، وبدأ حائط المبكى يظهر في فلكلور الجماعات اليهودية، وبدأت عمليات الحفر والتنقيب الأثري في منطقة هضبة الحرم حول حائط المبكى التي كانت تغـذي جذوتها النزعة الإمبريالية والديباجـات المسـيحية الاسترجاعية. وقد ترسخت صورة حائط المبكى في الوجدان اليهودي والصهيوني. ومع هذا، فإن الحاخام هيرش (رئيس جماعة الناطـوري كارتا)، الذي يعيـش في القـدس على بعد أمتار من الحائط، يرفض زيارته ويؤكد أن تقديس الحائط إن هو إلا حيلة من الحيل السياسية للصهيونية.

وقد حاول الصهاينة الاستيلاء على الحائط، عن طريق الشراء في بادئ الأمر، كما حاولوا مع فلسطين كلها، ولعلهم في هذا يرجعون إلى فكرة أن إبراهيم اشترى مغارةالمكفيله وأن داود اشترى جرن أرونا اليبوسي. ومن تلك المحاولات محاولة الحاخام عبد الله (حاخام الهند) شراء الحائط عام 1850. وقد حاول السير موسى مونتفيوري أن يستصدر تصريحاً بوضع الكراسي أو المظلات الواقية من المطر أمام الحائط، ولكن طلبه رُفض. وفي عام 1887، حاول البارون روتشيلد شراء الحيّ المجاور للحائط لإخلائه من السكان، واقترح أن تشتري إدارة الوقف أرضاً أخرى بالأموال التي ستحصل عليها، وتُوطّن السـكان فيهـا، وهــو حل يحمل كل ملامح الحلول الصهيونية (الترانسفير)، وقد رُفض طلبه كذلك. وقبل الحرب العالمية الأولى، قام البنك الأنجلو فلسطيني بمحاولات جادة لشرائه. كما قام الصهاينة بمحاولات للاستيلاء على الحائط، أو التسلل إلى منطقة هضبة الحرم عن طريق تقديم رشاوى، أولاً للحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين حيث عرضوا عليه نصف مليون جنيه إسترليني، ثم عُرض على الشيخ سعيد العلمي مبلغ مليون دولار. وغنيٌّ عن البيان أن هذه المحاولات لم تُكلَّل لا بكثير ولا بقليل من النجاح.

ولم تكن محاولات الاستيلاء تتم عن طريق العنف المالي وحسب، إذ كان العنف يأخذ أشكالاً مباشرة حينما كان الصهاينة يحاولون تأكيد حقوقهم في الحائط وفي هضبة الحرم. وقد كانت هذه المحاولات يقابلها الرفض من قبل الفلسطينيين، الأمر الذي كان يؤدي إلى الاشتباكات بين الطرفين. ومن أشهر الاضطرابات التي نجمت عن الاحتكاك بين المستوطنين اليهود والعرب تلك الاضطرابات التي حدثت في 22 سبتمبر 1922، أو تلك التي حدثت في اليوم السابق ليوم الغفران ثم في يوم الغفران نفسه (في 24 سبتمبر 1928) حين أصرَّت إدارة الوقف على أن يزيل الإنجليز ستارة أو فاصلاً (محيتساه) كان الأرثوذكس قد وضعوها ليفصلوا بين الرجال والنساء. وقد قام ضابط بريطاني بإزالة الستارة. وتزايدت الاضطرابات عام 1929 حين قام الصهاينة بجلب الكراسي والمصابيح والستائر ووضعوها أمام الحائط. ورغم عدم أهمية الحدث في حد ذاته، فإن له دلالة خطيرة إذ أن الكراسي وغيرها من الأشياء كانت تهدف إلى تغيير الوضع القائم (وهذه هي السياسة التي تبنتها حكومة الانتداب، أي ترك كل شيء يتعلق بالأمور الدينية على ما هو عليه). وقد زادت الاضطرابات إلى أن جاء يوم الغفران في 15 أغسطس 1929 حين قادت منظمة بيتار مظاهرة نحو الحائط. وبعد هذه الحوادث، شكلت الحكومة الإنجليزية لجنة تحقيق استمعت إلى شهادات اليهود والمسلمين والموظفين البريطانيين، وقد قررت اللجنة أن المسلمين هم المالك الوحيد للحائط وللمناطق المجاورة وأن اليهود يمكنهم الوصول إلى الحائط للأغراض الدينية فحسب، على ألا ينفخوا في البوق (الشوفار) وألا يجلبوا خيمة أو ستارة أو ما شابه ذلك من أدوات. وقرَّرت اللجنة أن أية أدوات عبادة يحق لليهود وضعها بمقتضى الأمر الواقع بالقرب من الحائط لا يترتب على إنشائها أي حق عيني لليهود في الحائط أو في الرصيف المجاور له. وقد استمرت المظاهرات حتى عام 1947.

وهذا الحائط يقع ضمن الأراضي الفلسطينية التي احتُلت عام 1967، فقامت القوات الإسرائيلية بإزالة الحي المجاور للحائط، وكذلك كل البيوت الملاصقة له، وأقامت أمامه ميداناً، وأصبح الحائط بؤرة اهتمام للمنظمات الصهيونية الجديدة. ويسخر اليهود اللادينيون من هذا الحماس الديني، فيشيرون إلى الحائط الغربي (بالعبرية: كوتيل) باسم «ديسكوتيل»، أي المرقص الليلي الديني! وتقوم الدولة الصهيونية بالعديد من عمليات الحفر حول الحائط التي أدَّت إلى تَصدُّع الآثار الإسلامية.

وقد تحوَّل الحائط إلى بؤرة تجمعت فيها مشاكل التجمع الصهيوني، خصوصاً الصراع الحاد بين العلمانيين والمتدينين. ومن أهم القضايا التي أثيرت مؤخراً، قضية الفاصل أو الستارة التي تفصل بين الجنسين أثناء الصلاة أمام حائط المبكى، إذ يطالب الأرثوذكس بوضعها بينما يرى اللادينيون والإصلاحيون أن لا حاجة إليها. ويشير بعض المؤرخين الإسرائيليين إلى أنه في بداية فترة الهيكل الثاني، لم يكن هناك أي فصل بين الجنسين، ولم تبدأ هذه الممارسة إلا قبل هدم الهيكل بسنوات قليلة.

وقد بدأت بعض النسوة اليهوديات من دُعاة حركة التمركز حول الأنثى بالمطالبة بالمساواة الكاملة في الصلاة مع الرجال، وكوَّن جمعية تُسمَّى «نساء من أجل الحائط» يقمن بارتداء شال الصلاة (الطاليت) وتلاوة التوراة ومحاولة الاشتراك في صلاة الجماعة، وهو ما تحرمه الشريعة اليهودية.

وقد لوحظ أخيراً تَزايُد المحلات المتخصصة في بيع المجلات والأدوات الإباحية في القدس بالقرب من الحائط. وقام ناشر مجلة بنت هاوس الإباحية بنشر طبعة عبرية من مجلته، وقام بزيارة لإسرائيل بهذه المناسبة فاستُقبل استقبالاً شبه رسمي أمام حائط المبكى! وقد احتجَّت الجماعات الدينية اليهودية على هذا.

الحائط الغربي

Western Wall

«الحائط الغربي» هو «حائط المبكى».

الوزنة (شيكل)

Shekel

«شيكل» كلمة عبرية تعني «وزن» أو «الوزنة» وكانت تُنطق «شيقل». وهو المقياس الوزني الذي كان العبرانيون القدامى يستخدمونه لوزن الذهب والفضة. وقد أصبحالشيكل عملة فيما بعد. ويبدو أن نظام العملات بين العبرانيين كان يتبع النظام البابلي، فالبابليون كانوا أهم الشعوب التجارية في الشرق الأدنى القديم. وقد شاع الشيكل كعملة أيام الحشمونيين. وكان الشيكل، كوحدة وزن، يعادل ستة عشر جراماً تقريباً. وحينما كان موسى يحصر عدد شعب يسرائيل، أراه الإله أن « كل من اجتاز إلىالمعدودين من ابن عشرين سنة فصاعداً يعطى تَقدمة للإله » (خروج 30/13ـ 14) لصيانة وخدمة خيمة الاجتماع. وقد فرض سليمان نصف شيكل يدفعه كل يهودي بالغ للهيكل. وبُعث هذا التقليد بعد العودة من بابل، ففُرضت ضريبة لبناء الهيكل، وأصبح هناك شيكل مقدَّس (ضعف الشيكل العادي) عبارة عن جزية سنوية يدفعها يهود فلسطين والعالم وتُنقَل إلى الهيكل (مركز العبادة القربانية). ومن الاتهامات التي وجِّهت ضد الحاكم الروماني فلاكوس أنه صادر بعض الشيكلات. وبعد سقوط القدس، حوَّل الرومان ضريبة الشيكل إلى الفيسكوس جواديكوس أو ضريبة اليهود. ويتناول التلمود، في أحد كتبه، الأحكام الخاصة بالشيكل. والاشتراكات في المنظمة الصهيونية العالمية تُدعى «شيكل»، وكذلك عملة إسرائيل.

الصدقة (حالوقاه)

Halukka

«الصدقة» هي المقابل العبري لكلمة «حالوقاه» العبرية، والتي تعني «نصيب ـ قسمة». وهي الصدقة التي كانت تُدفَع للعلماء اليهود المتفرغين للدراسة الدينية في المدن المقدَّسة الأربع: القدس، وحبرون (الخليل)، وصفد، وطبرية. وأصبحت كلمة «حالوقاه» تُطلَق على المساعدات المالية التي كان يرسلها يهود العالم لمساعدة اليهود الذين استوطنوا فلسطين، وخصوصاً في القدس، وكرَّسوا حياتهم للتعبد ودراسة التوراة. وكان معظم اليهود المقيمين في فلسطين يعيشون على الصدقات (نحو 85% منمجموعهم بحسب ما جاء في بعض التقديرات). وكان رُسُل الحاخامات هم الذين يجمعون هذه الصدقات ويرسلونها إلى فلسطين.

ومع منتصف القرن التاسع عشر، ظهرت شبكة متكاملة متشعـبة لجمـع التبرعـات ليهود فلسطين من أعضاء الجماعات اليهودية. وكان من أهم مراكز هذه الشبكة «لجنة الرسميين والإداريين» في أمستردام، التي تلقت المعونات السنوية من تجمعات اليهود الكبيرة في غرب أوربا وحولتها إلى قادة يهود فلسطين. وكان هناك اختلاف في طريقة جمع وتوزيع الصدقة بين اليهود الإشكناز واليهود السفارد. ولا يزال بعض اليهود المتدينين يجـمعون الحالوقاه، ويرسـلونها إلى الجمـاعات الدينية داخل إسرائيل.

ولكن الحركة الصهيونية التي ترفض الشخصية اليهودية التقليدية والقيم اليهودية الدينية، كانت ترى أن جمع الحالوقاه من علامات الخنوع والطفيلية التي يتسم بها اليهود، وأنه استمرار لعقلية الاستجداء التي تسم الوجود اليهودي التقليدي، وخصوصاً بعد انتشار التسول بين يهود أوربا في القرن التاسع عشر، وطُرحت بدلاً من ذلك فكرة الشعب اليهودي الذي يعتمد على نفسه، والذي سوف يحقق استقلاله ويحافظ عليه بنفسه دون حاجة إلى استجداء أحد.

ولكن الصهيونية، منذ أن بدأت كحركة سياسية وأنشأت دولتها في فلسطين، معتمدة اعتماداً كاملاً على المعونات الخارجية وعلى أجهزة الصهيونية العالمية، أصبحت متخصصة في فن الاستجداء. ولقد كانت الحالوقاه تُجمع تقليدياً من يهود العالم لأغراض دينية وخيرية، أما التبرعات التي كانت الحركة الصهيونية تجمعها، وكذلك المنح والمساعدات والقروض والتعويضات التي تحصل عليها والتي يمكن أن نُطلق عليها اسم «الحالوقاه الصهيونية»، فمصدرها ليس أعضاء الجماعات وحدهم، وإنما الدول الغربية، وهي تُجمَع لأسباب سياسية واقتصادية وأحياناً بطرق غير أخلاقية.

وبدلاً من الطفيلية اليهودية التي نجمت عن ظروف تاريخية خاصة بأوربا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكانت في طريقها إلى الزوال كما حدث بالفعل ليهود إنجلترا والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي الذين أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من اقتصاد أوطانهم، فإن الصهيونية خلقت نوعاً جديداً من الطفيلية المؤسسية إذ خلقت دولة لا تملك مقومات البقاء، ولابد لها من الاعتماد على صدقات الآخرين من اليهود وغير اليهود. وإذا كانت الصهيونية قد علمنت الحلولية اليهودية الدينية وحولتها إلى عقيدة فاشية، فإنها قد قامت أيضاً بعلمنة الحالوقاه والتسول، وجعلتهما صفات أساسية للممارسة الصهيونية، وخلقت ما نسميه «اقتصاد التسول».

هيـكل أونيـــاس

Temple of Onias

«هيكل أونياس» هيكل شيَّده الكاهن الأعظم اليهودي أونياس الرابع الذي خُلع من منصبه في فلسطين ففرّ إلى مصر ومعه بعض الجنود اليهود، ولعلهم تحَّولوا إلى مرتزقة بعد وصولهم إلى مصر (وثمة رأي يذهب إلى أن الذي شيده هو، في واقع الأمر أبوه أونياس الثالث). ويبدو أن الهيكل قد شُيِّد بإيعاز من البطالمة (حكام مصر) في عصر بطليموس السادس (181 ـ 145 ق.م)، لخلق مركز ليهود مصر يصبح مركزاً لولائهم ويبعدهم عن هيكل فلسطين التابع للسلوقيين. وقد مُنح أونياس، وجنـوده، أرضـاً ليسـتوطنوها ويعيشوا من ريعها عام 145 ق.م. وقد شُيِّد المعبد في ليونتوبوليس (بالقرب من هليوبوليس)، ويُسمَّى موقعه الحالي «تل اليهودية». مكان معبد مصري للإلهة باشت. وقد استند أونياس إلى نبوءة أشعياء (19/18 ـ 19) التي جاء فيها أنه سيُشيَّد مذبح للإله في وسط أرض مصر ليعطي هيكله شرعية دينية وقد أصبح أونياس كاهنه الأعظم.

وكان كثير من اليهود يعملون جنوداً مرتزقة ضمن حامية عسكرية تُرابط حول المعبد. وقد بُنيَ الهيكل على هيئة قلعة يحيطها سور، ربما بسبب طابعه الاستيطاني القتالي، وهو ما يجعل معماره يشبه معمار المعابد اليهودية في أوكرانيا إبّان فترة الإقطاع الاستيطاني البولندي فيها. ورغم اختلافه، من الناحبة المعمارية عن هيكل القدس، فإنهكان يحوي الأواني الشعائرية نفسها، وكان يتدلى من السقف فانوس حل محل شمعدان المينوراه. وقد منح البطالمة لكهنة هذا الهيكل قطعة من الأرض ليعيشوا من ريعها.

ولم يكن هيكل أونياس معبداً (سيناجوج) وإنما كان هيكلاً مركزياً لإقامة شعائر العبادة القربانية، وكان الهدف هو إحلاله محل هيكل فلسطين، كما كان اليهود في مصر يقدمون فيه القرابين ويحجون إليه. ورغم أن أقلية من يهود مصر اتخذت موقف المعارضة، فإن بعض فقهاء اليهود أبدوا اهتماماً خاصاً به ودرسوا شعائره وهو ما يعنياعترافاً ضمنياً به، ولكن الرأي الحاخامي الشائع هو رفضه لأنه كان يشكل منافسة للعبادة القربانية. وقد قام الرومان بإغلاق هذا المعبد عام 73م إثر تَمرُّد قام به يهود مصر، أي أنه أُغلق بعد مرور عامين على إغلاق هيكل فلسطين.

الباب الثالث عشر: المملكة العبرانية المتحدة

المــــلوك والملكـــية

Kings and Kingship

بعد فترة من تسلل القبائل العبرانية في كنعان (1250 ق.م تقريباً)، بدأ طابعها الاقتصادي والاجتماعي في التحول تأثراً بالبيئة الكنعانية المحيطة، فظهرت الحرف المختلفة والملكية الخاصة للأرض وإقامة المدن، وذلك ليحل نمط جديد محل الاقتصاد البدائي والملكية الجمعية، أي أن المجتمع بدأ يتحول عن القبيلة والبداوة اللتين وسمتاه أثناء عصر القضاة (1250 ـ 1020 ق.م) ليصبح أكثر تركيباً نتيجة عناصر التحول داخله ونتيجة الاحتكاك بالمجتمعات الأخرى الأكثر تركيباً وتَحضُّراً. كما شهدت هذه الفترة ضغطاً عسكرياً عنيفاً على العبرانيين ورفضاً شديداً لهم من جانب الفلستيين والكنعانيين والمؤابيين والأدوميين، وقد واكب ذلك غياب القوى العظمى في منطقة الشرق الأدنى القديم بسبب ظروفها الداخلية. وقد ساهمت هذه الأوضاع الداخلية والخارجية في أن نظام القضاة أصبح نظاماً بالياً غير قادر على التعبير عن الأوضاع الجديدة، وأصبح نظام الملكية أمراً حتمياً للتعبير عن البنية الجديدة للمجتمع. وتعبر القصة التوراتية عن ذلك حيث طلب الشعب إلى صـموئيل أن يجعل لهم ملكاً مثل الشـعوب الأخرى المتحـضرة المحيطة بهم. فتوَّج عليهم شاؤول، ثم داود (1004 ـ 965 ق.م) الذي وحَّد القبائل العبرانية فيما يُسمَّى «المملكة العبرانية المتحدة». وقد خلفه ابنه سليمان، ثم انقسمت المملكة إلى مملكتين (928 ق.م): المملكة الشمالية والمملكة الجنوبية اللتين حكمتهما سلسلة من الملوك.

ولم تكن مؤسسة الملكية العبرانية تختلف كثيراً عن مؤسسة الملكية المقدَّسة التي شاعت في الشرق الأدنى القديم، حيث يُعتبَر الملك نقطة الحلول الإلهي ومن خلاله يتم التواصل بين مملكة الأرض ومملكة السماء. ولذا، كان الملك هو أيضاً الكاهن الأعظم أو أعلى في المرتبة.

وكان الملوك العبرانيون يُعتبَرون نواباً عن الرب، كما كانوا الزعماء الدنيويين والدينيين للعبرانيين، تعلو سلطتهم الدينية سلطة الكاهن الأعظم، ولذا كان الملك هو الزعيم والرئيس الرسمي للشعائر والاحتفالات الدينية العامة. فكان يقدم القرابين إلى يهوه باسم الشعب ويتلقى البركات منه نيابة عنهم ويعمل على تنفيذ وصاياه وشريعته في وقت السلم، كما كان يقوم بقيادة الشعب في وقت الحروب والمحن. وكان الملك يُسمَّى «الماشيَّح» لأنه كان يمسح رأسه بالزيت عند تتويجه. ورغم كل هذا، لم يكن الملك تجسيداً للإله، كما أن حقوقه لم تكن مطلقة، ولم يكن من حقه مصادرة الأرض أو الاستيلاء عليها، كما كانت تنطبق عليه القوانين الأخلاقية والمدنية. وكان الأنبياء يوجهون انتقادهم للملكية باعتبارها مؤسسة سياسية مرتبطة بالفساد والثراء الفاحش والسخرة، ولكن هذا لم يمنع من وجود حكام مُطلقين. وكان من حق الملك أن يعيّن من يخلفه على العرش، غير أن الابن البكر، عادةً، كان يُختار لهذا المنصب.

وقد ظل الموقف العبراني من الملكية مبهماً. فأحد أسفار العهد القديم (تثنية 17/13 ـ 2) يتحدث عن القواعد الواجب اتباعها عند تعيين الملك وهو ما يتضمن اعترافاً بمؤسسة الملكية. ولكننا نجد أن سفر صموئيل يتضمن تحذيراً عميقاً من الملكية لأن الملك لن يلتزم بالقواعد. والرأي السائد بين فقهاء اليهود أن الملكية تخالف روح الدين اليهودي، وأن تعيين ملك أمر يقف ضد إرادة الرب، وأن الشكل الأمثل للحكومة هو حكومة غير ملكية. ولذلك، فحينما استولى الحشمونيون على الحكم (164 ق.م)، رفضوا في بادئ الأمر أن يتخذوا لقب «ملك»، كما رفض الغيورون الملكية ولم يرتضوا إلا بالإله ملكاً. ويرى بعض فقهاء اليهود أنه يمكن تعيين ملك كما فعل صموئيل إن هو اتبع التعاليم الدينية وقَبل أن يقوم أحد الأنبياء بتعيينه. وفي التراث الديني اليهودي أن الماشيَّح سيكون ملكاً من نسل داود.

وقد ساهمت الملكية في إضعاف النظام القَبَلي بإنشاء سلطة مركزية وتقسيم الأرض إلى مناطق إدارية لا تتفق بالضرورة مع التقسيمات القَبَلية السابقة، حتى أصبحت القيادات القَبَلية مسألة رمزية أو اسمية أو شكلية ليست لها وظيفة محدَّدة. وقد قوَّضت الملكية القيادة القَبَلية بخلق طبقة من الموظفين الملكيين الذين يعتمدون على الملكويدينون له بالولاء خارج نطاق شبكة الولاء القَبَلية. وكانت هذه الطبقة تضم الوزراء والمقاتلين والمديرين والعمال في الضياع الملكية وطبقة الكهنة واللاويين. كما أنطبقة التجار ازدهرت بتأثير ظهور الملكية التي شجعت على التجارة كما شجعت على ظهور المهارات الحرفية المتخصصة. وظهرت كذلك طبقة كبار الملاك الذين كان الملك يقتطع لهم ضياعاً كبيرة مكافأة لهم على خدمات قدمــوها له. وقد قُـدِّر لهذه الطبــقة أن تلعــب دوراً كبيراً في تاريــخ المملكـة الشمالية اللاحــق، وخصوصاً تلك الشريحة التي كانت موجـودة في شــرق الأردن ولعــبت دوراً حاسـماً في الحقبـة الأخيـرة من تاريخ المملكــة الشمــالية، على خلاف ما حدث في المملكة الجنــوبيــة، حيـث لم تلعب هـذه الطبــقة دوراً كبيـراً لضعفها ولعل هذا كان يعود إلى عدم وجود أراض زراعية كافية.

وقد أدَّت هذه التحولات الإدارية والاجتماعية والطبقية إلى ضعف سلطة شيوخ القبائل في المدن وخارجها. ومع هذا، فقد ظلت شبكة العلاقات القَبَلية قوية. ولعل انقسام المملكة العبرانية المتحدة، بعد موت سليمان مباشرة، أكبر دليل على استمرار قوتها. وقد نجم عن ضعف النظام الطبقي القَبَلي والتقليدي ظهور طبقة العمال العبرانيين الموسميين وتحوُّل العناصر المحلية الأصلية التي لم تندمج في المجتمع العبراني إلى ما يشبه العبيد. وكان هناك كذلك طبقة العبيد نفسها، ولكن لابد أن نشير إلى أن العبيد لم يكونوا طبقة مهمة لأن المجتمع العبراني لم يكن متقدماً بالقدر الذي يجعله يحتاج إلى أيد عاملة بشكل دائم، كما أن المجتمع العبراني كان يسد حاجته المحدودة إلى العبيد عن طريق استعباد المذنبين أو العبرانيين الذين لم يسددوا ديونهم. ويمكن القول بأن المعالم الأساسية لبناء المجتمع العبراني (واليهودي فيما بعد) قد تحددت في هذه الفترة، كما ظل المجتمع محتفظاً ببنيته الأساسية إلى أن اختفى في القـرون الميلادية الأولى، وقد كانت بنية ثلاثية تتكون أسـاساً مما يلي:

1 ـ الملك أو الكاهن الأعظم والنخبة الحاكمة التي كانت تتكون من الأثرياء وكبار الكهنة وكبار ملاك الأراضي وكبار التجار (والتجار الدوليين وملتزمي الضرائب فيما بعد) والأرستقراطية العسكرية التي حل محلها فيما بعد جنود الإمبراطورية الحاكمة: الفرس فالبطالمة ثم السلوقيون والرومان.

2 ـ صغار التجار وصغار المزراعين وصغار الكهنة.

3 ـ الفلاحون المعدمون والعمال الموسميون والعبيد والجماعات الهامشية المختلفة.

ويمكن القول بأن ما يُقال له «الحزب الشعبي» كان يضم الطبقتين الثانية (الوسطى) والثالثة (الدنيا)، وأن الطبقة الثرية هي الطبقة التي تحولت إلى جماعة وظيفية وسيطة تخدم المصالح الإمبراطورية وتسوس المجتمع العبراني لصالحها.

وقد ساد الحكم الملكي بين العبرانيين في المملكة المتحدة ثم في المملكتين الشمالية والجنوبية. ومع هجوم الآشوريين ثم البابليين، تم أسر آخر ملوك العبرانيين. وبعد أن سمح قورش بعودة زعماء اليهود إلى فلسطين (538 ق.م)، قامت محاولة لتتويج زروبابل ملكاً، ولكن هذه المحاولة باءت بالفشل، ذلك لأن الفرس لم يقفوا وراءها مؤثرين التعاون مع الكهنة على التعاون مع الأرستقراطية العسكرية وبقايا أسرة داود الملكية. وقد ظهر بعد ذلك الحكم الكهنوتي حيث تقع معظم أدوات السلطة الدينية في يد السلطة الإمبراطورية الحاكمة وحيث يشرف الكاهن الأعظم وأثرياء اليهود على شئون اليهود الداخلية. وقد كان الرومان يطلقون لقب «ملك روماني (دوكس)» على بعض الحكام اليهود التابعين لهم مثل هيرود، ولكن هذا اللقب كان لقباً شرفياً محضاً، وقد حجبه الرومان عن أولاد هيرود.

شاؤول (1020-1004 ق.م)

Saul

«شاؤول» اسم عبري معناه «الذي سُئل من الإله». وشاؤول أول ملوك العبرانيين من قبيلة بنيامين. وقد توجه صموئيل ملكاً بعد أن طالبه الشـعب بذلك. كان شـاؤول يسـكن في خيمة ويعيـش حياة شيخ قبيلة بدوي، ولم يكن قوي الإرادة، بل كان يميل في مزاجه إلى الكآبة والتقوقع. وهو يمثل انتقال المجتمع العبراني من حكم القضاة إلى حكم الملـوك العـبرانيين، ومن حالة البـداوة إلى حالة الاستقرار والتمدن والزراعة، ولذا فقد كان أقرب إلى القائد العسكري منه إلى الملك.

لم تمتد حـدود مملكتـه الصـغيرة إلى أبعـد من منطقة قبيلته (بنيامين). ومع ذلك، فإن انتخابه كان يعني الثورة ضد الفلستيين الذين هزمهم في بادئ الأمر. قام بحملات تأديبية ضد القبائل المعادية، وحاول تطهـير الدين من عوامل السـحر التي اسـتشرت فيه، ولكنه اصطدم، في نهاية الأمر، بكلٍّ من صموئيل وداود.

ألحق به الفلستيون هزيمة نكراء بجوار جبل جَلْيوع، وقتلوا ثلاثة من أولاده وأصابوه هو نفسه بجراح خطيرة فانتحر. ثم تم تتويج أحد أبناء شاؤول ملكاً على جزء من فلسطين لبعض الوقت، لكن صموئيل توج داود محله. واسم «شاؤول» ليس مقصوراً على العبرانيين إذ أن أحد ملوك الأدوميين كان يُسمَّى بهذا الاسم.

يوناثـــان

Jonathan

يوناثان هو ابن شاؤول البكر، وكان قائداً لقوات العبرانيين في عهد أبيه. والاسم عبري معناه «يهوه أعطى». وحينما شعر شاؤول بالغيرة المجنونة من داود قام يوناثان بحمايته، بل لم يشعر بالحقد نحو داود حينما عرف أنه سيعتلي العرش. وقد قُتل في المعركة الأخيرة مع الفلستيين ورثاه داود. وتُصوِّر إحدى المسرحيات الاسرائيلية الحديثة العلاقة بين يوناثان وداود كعلاقة شاذة.

المملكــة العبرانيــة المتحــدة: ظهــورها وانقســامها

United Hebrew Kingdom: Emergence and Division

المملكة المتحدة هي، في واقع الأمر، اتحاد القبائل العبرانية الذي سعى إليه شاؤول وأخذ شكل مملكة صغيرة أسسها شاؤول سُمِّيت «مملكة يسرائيل». ولكن الفضل الحقيقي في تأسيس المملكة يعود إلى داود، وقد خلفه ابنه سليمان في حكمها. وقد تمكَّن العبرانيون من تأسيس مملكتهم حوالي 1020 ق.م بسبب الفراغ الذي نشأ في الشرق الأدنى القديم. فمصر كانت تتعرض آنذاك لضغط الليبيين من الغرب إلى أن قامت أسرة ملكية تنحدر من أصل ليبي، وكان الحيثيون مشغولين بصد الغزاة من البحر (شعوب البحر)، ولم تكن بابل (العراق) قوة عظمى بعد، كما كانت الدويلات الآرامية في صراع بعضها مع بعض. أما آشور، فلم تكن قد بلغت بعد أوج عظمتها الإمبراطورية.

وبعد موت سليمان، انقسمت المملكة العبرانية المتحدة إلى دولتين: المملكة الشمالية (يسرائيل-إفرايم) والمملكة الجنوبية (يهودا)، وذلك لأسباب غير مباشرة وأخرى مباشرة. ولنبدأ بالأسباب غير المباشرة:

1 ـ لم يكن اتحاد القبائل العبرانية اتحاداً قومياً في صورة أمة وشعب وأرض وحضارة، بل كان تجمعاً اتحادياً لقبائل متفرقة يجمعها نسبها إلى بيت يعقوب وشريعة موسى ويجمعها وقوعها تحت سيطرة الشعوب الأخرى في كنعان وخارجها.

2 ـ ظهور آشور وبعدها بابل، وكذلك استعادة مصر سيطرتها على حدودها الشرقية ومركزها في فلسطين وبدء حملات شيشنق التأديبية في فلسطين. ولذا، فقد اختفى الفراغ في الشرق الأدنى القديم الذي سمح بظهور المملكة العبرانية المتحدة. أما الدويلتان الصغيرتان اللتان حلَّتا محلها، فقد كانتا خاضعتين لتقلبات القوى الداخلية في كنعانوالقوى الخارجية في بلاد الرافدين ومصر.

3 ـ كانت الاختلافات الاجتماعية والدينية عميقة بين مجموعتي القبائل الشمالية والجنوبية. فالقبائل التي كانت تسكن الشمال كانت مندمجة في بيئة زراعية وكانت أكثر تعرضاً للأثر الكنعاني، وكانت تمارس عبادة إلوهيم بطقوس مستمدة من العبادات الكنعانية، وخصوصاً بمفهوم بعل وعشتروت. وقد اعتاد أعضاء هذه القبائل سُكْنَى البيوت المُنعَّمة وتخلوا عن خشونة حياة البدو والرعي التي بدأوا بها. أما القبيلتان الجنوبيتان (يهودا وبنيامين)، فكان أعضاؤهما يعيشون حياة تقترب من حياة البدو ويعتمـدون على الرعي في المرتفعـات الصالحة لرعي الأغنام وسائر الأنعام، كما كانوا يمارسون عبادتهم بأسلوب يسرائيلي قديم يتَّسم بالقبلية والتعصب.

ولكن، حتى في فترة اتحاد القبائل في عصر داود وسليمان، حيث كانت تُعتبَر أكثر عهود العبرانيين رفاهيةً واستقراراً، ظل الاقتصاد معتمداً بالدرجة الأولى على المعاملات المالية والضرائب وجزية الرؤوس، حيث كان النشاط التجاري الداخلي محصوراً داخل نطاق ضيق جداً. أما الصناعة، فقد كانت في حالة بدائية ومتخلفة عما كانت عليه في الدويلات المجاورة. وحتى قبل عهد سليمان بزمن قصير، لم يكن معروفاً غير صناعتي الخزف والحديد البدائيتين. وكان هذا الوضع يدفع الأرستقراطية العبرانية ورجال الدين إلى استغلال العامة وانتزاع أكبر قدر يمكن انتزاعه من مواردهم الضئيلة عن طريق الربا والإقراض والقرابين والهبات والصيرفة، الأمر الذي كان يؤدي إلى تركُز الثروة في أيدي قلة. وقد حال هذا الوضع دون استطاعة العبرانيين بناء كيان مسـتقر ذي تقـاليد سـياسية ثابتة. وبعد ظهور الدولتين الشمالية والجنوبية، لم يقم اقتصاد زراعي/صناعي في أي منهما، بل ظل الاقتصاد ربوياً صيرفياً.

أما الأسـباب المباشـرة التي أدَّت إلى انقسـام المملكـة فكانت متعددة، فثمة أسباب سياسية متمثلة في الرغبة في الانفصال عن سطوة الهيكل في القدس أو في ممارسة حياة بعيدة عن الثيوقراطية، وثمة أسباب اقتصادية تمثلت في مشكلة الضرائب الباهظة التي فرضها سليمان. ولكل هذا، حين اجتمع ممثلو القبائل الاثنتى عشرة في القدس لينصبوا رحبعام بن سليمان ملكاً، أثيرت قضية الضرائب الباهظة التي فرضها أبوه، ولكنه رفض تخفيضها. ولذلك، رفضت القبائل العشر الاعتراف به، وانتخبت يربعام من قبيلة إفرايم ملكاً عليها وكان الناطق بلسانها. وشكلت هذه القبائل مملكة يسرائيل الشمالية التي كانت عاصمتها شكيم أولاً ثم ترصه ثم السامرة.

أما قبيلتا يهودا وبنيامين، فقد ظلتا متمسكتين ببيت داود ومصرتين على فرض السيطرة الدينية والسياسية على القبائل العبرانية كافة. واتسمت المملكة الجنوبية (يهودا)بالميل إلى الانغلاق مع استمرار العداوة قائمة بينها وبين المملكة الشمالية طوال تاريخهما، وقد كانتا تدخلان في تحالفات مع الدول المجاورة في صراعهما الواحدة ضدالأخرى.

داود (1004-965 ق.م)

David

«داود» اسم عبري معناها «محبوب»، وداود هو ثاني ملوك العبرانيين، ويرجع نسبه إلى إسحق بن إبراهيم. وُلد في القرن الحادي عشر قبل الميلاد وتولَّى العرش عام 1004 ق.م حتى وفاته في عام 965 ق.م، وقد رُويت قصته في سفر صموئيل الثاني. وداود، حسب العقيدة الإسلامية، نبي وملك، ولكنه حسب العقيدة اليهودي ملك وحسب. ويحيطه التراث اليهودي بحكايات تجعله يتصف بصفات غير محمودة.

كان داود راعياً وقاطع طريق، عمل حامل دروع عند شاؤول، وكان يعزف له ليُسرى عنه. وأظهر شجاعة غير عادية في قتال الفلستيين حينما صرع العملاق جُليات بالمقلاع، ثم تزوَّج من ميكال ابنة الملك. ولكن شعبية داود أثارت غيرة الملك عليه، فاضطر إلى الفرار والاحتماء بأعدائه. ولكن، بعد هزيمة شـاؤول على يـد الفلسـتيين وانتحاره، عاد داود إلى الخليل (حبرون)، وتوَّجه صموئيل ملكاً ليهودا. ولكن أسرة شاؤول توَّجت أحد أبنائه ملكاً. ونتيجة خسائر بقية القبائل في الحرب (ويُقال بسبب مساعدة الفلستيين له) ونتيجة مجموعة من الاغتيالات السياسية دبرها قائد قوات داود، انتهى الأمر باغتيال ابن شاؤول نفسه. ثم وجدت القبائل نفسها بدون ملك أو قواد حربيين، فقبلته القبائل العبرانية كافة وضمنها قبائل الشمال، فأسس المملكة العبرانية المتحدة. وبعد ثمانية أعوام من حكمه، فتح داود يبوس أو القدس وحوَّلها إلى عاصمة لمملكته لأنها تتوسط وتسيطر على أهم الطرق الداخلية، وبنى معبداً ليهوه أودع فيه تابوت العهد مؤكداً بهذا توحيد المملكة والقبائل العبرانية. وقد أصبح اللاويون الذراع الإدارية والتنفيذية للدولة، فكان منهم رجال الشرطة والقضاة والكتبة. ثم أسس جيشاً محترفاً بعد تركيز السلطة في القدس، وحارب الفلستيين حلفاءه السابقين والمؤابيين وآرام (سوريا) والعمونيين. وقد استمرت الحروب سجالاً بينه وبين قبائل المنطقة في أرض كنعان.

ومع أن داود ضم قطاعات واسعة من الأرض ووسع حدود مملكته وأبرم معاهدات مع صور وصيدا، إلا أن مملكته لم تكن مع هذا مملكة بمعنى الكلمة إذا ما قورنت بالوحدات السياسية المماثلة في ذلك العصر.

ولا يمكن فهم الإنجازات العسكرية أو السياسية لداود إلا في إطار العلاقات الدولية القائمة حينذاك في الشرق الأدنى القديم، إذ لم يكن من الممكن أن تحقق دويلة صغيرة مثل هذا التوسع إلا في حالة غياب القوى العظمى في ذلك الوقت. ويتميَّز حكم داود بتَحوُّل القبائل العبرانية من الحياة القبلية الرعوية شبه الزراعية إلى حياة مستقرة نوعاً ما تتميَّز بوجود ملكيات كبيرة للأرض. ومـع هـذا، لم يَخلُ الأمر من متاعـب داخلية، مثل ثورة ابنه ضده وغضب الأنبياء عليه وهو ما يدل على أن النمط القَبَلي لم يكن قد فقد تأثيره بعد.

ويُصوَّر داود كشاعر ومحارب وعاشق يرتكب الذنوب بسرعة غريبة ثم يندم عليها بالسرعة نفسها. وقصته التي ترويها التوراة أقرب ما تكون إلى قصة حياة زعيم همجي منها إلى قصة حياة رئيس جماعة يدعو إلى ديانة متطورة أخلاقياً، فقد نسبت التوراة إليه أنه اغتصب بتشبع زوجة أوريا الحيثي أحد رجاله العسكريين، فقد رآها عارية وهي تستحمّ فدفع زوجها إلى الجبهة في الحرب مع العمونيين كي يموت وتبقى المرأة خالصة له. ولكن الإله، برغم كل معاصي داود، كان يصطفيه ويغفر له. ويُنسَب إلى داود أحد أسفار العهد القديم (المزامير).

وقد عقد الإله معه عهداً أزلياً مثل العهد الذي عقده مع يسرائيل، ولذا سيكون الماشيَّح المخلّص «ملك يسرائيل» من نسله. ومع هذا، نجد أنه لم يكن يهودياً خالصاً إذ أن جدته راعوث كانت مؤابية.

وتصوِّره الأجاداه في صورة الملك الذي لا يمكن أن ينازعه أحد في حقه، كما تؤكد قدراته الجسدية الخارقة، وأنه حجة في الشريعة يقرأ التوراة دائماً، ولذا لم يستطع ملاك الموت أن يقبض روحه إلا باللجوء إلى الخديعة. وقد حاول الحاخامات أن يبينوا أنه لم يرتكب أياً من الذنوب التي ورد ذكرها في العهد القديم. أما في القبَّالاه، فإنه يُقرَن بالتجلي النوراني العاشر ويتسم بصفات «الملكوت». ويوجد إلى جـوار داود الدنيـوي داود الأعـالي أو داود الآخر، وهـو قرين داود الدنيوي، والذي يقود سكان العالم العلوي، ولذا فهو الشخيناه. كما أن داود هو القدم الرابعة للمركبة الإلهية، ويشكل الآباء الثلاثة الأقدام الأخرى. وتفسِّر القبَّالاه قتله أوريا الحيثي بأنه رمز لقتل الثعبان، وداود تجسيد للإنسان الأول (آدم). أما كونه مولوداً لمؤابية، فقد فُسِّر بأنه مثل نزول الماشيَّح إلى عالم الظلمة وفي الهوة وغوصه في الجانب المظلم حتى يمكنه أن يتغلب على قوى الشر.

ويحب كثير من الصهاينة والإسرائيليين أن يُشخِّصوا دولة إسرائيل بأنها داود الصغير الذكي سريع الحركة، والذي يهزم جليات البطل الفلستي المدجج بالسلاح (والذييُقرَن بالعرب) عن طريق استخدام المقلاع. وهذه هي صورة الصراع العربي الإسرائيلي كما رسخت في الوجدان الغربي. ولعل لاأخلاقية داود، وتَحوُّله من قاطع طريق إلى راع ثم إلى ملك وشاعر ومحب، تجعله إنساناً عصرياً ليست لديه هموم أخلاقية وقادراً على التكيف مع كل الظروف. وبعد الانتفاضة، واستخدام الفلسطينيين العزل الحجارة ضد آلة الحرب الإسرائيلية المتفوقة، أُعيدت صياغة الرموز وأصبح الفلسطينيون هم داود وأصبحت الدولة الصهيونية هي جُليَّات.

ســليمان (965-928 ق.م)

Solomon

«سليمان» اسم عبري معناه «رجل سلام». ويبدو أن هذا هو الاسم الملكي الذي اتخذه يديديا ابن داود بعد اعتلائه العرش. وكلمة «يديديا» معناها «أثير ليهوه» أو «خليل الرب». ويُعتبَر سليمان عند اليهود ملكًا وليس نبياً، وهو ثالث ملوك العبرانيين، ابن داود من بتشبع. حكم اتحاد القبائل العبرانية المسمَّى «المملكة العبرانية المتحدة» قبل وفاة أبيه بسبب احتيال أمه بمساعدة النبي ناثان. وقد بدأ سليمان حكمه، فيما روت التوراة، بحمام دم استهله بقتل أخيه إدونيا بعد أن خضع له، كما ذبح أفراداً آخرين كانوا يمثلون خطورة عليه مثل يؤاب رئيس جيش أبيه (ولكن عمله هذا لم يُغضب يهوه كثيراً)، كما أنه عزل آبيثار الكاهن.

وقد تحوَّلت القدس في عهده إلى مدينة تجارية بسبب ازدهار التجارة التي قامت على الاتصالات بالشعوب المحيطة وعلى استخدام السفن في البحر الأحمر ونقل البضائع. وبنى سليمان في عصيون جابر (إيلات) أسطولاً تجارياً بمساعدة الملك التاجر حيرام ملك صور الذي مده أيضاً ببحارة عارفين بالبحر، واستخدم هذا الطريق الجديد بدلاً من طريق مصر في تجارته مع بلاد العرب وأفريقيا. وقام سليمان ببناء الهيكل وبنى قصره الملكي في القدس. وقد قامت ملكة سبأ بزيارته لذيوع صيته، حسب الرواية التوراتية.

وبشكل عام، نعمت مملكته بالسلام لأسباب كثيرة من بينها الحلف الذي عقده أبوه مع الفينيقيين، والتحالفات التي عقدها هو مع الدويلات المجاورة. وقد تمتعت المملكة بحالة من الاستقرار والاستقلال النسبيين بسبب حالة الفراغ السياسي التي عاشتها المنطقة في تلك الفترة نتيجة انكماش كل القوى الإمبراطورية فيها أو غيابها لسبب أو آخر. ولكن، لا ينبغي مع ذلك أن نظن أن دولة سليمان كانت دولة عظمى، فاقتصادها كان محدوداً، ونشاطها التجاري الداخلي كان محصوراً في نطاق ضيِّق جداً، وكانت الصناعة بدائية ومتخلفة.

جمع سليمان عدداً كبيراً من الزوجات والسراري يصل إلى الألف (ملوك أول 11/3) من الأجناس كافة، منهن الفينيقيات والمؤابيات والعمونيات والحيثيات والمصريات. وبنى بتأثيرهن منصات عبادة قرب القدس لعبادة إله صيدا ومؤاب وعمون (ملوك أول 11/5 ـ 8). وازداد اندماج العبرانيين في عهده مع الشعوب والقبائل المحيطة بهمفي فلسطين واتخذوا مظاهر العبادات الكنعانية المختلفة الأمر الذي ابتعد بالدين عن جوهر ديانة موسى، وأدَّى ذلك فيما بعد إلى ظهور الحركة الاجتمـاعية للأنبـياء. وتذكر التـوراة أن سـليمان صاهر فرعون، ملك مصر، وتزوَّج ابنته (ملوك أول 3/1)، وقد حصل على مدينة جيزر (بالقرب من القدس)، وكانت تابعة لمصر، مهراً لزواجه، وهذا هو التوسع الوحيد الذي أنجزه سليمان. ويبدو أن هيبة ملوك مصر في تلك الحقبة كانت قد هبطت حتى ارتضت مصر أن يتزوَّج ملك صغير الشأن كسليمان من إحدى أميراتها.

وفي أواخر حكم سليمان، حرر الملك الآرامي رزين نفسه ومملكته منه، كما بدأ الأدوميون في إزعاجه، بل بدأت تظهر مشاكل داخلية حادة بسبب حالة الاستقطاب الطبقيوالضرائب الثقيلة التي فرضها لتمويل أعمال البناء والسخرة اللازمة لتنفيذها. وقد أدَّى ذلك إلى سخط قبائل الشمال، فانحلّ اتحاد القبائل العبرانية بعد وفاته وانقسمتالمملكة إلى مملكتين: المملكة الشمالية والمملكة الجنوبية. واستولى شيشنق، أول فراعنة الأسرة الثانية والعشرين، على القدس ونهب معظم ما فيها من كنوز (ملوك أول 14/25).

ويقف كثير من النقاد موقف المستريب إزاء قصة مجد سليمان التي توردها أسفار الملوك والأيام، ويقولون إن التحيز القومي لدى كُتَّاب متأخرين هو الذي دعاهم إلى الإضافة والمغالاة في القصة. وهو يُعَدُّ حسب فلكلور الماسونية مؤسِّس أول محفل ماسوني في العالم باعتباره باني الهيكل. وتُنسَب إليه بعض كتب العهد القديم، كالأمثال ونشيد الأنشاد وبعض المزامير... إلخ.

الباب الرابع عشر: المملكة الجنوبية والمملكة الشمالية

المملكـة الجنوبيـــة (يهـودا)

(Southern Kingdom (Judah

بعد موت سليمان عام 928 ق.م وانقسام اتحاد القبائل العبرانية (المملكة العبرانية المتحدة) إلى مملكتين، سُمِّيت المملكة الجنوبية «يهودا» لأنها ضمت قبيلتي يهودا (التي كانت دائماً في علاقة واهية مع بقية العبرانيين) وبنيامين، وهما القبيلتان اللتان بايعتا رُحبعام بن سليمان ملكاً، في حين بايعت القبائل العشر الباقية يُربْعام ملكاً على الجزء الشمالي الذي سُمِّي باسم «مملكة يسرائيل» أو «المملكة الشمالية». كانت القدس عاصمة مملكة يهودا التي تقع على البحر الميت. ولم يكن لهذه المملكة ساحل على البحر الأبيض، إذ كان الفلستيون يشغلون الجزء الجنوبي من الشريط الساحلي (غزة وأشدود والمجدل ويافا والمنطقة التي تقع فيها الآن مدينة تل أبيب). وقد كانت المملكة الجنوبية أكثر استقراراً من الشمالية، وذلك نظراً لصغر حجمها إذ بلغ ثُلث المملكة الشمالية، ولقلة أهميتها وبعدها عن طرق الجيوش الغازية، وفقرها وبدائية اقتصادها، وهذا ما جعلها بمنأى عن الاضطرابات الداخلية والغزوات الخارجية التي قضت على المملكة الشمالية. ولكل هذا أيضاً، قُدِّر لها البقاء مدة أطول. ومع هذا، فقد ظهر في المملكة الجنوبية مُعظم الأنبياء ودُوِّن فيها معظم العهد القديم، كما احتفظت فيها ديانة يهوه بدرجة أكبر من النقاء، وإن كانت قد دخلت عليها عناصر وثنية بدأت منذ عهد سليمان حين تزوج وثنيات (حسب الرواية التوراتية). وكانت المملكة الجنوبية، مثل الشمالية، خاضعة إما للنفوذ المصري أو للنفوذ الآشوري، كما أنها لم تكن قط مملكة قوية بل قضت معظم تاريخها في الدفاع عن نفسها أو في التحالف مع إحدى القوى العظمى أو في الاستفادة من الصراعات الناشئة بين القوى العظمى في المنطقة أو من الضعف المؤقت الذي كان يصيب بعضها أحياناً.

وقد شغل عرش يهودا تسعة عشر ملكاً (راجع الجداول التاريخية في المجلد الأول). غير أن هذه المملكة الجنوبية دامت نحو قرن وثُلث بعد زوال المملكة الشمالية. وأول ملوكها رُحْبعام بن سليمان من زوجته العمونية الذي حكم من 928 إلى 911 ق.م. وقد غزا شيشنق فرعون مصر الليبي مملكته عام 918 ق.م (مثلما غزا مملكة الفلستيين وأدوم) وحمـل معـه كنوز الهيكل والقصر غنائم. ويذكر شيشنق في قائمة الكرنك مائة وخمسين مكاناً استولى عليها. ويبدو أن شيشنق قام أثناء حملة تأديب يهودا بغزو المملكة الشمالية كذلك. واعتلى الملك إبيام (911 ـ 908 ق.م) العرش ودخل في حرب طويلة مع يُربعام ملك المملكة الشمالية وهزمه. وهناك من الدلائل ما يشير إلى أنه انتصر، فقد كان على اتصال بآرام دمشق التي زادت قوتها بعد أن استقلت عن سليمان وأبرمت معه معاهدة ضد يُربْعام. ومنذ هذه اللحظة، أصبحت آرام دمشق عنصراً أساسياً في العلاقة بين المملكتين والمستفيد الأكبر من الصراع بينهما. واستمر آسا (908 ـ 867 ق.م) في هذه الحرب من بعده، ولكنه اضطر هو أيضاً إلى طلب العون من آرام دمشق لكي يوقف الغزو الشمالي لمملكته، وقام بتحصين المدن على الحدود بين المملكتين، وهذا ينهض دليلاً على أن الأمل الذي راود حكام المملكة الجنوبية باستعادة المملكة الشمالية وإعادة المملكة المتحدة كان قد انتهى. وقد جدد آسا العلاقات التجارية مع صور والمدن الفلستية الأمر الذي أدَّى إلى دخول العبادات الوثنية، ولكن يبدو مع هذا أن آسا قد بذل قصـارى جهـده للحفــاظ على استقلاله السياسي وعلى نقاء عبادة يهوه.

ثم اعتلى يهوشافاط العرش عام 867 ق.م، واستمر حكمه حتى عام 846 ق.م. ووُقعت أول معاهدة سلام بين ملوك المملكة الجنوبية والمملكة الشمالية في عهد أخاب. وعلى عادة الملوك في العصور القديمة، زوّج يهوشافاط ابنه يورام من عثـليا ابنة أخاب ملك المملكة الشمالية، وكأنهما ملكان لأمتين مختلفتين تمام الاختلاف. وقد عقد يهوشافاط تحالفاً عسكرياً مع أخاب ضد مملكة آرام دمشق ولكنهما أخفقا في تحقيق الهدف من التحالف. وكان الإخفاق من نصيبه مرة أخرى حين عقد تحالفاً مع ابن أخاب ضد ميشع ملك مؤاب. ويُقال إن المملكة الجنوبية انضمت إلى جانب المملكة الشمالية في معركة قرقار. وقد حاول يهوشافاط أن يعيد تجارة يهودا البحرية فسانده الفينيقيون في بناء أسطول بحري غرق في عصيون جابر (إيلات) قبل أن يبحر.

وحينما اعتلى يورام عرش المملكة الجنوبية من بعده (846 ـ 843 ق.م)، بدأ حكمه بقتل جميع إخوته وعدد كبير من الأعيان حتى يأمن التآمر على عرشه. وقد أدخل عبادة بعل تحت تأثير زوجته عثـليا ابنة أخاب التي حاولت أيضاً أن تُغيِّر أسلوب الحياة في البلاط. ويبدو أنها حاولت أن تزيد اعتماد المملكة الجنوبية على الشمالية، وفي عهده ثار الأدوميون واستقلوا، كما غزا الفلستيون والكوشيون مملكته وحملوا الكثير من الغنائم من القدس وأسروا أعضاء الأسرة المالكة ما عدا أحزيا (843 - 842 ق.م) حفيد أخاب الذي كان من عبدة بعل مثل أمه وانضم إلى عمه يورام، ملك المملكة الشمالية (851 ـ 842 ق.م)، حيث خاضا معركة ضد ملك سوريا الآرامي. وعندما جرح يورام، قام أحازيا بزيارته فلقي كلاهما مصرعه على يد ياهو.

وقد حكمت الملكة عثليا المملكة بعد مقتل ابنها (842 ـ 836 ق.م)، فأبادت أعضاء الأسرة المالكة كلهم إلا حفيدها يوآش الذي أنقذته عمته زوجة الكاهن الأعظم وخبأته في المعبد. وحينما لقيت هي مصرعها في النهاية، بأمر من الكاهن الأعظم، اعتلى يوآش العرش (836 ـ 798 ق.م) وأعاد عبادة الهيكل لبعض الوقت، ولكن يبدو أنه لم يستمر في ذلك طويلاً. وقد غزا ملك آرام دمشق المملكة الجنوبية في عصره، فاضطر يوآش إلى دفع جزية كبيرة أُخذت من أموال الهيكل، وهو ما ولَّد توتراً بينه وبين الكهنة. وبعد اغتياله، اعتلى ابنه إمصيا (798 - 769 ق.م) العرش. وحاول إمصيا أن يُخضع أدوم عن طريق جيش من الجنود المرتزقة الذين أحضرهم من المملكة الشمالية، ولكنه اضطر إلى تسريحه، ثم حاول تجنيد جيش من مملكته ولكنه فشل في مسعاه. ثم نشبت الخلافات بينه وبين المملكة الشمالية، فهزمه يوآش ملكها ودخل القدس ونهب الهيكل وكنوز القصر ووقَّع عقوبات اقتصادية على أهلها وأخذ معه رهائن، وأصبح إمصيا تابعاً للمملكة الشمالية، وانتهى حكمه بثورة عليه انتهت بقتله.

ومن أهم ملوك المملكة الجنوبية عُزّيا (769ـ 733 ق.م) الذي دام حكمه فترة طويلة إذ توقفت القوة الآشورية عن التدخل في المنطقة بعد أن ألحقت الهزيمة بآرام دمشق، وهو ما أفسح له المجال للحركة، وخصوصاً في غياب قوى عظمى أخرى. فأعاد تنظيم الجيش وزوَّده بأسلحة جديدة، وبنى الحصون لعمليات الاتصال والدفاع، وحصَّن القدس على وجه الخصوص تحسُّباً للهجوم الآشوري المتوقع، وشجع الزراعة وأعاد بناء ميناء إيلات على البحر الأحمر. وقد غزا عُزِّيا المدن الفلستية وترأَّس حلفاً من ملوك الدويلات التي كانت تعارض تيجلات بلاسر الآشوري، وهو ما يعني أن المملكة الجنوبية كانت قد أصبحت في ذلك الوقت أكثر أهمية من الشمالية، وذلك من ناحية سياستها الدولية في المنطقة. ووصلت المملكة الجنوبية إلى قمة ازدهارها في عهد عُزِّيا الذي ظهر فيه النبي أشعياء. وثمة إشارات إلى وجود توتر بين الملك والكهنة، ولعله استمرار للتوتر الذي بدأ في عهد أبيه.

وقد أصبحت القوة الآشورية عنصراً أساسياً في السياسة الداخلية للمملكة الجنوبية. فبعد أن اعتلى يوثام العرش (758 ـ 743 ق.م) (ويبدو أنه اعتلى العرش وحكم بعض الوقت تحت رعاية أبيه) بدأت الضغوط على المملكة الجنوبية للانضمام إلى الحلف المعادي للآشوريين، ولكنه قاومها. وقد ظهر النبي ميخا في عهده. وقامت كلٌّ من المملكة الشمالية وآرام بمهاجمة المملكة الجنوبية في عهد الملك آحاز (733 ـ 727 ق.م) حينما رفض الأخير الانضمام إلى الحلف المعادي لآشور، فطلب الملك العون منتيجلات بلاسر الذي قام بغزو سوريا والمملكة الشمالية عام 733 ق.م فأخضعهما وقضى على حكم المملكة الشمالية. أما المملكة الجنوبية، فقد دفعت الجزية له، وهو ما ضمن لها الاستمرار. وقد نتج عن ذلك أيضاً تبعية دينية لآشور إذ شيد آحاز مراكز للعبادة الآشورية. وقد اقتحم الفلستيون مدن السواحل وجنوبي مملكته، كما هاجمه الأدوميون. واستمرت نبوة أشعيا وميخا في عصر آحاز، وكان أشعياء ضد التحالف مع آشور.

ومع زوال المملكة الشمالية، أصبحت المملكة الجنوبية معرضة بشكل مباشر للنفوذ الآشوري، وتَنازَع سياستها الداخلية حزبان: أحدهما آشوري والآخر مصري. وقد بدأ حزقيا (727 ـ 698 ق.م) عهده بممالأة آشور والخضوع لها، الأمر الذي ضمن له فترة من الهدوء النسبي، ولكنه نحا بعد ذلك منحىً استقلالياً أو معادياً لآشور بتشجيع من مصر. وقد أخذ هذا الاتجاه شكل تطهير الدين من النفوذ الآشوري، ومن المعابد والمذابح والوثنيين. وقد أيَّد النبي أشعياء الذي كان له نفوذ كبير في المملكة هذهالإصلاحات. ثم تحالف حزقيا مع المدن الفلستية المجاورة وغير ذلك من الدويلات المدن وقام بتمرد ضد آشور عام 722 ق.م. ولذلك، قام سرجون الثاني بإرسال حملة تأديبية استولت على المدن الفلستية، ولكنها لم تدخل أدوم أو يهودا أو مؤاب. وبعد موته عام 705 ق.م، قاد حزقيا، بتشجيع من مصر وبابل، حلفاً يضم أدوم ومؤاب وصيدا والمدن الفلستية. فقام سناخريب (خلف سرجون) بغزو المملكة الجنوبية في عام 701 ق.م، واستولى على كثير من المدن، وهزم القوة المصرية التي أُرسلت لمساعدة المملكة الجنوبية، ولكن جيشه رفع الحصار (ربما بسبب حدوث خلافات داخلية في آشور) دون أن تسقط القدس. وقد سُمح لحزقيا بالاحتفاظ بعرشه على أن يدفع الجزية ويتنازل عن ثلاث وأربعين مدينة.

وقد دفع ابنه منَسَّى (698 ـ 642 ق.م) الجزية أيضاً، فعاشت مملكته في سلام مدة نصف قرن تحت نفوذ آشور التي كانت تشهد آنذاك آخر أعوام حكامها العظام. ونجم عن ذلك أن جميع الآلهة الأجنبية (مثل بعل) كانت تُعبَد في الهيكل. ولذا، يُعَدُّ عهد منَسَّى من أسوأ العهود من وجهة النظر الدينية. وبعد أن قُتل ابنه آمون (641 ـ 640ق.م)، بسبب خضوعه الكامل للقوة وللعبادة الآشورية، اعتلى يوشيا العرش (639 ـ 609 ق.م) وهو بعد في الثامنة. وأخذت الدولة الآشورية في الضعف، الأمر الذي ساعد على ظهور حركة استقلالية جديدة أخذت شكل إصلاح ديني أيَّده الأنبياء المعاصرون مثل إرميا. وأثناء إصلاح الهيكل، عثر الكاهن الأعظم على كتاب الشريعة الذي يُقال إنه جزء من سفر التثنية، فدعا الملك الشعب إلى اجتماع وعقد ميثاقاً مع الرب. وأزال الملك الأماكن المرتفعة التي تُعبَد فيها الآلهة الأخرى (الإصلاح التثنوي)، وركزالعبادة في القدس. وقد حاول يوشيا، عام 608 ق.م، أن يُوقف مرور الجيش المصري بقيادة الفرعرن نخاو الذي كان يتحرك لمساعدة آشور ضد بابل ولكنه هُزم وقُتل في معركة مجدو. واعتلى يوآحاز العرش، ولكن نخاو خلعه بعد ثلاثة أشهر من الحكم وقبض عليه.

أما خلفه يهوياقيم (609 ـ 598 ق.م) الذي عيَّنه المصريون على عرشه، فقد ظل تابعاً لهم مدة ثلاثة أعوام. ولكن، مع هزيمة المصريين على يد البابليين في معركةقرقميش (عام 605 ق.م)، أصبح يهوياقيم تابعاً لبابل. ولكنه انضم عام 601 ق.م إلى الحزب الممالئ لمصر في المملكة الجنوبية ضد نصيحة إرميا، وتحدَّى نبوختنصر ملك الدولة البابلية الذي كانت جيوشه قد ألحقت الهزيمة بنخاو عام 605 ق.م ووصلت إلى فلستيا، وتم تهجير بعض سكان يهودا إلى بابل. بل يبدو أن الجيوش البابلية وصلت إلى القدس عام 603 ق.م. وكان يهوياقيم خاضعاً لبابل مع احتفاظه بالعلاقات مع مصر التي شجعته ووعدته بتقديم المساعدة. وحينما تمتعت مصر بازدهار مؤقت وهزمت نبوختنصر، تمرَّد يهوياقيم على بابل. وكان النبي إرميا ضد الحلف الجديد مع مصر، وبيَّن أن الخلاص الوحيد يكمن في الخضوع لبابل. وحينما قام نبوختنصر بفرض الحصار على القدس، لم تصل الإمدادات الموعودة من مصر، ومات يهوياقيم أثناء الحصار عام 598 ق.م، فاعتلى ابنه يهوياكين العرش مدة ثلاثة أشهر وعشرة أيام قبل أن يستسلم لنبوختنصر، وسقطت القدس ونُفيَ الملك إلى بابل.

ولكن نبوختنصر عيَّن أحد أبناء يوشيا (صدقياهو) ملكاً على يهودا من عام 597 إلى عام 587 ق.م، فتظاهر بالولاء للقوة الجديدة. ولكنه في العام التاسع من حكمه، تحالف مع المصريين وحاول الاستقلال عن بابل وانضم إلى التمرد الذي ضم فينيقيا وشرق الأردن وكل فلسطين، وذلك بتشجيع من مصر التي أرسلت قوة لمساعدة يهودا. ولكن القوة المصرية هُزمت، وباءت محاولة الاستقلال بالفشل ودُمِّرت القدس ومدن المملكة الجنوبية كلها وهُجِّرت النخبة إلى بابل. ثم أصبحت سوريا كلها مستقرَّة في قبضة الإمبراطورية البابلية الجديدة (تحالف الكلدانيين والحوريين). وقد عُيِّن جدَاليا حاكماً على ما تبقى من فقراء العبرانيين في الغرب، ولكنه اغتيل بعد عدة شهور. وقُتل بعض الجنود البابليين فخاف العبرانيون من انتقام البابليين، وهاجرت جماعات كبيرة منهم إلى مصر واستوطنتها. وتحوَّلت المملكة الجنوبية إلى وحدة إدارية تابعة لبابل.

المملكة الشــمالية (يسـرائيل - إفــرايم)

(Northern Kingdom (Ysrael; Ephraim

بعد موت سليمان عام 928 ق.م وانقسام اتحاد القبائل العبرانية (المملكة العبرانية المتحدة)، أُطلق اسم «يسرائيل» أو «إفرايم» على المملكة الشمالية، كما كانت تُسمَّىأحياناً «السامرة» نسبة إلى عاصمتها. وكانت تقع حسب الرواية التوراتية والمدونات التاريخية على بحيرة طبرية، وتضم نهر الأردن والضفة الغربية ومنها نابلس وأجزاء من الضفة الشرقية والجليل. وكان لهذه الدولة على خلاف المملكة الجنوبية، شريط ساحلي. كما أن مساحتها كانت تبلغ ثلاثة أضعاف مساحة المملكة الجنوبية. وكانت قبيلة إفرايم من أهم قبائل هذه المملكة وجاء منها معظم ملوك المملكة، ولهذا سُمِّي اتحاد هذه القبائل باسمها. وبدأ تاريخ المملكة الشمالية حينما بايعت القبائل العبرانية العشريُربعام ملكاً، رافضةً إعطاء البيعة لرُحبعام بن سليمان الذي نُصِّب ملكاً على قبيلتي الجنوب في اتحادهما المسمَّى «المملكة الجنوبية».

كانت المملكة الشمالية أكثر أهمية من الناحية السياسية والاقتصادية. ومع هذا، كانت تتنازعها الخصومات إذ لم يكن لها مركز ديني قوي مثل القدس، ولم تكن عبادة يهوه القومية راسخة فيها. وقد كانت الأسرة الحاكمة فيها لا تتمتع بشرعية قومية دينية مثل أسرة داود. كما كانت أكثر تعرضاً للغزو الخارجي من المملكة الجنوبية، ولم يكن لملوكها سياسة خارجية واضحة. وكانت مكوَّنةً من عناصر قَبَلية كثيرة غير متجانسة إذ كانت تضم عشر قبائل في مقابل قبيلتين في المملكة الجنوبية. ولكل هذا، نجد أنها في فترة لا تزيد على ثلاثة قرون وعشر سنوات، حكمها تسعة عشر ملكاً ينتمون إلى تسع أسر، مات منهم عشرة عن طريق العنف وحكم سبعة فترة أقل من سنتين. ولم تتمتع المملكة بأي استقرار إلا لفترة وجيزة (887 ـ 743 ق.م).

وسعى رؤساء القبائل الشمالية إلى التهوين من شأن القدس وهيكلها حتى من الناحية الدينية، واستعاضوا عن ذلك بتأسيس معابد محلية لممارسة شعائر الدين متأثرين في ذلك بنظام العبادات الكنعانية الذي يتَّسم بعدم مركزية مقرّ الإله. كما أقيم في السامرة معبد لينافس الهيكل فيحج إليه الشماليون، وخصوصاً بعد أن منعهم الجنوبيون أنفسهم من الحج إلى القدس، كما أسسوا أماكن مقدَّسة محلية في دان وبيت إيل.

وأول ملوك المملكة الشمالية يُربْعام الأول (928 - 907 ق.م) من قبيلة إفرايم القوية. وكان من المشرفين على أعمال السخرة في عهد سليمان، لكنه قاد الثورة ضده بسبب ضرائبه ومطالبه التي أثقلت كاهل الناس. وحينما فشل التمرد، فرَّ إلى مصر حيث لجأ إلى شيشنق فرعون مصر الليبي (الأسرة 22). وبعد موت سليمان، ترأس الوفد الذي أرسلته قبائل الشمال ليقابل رُحبعام مطالباً بتعديل نظام الضرائب والسخرة. وعندما رُفض الطلب، أعلنت قبائل الشمال استقلالها وتوَّجت يُربْعام ملكاً. ويبدو أن رُحبعام لم يتمكن من ضرب المملكة الجديدة خوفاً من تهديد شيشنق الذي كان يهمه القضاء على مملكة سليمان. واتخذت المملكة من شـكيم عاصـمة لها، لكنهـا نقلت بعد ذلك إلى بنوئيل عبر الأردن، وأخيراً إلى ترصه. وقد أسـس يُربعام معـبداً في بيـت إيـل ودان، وجعل رمز الديانة العجول الذهبية. كما غيَّر يُربْعام موعد الأعياد حتى يحوِّل حجاج مملكته عن الذهاب إلى القدس، وطرد اللاويين الذين كانوا يشكلون جزءاً من المملكة العبرانية المتحدة ومن إدارتها. وخاض يُربعام حرباً دائمة مع المملكة الجنوبية التي رفضت الاعتراف بالتقسيم. ويبدو أن شيشنق قام بغزو المملكة الشمالية (ربما بعد موت يُربْعام) رغم أن عداءه كان موجهاً أساساً ضد المملكة الجنوبية.

وتاريخ المملكة الشمالية بعد ذلك تاريخ اضطرابات وعنف وتحالفات مؤقتة. فبعد موت يُربْعام الأول الذي تميَّز حكمه بالاستقرار، اعتلى ابنه ناداب العرش (907 ـ 906 ق.م)، ولكنه اغتيل هو وبقية أعضاء أسرته أثناء حربه ضد الفلستيين على يد منافسه بعشا (906 - 883 ق.م) من قبيلة يَسَّاكر الذي أنهى حكم قبيلة إفرايم وأبَّرم تحالفاً مع بن هدد الأول ملك آرام فحاربا معاً ضد المملكة الجنوبية. وحينما غيَّر بن هدد موقفه وتخلى عن تحالفه، هُزم بعشا وتنازل عن جزء من أراضيه. واعتلى ابنه إيلا العرش (883 ـ 882 ق.م)، لكن زمري، قائد عرباته العسكرية، قتله وهو يحاصر إحدى المدن الفلستية وحلّ محله (882 ق.م).

ولم يدم حكم زمري طويلاً لأن الجيش انتخب عمري (882 ـ 871 ق.م) ملكاً وحاصر العاصمة،وهذا ما اضطر زمري إلى أن يضرم النار في نفسه وفي قصره بعد أن حكم لمدة عام واحد.ولكن عمري لم يُحكم قبضته على المملكة إلا بعد ست سنوات من الحرب الأهلية ضد تبني بن جينـه الذي أعلن نفسـه ملـكاً.وقد جعل عمري من السامرة عاصمة لمملكته، وابتنى فيها لنفسه قصراً.وقد كان الخوف من القوة الآرامية وسطوتها العنصر الأساسي في السياسة الخارجية عند عمري في تلك الفترة.ويبدو أن الضغوط الآرامية كانت قوية إلى درجة أن المملكة اضطرت إلى منح الدول/المدن الآرامية الحق في فتح وكالات تجارية في السامرة وكذلك إعطائها امتيازات خاصة. ولمعادلة هذا الموقف، قام عمري بتقوية علاقاته مع الفينيقيين (صور وصيدا)، فزوَّج ابنه من إيزابيل ابنة ملك صيدا، لتدعيم التحالف على عادة الملوك القدماء. وقد أتاح هذا التحالف الفرص التجارية أمام المملكة الشمالية حتى إنها نجحت في إقامة علاقات تجارية مع قبرص. وقد كان لهذا التحالف أعمق الأثر في الحياة الدينية في المملكة إذ أن العبادات الوثنية في صيدا كانت قد انتشرت بين الطبقات الثرية. وقد حاول عمري إقناع المملكة الجنوبية بالانضمام إلى محور صيدا ـ السامرة. ونظراً للسلام المؤقت الذي تمتعت به المملكة الشمالية، نجح عمري في استعادة الهيمنة على المؤابيين، وقام بحركة عمرانية قوية، وأحاط العاصمة بعدد كبير من التحصينات، وقد تمتعت المملكة بدرجة لا بأس بها من الازدهار حتى أن الآشوريين كانو يُعرِّفون المملكة الشمالية باسم «مملكة عمري».

الصفحة التالية ß إضغط هنا