المجلد الخامس: اليهودية.. المفاهيم والفرق 11

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

وقد بشَّر باروخيا روسو أتباعه بأن الست والثلاثين خطيئة القاطعة التي تنص الشريعة اليهودية على قتل من يرتكبها، هي خطايا من وجهة نظر توراة الخلق فقط. أما وقد تم الوصول إلى مرحلة الخلاص، مرحلة توراة الفيض، فإن تلك الخطايا قد أصبحت من المحللات. وأصبح الشبتانيون يتحللون من كل الأوامر ويترخصون في كل النواهي، بل أصبحوا يرون أن من واجبهم انتهاك الشريعة وتدنيس الأخلاقيات الشائعة باسم المعاني الباطنية والمبادئ السامية. وصار شعارهم الأساسي عبارة شبتاي تسفي: "الحمد لك يارب، يا من تُحلِّل المحرمات".

والمعنى الباطني للتوراة هو المعنى الحقيقي بالنسبة إلى المبشرين بعالم الخلاص، وبالنسبة إلى الذين وصلوا إليه. ومن العلامات الحقة لإيمانهم أنهم يخفون دينهم الحقيقي ويبقونه سراً خفياً عن عيون البشر. بل يجب على المؤمن الحق أن يدخل كل الأديان وينتمي إليها بصورة ظاهرة، على أن يبطن دينه الحقيقي. وهو بذلك سـيتمكن من أن يهـدم الأديان كلهـا التي سيرتديها فقط كغطاء خارجي. ويبدو أن يهود المارانو الذين كانوا يعتنقون اليهودية سراً والمسيحية علناً، قد لعبوا دوراً أكيداً في إشاعة هذه الأفكار وفي قبولها. ويرى بعض الدارسين أن ثمة تأثراً بالتراث الديني المسيحي في الفكر الشبتاني، يتبدى في مركزية فكرة الماشيَّح الفرد الذي يُصلَب (والصلب في حالة الفكر الشبتاني قد يكون حقيقياً وقد يأخذ شكل الارتداد والتدنس). كما يتبدى الفكر المسيحي في تأكيد الخلاص الداخلي، والحرية الباطنية. بل يذهب الدارسون إلى وجود ثالوث شبتاني: الإله الخفي وإله جماعة يسرائيل والشخيناه، أو تنويعات على هذا الثالوث. وقد تأسست بعد موت تسفي مراكز شبتانية في أطراف الدولة العثمانية في البلقان، وفي كلٍّ من إيطاليا وبولندا وليتوانيا.

وأهم الحركات الشبتانية هي حركة جيكوب فرانك. ولقد كانت الحركة الشبتانية منتشرة بشكل عميق في أوربا إذ ظل الشبتانيون داخل اليهودية الحاخامية، وأبطنوا آراءهم، وقاموا بالدعوة لها سراً، حتى أن أحد عُمُد اليهودية الحاخامية (الحاخام إيبيشويتس) كان من دعاتها. وقد أصبح الشبتانيون من أهم العناصر الثورية والعدمية في أوربا واحتفظوا بآرائهم داخل أنفسهم، حتى ظهرت الثورة الفرنسية، فصار كثير منهم من دعاتها ورسلها. وكان موسى دوبروشكا، أحد المرشحين لرئاسة حركة فرانك، من زعماء الثورة الفرنسية ممن أُعدموا مع دانتون عام 1794.

والحركة الشبتانية واحدة من الحركات اليهودية المشيحانية الحديثة التي تعبِّر عن بؤس اليهود، وعن أزمة اليهودية التي انتهت بظهور الحسيدية ثم الصهيونية، وكلها حركات شعبية هروبية ترفض الزمان والمكان وتطالب بالانتقال من وضع تاريخي متعين متأزم إلى مجتمع جديد مثالي يُشيَّد على أرض فلسطين. وقد اتخذت حركة الهروب هذا الشكل المشيحاني، بسبب الحلولية الكامنة في النسق الديني اليهودي، التي تشكل واحداً من أهم طبقاته الجيولوجية.

ويرى أحد المفكرين اليهود أن الحركة الشبتانية هي بداية اليهودية الحديثة، فظهورها تعبير عن ضعف اليهودية المعيارية، أي اليهودية الحاخامية. وهي، بإسقاطها كل النواميس، تشبه في كثير من النواحي الحركات اليهودية المعاصرة، أي اليهودية التي تحاول أن تطرح جانباً القيود المتزمتة التي فرضتها اليهودية الحاخامية على اليهود. وبالتالي، فإن الوريث الحقـيقي للشـبتانية هـو اليهودية الإصلاحية. فهذه، هي الأخرى، ثورة على التقاليد التلمودية الحاخامية، ويُقال إن أحد أهم زعماء اليهودية الإصلاحية في المجر (أرون كورين) كان شبتانياً في شبابه.

وثمة رأي آخر يرى أن الوريث الحقيقي للحركة الشبتانية هو الصهيونية، فهي ترفض الأوامر والنواهي، ولا تقبل الانتظار حتى يشاء الإله أن يأتي الماشيَّح. ولكن الطبقة الحلولية اليهودية هي التي تجمع بين كل هذه الحركات التي تُعدُّ مجرد تجليات لهذه الطبقة التي تنكر وجود الإله المفارق، وتبحث عن المطلق والركيزة النهائية في المادة نفسها، ولذا يحل الإله تماماً في الطبيعة والتاريخ وتتقدس المادة، ومن ثم تصبح كل الأمور متساوية (نسبية) وتَسقُط المطلقات الأخلاقية لتصبح الرذائل فضائل والفضائل رذائل.

الدونمــه

Donmeh

الدونمه» كلمة تركية بمعنى «المرتدين»:

1 ـ كلمة «دونمه» مكوَّنة من كلمتين تركيتين مدغمتين «دو» بمعنى «اثنين» و«نمه» بمعنى «عقيدة» فهم أصحاب عقيدتين واحدة ظاهرة وهي الإسلام، والثانية مبطنة وهي اليهودية.

2 ـ يُقال إن الكلمة مشتقة من كلمة «دونماك» بمعنى «العائدين»، أي يهود المارانو الذين هاجروا من شبه جزيرة أيبريا إلى الدولة العثمانية.

وقد أُطلق هذا الاسم على جماعة يهودية تركية شبتانية من اليهود المتخفين استقرت في سالونيكا وأشهرت إسلامها تشبُّهاً بشبتاي تسفي (الماشيَّح الدجال). فقد اعتقد كثيرون من أتباعه المؤمنين به أن ارتداده عن دينه واعتناقه الإسلام تلبية لأمر خفي من الرب وتنفيذ للإرادة الإلهية، فحذوا حذوه، ولكنهم ظلوا متمسكين سراً بتقاليد اليهودية. وهم يختلفون عن يهود المارانو في أنهم اعتنقوا الإسلام طواعية دون قسر، فلم تكن الدولة العثمانية تُكره أحداً على اعتناق الإسلام. وعقيدة الدونمه عقيدة حلولية غنوصية متطرفة فهم يؤمنون بألوهية شبتاي تسفي، وأنه الماشـيَّح المنتظر الذي أبطل الوصايا العـشر وغـيرها من الأوامر والنـواهي. وهم يرون أن التوراة المُتداوَلة (توراة الخلق) فارغة من المعنى وأنه أحل محلها توراة التجليات، وهي التوراة بعد أن أعاد تسفي تفسيرها.

وكان مركز الجماعة في بادئ الأمر في أدرنة ثم انتقل إلى سالونيكا. ويحمل كل عضو من أعضاء الدونمه اسمين: اسم تركي مسلم وآخر عبري يُعرَف به بين أعضاء مجتمعه السري. وكانوا يعتبرون أنفسهم يهوداً، فكانوا يتدارسون التلمود مع بقية اليهود ويستفتون الحاخامات فيما يقابلهم من مشاكل، كما كانوا يحتفلون بجميع الأعياد اليهودية ويقيمون شعائرهم عدا شعيرة الكف عن العمل يوم السبت حتى لا يلفتوا النظر إلى حقيقتهم. وقد أضافوا إلى الأعياد عيداً آخر اعتبروه أقدس الأعياد على الإطلاق وهو عيد ميلاد شبتاي تسفي. ويدفن الدونمه موتاهم في مدافن خاصة بهم، ولكن كل فريق منهم يتعبد في معبده الخاص الذي يُسمَّى «القهال» (الجماعة أو جماعة المصلين)، والذي يوجد عادةً في مركز الحي الخاص بهم مخبأً يخفيهم عن عيون الغرباء. وكانت صلواتهم وشعائرهم تُكتَب في كتب صغيرة الحجم حتى يَسهُل عليهم إخفاؤها، ولهذا لم يطلع عليها أحد حتى عام 1935. وكانت كتب الصلوات بالعبرية أصلاً، لكن اللادينو حلت محل العبرية سواء في الأدب الديني أم الدنيوي، ثم حلت التركية محل اللادينو في منتصف القرن التاسع عشر. وقد اتُهمت هذه الجماعة، أو على الأقل إحدى فرقها، بالاتجاهات الإباحية وبالانحلال الخلقي والانغماس في الجنس، وذلك بسبب تحليل الزيجات التي حرمتها الشريعة اليهودية وبسبب الحفلات التي كانوا يقيمونها ويتبادلون خلالها الزوجات (وهذا أمر شائع في أوساط الجماعات الحلولية التي تُسقط كل الحدود، بمعنى حدود الأشياء والعقاب). وللدونمه صيغة خاصة من الوصايا العشر لا تُحرِّم الزنى، بل إنها تُحوِّل عبارة «لا تزن» إلى ما يشبه التوصية بأن يتحفظ الإنسان فقط في ارتكاب الزنى وليس أن يمتنع عنه تماماً. والموعظة الطويلة التي تركها أحد زعمائهم تحتوي على دفاع قوي عن إسقاط التحريمات الخاصة بالجنس في «توراة الخلق». وتؤكد الموسوعة اليهودية أنهم يعقدون احتفالات ذات طابع عربيدي داعر في عيد من أعيادهم الذي يُسمَّى «عيد الحمل» (22 مارس/آدار) وهو عيد بداية الربيع. وإن كان يبدو أن مثل هذه الاحتفالات مقصورة أساساً على فرقة القنهيليه، وهي على كل حال أكبر فرق الدونمه عدداً.

وتنقسم الدونمه إلى عدة فرق:

1 ـ اليعقوبلية: بعد موت تسفي، أعلنت آخر زوجاته أن روح زوجها قد حلت في أخيها يعقوب فيلسوف (أو يعقوب قويريدو، أي المحبوب)، وأن تسفي تجسَّد مرة أخرى من خلاله. وقد اعتنق أتباع يعقوب الإسلام بل أدَّى هو فريضة الحج عام 1690 ومات أثناء عودته. وقد تبعه ما يقرب من ثلاثمائة أسرة انقسمت عن جماعة الدونمه ككل. وقد سُمِّي أتباع يعقوب «اليعقوبلية» أي «اليعقوبيون»، وهم يسمون باللادينو «أرابادوس»، أي «الحليقون النظفاء» لأنهم يحلقون شعور رؤوسهم تماماً، وإن كانوا يرسلون لحاهم. وكان الأتراك يسمونهم «الطربوشلوه» أي «لابسو الطرابيش» لأنهم كانوا يرتدون الطرابيش. ويضم هذا الفريق أساساً أفراداً من الطبقات الوسطى أو الدنيا من الموظفين الأتراك. وهم مندمجون في المجتمع التركي تماماً، على الأقل من الناحية الشكلية.

2 ـ الأزميرليه: وقد أُطلق على بقية الدونمه اسم «الأزميرليه»، ولكنهم ما لبثوا أن انقسموا إلى قسمين:

أ) القنهيليه («القونيوسوس» باللادينو، و«كاركاشلر» بالتركية). وقد حدث انقسام آخر في صفوف هؤلاء عام 1700 حين ظهر قائد جديد هو باروخيا روسو الذي أعلن أنه تجسُّد جديد لشبتاي تسفي وأعلن أتباعه أنه التجسد أو التجلي المقدَّس وأنه ربهم. وكان باروخيا روسو (وكان اسمه التركي مصطفى شلبي، كما كان يُعرَف باسم الحاخام باروخ فونيو) أكثر الدونمه راديكالية. فقد قام بتعليم التوراة المشيحانية الخفية، أو توراة التجليات التي تطالب بقلب القيم، فطالب على سبيل المثال بإيقاف العمل بالستة والثلاثين حظراً التي وردت في التوراة والتي تُعرَف باسم «القاطعة» (بالعبرية: كيريتوت)، وقد كانت عقوبة من يخالفها هو اجتثاث الروح من جذورها وإبادتها تماماً، بل وحوَّلها إلى أوامر واجبة الطاعة. وقد كان ذلك يتضمن العلاقات الجنسية، ومن ذلك العلاقات بين المحارم. وأعضاء هذه الفرقة من الدونمه هم أساساً من الحرفيين، مثل الحمالين والإسكافيين والجزارين، ويُقال إن جميع الحلاقين في سالونيكا كانوا من أتباع هذه الفرقة. وكانوا يرسلون لحاهم ولا يحلقون شعر رأسهم (وهذا مثل جيد لجماعة وظيفية تَتبنَّى الرؤية الحلولية). وتُعَدُّ فرقتهم أكثر الفرق تطرفاً نظراً لعدميتهم الدينية. وقد قام هذا الفريق من الدونمه بنشاط تبشيري كثيف بين أعضاء الجماعات اليهودية، وأُسِّست جماعات تابعة له في أماكن عدة. وقد ظهرت الحركة الفرانكية من أحد هذه الأماكن.

ب) القبانجي: بعد موت باروخيا، انفصلت مجموعة أخرى سُمِّيت «القبانجي»، وهي كلمة تركية تعني «القدماء» أو «القائمون على حراسة الأبواب» (باللادينو: «كافاليروس»)، رفضوا الاعتراف بقويريدو، كما رفضـوا الطبيعة المشـيحانية لباروخيا، ولم يعترفوا إلا بشبتاي تسفي، وأصبح اسم «الأزميرلية» يُطلَق عليهم وحدهم، وأصبحوا أرستقرّاطية الحركة الشبتانية. وتضم هذه الفرقة المهنيين (من أطباء ومهندسين) وأصحاب المهن الحرة وأثرياء اليهود. وهؤلاء كانوا يحلقون رؤوسهم ولا يطلقون لحاهم.

وكان كل فريق من الدونمه يعيش بمعزل عن الآخر. وقد لعب الكثير من أعضاء الدونمه دوراً قيادياً في الثورة التركية سنة 1909، وخصوصاً داود بك الذي أصبح فيما بعد وزيراً للمالية، وكان من نسل باروخيا رئيس الجماعة القنهيلية المتطرفة. ويُشاع بين يهود سالونيكا أن كمال أتاتورك نفسه كان من الدونمه.

ولا تُعرَف أعداد الدونمه إلا على وجه التقريب. ويُقال إن عددهم وصل إلى مـا بين عشـرة آلاف وخمسة عشر ألفاً قبل الحرب العالمية الأولى. وقد تَفرَّق شملهم على أثر اتفاقية تبادل السكان التي وقعتها تركيا واليونان بعد الحرب عام 1924 بسبب اضطرار أعضائها، باعتبارهم مسلمين اسماً، إلى ترك مقرهم في سالونيكا والاستقرّار في جهات متفرقة في تركيا، خصوصاً إستنبول. وقد حاولوا أن ينضموا مرة أخرى إلى الجماعة اليهودية، ولكن طلبهم رُفض لأن أولادهم يُعتبَرون غير شرعيين (مامزير). وتم أخيراً إزاحة النقاب عن سر هذه الجماعة بعد أن نجحت طويلاً في إخفاء حقيقة أمرها عن المسلمين واليهود على السواء، فقد ظهرت وثائق ومخطوطات كشفت عن عدميتهم المتأصلة وبعدهم التام عن الإسلام وعن اليهودية. وقد فشلت جميع المحاولات التي بُذلت لإقناعهم بالهجرة إلى إسرائيل، ولم يكن بين المهاجرين الأتراك غير أفراد قلائل من الدونمه. وثمة دلائل تشير إلى أن القنهيليه استمرت موجودة حتى الستينيات، وأنها لا تزال تبقي على إطارها التنظيمي، وأن رئيس الجماعة أستاذ في جامعة إستنبول. ويبدو أن أعضاءها تربطهم علاقة وثيقة بالحركات الماسونية في تركيا ويلعبون دوراً نشيطاً في عملية علمنة تركيا، وهو ما يُعطي الحركة الماسونية طابعاً خاصاً.

المناظـــرة الشــــبتَّانية

Shabattean Controversy

نشبت معركة فكرية بين يعقوب أمدن وجوناثان إيبيشويتس، وكلاهما كان من كبار العلماء التلموديين في عصرهما، حين قام أمدن باتهام إيبيشويتس بأنه مؤمن بالأفكار الشبتانية سراً رغم تحريمه إياها علناً. وقد أثبت أمدن، بالأدلة القاطعة، صدق اتهامه. وقد هزت المعركة المؤسسة الحاخامية، وأضعفت هيبتها وبينت مدى تغلغل الأفكار القبَّالية (أساس الشبتانية) داخل المؤسسة التلمودية.

جـوناثــان إيبيشويتـس (1690-1764 )

Johnathan Eybeshuetz

واحد من أكبر العلماء التلموديين والقبَّاليين في عصره. وُلد في بولندا وتَعلَّم في براغ حيث استقر عام 1715. صادق بعض العلماء غير اليهود، من بينهم الكاردينال هاسباور الذي استصدر له رخصة لطبع التلمود شريطة أن يستبعد العبارات المعادية للمسيحية. ولكن المشروع لم يتحقق بسبب معارضة زعماء الجماعة اليهودية. وكان إيبيشويتس أحد القضاة الذين حكموا بتحريم المذهب الشبتاني. وقد عُيِّن حاخاماً لمتز وثلاث مدن أخرى عام 1750.

ويرتبط اسم إيبيشويتس بالمناظرة الشبتانية الكبرى حين اتهمه جيكوب أمدن بأنه يروج للشبتانية سراً. وقد وقف إلى جانبه حاخامات بولندا (وطنه الأصلي) ووقف ضده حاخامات ألمانيا (الوطن الذي استقر فيه). وقد استعرت المعركة بين الفريقين، فاضطر إلى اللجوء إلى السـلطات غـير اليهودية التي وقفـت في صفـه. وظهرت المشكلة مرة أخرى، حينما تبين وجود عدد من أتباع الاتجاه الشبتاني بين تلامذته، كما أعلن ابنه ديفيد أنه نبي شبتاني، الأمر الذي أدَّى إلى إغلاق المدرسة التلمودية التي كان يدرِّس فيها إيبيشويتس الأب.

وتعود أهمية إيبيشويتس إلى أنه كان من أهم علماء اليهودية الحاخامية، ومن كبار المعارضين العلنيين للشبتانية. ولذا، فإن اتهامه باتباعها، وإثبات ذلك، يدل على مدى تَجذُّر الشبتانية وهيمنتها. وفي عام 1724، ظهرت مخطوطة كتبها إيبيشويتس، وهي شبتانية النزعة دون جدال. كما قام يعقوب أمدن بحل طلاسم بعض الأحجبة التي كتبها إيبيشويتس، وبين أنها تحوي صيغاً شبتانية.

جيكوب أمـدن (1697-1776 )

Jacob Emden

عالم تلمودي من أصل ألماني، قاد معركة ضارية ضد النزعة الشبتانية، وهو معروف بمعركته مع جوناثان إيبيشويتس التي سُمِّىت «المناظرة الشبتانية الكبرى».

هولجـر بولـي (1644-1714 )

Holger Paulli

تاجر دنماركي من غلاة البروتستانت، وصاحب ادعاءات مشيحانية يهودية. وُلد في الدنمارك في مدينة كوبنهاجن، ودرس اللاهوت في جامعتها، ثم اشتغل بعد ذلك في تجارة العبيد في جزر الهند الغربية فحقق ثروة طائلة. وفي عام 1694، عاد إلى الدنمارك. ثم انجذب بشكل حاد نحو الدين، فهجَّر أسرته وترك بلده وسافر إلى فرنسا ثم إلى أمستردام حيث أصدر أول منشور ديني له عام 1697 دعا فيه إلى دمج اليهودية والمسيحية، وأعلن نفسه المسيح الجديد وملك اليهود الذي اختاره الإله لكي يعيد بناء الإمبراطورية اليهودية في فلسطين. وفي عام 1700، كتب منشوراً آخر موجهاً إلى ملوك أوربا أبلغهم أن المملكة اليهودية ستقام مرة أخرى عام 1720، كما طالب ملك فرنسا بالتخلي عن العرش والانضمام له لتنصير اليهود بالقوة.

وقد قامت السلطات في أمستردام بسجن بولي عام 1701 بتهمة التحريض على أعمال الشغب. وقد أُفرج عنه بفضل وساطة أسرته وأصدقائه الذين التمسوا له العذر بحجة جنونه. وقد انتقل بعدها إلى ألمانيا ثم عاد إلى الدنمارك حيث منعته السلطات منعاً باتاً من التدخل في الشئون الدينية أو الاتصال باليهود.

والواقع أن قصة بولي تبين بكل جلاء التداخل الواضح بين الأجنحة المتطرفة في البروتستانتية واليهودية (وعلى أية حال، فقد كان كثير ممن ادعوا أنهم مشحاء، مثل تسفي وفرانك، يتحولون عن اليهودية وينخرطون في دين آخر). كما تبين هذه القصة أن النزعة المشيحانية بين اليهود ليست مرتبطة بالنسق الديني اليهودي، وإنما هي مرتبطة بعناصر في الحضارة الغربية، وأن تَفجُّرها لا يمكن تفسيره إلا بالعودة لآليات وحركيات هذه الحضارة. ويمكن القول بأن النزعة المشيحانية الصهيونية (مسيحية كانت أم يهودية) هي في واقع الأمر تعبير عن اتساع أطماع الإنسان الغربي وتَفتُّح أفقه وشهيته وظهور الرؤية المعرفية الإمبريالية حيث قرَّر هذا الإنسان غزو العالم وتسخيره، ويبدو أن الخطاب المشيحاني هو الوسيلة الدينية لهذه الرؤية الإمبريالية.

والذي حدث بعد ذلك هو أن هذه النزعة المشيحانية تمت علمنتها وتجريدها من أية رواسب أو ديباجات دينية، إلى أن نصل إلى الدعوة الاستعمارية الصريحة في القرن التاسع عشر. ومع هذا، لا يعدم الأمر وجـود شـخصية مثل بلفور، وهو وزير إنجليزي ذو توجُّه استعماري واضـح، يظـل يُدافع عن مشروعه الصهيوني في فلسطين من منظور ديني.

الحركــة الفرانكــية

Frankist Movement

الحركة الفرانكية نسبة إلى جيكوب فرانك، التي تعود نشأتها إلى عام 1759 حين تَنصَّر فرانك هو ومجموعة من أتباعه على الطريقة المارانية، أي أظهروا المسيحية وأبطنوا عقيدتهم الغنوصية. ويمكن القول بأن منظومة فرانك الحلولية هي منظومة يصل الحلول فيها إلى منتهاه إذ يحل الإله في المادة ويموت وتصبح وحدة وجود مادية كاملة، المادة فيها مقدَّسة تماماً، والإنسان فيها إله، ومن ثم فهي أيضاً النقطة التي تَسقُط فيها كل الحدود ويتساوى فيها المطلق والنسبي والمقدَّس والمدنَّـس والمُحـرَّم والمُـباح وتنقلب القيم رأساً على عقب ويتسـاوى الخـير والشر والوجـود والعـدم، ولـذا فـإن منظومـة فرانك أكثر حداثة وجذرية من منظومة نيتشه على سبيل المثال.

ويتحدد إسهام فرانك في أنه خلَّص القبَّالاه من رموزها الكونية المترابطة المركبة، ووضعها في مصطلح شعبي مزخرف، وفي إطار أسطوري، بل طَعَّمها بصور مسيحية مألوفة لدى يهود شرق أوربا الذين اختلطوا بالفلاحين السلاف في الريف، وابتعدوا عن مراكز الدراسة التلمودية في المدن. وقد تأثر الفرانكيون بالفرق الأرثوذكسية الروسية المنشقة، وخصوصاً الدوخوبور والخليستي.

وتدور العقيدة الفرانكية حول ثالوث جديد يتكون مما يلي:

1 ـ الإله الخيِّر أو الأب الطيب. وهو إله خفي يختبئ وراء ثاني أعضاء الثالوث، ولا علاقة له بعملية الخلق أو المخلوقات، فهو لم يخلق الكون (فلو أنه خلق الكون لأصبح هذا الكون خالداً وخيِّراً، ولكانت حياة الإنسان أبدية). وهو مقابل الإين سوف في العقيدة القبَّالية.

2 ـ الأخ الأعظم أو الأكبر، ويُسمَّى أيضاً «هذا الذي يقف أمام الإله». وهو الإله الحقيقي للعقيدة الذي يحاول العبد التقرب منه، ومن خلال الاقتراب منه يستطيع العابد أن يحطم هيمنة حكام العالم الثلاثة (قيصر روسيا، والسلطان العثماني، وحاكم إحدى القوى العظمى الأخرى ولعلها النمسا أو ألمانيا) الذين يهيمنون على العالم ويفرضون عليه شريعة غير ملائمة. والأخ الأعظم (المقابل للتفئيريت أو الابن، ولبعض التجليات الأخرى) مرتبط بالشخيناه التي هي الأم التي يُقال لها «علماه».

3 ـ الأم «علماه»، أو العذراء «بتولاه»، أو «هي». وهي خليط من الشخيناه والعذراء مريم. والواقع أن صورة الأنثى في الثالوث الفرانكي جعلت العنصر الجنسي الكامن في القبَّالاه اللوريانية أو في الحركة الشبتانية عنصراً أكثر وضوحاً. وقد استخلص الفرانكيون أن التجربة الدينية الحقة لابد أن تأخذ شكل ممارسة جنسية. ولن يصل العالم إلى الخلاص إلا باكتمال الثالوث الجديد السابق.

وهذا الثالوث أقرب إلى شخصيات المنظومة الغنوصية (الإله الخفي أو الديوس أبيسكونديتوس، والمخلص أو الكريستوس، وصوفيا أو الحكمة). وشبتاي تسفي نفسه، حسب التصور الفرانكي، ليس إلا أحد تجليات الإله، فهو تجسيد جديد للأخ الأعظم، ولكنه تملَّكه الضعف وهو بعد في منتصف الطريق، فلم يستطع تحقيق أي شيء. ووصولاً إلى الخلاص، لابد أن يظهر ماشيَّح جديد يكمل الطريق، ولابد أيضاً أن تظهر العذراء (تجسيد العنصر الأنثوي). وحتى يتحقق الخلاص، ينبغي أن يسير المؤمن بالعقيدة الفرانكية في طريق جديد تماماً، لم يطرقه أحد من قبل، وهو طريق عيسو (أدوم) الذي يُشار إليه في الأجاداه بلفظ «أدوم» ويُستخدَم اللفظ نفسه للإشارة إلى «روما»، أي القوى الكاثوليكية. فعيسو رمز تَدفُّق الحياة الذي سيحرر الإنسان والحياة فهو قوة لا تخضع لأي قانون فهي حالة سيولة كونية ورحمية.

وقد جاء في التوراة أن يعقوب قال إنه سيزور أخاه (تكوين 33/14) ولكنه لم يفعل لأن الطريق كان صعباً عليه. وقد حان الوقت لأن يسير الماشيَّح في ذلك الطريق الذي يؤدي إلى الحياة الحقة التي تحمل كل معاني الحرية والإباحية (ولنلاحظ هذا الارتباط بين حالة السيولة الرحمية والإباحية الجنسية وهو أمر متكرر في الأنماط الحلولية). فالطريق الجديد يؤدي إلى عالم لا توجد فيه قوانين ولا حدود، عالم تم فيه التجرد من كل الشرائع والقوانين والأديان، لكنه عالم ليس فيه حدود (الحد بمعنى «الحاجز الذي يفصل بين شيئين» وبمعنى «عقوبة مُقدَّرة وجبت على الجاني» وبمعنى «حدود الشخصية» أي هويتها)، وتصبح العدمية والتخريب هما طريق الخلاص. إن هذا العالم الشرير لم يخلقه الإله الخفي، وهو مادة دنيئة تقف في وجه وصول الإنسان إلى الأخ الأعظم (ويُلاحَظ هنا الأثر العميق للغنوصية). وحتى يتم إنجاز هذا الهدف، لابد أن تُحطَّم كل القوانين والتعاليم والممارسات التي تعوق تدفُّق الحياة: «لقد أتيت لأحرر العالم من كل الشرائع والعادات الموجودة فيه. إن مهمتي هي إزالة كل شيء حتى يستطيع الإله أن يكشف عن نفسه ». ثم تظهر العدمية الدينية بشكل أوضح في الحديث عن الطريق إلى الحياة الجديدة، فهو طريق جديد تماماً، وكما يقول فرانك: « أينما كان يخطو آدم، كانت تنشأ مدينة. لكن أينما أضع أنا قدمي، يجب أن يُدمَّر كل شيء، فقد أتيت إلى هذا العالم لأُدمِّر وأبيد».

والطريق الجديد طريق غير مرئي، لا يكون إلا في الخفاء. ولذا، فإنه يتعين على المؤمنين أن يرتدوا رداء عيسو (أي المسيحية)، فعليهم أن يتظاهروا بالتنصر (والواقع أن التظاهر بدين واعتناق دين آخر من أهم ممارسات جماعة الدوخوبور من المسيحيين الروس المنشقين). وقد عبر المؤمنون إلى الأمة اليهودية والإسلام (الإشارة إلى شبتاي تسفي) ولم يبق سوى المسيحية. والمؤمن الحق يختبئ تحت « عبء الصمت » يحمل الإله في قلبه الصامت فيعتنق الديانات الواحدة تلو الأخرى ويمارس شعائرها. لكن التغلب على الأديان الأخرى وتدميرها يتطلب من الفرد أن يكون صامتاً تماماً ومخادعاً: « فالإنسان الذي يرغب في غزو حصن لا يفعل ذلك بالكلام والإعلان، بل يتسلل إليه في صمت وسكون، لقد تحدَّث الأجداد كثيراً، لكنهم لم يفعلوا شيئاً. لذلك يجب الآن تَحمُّل الصمت. وحينئذ، لن يكون الفرد في حاجة إلى الدين» (ويتضح هنا أثر يهود المارانو المتخفين). وحينما يمارس المؤمن طقوس الديانات الأخرى دون أن يتقبل أياً منها، بل يحاول أن يحطمها من الداخل، فهو يؤسس الحرية الحقة. فالواقع أن الديانة المنظمة على أساس مؤسسي التي يعتنقها اليهودي المتخفي ليست سوى عباءة يرتديها المرء كرداء يلقي به (فيما بعد) في طريقه إلى المعرفة المقدَّسة، وهي المعرفة الغنوصية بالمكان الذي تُحطَّم فيه كل القيم التقليدية في تيار الحياة، طريق غير مرتبط بأي قانون وإنما مرتبط بإرادة فرانك وحده. وإذا كان الإفصاح عن الإيمان بالمسيحية ضرورياً، فإن الاختلاط بالمسيحيين وكذلك الزواج منهم محظور.

وفرانك نفسه تجسيد آخر للأخ الأعظم تقمصته الروح القدس. سمَّى نفسه «سانتو سنيورا»، أي «السيد المقدَّس»، وروج للمفهوم القبَّالي اللورياني للشر، وهو مفهوم يرى أن الشر ليس حقيقياً، وكل شيء، وضمن ذلك الشر نفسه، هو خير أو علقت به شرارات إلهية على الأقل. ومن هنا، فقد أعلن فرانك أن ظهور الماشيَّح أضفى القداسة على كل شيء في الحياة حتى الشر. وبهذا، برزت فكرة « الخطيئة المقدَّسة » التي ترى أنه ينبغي الوقوع في الخطيئة الكبرى حتى ينبثق عالم لا مكان فيه للخطيئة، عالم هو الخير كله. ولكي يصعد الإنسان، يجب عليه أن يهبط أولاً: « إنني لم آت إلى هذا العالم لكي أصعد بكم، بل لأهبط بكم إلى قاع الهوة، حيث لا يستطيع الإنسان أن يصعد بقوته الذاتية ». أما النزول إلى تلك الهوة، فهو لا يقتضي فقط ترك كل الأديان والمعتقدات، بل يوجب أيضاً اقتراف أعمال آثمة غريبة. وهذا يتطلب أن يتخلى الإنسان عن الإحساس بذاته إلى درجة تصبح معها الوقاحة والفجور هما ما يقود إلى إصلاح الأرواح. وقد عَيَّن فرانك اثني عشر من الإخوة أو الحواريين أو الرسل، هم تلاميذه الأساسيون (مثل حواريي المسيح)، ولكنه عَيَّن أيضاً اثنتي عشرة أختاً كن في واقع الأمر خليلاته (فمن الواضح أن فرانك استمر في الممارسات الجنسية التي كان يمارسها باروخيا). وأعلن أنه سيخلص العالم من كل النواميس الموجودة وسيتجاوز كل الحدود، فقضى ببطلان الشريعة اليهودية. ورغم أن الإله أرسل رسلاً إلى جماعة يسرائيل، فإن التوراة تتضمن شرائع يصعب مراعاتها وثبت عدم جدواها. والشريعة الحقة هي إذن التوراة الروحية أو توراة الفيض التي أتى بها شبتاي تسفي. وشن فرانك حرباً شعواء على التلمود، وأعلن أن الزوهار هو وحده الكتاب المقدَّس. وكان الفرانكيون يُدعَون باسم «الزوهاريين» لهذا السبب. ومع هذا، وصلت العدمية بفرانك إلى منتهاها إذ طلب من أتباعه التخلي عن الزوهار نفسه، وعن كل تراث قبَّالي.

كانت كل هذه الأفكار تعمل على إعداد أتباعه للتَنصُّر الماراني الظاهري، حيث كان لهم شرط أساسي هو الاحتفاظ بشيء من هويتهم اليهودية العلنية كأن يمتنعوا عن حلاقة سوالفهم، وأن يرتدوا الثياب الخاصة بهم، ويُبقوا أسماءهم اليهودية إلى جانب أسمائهم المسيحية الجديدة، وألا يأكلوا لحم الخنزير، وأن يستريحوا يوم السبت (ولعل من المفارقات أن مثل هذه الشعائر السطحية كانت كل ما تبقى من اليهودية بالنسبة للبعض). كما طالبوا بإعطائهم رقعة أرض في شرق جاليشيا تستطيع جماعتهم أن تؤسس فيها حياتها الجديدة، وخصوصاً أن مسرح الخلاص في الرؤية الفرانكية هو بولندا وليس صهيون. هذا مع وضع برنامج لتحويل اليهود إلى قطاع منتج، كأن يعملوا بالزراعة مثلاً. وقد أكد فرانك أهمية الجوانب العسكرية في تنظيمه. وكان ينادي بأن يترك اليهود الكتب والدراسات الدينية، وأن يتحولوا إلى شعب محارب.

وكان معظم أتباع فرانك من الفقرّاء أو من اليهود الذين يشغلون وظائف هامشية أو وظائف لم يَعُد لها نفع. فكان منهم الذين يعملون في تقطير الكحول، وكان منهم أصحاب حانات وأعضاء في الطبقات من بقايا يهود الأرندا، وكان هؤلاء قد فقدوا علاقتهم بالمؤسسة الحاخامية وزادت علاقتهم بالفلاحين السلاف، حتى أنهم تأثروا بفكرهم ومعتقداتهم. كما انضم إليه عدد كبير من صغار الحاخامات الذين لم يحققوا ما كانوا يطمحون إليه من نجاح. ومع هذا، فقد كانت الحركة تضم غير قليل من كبار التجار الأثرياء.

وقد ظهرت الفرانكية في الواقع تعبيراً عن أزمة كان يجتازها كل من اليهود واليهودية:

1 ـ أما اليهودية، فمن المعروف أنها كانت قد وصلت، مع انتصاف القرن الثامن عشر، إلى طريق مسدود. فقد تحولت إلى عبادة عقلية جافة، سيطر عليها الحاخامات بدراساتهم التلمودية المنفصلة عن أي واقع وتمثلت فيما يشبه التمارين المنطقية. وربما كانت العدمية الواضحة في فكر فرانك تعبيراً عن الملل والسأم من هوية يهودية دينية قد تآكلت.

2 ـ وقد بدأت الدراسات القبَّالية تحل محل الدراسات التلمودية، ولكن القبَّالاه التي سادت كانت القبَّالاه اللوريانية بنزعتها المشيحانية المتفجرة واتجاهها الحلولي المتطرف. ولهذا، فإنها لم تَصلُح كإطار لحركة تجديد وإصلاح اجتماعية.

3 ـ تَعرَّض اليهود لهجمات شميلنكي، ثم الهايدماك والفلاحين القوزاق، ولهجمات سكان المدن البولندية والكنيسة الكاثوليكية. ولهذا، فقد لاذوا بمنطقة كانت تتنازعها الدول المجاورة؛ فهي تارة تابعة إلى بولندا وتارة تابعة إلى روسيا، أو النمسا (أوكرانيا وجاليشيا). وكانت مقاطعة بودوليا (التي نشأت فيها الفرانكية وغيرها من الحركات) تابعة للدولة العثمانية بعض الوقت. ولا شك في أن هذا الوضع السياسي القلق سبَّب للجماهير اليهودية كثيراً من الخوف وعدم الاطمئنان جعلها تبحث عن مخرج.

4 ـ بدأت الجماعات اليهودية تفقد دورها كجماعة وظيفية وسيطة تعمل بالتجارة والوظائف الأخرى، وذلك بظهور عناصر بولندية محلية أخذت تحل محلها وتضطلع بما كان اليهود يؤدونه من وظائف ويقومون به من دور، وبدأ وضع اليهود الاقتصادي يسوء تبعاً لذلك. وتنعكس الأزمة الاقتصادية للجماعة اليهودية في أزمة القهال الذي تحوَّل إلى مؤسسة مدنية تثقلها الأعباء المالية، كما أصبحت مسرحاً للتوترات الاجتماعية بين أعضاء الجماعة اليهودية بدلاً من أن تكون مؤسسة لحلها.

5 ـ وبرغم تفاقم الأزمة، فلم تظهر فرص اقتصادية بديلة، كما لم تظهر أشكال اجتماعية، داخل الجماعة اليهودية أو خارجها، تحل لها أزمتها وتساعد أعضاءها على الاندماج في المجتمع مرة أخرى من خلال الاضطلاع بوظيفة إنتاجية محددة توجد داخل المجتمع نفسه لا في مسامه. ولذا، كانت الصيغة الشبتانية المارانية صيغةً ملائمة للاندماج ولحل الأزمـة. فما كان يقترحـه فرانك هـو تكوين جماعات يهودية مسيحية، تتساوى في الحقوق مع المواطنين كافة، ويمكنها أن تذوب فيهم. وكان هدف هذه الصيغة التقليل من آلام الانتقال، فجماعة يهودية مسيحية تعيش داخل منطقة زراعية مقصورة عليها يمكنـها التكـيف والاندماج، وفي نهـاية الأمر الانصهار في المجتمع الأكبر، دون أن تضطر إلى تَبنِّي الأشـكال المسـيحية البولندية دفعة واحدة. والفرانكية تشبه، في هذا، الربوبية والماسونية، وهما حركتان تستخدمان خطاباً دينياً يخبئ مضموناً علمانياً لتخفيف آلام الانتقال من عقيدة إلى أخرى.

6 ـ ومن أهم القضايا التي كانت تواجهها الجماعة اليهودية في أوربا، وبولندا بالذات، بُعدها عن القرّار السياسي ومناطق النفوذ، أو ما كان يُسمَّى بمشكلة العجز (أي انعدام السيادة وعدم المشاركة في السلطة). وقد حُلَّت هذه المشكلة بالتدريج في أوربا الغربية باندماج اليهود في المجتمع وتحوُّلهم من عنصر تجاري نافع غريب إلى عنصر قد يكون متميِّزاً دينياً أو إثنياً ولكنه بدون وظيفة محددة. وبالتالي، فقد أصبح اليهـود مواطنين أعضاء في مؤسـسات صُـنع القرّار. أما في شـرق أوربا، فقد ازدادت المشكلة تفاقماً وازداد يهود اليديشية عزلة، وخصوصاً أن أعدادهم كانت كبيرة، وكان يكفيهم مجرد الانكفاء على الذات لتزداد مشكلتهم حدة. وفي الواقع، فإن الحركات الشبتانية المشيحانية كانت، في أحد جوانبها، تعبيراً عن رغبة عارمة في السلطة وفي الهيمنة عليها، وفي حل هذه الإشكالية. ويتجلى ذلك بشكل حاد في مطالب فرانك وفي سلوكه حيث حاول أن يشبع هذه الرغبة (على نحو ما فعل تسفي من قبل)، فقد طالب فرانك بمنطقة شبه مستقلة يمارس اليهود من خلالها شيئاً من السلطة، كما أنه هو نفسه كان خليطاً من الباشا التركي والنبيل البولندي، فكان يرتدي غطاء رأس تركياً، ويركب مركبة يسير حولها مجموعة من الخدم المترجلين والراكبين تشبهاً بالنبلاء البولنديين. وكان التشبه بالنبلاء البولنديين أمراً شائعاً بين يهود بولندا، بعد أن قرنوا أنفسهم بهم عشرات السنين من خلال مؤسسات الإقطاع الاستيطاني البولندي (وخصوصاً نظام الأرندا). وربما كان النظام العسكري الذي فرضه فرانك على أتباعه تعبيراً آخر عن الرغبة في التشبه بالنبلاء البولنديين. وظهر حب السلطة في شخصية فرانك في سلوكه الدكتاتوري الكامل مع أتباعه، ورغبته في السيطرة عليهم تماماً حتى عن طريق الجنس وغيره من الطرق، كما أنه كان يَعدُ أتباعه بطريقة الملوك. وحينما راقته امرأة ذات مرة، أخبرها بأن فيها شرارة ملكية. بل يُقال إن ما كان فرانك يرمي إليه من وراء حركته هو خلق قاعدة جماهيرية تشكل أساساً للقوة، وأن عملية التنصر لم تكن إلا محاولة لخلق هوية مستقلة لهذه الجماهير عن كل من اليهود والمسيحيين حتى يمثلوا قاعدة جماهيرية له.

ومع الفرانكية، ظهرت الحسيدية في المرحلة الزمنية نفسها وفي المكان نفسه (بودوليا) جنباً إلى جنب، وانتشرتا بين الجماهير نفسها (الفلاحين اليهود، وأصاحب الحانات، ومستأجري الامتيازات من يهود الأرندا، والوعاظ المتجولين الذين لم يكونوا أعضاء في النخبة الدينية). والواقع أن نقاط التشابه بينهما كثيرة وعميقة. فكلتاهما تنطلقان من القبَّالاه (وخصوصاً اللوريانية) كإطار فكري، وتؤكدان أهمية التلقائية والحرية، وتهملان دراسة التوراة والتلمود (والفرانكية تعادي التلمود)، كما أن كلتيهما تأثرتا بالنزعة الشبتانية وبكثير من أفكارها، واتخذتا موقفاً متحرراً جدلياً من مشكلة الخطيئة والذنب، كما أن كلتيهما جعلت من المنفى حالة شبه نهائية على اليهود تَقبُّلها. ورغم أن الحسيدية تعبِّر عن حب عارم لفلسطين، فإن الحسيديين لم يشجعوا الهجرة إليها قط، بل وقفوا ضدها. أما فرانك، فلم يكترث كثيراً لفلسطين، وقد تَضمَّن برنامجه الإصلاحي (المشيحاني) تأسيس جماعة زراعية في إحدى مناطق بولندا. وقد وقفت كل من الحركتين موقفاً معادياً من المؤسسة الحاخامية.

ولكن الفرانكية فشلت كحركة جماهيرية في حين أن الحسيدية نجحت حتي أصبحت أهم الحركات الدينية بين يهود اليديشية في شرق أوربا. ويرجع هذا إلى عدة أسباب:

1 ـ بينما قامت الفرانكية بإعلاء الخطيئة وجعلها فضيلة، وانغمس أتباعها في الممارسات الجنسية، قللت الحسيدية من أهمية مشكلة الخطيئة وحسب وجعلت التساديك واسطة الغفران. وقد كان موقف الفرانكية الراديكالي العدمي موقفاً متفجراً غير اجتماعي. أما موقف الحـسيديين، فـهو على العكـس يساعد على الترابط التنظيمي والاجتماعي.

2 ـ لجأت الفرانكية، في النهاية، إلى الكنيسة الكاثوليكية، وكان تحديها للمؤسسة الدينية اليهودية تحدياً جذرياً رافضاً. أما الحسيدية، فقد ظلت تعمل من داخل الجماعة اليهودية.

3 ـ جعلت الفرانكية الخلاص ممكناً من خلال شخص الماشيَّح. لكن تعليق مصير الحركة على شخص واحد كان لابد أن يؤدي إلى أزمة عميقة في حالة فشل هذا الشخص أو انحرافه، وهو الأمر الذي أودي في نهاية الأمر بالفرانكية. أما الحسـيدية، فقد جعـلت المشيحانية مسـألة لفظية، وفتتت النزعة المشيحانية بتوزيعها على شخصيات متعددة هم التساديك، وبالتالي لم تصل إلى مرحلة الأزمة.

4 ـ ظل الحلم الفرانكي، حتى النهاية، قابلاً للتحقيق من خلال رجل باطش وشخصية كاريزمية. أما الحسيدية، فقد ظلت دون حلم واضح محدد المعالم وإنما انعكست في عدة ممارسات تهدف إلى تخفيف حدة اغتراب اليهود وآلامهم وتأكيد أهمية الجماعة.

والواقع أن كلاًّ من الفرانكية والحسيدية تشبه الصهيونية من بعض الوجوه، لكن الأولى أكثر قرباً إلى الصهيونية من الثانية. فالفرانكية والصهيونية، كلتاهما، ترفضـان التراث الديني اليهـودي بشـكل راديكالي، وكلتاهما تخرقان الشريعة ولا تلتزمان بها، كما أن قضية السلطة أساسية بالنسبة إلى الفريقين. وقد انتقد فرانك فكرة أن ينتظر اليهود عودتهم إلى صهيون في آخر الأيام، ورأى فيها فكرة سلبية تماماً، وهو يتفق في ذلك مع الصهاينة. وكذلك، فإن الصياغة الفرانكية لدمج اليهود كجماعة تم تطبيعها (أي تنصيرها جزئياً وتحويلها إلى شعب منتج) لا تختلف كثيراً عن التصور الصهيوني الخاص بإخلاء أوربا من يهودها، وتجميع هؤلاء اليهود في فلسطين، وتطبيعهم داخل إطار الدولة اليهودية التي ستندمج في المجتمع الدولي. كما أن اهتمام فرانك بالزراعة والتنظيم العسكري له ما يناظره في النظرية والممارسة الصهيونيتين.

والعدمية الفرانكية تشبه في كثير من النواحي العدمية المتغلغلة في الفكر الغربي الحديث، ولا ندري إن كان هذا أثراً من آثار الفرانكية أم هو مجرد تماثل بنيوي. ونحن لا نستبعد أن يكون سيجموند فرويد قد تأثر بنمط تفكير فرانك. وفي الواقع، فإن النمط الفكري لجيكوب فرانك يشبه إلى حدٍّ ما الفلسفة الأدبية السائدة الآن في الغرب باسم «التفكيكية» التي ترمي إلى هَدْم فكرة المعنى أساساً وترى أن مهمة الناقد ليست تفسير العمل الأدبي وإنما تفكيكه وإظهار افتقاره إلى المعنى. ويجب أن نشير إلى أن التقاليد السفاردية العدمية بدأت بإسبينوزا وشبتاي تسفي، ثم تبعهما في ذلك الدونمه والحركة الشبتانية، ثم انتقلت هذه التقاليد إلى جيكوب فرانك (السفاردي)، وأخيراً انتقلت إلى كلٍّ من جاك دريدا وإدموند جابيس.

جيكوب فرانك (1726-1791)

Jacob Frank

جيكوب فرانك هو مؤسس الحركة الفرانكية. وُلد في بودوليا باسم جيكوب يهودا ليب لأسرة متواضعة، وكان أبوه يعمل تاجراً ومقاولاً صغيراً. وقد درس فرانك في مدرسة دينية أولية خاصة (حيدر)، ولكن يبدو أنه لم يكن على معرفة كبيرة بالتلمود، وكان يتباهى بجهله، وبأنه رجل بسيط جاهل (بالبولندية: بروستاك). ولبعض الوقت، عمل جيكوب فرانك في بوخارست، كتاجر ملابس وأحجار نفيسة، كما عمل في وظائف أخرى عديدة أتاحت له أن يتنقل بين مدن البلقان التابعة للدولة العثمانية في الفترة من 1745 إلى 1755.

اتصل بأتباع الحركة الشبتانية في مرحلة مبكرة من حياته، ودرس الزوهار، واتبع مذهب الدونمه (طائفة الباروخيا أو اليعقوبية المتطرفة). وقد قضى فرانك مدة طويلة من حياته في الدولة العثمانية، يتصرف كيهود السفارد ويتحدث اللادينو. وكان الإشكناز يشيرون إليه باسم «فرانك» (وهي الكلمة اليديشية التي تُطلَق على السفارد) بما كانت تحمله من إيحاءات تربط بينه وبين الشبتانية ولعل هذا يعود إلى أثر القبَّالاه اللوريانية ذات الأصول الإسبانية السفاردية. وقد قَبل هو هذا التعريف لهويته، وعدَّل اسمه إلى جيكوب فرانك. وفي عام 1753، سافر فرانك إلى سالونيكا لأول مرة، وتعرَّف على أتباع باروخيا. وسافر إلى بعض المدن العثمانية الأخرى، ثم عاد إلى سالونيكا عام 1755 وبدأ يتلبس دور الماشيَّح. وكانت حلقته تطلق عليه اسم «الحاخام جيكوب». وأعلن فرانك أن الروح التي كانت تسكن في شبتاي تسفي وباروخيا (اللذين كان يشير إليهما فرانك بكلمتي «الأول» و«الثاني») قد تقمصته، وأنه تجسيد جديد لها.

ضُبط فرانك عام 1756 وهو يقود إحدى الجماعات الشبتانية في طقوس ذات طابع جنسي تشبه طقوس جماعة «اليعقوبية»، وقُبض على أتباعه، وأطلقت السلطات سراحه ظناً منها أنه مواطن تركي. فسافر إلى تركيا ومكث فيها بعض الوقت، واعتنق الإسلام عام 1757، ولكنه كان يزور أتباعه في بودوليا سراً.

وحينما عاد فرانك علناً إلى بولندا، اعترف به الشبتانيون (في جاليشيا وأوكرانيا والمجر) زعيماً لهم، لكن المحكمة الدينية اليهودية (بيت دين) قررت أن ممارساته الجنسية تتعارض مع اليهودية وكل الأديان، وطالبت الكنيسة الكاثوليكية بالحرب ضد الفرانكيين. لكن هذا أتى بنتيجة عكسية، إذ أسقط الفرانكيون الواجهة اليهودية تماماً، وأكدوا المعتقدات الدينية المشتركة بينهم وبين الكنيسة، وأعلنوا أنهم معادون للتلمود، وطلبوا حماية الكنيسة التي وافقت على ذلك على أمل أن يتنصروا بشكل جماعي. وأُجريت مناظرة علنية (1759) بين الفرانكيين والحاخامات، حول موضوعات مثل تهمة الدم، وعقيدة الماشيَّح، وهل المسيح عيسى بن مريم هو الماشيَّح الذي يرد ذكره في الكتابات الدينية اليهودية، وقد انتهت المناظرة بتَقبُّل فرانك التعميد والتنصر ولكنه كان تنصراً على الطريقة المارانية، أي أنه أبطن معتقداته الغنوصية المتأثرة بالقبَّالاه اللوريانية والتي تطرفت في حلوليتها حتى وصلت إلى حد الفوضوية الكاملة والعدمية التامة.

وقد اكتُشف أمر فرانك وجماعته، فقُبض عليه وأُودع السجن. وقد استمر أتباعه في تقديسه واعتبروه الماشيَّح المعذب. ثم أفرجت عنه السلطات الروسية بعد التقسيم الأول لبولندا (عام 1772)، ولكنها عادت وألقت القبض عليه فيما بعد. ومات فرانك عام 1799 (ودُفن في مقابر المسيحيين) دون أن يترك وراءه أعمالاً مكتوبة، ولكنه مع هذا ترك كتاباً بعنوان أقوال السيد يُعَدُّ أهم مصدر لمعرفة أفكاره. وعلى أية حال، فإن هناك نقصاً شديداً في المادة والوثائق الخاصة بالفرانكية.

ومن المعروف أنه، بعد وفاة فرانك، خلفته ابنته الحسناء إيف في قيادة الجماعة، واستمرت هي الأخرى، مثلها مثل أبيها، في الممارسات الجنسية الشاذة (ويبدو أنها كانت تربطها علاقة جنسية به، فالجماع بالمحارم هو قمة العدمية الفلسفية والرفض الكامل لأية حدود أو مُطْلَقات). أما أتباعه المتنصرون، فقد استمروا في التزاوج فيما بينهم بعض الوقت، وأصبـح بعضـهم من كـبار النـبلاء البولنديين، كما انخرط كثير من أبنائهم في سلك حركة التنوير اليهودية وفي الحركات الليبرالية والماسونية، وكان من بينهم بعض رجالات الثورة الفرنسية (وخصوصاً اليعاقبة منهم). وهذا ولا شك ترجمة لمفهوم عبء الصمت حيث ينخرط الفرانكي في عدة ديانات ومؤسسات بهدف تقويضها من الداخل ثم نبذها بعد ذلك.

موسـى دوبروشــكا (1753-1794)

Moses Dobrushka

يهودي من أتباع الحركة الفرانكية. وُلد في الإمبراطورية النمساوية في أسرة ثرية من ملتزمي الضرائب والمتعهدين العسكريين ممـن كانوا متحـكمين في تجـارة التبغ إبان حـكم الإمبراطورة ماريا تريزا. ونظراً لأن أمـه هي ابـنة عـم جيكـوب فرانـك مؤسـس الحركـة الفرانكيـة، فـإن بيتهـا في برونـو كان مكـاناً يلتـقي فيه أتباع الحركة. وقد استقر فرانك نفسه في هذه المدينة التي كان يقع فيها هذا المنزل لمدة ثلاثة عشر عاماً (1773 ـ 1786) بعد أن خرج من السجن.

تلقى دوبروشكا تعليماً تلمودياً تقليدياً، كما درس الأفكار الشبتانية بالإضافة إلى دراسة الأدب الألماني وبعض اللغات الأجنبية في مرحلة مبكرة من حياته. وفي عام 1773، تزوج من ابنة واحد من أثرياء براغ. وقد دخل دوبروشكا مجال الأعمال المالية حينما كانت النمسا تُعد للحرب ضد الأتراك، وجمع ثروة كبيرة باعتباره المتعهد العسكري الأساسي. وقد منحه الإمبراطور جوزيف الثاني لقب «نبيل». وسمَّى دوبروشكا نفسه فرانز توماس أدلر فون شونفلد، واستقر في فيينا في أواخر الثمانينيات من القرن الثامن عشر حيث عاش حياة الأثرياء، وكانت له حلقة كبيرة من المعارف من أعضاء الطبقة الثرية والحاكمة، كما كانت له صلات واسعة مع كبار الكُتَّاب الألمان. وقد رُشح دوبروشكا ليخلف فرانك في رئاسة الحركة الفرانكية ولكنه رفض ذلك.

كتب دوبروشكا عدة مؤلفات ذات اتجاه تنويري، كما انخرط في صفوف الحركة الماسونية وأدخل عليها عناصر من القبَّالاه ذات طابع شبتاني. وقد كان دوبروشكا (أو شونفلد) معجباً بمبادئ الثورة الفرنسية (كان هنـاك عدد كبير من الشـبتانيين والفـرانكيين والماسـونين من مؤيديها)، وأصبحت حياته مرتبطة بها تماماً منذ بداية التسعينيات.

وصل دوبروشكا إلى ستراسبورج في مارس 1792، وغيَّر اسمه إلى جوتلوب جوليوس فراي، ثم انتقل إلى باريس في يونيه من العام نفسه وانضم إلى نادي اليعاقبة فيها، واشترك في اقتحام قصر التويلري، وكتب مؤلفاً فلسفياً سياسياً عنوانه الفلسفة الاجتماعية: إلى الشعب الفرنسي. والكتاب دفاع حار عن اليعاقبة وهجوم شديد على موسى والشريعة الموسوية.

وفي يناير 1793، تعرَّف دوبروشكا على واحد من أهم المحرضين اليعاقبة يُدعى فرانسوا شابو الذي تزوج من أخت دوبروشكا في أكتوبر من ذلك العام. ولكن دوبروشكا اتُهم بعد ذلك بأنه عميل نمساوي كما اتُهم بالفساد الخلقي حيث كان متورطاً في جريمة مالية، فأُلقي القبض عليه هو وشابو، وحُكم عليه بالإعدام ونُفِّذ فيه الحكم في أبريل 1794 (مع دانتون). وبعد إعدامه، انتشرت شائعة مفادها أن دوبروشكا ذهب في مهمة سرية لتحرير الملكة ماري أنطوانيت من معتقلها.

ولقد كانت حياة موسى دوبروشكا حياة فريدة، ولكنها كانت مع هذا ذات دلالة عامة وعميقة، فهو نتاج أزمة اليهودية الحاخامية وتآكلها؛ تبنَّى الرؤية الفرانكية، ثم التحق بالحركة الماسونية، وكتب دراسات تنويرية يهودية، وانخرط في عبادة العقل التي مورست بشكل حرفي إبَّان الثورة الفرنسية. ولعل العنصر المشترك في كل هذا هو رفضه الواقع رفضاً كاملاً، وكذلك رفض التصالح معه، ومحاولة التحكم فيه والسيطرة عليه، سواء من خلال الصيغ السحرية أو من خلال العقل، الأمر الذي يدل على وجود العنصر الحلولي الغنوصي في فكره.

الجزء الثالث: الفرق الدينية اليهودية

الباب الأول: الفرق الدينية اليهودية (حتى القـرن الأول الميلادى)

الفـرق الدينية اليهوديـة

Jewish Religious Sects

توجد في اليهودية فرق كثيرة تختلف الواحدة منها عن الأخرى اختلافات جوهرية وعميقة تمتد إلى العقائد والأصول، فهي في الواقع ليست كالاختلافات التي توجد بين الفرق المختلفة في الديانات التوحيدية الأخرى. ومن ثم، فإن كلمة «فرقة» لا تحمل في اليهودية الدلالة نفسها التي تحملها في سياق ديني آخر. فلا يمكن، على سبيل المثال، تصوُّر مسلم يرفض النطق بالشهادتين ويُعترَف به مسلماً، أو مسيحي يرفض الإيمان بحادثة الصلب والقيام ويُعترَف به مسيحياً. أما داخل اليهودية، فيمكن ألا يؤمن اليهودي بالإله ولا بالغيب ولا باليوم الآخر ويُعتبر مع هذا يهودياً حتى من منظور اليهودية نفسها. وهذا يرجع إلى طبيعة اليهودية بوصفها تركيباً جيولوجياً تراكمياً يضم عناصر عديدة متناقضة متعايشة دون تمازج أو انصهار. ولذا، تجد كل فرقة جديدة داخل هذا التركيب من الآراء والحجج والسوابق ما يضفي شرعية على موقفها مهما يكن تطرفه. وأولى الفرق اليهودية التي أدَّت إلى انقسام اليهودية فرقة السامريين التي ظلت أقلية معزولة بسبب قوة السلطة الدينية المركزية المتمثلة في الهيكل ثم السنهدرين.

ولكن، مع القرن الثاني قبل الميلاد، خاضت اليهودية أزمتها الحقيقية الأولى بسبب المواجهة مع الحضارة الهيلينية. فظهر الصدوقيون والفريسيون، والغيورون الذين كانوا يُعَدون جناحاً متطرفاً من الفريسيين، ثم الأسينيون. ومما يجدر ذكره أن الصدوقيين كانوا ينكرون البعث واليوم الآخر، ومع هذا كانوا يجلسون في السنهدرين، جنباً إلى جنب مع الفريسيين، ويشكلون قيادة اليهود الكهنوتية. وقد حققت هذه الفرق ذيوعاً، وأدَّت إلى انقسام اليهودية. ولكنها اختفت لسببين: أولهما انتهاء العبادة القربانية بعد هدم الهيكل، ثم ظهور المسيحية التي حلت أزمة اليهودية في مواجهتها مع الهيلينية إذ طرحت رؤية جديدة للعهد يضم اليهود وغير اليهود ويحرر اليهود من نير التحريمات العديدة ومن جفاف العبادة القربانية وشكليتها.

وجابهت اليهودية أزمتها الكبرى الثانية حين تمت المواجهة مع الفكر الديني الإسلامي. فظهرت اليهودية القرائية كنوع من رد الفعل، فرفضت الشريعة الشفوية وطرحت منهجاً للتفسير يعتمد على القياس والعقل، أي أنها انشقت عن اليهودية الحاخامية تماماً. ويمكن أن نضيف إلى الفرق اليهودية يهود الفلاشاه ويهود الهند الذين لا يشكلون فرقاً بالمعنى الدقيق، فهم لم ينشقوا عن اليهودية الحاخامية بقدر ما انعزلوا عنها عبر التاريخ وتطوَّروا بشكل مستقل ومختلف، فهم لا يعرفون التلمود أو العبرية، كما أن كتبهم المقدَّسة مكتوبة باللغات المحلية. وتجدر ملاحظة أن ثمة فرقاً صغيرة، مثل الإبيونيين والمغارية والعيسوية والثيرابيوتاي وغيرها، وهي فرق صغيرة لكل منها تصوُّرها الخاص عن اليهودية. ولكنها، نظراً لعزلتها، لم تؤثر كثيراً في مسار اليهودية وقد اختفى معظمها من الوجود. أما القرّاءون، فإنهم بعد عصرهم الذهبي في القرن العاشر، سقطوا في حرفية التفسير، الأمر الذي قلَّص نفوذهم حتى تحولوا إلى فرقة صغيرة آخذة في الاختفاء.

وقد جابهت اليهودية أزمتها الكبرى الثالثة في العصر الحديث (في الغرب) مع الانقلاب التجاري الرأسمالي الصناعي. وقد ظهرت إرهـاصات الأزمـة في شـكل ثورة شبتاي تسفي على المؤسسة الحاخامية، فهو لم يهاجم التلمود وحسب، وإنما أبطل الشريعة نفسها، وأباح كل شيء لأتباعه، الأمر الذي يدل على أن تراث القبَّالاه الحلولي، الذي يعادل بين الإله والإنسان، كان قد هيمن على الوجدان الديني اليهودي، وقد وصف الحاخامات تصوُّر القبَّاليين للإله بأنه شرك.

وبعد أن أسلم شبتاي تسفي، هو وأتباعه الذين أصبحوا يُعرفون بـ «الدونمه»، ظهر جيكوب فرانك الذي اعتنق المسيحية (هو وأتباعه) وحاول تطوير اليهودية من خلال أطر مسيحية كاثوليكية. وقد تفاقمت الأزمة واحتدمت مع الثورة الفرنسية، حيث إن الدولة القومية الحديثة في الغرب منحت اليهود حقوقهم السياسية، وطلبت إليهم الانتماء السياسي الكامل، الأمر الذي كان يعني ضرورة تحديث اليهود واليهودية وما تسبب عن ذلك من أزمة أدَّت إلى تصدعات جعلت أتباع اليهودية الحاخامية التقليدية (أي اليهود الأرثوذكس) أقلية صغيرة، إذ ظهرت اليهودية الإصلاحية ثم المحافظة ثم التجديدية، وهي فرق أعادت تفسير الشريعة أو أهملتها تماماً، واعترفت بالتلمود أو وجدت أنه مجرد كتاب مهم دون أن يكون مُلزماً. كما أنها عَدَّلت معظم الشعائر، مثل شعائر السبت والطعام، وأسـقطت بعضـها، وعَدَّلت أيضاً كتب الصلوات وشـكل الصلاة، أي أن فهمها لليهودية وممارستها لها يختلف بشكل جوهري عن اليهودية الحاخامية الأرثوذكسية. ومن الواضح أن هذه الفرق الجديدة هي الآخذة في الانتشار، في حين أن الأرثوذكس يعانون من الانحسار التدريجي.

ومنذ أيام الفيلسوف إسبينوزا، ظهر نوع جديد من اليهود لا يمكن أن نقول إنه فرقة ولكن لابد من تصنيفه حيث يشكل الأغلبية العظمى من يهود العالم (نحو 50%). وهذا النوع من اليهود هو الذي يترك عقيدته اليهودية، ولكنه لا يتبنى عقيدة جديدة، وهو لا يؤمن عادةً بإله على الإطلاق، وإن آمن بعقيدة ما فهو يؤمن بشكل من أشكال الدين الطبيعي أو دين العقل أو دين القلب، ولا يمارس أية طقوس. وهؤلاء يُطلَق عليهم الآن اسم «اليهود الإثنيون»، أي أنهم لا ينتمون إلى أية فرقة دينية تقليدية أو حديثة، ولكنهم مع هذا يسمون أنفسهم يهوداً لأنهم ولدوا لأم يهودية! وتنعكس الخلافات بين الفرق اليهودية المختلفة على الدولة الصهيونية الأمر الذي يزيد صعوبة تعريف الهوية اليهودية.

الخـــلافات الدينيــة اليهوديــة

Jewish Religious Controversies

الخلاف الديني هو خلاف غير جوهري لا يمتد إلى العقائد الدينية الأساسية، ويختلف عن الصراع بين الفرق الدينية، وهو ما تناولناه في مدخل آخر. وقد ظهرت عبر تاريخ اليهودية خلافات عديدة، بعضها عميق وبعضها سطحي. وأول هذه الخلافات، ما ورد في سفر العدد، عن قورح بن يصهار وأتباعه، حين اجتمعوا على موسى وهارون، أنهم قالوا لهما: « كفاكما، إن كل الجماعة بأسرها مقدَّسة وفي وسطها الرب. فما بالكما ترتفعان على جماعة الرب » (عدد 16/2 ـ 3). وقد انتهى الأمر بأن ابتلعت الأرض قورح وصحبه. ويبدو أن القصة تعبير عن رغبة الملوك في تعزيز نفوذ طبقة الكهنة التي كانت تشاركهم في إدارة دفة الحكم.

ولعل الخلاف الثاني في تاريخ اليهودية هو هجوم الأنبياء على الكهنة، وعلى الجوانب السلبية في مؤسسة الملكية. ومن هنا، كان الأنبياء، أمثال عـاموس وإرمـيا، يُسجَنون ويُعذَّبون بل كانوا يعدمون.

ثم ظهر الخلاف مرة أخرى، في القرن الثاني قبل الميلاد، في شكل صراع بين الفريسيين والصدوقيين، ولكن من الواضح أنه لم يكن خلافاً دينياً وحسب وإنما كان اختلافاً في العقائد يجعل من كل فريق فرقة دينية مستقلة، على عكس الخلاف بين الفريسيين والغيورين، ذلك الاختلاف الذي كان أمراً يتعلق بالتفاصيل والأولويات والأصول. وقد أثارت كتابات موسى بن ميمون الكثير من الخلافات المريرة حتى أنه اتُهم بالهرطقة.

ومن أهم الخلافات، ما يُسمَّى «المناظرة الشبتانية الكبرى» بين يعقوب إمدن وجوناثان إيبشويتس بشأن الأحجبة التي كان يكتبها الأخير. وفي العصر الحديث، ظهر خلاف بين الحسيديين وأعدائهم من المتنجديم (الحاخاميين) انتهى بظهور حركة التنوير.

ولا تزال الخلافات مستمرة في العصر الحديث، فهناك الخلاف بين اليهود الأرثوذكس أتباع أجودات إسرائيل الذين يؤيديون الصهيونية والأرثوذكس الذين يرفضونها تماماً. ويوجد داخل إسرائيل صراع بين اليهود الأرثوذكس الذين يشجعون الاستيطان على أسس دينية وأولئك الذين يعارضونه على أسس دينية أيضاً.

أزمـــة اليهوديــة

Crisis of Judaism

عاشت اليهودية في كنف عدة حضارات تأثرت بها وشكَّل بعضها تحدياً لها ولقيمها. فقد تحركت اليهودية (أو العبادة اليسرائيلية إن توخينا الدقة) داخل التشكيلات الحضارية المختلفة في الشرق الأدنى القديم وتأثرت بها وتبنَّت رموزها وقيمها. ومن الواضح مثلاً أن العبرانيين استوعبوا فكرة التوحيد من المصريين القدماء. ثم حَدَث التغلغل العبراني في كنعان وحدثت المواجهة الأولى مع الحضارة الكنعانية وحدثت المواجهة الثانية مع الحضارة البابلية. وقد أدَّت هذه المواجهات إلى أن النسق الديني السائد بين العبرانيين قد استوعب الكثير من العناصر الدينية والثقافية من هاتين الحضارتين (ثم من الحضـارة الفارسـية) وهو ما أدَّى إلى تزايد تركيبها الجيـولوجي التراكمي. ولكن المواجهات الثالثة والرابعة والخامسة، مع الحضارة الهيلينية والإسلامية ثم المسيحية على التوالي، كانت أكثر حدة، وأدَّت إلى ما يشبه الأزمة في حالة المواجهة مع الحضارة الهيلينية إذ دخل كثير من الأفكار اليونانية على النسق الديني اليهودي. وتأغرقت النخبة، وأدَّى هذا إلى التمرد الحشموني في نهاية الأمر وإلى انتشار المسيحية وتنصُّر أعداد كبيرة من أعضاء الجماعات. أما المواجهة مع الإسلام والمسيحية فقد أدَّت إلى تطوير التلمود الذي كان بمنزلة السياج الذي فرضـه الحاخامـات على أعضـاء الجماعات ليحموا هويتهم الدينية والإثنية. وكان الاحتجاج القرائي تعبيراً عن واحدة من أهم أزمات اليهودية الحاخامية.

ولكن مصطلح «أزمة اليهودية» حينما يُستخدَم في هذه الموسوعة، وفي غيرها من الدراسات، فإنه يشير في العادة إلى الأزمة التي دخلتها اليهودية الحاخامية ابتداءً من القرن السابع عشر نتيجة الجمود الذي أصاب المؤسسة الحاخامية، حتى تحولت العقيدة اليهودية إلى مجموعة من الشعائر والعقائد الخارجية. ونتيجةً لذلك، ازدهر التراث القبَّالي، وخصوصاً القبَّالاه اللوريانية، لحل مشكلة المعنى، ولتزويد اليهودي بنسق ديني يستجيب لحاجاته العاطفية والإنسانية. وقد أدَّى هذا الوضع إلى ضرب عزلة على الجماهير اليهودية عما حولها من تحولات، كما زاد من الهوة التي تفصل بينهم وبين المؤسسة الحاخامية. وكانت حركة شبتاي تسفي أول تعبير عن هذه الأزمة من داخل المؤسسة، وفلسفة إسبينوزا من خارجها، وكلاهما طرح حلاًّ حلولياً للأزمة، فرأى الأول الطبيعة في الإله، ورأى الآخر الإله في الطبيعة. وبعد هاتين الهجمتين لم تفق اليهودية الحاخامية وانزوت على نفسها وزاد تغلغل الفكر القبَّالي، وانتشرت الحركات الشبتانية (مثل الفرانكية)، وانتشرت الحركة الحسيدية بحيث ضمت معظم جماهير يهود اليديشية في شرق أوربا (أي الكتلة البشرية اليهودية الكبرى). وظل الصراع بين الحسيديين والمتنجديم (ممثلاً بالمؤسسة الحاخامية) قائماً إلى أن أفاق الطرفان ليواجها اندلاع أهم تعبير عن الثورة العلمانية الكبرى والفكر العقلاني، أي الثورة الفرنسية وحركة الإعتاق، وحدثت المواجهة السادسة مع الحضارة العلمانية في الغرب. ومنذ تلك اللحظة التاريخية، اتضحت معالم الأزمة تماماً، إذ انتشر فكر حركة الاستنارة وأخذ اليهود يحاولون إعادة صياغة اليهودية على نمط العالم الغربي المسيحي العلماني، فظهرت حركة التنوير التي وَجَّهت نقداً قاسياً للفقه اليهودي ولما يُسمَّى «الشخصية اليهودية». وظهرت حركة اليهودية الإصلاحية والمحافظة والحركات الثورية المختلفة، وتصاعدت معدلات التنصر والاندماج والعلمنة والإلحاد بين اليهود بحيث أصبح اليهود الأرثوذكس (الحاخاميون)، أي اليهود الذين يمكن اعتبارهم يهوداً بمقاييس دينية يهـودية، لا يشكلون سـوى نحو 5 ـ10% من يهود العالم. ومما أدى إلى تفاقم الأزمة أن اليهود الذين تركوا العقيدة اليهودية أصروا على الاستمرار في تسمية أنفسهم «يهوداً».

وقد حاولت الصهيونية حل أزمة اليهودية بالعودة إلى النموذج الحلولي (ولكنها حلولية بدون إله) إذ جعلت الدولة الصهيونية موضع القداسة (بدلاً من الإله) بالنسبة إلى العلمانيين، أو باعتبارها أهم تجلٍّ لهذه القداسة الإلهية بالنسبة إلى المتدينين الذين تمت صهينتهم. ويرى اليهود الأرثوذكس المعادون للصهيونية أن الصهيونية، بهذا المعنى، ليست حلاًّ لأزمة اليهودية وإنما هي تعبير عنها. بل إنها تشكل الآن مصدر الأزمة وأكبر خطر يواجه اليهودية. فالصهيونية قد تبنت المصطلح الديني، وتطرح نفسها بوصفها نظاماً كلياً شاملاً شبه ديني، يحل محل العقيدة اليهودية باعتبارها رؤية للكون ومصدراً للمعنى ومنظماً للسلوك.

الســامريون

Samaritanss

«السامريون» صيغة جمع عربية، وهي كلمة معربة من كلمة «شوميرونيم» العبرية، أي سكان السامرة. ويُشار إليهم في التلمود بلفظة «كوتيم» وتعني «الغرباء». لكن هذه التسميات هي تسميات اليهود الحاخاميين لهم. وكان يوسيفوس يسميهم الشكيميين نسبةً إلى «شكيم» (نابلس الحالية). أما هم فيطلقون على أنفسم «بنو يسرائيل»، أو «بنو يوسف»، باعتبار أنهم من نسل يوسف. كما يطلقون على أنفسهم اسم «شومريم»، أي «حفظة الشريعة»، باعتبار أنهم انحدروا من صلب يهود السامرة الذين لم يرحلوا عن فلسطين عند تدمير المملكة الشمالية عام 722 ق.م، فاحتفظوا بنقاء الشريعة.

ومهما كانت التسمية، ومهما كان تفسيرها، فمن المعروف تاريخياً أنه، بعد تهجير قطاعات كبيرة من سكان المملكة الشمالية، قام الأشوريون بتوطين قبائل من بلاد عيلام وسوريا وبلاد العرب لتحل محل المهجرين من اليهود، وتسكينهم في السامرة وحولها. وامتزج المستوطنون الجدد مع من تبقَّى من اليهود، واتحدت معتقداتهم الدينية مع عبادة يهوه. وقد نتج عن ذلك اختلاف عن بقية اليهود. ولكن الانشقاق النهائي حدث عام 432 ق.م، بين اليهود والسامريين، بعد عودة عزرا ونحميا من بابل، حيث دافعا عن فكرة النقاء العرقي.

وثمة قصتان لتاريخ الانشقاق، أولاهما ترد في العهد القديم (نحميا 13/23 ـ28) "في تلك الأيام، كان واحد من بني يوياداع بن الياشيب الكاهن العظيم صهراً لسنبلط الحوروني فطردته من عندي". وقد وردت عن يوسيفوس رواية أخرى مفادها أن منَسَّى شقيق الكاهن الأعظم تزوج من ابنة حاكم السامرة سنبلط الثالث (الفارسي)، فخيَّره الكهنة بين أن يطلق زوجته أو أن يتخلى عن مكانته وسلطاته الكهنوتية. فلجأ منَسَّى لحميه الذي بنى لزوج ابنته هيكلاً على عادة العبرانيين القدامى على جبل جريزيم لينافس هيكل القدس، وأصبح الشاب المطرود كاهن السامريين. وبعد أن أسس الهيكل، انضم إليه عشرات الكهنة الآخرين المتزوجين من أجنبيات وعناصر يهودية أخرى غير راضية عن المؤسسة الدينية في القدس.

ومن الواضح أن ثمة عناصر مشتركة بين القصتين تتمثل في بعض الأسماء والعلاقات الأساسية وفي عملية الطرد. ومع أن هناك قرناً من الزمان يفصل بين القصتين الأولى والثانية، فإن من الواضح أنهما تشيران إلى الواقعة نفسها. ويحل المؤرخون هذه القضية بأن يأخذوا بقصة يوسيفوس ويرجعوا بتاريخها إلى زمن نحميا.

وقد نشبت صراعات بين السامريين وبقية اليهود، لكنهم تعرضوا لكثير من التوترات التي تَعرَّض لها اليهود في علاقتهم بالإمبراطوريات التي حكمت المنطقة. فبعد أن فتح الإسكندر المنطقة عام 323 ق.م، هاجر بعض السامريين إلى مصر وكونوا جماعات فيها. وهذه هي بداية الشتات السامري أو الدياسبورا السامرية التي امتدت وشملت سالونيكا وروما وحلب ودمشق وغزة وعسقلان.

وحينما قرر أنطيوخوس الرابع (175 ـ 164 ق.م) دَمْج يهود فلسطين في إمبراطوريته لتأمين حدوده مع مصر، كان السامريون ضمن الجماعات التي استهدف دمجها وإذابتها رغم أنهم أعلنوا أنهم لا ينتمون إلى الأصل اليهـودي. وحينمـا اسـتولى الحشـمونيون على الحكم (164 ق.م)، واجه السامريون أصعب أزمة في تاريخهم إذ سيطر الحشمونيون على شكيم وجريزيم، واستولوا على مدينة السامرة وحطموها. وقد حطم يوحنا هيركانوس هيكلهم عام 128 ق.م. ومع هذا، فقد استمر السامريون في تقديم قرابينهم على جبل جريزيم. كما أن هَدْم الهيكل لم ينتج عنه انتهاء طبقة الكهنة على عكس اليهود أو اليسرائيليين الذين انتهت عبادتهم القربانية المركزية وطبقـة الكهنـة التي تقـوم بها بهـدم هيكـل القـدس. ويبـدو أن السامريين لم يساعدوا اليهود أثناء التمرد اليهودي الأول، ومـع هذا نشـب تمـرُّد مستـقل في صفـوفهم ضد فســبسيان عام 67 ق.م، وتم قمعـه. كمــا ثـار السـامريون ضـد الرومان عام 79 ـ 81 م، فهُدمت شكيم وبُني مكانها نيابوليس (نابلس) أي «المدينة الجديدة».

وتمتع السامريون بمرحلة ازدهار فكري في القرن الرابع الميلادي تحت قيادة زعيمهم القومي بابا رابا. ومن أهم مفكريهم الدينيين مرقه الذي عـاش في القرن نفسـه، وكاتب الأناشـيد التي تُسـمَّى «إمرالم دارا».

وقد عانى السامريون من الاضطهاد على يد الإمبراطورية البيزنطية. وفي عام 529 الميلادي، قام جوستينيان بشن هجمة شرسة عليهم لم تقم لهم قائمة بعدها. ويُقال إن الرومان سمحوا للسامريين ببناء هيكلهم الذي دمره الحشمونيون حينما رفضوا الانضمام إلى ثورة بركوخبا. ولكن هذا الهيكل دُمِّر بدوره عام 484م. وقد ساعد السامريون المسلمين إبان الفتح الإسلامي، كما وقفوا مع المسلمين ضد الغزو الصليبي. وقد أفتى فقهاء المسلمين حينذاك بأن من يُقتَل من أهل الذمة في هذه الحرب فهو شهيد.

وثمة نقط اتفاق بين السامريين واليهود الحاخاميين قبل ظهور القبَّالاه وحركات الإصلاح الديني اليهودي، فكلا الفريقين يؤمن بالله الواحد وباليوم الآخر والملائكة. ولكن السامريين احتفظوا بقدر أكبر من الوحدانية التي تراجعت في اليهودية إلى أن اختفت تماماً تقريباً. وقد تبنوا الجزء الأول من الشهادة الإسلامية وهو « لا إله إلا الله »، وكانوا يشيرون إلى الخالق بلفظة «إل»، أو «أللا» القريبة من كلمة «الله»، ولكنهم كانوا أيضاً يسمونه «يهوه». كما كانوا يؤمنون بأن موسى نبي الله الأوحد وخاتم رسله وبأنه تجسيد للنور الإلهي والصورة الإلهية.

والكتاب المقدَّس عند السامريين هو أسفار موسى الخمسة، ويُضاف إليها أحياناً سفر يشوع بن نون.وهو،في عقيدتهم،منزل من عند الله.وهم لا يعترفون بأنبياء اليهود ولا بكتب العهد القديم. بل إن أسفار موسى الخمسة المتداولة بينهم تختلف عن الأسفار المدونة في نحو ستة آلاف موضع (ويتفق نص التوراة السامرية مع الترجمة السبعينية في ألف وتسعمائة موضع من هذه المواضع،الأمر الذي يدل على أن مترجمي الترجمة السبعينية استخدموا نسخة عبرية تتفق مع النسخة السامرية).وهم ينكرون الشريعة الشفوية،شأنهم في ذلك شأن الصدوقيين والقرّائين (ومن هنا التشابه بين الفرق الثلاث في بعض الوجوه).كما أنهم يأخذون بظاهر نصوص التوراة.

ولغة العبادة عند السامريين هي العبرية السامرية، ولكن لغة الحديث ولغة الأدبيات الدينية كانت العربية. وكان كتابهم المقدَّس يُكتَب بحروف عبرية قديمة. ويزعم السامريون أن اللغة والحروف جاءتهم صحيحة من عهد النبي موسى.

ويحتفل السامريون بالأعياد اليهودية، مثل يوم الغفران وعيد الفصح، ولكنهم كانت لهم أعياد مقصورة عليهم وتقويم خاص بهم. والسامريون يؤمنون بعودة الماشيَّح برغم أنه لا توجد في أسفار موسى الخمسة أية إشارة إليه. وهم لا يعترفون بداود أو سليمان ولا يعترفون بقدسية جبل صهيون، فلهم جبلهم المقدَّس جريزيم (الجبل المختار) الذي سيعود إليه الماشيَّح. ويُلاحَظ أن الأفكار الأخروية لم تلعب دوراً مهماً في التفكير الديني لدى السامريين، كما حدث مع اليهودية بعد العودة من بابل. وينفي بعض اليهود عن السامريين صفة الانتساب إلى اليهودية، كما أنهم يعاملونهم معاملة الأغيار في أمور الزواج والموت.

وقد استمر العداء بين السامريين واليهود الحاخاميين، إذ يذهب السامريون إلى أن اليهودية الحاخامية هرطقة وانحراف، وأن قيادة اليهود الدينية أضافت إلى التـوراة وأفسـدت النص ليتفق مع وجهة نظرها.

ويُعَدُّ السامريون جماعة شبه منقرضة. وهم، في واقع الأمر، أصغر جماعة دينية في العالم، فعددهم لا يتجاوز خمسمائة، يعيش بعضهم في نابلس ويعيش البعض الآخر في حولون (إحدى ضواحي تل أبيب). وفي بعض طبعات التلمود، تحل كلمة «السامريين» محل كلمة «الأغيار» حتى تبدو عبارات السباب العنصري وكأنها موجهة إلى السامريين وحدهم وليس إلى كل الأغيار.

جـريزيم

Gerizim

«جريزيم» جبل صخري يطل على الوادي الذي تقع فيه شكيم (نابلس فيما بعد). ويواجه جبل عيبال على ارتفاع 2849 قدماً فوق سطح البحر، و700 قدم فوق مدينة نابلس. وقد بُني فوق جريزيم أقدم هيكل للعبرانيين، ثم جاء داود فأبطله وعطله بعد أن نقل عاصمته إلى القدس.

وقد جاء في العهد القديم أنه حينما فتح العبرانيون الجزء الأوسط من فلسطين، نفذ يشوع "التوجيه الذي أعطاه إياه موسى" حسب الرواية التوراتية، وأوقف نصف القبائل العبرانية على جبل جريزيم لينطقوا بالبركات، وأوقف النصف الآخر إلى جهة جبل عيبال لينطقوا باللعنات (تثنية 11/29، 27/11 ـ 13، ويشوع 8/33 ـ 35).

ويرى السامريون أن الموضع الذي وقف فيه إبراهيم بابنه، ليذبحه، كان على هذا الجبل. وجريزيم جبل مقدَّس عند السامريين؛ بنوا فوقه هيكلهم ليحجوا إليه، واستمروا في تقديم القرابين عليه حتى بعد أن هدم يوحنا هيركانوس هيكلهم عام 128 ق.م. وقد أعادوا بناءه إلى أن هدمه الرومان في النهاية عام 67 ق.م.

الفريسيون

Pharisees

كلمة «فريسيون» مأخوذة من الكلمة العبرية «بيروشيم»، أي «المنعزلون». وكانوا يلقبون أيضاً بلقب «حبيريم»، أي «الرفاق أو الزملاء»، وهم أيضاً «الكتبة»، أو على الأقل قسم منهم، من أتباع شماي الذين يشير إليهم المسيح عليه السلام. والفريسيون فرقة دينية وحزب سياسي ظهر نتيجة الهبوط التدريجي لمكانة الكهنوت اليهودي بتأثير الحضـارة الهيلينيـة التي تُعلي من شـأن الحكيم على حسـاب الكاهن. ويُرجع التراث اليهودي جذورهم إلى القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، بل يُقال إنهم خلفاء الحسيديين (المتقين)، وهي فرقة اشتركت في التمرد الحشموني. ولكن الفريسيين ظهروا باسمهم الذي يُعرَفون به في عهد يوحنا هيركانوس الأول (135 - 104 ق.م)، وانقسموا فيما بعد إلى قسمين: بيت شماي وبيت هليل. وقد كان الفريسيون يشكلون أكبر حزب سياسي ديني في ذلك الوقت إذ بلغ عددهم حسب يوسيفوس نحو ستة آلاف، لكن هذا العدد قد يكون مبالغاً فيه نظراً لتحزبه لهم، بل لعله كان من أتباعهم. ويُقال إنهم كانوا يشكلون أغلبية داخل السنهدرين، أو كانوا على الأقل أقلية كبيرة.

ومن المعروف أنه حينما عاد اليهود من بابل، هيمن الكهنة عليهم وعلى مؤسساتهم الدينية والدنيوية، تلك المؤسسات التي عبَّر عن مصالحها فريق الصدوقيين. ولكن اليهودية كان قد دخلتها في بابل أفكار جديدة، كما أن وضع اليهود نفسه كان آخذاً في التغير، إذ أن حلم السيادة القومية لم يَعُد له أي أساس في الواقع، بعد التجارب القومية المتكررة الفاشلة، وبعد ظهور الإمبراطوريات الكبرى، الواحدة تلو الأخرى. وقد زاد عدد اليهود المنتشرين خارج فلسطين، وخصوصاً في بابل (ويقول فلافيوس إن عدد يهود فلسطين آنذاك كان نصف مليون وحسب، وإن كانت التقديرات التخمينية ترى أن عددهم يقع بين المليونين والمليون ونصف المليون، وهم أقلية بالنسبة ليهود العالم آنذاك). ولكل ذلك، نشـأت الحاجة إلى صيغة جديدة تعبِّر عن الوضـع الجديد. ومن هنا، ظهر الفريسيون الذين لم يكونوا من عامة الشعب (عم هاآرتس)، بل كان بعضهم من الأثرياء، وإن كانوا على العموم يتسمون بأنهم يعيشون من عملهم، فكان منهم الحرفيون والتجار، على عكس الصدوقيين الذين كانوا يشكلون طبقة كهنوتية أرستقراطية مرتبطة بالهيكل وتعيش من ريعه. ولذا، فرغم تميز الفريسيين طبقياً، ورغم تعصبهم للشريعة، وربما بسببه، فإنهم كانوا يلقون تأييد الجماهير.

ويُعَدُّ الفكر الفريسي أهم تطوُّر في اليهودية بعد تبنِّي عبادة يهوه. وقد كان جوهر برنامجهم يتلخص في إيمانهم بأنه يمكن عبادة الخالق في أي مكان، وليس بالضرورة في الهيكل في القدس، أي أنهم حاولوا تحرير اليهودية، كنسق أخلاقي ديني، من حلوليتها الوثنية المتمثلة في عبودية المكان والارتباط بالهيكل وعبادته القربانية. ووسعوا نطاقها بحيث أصبحت تغطي كل جوانب الحياة إذ أن واجب اليهودي لا يتحدد في العودة إلى أرض الميعاد وإنما في العيش حسب التوراة، وعلى اليهودي أن ينتظر إلى أن يقرر الخالق العودة. وبهذا، يكون الفريسيون هم الذين توصلوا إلى صيغة اليهودية الحاخامية أو اليهودية المعيارية التي انتصرت على الاتجاهات والمدارس الدينية الأخرى.

وقد دافع الفريسيون عن الهوية اليهودية دون عنف أو تعصُّب. والهوية اليهودية التي دافعوا عنها لم تكن الهوية العبرانية القديمة المرتبطة بالمجتمع القبلي العبراني، ولا حتى المجتمع الزراعي الملكي أو الكهنوتي (فقد كانت تلك الهوية في طريقها إلى الاختفاء النهائي)، وإنما كانوا يدافعون عن هوية متفتحة استفادت من الفكر البابلي الديني، ثم الفكر الهيليني، وكانت تدرك عبث محاولة الاستقلال القومي. ولذا، أُعيد تعريف الهوية بحيث أصبحت هوية دينية داخلية روحية ذات بُعد إثني ليس قومياً بالضرورة. وقد واكب هذا التعريف الجديد استعداداً للتصالح مع الدولة الحاكمة، أو القوة العظمى في المنطقة آنذاك (روما)، وعدم اكـتراث بنوعيتـها ورؤيتها مادامت لا تتدخل في حياة اليهود الدينية، بل إنهم كانوا يفضلون حكومة غير يهودية لا تعطل شعائر اليهودية على حكومة يهودية تعطلها، مثل الحكومة الهيرودية أو حتى الحشمونية.

وانطلاقاً من هذا التعريف الجديد للهوية، أقام الفريسيون نظاماً تعليمياً مجانياً للصغار بين الجماعات اليهودية كافة، حتى يدركوا تراثهم الروحي ويفلتوا من سيطرة الكهنوت المرتبط بالهيكل. ويمكن النظر إلى محاولة إنشاء سياج حول التوراة بهذا المنظور نفسه، أي باعتبارها التعبير عن الهوية الروحية الجديدة. وكذلك كان دفاعهم عن مؤسسة المعبد اليهودي (السيناجوج) الذي يمكن إقامته في أي مكان على عكس هيكل القدس. كما أنهم طالبوا بتطبيق العقل وتفسير التوراة على أن يبتعد التفسير عن الحرفية، وأن يتم التركيز على روح النصوص في مواجهة تفسير الصدوقيين الحرفي. والواقع أن تفسير الشريعة هو شكل من أشكال السلطة السياسية في نهاية الأمر، ولذا فإن التفسير المرن يوسع ولا شك رقعة الأرستقراطية الدينية ويفتح المجال أمام شريحة جديدة تطرح فكراً جديداً. وللسبب نفسه، كان الفريسيون من أنصار الشريعة الشفوية بخلاف الصدوقيين (أنصار الشريعة المكتوبة) الذين كانوا يرون أن الشريعة الشفوية غير ملزمة. ومع هذا، كان الفريسيون لا يدَّعون النبوة، فقد كانوا ينادون بأن مرحلة النبوة وصلت إلى نهايتها وأنهم أقرب إلى حكماء الحضارة الهيلينية.

آمن الفريسيون بوحدانية الخالق، وبالماشيَّح، وبخلود الروح في الحياة الآخرة، وبالبعث والثواب والعقاب والملائكة وحرية الإرادة التي لا تتعارض مع معرفة الخالق المسبقة بأفعال الإنسان، وهي أفكار دينية أنكرها الصدوقيون الذين حافظوا على صياغة حلولية وثنية لليهودية. ولعل من العسير، إلى حد ما، تصوُّر عقيدة دينية دون إيمان بالبعث أو باليوم الآخر. ولذا، فقد يكون من المشروع لنا أن نسأل: كيف تَقبَّل الفريسيون الصدوقيين يهوداً؟ ونعود فنقول: إنها الخاصية الجيولوجية التراكمية لليهودية. والشريعة اليهودية ـ على أية حال ـ تُعرِّف اليهودي بأنه من يؤمن بالعقيدة اليهودية أو يولد لأم يهودية.

وتتلخص رسالة يسرائيل، حسب وجهة نظر الفريسيين، في مساعدة الشعوب الأخرى على معرفة الخالق وعلى الإيمان به، ولذا فإنهم لم يكونوا كالفرق القومية المغلقة، وإنما قاموا بنشاط تبشيري خارج فلسطين، الأمر الذي يفسر زيادة عدد يهود الإمبراطورية الرومانية في القرنين الأول قبل الميلاد والأول الميلادي. وقد بيَّنت هذه الحركة التبشيرية مدى ابتعاد الفريسيين عن الحلولية الوثنية التي تولِّد نسقاً دينياً قومياً مغلقاً، يتوارثه من هو داخل دائرة القداسة ويستبعد من سواه، لأن الإيمان لا يَصلُح أساساً للانتماء. وثمة نظرية جديدة تقول إن المسيح عليه السلام كان (في الأصل) فريسياً من أتباع مدرسة هليل ذات الاتجاه العالمي التبشيري، والتي كانت ترى أن مهمة اليهود نشر وصايا نوح بين الأغيار، وأنه حينما كان يشير إلى «الكتبة والفريسيين» إشارات سلبية وقدحية فإنما كان يشير إلى أتباع شماي وحسب.

وقد دخل الفريسيون في صراع دائم مع الصدوقيين على النفوذ والمكانة والامتيازات. فكانوا يتصرفون مثل الكهنة كأن يأكلوا كجماعة، ويقيموا شعائر الختان، بل حاولوا فرض نفوذهم على الهيكل نفسه على حساب الصدوقيين، وذلك عن طريق ممارسة بعض الطقوس المقصورة على الهيكل خارجه. وقد قوي نفوذ الفريسيين مع ثراء الدولة الحشمونية والرخاء الذي ساد عصرها بعض الوقت. وبلغوا درجة من القوة حتى إنهم نجحوا في حَمْل الكاهن الأعظم على القَسَم بأنه سيقيم طقوس عيد يوم الغفران حسب تعاليمهم.

وقد أيَّد الفريسيون التمرد الحشموني (168 ق.م) وساندوه، في بادئ الأمر، على مضض. ولكن التناقض بينهم وبين الأسرة الحشمونية ظهر إبان حكم يوحنا هيركانوس الأول، فتحدوا سلطته الكهنوتية وذبح هو آلافاً منهم. وتَحقَّق للصدوقيين بذلك شيء من النصر. ولكن زوجة هيركانوس (سالومي ألكسندرا) التي خلفته في الحكم، تصالحت معهم وأسلمتهم زمام الأمور في الداخل، فاضطهدوا الصدوقيين حتى أن الجو صار مهيئاً لحرب أهلية. والواقع أن الصراع الذي دار بين يوحنا هيركانوس الثاني وأخيه أرسطوبولوس الثاني كان صراعاً بين الصدوقيين والفريسيين. ويبدو أن الفريسيين اصطبغوا بصبغة هيلينية في أواخر الأسرة الحشمونية وعارضوا التمرد اليهودي الأول (66 ـ 70م). لكن خوفهم من الغيورين كان عميقاً، فأخذوا يسايرونهم، غير أنهم كانوا يستسلمون للقوات الرومانية كلما سنحت لهم الفرصة كما فعل يوسيفوس. وقد كانوا يرون أن الدولة الرومانية أساس للبقاء اليهودي. ويقول أحد الفريسيين: "صلوا من أجل سلام الحكومة الرومانية، فلولا الخوف الذي تبعثه في القلوب لابتلع الواحد منا الآخر " (فصول الآباء 3/2). وقد قام أحد الفريسيين (يوحنان بن زكاي) بتأسيس حلقـة يفنه التلمودية التي طورت اليهودية الحاخامية.

ويُصنَّف «الغيورون» و«عصبة الحناجر» و«الأسينيون» باعتبارهم أجنحة متطرفة من الحزب الفريسي (باعتبارهم ينتمون إلى ما يمكن تسميته «الحزب الشعبي») في مواجهة حزب الصدوقيين الكهنوتي الأرستقراطي.

الصدوقيون

Saducees

«الصدوقيون» مأخوذة من الكلمة العبرية «صِّدوقيم»، ويُقال لهم أحياناً «البوئيثيون Boethusian». وأصل الكلمة غير محدَّد. ومن المحتمل أن يكون أصل الكلمة اسم الكاهن الأعظم «صادوق» (في عهد سليمان) الذي توارث أحفاده مهمته حتى عام 162 ميلادية. و«الصدوقيون» فرقة دينية وحزب سياسي تعود أصوله إلى قرون عدة سابقة على ظهور المسيح عليه السلام. وهم أعضاء القيادة الكهنوتية المرتبطة بالهيكل وشعائره والمدافعون عن الحلولية اليهودية الوثنية.

وكان الصدوقيون، بوصفهم طبقة كهنوتية مرتبطة بالهيكل، يعيشون على النذور التي يقدمها اليهود، وعلى بواكير المحاصيل، وعلى نصف الشيقل الذي كان على كل يهودي أن يرسله إلى الهيكل، الأمر الذي كان يدعم الثيوقراطية الدينية التي تتمثل في الطبقة الحاكمة والجيش والكهنة. وكان الصدوقيون يحصلون على ضرائب الهيكل، كما كانوا يحصلون على ضرائب عينية وهدايا من الجماهير اليهودية. وقد حوَّلهم ذلك إلى أرستقراطية وراثية تؤلِّف كتلة قوية داخل السنهدرين.

ويعود تزايد نفوذ الصدوقيين إلى أيام العودة من بابل بمرسوم قورش (538 ق.م) إذ آثر الفرس التعاون مع العناصر الكهنوتية داخل الجماعة اليهودية لأن بقايا الأسرة المالكة اليهودية من نسل داود قد تشكل خطراً عليهم. واستمر الصدوقيون في الصعود داخل الإمبراطوريات البطلمية والسلوقية والرومانية، واندمجوا مع أثرياء اليهود وتأغرقوا، وكوَّنوا جماعة وظيفية وسيطة تعمل لصالح الإمبراطورية الحاكمة وتساهم في عملية استغلال الجماهير اليهودية، وفي جمع الضرائب.

ولكن، وبالتدريج، ظهرت جماعات من علماء ورجال الدين (أهمهم جماعة الفريسيين) تلقوا العلم بطرق ذاتية، كما كانت شرعيتهم تستند إلى عملهم وتقواهم لا إلى مكانة يتوارثونها. وكانوا يحصلون على دخلهم من عملهم، لا من ضرائب الهيكل. وقد أدَّى ظهور الفريسيين، بصورة أو بـأخرى، إلى إضعاف مكانة الصدوقيين. ومما ساعد على الإسراع بهذه العملية، ظهور الشريعة الشفوية حيث كان ذلك يعني أن الكتاب المقدَّس بدأت تزاحمه مجموعة من الكتابات لا تقل عنه قداسة. كما أن الكتب الخفية والمنسوبة وغيرها من الكتابات كانت قد بدأت في الظهور. وقد ساهم الأثر الهيليني في اليهود في إضعاف مكانة الصدوقيين الكهنة، فقد كان اليونانيون القدامى يعتبرون الكهنة من الخدم لا من القادة. وكانت جماعات العلماء الدينيين (الفريسيين) أكثر ارتباطاً بالحضارة السامية وبالجماهير ذات الثقافة الآرامية. لكل هذا، زاد نفوذ الفريسيين داخل السنهدرين وخارجه، حتى أنهم أرغموا الكاهن الأعظم على أن يقوم بشعائر يوم الغفران حسب منهجهم هم. وقد وقف الصدوقيون، على عكس الفريسيين، ضد التمرد الحشموني (168 ق.م)، ولكنهم عادوا وأيدوا الملوك الحشمونيين باعتبار أن الأسرة الحشمونية أسرة كهنوتية (ابتداءً من 140 ق.م). ولا يمكن فَهْم الصراعات التي لا تنتهي بين ملوك الحشمونيين إلا في إطار الصراع بين الحزب الشعبي (الفريسي) وحزب الصدوقيين. وقد أيَّد الصدوقيون بعد ذلك الرومان.

وارتباط الصدوقيين بالعناصر الحلولية البدائية في التركيب الجيولوجي التراكمي اليهودي واضح، فهم لا يؤمنون بالعالم الآخر ويرون أنه لا توجد سوى الحياة الدنيا وينكرون مقولات الروح والآخرة والبعث والثواب العقاب. ومن المهم أن نشير إلى أنهم، برغم رؤيتهم المادية الإلحادية، كانوا يُعتبَرون يهوداً، بل كانوا يشكلون أهم شريحة في النخبة الدينية القائدة. وقد اعترف بيهوديتهم الفريسيون، وكذلك الفرق اليهودية الأخرى كافة رغم رفضهم بعض العقائد الأساسية التي تشكل الحد الأدنى بين الديانات التوحيدية. ولعل هذا يعود إلى طبيعة العقيدة اليهودية التي تشبه التركيب الجيولوجي التراكمي، وإلى أن الشريعة اليهودية تُعرِّف اليهودي بأنه من يؤمن باليهودية، أو من وُلد لأم يهودية حتى ولو لم يؤمن بالعقيدة. وحينما كان فيلسوف العلمانية باروخ إسبينوزا يؤسِّس نسقه الفلسفي المادي، أشار إلى الصدوقيين ليبرهن على أن الإيمان بالعالم الآخر ليس أمراً ضرورياً في العقيدة اليهودية، وأنه لا توجد أية إشارة إليه في العهد القديم.

وقد كان الصدوقيون يرون أن الخالق لا يكترث بأعمال البشر، وأن الإنسان هو سبب ما يحل به من خير وشر. ولذا، فقد قالوا بحرية الإرادة الإنسانية الكاملة. وكانوا لا يؤمنون إلا بالشريعة الشفوية، كما كانوا يقدمون تفسيراً حرفياً للعهد القديم، ويحرِّمون على الآخرين تفسيره. وكانوا يدافعون أيضاً عن الشعائر الخاصة بالهيكل والعبادة القربانية، ويرون أن فيها الكفاية، وأنه لا توجد حاجة إلى ديانة أو عقيدة دينية مجردة، ولا حاجة إلى إقامة الصلاة أو دراسة التوراة باعتبار أن ذلك شكل من أشكال العبادة. ويُقال إنه بينما كان الصدوقيون يحاولون (كما هو الحال مع الديانات الوثنية) أن ينزلوا بالخالق إلى مقام الإنسان والمادة، حاول الفريسيون (على طريقة الديانات التوحيدية) الصعود بالإنسان كي يتطلع إلى الخالق ويتفاعل معه. ويُعَدُّ الصدوقيون في طليعة المسئولين عن محاكمة المسيح في السنهدرين. وقد اختفت هذه الفرقة تماماً بهدم الهيكل (70م) نظراً لارتباطها العضوي به.

الغيورون (قنَّائيم)

Zealots

كلمة «غيورون» ترجمة للفظة «قنَّائيم»، وهي من الكلمة العبرية «قانَّا» بمعنى «غيور» أو «صاحب الحمية». والغيورون فرقة دينية يهودية، ويُقال إنه جناح متطرف من الفريسيين وحزب سياسي وتنظيم عسكري. وقد جاء أول ذكر لهم باعتبارهم أتباعاً ليهودا الجليلي في العام السادس قبل الميلاد. ويبدو أن واحداً من العلماء الفريسيين، ويُدعَى صادوق، قد أيده. ولكن يبدو أن أصولهم أقدم عهداً، إذ أنها تعود إلى التمرد الحشموني (186 ق.م). ويذكر يوسيفوس شخصاً يُدعَى حزقيا باعتباره رئيس عصابة أعدمه هيرود، وحزقيا هذا هو أبو يهودا الجليلي الذي ترك من بعده شمعون ويعقوب ومناحم (لعله أخوه). وقد تولَّى مناحم الجليلي، وهو زعيم عصبة الخناجر، قيادة التمرد اليهودي الأول ضد الرومان (66 ـ 70م)، وذلك بعد أن استولى على ماسادا وذبح حاميتها واستولى على الأسلحة، ثم عاد إلى القدس حيث تولَّى قيادة التمرد هو وعصبته الصغيرة، فأحرقوا مبنى سجلات الديون، وأحرقوا أيضاً قصور الأثرياء وقصر الكاهن الأعظم آنانياس ثم قاموا بقتله، بل يبدو أنهم حاولوا إقامة نظام شيوعي. ويبدو كذلك أن عصابة مناحم كانت متطرفة ومستبدة في تعاملها مع الجماهير اليهودية. وقد كانت لدى مناحم ادعاءات مشيحانية عن نفسه، كما أنه جمع في يديه السلطات الدينية والدنيوية. ولذا، قامت ثورة ضده انتهت بقتله، هو وأعوانه، وهروب البقية إلى ماسادا. وقد استمر نشاط الغيورين حتى سقوط القدس وهدم الهيكل عام 70 ميلادية، ولكن هناك من يرى أنهم اشتركوا أيضاً في التمرد اليهودي الثاني ضد هادريان (132 ـ 135م).

وكان الغـيورون منقسـمين فيما بينهم إلى فرق متطاحنة متصارعة. ومن قياداتهم الأخرى، يوحنان بن لاوي وشمعون برجيورا.

ويُعَدُّ ظهور حزب الغيورين تعبيراً عن الانهيار الكامل الذي أصاب الحكومة الدينية وحكم الكهنة. وقد قام الغيورون، تحت زعامة يهودا الجليلي، بحَثّ اليهود على رفض الخضوع لسلطان روما، وخصوصاً أن السلطات الرومانية كانت قد قررت إجراء إحصاء في فلسطين لتقدير الملكية وتحديد الضرائب. وقد تبعت حزب الغيورين، في ثورته، الجماهير اليهودية التي أفقرها حكم أثرياء اليهود بالتعاون مع اليونانيين والرومان. ويتسم فكر الغيورين بأنه فكر شعبي مفعم بالأساطير الشعبية، ولذا نجد أن أسطورة الماشيَّح أساسية في فكرهم، بل إن كثيراً من زعمائهم ادعوا أنهم الماشيَّح المخلص، وقد قدموا رؤية للتاريخ قوامها أن هزيمة روما شرط أساسي للخلاص، وأن ثمة حرباً مستعرة بين جيوش يسرائيل وجيوش يأجوج ومأجوج (روما)، وأن اليهود مكتوب لهم النصر في الجولة الأخيرة. وعلى هذا، فإن فكرهم يتسم بالنزعة الأخروية التي انتشرت في فلسطين آنذاك، ويُقال إن معظم أدب الرؤى (أبوكاليبس) من أدب الغيورين.

ونظراً لجهل الغيورين بحقائق القوى الدولية وموازينها، وبمدى سلطان روما في ذلك الوقت، قاموا بثورة ضارية ضد الرومان واستولوا على القدس. وقد تعاونوا مع الفريسيين في هذه الثورة، ولكن الفريسيين كانوا مترددين بسبب انتماءاتهم. وحينما بدأت المقاومة المسلحة، استخدم الغيورون أسلوب حرب العصابات ضد روما، كما قاموا بخطف وقتل كل من تعاون مع روما، حتى أن الجماهير اليهودية ثارت ذات مرة ضدهم. وقد قضى الرومان على ثورة الغيورين، واستسلمت القوات اليهودية، وكان آخرها القوات اليهودية في ماسادا بقيادة القائد الغيوري إليعازر بن جايـر، وهـي القـوات التـي آثرت الانتحـار على الاستسلام نظراً لأنها كانت قد ذبحت الحامية الرومانية بعد استسلامها لهم وخشي قائد الغيورين أن يذبحهم القائد الروماني، على عكس القلاع الأخرى (مثل ماخايروس وهيروديام) التي استسلمت للرومان.

الأسينيون

Essenes

«أسينيون» من الكلمة الآرامية «آسيا»، ومعناها «الطبيب» أو «المداوي»، وهي من «يؤاسي المريض». ويُقال إنها من الكلمة السريانية «هاسي»، كما يُقـال إنهـا تعـود إلى كلمـة «هوسيوس» اليونانيــة، أي «المقــدَّس»، ولعلهـا النطق اليوناني «أسيديم» للكلمـة العبرية «حسيديم»، أي «الأتقيـاء»، ولعلهـا تصحيف للكلمـة العبرية «حَاشـائيم»، أي «الساكتين». والأسـينيون فرقة دينية يهـودية لم يـأت ذكرها في العهـد الجديـد، ومـا ذُكر عنهـا فـي كتاـبات فيلون ويوسيفوس متناقض. ولعل هذا يدل على وجـود خـلافات في صفوف الأســينيين أنفسهم الذين لم يزد عددهـم عن أربعة آلاف، وكانـوا يمارسون شعائرهم شمال غرب البحر المـيت في الفترة ما بين القرنين الثاني قبل الميلاد والأول الميلادي.

والأسينيون (فيما يبدو) جناح متطرف من الفريسيين، وتقترب عقائدهم من عقائد ذلك الفريق، ويظهر هذا في ابتعادهم عن اليهودية كدين قرباني مرتبط بهيكل القدس. آمن الأسينيون بخلود الروح والثواب والعقاب، ووقفوا ضد العبودية والملكية الخاصة، بل ضد التجارة، وانسحبوا تماماً من الحياة العامة (على عكس الفريسيين). وقد قسَّم الأسينيون الناس إلى فريقين: البقية الصالحة من جماعة يسرائيل، وأبناء الظلام. وترقبوا نزول الماشيَّح لينشئ على الأرض ملكوت السماء ويحقق السلام والعدالة في الأرض. وقد عاش الأسينيون في جماعة مترابطة حياة النساك يلبسون الثياب البيض ويتطهرون ويطبقون شريعة موسى تطبيقاً حرفياً، وكانوا أحياناً يتعبدون في اتجاه الشمس ساعة الشروق.

عاش الأسينيون على عملهم بالزراعة، وكانوا لا يتناولون من الطعام إلا ما أعدوه بأنفسهم، وهو ما زاد ترابط الجماعة (الأمر الذي جعل عقوبة الطرد منها بمنزلة حكم الإعدام). ويبدو أنه كان لهم تقويمهم الخاص. وقد حرموا الذبائح، ولذلك فقد كانوا يقدمون للهيكل قرابين نباتية وحسب. كما حرموا على أنفسهم، أو على الأقل على الأغلبية العظمى منهم، الزواج. وقد انقرض الأسينيون كلية في أواخر القرن الأول الميلادي.

كان فكر الأسينيين متأثراً بالفكر الهيليني وأفكار فيثاغورث، وبآراء البراهمة والبوذيين، وهو ما كان منتشراً في فلسطين (ملتقى الطرق التجارية العالمية في القرن الأول قبل الميلاد). ويُقال إن المسيحية الأولى تأثرت بهم، كما يُقال إن يوحنا المعمدان كان قريباً من الأسينيين، وأن المسيح عليه السلام كان عضواً في هذه الفرقة الدينية وأنه تأثر بفكرهم (ومن المعروف أن المسيح طرد التجار والمرابين من الهيكل). وقد كشفت مخطوطات البحر الميت عن كثير من عقائد الأسنيين. ومن أهم كتبهم كتاب الحرب بين أبناء النور وأبناء الظلام، وهو من كتب الرؤى (أبوكاليبس)، وهو ذو طابع أخروي حاد. ويُقال إن الأسينيين آمنوا بيسوع الناصري كواحد من أنبياء يسرائيل المصلحين، ولكنهم رفضوا دعوة بولس إلى العقيدة المسيحية وظلوا متمسكين بالنواميس اليهودية. ويُقال أيضاً إن الأبيونيين هم الأسينيون في مرحلة تاريخية لاحقة.

عصبة حملة الخناجر

Sicarii

«عصبة الخناجر» ترجمة لكلمة «سيكاري» المنسوبة إلى كلمة «سيكا» اللاتينية، التي تعني الخنجر. و«سيكاريوس sicarius» كلمة مفردة تعني «حامل الخنجر» وجمعها «سيكاريي sicarii». وعصبة الخناجر جماعة متطرفة من الغيورين الذين كانوا بدورهم جماعة متطرفة من الفريسيين، وقد كانوا يخبئون خناجرهم تحت عباءاتهم ليباغتوا أعداءهم في الأماكن العامة ويقتلوهم. وأثناء التمرد اليهودي الأول ضد الرومان (66 ـ 70م)، يُقال إنهم كانوا تحت قيادة مناحم الجليلي، وأنهم هم الذين أحرقوا منزل الكاهن الأعظم أنانياس، وقصري أجريبا الثاني وأخته بيرنيكي عشيقة تيتوس. كما أحرقوا سجلات الديون حتى ينضم الفقراء المدينون إليهم. وقد أدَّى نشاطهم إلى فرار الأرستقراطيين اليهود. ولكن الجماهير، بقيادة الغيوري المعتدل إليعازر بن حنانيا من حزب القدس، تمردت على المتطرفين وقتلت زعيمهم مناحم الجليلي، ففرت فلولهم. ويُقال إن الجماعة التي لجأت إلى ماسادا، وأبادت الجالية الرومانية بعد استسلامها، من أعضاء عصبة الخناجر. وثمة رأي آخر يرى أن جماعة إليعازر بن جاير كانت معادية لهم، ولكنها اختلفت معهم بشكل مؤقت.

ويبدو أنه كان يوجد داخل حركة الغيورين جناحان: جناح متطرف هو عصبة الخناجر، وجناح القدس، ويشار إلى أعضاء هذا الجناح باسم «الغيورين» وحسب. وكان الفارق بين الفريقين كما يلي:

1 ـ لم يرتبط غيـورو القدس بأية أسـرة محددة، ولم يعلنوا قوادهم ملوكاً.

2 ـ كانت قاعدة الغيورين في القدس، بينما كانت قاعدة العصبة في الجليل.

3 ـ كانت الأبعاد الاجتماعية لعصبة الخناجر أوضح منها في حالة الغيورين، رغم ثورة هؤلاء على الكاهن الأعظم والأقلية الثرية الحاكمة.

والواقع أن عصبة الخناجر هي الجماعة الوحيدة التي استمرت في نشاطها بعد إخماد التمرد، هذا التمرد الذي اتسع نطاقه إلى الإسكندرية وبرقة، حيث قام يهودي من عصبة الخناجر يدعى يوناثان بقيادة أعضاء الجماعة اليهودية في ثورة تم قمعها. وبعد اغتيال بعض القيادات اليهودية هناك، قام أعضاء الجماعة اليهودية بالقبض على أعضاء عصبة الخناجر وتسليمهم إلى القوات الرومانية. وقد كانت عصبة الخناجر، رغم نشاطها وحركتها، تشكل أقلية لا يزيد عددها حسب بعض التقديرات على ألفين.

ويبدو أن فكر عصبة الخناجر كان فكراً شيوعياً بدائياً يعود إلى بعض التيارات الكامنة في العهد القديم. فقد جاء في سفر اللاويين (25/23): "والأرض لا تُبـاع بتة. لأن لي الأرض وأنتـم غـرباء ونزلاء عندي. بل في كل أرض ملككـم تجـعلون فكاكاً للأرض" وغيرها (25/23، 25/55، وتثنية 15/4 ـ 5، 15/6). وفي مفهوم السنة السبتية حيث تُلغى ديون الفقراء من اليهود وهو ما يعكس هذه الشيوعية البدائية التي يبدو أنها أثرت في فكر عصبة الخناجر الذين كان شعارهم "لا ملك إلا الرب"، فهو وحده "مالك الأرض".

الفقراء (الإبيونيون)

Ebionites

الكلمة العبرية «إبيون» تعني «فقير»، وهي كلمة ذات مدلول اقتصادي ومنها «الإبيونيون»، وقد أصبحت هذه الكلمة ذات تضمينات دينية واستخدمها بعض أعضاء الجماعات اليهودية المسيحية في بداية العصر المسيحي للإشارة إلى أنفسهم باعتبار أنهم ورثة مملكة الرب. وقد تبع الإبيونيون الشريعة اليهودية، وأصروا على أن المسيحيين ملزمون بها، كما أنهم راعوا شعائر السبت. وقد رفض معظمهم فكرة ألوهية المسيح وولادته العذرية، ولكنهم آمنوا بأنه الماشيَّح الذي اختاره الإله عند تعميده. ومن هنا كان تعميد المسيح موضوعاً أساسياً في إنجيل الإبيونيين. وقد اعتبر الإبيونيون تعاليم بولس الرسول هرطقة محضة. وذهب فريق من الإبيونيين مذهب الغنوصيين، فقالوا بأن المسـيح هـو آدم. وقال فريـق آخر إنه الروح القـدس حل بآدم، ثم بالآباء، وأخيراً حل بعيسى، فلما صُلب عيسى صعد الروح القدس، الذي هـو المسـيح، إلى السماء. ومع اتساع الهوة بين اليهودية والمسيحية، اختفت هذه الجماعات في نهاية القرن الرابع الميلادي.

المغاريــــة

Maghariya

«المغارية» فرقة يهودية ظهرت في القرن الأول الميلادي حسبما جاء في القرقشاني. وهذا الاسم مشتق من كلمة «مغارة» العربية، أي كهف، فالمغارية إذن هم سكان الكهوف أو المغارات، وهذه إشارة إلى أنهم كانوا يخزنون كتبهم في الكهوف للحفاظ عليها، ويبدو أنها فرقة غنوصية، إذ يذهب المغارية إلى أن الإله متسام إلى درجة أنه لا تربطه أية علاقـة بالمادة (فهو يشبه الإله الخفي في المنظومة الغنوصية)، ولهذا فإن الإلـه لم يخـلق العالم، وإنما خلقـه ملاك ينـوب عن الإله في هذا العالم. وقد كتب أتباع هذه الفرقة تفسيراتهم الخاصة للعهد القديم وذهبوا إلى أن الشريعة والإشارات الإنسانية إلى الإله إنما هي إشارات لهذا الملاك الصانع. وقد قرن بعض العلماء المغارية بالأسينيين والثيرابيوتاي.

المعالجون (ثيرابيوتاي)

Therapeutae

«المعالجون» ترجمة لكلمة «ثيرابيوتاي» المأخوذة من الكلمة اليونانية «ثيرابي» أي «العلاج»، وتعني «المعالجون». والمعالجون (ثيرابيوتاي) فرقة من الزهاد اليهود تشبه الأسينيين استقرت على شواطئ بحيرة مريوط قرب الإسكندرية في القرن الأول الميلادي، ويشبه أسلوب حياتهم أسلوب الأسينيين وإن كانوا أكثر تشدداً منهم. وقد كانت فرقة المعالجين تضم أشخاصاً من الجنسين، وأورد فيلون في كتابه كل ما يعرفه عنهم، فيذكر إفراطهم في الزهد وفي التأمل وبحثهم الدائب عن المعنى الباطـني للنصـوص اليهودية المقدَّسـة. كمـا يذكـر فيلـون أنهـم كانوا يهتمـون بدراسـة الأرقـام ومضمونها الرمـزي والروحـي، كما كانـوا يقضـون يومهـم كلـه في العبادة والدراسة والتدريب على الشعائر. أما الوفاء بحاجة الجسد، فلم يكن يتم إلا في الظلام (وهو ما قد يوحي بأصول غنوصية).

المستحمون في الصباح (هيميروبابتست)

Hemerobaptists

«المستحمون في الصباح» ترجمة للكلمة اليونانية «طوبلحاشحريت» أو «هيميروبابتست» والمستحمون في الصباح فرقة يهودية أسينية كان طقس التعميد بالنسبة إليها أهم الشعائر. ولذا، فقد كان هذا الطقس يُمارَس بينهم كل يوم بدلاً من مرة واحدة في حياة الإنسان. كما أنهم كانوا يتطهرون قبل النطق باسم الإله. ويبدو أن يوحنا المعمدان كان واحداً منهم. وقد ظلت بقايا من هذه الفرقة حتى القرن الثالث الميلادي.

عبدة الإله الواحد (هبسستريون)

Hypsisterion

«عبدة الإله الواحد» ترجمة للكلمة اليونانية «هبسستريون». وعبدة الإله الواحد هم فرقة شبه يهودية كانت تعبد الإله الواحد الأسمى (والاسم مشتق من كلمة يونانية لها هذا المعنى). وقد كان أعضاء هذه الفرقة يعيشون على مضيق البسفور في القرن الأول الميلادي وظلت قائمة حتى القرن الرابع. ومن الشعائر اليهودية التي حافظوا عليها شعائر السبت والطعام، وكانت عندهم شـعائر وثنيـة مثل تعظيـم النـور والأرض والشـمس، وخصوصاً النار، ومع هذا يُقال إن الأمر لم يصل بهم قط إلى درجة تقديس النار كما هو الحال مع المجوس.

البناءون (بنائيم)

Banaaim

«البناءون» ترجمة لكلمة «بنائيم». والبناءون فرقة يهودية صغيرة ظهرت في فلسطين في القرن الثاني الميلادي. ومعنى الكلمة غير معروف بصورة محددة، فيذهب بعض العلماء إلى أن الاسم مشتق من كلمة «بنا» بمعنى «يبني»، وأن أتباع هذه الفرقة علماء يكرسون جلّ وقتهم لدراسة تكوين العالم (كوزمولوجي). ويذهب آخرون إلى أن (البنائيم) فرع من الأسينيين. ويذهب فريق ثالث إلى أن الاسم مشتق من كلمة يونانية بمعنى «حمام» أو «المستحمون». ويذهب فريق رابع إلى أنهم أتباع الراهب الأسيني بانوس. ولعل ربط البنائيم بالأسينيين يرجع إلى اهتمامهم البالغ بشعائر الطهارة والحفاظ على نظافة ملابسهم.

الباب الثانى : اليهودية والإسـلام

أســـــلمة اليهـــــودية وتهـــــويد الإســـــلام

Islamization of Judaism and Judaization of Islam

«أسلمة اليهودية» و«تهويد الإسلام» مصطلحان قمنا بسكهما لنصف علاقة التأثير والتأثر بين اليهودية والإسلام. ويُلاحَظ أن مقارنة الأديان ودراسة العلاقة بينهما تنصرف عادةً إلى دراسة الشعائر والمصطلحات ومدى التشابه بينهما، الأمر الذي يؤدي بها إلى السطحية. ففي مجال مقارنة الإسلام باليهودية سيُلاحظ الدارس أن شعيرة الختان وحَظْر أكل لحم الخنزير يوجدان في كل من اليهودية والإسلام (بينما تغيب في المسيحية). وأن الشهادة في الإسلام تؤكد أن الله واحد، كما أن دعاء الشماع في اليهودية يؤكد أيضاً أن الله واحد، بينما تظهر عقيدة التثليث في المسيحية. ويَخلُص الباحث من ذلك إلى أن الإسلام أقرب إلى اليهودية منه إلى المسيحية.

ولعل الغائب هنا هو أهم شيء وهو النموذج المعرفي الذي يستند إليه النموذج التحليلي والتفسيري والتصنيفي. فهذا النموذج هو الذي يحدد المعنى العميق والكامن (والحقيقي) للشعائر وللدوال سواء كانت كلمات أم صلوات. فالختان داخل إطار حلولي ليس علامة على طاعة الإله وإنما هو علامة على التميز، وقل الشيء نفسه عن قوانين الطعام، بل عن الشهادة والشماع (انظر: «الختان» ـ «الشماع»).

وقد قمنا في هذه الموسوعة بمحاولة لمقارنة الأديان من هذا المنظور في مداخل هذا القسم والقسم الذي يليه.

ونحن، في دراستنا، نرى أن ثمة نسقين دينيين أساسييين (بل رؤيتين أساسيتين للكون)، إحداهما توحيدية ترى أن الله واحد متجاوز للطبيعة والتاريخ والإنسان (ومع هذا فهو يرعاها)، والأخرى حلولية ترى أن الله يحل في الطبيعة والتاريخ والإنسان فيتوحد الجميع في واحدية مادية كونية يسودها قانون واحد. ونحن نرى أن جوهر النسق الديني الإسلامي هو التوحيدية المتجاوزة، بينما نجد أن النسق الديني اليهودي هو تركيب جيولوجي تراكمي داخله طبقة توحيدية وأخرى حلولية وأن الطبقة الحلولية زادت قوةً وترسخاً واكتسبت مركزية على مرّ الزمن.

ولذا، فإن أسلمة اليهودية تعني تزايد درجات التوحيد داخل النسق الديني من خلال احتكاك اليهودية بالإسلام، ويتبدَّى هذا في الفكر القرّائي وفكر موسى بن ميمون. ويصل هذا الاتجاه إلى ذروته في محاولة موسى بن ميمون، في مصر، أن يؤسلم بعض الشعائر الدينية اليهودية مثل الصلاة.

وتهويد الإسلام يقف على طرف النقيض من ذلك فهو يعني تسلُّل العناصر الحلولية إلى الإسلام، ويتبدَّى هذا في الإسرائيليات وفي فكر عبد الله بن سبأ وكعب الأحبار. وبإمكان القارئ أن يعود أيضاً إلى المدخلين التاليين: «المواحدانية» و« البروتستانتية والإصلاح الديني»، ليرى تطبيقاً للنموذج نفسه على العقيدة المسيحية، حيث نجد أن فكرة الإله الواحد، داخل الإطار الحلولي، يمكن أن تكتسب مضموناً جديداً يبعدها تماماً عن التوحيد ويقربها من الواحدية الكونية.

القــّراءون: تاريـخ

Karaites:History

«قرّاءون» مصطلح يقابله في العبرية «قرّائيم» أو «بني مقرّا»، أو «بعلي هامقرّا» أي «أهل الكتاب». وقد ُسمِّي القرّاءون بهذا الاسم لأنهم لا يؤمنون بالشريعة الشفوية (السماعية) وإنما يؤمنون بالتوراة (المقرّا) فقط (ولذا يمكن القول بأنهم أتباع اليهودية التوراتية، مقابل اليهودية التلمودية أو الحاخامية). والقرّاءون فرقة يهودية أسسها عنان بن داود في العراق في القرن الثامن الميلادي وانتشرت أفكارها في كل أنحاء العالم. ولم تُستخدَم كلمة «قرّائين» للإشارة إليهم إلا في القرن التاسع إذ ظل العرب يشيرون إليهم بالعنانية نسبةً إلى مؤسس الفرقة.

ويبدو أن ظهور هذه الفرقة يعود إلى عدة أسباب وعوامل داخل التشكيل الديني اليهودي وخارجه، من أهمها انتشار الإسلام في الشرق الأدنى وطرحه مفاهيم دينية وأطراً فكرية جديدة كانت تشكل تحدياً حقيقياً للفكر الديني اليهودي وبخاصة بعد أن غلبت عليه النزعة الحلولية الموجودة داخله. ويبدو أيضاً أنه كانت هناك، منذ هدم الهيكل عام 70م، عناصر دينية رافضة لليهودية الحاخامية من بين بقايا الصدوقيين والعيسويين أتباع أبي عيسى الأصفهاني (690)، وأتباع يودغان.وقد أخذ القرّاءون عن الصدوقيين فكرة منع إشعال النار يوم السبت،وأخذوا عن العيسويين إيمانهم بأن عيسى (عليه السلام) ومحمداً (صلى الله عليه وسلم) رسولان من عند الله،كما أخذوا الترهب عن أتباع يودغان. وهناك نظرية تذهب إلى أن يهود الجزيرة العربية الذين وُطِّنوا في عهد عمر في البصرة وغيرها من بقاع العالم الإسلامي، ولم يكونوا يعرفون التلمود، كانوا من أهم العناصر التي ساعدت على انتشار المذهب القرّائي.

ومن المعروف أن اليهودية، حتى ذلك الوقت، لم تكن قد صاغت عقائدها الدينية بشكل محدد وواضح، فقد كانت اليهودية لا تزال مجموعة من الممارسات الدينية تشرف الحلقات التلمودية على تنفيذها وعلى إصدار الفتاوى بشأنها حسبما تقتضيه الظروف، وهو ما يعني أن البناء العقائدي كان لا يزال غير متماسك ويسمح بتفسيرات كثيرة. ويضاف إلى كل هذا، الوضع الاقتصادي المتردي لأعضاء الجماعات اليهودية، وخصوصاً بين أولئك الذين استوطنوا المناطق الحدودية بعيداً عن سلطة هذه الحلقات. أما القرّاءون أنفسهم فيُرجعون تاريخهم إلى أيام يُربعـام الأول، حينما انقسـمت المملكة العـبرانية المتحـدة إلى مملكتين: المملكة الشمالية والمملكة الجنوبية (928 ق.م). أما المؤسسة الحاخامية فكانت تشـيع أن عنان بن داود أسَّـس الفرقـة لأسباب شخصية.

وبعد انشقاقهم عن اليهودية الحاخامية، ظل القرّاءون (حتى بداية القرن العاشر) في حالة جمود يختلفون فيما بينهم وينقسمون. ويُقال إن يهود الخزر اعتنقوا يهودية قرّائية، وأنهم انتشروا في شرق أوربا بعد سقوط مملكة الخزر، ولذا نجد أن كثيراً من القرّائين في روسيا وبولندا يذكرون أن لغتهم هي التركية. ومع هذا، دافع القرقساني (أحد مفكريهم) عن هذا الانقسام بقوله: إن القرّائين يصلون إلى آرائهم الدينية عن طريق العقل، ولذا فإن الاختلاف بينهم أمر طبيعي. أما الحاخاميون، فإنهم يدَّعون أن آراءهم، أي الشريعة الشفوية، مصدرها الوحي الإلهي. فإن كان هذا هو الأمر حقاً، فلا مجال للاختلاف في الرأي بينهم. ومن ثم، فإن وجود مثل هذه الاختلافات يدحض ادعاءاتهم التي تنسب الشريعة الشفوية لأصل إلهي.

ويُلاحَظ أثر التفكير الديني الإسلامي على فكر القرّائين، وخصوصاً في عصرهم الذهبي في منتصف القرن التاسع. ويُعَدُّ بنيامين النهاوندي، وهو أول من استخدم مصطلح «قرّائي»، أهم مفكري القرّائين، كما يُعتبَر ثاني مؤسسي الفرقة حيث عاش في بلاد فارس في أواخر القرن التاسع، ثم تبعه مفكرون آخرون من أهمهم أبو يوسف يعقوب القرقساني الذي عاش في القرن العاشر.

وفي الفترة الممتدة بين القرنين الثاني عشر والسادس عشر، انتشر المذهب القرّائي بين مختلف أعضاء الجماعات اليهودية، خصوصاً في مصر وفلسطين وإسبانيا الإسلامية حيث عمل اليهود الحاخاميون على طَرْدهم منها، وفي الإمبراطورية البيزنطية قبل الفتح العثماني. ومع حلول القرن السابع عشر، انتقل مركز النشاط القرّائي إلى ليتوانيا وشبه جزيرة القرم التي يعود استيطان القرّائين إياها إلى القرن الثاني عشر.

وابتداءً من القرن التاسع عشر، يبدأ فصل جديد في تاريخ القرّائين بعد ضم كل من ليتوانيا (عام 1793) وشبه جزيرة القرم (عام 1783) إلى روسيا. فحتى ذلك الوقت،كانت المجتمعات التقليدية التي وُجد فيها اليهود تُصنَّف كلاًّ من اليهود الحاخاميين واليهود القرّائين باعتبارهم يهوداً وحسب دون تمييز أو تفرقة. ولكن الدولة الروسية اتبعت سياسة مختلفة إذ بدأت تعامل القرّائين كفرقة تختلف تماماً عن الحاخاميين، فأعفت أعضاء الجماعة القرّائية من كثير من القوانين التي تطبَّق على اليهود، مثل: تحديد الأماكن التي يمكنهم السكنى فيها (منطقة الاستيطان)، وتحديد عدد المسموح لهم بالزواج والخدمة العسكرية الإجبارية، وعدم امتلاك الأراضي الزراعية في مناطق معيَّنة. وقد حاول القرّاءون قدر استطاعتهم أن يقيموا حاجزاً بينهم وبين الحاخاميين، فقدموا مذكرات للحكومة القيصرية يبينون فيها أنهم ليسوا كسالى أو طفيليين مثل اليهود الحاخاميين، وهي اتهامات كانت شائعة ضد اليهود في ذلك الوقت. كما أن القرّائين كانوا يؤكدون أنهم لا يؤمنون بالتلمود الذي كانت الحكومة الروسية ترى أنه العقبة الكأداء في سبيل تحديث يهود روسيا. وقد قام المؤرخ والعالم القرّائي أبراهام فيركوفيتش بإعداد مذكرة موثقة للحكومة القيصرية تبرهن على أن اليهود هاجروا من فلسطين قبل التهجير البابلي، وبالتالي فإن تطورهم الديني والتاريخي مختلف تماماً عن اليهود الحاخاميين. وقد أُعيد تصنيف اليهود القرّائين بحيث اعتُبروا قرّائين روسيين من أتباع عقيدة العهد القديم. وقد أثَّر هذا في الهيكل الوظيفي للقرّائين، فبينما كان معظم اليهود الحاخاميين (في القرم) من الباعة الجائلين والحرفيين وأعضاء في جماعات وظيفية وسيطة، كان القرّاءون يحصلون على امتيازات استغلال مناجم الفحم، وكانوا من كبار الملاك الزراعيين الذين تخصصوا في زراعة التبغ (وقد احتكروا تجارته في أوديسا)، كما كانت تربطهم علاقة جيدة مع السلطات القيصرية.

وبلغ عدد اليهود القرّائين في القرم حين ضمها الروس نحو 2400، ووصل العدد إلى 12.907 عام 1910، وإلى عشرة آلاف عام 1932. ويصل عددهم الآن حوالي 4571. وحينما ضمت القوات الألمانية القرم وأجزاء أخرى من أوربا إبان الحرب العالمية الثانية، قرَّر النازيون أن القرّائين يتمتعون بسيكولوجية عرْقية غير يهودية. ولذا، فلم تُطبق عليهم القوانين التي طُبِّقت على الحاخاميين. وقد جاء في بعض المصادر أن موقف القرّائين من أحداث الحرب العالمية الثانية كان يتراوح بين عدم الاكتراث والتعاون مع النازيين. ويوجد تجمُّع قرّائي آخر في ولاية كاليفورنيا يضم حوالي 1200 يهودي معظمهم من أصل مصري.

وعند إنشاء الدولة الصهيونية، كان القرّاءون معادين لها بطبيعة الحال، ولكن الدعاية الصهيونية والسياسية التي انتهجتها بعض الحكومات العربية والمبنية على عدم إدراك الاختلافات بين الحاخاميين والقرّائين جعلت معظمهم يهاجر من البلاد العربية إلى إسرائيل وغيرها من الدول. ويبلغ عدد القرّائين في إسرائيل نحو عشرين ألفاً، توجد أعداد كبيرة منهم في الرملة، وزعيمهم وحاخامهم الأكبر هو حاييم هاليفي، ويعيش بعضهم في أشدود. وهناك اثنا عشر معبداً قرّائياً ومحكمة شرعية. ويمكن القول بأن معظم القرّائين في إسرائيل من أصل مصري (حيث هاجروا إليها عام 1950). والواقع أن انتماءهم الديني القرّائي لا يزال قوياً، ولذا فإن ثمة خلافات دائمة بينهم وبين اليهود الحاخامين، الأمر الذي ينعكس على العلاقات فيما بينهم داخل المستوطنات المشتركة.

القـــــّراءون: فكـــر دينــي

Karaites: Religious Thought

تأثر القرّاءون بعلم الكلام عند المسلمين، وبالعقلانية الإسلامية بشكل عام. وتأثر مؤسس الفرقة، عنان بن داود، بأصول الفقه على مذهب أبي حنيفة. ويُقال إن اليهود القرّائين يمثلون احتجاج الفرد وضميره الحر ضد عبء السلطة المركزية والتقاليد الجامدة. ومن هنا، فقد وُصفوا بأنهم «بروتستانت اليهودية». ومن الصعب قياس مدى دقة الوصف، وخصوصاً حين يُستخدَم الإطار المرجعي لدين ما لوصف دين آخر. ولكن، وبغض النظر عن مدى دقة الوصف، فإن من المتفق عليه أن الفرقة القرّائية تمثل أكبر احتجاج على اليهودية الحاخامية حتى العصر الحديث (حين ظهرت الفرق اليهودية الحديثة، وخصوصاً اليهودية الإصلاحية). وهي تمثل احتجاجاً بلغ من الضخامة حد أن اليهودية الحاخامية اضطرت إلى تحديد عقائدها وأفكارها على يد سعيد بن يوسف الفيومي (سعديا جاءون). وإذا كان الفيومي قد تأثر بالفكر الديني والفلسفي الإسلامي، فإن الاحتجاج القرّائي كان أكثر استيعاباً لهذا الفكر وأشد تأثراً به. ويتضح هذا التأثر في واقع أن القرّائين قد جعلوا النص المقدَّس المكتوب، أي العهد القديم، المرجع الأول والأخير في الأمور الدينية كافة، والمنبع لكل عقيدة أو قانون. وقد هاجم القرّاءون التلمود، وهدموه، وفندوا تراثه الحاخامي باعتباره تفسيراً من وضع البشر (أي أنهم وضعوا التوراة التي يُقال لها «المقرّا» مقابل المشناه بمعنى «التكرار الشفوي»). والواقع أن رفض الشريعة الشفوية هو في جوهره رفض النزعة الحلولية التي ترى أن الإله يحل بشكل دائم في الحاخامات، ومن ثم يتساوى الاجتـهاد الإنساني والوحي الإلهي، والتمسك بالنص الإلهي المكتوب.

ومع هذا، كان للقرّائين تراثهم التفسيري الذي يقابل التلمود، ولكنه ظل مجرد اجتهادات خاضعة للنقاش لا تصطبغ بصبغة نهائية أو مقدَّسة. وقد حدد عنان بن داود الأمور بقوله: « ابحث في الكتاب المقدَّس بعناية تامة ولا تعتمد على رأيي ». بل إن بعض القرّائين كانوا يستعينون باجتهادات الشريعة الشفوية، ولكنهم كانوا ينظرون إليها باعتبارها اجتهادات دينية ليست لها قداسة، وبالتالي غير ملزمة دينياً. كما أنهم يرون أنه لا اجتهاد مع النص، بمعنى أنه إذا كان النص واضحاً، فينبغي عدم فرض أية تفسيرات عليه أو استعارة تفسيرات الآخرين، على عكس تفسيرات التراث الحاخامي التي كانت تتعامل مع النص بشكل متعسف لفرض المعنى المطلوب. وقد وضع القرّاءون أصولاً للتفسير يظهر فيها تأثير الفكر الإسلامي، فكان التفسير يستند إلى العناصر التالية بالترتيب:

1 ـ المعنى الحرفي.

2 ـ الإجماع.

3 ـ القياس.

4 ـ العقل.

أما تصوُّرهم للإله، فقد تم تطهيره تماماً من أية بقايا وثنية أو طبائع بشرية، فالإله هو خالق السماوات والأرض من العدم، وهو الخالق الذي لم يخلقه أحد، ولا شكل له ولا مثيل له، إله واحد أرسل نبيه موسى وأوحـى إليه التـوراة التي تنقل الحـق الكـامل الذي لا يمكن تغييره أو تعديله، وخصوصاً من خلال العقيدة الشفوية. وعلى المؤمن أن يعرف المعنى الحق للتوراة. وقد أرسل الإله الوحي إلى أنبياء آخرين، ولكن درجة النبوة لديهم أقل منها عند موسى، وسيبعث الإله الموتى، ويحاسبهم يوم القيامة، ويعاقب المذنب ويكافئ المثيب. وكل هذا يعني أن الإله عادل وسيحاسب كل فرد على أفعاله، وأن الإنسان خير، وأن الروح لا تفنى. ويؤمن القرّاءون بأن الإله لا يحتقر هؤلاء الذين يعيشون في المنفى، بل هو على العكس يود أن يطهرهم من خلال عذابهم إلى أن يعود الماشيَّح (لكن عقيدة الماشيَّح قد اختفت في بعض صيغ الفكر القرّائي الأولى). وغني عن القول إن معظم العقائد السابقة تبين أثر الفكر الإسلامي التوحيدي.

ولا يوجد في الفكر القرّائي هذا العدد الضخم من الأوامر والنواهي التي حددها الفكر الحاخامي. وتختلف صلاة القرّائين عن صلاة الحاخاميين في عدة أوجه، أهمها أن القرّائين يكتفون بصلاتين: واحدة في الصباح، وأخرى في المساء، وتتضمن صلاتهم الشماع، ولكنهم حذفوا الثماني عشرة بركة (شمونه عسريه). كما أن شكل الصلاة عند القرّائين استقر وأخذ شكلاً نهائياً، على عكس الصلاة عند الحاخاميين. ويرتدي القرّاءون شال الصلاة (طاليت) أثناء أدائها، ولكنهم لا يرتدون تمائم الصلاة (تفيلِّين)، ولا يضعون تمائم الباب (مزوزوت) على منازلهم لأن الإشارات الواردة بشأن هذه التمائم ذات معنى مجازي على عكس ما يتصور الحاخاميون الذي فسروا الإشارات تفسيراً حرفياً. ولا يحتفل القرّاءون بعيد التدشين لأنه ظهر بعد تدوين التوراة، ولهم تقويم خاص بهم. كما أن قوانين الطعام عند القرّائين تختلف عنها لدى الحاخاميين، وخصوصاً في القواعد الخاصة باللحم واللبن. وتتسم قواعد الزواج عند القرّائين بالتزمت إذ زادوا عدد المحارم زيادة غير عادية. كما أن القرّائين يصومون سبعين يوماً (من 13 نيسان إلى 23 سيفان) على طريقة المسلمين، بل يُحرِّم بعضهم استخدام الأدوية حيث لا شافي إلا الإله.

وقد اشتد الصراع بين القرّائين والحاخاميين إلى حد أن كل طائفة قامت بتكفير الأخرى وإعلان نجاستها وحرمانها من رحمة الإله. وقد اعتبر الحاخاميون طائفة القرّائين من الأغيار في شئون الطعام والشراب والزواج. وفي العصر الحديث، بذل القرّاءون جهوداً كبيرة للاحتفاظ بالمسافة بينهم وبين الحاخاميين.

ومع هذا، لم تنتشر اليهودية القرّائية بين اليهود، وهو الأمر الذي يحتاج إلى تفسير. ويُقال إن القرّائين كانوا يضمون في صفوفهم كثيراً من التقاة الذين تمسكوا بالتفسير الحرفي للتوراة، وقد أدَّى هذا إلى تَجمُّد فكرهم، وتحوُّلهم إلى حفرية دينية. ولقد وجد كثير من الجماعات القرّائية في تربة إسلامية. ولعلهم وجدوا أن من المنطقي، بعد أن طهروا اليهودية من النزعة الحلولية، وبعد فَرْض الصيغة التوحيدية عليها، أن يعتنقوا الإسلام، وخصوصاً أن ثمة إشارات إلى أن عنان بن داود كان يؤمن، مثله مثل أبى عيسى الأصفهاني، بأن عيسى (عليه السلام) ومحمداً (صلى الله عليه وسلم) من الأنبياء.

عنـــان بــن داود (القرن الثامن الميلادي(

Anan Ben David

مؤسس مذهب القرّائين، ويُقال إنه كان ابن رأس الجالوت في العراق. وقد درس ابن داود الشريعة، ولكن رؤساء الحلقات التلمودية رفضوا تعيينه مكان أبيه، حسبالمصادر اليهودية الحاخامية، فرفض الإذعان لقرارهم ودخل في خلاف حاد معهم عام 762. وحينما أُلقي به في السجن بتهمة التمرد، طالب بالإفراج عنه باعتبار أنه ينتمي إلى جماعة دينية مختلفة عن الجماعة اليهودية، فأُجيب طلبه. وبعد الإفراج عنه، أسس ابن داود الفرقة الجديدة في الفترة 762 ـ 767 والتي كانت تُسمَّى في بادئ الأمر بـ «العنانية»، ونشــر عـام 770 كتاـبه سـفر هامتسـفوت باللغـــة الآرامــية (كتاب الأوامـر والنواهــي) ولم يبــق من الكتاب سوى بضعة أجزاء. ولكن لا يمكن تفسير ظهور هذه الفرقة على أساس هذا الحادث الشخصي، فمن الواضـح أن اليهــودية كانت تواجــه تحـدياً فكــرياً ضخمـاً بعد انتـشار الإســلام، وكـان عليــها أن تستجيب له. وكان عـنان بن داود يمـثل أولى هــذه الاســتجابات، ثـم تبـعه سعيد بن يوسف الفيومي، المتحدث باسم اليهودية الحاخامية ومحددها.

وحجر الزاوية في فكر عنان بن داود هو العودة إلى النص المقدَّس المكتوب نفسه، أي العهد القديم، مستخدماً طريقة القياس التي استقاها من الفقه الإسلامي، وخصوصاً من فكر الإمام أبي حنيفة. كما أنه رفض الشريعة الشفوية التي تعبِّر عن الحلولية اليهودية. وقد بذل ابن داود جهداً كبيراً في تفسير التناقضات الموجودة في العهد القديم. وكان يفضل التشدد في كثير من الأمور، مثل الزواج وشعائر السبت. ومع هذا، يظل المفتاح الأساسي لفهم فكره الديني هو عبارته: "فلتبحث بعناية فائقة في النص، ولا تعتمد على رأيي".

بنيامــين بـن موســى النهــاونـدي (منتصف القرن التاسع الميلادي(

Benjamin Ben Moses Nahawandi

عالم قرّائي عاش في فارس والعراق. ويُعَدُّ (مع عنان بن داود) مؤسس المذهب القرّائي. وهو صاحب مصطلح «قرّائي». وكان النهاوندي يتسم بعلمه الواسع في العلوم الإسلامية الدينية والدنيوية. كما أنه حدَّد عقائد القرّائين، وبذل جهداً كبيراً في تطهير الفكر الديني من أية اتجاهات لخلع صفات بشرية على الإله. ولذا، فقد أصر على قوله بأن الشريعة لم تُوحَ إلى موسى مباشرة وإنما أُوحيَت إليه من خلال ملاك. وأصر على أن الإله لم يَخلُق العالم مباشرة وإنما خلقه من خلال ملاك أيضـاً (وقد رفض القرّاءون رأيه هذا). ورغم تأكيده أهـمية النص المقدَّس، كما هو الحال مع القرّائين، فإنه لم يمانع في الاستفادة من الشـريعة الشـفوية (أي تفاسـير الحاخامات) دون أن يخلع عليها أية قداسة. وقد وضع النهاوندي معظم مؤلفاته بالآرامية، ومن أهمها شروح العهد القديم، إلى جانب بعض الدراسات القانونية الأخرى.

أبو يوسـف يعقوب القرقسـاني (النصف الأول من القرن العاشر الميلادي(

Abu Yusuf Yaqub Qirqisani

عالم قرّائي اسـتوعب العلوم الإسـلامية الدينيـة والدنيويـة في عصره، وكان على إلمام كبير بالتراث الحاخامي. وأهم كتبه كتاب الأنوار والمراتب (بالعربية)، وهو مصنف في القوانين القرّائية، أما الكتاب الثاني فهو كتاب الرياض والحدائق، وهو تعليق على الأجزاء التي لا تتناول الشرائع في العهد القديم. وهو، في جميع كتاباته، يُحكِّم عقله ويستند إلى قواعد التفسير التي وضعها العلماء القرّاءون من قبله.

أبراهـام فيركوفيتـش (1786-1874(

Abraham Firkovich

عَالم قرّائي روسي بولندي المولد، بذل جهوداً كبيرة لفصل اليهود القرّائين عن اليهود الحاخاميين، فهاجم اليهودية الحاخامية والحسيدية هجوماً لاذعاً. وقد قدَّم فيركوفيتش مذكرة عام 1825 إلى الحكومة الروسية القيصرية بيَّن فيها أن القرّائين يتسمون بالنشاط والإنتاجية، على عكس اليهود الحاخاميين الذين يتسمون في رأيه بالكسل والطفيلية. وقد اقترح في المذكرة أن تقوم الحكومة القيصرية بتهجير الحاخاميين من المناطق المتاخمة للحدود الغربية، حتى تُوقفهم عن الاشتراك في عمليات التهريب، وحتى يتم تشجيعهم على الاشتغال بالزراعة (وقد كان القرّاءون في شبه جزيرة القرم يشتغلون بكل المهن، ومنها الزراعة، كما كانوا يمتلكون مزارع تبغ). وقد بيَّن فيركوفيتش في دراساته أن القرّائين هاجروا من فلسطين بعد انقسام مملكة سليمان، وأنهم استوطنوا القرم منذ القدم، وأن قبيلة الخزر تهوَّدت على أيديهم. وقد قام بجمع العديد من المخطوطات العبرية في فلسطين (وربما مصر)، كما استشهد بالاكتشـافات الأثرية، وخصــوصاً شواهد القبور اليهودية، ليثبت قوله. ونشر فيركوفيتش آراءه عام 1872، وقد تقبَّلها كثير من المؤرخين اليهود في عصره. ولكن بعض العلماء يرون أن فيركوفيتش كان يزيف الشواهد التاريخية لتأييد وجهة نظره، ولا تزال هذه القضية خلافية.

وتُعَدُّ مجموعتا فيركوفيتش بالمكتبة العامة في سانت بطرسبرج أكبر مجموعتي كتب ومخطوطات عبرية في العالم.

الإســرائيليات (تهــويد الإسـلام(

Israeliyat (Judazation of Islam)

«الإسرائيليات» هي مجموعة من القصص والتفسيرات لقصص وأحكام القرآن. ويتناول كثير من هذه الإسرائيليات قصصاً وأساطير أبطالها شخصيات من العهد القديم ورد ذكرهم في القرآن. وتفترض الإسـرائيليات أن ثمة اسـتمراراً بين قصص العهد القديم وقصص القرآن، وأن إبراهيم، الذي ذُكر في التوراة هو نفسه سيدنا إبراهيم (عليه السلام) الذي ذُكر في القرآن. ولما كان القرآن لم يذكر قصص الأنبياء كاملة فإن كتاب الإسرائيليات يلجأون، في تفاسيرهم، إلى ملء الثغرات بالعودة إلى كتب اليهود الدينية. وتتناول الإسرائيليات كذلك عقائد، مثل: المسيح المخلِّص (المهدي المنتظر)، وآخر الأيام، وعذاب القبر، واسم الإله الأعظم. ويتسم معظم الإسرائيليات بطابعه الحلولي المتطرف (الذي يتناقض بشكل حاد مع الفكر التوحيدي) ومن المعروف أن افتراض الاستمرار الكامل، ومحاولة ملء كل الفراغات، هي من سمات الأنساق الحلولية التي لا تقبل جود أية مساحات داخل نسق فضفاض.

ويروي ابن خلدون في مقدمته من أسباب تسرب الإسرائيليات إلى المسلمين وأسباب استكثارهم من روايتها أن العرب لم يكونوا أهل كتاب أو علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء، مما تتشوق إليه النفوس البشرية وأسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدون منهم، وهم أهل التوراة من اليهود، وهم أنفسهم كانوا أهل بادية منهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من حمْيَر الذين أخذوا بدين اليهودية، فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم.

وتساهل المفسرون وملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات، وأصلها عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية ولا تحقيق عندهم (الحفني). ومعنى كل هذا أن ثمة رغبة شعبوية بدائية في معرفة أصل الأشياء، ملأها المفسرون من خلال احتكاكهم بيهود الجزيرة العربية الذين كانوا يؤمنون هم أنفسهم بيهودية شعبوية بعيدة عن التوحيد أو تميل إلى الحلولية ولذا تود ملء كل الثغرات.

ويضرب الحفني مثلاً على ذلك: أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعددهم، وعصا موسى من أي الشجر كانت، وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، ونوع الشجرة التي كلَّم الله منها موسى، وكلها تفاصيل روائية، لا فائدة من معرفتها، ولكن العقل الشعبي يود دائماً الإحاطة بالتفاصيل المادية إذ يجد صعوبة غير عادية في التجريد وتجاوز المادة. والموقف الإسلامي من هذا واضح فقد ورد في القرآن (كما يُبيِّن الدكتور الحفني) أن ثمة أموراً أبهمها الله، ولا فائدة من تعيينها تعود على المكلفين في دينهم ولا دنياهم، وبقي الاختلاف عنهم في ذلك جائزاً ("سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقولون خمسة سادسهم كلبهم، رجماً بالغيب، ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم، قل ربي أعلمبعدتهم، ما يعلمهم إلا قليل، فلا تُمار فيهم إلا مراءً ظاهراً، ولا تستفت فيهم منهم أحدا" [الكهف 22 [).

دخل الكثير من الإسرائيليات إلى كتب التفسير الإسلامية عن طريق اليهود الذين اعتنقوا الإسلام في مرحلة مبكرة مثل كعب الأحبار.ولكن،بعد فترة، لم يَعُد اليهود الذين أسلموا وحدهم مصدر الإسرائيليات،فكثير من المفسرين المسلمين كانوا يعودون بأنفسهم إلى الكتب الدينية اليهودية،أو الفلكلـور اليهـودي، لتفسـير القصص القرآني.كما أن الوجدان الشعبي نسج وولَّد قصصاً وتفسيرات على منوال الإسرائيليات.ونحن نذهب إلى أن الخطاب الغنوصي ظل سائداً بين العامة ووجد طريقه إلى عمليات التفسير فيكل الديانات التوحيدية.ويجب أن نتذكر أن كثيراً من الإسرائيليات هي،في جوهرها، فلكلور يهودي نجح في أن يصبح جزءاً من العقائد الدينية اليهودية الرسمية،والتلمود كتاب فلكلور بقدر ما هو كتاب تفسير.ونحن نذهب إلى أن شخصيات العهد القديم تختلف في سماتها وسلوكها عن مثيلتها التي تحمل الأسماء نفسها في القرآن الكريم.ومن ثم، فإن إبراهيم الذي ورد ذكره في التوراة يتميَّز عن سيدنا إبراهيم (عليه السلام) الذي ترد قصته في القرآن الكريم (ولهذا،فإن اسم الأول خلافاً للثاني يرد هنا مجرداً من لفظ «سيدنا» (.

عبد اللـه بــن سـبأ (القرن السابع الميلادي(

Abdallah Ibn Saba

ويُسمَّى أيضاً ابن السوداء. وهو عربي يهودي من أهل صنعاء في اليمن. وقد ادَّعى ابن سبأ بعد موت الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) هو الماشيَّح الذي سيرجع مرة أخرى، فكان يقـول: "العـجب ممن يزعم أن عيـسى يرجع، ويكذِّب برجوع محمد". وقد أيَّد رأيه بآية من القرآن: "إن الذي فرض عليك القرآن لرادُّك إلى معاد" (القصص 85) ومن ثم فإن محمداً أحق بالرجوع من عيسى. وقال أيضاً إنّ في التوراة أنّ "لكل نبي وصياً، وإن علياً (زوج ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم) هو وصيه، ولذا فعليٌّ هو خاتم الأوصياء بعد محمد خاتم النبيين". بل يُقال إنه لما بويع علي قام إليه ابن سـبأ فقـال لـه:"أنت خلقت الأرض وبسطت الرزق".

وقد ذهب عبد الله بن سبأ إلى القول بالتناسخ. وبحسب قوله، فإن روح الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم تمت مع محمد بل استمرت حية تتعاقب في ذريته، فروح الله التي تبعث الحياة في الرسل تنتقل بعد وفاة أحدهم إلى آخر، وأن روح النبوة بصفة خاصة انتقلت إلى عليّ واستمرت في عائلته، ومن ثم فعليّ ليس مجرد خلف شرعي للخلفاء الذين سبقوه، وهو ليس في مستوى واحد مع أبي بكر وعمر اللذين اندسا مغتصبين بينه وبين الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأخذا الخلافة بغير وجه حق، إنما هي «الروح القدسية» تجسدت فيه وهو وريث الرسالة، ومن ثم فهو بعد وفاة محمد الحاكم الوحيد الممكن للأمة، تلك الأمة التي يجب أن يكون على إمامتها مثل حيّ لله. وقد استطاع ابن سبأ تكوين خلايا سرية في عديد من الأمصار الإسلامية التي مرَّ بها (الحجاز والبصرة والكوفة والشام ومصر)، وجرت بينه وبين أعضاء هذه الخلايا مكاتبات، وحاك ابن سبأ المؤامرات ووضع مخططات للثورة. وبعد مقتل عليّ رضي الله عنه عام 661، أنكر عبد الله أن علياً قد قُتل، زاعماً أن من قُتل هو في واقع الأمر شيطان يشبه علياً وأن علياً نفسه فيه الجزء الإلهي وأنه هو الذي يجئ في السحاب، وأن الرعد صوته والبرق سوطه، ولذا كان أتباعه يقولون عند سماع الرعد: "السلام عليك يا أمير المؤمنين". وأنه لابد أن ينزل إلى الأرض فيملأها عدلاً كما مُلئت جوراً.

وقد أسَّس ابن سبأ الطائفة السبئية التي تقول بألوهية عليّ. ويُقال للسبئية «الطيارة» لزعمهم أنهم لا يموتون وإنما موتهم طيران نفوسهم في الغَلَس (قبيل انبلاج النهار). ويُقال إن عبد الله بن سبأ جاء إلى الإمام عليّ (رضي الله عنه) مع جماعته وقالوا له « أنت الله» فأحرقهم بالنار، فجعلوا يقولون: "الآن صحَّ عندنا أنه الله لأنه لا يعذِّب بالنار إلا رب النار".

وقد انشغل المؤرخون المسلمون (في الماضي والحاضر) بقضية هل كان عبد الله بن سبأ شخصية حقيقية وُجـدت فعلاً أم شخصية مُختَلَقَة، وهي في الواقع قضية قد تكون على قدر من الأهمية ولكنها تترك المسألة الأساسية، أي بنية أفكار ابن سبأ (وهي أفكار كان هناك من يحملها ويروجها بغض النظر عن وجود ابن سبأ نفسه). ولنضرب مثلاً لنوضح ما نرمي إليه: ينتشر كثير من الأفكار الرومانتيكية وتتبناها جماعات من الناس في أنحاء العالم دون أن يطلعوا بالضرورة على كتابات الشعراء أو الفلاسفة الرومانتيكيين في الغرب، وحتى دون أن يعرفوا بوجود شيء يُسمَّى «الحركة الرومانتيكية». والواقع أن القضية هي بنية هذه الأفكار ومدى تأثيرها في سلوكهم ومدى تأثيرهم فيمن حولهم بعد حَمْلهم هذه الأفكار، وهكذا. أما قضية الأصول والتأثير والتأثر، وهل اطلع هؤلاء بالفعل على النصوص الأساسية للحركة الرومانتيكية الغربية أم لا، فهي قضية ثانوية رغم أهميتها، وخصوصاً أن كثيراً من الأفكار الإنسانية تتوالد من داخل العقل الإنساني، دون حاجة لتأثير خارجي. والأفكار الحلولية (التي تشكل الإطار الذي تتحرك داخله المنظومة السبئية) أمر كامن في تجارب الإنسان الأولى.

ويمكن القول بأن النسق الفكري الذي يُنسَب إلى اسم بن سبأ نسق حلولي غنوصي كامل يستحق الدراسة من هذا المنظور:

1 ـ فهو نسق يفترض الحلول الدائم للإله في الطبيعة والتاريخ، ولذا فالرعد هو صوت عليّ والبرق سوطه، فالإله يتجسد في الطبيعة. كما أن ثمة إيماناً بأن روح الإله تنتقل من رسول إلى آخر ولابد أن يكون هناك إمام هو مثل حيّ (تَجسُّد ـ حلول) للإله في التاريخ. ويُلاحَظ أنه في الأنساق الحلولية، لابد أن يكون هناك تجسُّد دائم ومستمر للإله في الطبيعة وتناسخ دائم عبر التاريخ، حتى يظل الإله دائماً متجسداً في الزمان والمكان كامناً فيهما لا متجاوزاً أو مفارقاً لهما. والإله، في هذه المنظومة، جزء لا يتجزأ من الطبيعة والتاريخ ويُردُّ إليهما لملء كل الفراغات والمجالات والثغرات بحيث يتصل الزمان بالمكان في وحدة وجود روحية لا تبقى للإله من الألوهية سوى الاسم.

2 ـ ويتضمن النسق الديني الحلولي إلغاء فكرة محمد خاتم المرسلين، وهي الفكرة التي تتضمن أن التاريخ أصبح المجال الذي يتفاعل فيه الإنسان مع الإله وأن التاريخ هو الرقعة التي يختبر الإله فيها الإنسان، وبإمكان الإنسان أن يخطىء ويصيب فيها (فهو حرّ الإرادة). بدلاً من ذلك يطرح النسق السبئي الحلولي فكرة نهاية التاريخ. كما يتضمن النسق الحلولي إلغاء فكرة الضمير الشخصي ووجود الإنسان الفرد.

3 ـ يمكن أن يتحقق الحلول الإلهي في شخص بدرجة مركزة بحيث يصبح هذا الشخص إلهاً لا يموت، وهذه هي صفات عليّ (رضي الله عنه) في النسق السبئيّ أو صفاتمحمد (صلى الله عليه وسلم) الذي لابد أن يعود أو صفات من يتحقق فيه الحلول الإلهي عبر التاريخ.

4 ـ يُلاحَظ أن الحلول الإلهي مسألة متوارثة في مجموعة من الناس، فكأن الإله بحلوله في عائلة ما يصبح جزءاً عضوياً يجري في عروقها، وكأن الربانية أصبحت صفة بيولوجية وليست صفة تعبر عن نفسها في أعمال أخلاقية تتبدَّى من خلالها التقوى. والنظم الحلولية نظم عضوية، والإنسان الذي يتمتع بالحلول يتجاوز الخير والشر. وهذه صفات موجودة في النسق السبئي. ولم تذكر المصادر التي توافرت لنا شيئاً عن سلوك السبئيين وما إذا كانوا قد انغمسوا في ممارسات جنسية داعرة تعبر عن الحلول الإلهي العضوي في أجسادهم أو تعبِّر عن سقوط القيم الأخلاقية.

5 ـ المنظومة الحلولية تتسم بعدم النضج المعرفي، فهي تنحو نحو اختزال الكون في عناصر سببية بسيطة، فالإمام سيملأ الدنيا عدلاً بعد أن امتلأت جوراً، أي أن كل الثغرات ستُسد ويظهر عالم واضح عضوي مصمت، لا ثغرات فيه، عالم متأيقن تماماً، السبب مرتبط تماماً فيه بالنتيجة. أما من الناحية النفسية فالإنسان الحلولي يرفض الحدود ويفضل البقاء في حالة سيولة كونية رحمية (نسبة إلى الرَحم)، ومن ثم يرفض أن يكبح جماح غرائزه بل يرفض الموت، الحد الأكبر المفروض على الإنسان والنتيجة الطبيعية لإيمان الإنسان بالإله الواحد. ويتبدَّى هذا أيضاً في المنظومة السبئية حيث تُرفَض فكرة الموت بالنسبة لعليّ (رضي الله عنه) ولمن يرث الروح الإلهية. فكأن النسق الحلولي يعد أتباعه بأنهم سيصيبون الأزلية في الدنيا، أي سيصبحون آلهة. بل يمكن القول بأن تحديد المنظومة السبئية لعليّ (رضي الله عنه)، كنقطة للحلول الإلهي، هو بحث عن نقطة فردوسية (غنوصية) طاهرة تماماً لا يوجد فيها أي تركيب أو تناقض، نقطة الوحدة الحقّة للوجود.

6 ـ تفترض المنظومة الحلولية تداخل كل الأشياء وترابطها من خلال الحلول الإلهي المستمر. وهذه الرؤية هي التي أدَّت إلى ظهور الإسرائيليات في الإسلام حيث افترض بعض المفسرين وجود استمرار بين التوراة التي بين أيدينا وبين القرآن. وكما أشرنا من قبل، تستند المنظومة السبئية إلى مقدِّمات وردت في التوراة تُستخلَص منها نتائج إسـلامية، فكأن ثمة اسـتمراراً بين التـوراة والقرآن وبين الإسـلام واليهودية.

هذه بعض ملامح المنظومة السبئية الحلولية المتطرفة، وهي منظومة كان لها تابعوها وتأثر بها العديدون. وقد ظهرت هذه المنظومة بأشكال أخرى بين جماعات أخرى لها أسماء أخرى، ومن ثم يكون هذا الانشغال المتطرف بشخصية ابن سبأ انشغالاً شاذاً إلى حدٍّ ما.

ويمكننا الآن أن نسأل: ما مصدر هذه الحلولية؟ وما جذورها التاريخية وربما البيئية؟ وللإجابة عن هذا السؤال، قد نحتاج إلى بحث مكثف. ويمكن أن نذهب هنا إلى أن المنظومة ذات أصول يمنية، ولعل المؤرخين الذين جعلوا عبد الله بن سبأ يمنياً كانوا يشيرون إلى هذا. وفي هذه الحالة، لابد أن ندرس بتعمق أنماط اليهودية التي كانت منتشرة آنذاك في جنوب الجزيرة العربية، ومدى اختلاطها بعناصر وثنية من العبادات العربية المجاورة، وهو أمر متوقع تماماً لسببين: أولهما أن يهودية الجزيرة العربية كانت منعزلة إلى حدٍّ كبير عن المراكز والحلقات التلمودية سواء في فلسطين أو بابل. كما أن الطبيعة الجبلية لليمن تضمن استمرار كثير من العبادات والعادات ذات الطابع البدائي الجيولوجي المتحجر (وهذه طبيعة المناطق الجبلية كما هو الحال في الشام وبلاد شبه جزيرة القوقاز). ويُلاحَظ أن الفرس قد احتلوا اليمن لبعض الوقت، والفكر الحلولي سمة أساسية في العبادات الفارسية. ولعلنا لو اكتشفنا قوة الطبقة الحلولية داخل اليهودية الموجودة في اليمن لأمكننا إلقاء مزيد من الضوء على الإسرائيليات وعلى تطوُّر اليهودية نفسها.

والواقع أن التشابه بين المنظومة السبئية والمنظومة الغنوصية تشابه يثير التساؤل ويدعم نظريتنا القائلة بأن الغنوصية ليست مجرد حركة ظهرت في زمان ومكان معينين (الشرق الأدنى في القرن الأول الميلادي) وإنما هي رؤية كامنة في داخل الإنسان وتظهر في كثير من الحضارات وتعبِّر عن فشل الإنسان في تجاوز الوثنية والحواس، كما تعبِّر عن الرغبة في الذوبان في السيولة الكونية الأولية للوصول إلى عالم الواحدية الكونية، حيث لا حدود ولا هوية، ولا أعباء أخلاقية أو نفسية، ولا مسئولية من أي نوع. ولعل هذا الخطاب الغنوصي الكامن هو الذي يفسر التشابه بين حركة مثل السبئية نشأت في القرن السادس الميلادي في الجزيرة العربية وانتشرت في ربوع العالم الإسلامي وحركة مثل البهائية نشأت في إيران في القرن الثامن عشر وانتشرت منها في أنحاء العالم المختلفة.

كعــب الأحبـــار (؟ -647(

Kaab al-Ahbaar

«كعبُ الأحبار» هو أبو إسحق، كعب بن مانع الحمْيري، وأصله من يهود اليمن (حيث كانت اليهودية تنتشر هناك في زمن معاصر للدعوة الإسلامية)، وقد أدرك الجاهلية وأسلم في فترة الخلافة الراشدة. سُمِّي «كعب الأحبار» من باب التعظيم تقديراً لعلمه بكتب الأنبياء وأخبار الماضين.

ويحتل كعب الأحبار مكانة مهمة بين المفسرين الأوائل بصفته يهودياً. وقد كان يرجع (بعد إسلامه) إلى التوراة والتعاليم الإسرائيلية في دراسته للإسلام، لذلك فإن كثيراً من المصادر الدارسة للتفسير والعلوم الإسلامية تتشكك في مروياته ومقولاته التي جاءت مشَّبعة بالإسرائيليات.

ويُتهم كعب الأحبار بالإطلاع على مكيدة قتل عمر بن الخطاب، ثاني الخلفاء الراشدين، وصياغته لها في صورة نبوءة إسرائيلية. وترجع بعض الإسرائيليات، وخصوصاً في التفسير وفي مباحث النبوءات وذكر الأنبياء السابقين، إلى محاولة المفكرين الجاهليين الذين أسلمو التوفيق بين الرؤية الدينية التي كانت عندهم والتي كانت تتنبأ ببعثة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وبين العقائد الإسلامية الخاصة بهذا الموضوع.

صموئيل بن عبــاس (1125-1175(

Samuel Ibn Abbas

ويُعرف أيضاً باسم «ابن يحيي المغربي». مؤلف عربي وعَالم رياضيات وطبيعة وُلد في بغداد وعاش في سوريا والعراق وإيران. حقق ذيوعاً كمؤلف يهودي وعالم طبيعة. وفي عام 1163، اعتنق الإسلام في أذربيجان وكتب كتيباً بعنوان إفحام اليهود. وفي عام 1167، أصدر نسخة موسعة من الكتيب وأضاف لها سيرة ذاتية حيثأعلن أن النبي صمويل والرسول محمد (عليه الصلاة والسلام) جاءاه في المناه وأمراه أن يعتنق الإسلام. ولكنه أضاف أن الرؤية لم تكن السبب الوحيد في تحوُّله إلى الإسلام، فالسبب الحقيقي هو مجموعة من المقدمات العقلانية والنتائج المنطقية توصَّل إليها عقل عالم رياضيات، وأن الرؤية لم تكن سوى العنصر الحاسم الذي حدد زمن التحول إلى الإسلام. وقد حقق الكتيب والسيرة ذيوعاً كبيراً واستخدمه المفكرون الإسلاميون في النقاش الدائر بين المسلمين واليهود.

ويذهب ابن عباس في كتابه إلى أن نسخة العهد القديم التي وصلت إلينا هي تشويه للوحي الأصلي (الذي نزل على موسى عليه السلام)، فهي من وضع عزرا الذي كان من الكهان الهارونيين (أتباع هارون) المعادين لبيت داود الملكي. ويبيِّن ابن عباس أن هناك قصصاً كثيرة في العهد القديم تشوه سيرة الأنبياء وتسيء إليهم، وإلى أن ثمة نزعة تشبيهية تنسب إلى الإله صفات إنسانية لا تليق به، كأن يُقال إن الإله يندم على أفعاله. كما بيَّن أن هناك من المقطوعات ما يدل على أن القانون الموسوي قد تم نسخه، ومع ذلك يصر اليهود على التمسك به وتطبيقه. ويُهاجم ابن عباس التلمود والشريعة الشفوية ككل ويعطي تاريخاً مبسطاً لظهور التلمود والصلوات في المعبد اليهودي وتفسيرات قانون الطعام المباح شرعاً. كما يُحدِّد ابن عباس عدة مقطوعات في العهـد القـديم يرى أنها تُبشر بمقـدم الرسول محمد (عليه الصلاة والسلام). وقد تُرجم كتيبه إلى اللاتينية وإلى عدد من اللغات الأوربية.

الصفحة التالية ß إضغط هنا