المجلد الثالث: الجماعات اليهودية.. التحديث والثقافة 12

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

إســحق دويتشـر (1907-1967(Isaac Deutscher

مفكر بولندي يهودي من أهم شارحي الماركسية، والتروتسكية على وجـه الخصـوص. وُلد بالقـرب من كراكوف ونُشِّئ تنشئة دينية أرثوذكسية، ولكنه تلقى فيما بعد تعليماً علمانياً في جامعات بولندا. ويبدو أنه غازل الصهيونية في شبابه، فتعلم العبرية وترجم بعض الأشعار العبرية إلى البولندية.

انضم دويتشر عام 1926 للحزب الشيوعي السري، ولكنه طُرد منه عام 1932 حينما نادى بتكوين جبهة متحدة بين الاشتراكيين والشيوعيين لمجابهة التهديد النازي. وانتقل عام 1939 إلى لندن ليعمل مراسلاً لجريدة بولندية يهودية، ولكنه استقر فيها وأصبحت مكان إقامته الدائم.

من أهم دراساته ستالين: سيرة حياة سياسية حيث يشبه فيها ستالين بروبسبيير، ويذهب إلى أن تطهير الثورة الشيوعية من ستالين كان ممكناً مثلما تم تطهير الثورة الفرنسية من روبسبيير. وقد بيَّن دويتشر في هذه الدراسة ما تصور أنه انحراف ستالين عن الخط الماركسي اللينيني. ولكن أهم أعماله هو الدراسة التي كتبها في 1954 ـ 1963 من ثلاثة أجزاء عن حياة ليون تروتسكي وفكره. ويبدي الكتاب تعاطفاً مع تروتسكي ووضعه المأساوي كما يبدي رفضاً عميقاً لستالين. وكتب دويتشر كذلك دراسة عن الثورة البلشفية بعنوان الثورة الدائمة (1967(.

وفي كتابه اليهودي غير اليهودي، يذهب دويتشر إلى أن اليهودية تتضمن رؤيتين: إحداهما ضيقة متعصبة وهي الرؤية الحاخامية والصهيونية، والأخرى عالمية تبناها مفكرون يهود، مثل إسبينوزا وهايني وماركس وروزا لوكسمبرج وتروتسكي، ومن خلالها توصلوا إلى نظرة إلى العالم تتجاوز اليهودية ذاتها وتستند إلى التضامن والإخاء العالميين، أي أن تحقُّق النزعة العالمية الكامنة في اليهودية يؤدي إلى نفي اليهودية. ومن ثم، عارض دويتشر الصهيونية، كما رفض الدولة التي أسستها في فلسطين واعتبرها تمثل خطوة للوراء بالنسبة إلى اليهود. وكان آخر حديث له يتضمن إدانة شديدة لإسرائيل والتوسعية الصهيونية في عام 1967، وقد نُشر بعد وفاته.

أيزيــاه برلـين (1909-)

Isaiah Berlin

فيلسوف بريطاني يهودي، وُلد في لاتفيا وتعلم في لندن ثم في أكسفورد حيث قام بالعمل معظم حياته، وحصل على عدة شهادات دكتوراه فخرية من الجامعات الإسرائيلية.

من أهم مؤلفاته، السـيرة التي كتبها عن ماركـس، كارل ماركس: حياته وبيئته (1939) حيث درس فكره ووضعه في سياقه الفكري، و في الحتمية التاريخية (1953)، و أربع مقالات في الحرية (1969). وتدور كتاباته أساساً حول فكرة الحقيقة الثابتة العالمية وفكرة الحتمية، لا سـيما في كتابيه فيكو و هردر (1976)، و ضد التيار (1979).

ويميِّز برلين بين الرؤية التعددية للحرية والرؤية الأحادية، فالرؤية التعددية هي رؤية تقبل تعدد الطرق والوسائل التي تؤدي إلى الحرية، أما أصحاب الرؤية الأحادية فهم يرون أن ثمة طريقاً واحداً للحرية على الجميع أن يسلكوه. وكان برلين عضواً في جماعة من المفكرين والفلاسفة في أكسفورد اهتموا بالفلسفة اللغوية والتحليلية، ولكنه مع هذا لم يقبل قط رؤيتهم الضيقة للفلسفة. فالفلسفة بالنسبة له تهتم بالأسئلة الأساسية التي لا يمكن التوصل لإجابتها من خلال الملاحظة والأساليب الإمبريقية (التجريبية) في التحقق ولا من خلال مناهج المنطق الصوري. فهذه الأسئلة النهائية تخص المعرفة والعقيدة وطبيعة التاريخ والسياسة وسمات الإنسان في علاقته بالعالم. وهو يدرس هذه القضايا الأساسية من خلال بعض المقولات التفسيرية لا من خلال المناهج العلمية (أي أنه يحاول أن يسترجع بعض الثنائية المعرفية). وثمة تفرقة هنا بين ما أسماه برلين الرؤية الأحادية والرؤية التعددية. فالمفكر الأحادي يحاول أن يفرض على الظواهر الاجتماعية تفسيراً علمياً واحدياً بحيث يمكن التوفيق بين كل الاختلافات وحسم كل الصراعات وإخضاع كل الأهداف والغايات الفردية لهدف اجتماعي واحد نهائي (يشبه القانون الطبيعي). ولذا، فإن التناقض بين الحرية والمساواة، والمنفعة والعدالة، وصالح الجماعة وحقوق الفرد (وهي تناقضات توجد في أي موقف أخلاقي)، تتم إزالتها تماماً باسم قيمة واحدة يفرضها المجتمع.

أما الرؤية التعددية فهي تنظر إلى العالم باعتباره مجموعة من المصالح والأهداف المختلفة، وعلى أساس أن عالم الأخلاق والسياسة توجد فيه مجموعة من القيم المتصارعة في حالة عدم اتساق دائم ولا يمكن بأية حال التوفيق بينها تحت مبدأ واحد « فكل شيء هو هذا الشيء ولا شيء سواه »، فالحرية هي الحرية وليست المساواة والعدالة أو الحضارة أو السـعادة الإنسـانية، فهذه جميعاً أهداف مختلفة وليست متسقة، بل لا يمكن الحوار العقلاني بشأنها، فالحوار السياسي يفترض وجودها وأسبقيتها وتتم إدارة الحوار السياسي من منظورها. وكما هو واضح، فإن برلين يطرح تعددية للقيم ونقط الثبات والمطلقات حتى لا تتمتع قيمة واحدة بالمطلقية الكاملة، كما يرى أن الاعتراف بهذه التعددية أمر أساسي لاستمرار الحضارة والمدنية وللحفاظ على هذه القيم والمؤسسات التي ساهمت في إسعاد الإنسان. فجوهر الإنسان هو عقلانيته واستقلاليته وحريته، وإن أنكرنا عليه فرصة الاختيار بين القيم والأهداف، كما تفعل الفلسفات الأحادية، فنحن نحطم هذا الجوهر.

ويميِّز برلين بين الحرية السلبية والحرية الإيجابية. فمنظرو الحرية السلبية يعرّفون الحرية باعتبارها غياب القهر وحسب، فالحرية هي وجود مجال حول الفرد يمكنه فيه أن يختار بين القيم والأهداف، سواء أكان هذا الاختيار خيِّراً أم شريراً، عقلانياً أم غير عقلاني. أما دعاة الحرية الإيجابية فهم يُعرِّفون الحرية باعتبارها المقدرة على كبحجماح الذات والتحكم فيها، فالفرد يحقق حريته لا عن طريق غياب القهر، وإنما حين يحقق أهدافاً رشيدة، أي أن الحرية الأولى لا أهداف محددة لها بينما يوجد هدف محدد في المفهوم الثاني. ولذا، يمكن، بل يجب من منظور الحرية الإيجابية، أن يتم قهر الدوافع اللاعقلانية للإنسان (ذاته السفلي) لأنها تعوقه عن تحقيق أهدافه العقلانية. ومن ثم، فإذا مورس القهر على إنسان ما لإزالة دوافعه اللا عقلانية، فإن هذا ليس بقهر على الإطلاق، حيث إن الهدف منه هو تعظيم الحرية الإيجابية العلىا. كما أن القانون الذي يستند إلى أساس عقلاني لا يمكن من وجهة نظر دعاة الحرية الإيجابية أن يعوق الحرية. ويرى برلين أن هذا المفهوم للحرية الإيجابية مفهوم شمولي لأنه يعيد تعريف كل القيم المتصارعة ويوفق بينها باسم قيمة واحدة هي الحرية العقلانية، فهي إذن رؤية شمولية لأن الحرية الوحيدة الحقيقية قد قُرنت بأهداف أو أغراض جماعية معيَّنة ومن ثم لا يوجد مجال للاختيار الفردي. أما الحرية السلبية، فهي التعددية الحقة لأنها تعترف بالصراع والاختيار، ولذا فهي نظرية المجتمعات الحرة.

ومن الواضح أن برلين يحاول أن يفتح بعض الثغرات في عالم العلم المصمت حيث يخضع كل شيء للقوانين الصارمة. وقد تصوَّر أنه حقق هذا بالفعل بأن جعل كل قيمة أمراً قائماً بذاته مستقلاًّ لا يمكن أن يُدمج مع قيمة أخرى. فالعدالة هي العدالة والحرية هي الحرية وكلاهما مطلق رغم تناقضهما الواحد مع الآخر، ولا يمكن إخضاع مطلق لمطلق آخر. وينتج عن ذلك تعددية المطلقات. ولكن برلين لا يؤمن في واقع الأمر بأية قيم نهائية، ويرى أنه لا توجد أية مطلقات، ومن ثم فإن عالمه ليس عالماً مفتوحاً تعددياً، وإنما هو عالم ذراتي لا مركز له (عالم ما بعد الحداثة). وكذلك لا توجد وسيلة للتوفيق بين القيم (المطلقة) المختلفة، ومن ثم لا يوجد أساس للاختيار أو الحرية. وقد لاحظ هو نفسه أنه، منذ القرن الثامن عشر، بدأ تحوُّل الفكر الغربي من الموضوعية إلى الذاتية، ومن الإيمان بالمطلقية إلى النسبية، وأن هذا التحول هو سبب انتشار الرؤية العلمية ونتيجة له في آن واحد.

ورغم موقفه التعددي هذا، يؤيد برلين الصهيونية كل التأييد. وهو يُعرِّف بالكثيرين من مفكريها وزعمائها. وقد ألَّف عن بعضهم دراسات، فله على سبيل المثال كتاب عن موسى هسّ (1959). بل إنه يرى أن ظهـور الدولـة الصهـيونية، كدولة علمانية ديموقرّاطية، هو انتصار لا نظير له للجهد الأخلاقي الحر. والدولة الصهيونية قد وُجدت ـ في رأيه ـ لتفي بحاجة شعب يريد أن تكون له علاقة بأرضه وتاريخه، ذلك أن الدولة الصهيونية ضرورية للشعب اليهودي العضوي. والدولة الصهيونية ستقوم بتطبيعاليهـود، فتجعل منهـم شـعباً مثل كل الشـعوب. وهو في رؤيته هذه، يهمل بطبيعة الحال التاريخ وحقوق الفلسطينيين وحريتهم (السلبية والإيجابية!)، ويُسقط المقولاتالأساسية لمنظومته المعرفية والأخلاقية.

ولا يمكن تفسير هذا التناقض الذي وقع فيه برلين (بين الرؤية التعددية المنفتحة التي يتسم بها نسقه الفلسفي والرؤية العنصرية المنغلقة التي تتسم بها رؤيته للمشروع الصهيوني) على أساس أنه من أصل يهودي. فكثير من المفكرين غير اليهود في الغرب وقعوا في هذا التناقض، كما أن كثيراً من المفكرين من أعضاء الجماعات اليهودية لم يقعـوا فيه، وليـس هناك نمط عام، ولذا ينبـغي تفـسيـر كل حالة على حدة.

ســيمون فـاي (1909-1943(

Simone Weil

فيلسوفة فرنسية، وُلدت لأسرة يهودية أرستقرّاطية فرنسية. حصلت على الدكتوراه في الفلسفة، وكانت رسالتها عن ديكارت. ودخلت معترك السياسة وشاركت في كثير من القضايا اليسارية حتى سُمِّيت «العذراء الحمراء». قررت عام 1934 أن تشارك العمال حياتهم فتركت وظيفتها كأستاذ فلسفة وعملت في أحد المصانع، وكانت ثمرة هذهالتجربة كتابها الحالة العمالية (نُشر عام 1951). لم تقدِّم فاي في كتابها الحلول اليسارية المألوفة لمشاكل العمال، مثل تأميم وسائل الإنتاج والاستيلاء على السلطة، وإنما طالبت بتغيير أكثر عمقاً في طبيعة العمل الحديث نفسه، إذ طالبت بتغيير التنظيم الهرمي في المصنع، بل وتصميم الآلات نفسها حتى تستجيب لحاجات الإنسان. وانضمت عام 1936 للقوات الجمهورية في إسبانيا إبّان الحرب الأهلية. وبعد غزو النازيين لفرنسا، اشتغلت عاملة زراعية في جنوب فرنسا، ثم هاجرت إلى الولايات المتحدة وماتت أثناء الحرب العالمية الثانية في إنجلترا. وقد نُشرت أعمالها بعد وفاتها، وتتكون أساساً من خطابات ومذكرات ومقالات وذكريات وشذرات. وتدل كتاباتها على مدى تكريسها ذاتها لعملية البحث الدائب عن الحق المطلق والعدالة.

تأثرت سيمون فاي بأفكار بعض المتصوفة المسيحيين مثل مايستر إيكهارت، ويُقال إنها خاضت تجربة صوفية عميقة إذ جاءها المسيح في الرؤيا عام 1938، وكانت تُكنُّ إعجاباً عميقاً للمسيحية باعتبارها ديانة العبيد، وترى أنها لم تتنصر لأن الدور الذي لعبته الكنيسة الكاثوليكية في التاريخ يتنافى تماماً مع تعاليم المسيحية. أما موقفها مناليهودية فكان يتسم بالرفض العميق، فهي ترى أن اليهودية عقيدة قومية ضيقة الأفق قاسية، وأن كل ما تحتويه المسيحية من شرور جاءها من اليهودية. ويشبه موقفها هذاموقف الغنوصيين (الذين كانت فاي تُكنُّ لهم إعجاباً خاصًّا) وقد أشاد الشاعر ت. س. إليوت بكتاباتها.

ويمكن أن نثير قضية يهودية فاي، فقد ورد اسمها في كلٍّ من الموسوعة اليهودية (جودايكا) و دليل بلاكويل للثقافة اليهودية باعتبارها كاتبة يهودية. وهذه الكاتبة قد وُلدت بالفعل لأسرة يهودية، ولكنها رفضت العقيدة اليهودية. وحينما مرت بتجربة صوفية، كانت تجربة مسيحية وتأثرت بمتصوفين مسيحيين. كما أن فاي هاجمت اليهودية بشراسة ونسبت لها كل نقائص المسيحية، فهل يُعتبَر تصنيفها على أنها يهودية ذا قيمة تفسيرية؟ لعله كان من الأجدى الحديث عنها باعتبارها من أصل يهودي وحسب. ولكن هذا لا يساعد كثيراً في فهم فكرها الذي يتجاوز أصولها اليهودية. ومن الطريف أن دليل بلاكويل للثقافة اليهودية استبعد المؤلفين اليهود السفارد وأبقى على فاي لأنها أشـكنازية أو غربية، وهـو ما يبيِّن أن أسـاس التصنيف مختل للغاية، وهو اختلال مصدره فشل محرري الموسـوعة في تعريف ما يُقال له «الهوية اليهودية» ومصادرهاالثقافية.

ملـــتون فريدمــان (1912-)

Milton Friedman

اقتصادي أمريكي بارز، وُلد في بروكلين (نيويورك). بدأ في العمل في الحكومة الأمريكية عام 1935، كما عمل بالتدريس في عدة جامعات أمريكية قبل أن يصبح أستاذاًللاقتصاد في جامعة شيكاغو. واكتسب فريدمان في هذه الجامعة سمعة عالمية، حيث أصبح من كبار مفكري ما عُرف بمدرسة شيكاغو، وهي مجموعة من الاقتصاديين وجهت النقد إلى النظريات الاقتصادية التي صاغها جون كينز والسياسات الاقتصادية المترتبة عليها والتي كانت تلقى قبولاً عاماً في الدوائر الاقتصادية والحكومية الأمريكية منذ الثلاثينيات من القرن العشرين.

من أهم مؤلفات فريدمان الرأسمالية والحرية (1962)، والتاريخ المالي للولايات المتحدة 1867 ـ 1960 (1963)، وأسواق حرة لرجال أحرار (1974)، و حر أن أختار (1980)، ويمكن القول بأن رؤيته الاقتصادية تستند إلى رؤية واضحة ومحدَّدة للإنسان، فالإنسان عنده هو الإنسان الاقتصادي الذي خلَّقه فلاسفة الرأسمالية الكلاسيكيون. فالاقتصاد هنا هو المطلق المكتفي بذاته، واجب الوجود، وما دون ذلك (كالأخلاق والعواطف) فلا وجود له. والآلية التي يعبِّر بها هذا المطلق عن نفسه هو السوق، فمن خلال آليات السوق الحر يتمكن الأفراد، الذين لكلٍّ منهم ذوقه الخاص وقيمه الخاصة وتطلعاته وأهدافه المستقلة، من أن يصلوا إلى تفاهم وإجماع، وهو ما يمنع وقوع صراعات حادة في المجتمع. ويرى فريدمان أن تدخُّل الدولة لا يفيد كثيراً في منع الصراع، بل إن الدولة هي المصدر الأساسي للقهر، فالحرية الاقتصادية هي أساس الحرية السياسية. وحين يستطيع الناس أن يتعاونوا، الواحد مع الآخر، دون قهر أو توجيه مركزي، فإن رقعة الحرية الاقتصادية تتزايد ومن ثم تتناقص رقعة الهيمنة السياسية. كما أن الحرية الاقتصادية تؤدي إلى توزُّع مراكز السلطة، بدلاً من تجميع السلطة السياسية والاقتصادية في يد واحدة.

وانطلاقاً من هذه الرؤية، عارض فريدمان تدخُّل الدولة في الحياة الاقتصادية، فدور الدولة يجب أن يقتصر على منع الأفراد من أن يقهر الواحد منهم الآخر. ولذا، طالب فريدمان بالحد من قوة الدولة على فرض الضرائب وانفاق عائدها، كما طالب بإلغاء الحماية الجمركية وآليات التحكم في الأسعار والأجور وكل معوقات الاختيار الحر، وعارض استخدام السياسات الضريبية والإنفاق الحكومي كوسيلة لتنظيم الاقتصاد. ويذهب فريدمان إلى أن التغيرات في حجم المعروض من النقد هي المحدِّد الرئيسي للتغيرات قصيرة الأجل في مستوى النشاط الاقتصادي، وأن التحكم في المعروض من النقد هو الأداة الأكثر أهمية لدى الحكومة الفيدرالية لإحداث تغيرات قصيرة الأجل في النشاط الاقتصادي، كما ذهب إلى أن تحديد معدل نمو ثابت للمعروض من النقد لفترات طويلة يوفر قدراً أكبر من الاستقرّار الاقتصادي ويحول دون حدوث تقلبات واسعة في النشاط الاقتصادي كذلك النوع الذي تعرضت له الولايات المتحدة في الماضي. واعتبر أن المبالغة في استخدام السياسات المالية والنقدية للتحكم في الأوضاع الاقتصادية الجارية قد يُعمِّق حدة هذه التقلبات على المدى البعيد. كما كان فريدمان يفضل نظاماً ضريبياً مبسَّطاً وتعويماً لأسعار العملة، وكان يفضل أيضاً إبطال استعمال الذهب كمقياس نقدي، وطالب بإلغاء نظام التكافل الاجتماعي والإعانة باعتباره نظاماً غير فعال ويعني دوراً نشيطاً وضخماً للحكومة، واقترح بدلاً من ذلك فرض ضريبة «سلبية» على الدخل، أي أن تقدم الحكومة معونة مالية للأسرة التي تقع تحت خط الفقر من خلال صيغة تسمح لهم بتوفير احتياجاتهم الأساسية مع الحفاظ في الوقت نفسه على الحافز على العمل وزيادة الدخل لدى هذه الأسر.

ويُعَدُّ فريدمان من أبرز الاقتصاديين المحافظين في الولايات المتحدة. عمل مستشاراً للرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون، كما عمل مستشاراً لعدة مؤسسات أمريكية ودولية. ولا يختلف فريدمان عن غيره من الاقتصاديين الأمريكيين، من اليهود أو غير اليهود، في أن أفكاره وآراءه الاقتصادية تعكس التيارات والاتجاهات المختلفة داخل النظام الاقتصادي الرأسمالي الأمريكي، والتي تنبع من حركيات هذا النظام بشكل خاص ومن حركيات المجتمع الأمريكي بشكل عام.

ويقوم ملتون فريدمان بتقديم الاستشارات الاقتصادية للحكومة الإسرائيلية، وهو من دعاة فك القطاع العام في إسرائيل وتشجيع الاقتصاد الحر وتقليص الهستدروتوالمؤسسات الصهيونية الاستيطانية الجماعية التي يُقال لها «اشتراكية»، وهو لا يختلف في هذا عن كثير من رجال الاقتصاد والسياسة الأمريكيين الذين لا يدركون تماماًالطبيعة الاستيطانية للدولة الصهيونية والتي تجعل وجود المؤسسات الجماعية وتدخل الحكومة في الاقتصاد مسألة حتمية. فعملية مثل تمويل المهاجرين واستيعابهم، على سبيل المثال، تتطلب ملايين الدولارات ولا يمكن أن يقوم القطاع الخاص بها. كما أن الأعباء الأمنية لإسرائيل، باعتبارها قاعدة للإمبريالية الغربية واستثماراً إستراتيجياًلها، يجعل من الضروري أن يتضخم جهاز الدولة، وألا تخضع الدولة الصهيونية الوظيفية ككل لحسابات المكسـب والخسـارة المادية وآليات السوق التي يخضع لها الاقتصاد الحر. والدعم الغربي الذي تقدمه الحكومات والشعوب الغربية، وبخاصة في الولايات المتحدة، يتنافى تماماً مع آليات الاقتصاد الحر. فالدعم له عادةً طابع أيديولوجي، أما الاقتصاد الحر فله حركياته الخاصة التي تتناقض ولا شك مع الأولويات الصهيونية. وقد ظهر هذا في مشروع طائرة اللافي، فالدولة الصهيونية كانت حريصة على إنتاجها لسببين لا علاقة لهما بالربح الاقتصادي:

1 ـ تحقيق قدر من الاستقلال عن المؤسسة العسكرية الأمريكية.

2 ـ تأسيس صناعات إلكترونية متقدمة تضمن خلق الوظائف للفنيين الإسرائيليين الذين يتزايد عددهم، حتى لا يضطروا إلى النزوح.

وقد رفضت الولايات المتحدة السماح لإسرائيل بالاستمرار في إنتاج هذه الطائرة. وكان من بين الأسباب التي سيقت لإنهاء المشروع أنه غير مربح، وكان هذا رأي ملتون فريدمان أيضاً. وبالفعل، توقـَّف المشروع ونزح مئات الإسرائيليين. وحينما وصل المهاجرون السوفييت، وهم يضمون في صفوفهم أعداداً كبيرة من الفنيين، وجدوا حالة بطالة. وبدأت أعداد منهم تعيد حساباتها. وهذا يبيِّن مدى عدم إدراك صانعي القرّار في الولايات المتحدة الطابع الاستيطاني للدولة الصهيونية، أو إدراكهم إياه واستخدامه للضغط على إسرائيل ووضعها تحت رحمة الولايات المتحدة وحمايتها.

ألبـــير ميميــه (1920-)

Albert Memmi

مؤلف وكاتب مقال وعالم اجتماع فرنسي يهودي تونسي الأصل. وُلد في تونس لعائلة يهودية من قبائل البربر. قاتل خلال الحرب العالمية الثانية في صفوف القوات الفرنسية الحرة، ثم عاد ليكمل دراسته الجامعية حيث حصل على شهادة في الفلسفة من جامعة الجزائر، ثم حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة باريس عام 1950، عاد بعدها إلى تونس ليترأس معهداً في علم النفس. وفي عام 1959، انضم إلى المركز الوطني للبحث العلمي في باريس حيث استقر بشكل دائم. وفي عام 1966، عُيِّن أستاذاً في المدرسة العليا للدراسات التطبيقية في باريس أيضاً.

وتخصَّص ميميه في دراسة الآثار الاجتماعية والنفسية المترتبة على الاستعمار، ووجد من خلال أبحاثه تشابهاً بين أوضاع اليهود والشعوب المُستعمرة وخصوصاً بالنسبة لمواقفهم وأفكارهم تجاه مسألة الهوية. وظلت قضية الهوية قضية محورية في أغلب أعمال ميميه سواء الروائية أو الفكرية، وعكست أزمته وحيرته الشخصية بين انتمائه إلى جماعة يهودية نشأت وتشكلت في ظل التشكيل الحضاري العربي الإسلامي، وبين اكتسابه الثقافة الفرنسية الغربية للمستعمر الفرنسي الذي سعى بوجه عام إلى ربطأعضاء الجماعات اليهودية في المغرب العربي بالثقافة الفرنسية بغرض عزلهم عن محيطهم العربي وتحويلهم إلى جماعات وظيفية وسيطة تخدم مصالحه في المنطقة. ويبدو أن ميميه كان مدركاً هذه الحقيقة، فرغم أنه أيَّد بحماس استقلال دول المغرب العربي، إلا أنه أدرك في الوقت نفسه أن النتيجة التي ستترتب على ذلك هي رحيل أغلب أعضاء الجماعات اليهودية في هذه المنطقة مع المستعمر الفرنسي.

وفي روايته أعمدة الملح (1953)، التي تُعتبَر أقرب إلى السيرة الذاتية، يتناول ميميه قصة شاب يهودي من المغرب العربي يخرج من بيئته المحلية المحدودة ليكتشف ثقافة المستعمر الفرنسي، ولكنه يفقد قناعاته الإنسانية والدينية نتيجة التناقض بين الثقافتين، كما يشعر بخيبة أمل تجاه المفهوم الإنساني الغربي الذي طالما نُسبت إليه صفات مثالية. أما رواية الغرباء (1955) فتتناول قصة يهودي تونسي يجد نفسه ملفوظاً ومرفوضاً من الفرنسيين والعرب على حدٍّ سواء.

أما في مقالاته ودراسته، مثل صورة يهودي (1962)، وتحرير اليهود (1966)، فيقدم صورة اليهودي باعتباره « شخصية كامنة في الظل »، فلا هي مندمجة تماماً ولا هي راغبة في التخلي عن خصوصيتها، تعيش دائماً على هامش الأحداث التاريخية العالمية. ولذلك، فإن الدولة اليهودية أو إسرائيل تصبح، على حدّ قوله، « الحل الوحيد لنا وورقتنا الرابحة الوحيدة وفرصتنا التاريخية الأخيرة » (ولكن هذا على اعتبار أن الدولة الصهيونية لا تقف هي الأخرى على هامش التاريخ العربي والتاريخ الغربي، فهي في حالة عداء ضد الأول رغم وجودهـا في المشـرق العربي، وفي حالة تبعيـة للثاني رغم وجودها خارجه).

إرفنج كريستول (1920- )

Irving Kristol

مفكر سياسي أمريكي، وأحد مؤسسي مجلة كومنتاري، وأحد محرري مجلة أنكاونتر، ومؤلف عدة كتب من أهمها عن الفكرة الديموقرّاطية في أمريكا (1972)، و تحيتان للرأسمالية (1978)، و تأملات محافظ جديد (1983)، وتدور كتبه حول موضوعات متفرقة، مثل الحركة الثورية للطلبة في الجامعة، وعدم الاستقرّار في العالم الثالث. وهو يعمل خبيراً أو مستشاراً في عديد من المؤسسات البحثية ومؤسسات الخبرة القريبة من مؤسسات صنع القرّار في الولايات المتحدة.

ويُعَدُّ كريستول من أهم مفكري تيار المحافظين الجدد الذي ظهر أثناء رئاسة كارتر، والذي يضم بين صفوفه عدداً كبيراً من المفكرين الأمريكيين اليهود. لكن أهمية هذا التيار ليست مقصورة على الجماعة اليهودية، وإنما امتدت لتشمل المجتمع الأمريكي بأسره.

وقد رفض المحافظون الجدد الوفاق وخفض التسليح، كما رفضوا كثيراً من السياسات الخارجية التي تبناها كارتر، فكانوا يطالبون مثلاً بضرورة أن تتخذ أمريكا موقفاً نشيطاً في سياستها الخارجية، وأن تنبذ الاتجاه نحو العزلة، أي أن تقوم بالتدخل العسكري لحماية ما تتصور أنه مصالحها. وفي الداخل، يطالب تيار المحافظين الجدد بالتخلي عن السياسات الاجتماعية التي تبناها الديموقرّاطيون والتي تهدف إلى تهدئة الصراعات الاجتماعية في المجتمع الأمريكي وتخفيف الأثر السلبي لسياسات الاقتصاد الحر. ومن المعروف أن الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة، وقياداتها، كانت تقف دائماً وراء الحزب الديموقرّاطي وتتبنَّى سياساته، شأنها في هذا شأن معظم أعضاء الأقليات في الولايات المتحدة. ولكن، ابتداءً من منتصف السبعينيات، بدأ يتبلور تيار محافظ داخل الجماعة اليهودية يلقي بثقله وراء الجمهوريين إلى أن وصل إلى الذروة في الثمانينيات مع تولي ريجان للرئاسة، حيث أيَّدته القيادات الصهيونية واليهودية المحافظة. ومما له دلالته العميقة أن غالبية الجماهير اليهودية لم تمتثل للتوجيهات الصهيونية وأدلت بصوتها لمرشح الحزب الديموقرّاطي. ولذا، لم يكن ريجان مديناً للصوت اليهودي بانتخابه، ومع هذا فهو من أشد الرؤساء الأمريكيين تحيزاً لإسرائيل، الأمر الذي يلقي كثيراً من الضوء على خرافة «الصوت اليهودي».

وقد قام المفكرون (من أعضاء الجماعات اليهودية ومن غيرهم) من المحافظين الجدد بصياغة كثير من الأفكار الإستراتيجية لإدارة ريجان، والمتصلة بزيادة التسلح والتخلي عن الوفاق، واتخاذ سياسة نشيطة معادية للاتحاد السوفيتي، ودعم حلفاء الولايات المتحدة، خصوصاً إسرائيل، في سياسة المواجهة مع الاتحاد السوفيتي. ولذا، عارض المحافظون الجدد من أعضاء الجماعات اليهودية محاولة الضغط على إسرائيل للانسحاب من الضفة والقطاع لتهدئة الرأي العام العالمي. وسياسة ريجان بشأن الشرق العربي، كانت، في التحليل الأخير، من صياغة هذه المجموعة. وقد أُطلق عليهم اسم «صقور ريجان اليهودية» وهي عبارة دقيقة إلى حدٍّ كبير.

ولكن الوضع تغيَّر كثيراً بعد الانتفاضة، إذ نصح إرفنج كريستول الإسرائيليين بأن يقرروا مساحة الأراضي التي يودون الاحتفاظ بها، وأن يرسموا الحدود ثم ينسحبوا. «... ولا أدري لم تصاب إسرائيل بالرعب من دولة في الضفة الغربية تحكمها منظمة التحرير الفلسطينية ». ويشكل تصريحه هذا تراجعاً عن مواقفه الأمريكية السابقة.

وقد كتب كريستول مؤخراً دراسة بعنوان مستقبل يهود أمريكا تتنـاول وضـع يهـود الولايات المتحدة في ظل تزايد معدلات العلمنة. وتُعَدُّ هذه المقالة حدثاً فكرياً فريداً، إذ أنه قلب الأمور رأساً على عقب، فهو يؤكد في دراسته أن العلمنة جزء عضوي من عملية التحديث، وهو يصف العلمنة بأنها « رؤية دينية حققت انتصاراً على كل من اليهودية والمسيحية »، وهو يصر على تسميتها « رؤية دينية » (رغم رفض العلمانيين لذلك) لأنها تحتوي على مقولات عن وضع الإنسان في الكون وعن مستقبله لا يمكن تسميتها علمية، ذلك لأنها مقولات ميتافيزيقية لاهوتية. وفي هذا الدين (العلماني)، يصنع الإنسان نفسه أو يخلقها (تأليه الإنسان)، كما أن العالم ليس له معنى يتجاوز حدوده، وبوسع الإنسان أن يفهم الظواهر الطبيعية وأن يتحكم فيها وأن يوظفها بشكل رشيد لتحسين الوضع الإنساني. ذلك أن المقدرة على الخلق، التي كانت من صفات الإله، أصبحت في المنظومة الدينية العلمانية من صفات الإنسان، ومن هنا ظهرت فكرة التقدم. وهذه العقيدة العلمانية هي الإطار المرجعي لكل من الليبرالية والاشتراكية، بل إنها تغلغلت في الأوساط الدينية اليهودية والمسيحية (باستثناء الأصوليين والأرثوذكس).

ويُلاحظ كريستول أن معدلات العلمنة بين يهود الولايات المتحدة مرتفعة إلى أقصى حد، بل إن اليهودية ذاتها تمت علمنتها ولم تَعُد عقيدة دينية وأصبحت مجرد نوع من المهدئات النفسية التي تساعد اليهود على تحمُّل التوترات الناجمة عن العصر العلماني الحديث. ويرى كريستول أن هذا أمر مفهوم، إذ أن المجتمع العلماني هو الذي أتى لليهود بحقوقهم وهو الذي أتاح لهم فرصة الاندماج، على عكس المجتمعات المسيحية التي كانت دائماً مجتمعات معادية لليهود. لكن الخطر الذي يواجه اليهود في الوقت الحاضر لم يَعُد معاداة اليهود وإنما الزواج المُختلَط، وهو خطر لم تجد له القيادات اليهودية حلاًّ بعد.

يقدم كريستول حلاًًّ جديداً للمشكلة يستند إلى مقدمات فلسفية وتاريخية مفادها أن العقيدة العقلانية للإنسانية العلمانية بدأت تفقد مصداقيتها بالتدريج رغم هيمنتها الكاملة على مؤسسات مجتمعنا (المدارس والمحاكم والكنائس ووسائل الإعلام). ويعود هذا إلى سببين:

1 ـ بإمكان الفلسفة العقلانية العلمانية أن تزودنا بوصف دقيق للمسلمات الضرورية لتأسيس نسق أخلاقي. ولكنها لا يمكن أن تزودنا بهذا النسق ذاته، فالعقل قادر على تفكيك الأنساق الأخلاقية ولكنه ليس قادراً على توليدها، إذ أن الإنسان يقبل الأنساق الأخلاقية من منطلق إيماني غير عقلي، والعقل المحض لا يمكن أن يتوصل إلى أن الجماع بالمحارم خطأ (طالما أن مثل هذه العلاقة لا تثمر أطفالاً)، أو أن مضاجعة الحيوانات شر (إلا من منظور أنها انتهاك لحقوق الحيوانات)، ذلك أنه ليس معروفاً لدينا إن كانت الحيوانات تتمتع بمثل هذه العلاقة الجنسية أم لا. وبسبب هذه الفوضى الأخلاقية، أصبح من المستحيل علينا تنشئة الأطفال، وتظهر أجيال قلقة لا تجد لنفسها مخرجاً من هذا الوضع.

2 ـ لا يمكن أن يُكتب البقاء لمجتمع إنساني إن كان أعضاؤه يعتقدون أنهم يعيشون في عالم لا معنى له. والواقع أننا، منذ القرن التاسع عشر (الحركة الرومانسية)، نجد أن تاريخ الفكر الغربي هو رد فعل للإحساس بأن العلمانية أدَّت إلى ظهور عالم لا معنى له، وهي تحاول أن تحل هذه المشكلة بأن تؤكد للإنسان أنه يسيطر على نفسه وعلى الطبيعة من خلال الاستقلال والإبداع، وهو أمر يراه كريستول مجرد خداع للنفس، ولذا فإن أهم ثلاثة فلاسفة غربيين في العصر الحديث لا يؤمنون بالعقيدة الإنسانية (الهيومانية): فنيتشه عدمي، وهايدجر وثني جديد، وسارتر وجودي يشعر بالغثيان، كما أن التيارات الفكرية السائدة الآن (التفكيكية وما بعد الحداثة) كلها تشعر بالازدراء تجاه الفكر الإنساني الهيوماني.

كل هذا يشير إلى أن من المتوقع تراجع العلمانية وتزايد الانتماء الديني. ويتبدَّى هذا في العبادات الوثنية الجديدة التي ظهرت، أي أن من المتوقع أن يحدث بعث جديد للمسيحية في المجتمع الأمريكي.

ويتوقع كريستول أن يقاوم اليهود هذا الاتجاه، ولكنه يرى أن من الأفضل لهم أن يغيروا موقفهم وأن يتكيفوا مع الوضع الجديد، فليس من المتوقع أن يؤدي البعث الديني إلى تزايد معاداة اليهود. كما يرى أن البديل لتقبل عودة الرموز المسيحية والعقيدة المسيحية ما أسماه «البربرية المعادية للكتاب المقدَّس» والتي تتحدى كلاًّ من المسيحية واليهودية، بل والحضارة الغربية ككل.

وأخيراً، يُنهي كريستول مقاله بعبارة مهمة: « إن يهود أمريكا عندهم حساسية مبالغ فيها من العداء المسيحي لليهود، وهم لذلك معرَّضون لخطر أن ينسوا أن من حطمالهيكل مرتين ونفى الشعب اليهودي لم يكن العداء المسيحي لليهود، وإنما الوثنيون والبابليون والرومان ».

جــورج سـتاينر (1929-)

George Steiner

مؤلف وعالم لغوي يعمل حالياً أستاذاً في جامعتي كامبردج وجنيف، من أهم مؤلفاته تولسـتوي أو دوستوديفسـكي (1959)، و موت المأساة (1960) حيث يذهب إلى أنسبب موت المأساة هو المنظومة المعرفية المسيحية ثم الماركسية. أو في اللغة والصمت (1967)، يتناول مسألة التآكل التدريجي للرؤية الإنسانية (الهيومانية) بسبب إفساداللغة عن طريق الدعاية السياسية والإباحية والماركسية، ومن ثم يصبح الصمت الاستجابة الوحيدة اللائقة لفظائع عصرنا. وفي قلعة بلو بيرد (1971) يبين أن ثمة علاقة بين التجريد الموضوعي الذي يتسم به البحث العلمي وبين عدم اكتراث البشر بالحقائق السياسية الاجتماعية المتعينة.

طوَّر ستاينر موضوع اللغة في كتابيه خارج حدود الدولة (1971)، و بعد بابل (1975)، حيث يحاول أن يقدم نموذجاً لعملية الفهم والإدراك. وقد كتب ستاينر رواية مثيرة بعنوان حَمْل أ. هـ إلى سان كريستوبال (1981)، وهي رواية يتخيل مؤلفها أن جماعة من الإسرائيليين تكتشف أن أدولف هتلر (أ.هـ) مختبئ في غابات الأمازون في أمريكا اللاتينية، فتقـوم باختطافه لتحاكمـه على جرائمه ضد البشرية. ولكن عند حدود الغابة، في الرقعة التي تفصل بين الغابة والعالم الذي يُقال له متحضر، يقوم هتلر بالدفاع عن نفسه فيبيِّن أن أفكاراً مثل فكرة « الشعب المختار صاحب الرسالة» هي أفكار وجدها في تراث اليهود الديني، ومادام الرايخ قد ولد إسرائيل، أفليس من الممكن أن يكون هتلر نفسه هو الماشيَّح الحق؟

نورمــان بودورتـــز (1930-)

Norman Podhoretz

كاتب أمريكي يهودي، ومحلل سياسي وثقافي. وُلد لأبوين مهاجرين من يهود اليديشية ونشأ في بروكلين (حي اليهود الشهير في نيويورك)، والتحق بكلٍّ من جامعة كولومبيا والكلية اللاهوتية اليهودية. درس على يد ليونيل ترلنج في كولومبيا وعلى يد ف.ر. لفيس في كمبردج. وبعد عودته منها، ترأس تحرير مجلة كومنتاري التي تصدرها اللجنة اليهودية الأمريكية، وكانت هذه المجلة من أهم مجلات المؤسسة الثقافية الشرقية ذات التوجه الليبرالي في الستينيات. ولكن المجلة، شأنها شأن كثير من المثقفين الأمريكيين اليهود والجماعة اليهودية في الولايات المتحدة، بدأ يسيطر عليها تيار صهيوني، وأخذت تتحرك نحو اليمين إلى أن تخلت تماماً عن ليبراليتها، وأصبحت هي وكُتَّابها من أكبر المدافعين عما يُسمَّى «تيار المحافظين الجدد» الذي يدافع عن الحرب الباردة وعن ضرورة أن تتخذ أمريكا موقفاً نشطاً في سياستها الخارجية وأن تنبذ الاتجاه نحو العزلة. وهذه عبارات تعني في الخطاب السياسي الأمريكي ضرورة أن تقوم الولايات المتحدة بالتدخل العسكري في أي جزء من العالم حينما ترى أن ذلك في مصلحتها ومصلحة الديموقرّاطيات الغربية، وهو موقف يخدم المصالح الصهيونية. وقد طالب تيار المحافظين الجدد بألا تضغط أمريكا على إسرائيل للانسحاب من الضفة والقطاع لتهدئة الرأي العام العالمي. ولكن يجب التنبه إلى أن بودورتز يعبِّر عن اتجاه قوي بين أعضاء المؤسسة الثقافية الأمريكية (من أعضاء الجماعات اليهودية ومن غيرهم)، ولا تشكل يهوديته سوى عنصر فرعي في موقفه قد يفسر حدة موقفه لا أكثر ولا أقل. أما موقفه في ذاته، فهو موقف أمريكي أصوله أمريكية وتوجهه أمريكي، فهو في دفاعه عن إسرائيل لا يتهم أعداءها بالعداء لليهود، وإنما يتهمهم بأنهم معادون للمصالح الأمريكية والحضارة الغربية، أي أنه يضع إسرائيل في سياقها الصحيح. ويُلاحَظ أن بودورتز عدَّل موقفه كثيراً بعد الانتفاضة، إذ قال: "الأمر الواقع لا يمكن له الآن أن يستمر، كما أن بدائل الاحتلال المستمر غير سارة وخطيرة; وألَّف بودورتز كتاباً بعنوان النجاح Making It في عام (1968) ، وهو سيرة ذاتية لإنسان لا يؤمن بأية قيم مطلقة، وإنما يؤمن بالنجاح بأي ثمن. وهو يُطلق على الإصرار على النجاح عبارة «السرّ القذر الذي يخفيه مثقفو نيويورك»؛ فشهوة النجاح لديهم تحل محل الشهوة الجنسية، وهي الدافع الأساسي في حياتهم.

الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية

الفلسفـة اليهـودية والفلاسفـة اليهـود

Jewish Philosophy and Philosophers

«الفلسفة اليهودية» عبارة تفترض أن رؤى الفلاسفة من أعضاء الجماعات اليهودية وكذلك أنساقهم الفلسفية متماثلة ومتجانسة وأن ثمة عناصر تجانس وتشابه ووحدة بينها،تفوق في أهميتها وتفسيريتها عناصر عدم التجانس وعدم التشابه. ولكننا لو وضعنا فيلسوفاً هيلينياً يهودياً مثل فيلون إلى جانب فيلسوف إسلامي الحضارة والتفكير يؤمنباليهودية مثل موسى بن ميمون إلى جانب فيلسوف فرنسي يهودي مثل برجسون لاكتشفنا أن عناصر الاختلاف وعدم التجانس بين الفلاسفة اليهود من الأهمية والضخامة بحيث أن المقدرة التفسيرية والتصنيفية لمصطلح «فلسفة يهودية» أو حتى «فلاسفة يهود» ضعيفة إلى أقصى حد. ولذا، فنحن نفضل استخدام اصطلاح «الفلاسفة من أعضاء الجماعات اليهودية» حتى يتم تفسير أنساقهم الفلسفية المختلفة بالعودة إلى التشكيلات الحضارية التي كانوا يعيشون في كنفها والتي تفاعلوا معها واستمدوا منها الإطار الأساسي لأنساقهم الفلسفية وخطابهم، بل والأبعاد الأساسية لرؤيتهم للكون.

الفـلاسـفة من أعضاء الجماعات اليهوديــة

Philosophers from Members of the Jewish Cmmunities

«الفلاسفة من أعضاء الجماعات اليهودية» عبارة ذات مقدرة تفسيرية وتصنيفية عالية (بالقياس إلى عبارات مثل «الفلسفة اليهودية» أو «الفلاسفة اليهود»).ويمكن أن نُقسِّم هؤلاء الفلاسفة من منظور موضوع فلسفتهم،فهناك من يتعامل مع اليهودية وبعض المشكلات الفلسفية المرتبطة بها وهناك من يتعامل مع القضايا الفلسفية العامة،وإن تعرَّض لقضايا يهودية فهو يتعرض لها بشكل عرضي.

ويمكن التمييز بين المحاولات التي يبذلها بعض المفكرين الذين يتبنون الموقف التحليلي من اليهودية ويدرسونها بطريقة منهجية. فإن كان المفكر غير يهودي فإن ثمرة فكره تكون جزءاً من الدراسة الفلسفية للدين. أما إذا كان المفكر يهودياً مؤمناً بالعقيدة اليهودية، فإن الثمرة تكون اللاهوت اليهودي أو دراسة أصول الدين (التي تناولناها في مدخل العقائد).

وغني عن القول أن المفكر من أعضاء الجماعات اليهودية حين يحاول أن يتأمل عقيدته فإنه، شاء أم أبى، يُطبِّق المقولات الفلسفية السائدة في عصره على اليهودية. ولا يمكن الفصل بين الجانب التحليلي والجانب التركيبي، فالتحليل مثل التركيب كان يتم من خلال المقولات الفلسفية السائدة في الحضارات التي كان الفيلسوف من أعضاء الجماعات اليهودية يعيش بين ظهرانيها. ومن ثم، لا يمكن الحديث عن «فلسفة يهودية» وإنما عن محاولات قام بها مفكرون من أعضاء الجماعات اليهودية لتطبيق النظم الفلسفية المختلفة على العقيدة اليهودية والمزاوجة بينهما، وهي محاولة لا تتسم بكثير من التجانس نظراً لوجود الجماعات اليهودية داخل تشكيلات حضارية مختلفة تؤثر كل منها في المفكرين بطريقة مختلفة. ولذا، فإن دراسة فكر هؤلاء لا يكون إلا بالعودة للحضارات التي يعيشون بين ظهرانيها.

والعهد القديم، مثله مثل أي كتاب مقدَّس، لا يحوي نسقاً فلسفياً واضحاً، وإنما يستند إلى نسق كامن مركب يعبِّر عن نفسه في العقائد الأساسية الخاصة بطبيعة الخالق والخلق والوحي والتوحيد والعدالة الإلهية ومعنى التاريخ، وهلم جرا. كما أن التراث الديني اليهودي، من خلال الأجاداه، كان يحاول الإجابة على أسئلة فلسفية بطريقة غير فلسفية، من خلال الرموز والقصص. وتوجد تساؤلات فلسفية في كلٍّ من التلمود وكتب القبَّالاه، ولكن الاجابة عليها لا تتم بالطريقة الفلسفية المنهجية وإنما من خلال الأسطورة والأمثولة والصورة والمجاز. ولم يظهر التفكير الفلسفي المنهجي بين اليهود إلا في القرن الأول قبل الميلاد في فلسفة فيلون السكندري الذي حاول المزاوجة بين الفلسفة اليونانية (الأفلاطونية والرواقية) والعقيدة اليهودية. ولكن فلسفته لم تترك أثراً في التطور اللاحق لليهودية، بينما تأثر بها اللاهوت المسيحي. وتأثر المفكرون منأعضاء الجماعات اليهودية في الدولة الإسلامية بعلم الكلام (الذي هو بدوره، في جانب من جوانبه، رد الفعل الإسلامي للفلسفة اليونانية).

ويبدو أن اليهودية وجدت نفسها دين أقليات متناثرة تواجه دينين سماويين توحيديين تتبع كل منهما إمبراطورية مترامية الأطراف وترفض كلٌ منهما اليهودية. ولذا، ظهر فكر ديني يهودي يحاول تفسير هذه الظاهرة عقلياً ويرمي إلى الدفاع عن اليهودية وإثبات شرعيتها. وأولى هذه المحاولات محاولة داود بن مروان المقمص، وتبعتها محاولة سعيد بن يوسف الفيومي، اللذين نقلا فكر المعتزلة إلى الفكر الديني اليهودي. وهما، في هذا، لا يختلفان كثيراً عن القرّائين. وتأثر الفكر الديني اليهودي بالحوار الذي جرى داخل الفلسفة الإسلامية بين الفلسفة وأعدائها، فدافع عن الفلسفة أبراهام بن داود، وموسى بن ميمون، ولاوي بن جرشون (جيرونيدس)، وحسداي قرشقاش. وهاجم الفكر الفلسفي كلٌّ من سليمان بن جبيرول وابن فاقودة ويهودا اللاوي.

وفي العصر الحديث، يبدأ التفكير الفلسفي بين اليهود في كتابات إسبينوزا فيلسوف العَلمانية الذي وجَّه سهام نقده لليهودية خاصة، وللفكر الديني عامة، لدرجة يصعب معها الحديث عنه باعتباره مفكراً دينياً. ولذا، قد يكون من الأفضل أن نبدأ بموسى مندلسون فيلسوف حركة التنوير بين اليهود، والذي تبنَّى فكر حركة الاستنارة الغربية والفلسفة العقلانية وطبقه على اليهودية بعد إفساح المجال للوحي، وهذا ما جعل فكره ربوبياً إلى حدٍّ ما. وقد تأثر المفكرون اليهود بفكر هيجل كما يتضح في كتابات كروكمال. أما هرمان كوهين فتأثر بفلسفة كانط. وظهر فلاسفة يهود آخرون في العصر الحديث حاولوا إعادة صياغة اليهودية مستخدمين مقولات الأنساق الفلسفية السائدة. فنجد فرانز روزنزفايج، ومارتن بوبر، وليوبايك، وأبراهام هيشيل، يحاول كل منهم بطريقته استخدام مقولات نسق فلسفي ما (وجودي أو مثالي) لإعادة تفسير اليهودية (وقد تناولنا كتابات مثل هؤلاء المفكرين الدينيين في المجلد السادس الخاص باليهودية).

ويمكن أن نضع الصهيونية في هذا الإطار، فهي محاولة لتطبيق مقولات الفكر الرومانسي القومي العنصري على اليهودي. وتأثر معظم المفكرين الصهاينة (هرتزل ونوردو وآحاد هعام) بفلسفة نيتشه وأفكاره عن القوة وأخلاق العبيد والإنسان الأعلى أو الأسمى. ويُلاحَظ أن كثيراً من الموضوعات الصهيونية وجدت طريقها إلى كتابات الفلاسفة من أعضاء الجماعات اليهودية، حتى أولئك الذين لم يهتموا بالصهيونية أو ناصبوها العداء، ومن أهم هذه الموضوعات موضوع «سر بقاء الشعب اليهودي»، ومحاولة تفسيره إما من خلال مقولات هيجلية أو من خلال مقولات نيتشوية أو وجودية. ورغم أن الموضوع يُناقَش بشكل فلسفي مجرد للغاية، وليس له علاقة كبيرة بالتطبيقات السياسية، إلا أن هذا الموضوع نفسه يشكل الفكرة المحورية في النسق العقائدي الصهيوني الذي هو بدوره علمنة لفكرة الشعب المختار أو الشعب المقدَّس. ومنثم، نجد أن هذه الكتابات إنما هي تسويغ واع أو غير واع للغزوة الصهيونية من خلال ديباجات فلسفية معاصرة.

ويوجد فلاسفة يهود كان اهتمامهم باليهودية ضعيفاً أو منعدماً، أو تعبيراً عن موقف فلسفي عام يتجاوز اليهودية في حد ذاتها. ولذا، فإن إسهامهم الأساسي كان يصب في التيار العام للفلسفة الغربية، ومعظمهم من اليهود غير اليهود، أي اليهود الذين لا يؤمنون بالعقيدة اليهودية ولا يتمسكون بإثنيتهم اليهودية حقيقية كانت أم وهمية والذين ازدهروا في الحضارة الغربية بمقدار تمثُّلهم لقيمها وبمقدار تهميشهم هويتهم وفهمهم. وإسبينوزا هو أول هؤلاء الفلاسفة. ويمكن أن نذكر في هذا المقام كارل ماركس، وفرديناند لاسال، وإدموند هوسرل، وهنري برجسون، ولودفيج فيتجنشتاين، وهربرت ماركوز، وهوراس كالن، وجاك دريدا (أي كل الفلاسفة من أعضاء الجماعات اليهودية الذين ازدهروا على مستوى الحضارة الغربية). وقد يكون لهؤلاء الفلاسفة بعض الملاحظات أو العبارات المؤيدة للصهيونية أو المعادية لهـا أو لليهودية ولكنهـا تظل ملاحظات عرضية (إلا فـي حالة كالـن). وقد لاحظنا أن معظم الفلاسفة العلمانيين من أعضاء الجماعات اليهودية يُعبِّرون في فلسفتهم عن الرؤية الحلولية الكمونية الواحدية وأنهم يتأرجحون بين التمركز حول الذات والتمركز حول الموضوع.

ومن الظواهر التي تستحق الدراسة عدم ظهور فلاسفة من أعضاء الجماعات اليهودية يُعتَد بهم عبر تاريخ العالم الغربي والإسلامي، وأن أول فيلسوف يُعتَد به هو إسبينوزا في القرن السابع عشر (هذا على عكس علم الاجتماع وعلم النفس وعلم الأنثروبولوجيا وعلم اللغة، حيث يُلاحَظ وجود عدد كبير من العلماء من أعضاء الجماعات اليهودية ساهموا في تأسيس هذه العلوم وتطويرها). ولتفسير ذلك يمكن الإشارة إلى أن الفلسفة كانت دائماً مرتبطة بالدين وبرؤية المجتمع للكون، وهو ما كان يعني استبعاد أعضاء الجماعات اليهودية باعتبارهم أعضاء في جماعة وظيفية تعيش في داخل المجتمع ولكنها ليست منه. ومع ظهور الرؤية العلمانية المادية للكون وترسُّخها، وتصاعُد معدلات العلمنة في المجتمع، أصبح بإمكان أعضاء الجماعة الوظيفية (وهم عادةً من حملة الرؤية الحلولية العلمانية) أن يساهموا بدور أكثر فعالية ومباشرة في عملية الإبداع الفلسفي (وفي العلوم الأخرى التي ظهرت بعد الثورة الصناعية والثورة الفرنسية، أي بعد أن أصبحت رؤية الإنسان الغربي للكون حلولية علمانية). وقد لاحظنا أن الفيلسوف أو المفكر من أعضاء الجماعة اليهودية يحقق ذيوعاً إن تحرك على أرضية حلولية كمونية (روحية على طريقة فيلون أو مادية على طريقة إسـبينوزا) تجعـل التمييز بين عقيدة وأخرى أمراً عسيراً. ومع هذا يُلاحَظ أنه بعد إسبينوزا لم يظهر فيلسوف واحد بارز من أعضاء الجماعات اليهودية، وعلينا الانتظار حتى أوائل القرن العشرين لنقابل بعض الفلاسفة البارزين من بين أعضاء الجماعات اليهودية (برجسون وهوسرل). وقد ترك ماركس أثراً عميقاً في الفكر الفلسفي الغربي ولكنه لم يكن فيلسوفاً بالمعنى المتخصص للكلمة. ولتفسير هذه الظاهرة يمكن القول بأن إسبينوزا ظهر في لحظة انقطاع في الحضارة الغربية (نهاية الرؤية المسيحية وبداية الرؤية العقلانية المادية) وأن برجسون وهوسرل ظهرا هما الآخران في لحظة انقطاع في الحضارة الغربية (عالم ما بعد نيتشه وبداية اللاعقلانية المادية).

ويُلاحَظ تزايد اشتراك أعضاء الجماعات اليهودية في صياغة الفكر الفلسفي النقدي في الغرب (ماركس وفرويد) خصوصاً في فلسفة اللغة، وهو تيار يصل إلى قمته في فكر تشومسكي (الثورة التوليدية) وفكر دريدا (الفلسفة التفكيكية التي تضم عدداً كبيراً من المفكرين من أعضاء الجماعات اليهودية). وقد تلاحَظ بعض السمات الأساسية في أنساقهم الفلسفية التي لا يمكن تفسيرها إلا بالعودة لميراثهم اليهودي (مارانية إسبينوزا ومشيحانية ماركس العلمانية وحلولية دريدا... إلخ). ولكن نسقهم الفكري يظل في شكله ومضمونه جزءاً من الفلسفة الغربية ينبع منها ويصب فيها. ولذا، سيُلاحَظ أن تتابع فلسفات هؤلاء الفلاسفة وتغيُّرها ينبع من تاريخ الفلسفة في الغرب.

وفي هذه الموسوعة فرقنا بين المفكرين والفلاسفة، فالمفكرون هم من يتعاملوا مع القضايا الفكرية والفلسفية من خلال مقولات فكرية عامة ليست بالضرورة المقولات الفلسفية المتعارف عليها، كما أن آليات التحليل والخطاب المستخدم مختلفة عن تلك التي يستخدمها الفلاسفة. ومع هذا، بإمكان القارئ أن يعود للباب المعنون «المفكرون اليهود» للتعرف على فكر بعض المفكرين الفلاسفة مثل حنه أرنت وإرنست بلوخ وإيزياه برلين، وغيرهم.

فيلون (بين 10 و15 ق.م - 30 م) والأفلاطونية المُحدَثة

Philo and Neo-Platonism

فيلسوف سكندري هاجر أبوه إلى فلسطين من مصر ضمن الألوف الأخرى من اليهود التي هاجرت (قبل سقوط الهيكل) حتى فاق عدد يهود الإسكندرية يهود القدس. وكان أبوه يلعب دوراً بارزاً في فلسطين، أي أنه كان من أعضاء النخبة اليهودية، التي كانت متأغرقة إلى حدٍّ كبير. وكان أخو فيلون (ليسيماخوس) من كبار المصرفيين ومسئولاً عن الجمارك في الإسكندرية. وكان أثرى رجل في الإسكندرية، بل يُقال إنه كان من أثرى الناس في العالم آنذاك، إذ يقول يوسيفوس المؤرخ إنه أعطى قرضاً ضخماً « للملك » أجريبا الأول، كما أرسل كميات من الذهب والفضة لتزيين بوابات الهيكل اليهودي التسعة في القدس. وكان صديقاً للإمبراطور الروماني كلوديوس تايبيرو. وفيلون هو عم تايبريوس ألكسندر الذي ارتد عن اليهودية وكان حاكماً رومانياً وجنرالاً في الجيش الروماني أثناء حصار القدس عام 70م والذي انتهى حينما أمر تيتوسبهدم الهيكل.

وُلد فيلون في الإسكندرية التي كانت قد تأغرقت جماعتها اليهودية وتحولت إلى جماعة وظيفية (كما تدل على ذلك وظيفة أخى فيلون). وقد بلغ بهم التأغرق حد أنهم نسوا العبرية، فكانوا يؤمنون بأن الترجمة اليونانية للعهد القديم المعروفة باسم «الترجمة السبعينية» مُرسَلة من الإله.

وظهر في الإسكندرية عدد من الكتاب اليهود (ممن كتبوا باليونانية) تُظهر أعمالهم مدى تمثُّلهم قيم الحضارة الهيلينية. وظهر بين هؤلاء أدب يحاول المزاوجة بين الحضارتين اليونانية والعبرانية ولكنها كانت في واقع الأمر محـاولة لإعادة صـياغة اليهـودية على أسـس يونانية هيلينية. كما حاول هؤلاء الكُتَّاب أن يبينوا أن اليهود ليسوا أقل مكانة أو تحضراً من الشعوب الأخرى، خصوصاً اليونانيين.

وكان يهود الإسكندرية يرسلون أبناءهم للجمنيزيوم اليوناني (وهو يعادل المدرسة الثانوية) عندما يبلغون العاشرة من عمرهم تقريبــاً. والجمنيزيوم كان مدرسـة كاملة للجسـد والـروح، مرتبـطة تمام الارتباط بالعقيدة الوثنية اليونانية. ولا شك في أن اليهود الذين درسوا في مثل هذه المعاهد فقدوا ما تبقى لهم من هوية «عبرانية ». وقد أجهـزت المؤسسـات الثقـافية الشعـبية الأخـرى (مثل المسرح والسيرك) على ما تبقى من ترسبات عبرانية في وعيهم وذاكرتهم. ثم كان هناك أخيراً الحراك الاجتماعي، فاليهودي الذي كان يود أن يخدم المدينة، كان عليه أن يصبح وثنياً إذ أن طقوس المدينة السـياسية كانت مرتبــطة تمـام الارتبـاط بالشعائر الدينية الوثنية (وهذا ما فعله تايبريوس ألكسندر، ابن أخي فيلون، وهو بذلك ينتمي إلى نمط أبناء الجيل الثالث من المهاجرين الذين ينسون كل شيء عن وطنهم الأصلي (إلا بضعة قصص أو كلمات) وينتمون تماماً إلى وطنهم الجديد،على عكس أبناء الجيل الثاني ممن يحتفظون ببعض القشور الحضارية من الوطن الأصلي من خلال احتكاكهم بآبائهم).

ولم يكـن فيلـون اسـتثناء من هذه القاعدة، إذ تلقى تعليماًً هيلينياً كاملاً. فهو يذكر في كتاباته عدداً ضخماً من الكُتَّاب اليونانيين وكان يعرف جيداً أسرار الخطابة اليونانية، وتلقى تعليمه في الجمنيزيوم (ويشير إليه في عبارات إيجابية). وحينما تحدث فيلون عن العلوم التي أتقنها موسى، فإنه يذكر أنها الرياضيات والهندسة والفلك والموسيقى والفلسفة والنحو والخطابة والمنطق، وهي العلوم التي كانت تُدرَّس في الجمنيزيوم، والأغلب أنها العلوم التي درسها فيلون نفسه. ومن المعروف عن فيلون أنه كان مغرماً بالمسرح والموسيقى وبمباريات الملاكمة وحضر كثيراً من سباق العربات. كما أنه يذكر في كتاباته أنه كثيراً ما كان يحضر مآدب العشاء التي كانت تتبعها أنواع من التسلية التي سادت في الإمبراطورية الرومانية، أي أنه (على المستوى الثقافي العام) كان متأغرقاً تماماً.

وفي مقابل هذا، لا يذكر فيلون شيئاً عن تعليمه اليهودي رغم أنه كان يعتبر نفسه يهودياً ممارساً للعقيدة اليهودية. والإشارة الوحيدة للتعليم اليهودي في أعماله تبيِّن مدى ضعف صلته، فهو لا يذكر سوى مـدارس السـبت اليهـودية التي كانت تُعقَد لسـماع محاضرات عن الأخلاق. ولم يكن فيلون يعرف العبرية ولا الشريعة الشفوية،كما كان يستخدم الترجمة السبعينية اليونانية. ويبدو أنه،في مرحلة من حياته،انضم إلى جماعة المعالجين (ثيرابيوتاي) وهي جماعة يهودية ذات طابع غنوصي كانت توجد بجوار الإسكندرية،كما أنه عبَّر عن إعجابه بجماعة الأسينيين (أي أنه كان معجباً بجماعات دينية يهودية هامشية).

ومما يُعرَف عن فيلون أنه زار فلسطين ذات مرة، كما أنه كان ضمن الوفد اليهودي الذي ذهب إلى روما ليعرض شكوى يهود الإسكندرية على الإمبراطور كاليجولا بعد ثورة سكان الإسكندرية اليونانيين على أعضاء الجماعة اليهودية فيها. وكان أبيون قد اتهم اليهود بأنهم لا يدينون بالولاء للمدينة أو للإمبراطورية، فأعد فيلون دفاعاً ليلقيه بين يدي الإمبراطور. ولكنه ما أن بدأ في إلقائه حتى قاطعه كاليجولا وصرف الوفد اليهودي.

وأهم مصادر فكر فيلون الفلسفة الأفلاطونية، كما أنه تأثر بأرسطو والفيثاغورثيين الجدد والكلبيين والرواقيين. وقد حاول أن يمزج بين روح الفلسفة اليونانية (خصوصاً فلسفة أفلاطون) وعقائد الدين اليهودي (خصوصاً فكرة الوحي الإلهي والعهد القديم)، فكان يرى أن الفلسفة اليونانية وحي عميق، ومصدراً لبيان الحقائق بينما الكتاب المقدَّس وحي واضح جلي لبيان ما في هذا الكون من حق. بل إنه كان يرى، شأنه شأن كثير من الكُتَّاب اليهود المتأغرقين. أن الفلسفة اليونانية مأخوذة من التقاليد العبرية، وأن أفلاطون وأرسطو أخذا تعاليمهما من موسى ومن التوراة. ورغم كل هذا، لا يمكن تصنيف فلسفة فيلون إلا على أنها فلسفة يونانية تنتمي أساساً إلى التقاليد الأفلاطونية بعد اختلاطها بالعبادات السرية.

والوجود الإلهي في نظر فيلون هو الكمال المطلق، والوجود الحق، والموجود حقاً، والصلة الأولى، وأبو العالم ونفسه وروحه الذي لا يمكن أن نعرفه بإدراك عقلي ولا يستطيع الفكر إدراك كنهه، أو هو (بمعنى أدق) لا يدخل في نطاق العقل الإنساني (وبهذا فهو يشبه الإله الخفي في الفكر القبَّالي والفكر الغنوصي). والإله لا يسـتطيع أن يحكم هذا العالم مباشـرةً، فاستعان فيلون بالمفهوم الأفلاطوني الخاص بالأشكال أو النماذج المثالية أو الأفكار المطلقة والتي يسميها فيلون «القوى التي تحدد أشكال العالم المرئي». هذه الأشكال هي أفكار الإله قبل خلق العالم، ولذا، فهي أدواته التي يفرض من خلالها النظام على العالم. ويُفسِّر فيلون رغبة موسى في أن يرى جلال الإله رؤية العين، فيقول: إنها رغبة في رؤية القوى الإلهية، لكن الإله يخبره أن أحداً لا يمكنه أن يدرك هذه القوى، بل يمكن فقط رؤية أثرها في العالم تماماً كما يرى الإنسان أثر الختم في الشمع دون أن يرى الختم نفسه. فهذه القوى هي مصدر كل من البنية الكامنة والنظام الواضح في العالم، وهي بمنزلة الوسيط بين الملك والكون.

وأهم الوسطاء (والفكرة العليا التي توحِّد القوى كافة) اللوجوس (الكلمة) التي تُعبِّر عن الإله ولكنها منفصلة عنه. فمن خلالها خلق الإله العالم، وبواسطتها يتجلى في الوجود كما تتجلى آثار الشمس في أضوائها. وبهذه الوسيلة، فإنه موجود دائماً، حاضر في كل شيء، فعّال في الأشياء التي تفيض منه دون أن ينفعل على الإطلاق. إن اللوجوس هو الوكيل الذي تتجلى من خلاله عظمة الإله في العالم المادي. وقد سماه فيلون «أول أبناء الإله» و«صورة الإله». وقد يكون اللوجـوس هو ما يتجسـد في التوراة التي أرسـلها الإله للبشـر. واللوجوس لا يحل فقط في الكون والتوراة وإنما يحل في الإنسان نفسه أيضاً. فأرواح البشر أصلها الإله، ولذا فإن الإنسان يمكنه أن يصل إلى فهم طبيعة الإله لا من خلال الإدراك الروحي وإنما من خلال التأمل الصوفي وروح النبوة. وحتى يتم ملء كل الثغرات تماماً (وهذا متوقع في رؤية حلولية كمونية فيضية للإله). يقول فيلون: بعد اللوجوس، يأتي نموذج العالم ويليه الحكمة ثم رجل الإله أو آدم الأول ثم الملائكة ثم الإله نفسه، وأخيراً القوى وهي كثيرة: ملائكة وجن ناريون وهوائيون يُنفِّذون الأمر الإلهي. والتماثل البنيوي بين هذه الأفكار والقبَّالاه واضح للغاية. وعلى كلٍّ، ورغم مهاجمة فيلون للغنوصية، فثمة أثر واضح للغنوصية في فكره يتضح بشكل خاص في رؤيته للجسد باعتباره سجن الروح التي تهرب من الجسد وتعود للإله وتلتحم به.

وثمة رأي يذهب إلى أن النزعة الحلولية القوية في فكر فيلون هي في واقع الأمر محاولة من جانبه لأن يجعل اليهودية قادرة على التنافس مع عبادات الأسرار (الحلولية) ذات الطابع التبشيري القوي والتي جذبت كثيراً من أعضاء الجماعات اليهودية. وهذا تفسير براني تراكمي، فالفلسفات والعبادات التي انتشرت في العالم الوثني الروماني بعد أفلاطون وأرسطو (الرواقية ـ الأبيقورية ـ الفيثاغورثية الجديدة ـ الأفلاطونية الحديثة ـ الغنوصية ـ الأورفية... إلخ). كانت فلسفات وعقائد حلولية. وفيلون السكندري جزء من هذا التيار الحضاري العام بغض النظر عن البُعد اليهودي في تفكيره ووجدانه.

وتأخذ الحلولية عند فيلون طابعاً كوزموبوليتانياً كونياً (كما هو الحال في الرواقية والأبيقورية والأفلاطونية الحديثة). ولذا، فإن الإله ليس رب اليهود وإنما هو رب الكون. ويتوقف الحديث عن الشعب المقدَّس، ولا يوجد أثر للنزعة المشيحانية المرتبطة بالحلولية اليهودية. وقد أوَّل فيلون قضية جمع شمل اليهود في بلد واحد بعد توبتهم (أي الشتات والعودة) بأنه يعني اجتماع الفضائل في النفس وتناسقها بعد ما تُحدثه الرذيلة من تشتُّت. أما الوعد بخيرات مادية للشعب، فهو وعد بالخيرات الروحية للنفس الصالحة وسيادة الشريعة على العالم. ويفسر فيلون كلمة «يسرائيل» بأنها « الرجل أو الشعب الذي يرى الإله ». وهذا أمر ليس مقصوراً على اليهود وحسب، وكل ما في الأمر أن اليهود يقومون على خدمته. واليهودية، من ثم، ليست انتماء عرْقياً وإنما عقيدة دينية. وعلى ذلك، فقد كان فيلون من دعاة التبشير باليهودية وبأنه يتعيَّن على اليهودي أن يكون مواطناً في البلد الذي يقيم فيه.

ويتجاوز فيلون أحياناً المنظومة الحلولية، فيُظهر الإله منزهاً عن الكون، غير خاضع لقوانين الطبيعة، قادراً على أن يوقفها. كما أن التشبيهات الغليظة والصور التجسيمية التي ترد في العهد القديم (وهي تعبير عن الحلولية اليهودية) يتم تأويلها وتخليصها من ماديتها. كما لجأ إلى التفسير الرمزي لمعاني العهد القديم حتى يخلِّص كثيراً من النصوص من معانيها الحلولية الوثنية إن فُسِّرت حرفياً. وفي المجال الأخلاقي، يتميَّز فيلون عن الحلولية الوثنية بأنه يؤمن بحرية الإرادة. وحينما تحدث عن الفضائل فقد تحدث عن فضيلة العدالة وأدرج الإيمان الديني والإنسانية ضمن الفضائل، كما أنه يرى أن الندم على الخطايا فضيلة (بينما هو ضعف من وجهة نظر الفلاسفة الوثنيين).

وكتابات فيلون إسقاط لكثير من القيم الهيلينية على التراث الديني اليهودي وليست مزجاً بينهما. ومن ثم، فإنه لم يترك أثراً واضحاً في التطور اللاحق للفكر الديني اليهودي، في حين استفاد منه الآباء المسيحيون (أمبروزو و أوريجين) استفادة بالغة بحيث يمكن أن نقول إن فلسفة فيلون هي مسيحية جنينية. وقد تركت طريقته في التأويل الرمزي أعمق الأثر في التراث المسيحي ومن أهم إضافاته أيضاً رموز الأنبياء.

وقد صنفته الموسوعة البريطانية كرائد من رواد اللاهوت (بالإنجليزية: فورانر forerunner) المسيحي ومؤسس الفلسفة الوسيطة المسيحية.

موسى بن ميمون (1135-1204) والفلسفة الإسلامية

Maimonides and Islamic Philosophy

موسى بن عبد الله بن ميمون القرطبي. مفكر عربي إسلاميُّ الحضارة والفكر يؤمن باليهودية وعضو في الجماعة اليهودية في إسبانيا الإسلامية. وُلد في قرطبة لأسرة من القضاة والعلماء اليهود. وعُرف أيضاً باسم «رمبم» وهي الحروف الأولى من اسمه ولقبه حيث تجيء الراء اختصاراً لكلمة «رابي» أى «حاخام». وكان من الأقوال المأثورة بين اليهود قولهم « لم يظهر رجل كموسى من أيام موسى إلا موسى » وذلك لأنه كان بارعاً في آداب الدين والعهد القديم والطب والعلوم الرياضية والفلسفة. تلقى تعليماً عربياً ودينياً يهودياً، ومن بين شيوخه تلميذ من تلاميذ ابن باجه.

وحين استولى الموحِّدون على قرطبة عام 1148، اتخذوا سياسة متشددة تجاه الأقليات الدينية بسبب تصاعد المواجهة مع الدولة المسيحية في شمال شبه جزيرة أيبريا. وقد خُيِّر اليهود والمسيحيون بين أن يسلموا أو يرحلوا خلال مدة محددة. وبقي موسى بن ميمون وأظهر الإسلام حتى أتته الفرصة فسافر إلى فلسطين ومكث فيها بعض الوقت ومنها ذهب إلى الإسكندرية ثم إلى الفسطاط فعاش بين أعضاء الجماعة اليهودية وأظهر اليهودية وتزوج بنت كاتب يهودي وشمله القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني برعايته وقدر له راتباً كطبيب. وفي آخر عمره دخل مصر فقيه أندلسي فشنع عليه وهاجمه لأنه كان بالأندلس يُظهر الإسلام فدافع عنه القاضي عبد الرحيم بأنه أسلم مكرهاً فلا يصح إسلامه شرعاً. وقد عمل ابن ميمون في بداية الأمر تاجر جواهر ثم طبيباً للوزير القاضي الفاضل. وحينما تولى ابن صلاح الدين (الأفضل) الملك، أصبح موسى بن ميمون طبيبه الخاص. وقد ألَّف ابن ميمون معظم كتبه أثناء إقامته في القاهرة (ومن بينها عدة كتب في الطب). ومات فيها عام 1204م.

من أهم كتبه كتاب السراج وهو تفسير دقيق للمشناه. ومن كتبه الأخرى كتاب مشنيه توراه أي «تثنية التوراة» وهو الكتاب الوحيد الذي كتبه بالعبرية حتى يستطيع كل قضاة اليهود قرّاءته والاستفادة بما جاء فيه ولا يضطروا إلى العودة للتلمود. والكتاب عمل تصنيفي متأثر بالتصنيفات الإسلامية المماثلة، رتب فيه في نظام منطقي وبإيجاز واضح ما حواه العهد القديم من قوانين بالإضافة إلى جميع قوانين المشناه والجماراه.

وإذا كانت طريقة التلمود هي عرض الموضوع وإفساح المجال للمناقشة بين أصحاب المذاهب والآراء المختلفة بدون ترجيح في أغلب المشكلات، فإن ابن ميمون اعتمد على رجاحة عقله وعلى التقاليد الموروثة في الحكم بشكل مجرد. وهو لا يجمع روايات ولا يدخل في غمرة مناقشات، بل يُفصِّل تفصيلاً ويحكم حكماً صريحاً مبيناً. ومن هنا، نراه لا يشير إلى مصادر أو إلى أسانيد أو إلى أصحاب المذاهب من أحبار التلمود إذ ليست المذاهب جوهر الموضوع الذي يبحثه. وقد ُسمِّي هذا الكتاب اليد القوية (يد حازاقاه)، وكلمـة «يـد» تعـادل الرقـم 14 وهـو عدد فصول الكتاب.

أما أهم كتب ابن ميمون على الإطلاق فهو كتاب دلالة الحائرين الذي كتبه بالعربية ثم تُرجم إلى العبرية، وهو مقسَّم إلى ثلاثة فصول. ويحاول ابن ميمون في هذا الكتاب أن يُوفِّق بين العقل والدين، لأن العقل غرسه الخالق في الإنسان. وحينما يبحث ابن ميمون في الذات الإلهية، فإنه يستنتج مما في الكون من شواهد التنظيم المُحكَم أن عقلاً سامياً يسيطر على هذا الكون. فالخالق حسب رأيه عاقل ولا جسم له، وكل العبارات التي تشير إلى شيء من أعضاء الجسم في وصف الخالق يجب أن تُفسَّر تفسيراً مجازياً. وصفاته لا تنفصل عن ماهيته وهو المحرِّك الأول والصلة الأولى الواجبة. وهو خالق العالم من العدم، ولذا فهو يدحض فكرة أرسطو الخاصة بأزلية الكون. والعالم كلٌ تترابط أجزاؤه على أساس قوانين معينة تتوقف في كليتها على فعل الخلق (أي عملية الخلق) ذاته، وهو فعل لا نظير له في التاريخ، وهذا الرأي يقترب من رأيالأشاعرة رغم هجوم ابن ميمون عليهم. ويصر ابن ميمون على فكرة فعل الخلق هذه إذ بدونها يصبح العالم عبارة عن مادة محضة تتحرك بقانون السببية المادي. وهو يضيف أنه لو كان هذا هو الوضع حقاً لفهمنا كل شيء في الطبيعة بقوانين المنطق. ولكن هناك في الطبيعة من الظواهر ما لا يمكننا فهمه.

تعرَّض موسى بن ميمون للمعجزات فآمن بإمكانية حدوثها، ولكنه حاول أن يُبقي هذه الإمكانية في أدنى حد ممكن. وفسَّر بعض ما ورد من المعجزات في العهد القديم تفسيراً علمياً وأوَّل كثيراً من الأفكار الدينية اليهودية تأويلاً يجعلها تتفق مع العقل. ويتعرض الكتاب أيضاً لطبيعة النبوَّة حيث عرَّفها بأنها ظاهرة تكاد تكون طبيعية يستطيع المرء أن يصل إليها من خلال المران اللازم حتى يرتفع إلى الكمال الخلقي والعقـلي. ولكن، مع هـذا، ليس بإمكان النبي أن يصبح نبياً إلا بإرادة الخالق. وأبو الأنبياء هو موسى، فكل الأنبياء يأتيهم الوحي منقطعاً، أما موسى فقد أتى بشريعة وأطلق نبوءته بشكل مستمر. وشريعة موسى من أهم المعجزات في التاريخ، ومع هذا كان على الشريعة أن تتنازل للعقل الشعبي، ومن هنا تأتي بعض الشعائر مثل تقديم الضحايا والقرّابين التي تُعَدُّ تنازلاً لهذا العقل الذي ينجذب دائماً نحو الوثنية (ولذا لا يمكنه تخيُّل عبادة بدون تضحية).

والشر، حسب رأي ابن ميمون، ليس له وجود ذاتي موجَب وإنما هو انتفاء الخير. وكثير مما يبدو لنا أنه شر في ذاته إنما هو نتيجة خطأ الإنسان. كما أن الإنسان لا يمكنه أن يعرف الغرض الإلهي النهائي. وقد خلق الإله العالم بإرادته وحكمته. وعناية الإله لا تتوقف عند النوع والعام وإنما تصل إلى الأفراد، وهي تتناسب مع جهد الفرد في أن ينشِّط عقله ويسمو به. ثم يتحدث ابن ميمون عن دين الكمال الإنساني، دين قوامه التأمل الفلسفي في الخالق. ويضرب مثلاً ليوضح فكرته فيشبِّه مستويات العقل الإنساني بمجموعات من الناس يقفون حول قصر الملك بعضهم خارج حوائط المدينة، وهؤلاء هم الذين لا يؤمنون بعقيدة ما. وبعضهم داخلها، وهؤلاء يؤمنون بعقيدة ولكنهم وقعوا في خطأ ما أثناء تأملهم أو أنهم اتبعوا رأي حجة وقع هو نفسه في الخطأ. ويحاول بعضهم دخول قصر الملك ولكنهم لا يستطيعون لأنهم لا يعرفون الطريق (وهؤلاء هم الذين يعرفون الشريعة بسذاجة). وهناك من يسيرون حول القصر (وهم علماء اليهود الذين يؤمنون بالآراء الدينية الصائبة ولكنهم لا يتأملون فلسفياً). أما في داخل القصر، فهناك هؤلاء الذين انغمسوا في تأمل مبادئ الدين، ولهؤلاء كتب ابن ميمون كتابه.

والتأمل الفلسفي في الخالق يعادل حب الإله. ولكن هل يعني هذا الرغبة الصوفية في الاتحاد به؟ يقتبس ابن ميمون من سفر إرميا (9/23 ـ 24): "لا يفتخرنَّ الحكيم بحكمته ولا يفتخر الجبار بجبروته ولا يفتخر الغني بغناه. بل بهذا ليفتخرنَّ المفتخر: بأنه يفهم ويعرفني أني أنا الرب الصانع رحمة وقضاء وعدلاً في الأرض لأني بهذه أُسر". ويُفسِّر ابن ميمون هذه الكلمات بأن الخالق يُسرُّ بمقدرة الإنسان على أن يسمو على كل ما هو متغير مثل القوة الجسدية والكمال الجسدي. ويذهب ابن ميمون إلى أن السلوك الأخلاقي ذاته لا يحقق هذا إذ أنه خاضع للتغير باعتبار أنه يتوقف على وجود الآخرين. وعلى الفرد أن يطمح إلى أن يُشبه اكتفاء الخالق بذاته. ولا توجد صفةواحدة يستطيع الإنسان أن يحقق من خلالها هذا الاكتفاء إلا معرفة الخالق داخل الحدود المتاحة للإنسان (أي صفاته) وهي معرفة تدفع الإنسان إلى أن يحاول محاكاةالخالق.

وضع ابن ميمون ما يُعرَف بالأصول الثلاثة عشر (بالعبرية: شلوشاه عسار عيقاريم) لليهودية، وهي أهم محاولة لتحديد عقائد الدين اليهودي، التي وردت في مقدمة ابن ميمون لكتاب السنهدرين في كتاب السراج، وهي في جوهرها لا تختلف عن المعتقدات الإسلامية كثيراً، فهي تنفي أية حلولية عن الإله:

1 ـ الإله هو خالق ومدبِّر هذا الكون.

2 ـ واحد منذ الأزل وإلى الأبد.

3 ـ لا جسد له ولا تحدُّه حدود الجسد.

4 ـ هو الأول والآخر.

5 ـ على اليهودي ألا يعبد إلا إيّاه.

6 ـ كلام الأنبياء حق.

7 ـ موسى أبو الأنبياء؛ من جاء قبله ومن جاء بعده.

8 ـ التوراة التي بين يدي اليهود هي التي أُعطيت لموسى.

9 ـ التوراة غير قابلة للتغيير ولن تنسخها شريعة أخرى.

10 ـ الخالق عالم بكل أعمال البشر وأفكارهم.

11ـ إنه يجزي الحافظين لوصاياه ويعاقب المخالفين لهـا.

12 ـ سيجيء الماشيَّح، وعلى اليهودي انتظاره.

13 ـ على اليهودي أن يؤمن بقيامة الموتى.

ويوجد نوعان من الاختلاف بين هذه الأصول وبين العقائد الإسلامية؛ اختلاف سطحي ينصرف إلى الألفاظ لا إلى البنية حين يحل موسـى بن ميمـون كلمـة «توراة» محل «القرآن» وكلمة «موسى» محل «محمد»، واختلاف أساسي بنيوي يتعلق بالعقيدة الخاصة بعودة الماشيَّح. ولكننا، حتى في هذا المجال، نجد أن موسى بن ميمون يحاول أن يضفي عليها صيغة عقلية إذ يذهب إلى أن عصر الخلاص بعودة الماشيَّح سيأتي في مسار التاريخ وسيكون حدثاً يتم في هدوء بعيداً عن أية كوارث وعلامات للظهور، وسيأخذ شكل عصر جديد لا يختلف عن عصرنا هذا وإن كان سيأخذ شكلاً أعلى من أشكال التنظيم الاجتماعي والسياسي. ورغم تأثر موسى بن ميمون بالفكر الإسلامي العقلاني في كتابات الفارابي وابن سينا وربما ابن رشد، فإنه يؤمن بأن الشريعة الشفوية (التلمود) مرسلة من الإله ويشير إلى الشعب المقدَّس والشعب المختار.

وقد ذهب موسى بن ميمون إلى أن العقيدة اليهودية وفكرة الخالق لا يمكن فهمهما واستيعابهما إلا من خلال الفلسفة الأرسطية، وإلى أن أيَّ تفسيرات أخرى هي شكل من أشكال الوثنية، ولذا يجب أن نلقن الناس (حتى العوام) التعريف الدقيق للخالق.

ويبدو أن بعض أقواله تحتمل تأويلات يُفهَم منها أنها إلحادية أو تبث الشك في قلوب المؤمنين، مثل قوله إن جوهر الإله غامض على الإنسان ولا يمكنه فهمه. وهناك ما يوحي بأنه لا يؤمن بالبعث، خصوصاً أن فكرة الآخرة ظلت باهتة في اليهودية. كما أنه كان يؤمن بأن النبوَّة أمر يحققه الإنسان من خلال الجهد العقلي. ومن ثم ذهب بعض علماء اليهود إلى أن الأرسطية الميمونية تشوِّه معنى الكتاب المقدَّس وأن ابن ميمون يظهر احتراماً لأرسطو أكثر من احترامه لنصوص الكتاب المقدَّس أو التراث الحاخامي.

ولذا، حدثت مواجهة بين أنصار ابن ميمون وأعدائه. ففي عام 1230 حاول معارضوه أن يمنعوا دراسة دلالة الحائرين والأجزاء الفلسفية في كتاب مشنيه توراه. وكان نحمانيدس ضمن مهاجميه، بل واستعدى بعض اليهود في بروفانس (فرنسا) محاكم التفتيش على كتابات ابن ميمون فأُحرقت عام 1232. واندلع السجال مرة أخرى عام 1300 ومُنعت دراسة كتابات ابن ميمون قبل سن الخامسة والعشرين. وانتهى السجال حين طُرد اليهود من فرنسا عام 1306.

ويبدو أن أعمال موسى بن ميمون لم تكن لها أهمية تذكر في العالم الإسلامي بين المثقفين المسلمين، فلم يسمع أحد بأعماله في الحوار الفلسفي في عصره، إذ أن ابن رشد أهم فلاسفة وعلماء عصره لم يسمع عنه ولم يقرأ أياً من كتبه. ولا ندري إن كان هذا يرجع إلى أن فكر ابن ميمون لا يتسم بالأصالة أم إلى أن الثقافة العربية اليهودية في الأندلس كانت ثقافة تابعة للحضارة الأم إلى درجة كبيرة، أم أن ذلك يرجع إلى أن مؤلفاته كُتبت بحروف عبرية فظلت مجهولة لجمهرة القرّاء والمثقفين؟

وقد بعثت حركة التنوير اليهودية كتاباته لإدخال شيء من العقلانية على الدين اليهودي بعد أن خنقته الدراسات التلمودية والاهتمامات الحسيدية والقبَّالية. ومن بين المتأثرين بفكره، إسبينوزا وموسى مندلسون (أبو حركة التنوير اليهودية) وهرمان كوهين. بل إن كتابات ابن ميمون تُعَدُّ النقطة الأساسية التي اجتمع عليها دعاة التنوير، وهي إطار مرجعي أساسي لليهودية الإصلاحية.

باروخ إسبينوزا (1632-1677) والعقلانية المادية

Baruch Spinoza and Materialist Rationalism

فيلسـوف عقلاني مادي. من أهم فلاسـفة الحضارة الغربية الحديثة، بل هو في تصوُّرنا (مع نيتشه ومن بعده دريدا) فيلسوف العلمانية الأكبر. عاش في هولندا، ولكنه من أصل ماراني. أفصح أبوه وجده عن انتمائهما اليهودي بعد وصولهما إلى أمستردام حيث أصبحا من قادة الجماعة اليهودية ومن كبار التجار فيها، وكانا يعملان بالاستيراد أساساً. وبإمكان القارئ أن يعود إلى مدخل «هولندا» لمعرفة الخلفية الاقتصادية والثقافية العامة ليهود أمستردام في القرن السابع عشر.

ومن المعروف أن أزمة اليهودية الحاخامية كانت قد بدأت في القرن السابع عشر، وهي الأزمة التي قوضت دعائمها بحيث أصبحت في نهاية الأمر عقيدة أقلية صغيرة من يهود العالم، إذ تبنَّى بقية أعضاء الجماعات اليهودية أشكالاً مختلفة من اليهودية (مثل اليهودية التجديدية) ليس لها علاقة كبيرة باليهودية الحاخامية. ومن أهم مظاهر هذه الأزمة سيطرة القبَّالاه، خصوصاً اللوريانية، على معظم يهود أوربا ابتداءً من منتصف القرن السادس عشر، وهي صيغة حلولية كمونية واحدية (وحدة وجود روحية لم يبق فيها من الإله سوى الاسم) استوعبها إسبينوزا وغيره من أعضاء الجماعات اليهودية، وأثرت في رؤيتهم للعالم بشكل عميق. تلقى إسبينوزا تعليماً تقليدياً فدرس التلمود، ولكن التفسيرات القبَّالية كانت قد تغلغلت حتى في المدارس التلمودية العليا (يشيفا)، وأصبحت تفاسير التلمود ذات طابع قبَّالي لورياني، وقرأ كتابات ابن ميمون وتعرف من خلالها إلى فكر ابن رشد، كما درس اللاتينية. وإلى جانب ذلك، كان إسبينوزا يجيد الإسبانية والبرتغالية والعبرية وكان ملماً بالفرنسية والإيطالية، الأمر الذي فتح له كثيراً من الآفاق فدرس فكر عصر النهضة الأوربية، وقرأ أعمال ديكارت وهوبز اللذين تركا أعمق الأثر فيه، واستوعب فكر جوردانو برونو وهو فكر ذو طابع حلولي كموني واضح. وتعلَّم إسبينوزا اللاتينية على يد فان دن اندج، كما تلقى على يديه أيضاً مبدأ وحدة الوجود.

ويبدو أن إسبينوزا كان يُعد نفسه ليكون حاخاماً. وكان يعمل في تجارة أبيه وكذلك كانت تربطه علاقة طيبة بكثير من المسيحيين الهولنديين الذين بدأت ترتفع بينهم معدلات العلمنة. وكانت هولندا آنذاك مسرحاً للاضطرابات بين أنصار بيت أورانج والنبلاء (والجماهير) من جهة، والطبقة الوسطى الثرية التي كانت لها اتجاهات جمهورية من جهة أخرى. وقد أعلن إسبينوزا تمرده على العقيدة اليهودية (وكل العقائد في واقع الأمر)، وحاول الحاخامات رشوته في بادئ الأمر حتى يخفي رأيه، ولكنه أصر عليه وعلى إعلانه، فاتُهم بالإلحاد وطُرد من حظيرة الدين، فقبل هذا القرّار بهدوء ولكنه لم يتبن عقيدة دينية جديدة بديلة. وانتقل ليعيش بعيداً عن الحي اليهودي، وغيَّر اسمه إلى «بنيديكتوس Benedictus» (المرادف اللاتيني لاسم «باروخ» أي «مبارك»)، وعاش على صقل العدسات البصرية.

لم ينشر إسبينوزا سوى كتابين في حياته ولم يصدر باسمه سوى واحد منهما فقط وهو مبادئ الفلسفة الديكارتية، أما الكتاب الثاني فهو رسالة في اللاهوت والسياسة. ونُشرت بقية مؤلفاته بعد وفاته ومن بينها الأخلاق و البحث السياسي و إصلاح العقل و الرسائل و رسالة في النحو العبري. وتتسم فلسفة إسبينوزا بشمولها، فهي نظرية في الدين والدنيا، وفي الأخلاق والعاطفة، وفي الإنسان والطبيعة، وفي الفرد والمجتمع. وتدور معظم (إن لم يكن كل) النمـاذج والمنظـومات الفكرية حول عناصر ثلاثـة، الإله والطبيعة والإنسان، والعلاقة بينها. وإذا كان هذا القول ينطبق على معظم النماذج الفكرية، فهو أكثر انطباقاً على فلسفة إسبينوزا إذ تدور فلسفته حول هذه العناصر الثلاثة بشكل واضح.

أولاً: رؤية إسبينوزا للإله والطبيعة:

يُفرِّق إسبينوزا بين الجوهر (ما يوجد وهو علة ذاته)، وبين الصفات (الجوهر كما ينكشف للمعرفة)، والأحوال (ما يطرأ على الجوهر)، وكلها جزء من الجوهر الواحد الأزلي اللامتناهي. هذا الجوهر هو الإله الذي يصفه إسبينوزا بأنه الوجود الضروري اللانهائي الأزلي الشامل. وحينما تُطرَح هذه الأوصاف قد نظن لأول وهلة أننا أمام إله متجاوز للطبيعة والتاريخ، ولكننا حينما ندقق النظر سنكتشف أن صفات الإله هي ذاتها صفات الطبيعة. فالطبيعة لا تأتي من أية علة (أي أنها علة ذاتها) وهي مبدأ خلاق وهي النظام الكلي الشامل للعالم.

وقد استخدم إسبينوزا للتفرقة بين تصوري الإله والطبيعة تعبيرين لاتينيين «ناتورا ناتورانز natura naturans»، أي «الطبيعة الطابعة»، و«ناتورا ناتوراتا natura naturata»، أي «الطبيعة المطبوعة». والطبيعة الطابعة هي النظام الشامل للأشياء من حيث هو ذو وجود ضروري، ولا يمكن أن يتم تصوُّره بغيره لأن شيئاً لا يخرج عنه، كما أن العلة كامنة فيه باطنة، أي لا يتحكم فيه شيء خارج عنه. أما الطبيعة المطبوعة، فهي الأوجه الجزئية أو المكوِّنات الموجودة في العالم من حيث هي تعبير جزئي عن صفات الجوهر الشاملة. ويمكن القول بأن «الطبيعة الطابعة» هي الإله/الطبيعة في حالة اكتمال، أما الطبيعة/المطبوعة فهي الإله/الطبيعة في حالة صيرورة آخذاً في التحقق في المادة (وهذا يقابل العقل المطلق عند هيجل ثم تحقُّقه من خلال الجدل داخل الطبيعة إلى أن يكتمل في نهاية التاريخ).

وبهذا، ردَّ إسبينوزا العالم بأسره، في ثباته وحركته، إلى مبدأ واحد، وهذا المبدأ هو القوة الدافعة للمادة والسارية في الأجسام، الكامنة فيها، والتي تتخلل ثناياها وتضبطوجودها، قوة لا تتجزأ ولا يتجاوزها شيء ولا يعلو عليها أحد، وهي النظام الضروري والكلي للأشياء، نظام ليس فوق الطبيعة وحسب ولكنه فوق الإنسان أيضاً. ويُسمي دعاة وحدة الوجود الروحية هذا المبدأ «الإله» ويسميه دعاة وحدة الوجود المادية «الطبيعة»، ويكتشف إسبينوزا التقابل بين شكلي وحدة الوجود ويؤكد هذه الحقيقةالأساسية بالنسبة لمنظومته الفلسفية في عبارته اللاتينية الشهيرة «ديوس سيفي ناتورا Deus sive natura» وهي عبارة تعني «الإله أي الطبيعة». والطبيعة هي النظام الكلي للأشياء، ومن ثم فإن الإله هو النظام الكلي للأشياء.

وإن أدركنا هذا الترادف الحرفي (وليس التقابل المجازي) بين الإله والطبيعة، فإننا سندرك أن إله إسبينوزا ليس إله الديانات التوحيدية التقليدية، إذ تذهب هذه الديانات إلى أن الإله مفارق للطبيعة والتاريخ متجاوز لهما، ومع هذا فإنه منشغل بمصير البشر، رحيم بهم، يرسل لهم العلامات والرسائل. الإله في نسق إسبينوزا هو مجرد علة أولى أو قانون لا يعلو على المادة بل يحل أو يكمن فيها، فهو النظام الثابت المحدد للطبيعة أو سلسلة الحوادث الطبيعية التي هي الحركة الآلية التي تعبِّر عن القوانين الثابتة. وعلاقته بالعالم ليست علاقة خلق فهو لم يخلق العالـم من العـدم بل ولم يصـدر عنه العالم (كما يقول الغنوصيون وغيرهـم)، فالأشياء لا تصدر عنه كما لو كانت تصدر عن خالق موجود في الخارج سابق عليها وإنما العالم تال بالضرورة لطبيعة الإله أو ينبثـق عنه مثلما ينتج من تعريف المثلث أن مجموع زواياه يسـاوي قائمتين. فالعلاقة، إذن، منطقية وباقية أشبه ما تكون بعلاقة السبب بالنتيجة، شريطة أن نرى الأسباب والنتائج في حالة تلاصق كامل لا تفصلهما ثغرة زمنية أو مسافة. والحديث عن خلق العالم تحقيقاً لغرض إلهي هو بمثابة إسناد أغراض إنسانية (أغراضنا نحن البشر) إليه هو المتجرد. وبالتالي، فهو إله غير شخصي غير إنساني محايد غير مكترث بآلام البشـر أو أفراحهـم أو خيرهم أو شـرهم أو ثوابهم أو عقابهم، لا يتدخل البتة في شئونهم. بل إنه إله بلا إرادة، فكل ما يحدث لا يمكن أن يحدث إلا بهذه الطريقة، وكما يقول إسبينوزا فإن الإله ما كان بوسعه أن " يختار " أن يسلك بطريقة مختلفة عن تلك التي يسلك بها بالفعل، أي أن ثمة حتمية آلية تتجاوز البشر والطبيعة والإله. فالإله، إذن وببساطة بالغة، هو المبدأ المادي الأوحد في الكون، قوة قد يصل الموجود الطبيعي إلى كماله الطبيعي من خلالها، ولكنها أيضاً قوة لا تكترث بالتمايز الفردي، ولا تمنح الإنسان أية منزلة خاصة.

وفي ضوء هذا التعريف المبدئي، لابد أن يُعاد تعريف معجم إسـبينوزا. فأزلية الإله ليـست أزلية منفصـلة عن الزمـان وإنما هي أزلية الماهية، أي أزلية الضرورة المنطقية، أي الوجود الآلي للشيء (مثل لا زمانية الموضوعات الهندسية). إنه أزلي بالمعنى الذي تكون فيه ماهية الدائرة أزلية. والأمر الإلهي والإرادة الإلهية والعناية الإلهية ما هي إلا نظام الطبيعة كما ينبثق بالضرورة من قوانينها الحتمية. وكل ما يحدث هو إرادة الإله، ولكن ما حدث لا يحدث من خلال إرادة إله عاقل خيِّر شخصي وإنما من خلال حتمية مطلقة. فالإرادة تحدث لأنها مقرَّر لها أن تحدث ولا يمكن لإرادة الإله، إن وُجدت (وهي بطبيعة الحال غير موجودة)، أن تغيِّر ذلك. ولذا، فإن قبلنا مفهوم عون الإله، فنحن نعني النظام الثابت، والقول بأن « كل شيء يحدث بأمر الإله » يعني في واقع الأمر أن « كل شيء يحدث وفقاً لقوانين الطبيعة ».

الإله هو الطبيعة، وكلاهما هو النظام الثابت والمحدد للطبيعة، أي أنه لا توجد أية ثغرات أو فجوات في هذا النموذج، فهو نموذج مغلق تماماً، سلسلة من الأسباب والنتائج المرتبطة رياضياً ومنطقياً وعقلياً من بدايته إلى نهايته، كل جزئية فيه تخضع لقانون صارم أزلي لا يتغيَّر، عالم مادي تماماً لا مجال فيه لروح أو لما فوق الطبيعة أو حتى ما يوازيها أو يجاورها، ولامجال فيه لأية غاية (فالغاية فكرة إنسانية يخلعها الإنسان على الطبيعة)، وهو لا مجال فيه للقلب أو الضمير أو حتى الشخصية المستقلة. فنحن أمام مذهب واحدي أحادي مادي استخدم خطاباً دينياً تقليدياً (الإله ـ الأزلية ـ الكمال)، ولذا فلنسمِّه حلولية بدون إله (وحدة وجود مادية)، وهي تعني أن الخالق حلَّ في مخلوقاته تماماً وتوحَّد بها وأصبح كامناً فيها حتى أصبح هو هم، وأصبح الخالق والمخلوق والخلق واحداً فهما مكوَّنان من جوهر واحد.

ويمكن القول بأن الواحدية والكمونية الفلسفية بلغت ذروتها عند إسبينوزا، فقد ألغى كل الثنائيات التقليدية، ولذا فنحن نرى أن فلسفته هي نظام مادي خال من أية رواسب دينية سوى المصطلح، بل يمكن القول بأنه من أكثر النظم المادية تبلوراً ومن أكثرها نقاءً وخلواً من العناصر غير المادية. فالإله هو الطبيعة، والعقل هو الجسم، والفكرة هي الموضوع، والدال هو المدلول، والجوهر هو الصفة، والكون كله ـ كما أسلفنا ـ هو في نهاية الأمر جوهر واحد لا متناه ذو صفات عديدة يُدرَك منها الفكر والامتداد. ولكن الموجودات، في علاقتها بالجوهر الواحد، تشبه الأمواج في علاقتها بالمحيط، أي أنها أجزاء مستقلة بشكل ظاهري وحسب، إذ لا وجود لها خارج الواحد المادي.

ثانياً: رؤية إسبينوزا للإنسان:

بعد أن تناولنا موقف إسبينوزا من الإله والطبيعة، يمكننا الآن تناول موقفه من الإنسان. فنقطة البدء عند إسبينوزا، كما هو الحال مـع مفكري عصر النهضة وممثلي التفكير الإنسـاني الهيـوماني في الغرب، هي إعلان الإيمان بمقدرة العقل البشري غير المحدودة على إزالة أية عقبة قد تحول دون اقتحام هذا العقل جميع ميادين المعرفة أو تحول دون فهمه كل قوانين الطبيعة فهماً كاملاً. ومن هذا المنظور، فهو ممثل جيد للفكر الإنساني (الهيوماني) الغربي. ولكن الفكر الهيوماني، كما بيَّنا في مدخل «عصر النهضة والرؤية الإنسانية (الهيومانزم)»، يتفرع إلى رؤيتين: رؤية متمركزة حول الإنسان تدور حول ثنائية الإنسان والطبيعة، والأخرى متمركزة حول المادة تلغي هذه الثنائية. كما أن الفكر الغربي الحديث هو انتقال تدريجي من الرؤية الأولى التي تمنح الإنسان مركزية في الكون إلى الرؤية الثانية التي ترى الكون بشكل محايد ولا تمنح الإنسان أية خصوصية، بل تساوي بينه وبين كل الكائنات. وتتميَّز المنظومة الفلسفية عند إسبينوزا بأنها حققت هذا الانتقال منذ البداية بشكل جذري وجعلت منه رائداً حقيقياً للفكر الغربي الحديث وللمشروع التحديثي والتفكيكي الغربي والاستنارة المظلمة، ومن هنا جاء هجومه الشرس على ظاهرة الإنسان، بعد تمجيده للعقل، وقوله إن الإنسان يستثني نفسه بصلف شديد من قوانين الطبيعة الحتمية المحايدة ومن موضوعية الضرورة الكاملة التي لا ثغرات فيها. والإنسان، لهذا، يحاول أن يُحدث ثغرات هي في واقع الأمر المجال الذي يحاول أن يطبِّع فيه صورته البشرية (وهو ما نسميه «الحيز الإنساني»)، أي يحاول أن يتصرف كطبيعة طابعة (خالقة) لا كطبيعة مطبوعة (مخلوقة). بل إنه يَعدُّ نفسه سيداً للطبيعة ويظن نفسه سيداً مطلقاً أو أن له وضعاً خاصاً، وهو في واقع الأمر ليس سوى جزء من الطبيعة، شيء بين الأشياء يسري عليه ما يسري عليها، لا تحيط به أية أسرار ولا يتمتع بأية قداسة خاصة.

ويذهب إسبينوزا إلى أن خطأ من جاءوا قبله يَكمُن في ترددهم في أن يطبقوا على الإنسان المبادئ نفسها التي تُطبَّق على الطبيعة بوجه عام، ونظروا إلى الإنسان كاستثناء من المجرى العام للطبيعة وتحيزوا له ووضعوه في مركز مميَّز يعلو فيه سلوكه على سائر الظواهر الطبيعية. وهذا يفسر (من وجهة نظره) سبب بقاء طبيعة الإنسان مجهولة لدى الدارسين والفلاسفة، إذ ظل الإنسان ـ كظاهرة ـ غير مدرج ضمن الظواهر الطبيعية الخاضعة للبحث، مع أن كل ما يحدث في الطبيعة لا يمكن أن يُفسَّر بأنه انحراف عنها « إذ إن الطبيعة هي هي على الدوام، وهي دوماً متماثلة في أحكامها، أي أن قوانين الطبيعة وأوامرها، التي تحدث على أساسها كل الأشياء وتتغير من صورة إلى أخرى، واحدة في كل شيء وكل زمان، بحيث يجب أن يوجد منهج واحد لفهم طبيعة كل الأشياء على إطلاقها أو اختلافها»، أي أن إسبينوزا هو من رواد الدعوة إلى وحدة العلوم (ترجمة الواحدية المادية على مستوى المنهج).

ويُشبِّه إسبينوزا الإنسان بالحجر المندفع الذي قذف به أحد، ومع هذا يظن هذا الحجر أنه يتحرك بإرادته. إن الإرادة الإنسانية إن هي إلا جهل بالأسباب، فالإنسان (كالحجر) ليس سوى حلقة في السلسلة الكونية السببية الكاملة الشاملة التي لا يملك فيها من أمره شيئاً. كل هذا يعني سقوط الإنسان كهوية مستقلة وذات فاعلة حرة، فليس بإمكانه أن يطرح غاية إنسانية مستقلة عن الطبيعة. ومع هذا، يطرح إسبينوزا مفهوماً جديداً للحرية إذ يُعرِّفها بأنها اتفاق السلوك الخارجي للكائن مع الضرورة الباطنية لطبيعته وحسب، بحيث لا يرغمه شيء خارجه، أي أن حرية كل الكائنات لا يمكن أن تكون كلية، فهي دائماً جزئية. أما الحرية الكلية والمطلقة، فهي لا تتوافر إلا للكون بمعناه الشامل الذي لا يتحكم فيه شيء ولا يوجد شيء خارجه يرغمه، أي أن الإله/الطبيعة/القوانين المادية الثابتة هي الشيء الوحيد الحي، أي أن قوانين الطبيعة/المادة هي المطلق الوحيد الحق الذي لا يتقيد بأية حدود ويتجاوزها جميعاً.

وانطلاقاً من هذه الواحدية المادية، ومن هذا المفهوم للإله/الطبيعة (المادة) باعتباره الكل الذي يعلو على كل الأجزاء، يرى إسبينوزا أن الإنسـان جزء من الطبيعة ليـست له دلالة خاصة ولا يختلف عن بقية الأجزاء، فهو خاضع لقوانينها خضوع الأشياء الأخرى لها، ولذا يذهب إسبينوزا إلى ضرورة البحث في الإنسان لا باستخدام أدوات ومناهج خاصة مقصورة عليه، وإنما بالبحث فيه كما نبحث في الأجسام المادية، أي لابد من تفكيك كل الأشياء بما في ذلك الإنسان لتصبح كلها أجساماً وخطوطاً ومسطحات ومعادلات رياضية وذرات وأرقام، ومن هنا حتمية المنهج الهندسي واللغة الهندسية.

وتبنَّى إسبينوزا هذا المنهج الهندسي التفكيكي لأسباب خارجية تتصل بالعصر، وداخلية تتصل ببنية فكره. فالعصر جعل الرياضة نموذجاً ومثلاً أعلى للمعرفة البشرية في ميادينها كافة، ولذا كان على كل العلوم أن تحذو حذو الرياضة وتنحو منحاها. كما أن اتجاه إسبينوزا الماراني (أن يُظهر غير ما يُبطن، وأن يقول شيئاً ويرمي إلى عكسه) جعله يتبنى الخطاب الهندسي بحيث يتحدث عن الإله (ب) طيلة بحثه ولكن بعد أن أكد في البداية أن الطبيعة (أ) تعادل (ب)، وعلى القارئ أن يفك الشفرة ببساطة شديدة بأن يحل (أ) محل (ب). ولكن، مع هذا، يوجد داخل المنظومة الإسبينوزية ما يجعل من اختيار المنهج الهندسي أمراً شبه حتمي، فهي منظومة خالية من الثغرات، مقدماتها مرتبطة بنتائجها ارتباطاً كاملاً. وهي منظومة استبعدت الغائية والانفعالات، بل استبعدت الإنسان كعنصر حر وركزت على القوانين الثابتة المجردة. فالمنهج الهندسي، في هذا الإطار، يصبح أفضل طريقة للوصول إلى الفهم والوضوح وأعلى درجات التجريد والسببية واليقين. واستخدام اللغة الهندسية يعني تجنب الأسلوب البلاغي والإطناب واستبعاد العواطف والانفعالات الإنسانية ذاتها، وكل التشبيهات والصور المجازية التي تسترجع الإنسان. ويمكننا أن نقول أيضاً إن مفهوم وحدة العلوم الذي يبشر به إسبينوزا، إذا دُفع إلى نهايته المنطقية (ويتميَّز إسبينوزا باستعداده الكامل للقيام بهذه الخطوة)، فإنه يصل إلى عالم الهندسة والجبر، فإن المنهج الهندسي هو أصلح المناهج لفلسفة تساوي بين الإنسان والطبيعة وبين الإنسان والأشياء بحيث يتحول الكون بأسره إلى نقط وخطوط ومسطحات وأرقام، فهي فلسفة التمركز حول الموضوع بالدرجة الأولى.

ثالثاً: الرؤية المعرفية:

لا توجد في منظومة إسبينوزا الفلسفية أية فراغات بين الإله والطبيعة والإنسان، فهي منظومة مصمتة تماماً؛ شكل من أشكال الحلولية الكمونية الواحدية المادية. وهي حلولية كمونية بمعنى أن كل الأسباب تحل في المادة وقوانين الحركة كامنة فيها، ومادية بمعنى أن الأسباب لا تتجاوز المادة وأن القوانين كامنة في الأشياء لا تفارقها أبداً (إلا من خلال مقدرة العقل البشري على التجريد، وهي عملية عقلية لا تُغيّر من طبيعة الأشياء شيئاً).

ولكن الذهن والجسم في المنظومة الإسبينوزية شيء واحد، يُنظَر إليه في الحالة الأولى من خلال صفة الفكر وفي الحالة الثانية من خلال صفة الامتداد، وهو ما يعني أن الأفكار والتطلعات والأحلام والغائيات الإنسانية كلها في نهاية الأمر « إن هي إلا » تعبير عن حركة القوانين الثابتة للطبيعة/المادة/الإله. ويُلاحَظ هنا أن الذهن هو الذي يُردُّ إلى المادة، فنظام الأفكار (البناء الفوقي) لا يوازي نظام الأشياء (النظام التحتي) وإنما يُردُّ الأول للثاني.

ويتحدث إسبينوزا عن القانون الطبيعي، وهو المجرى الذي حددته الطبيعة كي يسير فيه الإنسان وكل الأشياء، وهو يسير فيه لا لأنه يريد ذلك، بل لأنه مُقدّر عليه ذلك بالطبيعة. فالطبيعة هي المصدر وهي المآل، وهي المرجعية النهائية. وقمة المعرفة الإنسانية هي معرفة ذلك، أي أن يعي الإنسان النظام الكوني ويدرك آلياته، وعليه أن يفعل ذلك من خلال ما يمكن تسميته «المنظور الكوني الموضوعي»، أي أن يستبعد الإنسان أية إرادة أو رغبات إنسانية أو اعتبارات خلقية مرتبطة بوهم مركزية الإنسان في الكون، وأن ينظر إلى الكون وإلى ذاته المتعينة كما لو كان إله إسبينوزا، أي أن يتجرد تماماً من العواطف ويُحيِّد كل انفعالات. وهو يجب أن يدرك أن العالم هو آلة دقيقة الصنع تدور حسب قوانين آلية كامنة فيها (وهذا هو جوهر الترشيد المادي العلماني: أن يُخضع الإنسان ذاته من الداخل ومن الخارج للواحدية المادية وللطبيعة/المادة، وأن يدرك ذاته في ضوء القوانين الحتمية المادية، وأن يذعن لها وأن يعيد صياغة حياته وبيئته بما يتفق معها). إن قمة المعرفة الإنسانية هي أن ينفي الإنسان ذاته من خلال معرفة القانون الطبيعي والاستسلام تماماً له (وهذا تعبير عن النزعة الرحمية التي تسم الفكر الواحدي المادي والتي تتبـدَّى في الرغبة في الانسـحاب من عـالم تذوب فيه الجزئيات في الكليات، والإنسان في الواحد المادي، حتى يتخلص من عبء الهوية ومن المسئولية التي تأتي مع حرية الاختيار الخلقي ومع إمكانية العقل، وهذه النزعة مهيمنة تماماً على منظومة إسبينوزا الفلسفية).

وإذا أدرك الإنسان انعدام هويته الإنسانية المتعينة فإن ذلك لا يسبب أي أسى أو حزن، بل العكس، فحرية الإنسان تَكمُن في فهم هذه القوانين الحتمية وفي التحرر من وهم قدرته على تغيير الأشياء، أي أن حريته تكمن في تخليه عن وهم الحرية. فالإنسان يحقق سعادته القصوى ويشعر بانفعالات إيجابية طاغية بإدراكه سيادة فكرة الضرورة وبنفي ذاته كذات فاعلة حرة، وإعادة تعريفها باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة ومجرد انعكاس للقانون العام وجزءاً من منظومة رياضية هائلة لا يوجد فيها مجال للحرية (وهذه كلها انفعالات تذكر الإنسان بصفاء النفس أتاركسيا عند الرواقيين وأباتيا عند الأبيقوريين). وهكذا يظهر الانفعال في اللحظة التي تصل فيها المعقولية إلى قمتها، أي أن الإنسان سيصل إلى قمة الفرح في اللحظة التي يشعر فيها بالمشاركة في الطبيعة بأسرها، أي يتوحد معها ويذوب فيها ويتحرر من عبء الهوية ويسقط في الرحم الكوني.

ولكن ماذا إذا لم يصل الإنسان للمعرفة الكاملة ولم يتوصل إلا إلى قدر ضئيل منها (كما هو متوقع مع معظم البشر)؟ هذا لا يعني بطبيعة الحال عدم صحة التعريفات. فقصور البشر عن إدراك القوانين الكونية الشاملة لا يعني تكذيب المبدأ القائل بأن الأشياء تخضع لضرورة شاملة، فلو عرفنا قوانينها الكاملة لاكتمل علمنا بالكون. إن إدراك قوانين الكون يجب أن يظل هدفاً يسعى إليه العلم، فهو علم يصدر عن الإيمان الكامل بأنه لا توجد عناصر متجاوزة للمادة غير كامنة فيها، وهو إيمان لابد من التمسك به حتى ولو أدَّى قصور إدراك كثير من البشر إلى عدم التوصل إلى هذه النتيجة، أي أن واحدية العالم المادية هي الأطروحة التي يصدر عنها العلم، وهي الأطروحة التي يحاول إثباتها والتي على كل البشر الإيمان الكامل بها، حتى لو لم يتمكن العلم من إثباتها. إن الواحدية الكمونية المادية هي ميتافيزيقا إسبينوزا الحقيقية.

ولكن ثمة قلة قليلة من البشر قادرة على الوصول إلى مثل هذه المعرفة. وهنا تصبح هذه القلة القليلة موضع الحلول وهنا تصبح المعادلة الحلولية ليست مجرد الإله ـ الطبيعة ـ الإنسان، أي إنسان، وإنما تصبح الإله ـ الطبيعة ـ الإنسان العارف من أمثال إسبينوزا (الذي يذكرنا بالماشيَّح في المنظومة القبَّالية، وبالإنسان الروحاني في المنظومة الغنوصية).

رابعاً: الرؤية النفسية:

يذهب إسبينوزا إلى أن الفرح المصاحب لعملية المعرفة الكونية الموضوعية لا يشكل تجرداً كاملاً من الحالة الإنسانية، ولذا فهو يؤكد أن الإحساس الأكثر ثباتاً هو نوع من الاتزان والحياد الكامل والتحرر من الخوف الذي يحققه الإنسان عن طريق الخضوع لقانون الطبيعة وللمنطق السائد في الواقع وإدراك الضرورة الكونية (قانون الضرورة). وبهذه الطريقة، نفصل الانفعال عن أسبابه المباشرة وعن الأفكار الغامضة غير الكافية ونربطه بالأفكار العقلية الصحيحة، وبذلك تتخلص النفس من عبودية الانفعال عن طريق تأمله في ضوء العقل الباهر، ويزداد المرء اقتراباً من حالة الصفاء كلما اتسع نطاق فهمه للأشياء، حتى إذا ما توصل إلى تأمل النظام الكلي للأشياء في ضرورته الشاملة حقق بذلك أسمى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان من الفضائل وأمكنه التغلب تماماً على انفعالاته عن طريق ربطها بالمنطق الكلي للأشياء. بل إن فكر الإنسان، بذلك، ينحصر في التفكير في الحياة ودون تفكير في الموت، فكأن الحلولية الكمونية المادية تحل مشكلة الموت بإلغائها. فإذا كان الإنسان مادة وحسب فإنه حينما يموت، ينحل إلى مادة ويلتحم مرة أخرى بالمادة ويعود إلى الرحم الأكبر الذي جاء منه، وهو ما يعني أنه لم تحدث تحولات، فالإنسان لا يموت لا لأنه حر بشكل مطلق، وإنما لأنه كان ميتاً من الأصل، وهو لا يفقد حريته لأنه لا يمتلكها أصلاً! ويصبح الجهد المعرفي والنفسي للإنسان منصرفاً إلى الحصول على المعرفة الشاملة التي ستبين له بما لا يقبل الشك أنه لا حرية ولا إرادة ولا حياة (مستقلة) له، أي أن الإنسان ينفي حريته بكامل حريته، وينفي إرادته بإرادته.

فالإنسان جزء لا يتجزأ من الطبيعة تسري عليه القوانين نفسها التي تسري عليها. ومن ثم، فإن الانفعالات ظواهر طبيعية خالصة منفصلة تماماً عن كل ما كان يُعزَى إليها من أسباب استثنائية متعلقة بمجال الإنسان وحده (وهذه هي نقطة انطلاق المدرسة السلوكية، وهي تعبير آخر عن وحدة العلوم والواحدية المادية). فانفعالات الإنسان لا تختلف عن انفعالات الحيوانات أو حتى الأشياء (إن استطعنا تسجيل انفعالاتها). والانفعالات هي تلك التغيرات التي تطرأ على الجسم وتزداد بها قوة هذا الجسم الفعالة أو تَنقُص وتُنَمَّى أو تُعاق. وهذا التعريف يعلمن الانفعال تماماً فيستبعد كل إشارة إلى قيم الخير والشر، بل يستبعد كل تفرقة كيفية بين انفعال وآخر ويجعل أساس التمييز بينجميع الانفعالات هو ما يؤدي إليه كل منها من زيادة أو إنقاص لقدرة الكائن على حفظ ذاته، أي المساعدة على استمراره في الوجود أو الحيلولة دون ذلك. وتُردُّ جميعالانفعالات إلى انفعالات ثلاثة: اللذة والألم والرغبة، والتي تُردُّ جميعاً بدورها إلى النزوع الأساسي للكائن (الحيوانات والإنسان) إلى حفظ ذاته أو البقاء (المنظومةالداروينية العلمانية). واللذة هي ما يساعد على حفظ الإنسان (جسمه)، والألم هو الذي يعود بالضرر على جسم الإنسان. والانفعالات التي تساعد على حفظ الذات واستمرارالوجود انفعالات تتمشى مع العقل، ومثل هذه الانفعالات هي الفضيلة، وجـوهر الفضيلة غريزة البقاء، (وتتفق مع النظام الكلي للأشياء/الإله). ومن ثم، فالسعي وراء اللذةالتي تفيدنا بحق يؤدي إلى زيادة كمالنا وبالتالي إلى ازدياد مشاركتنا في الطبيعة الإلهية (أي السير وفقاً للنظام الكلي للطبيعة) أما ما يعوق وجودنا فمن الواجب تجنبه بأي ثمن (وهذه هي الفلسفة النفعية المادية وقد تلبست ثوباً حلولياً كمونياً روحياً).

خامساً: الرؤية الأخلاقية:

تنبع رؤية إسبينوزا الأخلاقية من الإيمان بأن الإنسان جزء لا يتجزأ من الطبيعة ليس له أي استقلال عنها. والطبيعة كما يقول إسبينوزا محايدة خالية تماماً من القيم البشرية، فلا هي بالجميلة ولا بالقبيحة، ولا هي بالخيِّرة ولا بالشريرة (فهذه كلها أفكار إنسانية ذاتية لا توجد إلا في ذهن الإنسان المتمركز حول ذاته) هي « أحوال للفكر »، فالقيم الأخلاقية ليس لها مكان في المجرى الفعلي للطبيعة (الواقعية المادية). وبينما نجد أن القيم الأخلاقية في نظر كثير من الفلاسفة التقليديين (المؤمنين بوجود خالق) هي الغاية النهائية لسلوك الطبيعة بأسرها، نجد أن ظهور القيم عند إسبينوزا هو في حقيقته تعبير عن ضيق حدود الذهن الإنساني وعدم قدرته على استيعاب الطبيعة بأطرافها اللامتناهية. وهكذا يحد الإنسان نظرته إلى الطبيعة بمجال معيَّن يتأمله من خلال أمانيه ورغباته الخاصة ويفسره على أساسها، بينما لو كان قادراً على إدراك مجموعة العلاقات اللانهائية المتشابكة في الطبيعة لاختفت تماماً هذه القيم التي صنعها، ولظهر كل شيء على حقيقته جزءاً من نسق هائل لا نهائي التعقيد في الكون، ولطرح المُثُل العليا جانباً. وحيث إن الكمال هو الواقع (فكل القوانين كامنة في المادة ولا توجد خارجها)، فالأخلاق تنتقل من مجال ما ينبغي أن يكون إلى مجال ما هو كائن، وبالتالي «تجاوز إسبينوزا الحواجز بين الواقع والمثل الأعلى، وبين ما هو فعلي وما هو معيار مثالي، وأنكر الخير المطلق، وبالتالي عالم الغايات الذي تركزت فيه الأخلاق المثالية بأسرها »، وأحل بدلاً من ذلك عالماً محايداً لا غاية له ولا هدف يتحرك حسب قوانينه الداخلية. والأخلاق الحقة هي محاولة عدم إعاقة هذه القوانين عن التحقق لأن الإنسان (بتحقيقه هذه القوانين) يضمن لنفسه البقاء، فالبقاء هو القيمة المطلقة الكبرى باعتبار أن قوانين الكون ثابتة (ويُعَدُّ هذا الطرح الإسبينوزي بداية الفكرالبرجماتي).

وترتبط فكرة الحقوق (التي تساندها القوة) بالنظرية الأخلاقية. يقول إسبينوزا: « أعني بالحق الطبيعي قوانين الطبيعة نفسها أو قواعدها التي يحدث كل شيء وفقا لها، أي بعبارة أخرى قوة الطبيعة ذاتها... وعلى ذلك، فكل ما يفعله الإنسان، وفقاً لقوانين طبيعية، يفعله بحق طبيعي كامل، ويكون ما له من الحق على الطبيعة بقدر ما له من القوة ». وتحوُّل القوة هنا إلى مطلق (بدلاً من الطبيعة) أمر مفهوم ومتسق فلسفياً مع فكرة أن البقاء المادي هو القيمة. فالقوة هي التي تضمن البقاء (وداخل هذا الخطاب نسمع داروين ونيتشه وهتلر وكل الخطاب المعرفي العلماني الإمبريالي الغربي).

بل إن فكرة الحقوق تخضع لفكرة القوة « فحق كل فرد يمتد بقدر ما تمتد قوته ». وعلى أية حال، كما يقول إسبينوزا، فإن الطبيعة (مثلاً) قَدَّرت أن تأكل الأسماك الكبيرة الأسماك الصغيرة كحق طبيعي لا نزاع فيه، ذلك لأن للطبيعة الحق المطلق في أن تفعل ما تستطيع، أي أن حقها بمقدار قدرتها. وهكذا تكون الغلبة في هذه الحالة للقوى التي لا يحد من قوتها شيء إلا اصطدامها بالقوى الأخرى وتوقفها عند الحد الذي تبطلها فيه هذه القوى (تماماً كما امتدت رقعة الإمبريالية بمقدار قوة جيوشها). ولهذا، فإن حقوق الفرد لا تُحدُّ إلا بحدود قدرته، وحدود قدرته تتحدد بواسطة طبيعته. ولما كان من حق الإنسان الحكيم أن يعيش وفقاً لقوانين العقل، فإن الإنسان الجاهل أو الأحمق له مطلق الحق في أن يعيش وفقاً لقوانين الشهوة. فالجاهل أو الأحمق ليس ملزماً بأن يسير وفقاً لما يأمر به العقل المستنير، كما أن القط ليس مُلزَماً بأن يعيش وفقاً لقوانين الأسد (ولنلاحظ كيف وُلدت النسبية الأخلاقية ثم وُلد التفاوت بين البشر من داخل مفهوم القانون الطبيعي، وكيف ظهرت اللاعقلانية المادية من العقلانية المادية، وهو الاتجاه الذي وُلدت منه فيما بعد العنصرية الغربية، حيث يصبح البقاء للأصلح وللأقوى، وحيث تصبح القوة علامة التفوق الحضاري والإنساني، وحيث لا جدوى من أية منظومات معرفية أو أخلاقية).

إن للإنسان، سواء بمقتضى عقله أو بمقتضى أهوائه وشهواته، أن يسعى لتحقيق مصلحته بحسب ما يعتقد أنه مصلحته، سواء أكان ذلك بالقوة أو بالدهاء والحيلة أو بالتملق والخدعة أو بأية وسيلة أخرى. والسبب في ذلك أن الطبيعة ليست ملزمة بقوانين العقل الإنساني. كما أن أغراض الطبيعة، إن كان للطبيعة أغراض، إنما تتعلق بنظام الطبيعة وليس للإنسان في هذا النظام إلا مكان ضئيل تافه. وإذا بدا لنا في الطبيعة شيء غير معقول أو شرير، فما ذلك إلا بسبب جهلنا بنظام الطبيعة وتوقف أعضاء هذا النظام بعضها على بعض، وكذلك لأننا نريد أن يحدث كل شيء وفقاً لما يقتضيه عقلنا ومصلحتنا. ولو أننا أفلحنا في التحرر من تصوراتنا التشبيهية بالإنسان وطرائقنا الإنسانية في النظر إلى الطبيعة، لأدركنا أن الحق الطبيعي لا تحده إلا الرغبة والقوة. وليُلاحَظ هنا أننا دخلنا العصر العلماني الحديث حيث تُوجَد كل القوى المحركة داخل الأشياء (قوانين الحركة) دون احتكام لأية معايير خارجية غائية، حيث تأخذ الحركة شكل أجسام تصطدم من الخارج. ولكن هذا أمر مفهوم تماماً في السياق الإسبينوزي، فقوانين الطبيعة واحدة تسري على كل الأشياء والكائنات والأفراد والمجتمعات. وهكذا، كما حل إسبينوزا قضية الإرادة الإنسانية بإنكار الحرية، وكما حل قضية وضع الإنسان في الكون بإنكار مركزيته وأهميته، وحل مشكلة عواطف الإنسان بإنكارها هي الأخرى، فإنه يحل القضية الأخلاقية عن طريق إنكار الأخلاق تماماً وإحلال الصراع والقوة محلها.

سادساً: النظرية السياسية:

وفي هذا النسـق الواحدي تماماً، الذي يُردُّ فيه الكمال إلى الواقع، ويُردُّ الإنسان فيه إلى الطبيعة، ويتجرد الواقع فيه تماماً من القيمة، ويتجرد الإنسان فيه من القداسة ويفقد مركزيته: ما وضع الدولة؟ سنكتشف أن نظرية إسبينوزا عن الدولة امتداد لنظريته عن الطبيعة وقوانينها. ويذهب إسبينوزا إلى أن الإنسان لديه دافع طبيعي للمحافظة على نفسه، فغريزة البقاء هي جوهر الإنسان، ومن حق الإنسان أن يتخذ كل وسيلة لتحقيق هذا الغرض، وأن يعد كل من يحول بينه وبين المحافظة على نفسه عدواً له. ومن هنا، يود كل إنسان أن يعيش آمناً على حياته، متحرراً من الخوف. لكن من المستحيل تحقيق ذلك إذا مارس الإنسان حقه الطبيعي بطريقة طبيعية وفعل كل ما يريده. ولهذا السبب، لم يكن ثمة مفر لكل فرد من أن يتعاون مع غيره ويتفق معه من أجل تحقيق هذا الغرض، أي تحقيق بقاء النفس والعيش في وئام بدلاً من حالة الصراع الدائم. فقَبل الأفراد التنازل عن شريعة الطبيعة والخضوع لقانون العقل، كما تنازلوا عن بعض رغباتهم وحقوقهم الطبيعية لهيئة حاكمة في المجتمع الذي ينظمه القانون المدني لا القانون الطبيعي. فالاجتماع البشري يقوم إذن على المصلحة الشخصية المستنيرة، وهو أمر مختلف عن الحق الطبيعي والمصلحة المباشرة غير المستنيرة.

وبهذه الطريقة، يتم الانتقال من الحالة التي يسودها الحق الطبيعي إلى حالة العقد الاجتماعي. وينبغي على الأفراد طاعة الهيئة الحاكمة وإلا لما أمكن قيام الدولة. ويظل حق الحاكم قائماً مادامت لديه القدرة على إقرّاره. وبعبارة أخرى، فإن القاعدة نفسها « الحق الخاضع للقوة » تسري على الدولة بدورها، بحيث تُحَدد سلطة الدولة بما لديها من القوة. ولكن لابد أن تجد الدولة أيضاً أن من مصلحتها هي الأخرى أن تسترشد بالعقل، وأن تحفظ قدرتها بتوخي الصالح العام: أي أن تحد من ذاتها بمعنى أن تضع حدوداً لنفسها ولا تستخدم قواها أكثر مما ينبغي حتى لا تُقابَل بالمقاومة (كما جاء في دراسة د. فؤاد زكريا التي اعتمدنا عليها في هذا المدخل).

ولنلاحظ وجود تشققات عديدة هنا في الخطاب الإسبينوزي. فثمة ثغرة بين الطبيعة والعقل، إذ يوجد حق طبيعي من جهة وعقل يسترشد به الجميع (الأفراد والدولة) من جهة أخرى. ومن خلال إيمانهم بالعقل، فإنهم يتنازلون عن حقوقهم الطبيعية (المادية) ويكبحون رغباتهم الطبيعية المباشرة (الغريزة) باسمه. فالمطلق هنا ليس الطبيعة وإنما العقل، بل إن هناك قانونين لا قانوناً واحداً: شريعة الطبيعة وقانون العقل، والإنسـان لا يخضع للطبيـعة وإنما يخضع لما هو ليـس بطبيعـة، أي للعقل، أي أن الإنسان لا يخضع للمادة بل يتجاوزها بفضل ما هو ليس بمادة. وهكذا سقطنا مرة أخرى في الثنائيات الدينية التقليدية، ولم يعد نسق إسبينوزا معقماً بما فيه الكفاية من الثنائيات والمطلقات والغايات كما كان (وهذا ما يُسمَّى «السقوط في الميتافيزيقا»). بل إن الوئام يحل لا من خلال القوة وحسب وإنما من خلال الخضوع للعقل أيضاً! يخضع له الأفراد كما تسترشد به الدولة. ويبدو أن إسبينوزا هنا يتنصل مما قاله من قبل من أن العقل ليس إلا حالة من أحوال الطبيعة والمادة (وسيظل هذا الوضع قائماً إلى أن يظهر نيتشه ودريدا، اللذان سيحاولان تنقية النموذج العلماني من أي مطلقية أو مرجعية أو ما يسميه نيتشه «ظلال الإله»).

سابعاً: موقف إسبينوزا من الدين:

يمكننا أن نقول إن إسهام إسبينوزا الأكبر في تاريخ الفلسفة الغربية هو اكتشافه التوازي والترادف بين وحدة الوجود الروحية ووحدة الوجود المادية، وأن عبارة « لا موجود إلا هو » (أي الإله) هي ذاتها عبارة « لا موجود إلا هي » (أي الطبيعة)، ومن ثم أمكنه (من خلال المنظومة الحلولية الكمونية) أن يُعلمن الفلسفة الغربية ويشيع الفكر الفلسفي الواحدي المادي دون أن يسبب أي فزع لأحد، ودون أن يدرك أحد أن خلف غنائيته الحلولية الكمونية الصوفية يوجد النموذج الواحدي المادي بكل وحشيته ولا إنسانيته. بل يمكن القول بأنه نجح في توليد المنظومة العلمانية المادية من داخل المنظومة الدينية واستخدم مصطلحاتها الغيبية (كما يفعل كثير من العلمانيين العرب(.

وانطلاقاً من واحديته المادية الصارمة (التي تجعل هدف المعرفة فهم قوانين العالم الثابتة وتجعل الحرية إدراك الحتمية واستحالة الحرية)، يصنف إسبينوزا الرؤية الدينية باعتبارها ظاهرة بشرية ذات هدف عملي جزئي تحاول تحقيق أمانيَّ معينة للإنسان وتجنبه مخاوف خاصة، وهي تفعل هذا بهدف تنظيم أحوال البشر ومعاملاتهم، أي أن الرؤية الدينية لا علاقة لها بالرؤية الكونية الموضوعية التي يبشر بها إسبينوزا، والتي ترى الإنسان باعتباره شيئاً ضمن الأشياء وجزءاً لا يتجزأ من النظام الطبيعي الضروري والكلي للأشياء، وهو نظام كوني ليس فوق الطبيعة وحسب ولكنه فوق الإنسان أيضاً، ولذا فهو لا يمنح الإنسان أو أي كائن جزئي آخر أية أهمية خاصة، فهو نظام يدور حول المادة وليس كالدين الذي يدور حول الإنسان. ولنلاحظ هنا أن إسبينوزا يرى أن الدين يمنح الإنسان مركزية في الكون (لا يستحقها) على عكس الرؤيةالكونية الموضوعية العلمية (العلمانية) التي تنزع عن الإنسان ـ في تصوُّر إسبينوزا ـ هذه المركزية وتجعله كائناً ضمن كائنات أخرى أو شيئاً ضمن أشياء أخرى. والمفارقة هنا أن إسبينوزا ينسب للرؤية الدينية ما ينسبه أصحاب الرؤية الإنسانية الهيومانية لرؤيتهم للكون، فهم يزعمون أن رؤيتهم رؤية مادية وضعت الإنسان في مركز الكون. ولكننا نرى أن موقف إسبينوزا أقرب إلى الدقة وأنه استطاع بثاقب نظره وبصيرته أن يستشرف المستقبل ويرى الحلقات الأخيرة في المنظومة العلمانية (والاستنارة المظلمة). فالمنظومة العلمانية بدأت بالزعم الهيوماني العلماني أن الإنسان يقف في مركز الكون، لكن الأمر انتهى بها في العصر الحديث إلى الموقف المعادي للإنسان الذي ينكر عليه أية مركزية أو حرية أو استقلالية ويجعل المادة أو النظام الكلي للأشياء مركزاً للكون، ويجعل الكون ذاته كوناً أحادياً لا غاية فيه ولا اتجاه ولا مركز، كوناًخالياً من الثنائيات، معقماً من المطلقات، متجرداً من الأخلاقيات، متجاوزاً للعواطف. وأدرك إسبينوزا، منذ البداية، القانون الداخلي للنموذج العلماني ودفعه إلى نتيجته المنطقية ورأى في مخيلته كيف أن الواحدية الكونية المادية لابد أن تقضي على الإنسان وتحوِّل العالم إلى آلة هندسية دقيقة، ولا يبقى بعد ذلك سوى الحركة الهندسية للذرات والتكرار الرتيب للأرقام، ورأى أن إدراك هذا وقبوله هو قمة المعرفة والحرية.

ومع هذا، يتعرض إسبينوزا لقضية الدين، ويشير إليه مستخدماً الكلمة نفسها في ثلاثة معان مختلفة تماماً. أما النوع الأول وأهمها فهو ما سماه ثالث أنواع المعرفة «الحب الفكري للإله» (باللاتينية: أمور ديي إنتلكتواليس amor dei intcllectualis) وهذه هي الديانة الحقيقية، وهي ديانة عقلية عقلانية يمارسها الإنسان الذي يتمكن من نفي ذاته كذات مستقلة فاعلة حرة عن قوانين الكون، فيتخلص من عبودية الانفعال عن طريق ربطها بالمنطق الكلي للأشياء في ضرورته الشاملة. فالإله هنا هو الطبيعة/المادة وحب الإله هو الإذعان للحتمية الطبيعية وهو « فهم » الإله/الطبيعة، وهذا الفهم يجعل الإنسان أكثر تواضعاً ولكن أكثر انعتاقاً، خالياً من الخوف من الموت، إذ أن الإنسان باكتشافه أنه جزء لا يتـجزأ من الإله/الطبيعة سـيكتشف أن المـوت هو إحدى حقائق الطبيعة، تماماً مثل حقائق الحيـاة والنمـو، أي أنه تتم تسـوية الحياة والموت والنمـو بالعدم. ومن ثم، فإن حديث إسبينوزا عن الاتحاد الصوفي (باللاتينية: يونيو مستيكا unio mystica) وحلول اللامتناهي في المتناهي، وهو ما يمنحه الخلود والأزلية، هو في واقع الأمر حديث عن الاتحاد مع الطبيعة/المادة والامتزاج بها والإذعان لها. وهذا الدين هو فلسفة إسبينوزا، وإطلاق كلمة «دين» عليه يشبه تماماً إطلاق كلمة «الإله» على الطبيعة. والوصول إلى هذه المرحلة من المعرفة مسألة نادرة للغاية لا يصلها سوى الخاصة، أما العامة فإن أقصى ما يمكن أن يصلوا إليه هو ما يسميه إسبينوزا الديانة العالمية (باللاتينية: ريليجيو كاثوليكا religio catholica)، وهي ليست العقيدة الكاثوليكية وإنما هي عقيدة تمكث في نطاق عالم الخيال والوجدان ولكنها تحاول أن تصوغ نفسها حسب تعاليم العقل مُستخدمة في ذلك مبدأ طاعة الإله. وكلمة «الإله» مختلفة عن معناها في المعجم الإسبينوزي، فهي تعني الإله الشخصي الذي يتدخل في التاريخ ويرسل رسائل للإنسان. ويرى إسبينوزا أن مثل هذه العقيدة يمكن الاستفادة منها وتوظيفها اجتماعياً عن طريق التفسيرات العقلية للعهد القديم (ومن هنا نقده للعهد القديم والدعوة لتطهيره). ويمكن ترجمة إرادة الإله (الوهمية) إلى مجموعة من القواعد النافعة: العدل ـ وطاعة قوانين الدولة (التي تصبح المفسر الوحيد لإرادة الخالق).

إن الدين من منظور إسبينوزا ليست له قيمة من الناحية المعرفية، فهو مجرد وظيفة ذات نفع للإنسان (هذا الكائن الذي ليس له أهمية كونية خاصة). ولذا، فلا أهمية على الإطلاق للأساس النظري الذي ترتكز عليه هذه العقائد مادامت تؤدي وظيفتها العملية على النحو المنشود. ولكن « السلوك الفاضل الذي يتحقق في إطار خارجي تماماً عن العقيدة (في إطار فلسفة إسبينوزا والمرجعية المادية الكامنة)، يصبح على هذا الأسـاس مسـاوياً لذلك الذي يتحقق في الإطار الديني »، أي أن السلوك « يُعدُّ مطابقاً للغاية المنشودة سواء أقام على أسس دينية أم لم يقم، مادام ينفذ الأغراض نفسها التي يدعو إليها الدين ». لكن تحويل الدين إلى مجرد وظيفة عملية ذات نفع دنيوي هو « علمنة من الداخل » إن صح التعبير، إذ يصبح المعيار هنا مدى التأثير العملي للدين ومدى تكيفه مع الواقع العملي والمادي حتى يحتفظ بفاعليته، أي أن الدين هنا يصبح تابعاً لهذا النظام الضروري والكلي للأشياء. وعملية العلمنة هذه لا تقل في ضراوتها وشراستها عن عملية العلمنة من الخارج، أي الهجوم المباشر على الدين، بل لعلها أكثر خطورة.

أما ثالث الأنواع فهو الديانة التاريخية السوقية أو الفارغة (باللاتينية: فانا ريليجيو vana religio)، وهي الديانة التي تستند إلى مجموعة من القصص الأسطورية والتاريخ المقدَّس والشعائر وتمتد لتشمل عالم السياسة وهي عقيدة تضرب بجذورها في مخاوف الإنسان وعواطفه (لا في عقله) وجهله بالأسباب الحقيقية، ولذا تحل الخرافات محل العقل ويظهر الإيمان بالمعجزات والقوى الخفية، وهي مخاوف يستخدمها الحكام ويوظفونها لصالحهم. وهذا النوع من الديانة يرفضه إسبينوزا جملةً وتفصيلاً قلباً وقالباً.

ومن المفارقات التي تستوجب النظر أن الفيلسوف الذي يشير له البعض بأنه فيلسوف العلمانية الذي حاول استبعاد الدين تماماً من منظومته الفلسفية والذي حاول تأسيس مذهب فلسفي يخلو من جميع عناصر ما فوق الطبيعة أو العناصر التشبيهية أو اللاعلمية أو فلنقل الروحية الدينية والإنسانية، نقول إن من المفارقات أنه صرح بأنه يحاول عن طريق فلسـفته الوصول إلى « الغاية نفسها التي تتخذها الأديان هدفاً أسـمى لها »، أي أنه تخلص من الغائية الإنسانية الروحية ليُحل محلها غائية مادية مجردة لا إنسانية (أي أنه حاول تحقيق قدر من التجاوز داخل الإطار المادي الكموني). ففي منظومته الفلسفية يوجد خلاص عن طريق إدراك النظام الكلي للأشياء، وفيه أيضاً حرية عن طريق فهم موقع كل شيء في السلسلة الضرورية الشاملة، وفيه أيضاً طمأنينة وبركة عن طريق إدراك وحدة الكون والذهن الذي هو مظهر جزئي له، وفيه أيضاً حب هو حب المعرفة والعلم. إن فلسفة إسبينوزا ليست علمية وليست مادية بما فيه الكفاية، أي لم تتم علمنتها تماماً، وإلا فلم البحث عن الخلاص والطمأنينة، بل وعن شيء قديم إنساني متخلف مثل الحب؟ ولذا سُـمِّيت فلسفته « صوفية العلم الذي لا تداخله أية سمة من النزوع إلى ما فوق الطبيعة »، أي أن فلسفته هي ميتافيزيقا بدون إله، أو حلولية مادية. وهو أيضاً من مفكري الربوبية المتطرفين، فالربوبية حاولت أيضاً أن تجد الرب في قوانين الطبيعة بحيث يمكن الوصول إليه عن طريق العقل وحسب. وإسبينوزا، بذلك، يكون قد بدأ المشروع المعرفي التحديثي والحداثي ولكنه تعثَّر وسقط في مفهوم الكل (والميتافيزيقا) وبحث عن الطمأنينة والحب، وهو ما يدل على ضعف الرؤية الكونية الموضوعية عنده. أما نيتشه، فقد اتسم بالجسارة وأكمل هذا المشروع المعرفي، فظهر النسق المعرفي المادي المعقم من كل مطلقات، وأعلن موت الإله وتطهير العالم من ظلاله وسقوط فكرة الكل والمركز بل والحقيقة، وإن كان قد ترك فكرة إرادة القوة كمصدر لتماسك النسق وكمركز له. ويتحقق المشروع المعرفي الغربي الحداثي في فكر دريدا (وهو يهودي سفاردي آخر) الذي أعلن سقوط الكل والمركز وعلاقة الدال بالمدلول وبداية عصر ما بعد الحداثة!

وقد فرَّق إسبينوزا بين اليهودية والمسيحية وصنف اليهودية باعتبارها نسقاً دينياً لا يتناول إلا الجانب الظاهر من سلوك الإنسان، في مقابل المسيحية التي تُعَدُّ نموذجاً دينياً يركز على حياة الإنسان الباطنة، والتي تجعل الجزاء روحياً أكثر منه دنيوياً. وقد أصبحت هذه التفرقة أساساً للتفرقة بين النموذجين الدينيين المسيحي واليهودي في الفكر الغربي (سواء بين اليهود أو بين غير اليهود) فتبناه موسى مندلسون وكانط وهيجل وماركس وأصبح أحد البدهيات والمقولات التحليلية في علم مقارنة الأديان في الغرب، وهي تفرقة أقل ما يُقال عنها إنها مغرضة وسطحية وأحادية.

وقد أثر إسبينوزا في الفكر الألماني، خصوصاً في فكر هردر ولسنج ( « لا يوجد سوى فلسفة إسبينوزا »)، وفي فكر موسى مندلسون وهيجل ( « لا يوجد سوى الفلسفة أو الإسبينوزية » )، وشلنج ( « لا يمكن لإنسان أن يتقدم نحو الحق والكمال في الفلسفة دون أن يغوص مرة على الأقل في حياته في هوة الإسبينوزية » ). وأشاع كوليردج فكر إسبينوزا وصرح بأنه لا يوجد سوى نسقين فلسفيين: فلسفة كانط وفلسفة إسبينوزا (ولكنه رفض حلولية إسبينوزا في أواخر حياته). وقد تأثر به كذلك الهيجليون اليساريون إذ كان فيورباخ ينظر إلى مادية إسبينوزا بعين التقدير، وتحدث بليخانوف (مؤلف كتاب تطور النظرة الواحدية للتاريخ) عن إسبينوزية ماركس وإنجلز أي واحديتهما التاريخية الكونية. واعترف إنجلز بأنه يؤمن بفكرة إسبينوزا القائلة بأن الامتداد والفكر صفتان لجوهر واحد، لأن الفكرة ليست لها دلالة سوى الدلالة المادية. كما نوه إنجلز في كتابه جدلية الطبيعة بفكرة إسبينوزا بأن الطبيعة علة نفسها، لا نهائية وأزلية، وهي صفات الإله التي خلعها إسبينوزا على الطبيعة.

وقد بدأ الباحثون يهتمون بأثر فكر إسبينوزا في فرويد، كما أن فلسفته لقيت اهتماماً غير عادي في الاتحاد السوفيتي. وشعر كثير من العلماء والمفكرين في العصر الحديث مثل أينشتاين وبرجسون بوجود علاقة وثيقة بين رؤيتهم للكون ورؤية إسبينوزا.

ونحن نذهب إلى أن المنظومـة العلمانية الشاملة اكتمـلت في كتـابات إسبينوزا، وأن المتتالية التي أدَّت إلى تفكيك الإنسان في القرن العشرين بدأت مع واحديته المادية الصارمة، وأن هناك داخل منظومته (بشكل جنيني) معظم الفلسفات العلمانية الأساسية: الفلسفة النفعية المادية (بنتام) والرؤية المادية الآلية التجريبية للعقل والنفس (لوك) ونسبية الأخلاق وإعلاء القوة كمطلق (نيتشه) والبرجماتية (وليام جيمس وجون ديوي). ومع هذا لم يُقدَّر لفلسفة إسبينوزا أن تكون الإطار الأساسي للفلسفات العلمانية الحديثة، فالهيجلية أحرزت قصب السبق في هذا المضمار، وهذا يعود إلى سكونية منظومة إسبينوزا، وفكرة الإله/الطبيعة المكتمل الذي يتجلى في الطبيعة، على عكس فكرة الإله/الصيرورة الهيجلية (هو إله غير مكتمل ويتحقق تدريجياً داخل الطبيعة والتاريخ).

وقد يكون من المفيد التوقف قليلاً عند علاقة إسبينوزا بنيتشه. قال نيتشه (في كارت بوستال أرسل به لصديق له) إنه يتعرف على نفسه في عدة نقاط في عقيدة إسبينوزا: إنكار حرية الإرادة ـ إنكار الغائية ـ إنكار وجود نظام أخلاقي في العالم وإلغاء فكرة الخير والشر ـ رفض فكرة إيثـار الغـير والتأكيد على حـب الذات والقوة كأساس للحياة وللأخلاق. وأكد نيتشه أنه هو وإسبينوزا يجعلان المعرفة جزءاً لا يتجزأ من الغريزة وليس نشاطاً مستقلاً عن رغبات الإنسان وغرائزه، أي أن نظامهما المعرفي يتسم بالكمون الكامل (موت الإله المتجاوز) وأن الحياة مكتفية بذاتها. ومع هذا، يمكن القول بأن ثمة نقط اختلاف مهمة بينهما تعود إلى أن إسبينوزا يقف عند بداية المتتالية العلمانية بينما يقف نيتشه في مرحلتها النهائية، ذلك أن إسبينوزا أخذ أول خطوة في عمليات العلمنة حينما أمكن تهميش الإله أو القول بموته (باعتبار أن الإله هو الطبيعة)، كما أنه رفض أن يُمنَح الإنسان أية مركزية في الكون. ولهذا، أكد أن العالم تحكمه قوانين لا شخصية آلية لا تكترث بالإنسان أو بغائياته. ولكنه لم يأخذ الخطوة الثانية الحاسمة وهي تطهير العالم من ظلال الإله، أي من كل عناصر الثبات والمطلقية والتجاوز. فالعالم المادي (الطبيعة) والإنسان يرثان كثيراً من صفات الإله، فالعالم هو علة ذاته وغاية ذاته ومرجعية ذاته، عالم أزلي تحكمه قوانين ثابتة آلية خالدة، والطبيعة المطبوعة في حالة حركة دائمة ولكنها تحركها الطبيعة الطابعة التي لها عقل وهدف وغاية وهي التي تمنح الطبيعة المطبوعة شيئاً من الثبات. وهذه الطبيعة الطابعة هي العقل الأكبر الذي يحكم الكون والذي تتجسد عقلانيته في الطبيعة المطبوعة وثباتها. هذا الإيمان بالعقلانية هو سقوط في الغائية الإنسانية إذ أننا نُسقط صفاتنا ورغباتنا الإنسانية على عالم الطبيعة فنراه ثابتاً معقولاً!

وقد ورث الإنسان، هو الآخر، بعض هذه الصفات الربانية، فهو يتصور أنه كائن عقلاني وأن ثمة عقلاً إنسانياً عالمياً شاملاً قادراً على مراكمة المعرفة. ومن خلال إيمانه هذا، يدَّعي الإنسان أنه يؤمن بأنه قادر على تحقيق قدر من تجاوز الصيرورة والتناهي ومن هنا مفهوم الحب العقلي للإله، فهو يعني أسبقية العقل على الوجود، فالوجود بعض من جوهر الإله ولذا فهو وجود عقلاني، أما الحتمية التي ينصب عليها حب الإنسان فيمكن فهمها وفهم قوانينها ويمكن الإذعان لها برضا ويمكن للإنسان تحقيق الصفاء والغبطة (أتاركسيا) من خلالها باكتشافه الوحدة الكامنة فيه. بل إن الحب العقلي للإله يدخل عنصراً أزلياً في عقل الإنسان بحيث يصبح هذا العقل خالداً أيضاً، ومن هنا حديث إسبينوزا عن وحدة صوفية بين الإنسان والطبيعة والخالق.

أما نيتشه، فتحرر تماماً من الإله وهرب من ظلاله فتجربته الكمونية كاملة، فهي لا تترك أي مجال للنظام أو الثبات أو الاستمرارية أو العقلانية في الكون. والإنسان نفسه في حالة سيولة وتغير، فهو إرادة قوة محضة وموازين قوى. كل هذا يعني استحالة تفسير أي شيء أو تبرير أي شيء. ولذا، بدلاً من فكرة الحب العقلي للإله عند إسبينوزا، يظهر حب القَدَر (باللاتينية: آمور فاتي amor fati). والحتمية، موضع الحب عند إسبينوزا، هي حتمية داخل نظام عقلاني متسق، أما الحتمية في نظام نيتشه فهي قَدَر غامض غاشم لا يمكن فهمـه، حتمـية تلقي بكلكـلها على كل المخلوقات كـعبء لا يمكن التخلص منـه. ولذا، لا يمكن تحقيق الصفاء أو الأمن، فالعالم أرض خرابميتافيزيقية، عالم من الصراع والتحول ولا يوجد أي عزاء فلسفي، فالفرد في حالة عزلة دائمة، وحب القدر عمل من أعمال التحدي، فهو رفض لفكرة الطبيعة البشرية ولفكرة السببية وقبول للصيرورة والعود الأبدي لا تنتج عنها أية وحدة صوفية. ومن هنا، دعا نيتشه إلى إعادة تقييم القيم حتى يمكن اتخاذ الخطوة الحاسمة نحو تأسيس حضارة نسبية كاملة لا توجد فيها طبيعة معقولة ولا إنسان عاقل، حضارة تتجاوز ثنائية الذات والموضوع لتصل إلى السيولة الشاملة.

إسبينوزا وعلاقة فلسفته بالعقيدة والجماعـات اليهودية

Relationship between Spinoza's Philosophy, Judaism and Jewish Communities

يمكن تقسيم علاقة إسبينوزا باليهود واليهودية إلى قسمين: علاقة التضاد على المستوى المباشر، وعلاقة التماثل على المستوى النماذجي:

1 ـ علاقة التضاد (على المستوى المباشر):

كان لابد أن يهاجم إسبينوزا العقيدة اليهودية انطلاقاً من واحديته المادية، وكان هجومه يتم على مستويين: اليهودية كدين له شعائره الخاصة، واليهودية كمجموعة من العقائد تستند إلى ما فوق الطبيعة والإيمان بالإله كقوة مفارقة لها، أي اليهودية كنموذج لكل الأديان.

ومن أهم مؤلفات إسبينوزا كتاب رسالة في اللاهوت والسياسة، وهو أساساً نقد للعهد القديم ولأسفار موسى الخمسة. ومن هنا يُعَدُّ إسبينوزا من أوائل المفكرين الذين وضعوا دعائم العلم الذي يُسمَّى «نقد العهد القديم» (أي النقد التاريخي للكُتب المقدَّسة). وقد أنكر إسبينوزا في كتابه كثيراً من مبادئ اليهودية أو مبادئ أي دين آخر مثل الإيمان بالوحي، فالأنبياء حسب تصوره إن هم إلا أشخاص ذوو خيال متوقد، كانوا قادرين على التوصل إلى حقائق أخلاقية. أما فيما يتصل بمعرفتهم بالقوانين العلمية فأفكارهم متناقضة. وموسى لا يختلف عن الأنبياء إلا في أن الوحي بالنسبة إليه كان مباشراً من خلال صوت الإله. وقد رفض إسبينوزا الإيمان بالمعجزات إذ لا يمكن أن يحدث أي شيء متناقض مع القانون الطبيعي (فالطبيعة/المادة هي المرجعية النهائية). وإن كانت هناك إشارات للمعجزات في العهد القديم، فإن هذا يعود إلى أنه مُوجَّه للوجدان الشعبي ولا يصلح لكل الناس. والتوراة عديمة القيمة إلا في تلك الجوانب المشتركة مع القانون الطبيعي، أي أن المرجعية النهائية هي دائماً الطبيعة/المادة (وهذا هو جوهر التفكير الربوبي(.

وأكد إسبينوزا أن الكتب الدينية اليهودية موجهة أساساً إلى الجماهير اليهودية وحدها، وأن الشريعة اليهودية إن هي إلا قوانين الدولة العـبرانية القديمـة التي صدرت لضمان الاستقرّار السـياسي بين العبرانيين. ولذا، لا علاقة لهذه القوانين باليهود بعد الشتات، أي بعد انتشارهم في العالم، فعلاقتها أساساً بالاستقرّار الزمني للدولة. ويرى إسبينوزا أن سائر الشعائر والاحتفالات الدينية التي وردت في العهد القديم هي من وضع العلماء اليهود الفريسيين.

ويقارن إسبينوزا بين موسى والمسيح فيقول إن موسى كان يخاطب اليهود بوصفه مشرِّعاً وقاضياً وكان يتناول في تشريعه الجانب الظاهر من سلوك الإنسان، أما المسيح فتناولت تعاليمه حياة الإنسان الباطنة وكان الجزاء عنده روحياً أكثر منه دنيوياً.

وقد حلل إسبينوزا مختلف طرق الاتصال بين الإله والأنبياء حسبما جاء في الأناجيل، ويرى أن الأوصاف الواردة في الأناجيل لا تدل على حدوث اتصال مباشر بين العقل الإلهي وبين أي عقل آخر سوى المسيح. فالاتصال الإلهي بموسى كان مخاطبة أو كلاماً، والكلام يحتاج دائماً إلى المخيلة لتفسيره أو فهمه (أي أن هناك ثغرة بين الخالق وموسى إبّان عملية الوحي). وكذا كان الأمر مع الأنبياء، فالاتصال ببقية الأنبياء اليهود كان عن طريق أحلام أو علامات أو أمارات معيَّنة، أي أنه كان يتم دائماً من خلال واسطة، وهو ما يعني وجود ثغرة أو فجوة بين الإله والأنبياء. والحالة الوحيدة التي تم فيها اتصال مباشر، ومن عقل إلى عقل دون توسط اللغة أو الخيال، هي حالة المسيح (فهل التجسد ـ إذن ـ هو النموذج الكامن في فكر إسبينوزا: أي أن تصبح الكلمة جسداً، ويصبح الدال مدلولاً، وتختفي الثغرات تماماً؟ هل التجسد هو تحوُّل الواحدية الروحية إلى واحدية مادية وتحوُّل اللاهوت إلى ناسوت؟). وعلاوة على كل هذا، أُرسل موسى إلى اليهود وحسب، ولذا فقد توجه موسى إلى اليهود وحدهم وتكيَّف عقله مع أوضاعهم. أما المسيح فتوجه إلى العالم، ولذا فإن أفكاره عالمية وحقيقية. وقد أثرت رؤية إسبينوزا للعقيدة اليهودية فيمن أتى بعده من فلاسفة غربيين بما في ذلك كانط وهيجل وماركس، بل وفي مقارنة النماذج التحليلية التي سادت في علم مقارنة الأديان (وفي الفكر الديني اليهودي).

وقد حدا هذا بالبعض على أن يروا في موقف إسبينوزا هذا محاباة للمسيحية على حساب اليهودية. ولكن إسبينوزا يستوعب كل شيء في نسقه الواحدي فبيَّن كيف يختلف رأيه عن رأي المسيحيين، فهو يرى الإله باعتباره العلة الكامنة في الأشياء (المبدأ الواحد) وليس العلة العالية فوق الأشياء، المتجاوزة لها. ولذا، فهو يُفسِّر الفكرة المسيحية القائلة بأن المسيح هو ابن الإله الأزلي باعتبار أنها تعني في واقع الأمر أن المسيح كان يُعبِّر عن الحكمة الإلهية الأزلية كما تتمثل في الأشياء ولا سيما العقل البشري (المبدأ الواحد الكامن في المادة)، وهي الحكمة المؤدية بالفعل إلى الخلاص. أما فكرة أن يتخذ الإله صورة بشـرية، فإنها مسـتحيلة تماماً كأن نقـول إن الدائرة اتخـذت صورة المربع، وهكذا نعود دائماً إلى الهندسة والأرقام.

ولا ينصرف نقد إسبينوزا إلى اليهودية وحسب وإنما يمتد ليشمل اليهود أيضاً، إذ يرى أنهم تمسَّكوا بعقائدهم بعد هدم الهيكل لا ابتغاء مرضاة الإله وإنما كرهاً للمسيحية. وعنده أن عقيدة الاختيار إن هي إلا تعبير عن غبطتهم بعزلتهم عن الآخرين. واليهود هم محط كراهية الإله الذي حطم هيكلهم والذي أرسل إليهم بشرائع وقوانين لا يستطيع أحد أن يعيش بمقتضاها. ولذا، فهذه القوانين لم تكن تعبيراً عن رغبة الإله في الحفاظ على رضاء اليهود بل تعبيراً عن غضبه عليهم ومنهم.

وأفاض إسبينوزا بعد ذلك في ذكر صفات اليهود السلبية، فاليهود يكرهون كل الشعوب الأخرى حتى أصبح الحقد بالنسبة إليهم طبيعة ثانية، ينمونها كل يوم في صلواتهم. وحتى صفاتهم الطيبة، فإنها نابعة من سيئاتهم، فتماسكهم وتعاطفهم ينبع من كُرههم لكل الشعوب الأخرى.

ويُفسِّر إسبينوزا استمرار ما يرى أنه الهوية اليهودية على أساس موقف الشعوب غير اليهودية من اليهود، فيشير إلى أن يهود المارانو في إسبانيا الذين سُمح لهم بشغل مناصب رفيعة حققوا الاندماج وانتهى الأمر بهم إلى الانصهار، على عكس المارانو في البرتغال الذين احتفظوا بهويتهم لأنهم تم استبعادهم من الوظائف الحكومية. ومن هنا يجب على المسيحيين ألا يضطهدوا اليهود المتنصّرين لأن المعاملة الحسنة هي التي ستؤدي إلى اختفائهم، بل إن السياسة نفسها يمكن أن تُطبَّق على اليهود المؤمنين، وقد تؤدي إلى نفس النتائج.

2 ـ علاقة التماثل (على المستوى النماذجي(:

هاجم إسبينوزا اليهودية، إذن، بشكل واضح، والمسيحية بشكل مستتر، بل هاجم اليهود وتاريخهم. ومع هذا، فإن علاقة إسبينوزا باليهود واليهودية علاقة بالغة العمقوالتركيب، وثمة جوانب في فكره لا يمكن فهمها دون العودة إلى الكثير من العناصر في العقيدة اليهودية وإلى أشكال تطور الجماعات اليهودية في أوربا. ففكره، من هذاالمنظور، تعبير عن جوانب كامنة في النموذج الديني الذي يرفضه. كما أن ثمة تطورات لاحقة بين اليهود واليهودية كان إسبينوزا تعبيراً عميقاً عنها، ونموذجاً أساسياً لها:

أ ) كان إسبينوزا من يهود المارانو الذين فقدوا هويتهم الدينية، فقد كانوا مسيحيين كاثوليك قولاً، يهوداً فعلاً، أو هكذا كانوا يتوهمون، إذ أنهم في واقع الأمر فقدوا هويتهم اليهودية الدينية في الفترة التي أخفوها فيها فلم يبق منها إلا قشرة ضعيفة، فأصبحوا جمـاعة هامشية بالنسبة لكل الـعقائد، ولم يكونوا مسيحيين ولا يهود. ولذا، فإنهم حينما تركوا شبه جزيرة أيبريا واستقرت أعداد منهم في أمستردام، التي كانت قد حققت أعلى معدلات العلمنة في الغرب، وجدوا التربة المناسبة لهم هناك وبدأوا يقودون الفكر المعادي للدين، أيِّ دين، وكانوا من حملة لواء الشك الفلسفي والديني. وقد خرج إسبينوزا من هذه التشكيلة الحضارية الدينية الفذة، فهو مفكر ماراني بالدرجة الأولى يُظهر الإيمان الديني ويستخدم الخطاب الديني ولكنه يُبطن الإيمان الكامل بالمادة وقوانينها باعتبارها النقطة المرجعية النهائية، لا بالنسبة إلى العالم المادي وحسب (الطبيعة) وإنما بالنسبة للإنسان أيضاً. وعلى مستوى الخطاب، يتحدث إسبينوزا عن الإله، وهو في واقع الأمر يعني الطبيعة. ولذا، فإنه عندما يقول « بأمر الإله » إنما يعني « حسب قوانين الطبيعة ». وقد أشار أحد المؤلفين إلى إسبينوزا باعتباره ماراني العقل (مادي)، أي أنه يدافع عن الرؤية المادية بشكل خفي.

ب) وحينما استقر المارانو في أرجاء أوربا، كانت اليهودية الحاخامية تعاني من بدايات أزمتها بعد هجمات شميلنكي وبعد تحجر الفكر الديني اليهودي الحاخامي وعزلته عن التيارات الدينية في العالم وأوربا. وشن كل من إسبينوزا وشبتاي تسفي هجوماً شرساً على اليهودية، وكلاهما من أصل ماراني، وكلاهما حلولي واحدي في فكره يؤمن بوحدة الوجود الروحية في المظهر، المادية في المخبر، ويؤمن بإمكانية تشييد الفردوس الأرضي (الآن وهنا) وإعلان نهاية التاريخ. ولعل الفارق الوحيد بينهما هو أن تسفي ظل حبيس الديباجة الدينية اليهودية القبَّالية اللوريانية ووحدة الوجود الروحية، بينما تمكَّن إسبينوزا من تجاوزها واكتشــف التوازي بين الحلولية الواحدية الروحية والحلولية الواحدية المادية، فاسـتخدم مصطلحاً دينياً روحياً ومصطلحاً فلسـفياً مـادياً في آن واحد، ويمكن فك شفرة الأول من خلال المقولة المبدئية « إن الإله هو الطبيعة ». وحتى المصطلح الديني السطحي الذي استخدمه إسبينوزا كان مصطلحاً دينياً عاماً ليس فيه سوى أصداء يهودية. ولذا، كان هجوم تسفي على اليهودية من الداخل، بينما كان هجوم إسبينوزا هجوماً من الخارج.

ونحن نذهب إلى أن رؤية إسبينوزا الفلسفية حلولية متطرفة تضرب بجذورها في القبَّالاه اللوريانية. ولكن قبل أن نعرض لهذا المصدر الأساسي من مصادر رؤيته، قد يكون من المفيد الإشارة إلى وجود تيارات أخرى داخل اليهودية أثرت في إسبينوزا وعمقت اتجاهه الحلولي. وتذهب بعض الدراسات إلى أن هناك اتجاهين داخل اليهودية: الاتجاه الميموني العقلاني، نسبة إلى موسى بن ميمون، والاتجاه الحلولي القبَّالي اللاعقلاني. ولكن فكر موسى بن ميمون نفسه يحوي في داخله عناصر مادية، فعقلانيته أحياناً شاملة متطرفة كثيراً ما تقترب من حالة الواحدية المادية الشاملة التي حققها إسبينوزا والتي لا تختلف عن واحدية الرؤية الحلولية الروحية.

وتوجد داخل اليهودية الحاخامية أفكار تركت أعمق الأثر في إسبينوزا. فاليهودية، في إحدى صورها، تكاد تكون ديناً بدون إله وبدون ميتافيزيقا. ونظراً لتناقض بعض العقائد اليهودية، تم التركيز على الشعائر حتى لا تتعارض الفرق اليهودية المختلفة فيما بينها وبحيث يمارس كل اليهود الشعائر نفسها بعد أن ينسب إليها كل فريق المعنى الذي يريده. وهذه السمة في اليهودية هي التي أثرت في إسبينوزا حينما فرق بين اليهودية والمسيحية باعتبار أن الأولى دين الظاهر والثانية دين الباطن. ورؤية إسبينوزا للإله متأثرة بجانب مهم في اليهودية هو الإيمان بإله متجاوز للمادة تماماً (إلى درجة التعطيل أحياناً) حالٍّ فيها تماماً في الوقت نفسه، إله يشبه قوانين الضرورة في المنظومة الإسبينوزية، وهي قوانين عامة مجردة ولكن لا وجود لها خارج المادة (يشبه من بعض الوجوه إله كالفن(.

وقد يكون من المفيد هنا أن نشير إلى ما سميناه «الطبيعة الجيولوجية التراكمية لليهودية»، فهناك داخل اليهودية إيمان بإله مفارق وإيمان بإله حالّ، وإيمان بالبعث واليوم الآخر وإنكار لهما أو عدم اكتراث بهما. وقد أشار إسبينوزا نفسه إلى أن فكرة الآخرة في العقيدة اليهودية كانت دائماً فكرة شاحبة، فالعهد القديم لا يتحدث عن خلود الروح (وعلى كلٍّ، فإن هذا هو الحال دائماً مع المنظومات الحلولية الواحدية). وشدد إسبينوزا على أن الصدوقيين كانوا يُنكرون اليوم الآخر وعقيدة البعث، وأنهم مع هذا لم يُطرَدوا من حظيرة الدين بل كانوا يشكلون الطبقة الكهنوتية القائدة. وكانوا يجلسون في السنهدرين جنباً إلى جنب مع الفريسيين. كما أن العهد القديم لا يوجد فيه، على حد قوله، أي شيء عن وجود غير مادي أو غير جسماني للإله (أي أنه اكتشف الطبقة الحلولية التجسيدية المادية في العهد القديم). ولكل ما تقدَّم، فإنه يُعرِّف اليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية حتى ولو لم يؤمن بالإله، فاليهودية خاصية بيولوجيـة مادية وراثية. وإسـبينوزا على حق فيما يقول، بشكل جزئي، فكل الآراء التي ذكرها وردت في التراث الديني اليهودي. ولكن هذه الآراء لا تشكل إلا جزءاً وحسب أو طبقة جيولوجية توجد بجوارها طبقات أخرى متناقضة معها تماماً. وبسبب هذه الخاصية الجيولوجية، ظهر إسبينوزا وولَّد الإلحاد والعلمانية من داخل النسق الديني اليهودي ذاته (وهذه إستراتيجية كثير من المفكرين الإلحاديين في القرن العشرين، فتحت شعار التوفيق بين العقل والدين يتم إحلال العقل محل الدين، ثم المادة محلهما جميعاً(.

ومهما يكن تأثير اليهودية الحاخامية، فإن القبَّالاه اللوريانية (التي تُعَدُّ مكوِّناً أساسياً في فكر اليهود السفارد والمارانو والتي تشبَّع بها إسبينوزا) تركت أثراً حاسماً فيه وشكلت إطاراً لمعظم أفكاره. والقبَّالاه اللوريانية صياغة غنوصية حلولية متطرفة، بل تُعَدُّ من أكثر الصياغات الحلولية تطرفاً، فهي حلولية روحية توحِّد تماماً بين الخالق ومخلوقاته، أي بين الإله والإنسان والطبيعة. والكون ليس مجرد تعبير عن الإله وإنما هو الإله ذاته. والخالق حسب القبَّالاه اللوريانية يسري تماماً في الكون متصلاً بمخلوقاته ملتحماً بهم بحيث يصبح المخلوق في قداسة الخالق وتصبح المادة/الطبيعة في قداسته. ويمكن القول بأن وحدة الوجود الروحية شكل من أشكال علمنة الدين من الداخل، فالرؤية الدينية التوحيدية تؤمن، كما هو معروف، بثنائية الدنيا والآخرة، والخالق والمخلوق، والمادة والروح، والكل والجزء، والسماء والأرض، والإله والطبيعة. وتحاول الديانات والفلسفات الدينية التوحيدية كافة الحفاظ على هذه الثنائية حتى وإن حاولت أن تختزل المسافة بين الخالق والمخلوق وتُقرِّب بينهما (بحيث تتحول الثنائية الصلبة إلى ثنائية فضفاضة وتتحول المسافة إلى مجال تفاعل بين الخالق والمخلوق). أما الفلسفات الحلولية في لحظة وحدة الوجود فتأخذ شكل رؤية وحدة عضوية كاملة بحيث يسري قانون واحد في كل الكون، ومن هنا النزعة الكونية الموضوعية التي تكتسح الإنسان. وقد أكدت الكنيسة الكاثوليكية هذه الثنائية بشكل حاد. ويُعَدُّ الإصلاح الديني البروتستانتي أولى محاولات كسر الثنائية، ولكن القبَّالاه اللوريانية كانت قد أنجزت ذلك منذ زمن وعلمنت اليهودية، فثمة عالم واحد أحادي يسري فيه قانون واحد ضروري حتمي عام، وهو عالَم يتراجع فيه الإنسان ويختفي، فهو جزء من كل وليس له خصوصية إنسانية.

وعالَم القبَّالاه اللوريانية لا عاطفة فيه ولا أخلاق، فالأمور كلها جزء من نسق هندسي، ومن هنا ظهرت الجماتريا، وهي محاولة تفسير العالم بالأرقام من أجل التحكم فيه لا التوازن معه، وهذا يقابل تماماً فكرة إسبينوزا عن إمكانية فهم العالم، بما في ذلك الإنسان، من خلال المنطق والخطاب الهندسي، وعن إمكانية التحكم في العالم وفي الذات بأن ينظر الإنسان إلى الكون من منظور الإله (الرؤية الكونية الموضوعية). وقد قيل عن القبَّالاه اللوريانية إنها ألهَّت الجنس وجنَّست الإله، وهو إنجاز فرويد فيما بعد، ويمكننا أن نقول إن إسبينوزا ألَّه الطبيعة وطَّبع الإله، وتطبيع الإله شكل من أشكال التجسد الدائم والمستمر. وإذا كان التجسد في المسيحية أخذ شكل لحظة تاريخية فريدة في حياة المسيح باعتباره ابن الإله (وهو ما نسميه «الحلول المؤقت»)، فإن حلولية القبَّالاه اللوريانية هي في الواقع تجسد دائم إذ يُصبح الكون بأسره جسد الإله، فالطبيعة هي التجسد الكامل والمستمر للإله، وعلى من يود معرفته أن يدرسها ويستخلص منها كل ما يلزمه من معرفة للخلاص. وجاء في القبَّالاه اللوريانية أن " إلوهيم هو هاطيفع " أي أن الإله هو الطبيعة (تماماً كما يقول إسبينوزا)، وأكد القبَّاليون أن طيفع هي المعادل الرقمي لإلوهيم. بل إن إنجازه الفلسفي الأكبر هو اكتشـافه هـذا التقابل المدهش بين وحدة الوجود الروحية (لا موجود إلا هو، أي الإله) ووحدة الوجود المادية (لا موجود إلا هي، أي المادة أو الطبيعة). ومن خلال اكتشافه هذا، جعل إسبينوزا الإنسان الغربي قادراً على أن يتبنَّى الرؤية العلمانية الشاملة دون أن يدري ودون أي إحساس بالحرج.

وقد أشرنا من قبل إلى تأثير اليهودية الحاخامية في رؤية إسبينوزا للإله باعتباره متجاوزاً تماماً للمادة حالاًّ تماماً فيها. وهذه الرؤية المتناقضة، توجد وبشكل حاد في القبَّالاهاللوريانية، فالسفيروت أو التجليـات النورانية هي تجسـُّد إنساني كامل للإله، فهي الحلول الكامل، ولكن وراءها يوجد الـ «إين سوف»، أي الإله الخفي المفارق تماماً للعالم والذي لا علاقة له به، وهي ثنوية (أو ثنائية صلبة) توجد كذلك في الفكر الغنوصي.

وبحسب أسطورة تهشُّم الأوعية، فقد تبعثر النور الإلهي في الكون كله، بحيث اختلط الخير بالشر والروح بالجسد وأصبح الشر ملازماً للخير بحيث يصبح التمييز بين الواحد والآخر مستحيلاً. وفي مفهوم الخلاص بالجسد (بالعبرية: عفوداه بجشيموت)، نجد أن الخلاص يتم عن طريق ارتكاب المعاصي أو عن طريق الغوص في المادة. ونظرية القبَّالاه اللوريانية الأخلاقية لا تختلف كثيراً عن نظرية إسبينوزا في الأخلاق حيث يتم الخلاص لا من خلال معرفة الخير والشر، وممارسة الخير وتجنُّب الشر،وإنما يتم من خلال إدراك أن الكون لا غاية له ولا خير فيه ولا شر وإنما ضرورات وحتميات تحدث لأنها يجب أن تحدث، فهو خلاص من خلال معرفة قوانين المادة. كما أن المطلَق الوحيد في منظومة إسبينوزا هو البقاء وبالتالي القوة، وكلما ازداد الإنسان قوة ازدادت مقدرته على البقاء وازداد خيراً. وهذا لا يختلف كثيراً عن طريق الخلاص من خلال المعاصي والغوص في المادة. كما أن النسبية الأخلاقية التي تسم المنظومة الإسبينوزية توجد في المنظومة اللوريانية.

ومن الأفكار الأساسية في القبَّالاه فكرة أن الإنسان (المايكروكوزم: الكون الأصغر) يشبه الكون (الماكروكوزم: الكون الأكبر) في البنية، وأن ثمة قانوناً واحداً يسري عليهما. وهذه فكرة أساسية أيضاً في فلسفة إسبينوزا حيث نجد هذا التعادل بين الخالق والطبيعة والإنسان، وأن الإنسان إن هو إلا جزء من كل، خاضع تماماً لقوانينه.

وقد طُرد إسبينوزا من حظيرة الدين اليهودي، إلا أنه يشكل أول تعبير عن نمـط متكرر بعـد ذلك في الحضارة الغربية، وهو اليهودي الإثني، أي اليهودي الذي يترك عقيدته الدينية ولا يعتنق ديناً آخر، ومع هذا يظل يُشار إليه باعتباره يهودياً. وهو اليهودي الذي تستند هويته لا إلى عقيدته وإنما إلى انتمائه للموروث اليهودي.

ويقف إسبينوزا أيضاً على بداية سلم طويل من المثقفين الغربيين العلمانيين ذوي الجذور اليهودية الذين يقفون على هامش الحضارة لا يشعرون بأية قداسة نحو أي شيء، ويُخضعون كل شيء، بما في ذلك الإنسان نفسه، للقياس الكمي، ويناصبون كل التقاليد السائدة العداء. وهم سلم طويل بدأ بإسبينوزا ويضم لاسال وماركس (إلى حدٍّ ما) وفرويد وتروتسكي وليفي شتراوس. ومعظم هؤلاء المفكرين يرفضون الدين تماماً ولكنهم يقترحون بدلاً منه نموذجاً معرفياً مادياً متكاملاً شاملاً يحمل كثيراً من سمات الدين.

ويبدو أن إسبينوزا والمفكرين الثوريين مثل ماركس متأثرون بالنزعة المشيحانية في اليهودية وهي نزعة حلولية واحدية معادية تماماً للتاريخ وللحدود وترى أن كل تفاصيل التاريخ والكون تفاصيل مؤقتة، تؤدي جميعاً (في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير) إلى العصر المشيحاني (والفردوس الأرضي عند نهاية التاريخ) الذي سيحدث فيه تغيُّر كامل لكل شيء. وهذه النقطة عند إسبينوزا تأخذ شكل الإدراك الكامل لقانون الضرورة والحتمية، وهي المعرفة الشاملة بكل الأمور بحيث يصل الإنسان في معرفته إلى مرتبة الآلهة، وهي معرفته بأنه ليس ثمة حرية ولا معنى خاص له، وأنه جزء من كل مادي يتحرك حسب قوانينه الذاتية التي تستطيع الإرادة الإنسانية التدخل فيها. وتحوَّلت هذه الفكرة عند ماركس إلى فكرة الحتمية التاريخية وقوانين الجدل المادية التي ترتفع بالإنسانية جمعاء إلى المجتمع الشيوعي (في نهاية الأمر) حيث يتم التحكم الكامل في الذات والموضوع. ومع هذا، يجب تأكيد أن هذه النزعة المشيحانية السياسية العلمانية هي تيار واضح بين المفكرين العلمانيين الغربيين سواء كانوا من أصول مسيحية أم كانوا من أصول يهودية.

هاجم إسبينوزا اليهودية واليهود، وأشار البعض إلى أنه بسبب ذلك لا يمكن أن يكون صهيونياً. ولكننا بيَّنا أن مفهوم الشعب العضوي المنبوذ هو أساس لكل من معاداةاليهود والصهيونية. وينتمي إسبينوزا إلى هذا النمط، فعداؤه الشديد لليهود أدَّى به إلى طرح اقتراح صهيوني حين قال: "بل إنني لأذهب إلى حد الاعتقاد بأنه لو لم تكنمبادئ عقيدتهم [أي اليهود] قد أضعفت عقولهم، ولو سنحت الفرصة وسط التغيرات التي تتعرض لها أحوال البشر بسهولة، فقد يُنشئون مملكتهم من جديد، وقد يختارهم الإله مرة ثانية". ويمكن هنا أن نملأ بعض الفراغات الموجودة بين السطور والكلمات، وبين الدال والمدلول، من خلال معرفتنا برؤية إسبينوزا. فالعقيدة اليهودية حسب رأيـه أضـعفت عـقول اليهود بما حوت من غيب وغرض واتجاه وثنائيات، فإن نجحت اليهودية في تطهير نفسها من أية مطلقات أو ثنائيات، أي أصبحت عقيدة مادية علمانية تماماً، تدور في إطار وحدة الوجود المادية لا وحدة الوجود الروحية، لأمكنها أن تنقذ اليهود خصوصاً وسط التغيرات التي تحدث في العالم، وكان التغير الأساسي آنذاك هو صعود القوة الغربية وبداية التشكيل الاستعماري الغربي الذي كان يعني في واقع الأمر علمنة العالم وفرض إرادة القوة عليه. وسيؤدي هذا إلى أن يقوم اليهود بتأسيس مملكتهم الصهيونية بمساندة هذه القـوة الجديدة. وهذا ما يعنيه إسـبينوزا باختيار الإلـه لهم مرة ثانيـة.

والمشروع الصهيوني تنفيذ حرفي للمشروع الإسبينوزي، ذلك أن الصهيونية علمنت اليهودية وطهَّرتها من الغيبيات والثنائيات والغايات الأخلاقية، فوحَّدت بين الخالق والمخلوق والطبيعة (الإله والشعب اليهودي وإرتس أو أرض يسرائيل)، بحيث لا يمكن فصل أيٍّ من هذه الأشياء عن الآخر، تماماً مثلما وحَّد إسبينوزا بين الإله والإنسان والطبيعة في إطار واحديته الكونية المادية. ومع تصفية الثنائية، لم يَعُد اليهودي عضواً في جماعة دينية وعرْقية تتحدد هويتها حسب الموروث الديني والعرْقي (البيولوجي) وإنما عضواً في جماعة عرْقية (أي قومية) فقط تتحدد هويتها حسب موروثها العرْقي (أو الإثني) وحسب، وهو موروث لا يُلزمها بأية أهداف أخلاقية أو غايات إنسانية إذ يصبح الهدف الوحيد بقاء اليهود. لكن آلية هذا البقاء تكمن في القوة وفي المقدرة على ضرب كل من يقف في طريق اليهود بيد من حديد، فلهم « حق طبيعي كامل [مطلق]، ولهم من الحق على الطبيعة بقدر ما لهم من القوة ». فحق كل فرد « يمتد بقدر ما تمتد قوته ». وبالتالي، أصبح الشعب اليهودي شعباً مختاراً « مرة ثانية »، شعباً مختاراً لأنه اختار نفسه، شعباً يُشبه في كثير من الوجوه المستوطنين البيوريتان في أمريكا الشمالية الذين اختاروا مصيرهم وركبوا سفنهم و « اكتشفوا » العالم الجديد وطهروه من تاريخه السابق، وحولوه إلى جنة عذراء.

وقد أُقيمت في إسرائيل مراسم عودة إسبينوزا لحظيرة الدين مرة أخرى، ويُحتَفل بميلاده وذكرى نشر كتبه، ويوجد معهد متخصص لدراسة كتبه.

الفلاسفة من أعضاء الجماعات اليهودية في القرن الثامن عشر

Philosophers among Members of the Jewish Communities in the Eighteenth Century

بعد إسبينوزا لم يظهر داخل التشكيل الحضاري الغربي ولمدة قرنين من الزمان فيلسوف مهم من بين أعضاء الجماعات اليهودية. فجميع الفلاسفة البارزين من أعضاء الجماعات اليهودية وُلدوا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدأوا يكتبون في العقود الأولى من القرن العشرين. هذا لا يعني أنه لم يظهر بينهم فلاسفة، ففكر حركة الاستنارة ترك أثراً كاسحاً فيهم، ففكر موسى مندلسـون (« أفلاطون ألمانيا وسقرّاط اليهود » كما كان يُقال له) هو تنويع مباشر إن لم يكن اشتقاقاً مباشراً من فكر حركة الاستنارة والعقلانية المادية بكل نقطه الإيجابية والسلبية. كما تأثر المفكرون الدينيون والتربويون من أعضاء الجماعات اليهودية بالفكر الاستناري والربوبي وحركة التنوير اليهودية (هسكلاه) وهي ثمرة حركة الاستنارة.

وترك ظهور الفكر المعادي للاستنارة هو الآخر أثره العميق في المفكرين من أعضاء الجماعات اليهودية فظهر فكر عضوي يتحدث عن «تفرُّد اليهود» وعن «الشعب العضوي (فولك)» و«حركة التاريخ اليهودي» و«الشخصية اليهودية». وتبلور هذا الفكر في نهاية الأمر في الفكر الصهيوني. ولعل الانتقال من فكر حركة الاستنارة إلى فكر العداء للاستنارة يتبدَّى في ظهور اليهودية الإصلاحية (ثمرة حركة الاستنارة والتفكير الآلي) ثم اليهودية المحافظة (ثمرة حركة العداء للاستنارة والتفكير العضوي).ويبدو أن الفلاسفة من أعضاء الجماعات اليهودية يحققون بروزهم داخل الحضارة الغربية في لحظات الانقطاع الحادة.فإسبينوزا ظهر عند ولادة المنظومةالعلمانية في إطار العقلانية المادية (وتواري المنظومة المسيحية) وعبَّر عنها أبلغ تعبير. أما برجسون وهوسرل فظهرا بعد ميلاد اللاعقلانية المادية (بعد مقتل العقلانيةالمادية على يد نيتشه) وهما أيضاً عبَّرا عنها أبلغ تعبير.

هنري برجسون (1859-1941) واللاعقلانية المادية

Henri Bergson and Materialist Irrationalism

أحد أهم الفلاسفة الفرنسيين في مطلع القرن العشرين. وُلد في باريس في 8 أكتوبر 1859. وكان أبوه موسيقياً مشهوراً وسليل أسرة يهودية ثرية هي أسرة «أبناء بيريك» أو «بركسون» التي اشتُق منها اسم «برجسون» بعد أن اندمجت الأسرة في المجتمع الفرنسي (وتغيير الاسم حتى يفقد ملمحه اليهودي أمر مألوف بين أعضاء الجماعات اليهودية). كانت أم برجسون من أصل إنجليزي يهودي، ولكنها كانت هي الأخرى مندمجة في مجتمعها. ولذا، فقد تلقَّى برجسون تعليماً فرنسياً علمانياً، وأظهر نبوغاً في الدراسات الكلاسيكية والرياضيات معاً. دخل برجسون مدرسة المعلمين العليا الشهيرة عام 1878، وتجنَّس بالجنسية الفرنسية عام 1880 عندما بلغ سن الرشد. وفي عام 1881، حصل على الليسانس في الرياضيات والآداب معاً، ثم حصل على درجة الأجريجاسيون في الفلسفة عام 1881. وإذا كان تعليم برجسون فرنسياً، فإن حياته المهنية كانت كذلك أيضاً؛ فقد عُيِّن أستاذاً بالكوليج دي فرانس عام 1900، وانتُخب عضواً بأكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية عام 1901، ثم عُيِّن بالأكاديمية الفرنسية، وحصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1908. ومن أشهر مؤلفاته التطور الخلاق (1907)، و منبعا الأخلاق والدين (1932).

ويمكن توصيف عالَم برجسون بأنه مثل معظم الأيديولوجيات العلمانية يحاول أن يرد العالم بأسره إلى مبدأ واحد، وهو في حالته مبدأ التطور الدارويني، ولكنه يبذل محاولة لتهذيبه (لا لتغيير جوهره). وعالَم داروين عالَم حلقاته متصلة صلبة، كل عنصر فيه يؤدي إلى ما بعده، وتتطور الكائنات في إطاره حسب قوانين برانية صارمة تنضوي تحت رايتها كل الأشياء، فهو عالم لا ثغرات فيه؛ مطلق مصمت ميت.

وعلى طريقة مفكري عصر ما بعد الاستنارة والصورة المجازية العضوية للكون، أي شأنه شأن نيتشه ووليام جيمس، يحاول برجسون أن يُحيي هذا العالم الميت المغلق بأن يجعله كياناً تطورياً عضوياً مُفعَماً بالحياة التي تنبعث من داخله وتحركه وهي سبب نموه. فهذه طبيعة الأنساق الفكرية العلمانية حيث يتحوَّل المطلق إلى مبدأ حالٍّ في المادة، كامن فيها، ولا يمكنه أن يظهر إلا بأن يتجسد من خلالها. فيصبح الكون عالمَاً تطورياً حيوياً سائلاً حلقاته متصلة، لا ثغرات فيه ولا يستطيع أحد أن ينفلت من قوانينه وحركة نموه. ويمكن القول بأن كل فلسفة برجسون هي محاولة يائسة لإحياء عالم ميت وتأكيد للحرية في عالم السببية المادية الصلب.

الصفحة التالية ß إضغط هنا