بديع الزمان سعيد النورسي 3

الفصل الثالث

أواخر حياته

1368-1379

1950-1960

ســـنة 1950م:

استبشر المسلمون بمجيء (الحزب الديمقراطي) إلى الحكم، لا لان هذا الحزب كان حزباً إسلامياً، بل لسببين رئيسين:

1ـ انه أزاح من الحكم أشرس عدو للإسلام.

2ـ انه أعطى بعض الحرية للنشاط الإسلامي، وارجع الأذان الشرعي.

لذلك فقد أرسل الأستاذ بديع الزمان برقية تهنئة لرئيس الجمهورية الجديد )جلال بايار( تمنى فيها أن يوفقه الله لخدمة الإسلام. وقد ردّ عليه رئيس الجمهورية ببرقية شكر.

محكمة أخرى في استانبول:

بعد مدينة )أسكي شهر( توجّه الأستاذ بديع الزمان إلى مدينة )إسبارطة( حيث بقي فيها سبعين يوماً، التقى طلابه مستعيداً ذكرى سنوات نفيه التي قضاها فيها.

في تلك الأيام قام بعض طلابه في استانبول بطبع رسالة )مرشد الشباب( [1] بالحروف الجديدة، مما تسبّب في إقامة دعوى ضده بحجة مخالفته للمادة (163) في الدستور التركي؛ وهي المادة التي تحظر أي نشاط يستهدف إقامة الدولة على أسس دينية.

وقد استدعى الأستاذ بديع الزمان إلى استانبول للمثول أمام محكمة الجزاء الكبرى وحدد يوم 22 كانون الثاني 1952م. للنظر في هذه الدعوى، وخلال هذه الفترة كتب بحوث رسالة (مفتاح لعالم النور).

توجّه بديع الزمان إلى استانبول، ونـزل في فندق )آق شهر(. كانت هذه أول زيارة لمدينة استانبول بعد غيـبة دامت سبعة وعشرين عاماً.

استانبول.. تلك المدينة الجميلة.

استانبول.. مدينة الجوامع والمنائر.. المدينة التي قضى فيها سنوات لا ينساها من عمره، والتي ترك فيها مئات من أصدقاء العمر قبل أن تبدأ سنوات النفي والسجن والوحدة التي أخذت من عمره ربع قرن من الزمان.

وما أن وصل إلى استانبول حتى بدأ سيل الأصدقاء القدامى بالوفود عليه.

كانت مقابلات مؤثرة..يا للذكريات الكثيرة البعيدة.. البعيدة! ذكريات كلها جهاد في سبيل الله وفي سبيل رسوله الحبيب.

كما توافد عليه سيل من طلاب النور ومن الشباب الجامعي المؤمن الذين كانوا يتحرقون شوقاً إلى رؤية مرشدهم الكبير.. إلى رؤية الشخص الذي قضى عمره كله مجاهداً في سبيل الله في أحلك السنوات، والذي حمل في يده سراج الهداية وسط أعتى العواصف دون أن تلين له قناة أو تفتر له همة.

المحـكمة :

انعقدت المحكمة في يوم (22 /1/ 1952م). وجاء الأستاذ يحف به المئات من طلبة النور.

كانت قاعة المحكمة قد امتلأت بجموع من الشعب الذين حضروا لمتابعة هذه القضية ولرؤية هذا الشيخ الذي شغل تركيا كل هذه السنين. كما امتلأت ممرات المحكمة، وامتد الازدحام إلى الشارع.

جلس الأستاذ في المكان المخصص للمتهمين. وبدأ الادعاء العام بقراءة تقرير الخبراء المكلفين بتدقيق رسالة )مرشد الشباب( ثم تمّ استجواب الأستاذ. كان تقرير الخبراء يقول باختصار ما يأتي:

)أن المؤلف يحاول في رسالته هذه نشر الفكرة الدينية، وانه يحاول رسم طريق معين للشباب بوساطة هذه الأفكار، وانه يدعو النساء إلى الاحتشام وعدم السير والتجول بملابس تكشف عن أجسامهن لان ذلك يصادم الفطرة، ويخالف الإسلام والآداب القرآنية.

كما أن المؤلف يدعو إلى تدريس الدين وهو بذلك يؤيد إقامة نظام الدولة على أسس دينية.. الخ(.

وبعد الانتهاء من قراءة صيغة الاتهام قام الأستاذ بديع الزمان للردّ على ما ورد أعلاه قائلاً ما خلاصته:

)إن خمساً وثلاثين سنة من عمره يعطي مثالاً جيداً لا يقبل الشك بأنه لم يشتغل بالسياسة مطلقاً، ولم تكن له أية علاقة بأية أمور دنيوية أو بتيارات ضارة.

إن ما يهمّه ويشغل باله هو أن يخدم القرآن، وان يوضح الحقائق الإيمانية.

وانه حاول ولا يزال يحاول بكل جهده أن ينقذ الإيمان. وان قرارات البراءة الصادرة من محاكم مختلفة بحقه تعطي الدليل القاطع على ذلك.

أما بخصوص رسالة )مرشد الشباب( فان قيام الشباب بطبعها يجب أن يكون مبعث سرور وارتياح، ذلك لان هذه الرسالة تحاول إنقاذ الشباب والشابات من التيارات العديدة التي تعمل على هدم بنية المجتمع ونخر جسمه(.[2]

وبذلك انتهت الجلسة الأولى للمحكمة على أن تعاود انعقادها في 19 شباط.

وعند انعقاد الجلسة الثانية في موعدها المحدد، كان هناك ازدحام اشد إلى درجة تعذر على الشرطة السيطرة على الناس المتدافعين.

وفي هذا الجو من الزحام والتدافع لم يكن من الممكن إجراء المحكمة، لذلك فقد توجه رئيس المحكمة إلى الموجودين قائلاً لهم:

ـ إذا كنتم تحبون الشيخ، فافسحوا لنا المجال لكي نستطيع الاستمرار في إجراءات المحاكمة.

وعلى أثر هذا الطلب فقد بدأ الجمهور بالتراجع، وهكذا بدأت المحاكمة إذ أُستدعي صاحب المطبعة الذي قام بالطبع كما استمع إلى شهادة الشرطة. ثم قام بديع الزمان وقدم اعتراضه على تقرير الخبراء.

وحينما أدركته صلاة العصر طلب الأستاذ السماح له بتأدية الصلاة، وقد أجيب إلى طلبه، إذ أعلن رئيس الحكمة انتهاء الجلسة الثانية.

وفي الجلسة الثالثة التي انعقدت في (5 مارت سنة 1952) اتخذت الحكومة احتياطات أمن مشددة، فوزعت مئات من رجال الشرطة أمام المحكمة وداخلها حيث استطاعت بذلك تنظيم السيطرة على الآلاف من محبي وطلاب الأستاذ بديع الزمان.

في البداية استمعت المحكمة إلى شهادة الطالب الجامعي الذي قام بطبع هذه الرسالة. ثم ألقى محامو بديع الزمان بدفاعاتهم وردّوا على التهم الموجهة إليه.

وأخيراً توجه رئيس المحكمة إليه متسائلاً:

ـ هل هناك ما ترغب في قوله، زيادة على ما قلت؟

ـ أرجو أن تسمحوا لي بزيادة كلمة واحدة.

ـ تفضلوا

ـ إنني لست أهلاً لكلمات الثناء التي أضفاها عليّ موكلي المحترمون، إذ إنني لست سوى خادم عاجز للقرآن وللإيمان. ليس عندي ما أقوله سوى هذا.

وأخيراً أصدرت المحكمة قرارها بالبراءة.[3]

محكمة صامسون 1953:

بعد براءته من محكمة استانبول، ذهب الأستاذ سعيد النورسي إلى )أميرداغ( فهناك له ذكريات كثيرة وطلاب وأصدقاء عديدون.

وفي أحد أيام رمضان خرج الأستاذ سعيد النورسي وحده يتجول في الحقول المحيطة بالمدينة دون أن يدري بأن عريف شرطة مع ثلاثة من أفراد يتعقبونه.

ولم يستطع الأستاذ أن يتم تجواله، إذ لحقه هؤلاء وعرضوا عليه أن يلبس القبعة. وعندما قادوه إلى مركز الشرطة احتج الأستاذ على هذه المعاملة، وأرسل عريضة إلى وزارة العدل و إلى وزارة الداخلية في أنقرة، شجب فيها هذه التصرفات الرعناء، كما أرسل صورة من عريضته إلى أحد طلابه في أنقرة ليتتبع الموضوع عند المراجع الرسمية.

ومن أنقرة قرر بعض طلابه إرسال نسخة من هذه العريضة إلى جريدة إسلامية تصدر في )صامسون( باسم (بيوك جهاد) الجهاد الأكبر حيث نشرت هناك.

في هذه الأثناء وقعت حادثة الصحفي المعروف )أحمد أمين يالمان( إذ حاول شاب مسلم أن يغتاله، فأطلق عليه عدة رصاصات لم تنل منه مقتلاً. و)احمد أمين يالمان( صحفي مشهور من طائفة )الدونمة [4] ( اليهودية وكان سجل هذا الصحفي بالذات سجلاً حافلاً بالعمل ضد الإسلام. منها مطالبته بتشكيل دويلة أرمنية في تركيا، كما طالب أن تقوم الولايات المتحدة باستعمار أراضى تركيا عسكرياً لإدارة شؤونها، حيث لم تصل تركيا إلى المستوى الذي تستطيع فيه إدارة نفسها!!

وقد استغلت هذه الحادثة استغلالاً كبيراً كل الجرائد والمجلات المعادية للإسلام وجميع المحافل اليهودية الماسونية التي غاظها جو الحرية النسبي الذي بدأت تتنفسه الحركات الإسلامية في تركيا، فأرادت أن تظهر بان إعطاء أية حرية لمثل هذه الحركات ستكون نتيجتها ظهور الرجعية والإرهاب.. الخ.

كما وجدت صحف المعارضة (وهي صحف حزب الشعب) في هذه الحادثة فرصة ذهبية لها لكي تشفي غيظها من هزيمتها في الانتخابات، ولكي تكيل التهم للحكومة بأنها قد أرسلت الحبل على الغارب للرجعية، وأنها إن لم تتدارك الموقف بحزم فان مصيراً اسود ينتظر تركيا!.

كانت حملة صحفية رهيبة لم يستطع رجال الحزب الديمقراطي الحاكم أن يقفوا أمامها، هذا فوق وجود جناح معاد للإسلام في هذا الحزب أيضاً. فصدرت الأوامر بغلق جميع الجرائد والمجلات الإسلامية، واعتقال جميع الكتّاب والمفكرين المسلمين العاملين فيها، فاعتقل الأستاذ )نجيب فاضل( والجنرال المتقاعد )جواد رفعت أتيلخان( و)عثمان يوكسل( وغيرهم..

قد أعتقل في هذه الحملة من الاعتقالات المدير المسؤول عن جريدة )الجهاد الأكبر( واحد طلبة النور وهو السيد )مصطفى صونغور( الذي كان من النشيطين في تلك الجريدة وسيقا معاً إلى المحكمة في مدينة )صامسون( وقد أصدرت المحكمة قرارها بالحكم عليهما، ولكن محكمة التمييز ألغت هذا القرار وأصدرت قرارها بالبراءة.

ولكن قضية أخرى ثارت، إذ فتحت دعوى في مدينة )صامسون( ضد الأستاذ بديع الزمان بسبب مقالة نشرت في جريدة )الجهاد الأكبر( تحت عنوان )اكبر برهان( وطلب مثوله أمام محكمة )صامسون(، ولكن الأستاذ كان آنذاك مريضاً، فضلاً عن تقدمه في السن، إذ كان في الثمانين من عمره.

وبالرغم من حصوله على تأييد طبي من طبابة قضاء )أميرداغ( وكذلك من مدينة )أسكي شهر( إلاّ أن محكمة )صامسون( أصرت على حضوره.

وبناء على هذا الإصرار توجه إلى استانبول في طريقه إلى صامسون ولكن مرضه اشتد بعد وصوله إلى استانبول، فلم يعد بإمكانه مواصلة السفر فاستحصل تقريراً طبياً من الهيئة الصحية، وأرسله إلى المحكمة.

كان هذا التقرير الطبي يؤيد بان حالة الأستاذ بديع الزمان لا تسمح له أبدا بالسفر لا براً ولا بحراً ولا جواً، ولكن المدعي العام بالرغم من هذا التقرير الطبي الواضح القاطع، كان يطالب بشدة بحضوره ومثوله أمام المحكمة.

كان هذا الإصرار شيئاً غريباً وغير طبيعي وغير إنساني أيضاً. ومن لطف الله تعالى أن المحكمة لم تأخذ بوجهة نظر المدعي العام، إذ قررت ـ استناداً إلى التقرير الطبي ـ أن تقوم محكمة استانبول باستجواب الأستاذ نيابة عنها.

واخيراً وبعد انتهاء جميع الإجراءات اللازمة أصدرت المحكمة قرارها بالبراءة، إذ لم تجد في تلك المقالة ما يؤاخذ عليها.[5]

بديع الزمان وبطريرك الروم:

قضى الأستاذ في استانبول ثلاثة اشهر تقريباً أمضى معظمها في بيت أحد طلابه المقربين.

في تلك السنة (1953م) كانت استانبول تتهيأ للاحتفال بمرور خمسمائة عام على فتحها.

وقد أقيم فعلاً احتفال مهيب دعي إليه الأستاذ بديع الزمان مع المدعوين الرسميين، وفي هذا الاحتفال التقى بطريرك الروم )آشنو كراس(. وأثناء اللقاء جرى بينهما الحوار الآتي:

سعيد النورسي: يمكـن أن تكــونوا مـن أهل النجـاة يوم القيامة إذا آمنتم بالدين النصراني الحق بشرط الاعتراف بنبوّة سيدنا محمد r وبالاعتراف بالقرآن الكريم كتاباً من عند الله.

البطريرك: إنني اعترف بذلك.

سعيد النورسي: حسناً، فهل تعلنون ذلك أمام الرؤساء الروحانيين الآخرين؟

البطريرك: اجل إنني أقول ذلك ولكنهم لا يقبلون.[6]

عودة إلى مدينة الذكريات )بارلا(:

بعد قضائه ما يقارب ثلاثة أشهر في استانبول، حنّ الأستاذ إلى زيارة المدن التي قضى فيها فترات لا يمكن نسيانها من حياته.

فزار )أميرداغ( ثم توجه إلى )أسكي شهر( ومنها إلى )إسبارطة( بقى فيها ثمانين يوماً. ومن إسبارطة توجّه مع رهط من تلاميذه إلى مدينة الذكريات )بارلا(.. المدينة التي شهدت أول انبثاق لحركة النور ولرسائل النور.. المدينة سيق إليها منفياً، فبارك الله له في أيام النفي، وجعل تلك الأيام من أعز الأيام على قلبه، وجعل ذكريات هذه البلدة من احب الذكريات إلى نفسه.

وها هو يعود إليها، ولكن بعد عشرين عاماً حافلاً بالأحداث والمواقف والابتلاءات.

يعود إليها طليقاً يحف به بعض ثمار دعوته.. طلاب يتلألأ النور في جباههم المضيئة، وتطفح قلوبهم بحب الله ورسوله.

ويسمع أهل البلدة بقدوم الأستاذ، فيخرجون رجالاً ونساءً، وأطفالاً وشباباً لرؤيته. ويقفز الأطفال الصغار وهم يرددون:

جاء الشيخ.. جاء الشيخ!

انهم لم يروا هذا الشيخ الوقور، ولكنهم سمعوا عنه من آبائهم وأمهاتهم.

وبينما كان الأستاذ يتقدم نحو البيت الذي بقي فيه ثماني سنوات، إلى البيت الذي كان أول مدرسة نورية، مرّ من أمام بيت تلميذه القديم )مصطفى جاويش( وهو النجار الذي عمل له الغرفة غير المسقّفة بين أغصان الشجرة التي كان يقضي فيها ساعات العبادة والتأمل.

مرّ أمام دار تلميذه ورأى القفل الكبير على باب الدار. كان تلميذه القديم الوفي قد توفي سنة 1937، بينما كان الأستاذ يعيش في منفاه في )قسطموني(. مات هذا الرجل ولذلك لم يتيسر له اللقاء معه بعد خروجه من بارلا. ولم يشعر إلاّ والدموع تتساقط من عينيه وتبلل خده.

وأخيراً وصل إلى بيته السابق، إلى مدرسته الأولى حيث كانت شجرته الحبيبة تنتصب أمامه وكأنها ، هي الأخرى ترحب به.. جاشت في نفسه العواطف وطلب من طلابه ومن الأهالي أن يتركوه وحده.

ثم ذهب إلى تلك الشجرة التي قضى معها اكثر من ثماني سنوات احتضنها وأجهش ببكاء طويل.

كانت هذه الشجرة قطعة من حياته، ومن ذكرياته. كم من ليال قضاها بين أغصانها يتهجد ويذكر الله! كم من ساعات قضاها يؤلف رسائل النور ويسمع حفيف أغصانها وأوراقها وتغريد الطيور عليها. كم من ليلة من ليالي الشتاء الطويلة الحالكة أرق في غرفته، فلم يكُن له أنيس في وحدته غير صوت هذه الشجرة تعصف بها الرياح، أو يسمع صوت قطرات الأمطار على أوراقها. لقد كانت له أنساً في وحدته، وسلوة في وحشته، وصديقاً في غربته.

وها هو الآن يرجع إليها بعد عشرين عاماً يتحسسها، ويريد أن يضمها إلى صدره ولا يتمالك نفسه من البكاء عند لقائها.

بعد ذلك صعد إلى غرفته، واختلى بنفسه هناك مدة ساعتين تقريباً. كان يبكي وهو يستعيد ذكريات أيامه الطويلة إلى قضاها هنا، وكان الناس والطلاب المحيطون بالبيت يسمعون نشيج الشيخ فتدمع أعينهم كذلك.[7]

محكمة آفيون تبرئ ساحة رسائل النور (1956):

كانت محكمة آفيون قد شكلت لجنة من الخبراء لتدقيق رسائل النور سنة (1948م) وإبداء الرأي حولها، ورؤية ما إذا كانت تحوي ما يؤاخذ عليه القانون التركي.

وقد استمرت هذه المحكمة طوال ثماني سنوات وأخيراً أصدرت رأيها بتاريخ 25/5/1956 استناداً إلى التقرير المقدم من لجنة الخبراء بأن هذه الرسائل تخلو من أي عنصر مخالف للقانون.

كان هذا القرار يعني بالإمكان طبع رسائل النور وتوزيعها علناً، وفعلاً شمّر طلاب النور عن سواعدهم، فبدأت المطابع في استانبول وفي أنقرة، وفي صامسون وفي آنطاليا بطبع هذه الرسائل. وكانت الملزمات تؤتى إلى الأستاذ قبل الطبع فيقوم بتصحيحها.

كان الأستاذ فرحاً بطبع رسائل النور ويقول:

)هذا هو عيد رسائل النور. كنت انتظر مثل هذا اليوم، لقد انتهت مهمتي إذن وسأرحل قريبا(.[8]

وعندما كان يخرج لأمرٍ ما سرعان ما يعود قائلاً لطلابه: لابد أن الملزمات قد جاءت.. لا يجوز لنا أن ندعها تنتظر. يجب العودة حالا.

الأستاذ في الانتخابات العامة 1957:

في سنة 1957 جرت الانتخابات العامة في تركيا، وكان هناك حزبان رئيسان يتنافسان على الحكم وهما: الحزب الديمقراطي الحاكم وحزب الشعب المعارض مع أحزاب صغيرة لا تؤثر كثيراً في سير الانتخابات.

وبالرغم من أن الحزب الديمقراطي لم يكن حزباً إسلامياً، إلاّ أن جو الحرية الذي ساد تركيا عقب توليه الحكم، وانحسار موجة العداء الوحشي للإسلام، كل ذلك كان يعطي مسوغاً كافياً للحركات الإسلامية في تركيا أن تصوت بجانب الحزب الديمقراطي.[9]

ومع أن الأستاذ سعيد النورسي لم يدخل الحياة السياسية ولم يؤلف حزباً سياسياً ولم يعلن عن أية نشاطات سياسية كانت، إلاّ انه قرر إعطاء صوته للحزب الديمقراطي في تلك الأيام ليحول دون مجيء حزب الشعب إلى السلطة. وفعلاً ذهب إلى صندوق الاقتراع وأدلى بصوته لصالح الحزب الديمقراطي.

أواخر أيامه:

قضى الأستاذ سعيد مع طلبته سنواته الأخيرة في مدينة إسبارطة وكان أحياناً يقوم بزيارة )بارلا( وكذلك )أميرداغ( ولتقدمه في السن فانه كان في اكثر الأحيان طريح الفراش.

كان قليل اللقاء الناس ولا يستطيع قبول زيارة المئات من الزوار وكان يقول:

)إن قراءة رسائل النور افضل مائة مرة من الحديث معي(.

وكان طلابه يقدرون وضعه، فلا يدخلون عليه إلا إذا طلبهم، ومع ذلك فانه لم يكن منقطعاً عن العالم الخارجي كلياً، إذ كان يتتبع الأخبار وعيّن أحد طلبته ليقرأ له أهم ما في الجرائد. فكان يهتم بأخبار طبع رسائل النور وبالمحاكمات المتعددة لطلاب النور.

ففي (16 نيسان سنة 1958) اعتقل جميع من كان في خدمة الأستاذ من طلاب النور والذين يعملون في نشر الرسائل في أنقرة واستانبول وإسبارطة. وقد تقدّم للدفاع عنهم المحامي )بكر برق( واجتمع هذا المحامي في سجن أنقرة بطلاب النور المسجونين وقال لهم:

ـ إنني احب أن آخذ رأيكم في مسألة تخصكم. فهل تحبون أن أسعى إلى إطلاق سراحكم من السجن في اقرب فرصة، أم ترغبون أن أسعى للدفاع عن دعوتكم وشرحها دون الاهتمام بقضية إطلاق سراحكم؟

أجاب طلاب النور معاً:

ـ نرجو منك أن تحصر جهدك في بيان وشرح دعوتنا السامية فنحن راضون أن نبقى في السجن سنوات عديدة.[10]

وقد أدرك هذا المحامي انه ليس أمام أناس اعتياديين، بل هو أمام أناس نذروا أنفسهم لدعوتهم، وقد اخذ هذا المحامي على نفسه مهمة الدفاع في جميع المحاكم التي سيق إليها طلاب النور.. وما أكثرها!

لقاء الوداع:

بدأ الأستاذ سعيد النورسى في أواخر أيامه بسلسلة من السفرات وكأنه كان يريد أن يودّع طلابه.

ففي19 كانون الأول لسنة 1959 سافر إلى )أنقرة( ومنها إلى )أميرداغ( ومنها إلى )قونيا( ومنها إلى )أنقرة( أيضاً، ومنها إلى )استانبول( في 1/1/1960 حيث بقى فيها يومين، ثم رجع إلى )انقره( مرة أخرى. وقد أجرى مندوب صحيفة تايمس اللندنية معه تحقيقاً صحفياً طويلاً، ونشر في 6/1/1960. ثم رجع إلى )قونيا( ومنها ـ وفي اليوم نفسه توجّه إلى )إسبارطة(.

هذه الزيارات المتلاحقة، أثارت رعب وسخط الأوساط المعادية للإسلام، فأخذت صحفها تشن حملة عنيفة على الأستاذ وتثير الرأي العام ضده مختلقة سلسلة من الأكاذيب والافتراءات، وكأن هناك فتنة دامية ستحل بالبلد.

لذلك فما أن رجع إلى أنقرة 11/1/1960 حتى أبلغته الحكومة بان من الأفضل له أن يقيم في أميرداغ وفعلاً رجع الأستاذ إلى )اميرداغ( ولكنه طلب من الحكومة أن تسمح له بالإقامة شهراً في (اميرداغ) وشهراً في (إسبارطة).

في 20/1/1960 توجه الأستاذ بديع الزمان من )أميرداغ( إلى إسبارطة و بعد أن أمضى مدة فيها توجه إلى )آفيون( وبعد أن أمضى فيها يوماً واحداً، قفل راجعاً إلى اميرداغ.

في شهر مارت من تلك السنة كان مريضاً جداً، إذ كان مصاباً بذات الرئة. وفي اليوم الثامن عشر من الشهر نفسه اشتد عليه المرض و غاب عن وعيه مرات عديدة. ثم استغرق في النوم، واستيقظ قبل صلاة الصبح حيث توضأ واستبدل ملابسه، وكأنه قد عوفي من مرضه تماماً، وصلى صلاة الصبح ثم استدعى طلابه حيث ودّعهم واحداً واحداً قائلاً لهم وعيناه تفيضان بالدمع:

ـ استودعكم الله إنني راحل.

وبعد أن ودّع أصدقاءه الآخرين، توجه بالسيارة إلى إسبارطة، وبقي هناك فترة فكان يؤم طلابه في صلاة العشاء، أما في صلاة التراويح ـ إذ كان ذلك في أوائل شهر رمضان المبارك ـ فإن تلميذه السيد )طاهري موطلو [11]( كان يقوم بالإمامة.

وقد استمر تحسن صحته حتى العاشر من رمضان ، ثم عاوده المرض كذلك وارتفعت درجة حرارته.

وفي أحد الأيام فتح عينيه قائلاً لطلابه الذين كانوا يتناوبون السهر عليه: سنذهب!!

وعندما سأله أحدهم:

ـ يا أستاذنا أين سنذهب؟

ـ إلى أورفة... فتهيأوا !!

وقد اعتقد بعض طلابه أن الأستاذ لا يتكلم وهو في وعيه، إذ ليس من المعقول أن يخرج للسفر وهو في هذه الحالة. هذا فوق أن سيارتهم كانت معطوبة و تحتاج إلى وقت لتصليحها.

عرضوا الأمر على الأستاذ، وهم يأملون أن يغير رأيه في السفر فأجابهم:

ـ هيئوا سيارة أخرى. ألا نستطيع إعطاء مأتى ليرة؟! إنني مستعد أن أبيع جبتي إذا لزم الأمر.

أمام هذا الإصرار أسرع طلابه إلى استئجار سيارة أخرى، و نـزل الأستاذ محمولاً على أيدي طلابه، وانطلقت السيارة متوجهة إلى أورفة وهي تحمل الأستاذ مع ثلاثة من طلابه.

ملاحقة حتى الموت:

وعندما شاهد الشرطي المكلف بمراقبة الأستاذ سفره أسرع بإبلاغ مركز الشرطة بذلك. وقد احتد مسئولو الأمن لذلك، واستقدموا أحد طلابه حيث أمطروه بوابل من الأسئلة:

ـ لماذا رحل أستاذكم؟ و إلى أين؟ ولماذا لم تحيطونا علماً بذلك؟ أنكر الطالب معرفته باتجاه سفر أستاذه. وقال انه من الممكن أن يكون قد توجه إلى )اغريدير(.

بدأت البرقيات و التلفونات والاتصالات بين مختلف مراكز الأمن في مدن تركيا، وكأن رجلاً خطيراً قد هرب من سجنه وأعطيت أوصاف السيارة ورقمها إلى جميع مراكز الشرطة ونقاط التفتيش.

كان الجو ممطراً وقد عمد طلاب الأستاذ إلى تغطية رقم السيارة بالطين لكي لا تعرف وانطلقت السيارة تنهب الأرض باتجاه اورفه وبعد سفرة طويلة متعبة في جو عاصف وصلوا إلى اورفة في (21 مارت) حيث نـزلوا في فندق )ابك بالاس( وسرعان ما طوقت الشرطة الفندق ودخل المسؤولون ليبلغوا الأستاذ ـ وهو طريح الفراش ـ بان عليه أن يغادر المدينة فوراً وان يرجع إلى إسبارطة، فالأوامر صادرة من وزير الداخلية نفسه. ويدور الحوار هكذا:

الشرطي: هناك أمر من وزير الداخلية، يجب أن ترجع إلى إسبارطة.

بديع الزمان: عجيب أمركم.. إنني لم آت إلى هنا لكي أغادرها. إنني قد أموت.. ألا ترون حالي؟ (يلتفت إلى طلابه).. اشرحوا انتم حالي.

ويساق ثلاثة من طلابه إلى مركز الشرطة ويبدأ الاستجواب معهم:

ـ لماذا أتيتم؟ من أعطاكم الإذن بذلك؟

ـ نحن تبع لأستاذنا، ننفذ ما يقوله لنا دون مناقشة.

ـ قولوا لأستاذكم بان هناك أوامر مشددة من السلطات العليا، وان عليكم أن تتركوا )اورفة( حالاً وترجعوا إلى )إسبارطة( وإذا لم تستطيعوا الرجوع بسيارتكم فسنجهزكم بسيارة إسعاف.

ـ انه مريض جداً، ولا يستطيع تحمل مشقات سفر يستغرق أربع وعشرين ساعة أخرى.

ـ يجب أن ترجعوا كما أتيتم، فلدينا أوامر من السيد الوزير، ويجب أن تتركوا )اورفة( حالاً.

ـ لا نستطيع التدخل في شؤون أستاذنا. فإذا أحببتم اعرضوا الأمر عليه، وإذا امرنا بالذهاب فسنذهب.

يحتد مدير الأمن:

ـ ماذا تعنون؟ ألا تستطيعون أن تعرضوا عليه أي أمر كان؟

ـ نعم. لا نستطيع.

وهنا يصرخ مدير الأمن:

ـ إذا كنتم مرتبطين انتم بأستاذكم، فإنني أيضاً مرتبط برؤسائي، وأنا أعطيكم مهلة ساعتين فقط لترك هذه المدينة والرجوع إلى )إسبارطة(.

انتشر خبر نيّة السلطة في إخراج الأستاذ بديع الزمان من المدينة بين الأهالي فولّد هيجاناً عاماً بين أفراد الشعب، وتجمع عدة آلاف من الأهالي حول الفندق. وترامى الخبر إلى رئيس شعبة الحزب الديمقراطي في اورفة فأسرع إلى مدير الأمن وخاطبه بحدة:

ـ إذا أخرجتم الأستاذ بديع الزمان من هنا فستجدوني أمامكم.. لن تستطيعوا أن تلمسوا شعرة منه ولا أن تنقلوه خطوة واحدة.. انه ضيفنا.

ـ سيدي؛ إن الأوامر صادرة من فوق.. من الوزارة نفسها لذا يجب أن يرجع حيث أتى.

ـ كيف يعود! ألا ترون انه في اشد حالات المرض ولا يستطيع الحراك؟ أنه أتى إلينا ضيفاً ولا داعي هناك لكل هذا التشدد.

وبينما كان هذا الحوار يجري في مديرية الأمن أسرع بعض طلاب النور إلى المستشفى واصطحبوا الطبيب الحكومي إلى الفندق لفحص الأستاذ واستحصال تقرير طبي في عجزه عن السفر.

حضر الطبيب إلى الفندق وأجرى كشفاً طبيّاً على الأستاذ بديع الزمان فوجده في اشد حالات المرض ووجد أن حرارته قد بلغت الأربعين درجة، فكتب تقريراً طبيّاً بذلك موضحاً وجوب استراحته وعدم انتقاله إلى مكان.

ولكن مدير الأمن كان مصراً على موقفه.. يجب أن يترك المدينة، وقرر أن يأتي إلى الفندق ليقابل الأستاذ بنفسه. ويأذن الأستاذ لمدير الأمن بالدخول عليه، حيث يبلغه مدير الأمن بان الأوامر قطعية وان عليه أن يترك المدينة راجعاً إلى إسبارطة.

بديع الزمان قائلاً: إنني الآن في الدقائق الأخيرة من عمري لا أستطيع الرجوع، وقد أموت هنا. إن وظيفتك الآن هي تهيئة الماء لغسلي بعد الوفاة.

يخرج مدير الأمن وأفراد الشرطة من الغرفة متأثرين ومنكسين رؤوسهم.

ويقوم الأهالي والجمعيات والتنظيمات المختلفة بإمطار أنقرة بسيل من البرقيات التي تستنكر بشدة هذا الموقف البعيد عن جميع القيم الإنسانية.

ويتقاطر الناس أفواجاً على الفندق، فالكل يريد أن يرى الأستاذ وأن يلقي عليه النظرة الأخيرة، وبالرغم انه لم يكن يقبل سابقاً مثل هذه الزيارات ـ لكون صحته لا تساعد على ذلك ـ فانه في هذه المرة لم يرد أحداً بل قابل المئات والمئات ودعا لهم واحداً واحداً.

اللحظات الأخيرة:

في المساء ارتفعت درجة حرارته، لم يعد يتكلم بل كانت شفتاه تختلجان بالدعاء.

وفي الساعة الثانية والنصف صباحاً يتحسس أحد طلابه حرارته فيجدها قد انخفضت قليلاً، فيغطيه، ويقوم بإشعال الموقد في الغرفة وهو يحمد الله على تحسن صحة الأستاذ.

ولكن الصباح يقترب ولا يقوم الأستاذ لصلاة الصبح.. يكشف أحدهم عن وجهه فيعرف الحقيقة؛ لقد انتقل أستاذه إلى بارئه.

التقويم في الحائط يشير إلى يوم الأربعاء؛ الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة 1379 (23 مارت 1960م).

ينتشر الخبر في الفندق فيصعد مدير الفندق إلى غرفة المرحوم ليلتقى مع مدير الأمن الذي كان في طريقه أيضاً إليها يسأله مدير الأمن:

- ما الخبر؟

مدير الفندق:

- لقد توفى.

- هل توفي حقاً؟

- نعم!

وينتشر الخبر في )اورفة( أول الأمر فتتجمهر الألوف حول الفندق، ثم ينتشر الخبر في المدن التركية الأخرى، ويبدأ سيل من الناس بالوفود إلى المدينة، وعلى أكتاف طلابه ومحبيه وعشرات الآلاف من المشيعين، وبينما المطر الموحل ينـزل رذاذاً من السماء يوارى الأستاذ العظيم بالتراب في مقبرة )أولو جامع([12]

انقلاب عسكري وقضية رفات الأستاذ:

وقع انقلاب عسكري في 27 مايس سنة 1960 أطاح بالحزب الديمقراطي وسيق أعضاء الحكومة إلى المحكمة التي أطلق عليها اسم )محكمة الدستور( و انتهت هذه المحكمة بتنفيذ حكم الإعدام برئيس الوزراء )عدنان مندرس( وعلى اثنين من وزرائه وبمدد مختلفة للوزراء وللمسؤولين السابقين في حكومة الحزب الديمقراطي.

كما أبدت عداء لجميع التيارات والحركات الإسلامية في تركيا ومنها حركة )طلاب النور(.

وكأن حقد أعداء الإسلام وغيظهم على الأستاذ سعيد النورسي لم ينته حتى بعد وفاته فأرادوا الانتقام منه وهو في القبر، فقاموا بعمل لا يقع مثله في التاريخ إلاّ نادراً. قاموا بنقل رفات هذا العالم الجليل إلى جهة غير معلومة واليكم التفاصيل:

في يوم 11 تموز سنة 1960 توجه والي مدينة )اورفة( مع القائد العسكري للقطاع الشرقي بطائرة عسكرية إلى مدينة قونيا حيث كان شقيق الأستاذ سعيد النورسي الشيخ )عبد المجيد( حيث استدعي إلى قصر الوالي، و قيل له:

- سنقوم بنقل رفات أخيك الشيخ سعيد النورسي من اورفة. وسيتم هذا النقل على افتراض طلبك أنت، لذا وقّعْ على هذه الورقة.

- ولكني لم اطلب هذا.

- لا داعي للإطالة.. وقّعْ على هذه الورقة.

وهكذا اجبر المسكين تحت التهديد والوعيد على تنفيذ طلبهم.

ولننقل هنا باختصار مذكرات المرحوم الشيخ )عبد المجيد( في نقل رفات شقيقه.

)في بداية شهر تموز أي بعد مرور خمسة اشهر على وفاة شقيقي جاءني ظُهر أحد الأيام شخص، عرفت فيما بعد أن اسمه (إبراهيم يوكسل) وانه رئيس شعبة الأمن قائلاً لي بأن الوالي يستدعيني.

فذهبت معه إلى بناية الولاية حيث شاهدت ثلاثة من جنرالات الجيش مع الوالي، كان أحدهم (جمال تورال)، والآخر (رفيق تولكا) خاطبني (جمال تورال) قائلاً: - إن زواراً عديدين من الولايات الشرقية والجنوبية يأتون لزيارة قبر شقيقكم، وكما تعلمون فإننا نعيش ظروفاً دقيقة، لذا فإننا نريد أن ننقل رفات شقيقكم - بمعاونتكم أيضاً- إلى أواسط الأناضول، فنرجو توقيع هذه الورقة(.

ومد إليّ بعريضة مكتوبة على لساني. قرأتها ثم قلت:

- ولكني لم اطلب هذا. أرجوكم دعوه يرتاح على الأقل في قبره. فاصروا على موقفهم، وقالوا بأنه لا مناص من التوقيع.

وبعد التوقيع، توجهنا إلى المطار حيث أقلتنا طائرة عسكرية إلى اورفة.

وهناك توجّهنا إلى بناية عسكرية، عرضوا عليّ الطعام فرفضت إذ كنت مرهقاً وفي حالة نفسية سيئة. وفي الثالثة ليلاً ذهبنا إلى المقبرة.

كان هناك تابوتان اثنان في صحن الجامع وبعض الجنود. اقترب مني طبيب عسكري وقال:

- لا تقلق ولا تحزن.سننقل الأستاذ إلى الأناضول.

وعلى اثر كلام الدكتور جاشت نفسي فأجهشت بالبكاء. استدعى الدكتور الجنود قائلاً لهم:

)سننقل الأستاذ من هذا التابوت إلى التابوت الثاني( ولكن الجنود كانوا يترددون ويخافون: )لا نستطيع ذلك سيسخط علينا الله(.

فقال لهم الطبيب:

- يا إخواني؛ نحن مأمورون، وليس أمامنا سوى التنفيذ قام الجنود بهدم القبر وإخراج التابوت منه وفتحوا التابوت. قلت في نفسي:

- لابد أن عظام أخي الحبيب قد أصبحت رماداً، ولكن ما إن لمست الكفن حتى خيل إليّ انه قد توفي بالأمس. كان الكفن سليماً ولكن مصفراً بعض الشيء من جهة الرأس وكانت هناك بقعة واحدة على شكل قطرة ماء.

وعندما كشف الطبيب الكفن عن وجهه، نظرت إليه كان هناك شبه ابتسامة على وجهه.

احتضنا ذلك الأستاذ العظيم المظلوم، ووضعناه في التابوت الآخر الكبير الذي كان الجنود قد جلبوه، وقد ملأنا الفراغ حوله بالأعشاب.

وعندما تم كل شي، ذهبنا إلى المطار. كانت الشوارع خالية من الأهلين ومليئة بالجنود المدججين بالسلاح، حيث أعلن منع التجول في المدينة.

لم تسع الطائرة الأولى التابوت الكبير فجلبوا طائرة ثانية، وضعنا التابوت فيها. وجلست بجانبه.

.... كان الحزن والأسى يملآن قلبي، وكانت عيوني مليئة بالدموع..

وقد اتجهت الطائرة إلى (آفيون) ومنها نقل التابوت بسيارة إسعاف إلى مدينة (إسبارطة) حيث دفن في مكان ما، لا يزال مجهولاً.[13]

الخـتــام

هذا هو تاريخ عاش مجاهداً في سبيل الله، و قضى ثمانياً وعشرين عاماً من حياة النفي و السجن والمضايقات التي كانت لا تكاد تنتهي.

ولكنه استطاع وحده - بفضل من الله - أن يهز تركيا من أقصاها إلى أقصاها، وأن يقذف الرعب في قلوب أعداء الإسلام، حتى أن هذا الرعب لم ينته بوفاته، بل بقي يخيفهم وهو في مثواه الأخير!

نقلوا رفاته إلى جهة مجهولة. فهل مسح هذا أو أزال خوفهم ورعبهم؟!

كلا..

فإن الذين تتلمذوا على يديه، وحملوا نبراس الإسلام بأيديهم سيكونون دائماً وأبداً مصدر قلقهم ورعبهم.

وصدق الله العظيم:

(كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي..)(المجادله:21)

[1] تضم هذه الرسالة مستلات من كليات رسائل النور، تهم حياة الشباب الدنيوية والأخروية.

[2] سيرة ذاتية / 446

[3] نفسه / 466

[4] وهي طائفة يهودية تظاهرت بالإسلام، وبقيت تمارس عقائدها اليهودية سراً، ولكونها تملك ركائز اقتصادية وسياسية قوية قامت بدور تخريبي كبير في تركيا.

[5] نفسه / 461

[6] Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi لنجم الدين شاهين أر/ 382

[7] نفسه/ 373

[8] نفسه/ 378

[9] نفسه/ 378

[10] سيرة ذاتية / 468

[11] ذكر بيرام يوكسل في ذكرياته "كان الأستاذ يطلق على الأخ طاهري موطلو بالأخ الأكبر والرائد لطلاب النور. وحقاً لقد كان يتصف بخصال قلّما تجده في غيره، كان يصوم الشهور الثلاثة المباركة طوال ثلاثين سنة من عمره، ولم ارَ منه أنه صلى الوتر بعد العشاء، وإنما كان يقيم الليل ويتهجد ثم يوتر. لقد كان كنزاً للدعوات لطلاب النور. وكان في طاعة تامة لما يأمره الأستاذ، لذا لم اسمع من الأستاذ أن قال لأحد مثلما قال الأخ طاهري موطلو، إذ قال بحقه: إن الأخ طاهري موطلو ولي من أولياء الله الصالحين، انه لا يعد نفسه انه في الدنيا. انتقل رحمة ربه الكريم سنة 1977 عن سبع وسبعين سنة من عمر قضاه بالتقوى. Son Sahitler ج1 ص 438

[12] سيرة ذاتية / 476

[13] سيرة ذاتية / 486