المجلد السادس: الصهيــونيــــة 4

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

ثالثاً: الاستيطان في فلسطين.

تاريخ الحركة الصهيونية بعد ذلك هو تاريخ الاستيطان الصهيوني في فلسطين تحت رعاية حكومة الانتداب ومقاومة العرب لهذا الاستيطان. وقد ظهرت بعض التوترات بين القوة الاستعمارية الراعية والمستوطنين (وهو توتر يسم علاقة أية دولة راعية بالمستوطنين التابعين لها، وهو لا يعود إلى تناقض المصالح وإنما إلى اختلاف نطاقها، فمصالح الدولة الراعية أكثر اتساعاً وعالمية من مصالح المستوطنين). ولذا، فقد أصدرت الحكومة البريطانية الراعية مجموعة من الكتب البيضاء لتوضِّح موقفها من المستوطنين الصهاينة ومن العرب. وقد انتقل دور الدولة الراعية من إنجلترا إلى الولايات المتحدة. ولكن كل هذه العناصر لا تغيِّر بنية الفكر الصهيوني ولا اتجاه الحركة ولا تؤثر في المنظمة الصهيونية.

أما بالنسبة للمنظمة الصهيونية، فبعد صدور وعد بلفور كان ضرورياً أن يكون لها ذراعها الاستيطاني الذي يتعامل مع حقائق الموقف في فلسطين. وقد أسَّست المنظمة الصهيونية ساعدها التنفيذي المعروف باسم الوكالة اليهودية عام 1922، إذ نص صك الانتداب البريطاني على فلسطين على الاعتراف بوكالة يهودية مناسبة لإسداء المشورة إلى سلطات الانتداب في جميع الأمور المتعلقة بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وفي عام 1929، نجح وايزمان ـ رئيس المنظمة الصهيونية آنذاك ـ في إقناع أعضاء المؤتمر الصهيوني السادس عشر بضرورة توسيع الوكالة اليهودية بحيث يتشكل مجلسها من عدد من أعضاء المنظمة وعدد مثله من غير أعضائها. وكان الغرض من ذلك استمالة أثرياء اليهود التوطينيين لتمويل المشروع الصهيوني دون إلزامهم بالانخراط في صفوف المنظمة، والإيحاء في الوقت نفسه بأن الوكالة تمثل جميع يهود العالم ولا تقتصر على أعضاء المنظمة. وكان من شأن هذه الخطوة أن تعطي دفعة قوية للحركة الصهيونية وتدعم الموقف التفاوضي للمنظمة الصهيونية مع الحكومة البريطانية التي كان يقلقها تصاعد الأصوات الرافضة للصهيونية في أوساط يهود بريطانيا (وقد ظلت المنظمتان تُعرَفان بالاسم نفسه على النحو التالي: المنظمة الصهيونية/الوكالة اليهودية حتى عام 1971 حين جرت عملية مزعومة وشكلية لإعادة التنظيم بحيث أصبحت المنظمتان منفصلتين قانونياً ولكل منهما قيادة مختلفة).

ولم يهدأ الصراع تماماً بين التوطينيين والاستيطانيين. فحتى عام 1948، كان الصراع يدور حول من يتحكم في المنظمة وحول تحديد أهداف المشروع الصهيوني. أما بعدعام 1948، فإن مجال الصراع أصبح تعريف اليهودي (الديني والعلماني) إذ حُسمت قضية التحكم في المنظمة لصالح المستوطنين تماماً، ولم يعد الصهاينة التوطينيون يهتمون به.

رغم عدم اشتراك يهود البلاد العربية في إفراز الفكر الصهيوني أو الحركة الصهيونية، ورغم أن الصهيونية (بشقيها الشرقي والغربي) لم تتوجه إليهم بشكل خاص ولمتحاول تجنيدهم بشكل عام وواسع قبل عام 1948، إلا أن إنشاء الدولة قد خلق حركيات تتخطى إرادتهم. كما أن حاجة الدولة الصهيونية إلى طاقة بشرية (بعد عزل يهود الشرق أو اختفائهم وبعد رفض يهود الغرب الهجرة) جعلها تهتم بهم وتجندهم وتفرض عليهم في نهاية الأمر «مصيراً صهيونياً»، أي الخروج من أوطانهــم. وقد استقرت أعداد كبيرة منهم في الدولة الصهيونية، وإن كان من الملحوظ أن أعداداً أكبر استقرت خارجها.

وقد ظهرت صراعات بين دعاة الديموقراطية ودعاة الشمولية، وبين دعاة المشروع الرأسمالي الحر والنهج الاشتراكي، ولكنها صراعات لا علاقة لها بالفكر الصهيوني ولا الحركة الصهيونية فهي صراعات داخلية بين المستوطنين، وإذا شارك فيها الصهاينة التوطينيون فإن مساهمتهم تظل ثانوية. وتعود هامشية هذه الصراعات إلى أن الولايات المتحدة تمول التجمُّع الصهيوني بأسره، بمن فيه من رأسماليين وإرهابيين وعقلاء ومجانين واشتراكيين وقتلة. فالحقيقة الأساسية هي وظيفية الدولة الصهيونية، ولذا فإن الصراعات ذات المضمون الأيديولوجي العميق أو السياسي المسطح ليست ذات أهمية كبيرة. أما الصراع بين الإشكناز والشرقيين فهو صراع عميق ومهم ولكنه لا يؤثر في الفكر الصهيوني أو الحركة الصهيونية، فهو قضية إسرائيلية داخلية تماماً.

وخاضت الدولة الصهيونية حروبها المتعددة ضد العرب، من حرب 1948 إلى حرب 1956 إلى حرب 1967 إلى حرب 1973 إلى اجتياح لبنان عام 1982 وما تبعه من توسُّع ومزيد من القمع. وتزايد الرفض الفلسطينى للدولة الاستيطانية الصهيونية والمقاومة لها.

رابعاً: أزمة الصهيونية.

تواجه الصهيونية، كفكرة وحركة ومنظمة ودولة، أزمة عميقة لعدة أسباب من بينها انصراف يهود العالم عنها. فالصهيونية لا تعني لهم الكثير، فهم يفضلون إما الاندماج في مجتمعاتهم أو الهجرة إلى الولايات المتحدة، وقد تدهورت صورة المُستوطَن الصهيوني إعلامياً بعد الانتفاضة إذ أن هذه الدولــة الشرسـة أصبحت تسبب لهم الحرج الشـديد. وقـد أدَّى هـذا إلى أن المــادة البشـرية المُستـهدَفة ترفض الهجرة، الأمر الذي يسبب مشكلة سكانية استيطانية للمُستوطَن الصهيوني. ويُلاحَظ تزايد حركات رفض الصهيـونية والتمـلص منها وعدم الاكتراث بها بين يهود العالم.

وعلى المستوى الأيديولوجي، يُلاحَظ، في عصر نهاية الأيديولوجيا وما بعد الحداثة، أن كل النظريات تتقلص ويختفي المركز، والشيء نفسه يسري على الصهيونية إذ أن إيمان يهود العالم بها قد تقلَّص تماماً، ولذا فإن من يهاجر إلى إسرائيل إنما يفعل ذلك لأسباب نفعية مادية مباشرة. وفي داخل إسرائيل، تظهر أجيال جديدة تنظر إلىالصهيونية بكثير من السخرية. وعلى المستوى التنظيمي، تفقد المنظمة كثيراً من حيويتها وتصبح أداة في يد الدولة الصهيونية، وتُقابَل اجتماعاتها بالازدراء من قبَل يهود العالم والمستوطنين في فلسطين. ولم تغيِّر اتفاقية أوسلو من الأمر كثيراً، بل لعلها تُسرع بتفاقم أزمة الصهيونية، باعتبار أن الدولة ستصبح أكثر ثباتاً واستقراراً وستتحدد هويتها كدولة لها مصالحها الاقتصادية والإستراتيجية المتشعبة التي ليس لها بالضرورة علاقة كبيرة بأعضاء الجماعات اليهودية في العالم.

وهذه المرحلة شهدت تحول الفكرة الصهيونية، الاستيطانية الإحلالية، إلى واقع إستيطانى إحلالى، إذ نجحت الدولة الصهيونية فى طرد معظم العرب من فلسطين واستبعادمن تبقى منهم. وأصبحت الدولة الصهيونية هى الدولة/ الشتتل أو الدولة/ الجيتو، المرفوضة من السكان الأصليين، أصحاب الأرض.

ولكن فى عام 1967، مع ضم المزيد من الأراضى العربية بمن عليها من بشر، تحولت الدولة الصهيونية من دولة استيطانية إحلالية إلى دولة استيطانية مبنية على التفرقة اللونية (الأبا رتهايد) الأمر الذى يتبدى فى المعازل والطرق الالتفافية. وشهدت هذه الفترة مولد المقاومة الفلسطينية المنظمة وتصاعدها، واندلاع الانتفاضة المباركة، التى استمرت ما يزيد عن ستة أعوام، ولم تنطفأ جذوتها بعد، وهى بذلك تكون أطول حركة عصيان مدنى فى التاريخ.

المؤتمرات الصهيونية

Zionist Congresses

المؤتمر الصهيوني هو الهيئة العليا للمنظمة الصهيونية العالمية، وقراراته هي التي ترسم الخطوط العامة لسياسات المنظمة (انظر: «الهيكل التنظيمي للمنظمة الصهيونية العالمية»). ولذا، فإن رَصْد ما يحدث داخل هذه المؤتمرات، وتعاقُبها، يكون في واقع الأمر بمنزلة رَصْد لبعض أهم جوانب تاريخ الحركة الصهيونية.

وفيما يلي عرض موجز للمؤتمرات الصهيونية التي انعقدت حتى وقت صدور الموسوعة (1997):

المؤتمر الأول:

بازل، أغسطس 1897. وكان مزمعاً عقده في ميونيخ، بيد أن المعارضة الشديدة من قبَل التجمُّع اليهودي هناك والحاخامية في ميونيخ حالت دون ذلك. وقد عُقد في أغسطس 1897 برئاسة تيودور هرتزل الذي حدد في خطاب الافتتاح أن هدف المؤتمر هو وضع حجر الأساس لوطن قومي لليهود، وأكد أن المسألة اليهودية لا يمكن حلها من خلال التوطن البطيء أو التسلل بدون مفاوضات سياسية أو ضمانات دولية أو اعتراف قانوني بالمشروع الاستيطاني من قبَل الدول الكبرى. وقد حدد المؤتمر ثلاثة أساليب مترابطة لتحقيق الهدف الصهيوني، وهي: تنمية استيطان فلسطين بالعمال الزراعيين، وتقوية وتنمية الوعي القومي اليهودي والثقافة اليهودية، ثم أخيراً اتخاذ إجراءات تمهيدية للحصول على الموافقة الدولية على تنفيذ المشروع الصهيوني. والأساليب الثلاثة تعكس مضمون التـيارات الصهـيونية الثلاثة: العمـلية (التسللية)، والثقافية (الإثنية)، والسياسية (الدبلوماسية الاستعمارية). وقد تعرَّض المؤتمر بالدراسة لأوضاع اليهود الذين كانوا قد شرعوا في الهجرة الاستيطانية التسللية إلى فلسطين منذ 1882، واقترح شابيرا إنشاء صندوق لشراء الأرض الفلسطينية لتحقيق الاستيطان اليهودي، وهو الاقتراح الذي تجسَّد بعدئذ فيما يُسمَّى الصندوق القومي اليهودي. وقد اعترض هرتزل على هذا الاقتراح رغم أنه لم ينكر الحاجة إلى مثل هذا المشروع، ويبدو أن تحفظاته كانت تنْصبُّ على توقيت المشروع وليس جوهره. وفي هذا المؤتمر أيضاً، تم وضع مسودة البرنامج الصهيوني الذي عُرف ببرنامج بازل، كما ارتفعت الدعوة إلى إحياء اللغة العبرية وتكثيف دراستها بين اليهود والمستوطنين. وشهد المؤتمر ظهور الأشكال الجنينية للتيار الذي عُرف بعد ذلك باسم «الصهيونية العملية» التي قادها زعماء أحباء صهيون واصطدمت في كثير من الجوانب المرحلية بتيار هرتزل الذي يُطلَق عليه اسم «الصهيونية السياسية»؟ وكانت اللغة المستخدمة في المؤتمر هي الألمانية واليديشية.

المؤتمر الثاني:

بازل، أغسطس 1898. عُقد برئاسة هرتزل الذي ركَّز على ضرورة تنمية النزعة الصهيونية لدى اليهود، وذلك بعد أن أعلن معظم قيادات الجماعات اليهودية في أورباالغربية عن معارضتهم للحل الصهيوني للمسألة اليهودية. وكانت أهم أساليب القيادة الصهيونية لمواجهة هذه المعارضة، هو التركيز على ظاهرة معاداة اليهود، والزعم بأنها خصيصة لصيقة بكل أشكال المجتمعات التي يتواجد فيها اليهود كأقلية. وقد ألقى ماكس نوردو تقريراً أمام المؤتمر عن مسألة دريفوس باعتبارها نموذجاً لظاهرة كراهية اليهود وتعرُّضهم الدائم للاضطهاد حتى في أوربا الغربية وفي ظل النظـم الليبرالية بعـد انهيار أسـوار الجيتو. كما لجأت قيادة المؤتمر إلى تنمية روح التعصب الجماعي والتضامن مع المستوطنين اليهود في فلسطين بالمبالغة في تصوير سوء أحوالهم، وهو ما بدا واضحاً في تقرير موتزكين الذي كان قد أُوفد إلى فلسطين لاستقصاء أحوال مستوطنيها من اليهود، فأشار في تقريره إلى أنهم يواجهون ظروفاً شديدة الصعوبة تستدعي المساعدة من يهود العالم كافة لضمان استمرار الاستيطان اليهودي في فلسطين. ولهذا الغرض، فقد تم انتخاب لجنة خاصة للإشراف على تأسيس مصرف يهودي لتمويل مشاريع الاستيطان الصهيوني في فلسطين.

المؤتمر الثالث:

بازل، أغسطس 1899. عُقد برئاسة هرتزل الذي عرض تقريراً عن نتائج اتصالاته مع القيصر الألماني في إستنبول وفلسطين، وهي الاتصالات التي عرض فيها هرتزل خدمات الحركة الصهيونية الاقتصادية والسياسية على الإمبريالية الألمانية الصاعدة في ذلك الوقت مقابل أن يتبنى الإمبراطور المشروع الصهيوني. وطالب المؤتمر بتأسيس المصرف اليهودي تحت اسم «صندوق الائتمان اليهودي للاستعمار»، وذلك لتمويل الأنشطة الاستيطانية الصهيونية وتوفير الدعم المالي للحركة الصهيونية. كما ناقش المؤتمر قضية النشاط الثقافي اليهودي في العالم، كما تناول المؤتمر مسألة إعادة بناء الجهاز الإداري الدائم للحركة الصهيونية ليحل محلها الجهاز المؤقت.

المؤتمر الرابع:

لندن، أغسطس 1900. عُقد برئاسة هرتزل، وجرى اختيار العاصمة البريطانية مقراً لانعقاد المؤتمر نظراً لإدراك قادة الحركة الصهيونية في ذلك الوقت تعاظُم مصالح بريطانيا في المنطقة، ومن ثم فقد استهدفوا الحصول على تأييد بريطانيا لأهداف الصهيونية، وتعريف الرأي العام البريطاني بأهداف حركتهم. وبالفعل، طُرحت مسألة بث الدعاية الصهيونية كإحدى المسائل الأساسية في جدول أعمال المؤتمر. وشهد هذا المؤتمر ـ الذي حضره ما يزيد على 400 مندوب ـ اشتداد حدة النزاع بين التيارات الدينية والتيارات العلمانية، وذلك عندما طُرحت المسائل الثقافية والروحية للمناقشة، إذ طالب بعض الحاخامات بألا تتعرض المنظمة الصهيونية للخوض في القضايا الدينية والثقافية اليهودية، وأن تقصر عملها على النشاط السياسي وخدمة الاستيطان اليهودي في فلسطين. وإزاء ذلك، دعا هرتزل الجميع إلى نبذ الخلافات جانباً والتركيز على الأهداف المشتركة. وخلال المؤتمر، تم وَضْع مخطط المشروع المتعلق بإنشاء الصندوق القومي اليهودي. وقد وُوجه المؤتمر بمعارضة أعضاء الجماعة اليهودية في إنجلترا، وتجاهله أثرياء اليهود، ولذا توجَّه المؤتمر لغير اليهود ونجح في اجتذاب اهتمامهم إلى حدٍّ ما، وخصوصاً أن الصهيونية كانت تطرح حلاًّ لمشكلة المهاجرين من يهود اليديشية الذين كانوا يثيرون القلق في أوساط النخبة الحاكمة الإنجليزية وأثرياء اليهود. ولذا، حرص هرتزل على أن يدلي بشهادته أمام اللجان المختصة بمناقشة موضوع الهجرة اليهودية إلى إنجلترا.

المؤتمر الخامس:

بازل، ديسمبر 1901. عُقد برئاسة هرتزل الذي قدَّم تقريراً عن مقابلته مع السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ومحاولاته إقناعه بالسماح بموجات هجرة يهودية واسعة إلى فلسطين التي كانت وقتئذ إحدى ولايات الإمبراطورية العثمانية، وذلك مقابل اشتراك الخبرات اليهودية في تنظيم مالية الإمبراطورية العثمانية التي كانت تعاني ضائقة مالية آخذة في التفاقم.

وقد وافق المؤتمر على الاقتراح الذي تقدَّم به جوهان كريمينكس لتأسيس «الصندوق القومي اليهودي» بوصفه مصرفاً للشعب اليهودي يمكن استخدامه على نطاق واسع لشراء الأراضي في فلسطين وسوريا.

وشهد المؤتمر بروز تيار صهيوني، بزعامة مارتن بوبر وحاييم وايزمان وليو موتزكين وفيكتور جاكوبسون، ينتقد أساليب هرتزل غير الديموقراطية في القيادة ويدعو إلى أن تتحلى قيادة الحركة الصهيونية بقدر أكبر من الديموقراطية. كما انتقد هذا التيار عدم حرص قيادة المنظمة على القيام بنشاط فعال لبعث الثقافة اليهودية. وفي المقابل، ظلت التيارات الدينية على موقفها المعارض لقيام المنظمة بأية أنشطة ثقافية. وأدَّى احتدام الجدل بين هذه التيارات إلى انسحاب المتدينين بزعامة الحاخام إسحق راينز، وقد أسسوا فيما بعد حركة مزراحي الصهيونية التي آثرت ممارسة نشاطها في إطار الحركة الأم.

المؤتمر السادس:

بازل، أغسطس 1903عُقد برئاسة هرتزل، وكان آخر المؤتمرات الصهيونية التي حضرها. وقد ركز هرتزل في خطابه الافتتاحي، كالعادة، على تقديم تقرير إجمالي عن مباحثاته. وقد كانت مباحثاته هذه المرة مع السياسي البريطاني جوزيف تشمبرلين بشأن مشروع الاستيطان اليهودي في شبه جزيرة سيناء. وكان هرتزل قد ألمح لبريطانيا بهذا المشروع كوسيلة لمواجهة الثورة الشعبية المصرية التي رآها هو وشيكة الحدوث، وهو ما يستدعي وجود كيان سياسي حليف لبريطانيا على حدود مصر الشرقية. إلا أن بريطانيا لم تقبل هذه الفكرة وعرضت مشروعاً للاستيطان اليهودي في أوغندا عرف باسم «مشروع شرق أفريقيا». وقد نصح هرتزل المؤتمر بقبول هذا العرض، إلا أنه ووُجه بمعارضة من أطلقوا على أنفسهم اسم «صهاينة صهيون» بزعامة مناحم أوسيشكين رئيس اللجنة الروسية والذين رفضوا القبول ببديل لاستيطان اليهود في فلسطين. وقد نجح هرتزل رغم ذلك في الحصول على موافقة أغلبية المؤتمر على اقتراحاته وهو ما حدا بالمعارضين إلى الانسحاب من المؤتمر.

وقد تقرَّر إيفاد لجنة للمنطقة المقترحة للاستيطان اليهودي للاطلاع على أحوالها ودراسة مدى ملاءمتها لهذا الغرض. كما تقرَّر إنشاء «الشركة البريطانية الفلسطينية» في يافا لتعمل كفرع لـ «صندوق الائتمان اليهودي للاستعمار».

وقد شهد هذا المؤتمر نمواً عددياً ملحوظاً في أعضائه إذ حضره 570 عضواً يمثلون 1572 جمعية صهيونية في أنحاء العالم.

المؤتمر السابع:

بازل، أغسطس 1905. انتقلت رئاسة المؤتمر إلى ماكس نوردو بعد وفاة هرتزل، وكانت القضية الأساسية التي طُرحت للنقاش هي مسألة الاستيطان اليهودي خارج فلسطين، وخصوصاً في شرق أفريقيا. وجاء تقرير اللجنة التي أُوفدت إلى هناك ليفيد بعدم صلاحية المنطقة لهجرة يهودية واسعة. إلا أن بعض أعضاء المؤتمر دافع عن ضرورة قبول العرض البريطاني بدون أن تفقد الحركة أطماعها في فلسطين، وسُمِّي أنصار هذا الرأي الذي عبَّر عنه زانجويل باسم «الصهاينة الإقليميون». غير أن من المُلاحَظ أن غياب هرتزل، واعتراض المستوطنين البريطانيين في شرق أفريقيا على توطين أجانب في إحدى المستعمرات البريطانية، وكذا اعتراض اليهود المندمجين على المشروع، رجَّح إلى حدٍّ بعيد وجهة النظر الرافضة للاستيطان اليهودي خارج فلسطين، الأمر الذي جعل أغلبية المؤتمر تُصوِّت ضد هذا المشروع، وهو ما أدَّى إلى انسحاب الإقليميين وتأسيسهم المنظمة الإقليمية العالمية. واستمرت الأغلبية في تأكيد ضرورة الاستيطان في فلسطين. واكتسب أنصار الصهيونية العملية (الاستيطانية) قوة جديدة من هذا الموقف فتضمنت قرارات المؤتمر أهمية البدء بالاستيطان الزراعي واسع النطاق في فلسطين عن طريق شراء الأراضي من العرب وبناء اقتصاد مستقل لليشوف الاستيطاني داخل فلسطين، وهو أمر يكتسب أهمية خاصة في تاريخ الحركة الصهيونية على ضوء حقيقة أنه جاء عقب بداية وصول موجة الهجرة اليهودية الثانية (1904) إلى فلسطين، وهي الهجرة التي وضعت الأُسس الحقيقية للاستيطان الصهيوني وأسهمت إلى حدٍّ كبير بالاشتراك مع الهجرة الثالثة في تحديد معالمه، وامتد تأثيرهما معاً إلى فلسفة وأبنية الكيان الإسرائيلي عقب تأسيس الدولة. وقد أدخل المؤتمر تعديلاً مهماً على قانون «صندوق الائتمان اليهودي للاستعمار» بحيث ينص على تنفيذ المشاريع الصهيونية في فلسطين وسورريا وأي قسم آخر من تركيا الآسيوية وفي شبه جزيرة سيناء وجزيرة قبرص. كما جرى انتخاب دافيد ولفسون لرئاسة المنظمة الصهيونية العالمية خلفاً لهرتزل. وقد انتقلت قيادة الحركة الصهيونية من فيينا إلى كولونيا بألمانيا حيث يعيش ولفسون.

المؤتمر الثامن:

لاهاي، أغسطس 1907. عُقد برئاسة ماكس نوردو، وتركزت المناقشات فيه على برامج الاستيطان وإنشاء المستعمرات الزراعية في فلسطين. ولما كانت المنظمة الصهيونية تفتقر إلى مركز في فلسطين للإشراف على الأنشطة الاستيطانية، قرر المؤتمر تأسيس «مكتب فلسطين» ليتولى شراء الأراضي ومساعدة المهاجرين اليهود ودعم الاستيطان الزراعي. كما وافق المؤتمر على تأسيس شركة لشراء واستثمار الأراضي وهي التي سُجلت ـ فيما بعد ـ في بريطانيا باسم «شركة تنمية الأراضي في فلسطين». وقد ظهر في هذا المؤتمر التيار الصهيوني المسمَّى «الصهيونية التوفيقية».

وقد جدَّد المؤتمر انتخاب ولفسون رئيساً للمنظمة الصهيونية العالمية. وكان سبب عقد المؤتمر في لاهاي بهولندا هو تزامنه مع مؤتمر السلام الدولي الثاني حتى تُوضَع الحركة الصهيونية في بؤرة الاهتمام الدولي.

المؤتمر التاسع:

هامبورج، ديسمبر 1909. عُقد برئاسة كل من مناحيم أوسيشكين وحاييم وايزمان وناحوم سوكولوف، وهو أول مؤتمر يُعقَد في ألمانيا، وقد أولى اهتماماً واضحاً لبحث النتائج المترتبة على الثورة التركية بالنسبة لمشاريع الاستيطان اليهودي في فلسطين. وشهد المؤتمر زيادة ثقل الصهاينة العمليين ورغبتهم في ابتلاع فلسطين دون انتظار توافر الظروف السياسية الدولية المناسبة. ولهذا، قرر المؤتمر إنشاء مستوطنات تعاونية مثل الكيبوتس والموشاف، كما تصاعدت الأصوات المعارضة لزعامة ولفسون بسبب نظرته التجارية للنشاطات الاستيطانية إذ كان ينظر إلى أهمية هذه الأنشطة طبقاً لقيمتها الاقتصادية، إلا أنه نجح مع ذلك في الاحتفاظ بمنصبه كرئيس للمنظمة الصهيونية.

المؤتمر العاشر:

بازل، أغسطس 1911. عُقد برئاسة مناحم أوسيشكين، وقد اتضح فيه تماماً أن المؤتمرات الصهيونية إطار يتسع لوجود الاتجاهات والتيارات الصهيونية كافة، برغم ما يبدو عليها ظاهرياً من تناقضات. ففي الوقت الذي أكد فيه المؤتمر أن المسألة اليهودية لا يمكن أن تحل إلا بالهجرة إلى فلسطين، وأن المهمة الملحة للمنظمة الصهيونية العالمية هي تشجيع وتنظيم الهجرة إلى فلسطين، فقد نوقشت أيضاً مسألة إحياء وتدعيم الثقافة العبرية. كما سجل الصهاينة العمليون خلال هذا المؤتمر انتصاراً جديداً، حيث اضطر ولفسون أمام المعارضة المتنامية للاستقالة من منصبه وتم اختيار أوتو واربورج (أحد زعماء الصهيونية العملية) رئيساً للمنظمة الصهيونية. كما أن هذا المؤتمر كان بداية صعود نجم ناحوم سوكولوف حيث اختير لعضوية اللجنة التنفيذية للمنظمة. وكل هذا يعني استيلاء يهود شرق أوربا على المنظمة وأفول نجم يهود وسط أوربا (الألمان) الذين طوَّروا الأطروحات الصهيونية وأسسوا المنظمة وأداروها.

المؤتمر الحادي عشر:

فيينا، سبتمبر 1913. عُقد برئاسة ديفيد ولفسون. وهو آخر المؤتمرات الصهيونية قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى. وقد تمت فيه الموافقة بشكل مبدئي على إنشاء جامعة عبرية في القدس، وجاء ذلك تأكيداً لنفوذ وايزمان المتزايد حيث كان هو وأوسيشكين وبوبر من أبرز دعاة المشروع. كما أعلن المؤتمر تشجيعه للجهود الرامية لشراء وتنمية الأراضي في فلسطين. كما أصدر المؤتمر قراراً يتناول الهجرة اليهودية إلى فلسطين كواجب والتزام صهيوني على كل من يملك القدرة المادية على خلق مصالح اقتصادية ملموسة في فلسطين. وأشار القرار إلى أن كل يهودي يجب عليه أن يضع مسألة الاستيطان في فلسطين كجزء من برنامج حياته وسعيه لتحقيق مثاليته وكماله الخلقي.

المؤتمر الثاني عشر:

كارلسباد، سبتمبر 1921. عُقد برئاسة ناحوم سوكولوف وهو أول مؤتمر تعقده الحركة الصهيونية بعد نجاحها في استصدار وعد بلفور من بريطانيا عام 1917 واحتلال الجيوش البريطانية لفلسطين، الأمر الذي كان موضع ترحيب شديد من المؤتمر باعتباره خطوة في طريق تحقيق المشروع الصهيوني. كما تمت أيضاً مناقشة نشاطاتالصندوق التأسيسي اليهودي الذي أنشئ عام 1920 خلال مؤتمر استثنائي للمجلس الصهيوني العام في لندن. كما قرَّر المؤتمر تأسيس المجلس الاقتصادي المالي ليعمل كهيئة استشارية وليشرف على المؤسـسات الاقتـصادية والمالية للحركة الصهيونية. ومن الغريب أن المؤتمر، برغم هـذا التخـطيط الصهيــوني، قد أعلـن أن الصهـاينة يكافحــون من أجـل العيـش في ظـل علاقات انسـجام واحترام متــبادل مع الشـعب العربي، كمـا أن المجلـس التنفيـذي للمنظمة ناشـد المنظمة أن تحقق تفاهماً صادقاً مع الشعب العربي. ونظراً لازدياد أهمية الدور البريطاني بالنسبة للحركة الصهيونية، فقد قرر المؤتمر أن يكون للمجلس التنفيذي للمنظمة الصهيونية العالمية مقران؛ أحدهما في لندن والآخر في القدس. واختير ممثل العمال اليهود في فلسطين جوزيف سبرنزاك رئيساً للجنة التنفيذية في القدس بينما اختير ســوكولوف رئيســاً للجنـة التنفيذية بأكملها. وقد صدَّق المؤتمر على قرارات مؤتمر لندن الاستثنائي عام 1920 بانتخاب وايزمان رئيساً للمنظمة الصهيونية. وهكذا حُسم الصراع الذي دار في المؤتمر حول أساليب الاستيطان بين صهاينة الولايات المتحدة بزعـامة لويـس برانديز وصهاينة أوربا بزعامة وايزمان لصالح وايزمان.

المؤتمر الثالث عشر:

كارلسباد، أغسطس 1923. عُقد بعد موافقة عصبة الأمم على فرض الانتداب البريطاني على فلسطين. وقد أعلن المؤتمر ترحيبه بهذه الخطوة على ضوء التزام بريطانيا (في البند الرابع من صك الانتداب) بالاعتراف بوكالة يهودية تتمتع بالصفة الاستشارية إلى جانب حكومة الانتداب لها سلطة القيام بتنفيذ المشاريع الاقتصادية والاستيطانية، وبذلك التزمت بريطانيا بالتعاون مع تلك الوكالة في كل الأمور المتعلقة بإقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين.

وقد ناقش المؤتمر اقتراح وايزمان الرامي إلى توسيع الوكالة اليهودية بحيث تضم في مجلسها الأعلى ولجانها عدداً من المموِّلين اليهود في العالم، وخصوصاً غيرالصهاينة منهم. وكان الغرض من ذلك تعزيز المصادر المالية للمنظمة الصهيونية وضمان سرعة تنفيذ المشاريع الصهيونية اعتماداً على المراكز الرسمية الحساسة التي يشغلها هؤلاء المموِّلون بالإضافة إلى تدعيم المركز التفاوضي للمنظمة مع الحكومات الأوربية، والوقوف في وجه الرفض اليهودي للصهيونية وسياستها بادعاء أن المنظمة تمثل يهود العالم كافة دون تمييز. وقد لقي الاقتراح معارضة شديدة كان أبرز ممثليها جابوتنسكي. ولهذا، اكتفى المؤتمر باتخاذ قرار بتوجيه الدعوة إلى اجتماع لبحث توسيع الوكالة اليهودية عملاً بنص المادة الرابعة من صك الانتداب.

المؤتمر الرابع عشر:

فيينا، أغسطس 1925. حضر المؤتمر وفد من الصهاينة التصحيحيين برئاسة جابوتنسكي الذي طالب بتبني سياسة صهيونية أكثر إيجابية، وهو يعني في الواقع سياسةأكثر عنفاً ونشاطاً في تنفيذ مشروعات الاستيطان، كما عارض السماح لغير الصهاينة من اليهود بالانضمام إلى الوكالة اليهودية. وقد تناول المؤتمر بالتقييم تجربة السنواتالخمس الأولى من الانتداب، ومدى نجاح مشاريع الاستيطان المرتبطة بموجة الهجرة الرابعة القادمة من بولندا. كما أدخل المؤتمر تعديلاً على رسم العضوية (الشيقل) إذأبطل الأساس الحزبي للشيقل وأحل محله الشيقل الموحد، كما رفع عدد دافعي الشيقل الذين يحق لهم انتخاب مندوب عنهم في المؤتمر، إلا أن ذلك لم يؤد إلى تخفيف حدةالمعارضة.

المؤتمر الخامس عشر:

بازل، أغسطس/سبتمبر 1927. عُني المؤتمر بقضية أساسية هي بحث الأوضاع الاقتصادية السيئة التي برزت في المقام الأول في شكل تفشِّي ظاهرة البطالة في التجمع الاستيطاني الصهيوني في تلك الفـترة، وهو ما أدَّى إلى تصاعُـد موجـة الهجرة من فلسـطين إلى خارجها. وقد نظرت قيادة الحركة الصهيونية إلى هذه الظاهرة بانزعاج شديد، وجعلت هذا المؤتمر ميداناً لبحث الوسائل الكفيلة بمنع تفاقمه.

المؤتمر السادس عشر:

زيورخ، يوليه/أغسطس 1929. كان الإنجاز الأساسي لهذا المؤتمر هو إعداد دستور الوكالة اليهودية التي نص عليها صك الانتداب البريطاني على فلسطين، وتحقَّق في هذا الصدد ما نادى به وايزمـان من ضـرورة توسيع هـذه الوكالة لتشــمل اليهود غير الصهاينة، وهو الأمر الذي عارضه جابوتنسكي بشدة. كما كان المؤتمر بداية لبروز شخص ديفيد بن جوريون. وفي نهاية المؤتمر تجدَّد انتخاب وايزمان رئيساً للمنظمة الصهيونية العالمية، وسوكولوف رئيساً لمجلسها التنفيذي.

المؤتمر السابع عشر:

بازل، يونيه/يوليه 1931. عُقد برئاسة ليو موتزكين، وقد أعلن المؤتمر احتجاجه على مقترحات اللورد البريطاني باسفيلد، الذي أوصى عقب المظاهرات العربية في فلسطين سنة 1929 بوضع بعض القيود على الهجرة اليهودية وعلى عمليات شراء الأراضي العربية. وقد اضطر وايزمان إلى الاستقالة من رئاسة المنظمة الصهيونية أمام ضغوط المعارضة التي احتجت على سياسته الرامية إلى التحالف غير المشروط مع بريطانيا. وقد انتُخب سوكولوف رئيساً للمنظمة خلفاً لوايزمان. وأثار التصحيحيون بقيادة جابوتنسكي أزمة حينما طالبوا المؤتمر بأن يعلن في قرار واضح لا لبس فيه أن إقامة دولة يهودية في فلسطين هو الهدف النهائي للحركة الصهيونية، إلا أن الأحزاب الصهيونية العمالية قد رفضت أن يُطرَح مثل هذا القرار للتصويت لخطورة النتائج المترتبة على مثل هذا الإعلان المبكر عن الأهداف الصهيونية. وقد أيَّدت الأغلبية هذا الرأي، وهو ما أدَّى إلى انسحاب جابوتنسكي وأنصاره وتكوين المنظمة الصهيونية الجديدة.

المؤتمر الثامن عشر:

براغ، أغسطس/سبتمبر 1933. تكمن أهمية هذا المؤتمر في أنه جاء عقب وصول هتلر إلى الحكم في ألمانيا. وقد درس المؤتمر برنامجاً واسعاً لتوطين اليهود الألمان في فلسطين. وقد حضر المؤتمر بعض التصحيحيين بزعامة ماير جروسمان، الذين انشقوا على قيادة جابوتنسكي وألفوا حزب الدولة اليهودية وأكدوا اعترافهم بسيادة المنظمة الأم في كل الأحوال. كما شهد المؤتمر صراعاً واضحاً بين حزب الماباي الذي تأسس سنة 1930 وبين التصحيحيين، وهو الأمر الذي يُعَد الأساس التاريخي للصراع بين الماباي وحزب حيروت بعد إنشاء دولة إسرائيل (ثم بين المعراخ وليكود). وقد جدَّد المؤتمر انتخاب سوكولوف رئيساً للمنظمة الصهيونية العالمية. وفي هذا المؤتمر نجح الصهاينة العماليون (الاستيطانيون) في تمرير اتفاقية الهعفراه التي كان يفكر قادة المستوطنين في توقيعها مع النازي.

المؤتمر التاسع عشر:

لوسيرن (سويسرا)، أغسطس/سبتمبر 1935. عُقد برئاسة وايزمان، وكان ناحوم جولدمان أحد نواب الرئيس. وقد قاطع التصحيحيون هذا المؤتمر الذي انصب اهتمامه على أوضاع اليهود في ألمانيا وكيفية ترتيب إجراءات هجرتهم إلى فلسطين، وكذلك تنمية نشاطات الصندوق القومي اليهودي. وقد رفض المؤتمر الاقتراح الذي تقدَّمت به بريطانيا لإنشاء المجلس التشريعي في فلسطين. كما تقرر إعادة وايزمان لرئاسة المنظمة الصهيونية بينما انتُخب سوكولوف رئيساً فخرياً للمنظمة الصهيونية والوكالة اليهودية، كما أُعيد انتخاب بن جوريون لعضوية اللجنة التنفيذية.

المؤتمر العشرون:

زيوريخ، أغسطس 1937. عُقد برئاسة مناحم أوسيشكين. وقد تناول المؤتمر تقرير لجنة حول تقسيم فلسطين والذي كان قد أُعلن قبل شهر من انعقاد المؤتمر. وقد انقسمت الآراء حول التقرير ودارت المناقشة حول المقارنة بين المزايا النسبية لإقامة الدولة الصهيونية المستقلة وبين ما تصوَّرت بعض قيادات الحركة الصهيونية أنه تضحية من جانبها بالأقاليم المخصصة للعرب وفقاً لهذا المشروع وخسارة للجزء الأعظم من فلسطين. فمن جانبهما، أعلن وايزمان وبن جوريون تأييدهما لإجراء مفاوضات مع الحكومة البريطانية بهدف التوصل إلى خطة تُمكِّن يهود فلسطين من تكوين دولة يهودية مستقلة ومن تحسين أحوال اليهود في البلاد الأخرى في آن واحد. وعلى الجانب الآخر، قاد كاتزنلسـون وأوسيشكين المعارضة الصارمة، ورفضا مبدأ التقسـيم أصلاً، انطلاقاً من أن الشعب اليهودي لا يملك أن يتنازل عن حقه في أي جزء من وطنه التاريخي، ولذا فإن الدولة اليهودية (أي الصهيونية) لابد أن تشمل فلسطين كلها. وقد توصَّل المؤتمر إلى حل وسط تمثَّل في اعتبار مشروع التقسيم غير مقبول، إلا أنه فوَّض المجلس التنفيذي في التفاوض مع الحكومة البريطانية لاستيضاح بعض عبارات الاقتراح البريطاني التي اعتُبرت غامضة في ظاهرها، وكان الهدف الحقيقي هو ممارسة الضغط على بريطانيا لتبنِّي موقف أكثر تعبيراً عن المصالح الصهيونية مع استغلال نشوء ظرف تاريخي جديد هو اشتعال الثورة الفلسطينية الكبرى (1936 ـ 1939).

المؤتمر الحادي والعشرون:

جنيف، أغسطس 1939. عُقد برئاسة أوسيشكين. وكانت القضية الأساسية المطروحة للمناقشة أمامه هي الموقف من الكتاب الأبيض البريطاني الذي كانت بريطانيا قد أصدرته لتوها لاسترضاء العرب بوضع بعض القيود على حجم الهجرة اليهودية ومساحات الأرض التي يجوز شراؤها من جانب اليهود، وذلك بعد أن نجحت في قمع الثورة الفلسطينية الكبرى (1936 ـ 1939) بالتعاون مع الحركة الصهيونية ومنظماتها الاستيطانية في فلسطين. وقد استند هذا الرفض الصهيوني إلى مناخ الحربالعالمية الثانية التي بدأت نذرها تلوح في الأفق بما يعنيه هذا من شدة احتياج بريطانيا لمساعدة الحركة الصهيونية.

المؤتمر الثاني والعشرون:

بازل، ديسمبر 1946. عُقد برئاسة وايزمان، وقد حضر التصحيحيون هذا المؤتمر. وكان المناخ الذي انعقد في ظله المؤتمر هو محاولة الضغط على بريطانيا لخلق الدولةالصهيونية، ولذا فقد تزعَّم التصحيحيون الاتجاه الداعي إلى تبنِّي سياسة متشددة إزاء بريطانيا انطلاقاً من الاعتقاد بأنها لم تنفذ ما تعهدت به وفق نص الانتداب. كما طالبوا بتدعيم حركة المقاومة العبرية التي هاجمت بعض المنشآت البريطانية. وفي مواجهة هذا الموقف، تبنَّى وايزمان رأياً يدعو إلى الدخول في حوار مع بريطانيا حرصاً على استمرار علاقات طيبة مع الدولة التي تملك إمكانية فتح أبواب فلسطين لهجرة يهودية واسعة. وإزاء هذا الصراع قدَّم وايزمان استقالته من رئاسة المنظمة الصهيونية، وأخفق المؤتمر في اختيار بديل له. وقد اختير ناحوم جولدمان رئيساً للجنة التنفيذية في نيويورك، وبيرل لوكر رئيساً لهذه اللجنة في القدس.

المؤتمر الثالث والعشرون:

القدس، أغسطس 1951. أول مؤتمر صهيوني يُعقَد في القدس بعد قيام الدولة الصهيونية، وكان برئاسة ناحوم جولدمان. ولذا، فقد كان من الطبيعي أن تكون إحدى المسائل الأساسية موضوع الدراسة في المؤتمر هي العلاقة بين الدولة الصهيونية الناشئة والحركة الصهيونية التي خلقتها متمثلة في المنظمة الصهيونية العالمية، وكيفية تحديد اختصاصات كل منهما تفادياً للتضارب أو الازدواج. وقد ترتَّب على توصية المؤتمر بتنظيم هذه العلاقة حيث أصدرت الحكومة الإسرائيلية قانوناً بهذا الشأن في نوفمبر 1952 أعطت للمنظمة بموجبه وضعاً قانونياً فريداً يخوِّل لها حق جَمْع الأموال من يهود العالم وتمويل الهجرة إلى إسرائيل بل حتى الإشراف على توطين واستيعاب المهاجرين داخل المجتمع الإسرائيلي والمساعدة في تطوير الاقتصاد وما تستدعيه ممارسة هذه الصلاحيات جميعاً من التمتع بحقوق التعاقد والملكية والتقاضي، وهو ما دفع بعض الفقهاء إلى اعتبار هذا الوضع نموذجاً شاذاً لمنظمة خاصة ذات صفة دولية تمارس صلاحيات واسعة على إقليم دولة معينة بموافقتها وعلى أراضي الدولة الأخرى نيابة عنها. وقد أدخل المؤتمر تعديلات جوهرية على برنامج بازل لمواجهة الأوضاع الجديدة التي ترتبت على تحقيق الهدف الرئيسي لهذا البرنامج أي تأسيس الدولةالصهيونية، وعرف هذا البرنامج الجديد باسم «برنامج القدس».

المؤتمر الرابع والعشرون:

القدس، أبريل/مايو 1956. عُقد برئاسة سير نيزاك. وقد كان هذا المؤتمر بمنزلة مظاهرة دعائية تمهد للعدوان الإسرائيلي على مصر والذي أعقب انفضاض جلسات المؤتمر بخمسة شهور، فقد أشار المؤتمر في بيانه السياسي الختامي إلى أنه يدرك تماماً المخاطر التي تهدِّد دولة إسرائيل بسب النوايا العدوانية للدول العربية التي تتلقَّى السلاح من الشرق والغرب. وناشد المؤتمر يهود العالم جميعاً الإسراع بتحمُّل مسئولياتهم التاريخية تجاه إسرائيل، وتعبئة كل الإمكانيات لضمان قوتها وأمنها ورخائها، وضمنه تدفُّق الهجرات اليهودية واسعة النطاق إلى إسرائيل، وضمان توفُّر نظام متكامل وحديث لاستيعاب المهاجرين الجدد في إسرائيل، وهو ما يعني في النهاية تكريس المشروع الاستيطاني الصهيوني على حساب الشعب الفلسطيني. وفي نهاية المؤتمر، تم انتخاب جولدمان رئيساً للمنظمة الصهيونية ورئيساً للمجلس التنفيذي للوكالةاليهودية بعد أن ظل هذا المنصب شاغراً منذ استقالة وايزمان عام 1946.

المؤتمر الخامس والعشرون:

القدس، ديسمبر 1960/يناير 1961. عُقد برئاسة ناحوم جولدمان، وقد اتسم هذا المؤتمر بانفجار خلاف واضح بين بن جوريون (رئيس الوزراء وقتئذ) وجولدمان حول تكييف العلاقة بين إسرائيل والمنظمة الصهيونية. وهنا تبدو محاولة الصفوة السياسية الإسرائيلية وضع قبضتها على المنظمة الصهيونية، فقد أشار بن جوريون إلى ضرورة أن تكون المنظمة إحدى أدوات السياسة الخارجية الإسرائيلية في تحقيق الإشراف على يهود العالم وتعبئة إمكاناتهم لتدعيم الكيان الصهيوني، بينما كان جولدمان يرى أن المنظمة هي المسئولة دائماً عن الحركة الصهيونية، سواء داخل حدود إسرائيل (الكيان الذي خلقته المنظمة) أو خارجها. وبالإضافة إلى هذا، كانت قضية الهجرة اليهودية إلى إسرائيل هي ميدان الخلاف الثاني، خصوصاً بعد أن كادت الهجرة اليهودية من أوربا الغربية وأمريكا لإسرائيل أن تتوقف نتيجة تصاعُد إمكانات اندماج اليهود في مجتمعاتهم. وإزاء هذا الوضع، أكد بن جوريون أن الهجرة إلى إسرائيل واجب ديني وقومي على كل اليهود، ذلك لأن اليهودي لا يكتسب كماله الخلقي ومثاليته ولا يعبِّر عن إيمانه بالصهيونيـة إلا بالوجـود على أرض الدولة اليهـودية، أي الدولـة الصهيونية، على حين رأى جولدمان أن بمقدور اليهودي أن يكون صهيونياً مخلصاً معاستمراره في الإقامة في بلده الأصلي.

وقد انتهى المؤتمر إلى حل وسط يتمثل في ضرورة تدعيم التعليم اليهودي في أنحاء العالم وتنمية الثقافة اليهودية لدى يهود المجتمـعات الغربية للحـيلولة دون انصـهارهم في مجتمعاتهم الأصلية. كما أعاد المؤتمر انتخاب جولدمان رئيساً للمنظمة الصهيونية العالمية.

المؤتمر السادس والعشرون:

القدس، ديسمبر 1964/يناير 1965. عُقد برئاسة جولدمان الذي أشار في خطاب الافتتاح إلى ضرورة بدء عهد جديد من التعاون بين إسرائيل والجماعات اليهودية في العالم (الدياسبورا)، كما أكد مسئولية دولة إسرائيل في مكافحة خطر اندماج يهود الدياسـبورا فكـرياً وثقافياً واجــتماعياً في المجتـمعات التي يقيمون فيها، وهو الخطر الذي اتسمت الحركة الصهيونية دائماً بحساسية دائمة ومفرطة تجاهه والذي رأت فيه تهديداً لها لا يقل عن ظاهرة العداء لليهود. ولمواجهة هذا الخطر، أوصى المؤتمر بأن تُولي المنظمة الصهيونية بالتعاون مع الحكومة الإسرائيلية قضية تدعيم اللغة العبرية والقيم القومية التقليدية لدى يهود العالم اهتماماً متزايداً. ونظراً لهبوط معدلات الهجرة إلى إسرائيل في تلك الفترة هبوطاً شديداً، شهد هذا المؤتمر بداية الضغوط الصهيونية بشأن ما عُرف بقضية اليهود السوفييت. وقد جدَّد المؤتمر انتخاب جولدمان رئيساً للمنظمة الصهيونية العالمية.

المؤتمر السابع والعشرون:

القدس، يوليه 1968. أول مؤتمر صهيوني يتم عقده بعد أن دخلت التوسعية الإسرائيلية مرحلة متقدمة من مراحل التعبير عن نفسها في حرب يونيه 1967. وقد طُرحت قضية الهجرة اليهودية إلى إسرائيل كقضية محورية في هذا المؤتمر للدفاع عما استطاعت إسرائيل تحقيقه من تَوسُّع بالقوة المسلحة في حرب يونيه 1967، ولتشجيعسياسة الاستيطان في الأراضي المحتلة، ولتطبيق السياسة التي أعلن عنها ديان باسم «سياسة خَلْق الحقائق الجديدة». والواقع أن هذا يؤكد ما اعتبره جولدمان المهامالأساسية التي تواجه الحركة الصهـيونية والتي كانت مسـألة الهجــرة في طليعـتها. وفي هذا الصدد، صدَّق المؤتمر على قرار الحكومة الإسرائيلية بإنشاء وزارة لاستيعابالمهاجرين. وهنا يبدو أن تَوسُّع سنة 1967 قد اختصر المسافة بين جولدمان وبين بن جوريون وتلامذته ديان وبيريز، وجعل القضية المطروحة عليهم جميعاً بإلحاح هي كيفية خلق واقع سكاني جديد في الأراضي العربية المحتلة. ومن المثير للدهشة بعد هذا أن يناشد المؤتمر الشعوب العربية والقادة العرب التعجيل بإحلال السلام في الشرقالعربي، وأن يدعو بيانه الختامي الدول المحبة للسلام أن تقدِّم لإسرائيل أسلحة دفاعية ضد العرب الذين يهددونها بخطر الإبادة. وفي نهاية المؤتمر، قدَّم جولدمان استقالته من رئاسة المنظمة الصهيونية ولم يتم اختيار خلف له.

المؤتمر الثامن والعشرون:

القدس، يناير 1972. عُقد برئاسة أرييه بينكوس الذي انتُخب أيضاً رئيساً للجنة التنفيذية. وقد كان واضحاً منذ البداية تصاعد النفوذ الإسرائيلي الرسمي في المؤتمر. وقد أعلن جولدمان اعتراضه على الحملة الإسرائيلية على الاتحاد السوفيتي حول قضية هجرة اليهود السوفييت إلى إسرائيل. ويمكن القول بأن السمة الأساسية للمناخ الذي انعقد في ظله المؤتمر هي الإحساس بتفاقم التناقضات العرْقية والاجتماعية في إسرائيل، ولعلها المرة الأولى التي يتطرق فيها مؤتمر صهيوني إلى الناحية الاجتماعية داخل الكيان الصهيوني، بحيث خصص إحدى لجانه لدراستها، وخصوصاً بعد ظهور حركة الفهود السود، كأحد مظاهر احتدام التناقض بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين. ولعل هذا هو السبب في رفض قيادات المؤتمر الصهيوني إعطاء الفرصة للفهود السود كي يتحدثوا أمام المؤتمر وذلك خشية ما يمكن أن يحـدث من آثار سـلبية على قضـية الهـجرة اليهودية إلى إسرائيل، وهي القضية التي استمر المؤتمر في تأكيد محوريتها وتأكيد ضرورة كفالة الظروف الملائمة لتشجيعها مثل الاستيعاب والاستيطانوالحيلولة دون احتدام التناقضات الاجتماعية والسلالية داخل إسرائيل. وقد دعا المؤتمر إلى ضرورة دعم التعليم اليهودي والثقافة الصهيونية لدى الجماعات اليهودية في العالم. وقد استغلت بعض القيادات الإسرائيلية (بنحاس سابير ـ إيجال آلون) المؤتمر لتأكيد أهمـية الهجرة للمطالبة بمزيد من المسـاعدات المالية من الجماعات اليهودية، وذلك لتأمين استيعاب موجات الهجرة إلى إسـرائيل عن طريق مشـروعات الاستيطان في الأراضي العربية المحتلة، وهي المشروعات التي أشار إيجال آلون إلى أنها تسهم في تجديد روح الريادة في أوساط الشباب، وهو ما يعني تحقيق المزيد من إضفاء الطابع الصهيوني على الصابرا والمهاجرين الجدد، وخصوصاً بعد أن لاحظ المؤتمرعزوف الشباب عن الصهيونية ومُثُلها.

المؤتمر التاسع والعشرون:

القدس، فبراير/مارس 1978. عُقد برئاسة أرييه دولزين الذي انتُخب رئيساً للجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية. وشارك في هذا المؤتمر ـ لأول مرة ـ ممثلون ومراقبون من خمس منظمات يهودية عالمية هي: الاتحاد العالمي لليهود الشرقيين ـ منظمة مكابي العالمية ـ الرابطة العالمية لليهود التقدميين ـ المجلس العالمي للمعابد المحافظة ـ المؤتمر العالمي للمعابد الأرثوذكسية.

وجاء المؤتمر عقب صعود ليكود إلى الحكم، ففقد التجمع العمالي «المعراخ» مكانته كقوة أولى في الحركة الصهيونية، كما تغيَّرت التحالفات داخل المؤتمر لصالح الليكود حيث انفرط الحلف التقليدي بين العمل ومزراحي نتيجة انضمام الأخير إلى تحالف الليكود. وأبدت الكونفدرالية العالمية للصهيونية العمومية استعدادها للانضمام للائتلاف الجديد. وفي المقابل، نشأ تحالف بين المعراخ وممثلي اليهود الإصلاحيين. وقد انعكس هذا التحول على مناقشات المؤتمر، فشهدت مداولات تشكيل اللجنة التنفيذية خلافات حادة بين الكتلتين على توزيع مقاعد اللجنة، كما تفجرت الخلافات بينهما عند مناقشة مسألة تمثيل اليهود الشرقيين بشكل مناسب في أجهزة المنظمة الصهيونية.

وعكست مناقشات المؤتمر جو الأزمة العامة التي تعيشها الحركة الصهيونية والتي تجسَّدت في عدد من الظواهر البارزة لعل أهمها تَراجُع معدلات الهجرة إلى الكيان الصهيوني وتزايد معدلات النزوح والتساقط، بالإضافة إلى الإخفاقات المستمرة في مجال التعليم اليهودي وانفصال الشباب اليهودي بشكل متزايد عما يُسمَّى «التراث اليهودي» وارتفاع نسبة الزواج المُختلَط، وهو ما اعتبره أعضاء المؤتمر كارثة سكانية تزداد حدتها يوماً بعد يوم.

وأولى المؤتمر التوسـع في إقامة مـستوطنات جــديدة اهتماماً بالغاً، وكذا العمل على سرعة استيعاب المهاجرين في المستوطنات القائمة. وبشكل عام، تميَّزت المناقشات بالتكرار والصخب والتهديد بالانسحاب من جانب هذا التيار أو ذاك، ولهذا فقد أُحيلت القرارات إلى محكمة المؤتمر للبت فيها ولم يتمكن المؤتمر من إعلان مقرراته في جلسته الختامية.

المؤتمر الثلاثون:

القدس، ديسمبر 1982. عُقد برئاسة آرييه دولزين، وهو المؤتمر الأول بعد توقيع معاهدة السلام بين الحكومتين المصرية والإسرائيلية، وقد جاء بعد أشهر قليلة من الغزو الصهيوني للبنان وما أسفرت عنه الحرب اللبنانية من تغيُّرات جوهرية في خريطة الصراع العربي الصهيوني. كما صاحب المؤتمر تصاعُد الرفض داخل إسرائيل وخارجها لسياسات حكومة الليكود.

وقد تركزت مناقشات المؤتمر حول المشاكل التقليدية للحركة الصهيونية وأهمها مشكلة النزوح والتساقط وإخفاق جهود الدولة والمنظمة الصهيونية في جَلْب المهاجرين اليهود إلى إسرائيل، بالإضافة إلى عدم إقبال الشباب على التعليم اليهودي. وكالعادة، لم يتوصل المؤتمر إلى تعريف اليهودي ولا تعريف الصهيوني، وهو ما دفع الكثيرين من أعضاء المؤتمر إلى التعبير عن خيبة أملهم إزاء فشل المؤتمرات الصهيونية المتوالية في مواجهة أيٍّ من المشاكل الملحة للحركة الصهيونية.

وبالنسبة للاستيطان، تقدَّم مندوبو الليكود ومزراحي وهتحيا بمشروع قرار ينص على حق الشعب اليهودي في أرض إسرائيل كحق أبدي غير قابل للاعتراض. واختلف معهم مندوبو المعراخ في تحديد أفضلية مناطق الاستيطان، حيث يرى هؤلاء ضرورة إعطاء الأولوية للتطور الاستيطاني الواسع في المناطق التي لا توجد بها كثافة سكانية كبيرة وفي المناطق التي تشكل أهمية حيوية لأمن إسرائيل.

وكاد المؤتمر أن يسفر عن انشقاق في الحركة الصهيونية عندما حاول الليكود تشكيل اللجنة التنفيذية بدون حركة العمل وهو ما أدَّى إلى تشابك المندوبين بالأيدي والكراسي وتهديد حركة العمل بتعطيل المؤتمر. وتعرَّض المؤتمر لهزة أخرى حين قدَّم المراقب المالي للمنظمة تقريراً اتهم فيه كبار المسئولين بإساءة استخدام الأموال التي يتبرع بها يهود العالم.

وتعرَّض المؤتمر لقضية الفجوة الطائفية بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين في إسرائيل، واتهم اتحاد اليهود الشرقيين كلاًّ من وزير الخارجية ورئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية بتجاهل ممثلي الاتحاد عمداً.

وقد أعـاد المؤتمر انتخاب دولزين رئيـساً للجــنة التنفيذية للمنظمة.

المؤتمر الحادي والثلاثون:

القدس، ديسمبر 1987. وقد ناقش المؤتمر كالعادة قضية «تعريف اليهودي» وأصدر قراراً في هذا الصدد بمنح تيارات الديانة اليهودية كافة حقوقاً متساوية وهو قرار بلا معنى. وناقش المؤتمر أيضاً قضية حدود الدولة ولم يصل إلى أية قرارات في هذا الصدد كالعادة أيضاً. ولم يتم الموافقة على مشروع القرار الذي قدمته حركة العمل الداعي لإنهاء السيطرة على 1.3 مليون عربي. وحتى بعد تعديله وفوزه بالأغلبية، لم يَصدُر القرار لأن اليمين هدد بالانسحاب. ومن الواضح أن قادة يهود العالم لم يَعُد لهم أي تأثير على سياسة الحكومة الإسرائيلية. وأشارت قرارات المؤتمر إلى تدنِّي الهجرة إلى إسرائيل وازدياد النزوح منها. وطرح البعض مبدأ ثنائية المركزية (أي أن يكون ليهود العالم مركزان، واحد في إسرائيل والثاني في الدياسبورا) بعد فشل برنامج القدس في تحقيق أهدافه. والدلالة العملية لهذا المبدأ هو أن إسرائيل لم تَعُد مركزاً روحياً لليهود كما تدَّعي الحركة الصهيونية بل إن فكرة المركز الروحي نفسها قد اشهرت إفلاسها. وناقش المؤتمر موضوع الفلاشاه ويهود سوريا. وكان التركيز في القرارات على التربية اليهودية والصهيونية رغم أن القرارات عكست أيضاً تمزقاً شديداً، حتى أن البعض ناقش مرة أخرى مبرر استمرار بقاء المنظمة الصهيونية بعد إنجاز هدف إقامة الدولة العبرية.

وقد عكس المؤتمر الانحسار الأيديولوجي للصهيونية خصوصاً أنه جاء بعد نشوب انتفاضة الشعب الفلسطيني في الأرض العربية المحتلة وانكشاف الأزمة العميقة في الدولة الصهيونية.

ومما يجدر ذكره أنه، خلال المؤتمر الحادي والثلاثين، لم تَعُد القوة المهيمنة على حكومة المستوطنين هي نفسها القوة المهيمنة على المنظمة، إذ انتقل ميزان القوى ولأول مرة منذ عام 1948 إلى كتلة تمثل التحالف بين بعض الصهاينة الاستيطانيين وحركة العمل الصهيونية (حزب العمل وحزب مابام وراتس وياحد) من جهة، والحركات الصهيونية العالمية (التوطينية) مثل الكونفدرالية العالمية للصهيونيين المتحدين والحركة الصهيونية الإصلاحية وحركة المحافظين من جهة أخرى، حيث استحوذ هذاالتحالف على 308 مندوبين من مجموع 530 مندوباً. وقد حدث هذا الانقلاب بعد أن شـعر الإصـلاحيون والمحافظون بأن اليمين الصهيوني (الليكود وغيره)، المتحالف مع الأحزاب الدينية، سيعمل على تمرير قانون «من هو اليهودي»، ذلك إلى جانب الاستياء المتراكم من ممارسـات حكومة الليكـود الإسرائيلية نتيجـة سياستها الداخلية والخارجية. وقد انتُخب سيمحا دينيتز رئيساً للجنة التنفيذية للمنظمة خلفاً لآرييه دولزين.

المؤتمر الثاني والثلاثون:

القدس، يوليه 1992 خيَّم على المؤتمر إحساس عميق بأن "المولد الصهيوني" قد أوشـك على الانفضـاض، وأن المنظمـة الصهيونية أصبحت، "عظاماً جافة" و"هيكلاً بدون وظيفة" (ميزانية المنظمة 49 مليون دولار مقابل ميزانية الوكالة اليهودية التي بلغت 450 مليون دولار). وقد تساءل مراسل الإذاعة الإسرائيلية: "هل ما زالت هذه المؤسسة قائمة؟" وقد استُنفد معظم الوقت في تدبير التعيينات في المناصب والصراع على الوظائف رغم أنه كان قد وُوفق على معظمها قبل المؤتمر.

وقد لوحظ أن معظم التعيينات تمت على أساس سياسي وليس على أساس الكفاءة، كما لوحظ أن أعضاء المؤتمر لم يتم انتخابهم إذ تم تعيينهم عن طريق عقد الصفقات. وقد أجمع المراقبون على أن المنظمة تعاني تضخُّم البيروقراطية والإسراف والابتعاد عن الأيديولوجية الصهيونية. وقد فُسِّر ذلك على أساس تعاظم دور المؤسسات الصهيونية غير السياسية في الحركة الصهيونية، وخصوصاً تلك التي تنتمي إلى التيارات الدينية المختلفة. ورغم الحديث عن ضرورة تشجيع الهجرة، إلا أن ميخائيل تشلينوف (رئيس المنظمة العليا لمهاجري الاتحاد السوفيتي سابقاً "فاعد") لم يُسمَح له بأن يلقي كلمته، وذلك لأن أعضاء الوفد السوفيتي حضروا باعتبارهم مراقبين ليس لهم حق الانتخاب، وقد انسحب أعضاء الوفد لهذا السبب.

المؤتمر الثالث والثلاثون:

القدس: ديسمبر 1997 -اجتمع هذا المؤتمر متأخرا عن موعده وقد كان المفروض أن يعقد في 1996. وقد تم تأخيره حتى يتزامن مع الذكرى المئوية للمؤتمر الصهيونى الأول! حضر المؤتمر 750 مندوبًا من يهود العالم (حوالى ثلاثة أربعهم من اليهود الإصلاحيين أو المحافظين) و 190 مندوبًا عن المستوطنين الصهاينة. وقد وصل عيزر وايزمان، رئيس الدولة، وبنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء، متأخرين عن موعدهما. ولم تعر الصحف الإسرائيلية المؤتمر اهتماما كبيرا، ونشرت أخباره فى مقابل صفحةالوفيات!

وكالمعتاد كان هناك كثيرمن الاقتراحات (فصل الدين عن الدولة ـ تقوية الديموقراطية الإسرائيلية ـ حذف مفهوم «نفى الدياسبورا على أن يحل محله مفهوم «مركزية إسرائيل فى الحياة اليهودية» ـ مفهوم التعددية يحل محل مفهوم «أتون الصهر» أو «مزج المنفيين»، بمعنى أن تحتفظ كل جماعة يهودية مهاجرة إلى فلسطين المحتلةبملامحها الإثنية والدينية الأساسية التى أتت بها من بلدان المهجر ـ تغيير الموقف من النازحين (يوريديم) ـ الاهتمام بالمواطنين غيراليهود الذين هاجروا إلى إسرائيل ـالاهتمام بأسلوب الحياة والبيئة فى إسرائيل ـ إنشاء «بعثات سلام اسرائيلية»، أى أن يقوم الشباب اليهودى فى العالم بأداء نوع من الخدمة «القومية» فى إسرائيل نيابة عنالشعب اليهودى(.

كما نشبت المعارك المعتادة: فحينما قال يوسى ساريد (عضو الكنيست ورئيس حزب ميرتس) أن أى شخص يساهم فى تسمين المستوطنات يرتكب فعلا معاد للصهوينة لأنه يعرض عملية السلام للخطر، وحين قام بالهجوم على نتنياهو، قاطعته أصوات عالية، تتهمه بأنه ليس يهوديا،بل وطالبه البعض بالذهاب إلى وطنه!

وقد هاجمت شوشانا كاردين، رئيسه النداء الإسرائيلى الموحد، الطبيعة السياسية للحركة الصهيونية وطالبت بإعادة تعريفها بحيث تصبح مشاركة حقيقية بين الدولة الصهيونية والجماعات اليهودية فى العالم، وأن تقوى أواصر العلاقة بينها.

وقد حذر الحاخام نورمان رام، رئيس جامعة يشيفا، من إعطاء ثقل غير حقيقى للحركتين الإصـلاحيه والمحافظة داخل الحركة الصهيونية. وهذه كلها موضوعات «قديمة» سبق نقاشها من قبل.

وكانت قرارات المؤتمر الصهيونى كلها ذات طابع إدارى إجرائى، وتنبع معظمها من إحساس أعضاء المنظمة الصهيونية والقائمين عليها بأن المنظمة أصبحت لا قيمة لهاوأنه أصبح من الممكن الاستغناء عنها (على أن تقوم الحكومة بالوصول مباشرة إلى أعضاء الجماعات اليهودية فى العالم). وكان من ضمن القرارات إقامة مشاركة حقيقيه بين إسرائيل ويهود العالم ينعكس على اختيار المندوبين، بحيث يكون نصفهم من إسرائيل والنصف الآخر من يهود العالم، وهو قرار يعكس المحاولة اليائسة من جانب المنظمة الصهيونية أن تصبح لها دور، ولكنه فى ذات الوقت تعبير عن تآكل دورها.

والملاحَظ، من متابعة سير المؤتمرات الصهيونية المختلفة، أن الاختلافات والصراعات التي قامت بين أنصار التيارات الصهيونية المختلفة، من صهيونية سياسيةوصهيونية عمالية أو عملية أو ثقافية أو دينية أو توفيقية، لا تعدو أن تكون خلافات داخل "الأسرة الواحدة" حول أفضل الأساليب وأكثرها فاعلية دون أن تتجاوز هذا إلىالأهــداف النهـائية التي هـي موضـع اتفـاق عام بين هذه التيارات.

وقد أُثيرت في الآونة الأخيرة شكوك قوية ـ من جانب كثير من القيادات والتيارات الصهيونية ـ حول جدوى المؤتمرات الصهيونية ومدى فاعليتها. إذ يرى الكثيرون أنالمؤتمرات تحوَّلت إلى منتديات كلامية وأصبحت عاجزة عن مواجهة المظاهر المتفاقمة للأزمة الشاملة للحركة الصهيونية ودولتها، التي تتمثل في مشاكل النزوح والتساقطواندماج اليهود في مجتمعاتهم والزواج المُختلَط والتمايز بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين، بالإضافة إلى انفضاض يهود العالم عن حركة الصهيونية بما يكرسعزلتها. ومن أبرز الدلائل على تلك الأزمة أن المؤتمرات الصهيونية المتتالية لم تفلح حتى الآن في الاتفاق على حلٍّ لمشكلة من هو اليهودي ومن هو الصهيوني رغم أنها تأتي دائماً في مقدمة الموضوعات المطروحة على جدول الأعمال في المؤتمرات المختلفة. ورغم أن البعض يحاول أن يُرجع هذا العجز إلى أسباب فنية وتنظيمية إلا أنه بات واضحاً أن مظاهر الأزمة ذات طبيعة تاريخية وحتمية تتجاوز الحدود التنظيمية لتصل إلى جذور المشروع الصهيوني نفسه وإلى طابع نشأته وتطوره. ولهذا، فليس من قبيل المبالغة أن يُضاف عجز المنظمة الصهيونية العالمية بهيئاتها المختلفة، ومنها المؤتمر، إلى مجمل المظاهر العامة لأزمة الحركة الصهيونية.

برنامج القدس 5728 (1968(

Jerusalem Program

أقر المؤتمر الصهيوني الثالث والعشرون، المنعقد في القدس عام 1951، "برنامج القدس" والذي تُعَدُّ الموافقة عليه شرطاً أساسياً لعضوية المنظمة الصهيونية.

ويحدد البرنامج الأهداف الرئيسية للحركة الصهيونية معتبراً أن "تجميع الشعب اليهودي في وطنه التاريخي ـ أرض إسرائيل ـ عن طريق الهجرة من جميع البلدان" هو هدف الصهيونية الأول.

وقد أقر المؤتمر الصهيوني السابع والعشرون، الذي عُقد في القدس عام 1968، إضافة الفقرة التالية إلى "برنامج القدس" الجديد الذي سُمِّي "برنامج القدس 5728 (1968)"، وهي تُوضِّح أهداف الصهيونية بالتفصيل كما يلي: وحدة الشعب اليهودي ومركزية إسرائيل في حياته؛ تجميع الشعب اليهودي في وطنه التاريخي ـ أرض إسرائيل ـ عن طريق الهجرة من مختلف البلدان؛ تدعيم دولة إسرائيل التي قامت على أساس الرؤيا النبوئية للعدل والسلام؛ الحفاظ على هوية الشعب اليهودي من خلال تعزيز التربية اليهودية والعبرية والقيم الثقافية والروحية اليهودية، وحماية الحقوق اليهودية أينما كانت.

وصياغة برنامج القدس صياغة مراوغة إلى أقصى حد (انظر: «الخطـاب الصهيوني المـراوغ») وهو ما جعـل عملية تبنيه مسألة سهلة جداً.

ورغم الموافقة الأولية على «برنامج القدس» من جانب الاتحادات الصهيونية والتجمعات اليهودية المختلفة، باعتباره شرطاً لانضمامها إلى المنظمة الصهيونية، فقد أثار منذ إقراره (وحتى الآن) نقاشـات وخـلافات حادة بين الاتجاهات المتعددة في الحركة الصهيونية، وخصوصاً فيما يتعلق بتأكيده محورية الهجرة إلى إسرائيل كأساس لتحقيق الصهيونية، وبالتالي إعطاء إسرائيل دور المركز بالنسبة ليهود العالم، وما يترتب على ذلك من اعتبار من لا يعتزم الهجرة إلى إسرائيل غير صهيوني.

وتمثل التجمعات الصهيونية خارج إسرائيل عموماً، والتجمعات الصهيونية في أمريكا بشكل خاص، المعارضة الأساسية لهذه النصوص التي تؤدي ـ في نظرهم ـ إلى زيادة ثقل دولة إسرائيل داخل الحركة الصهيونية مع تقليص دور التجمعات في الخارج وتهميشها. وترفض المنظمات المؤيدة لهذا الاتجاه اعتبار اليهود «أمة» مرتبطة بوطن وتكتفي بالحديث عن «شعب يهودي» دون الارتباط بوطن واحد. كما تطالب بتأكيد المشاركة بين الدولة ويهود «الشتات» في الخارج على قدم المساواة، وبالنظر إلى الهجرة نحو إسرائيل لا كأساس لتحقيق الصهيونية وإنما كمثل أعلى.

هاتيكفاه

Hatikva

«هاتيكفاه» كلمة عبرية معناها «الأمل»، وهو اسم نشيد الحركة الصهيونية الذي أصبح النشيد القومي لإسرائيل، وفيما يلي مقطوعتان من النشيد:

ما دامت روح اليهودي

في أعماق القلب تتوق.

ونحو الشرق

تتطلع العيون لصهيون.

أملنا لم يُفقَد أبداً.

أمل ألفي عام:

أن نصبح شعباً حراً في وطننا.

أرض صهيون وأورشليم.

والمقطوعة الثانية في النشيد لازمةٌ تتكرر.

والنشيد يشبه من بعض الوجوه الخطاب الصهيوني المراوغ؛ فهو نشيد مليء بالفراغات، يتحدث عن التطلع إلى صهيون، وعن أمل لم يُفقَد بعد، وعن شعب واحد، وعن أرض صهيون، ولكنه يلتزم الصمت تجاه غالبية اليهود الذين يرفضون أن يكونوا جزءاً من الشعب اليهودي وإن قبلوا ذلك اسماً (فهم يرفضون الهجرة). وبطبيعة الحال، يلتزم النشيد الصمت تجاه آلية العودة إلى الأرض وآلية التخلص من أهلها.

ورغم حديث النشيد عن تطلعات هذا الشعب الواحد، فإن ملابسات تأليفه وتلحينه تبيِّن عكس ذلك على طول الخط، فالقصيدة وضعها بالعبرية الشاعر نفتالي هرز إمبر المولود في جاليشيا عام 1856 والمتوفي في نيويورك عام 1909 والذي تنصَّر بعض الوقت وانتقل من شرق أوربا إلى غربها. وبعد استيطانه في فلسطين لم يُطق العيش فيها وانتقل منها إلى الولايات المتحدة (حيث استقر مع الملايين من المهاجرين اليهود). وكان نفتالي إمبر يكتب بالعبرية واليديشية والإنجليزية. والقصيدة متأثرة ببعض الموضوعات التي ترد في بعض الأغاني الألمانية، كما أنها متأثرة بأنشودة وطنية بولندية أصبحت نشيد بولندا القومي ("بولندا لم تضع بعد، ما دمنا على قيد الحياة"). أما فيما يتصل باللحن، فقد وضع موسيقاه صمويل كوهين الذي اقتبسها من موسيقى أغنية شعبية رومانية من مولدافيا (مسقط رأسه) تُسمَّى «العربة والثور»، وهو لحن شعبي شائع جداً في وسط أوربا، ولذا فهو موجود أيضاً في تشيكوسلوفاكيا، وقد استخدمه الموسيقار سميتنا في إحدى سيمفونياته.

وقام الصهاينة بمحاولات عدة لإعداد نشيد قومي ليس له أصول غربية (غير يهودية)، فأعلنوا عدة مسابقات، ولكن النتيجة جاءت دائماً مخيبة للآمال. وتم تبنِّي الهاتيكفاه كنشيد رسمي للحركة الصهيونية في المؤتمر الصهيوني الثامن عشر (1933)، وهو المؤتمر الذي تم فيه أيضـاً الموافـقة على اتفـاقية الهعفراه (الترانسـفير) مع النازي. وقد أثيرت مؤخراً في إسرائيل قضية بشأن مضمون النشيد القومي، فإذا كان نشيد الهاتيكــفاه يتحــدث عن أحــلام اليهود، فكيف يمكن أن يعتبره العرب من مواطني الدولة الصهيونية نشيدهم الوطني؟

نفتــالي إمــبر (1851-1909(

Naftali Imber

شاعر يكتب بالعبرية واليديشية وأحياناً بالإنجليزية. وُلد في جاليشا لأسرة حسيدية، وتلقَّى تعليماً دينياً. ومع هذا، كانت أول جائزة أدبية حصل عليها عن قصيدة وطنية نمساوية (1870). وقد تجوَّل إمبر بعد موت أبيه من بلد لآخر. وفي إستنبول، قابل لورانس أوليفانت الصهيوني غير اليهودي الذي كان يحاول أن يبدأ حركة استيطانية بين اليهود، فعمل إمبر سكرتيراً له وذهب معه إلى فلسطين عام 1882 حيث عاش لمدة ستة أعوام وكتب مقالات للمجلات العبرية. ونشر إمبر عام 1886 مجموعة منالقصائد العبرية بعنوان نجمة الصباح، وهي المجموعة التي تضم قصيدة «هاتيكفاه (الأمل)» التي كان عنوانها في البداية «تيكفاتينو» (أملنا). وقد أصبحت هذه القصـيدةنشـيد الحركة الصهيونية ثم أصبحت النشيد القومي لإسرائيل. ومما له دلالته أن مجموعة نجمة الصباح مهداة إلى أوليفانت، وهو أهـم الشـخصيات في تاريخ الصهـيونية بين غير اليهـود. ومن قصـائد إمبر الأخرى التي أحرزت شعبية بين المستوطنين، قصيدة «حراسة على نهر الأردن». وبعد موت أوليفانت، ذهب إمبر إلى إنجلترا حيث تعرَّف إلى إسرائيل زانجويل الذي رسم صورة كاريكاتيرية له (الشاعر الشحاذ) في رواية أطفال الجيتو. وقد انتقل إمبر بعد ذلك إلى الشرق وتجوَّل فيه حتى وصل إلى بومباي حيث يُقال إنه تنصَّر (ويُقال إنه تنصَّر أيضاً بعض الوقت في فلسطين، وهذه رواية يرويها صديقه إسرائيل زانجويل). وانتقل إمبر بعد ذلك إلى الولايات المتحدة حيث عاش حياة بؤس وفقر وإدمان. وقد تعرَّف إلى امرأة مسيحية بروتستانتية تهوَّدت بعد أن تزوجها، ولكن الزواج انتهى بالفشل. ونشر شقيق إمبر مجموعته الشعرية الأخرى نجمة الصباح الجديدة (1902)، ولكن معظم نسخها احترق. ثم نشر ديوان شعر ثالثاً له في نيويورك عام 1905 بعد مذابح كيشينيف، وقد أهدى المجموعة لإمبراطور اليابان التي كانت في حالة حرب مع روسيا.

وقد كتب إمبر كذلك عدة كتيبات بالإنجليزية عن القبَّالاه، وحرَّر مجلة أورييل وهي مجلة ثيو صوفية كانت تَصدُر في بوسطن. كما قام بترجمة رباعيات عمر الخيام إلى العبرية.

والواقع أن سـيرة حـياة إمبر ذات دلالات رمـزية وواقعـية عــديدة:

1 ـ فهو يهودي من شرق أوربا ويذهب إلى فلسطين مع صهيوني استيطاني غير يهودي،ويرحل عنها بعد وفاة الصهيوني غير اليهودي.

2 ـ رغم أن إمبر تلقَّى تعليماً دينياً، إلا أن إيمانه الديني تزعزع تماماً ويتضح هذا في تَنصُّره بعض الوقت ثم رجوعه عن ذلك ثم زواجه من امرأة مسيحية ثم انشغالهبالقبَّالاه. لكن تهوُّد هذه المرأة يبين مدى تَداخُل المسيحية واليهودية بعد أن تمت علمنتها من الداخل.

تاريــخ الصهيونية في روسـيا

History of Zionism in Russia

لعبت روسـيا دوراً مهـماً في تاريخ الحركة الصهيونية الاستيطانية، فقد كانت أوضاع اليهود في روسيا تربة خصبة لنمو أية أفكار تبشر بالخلاص، سواء الفردي مثل الحسيدية أو القومي مثل الصهيونية. ومثلها مثل العديد من دول شرق أوربا، بدأ التوجه الصهيوني فيها بنشأة حركة أحباء صهيون في ثمانينيات القرن التاسع عشر.

وحينما نشر هرتزل كتابه دولة اليهود، التف حوله صهاينة روسيا، وقد انعكس هذا في التمثيل الروسي في المؤتمر الصهيوني الأول (1897) الذي وصل إلى الثلث، فمن بين 197 مندوباً كان هناك 66 مندوباً روسياً. ومن هؤلاء شخصيات احتلت مراكز مهمة في الحركة الصهيونية فيما بعد مثل ليو موتزكين وفلاديمير تيومكين وهرمان شابيرا وغيرهم.

وقبل المؤتمر الصهيوني الثاني (1898)، اجتمع القادة الصهاينة الروس، ومنهم صهاينة الجزء الروسي من بولندا في وارسو، وظهر في هذا الاجتماع أن ثمة خلافاً في الرأي بينهم وبين القيادة العامة للمنظمة الصهيونية العالمية. وقد كان هذا الخلاف يعبِّر عن اختلاف في التوجه، فبينما اتجهت القيادة العامة ذات المنحى التوطيني إلى التفاوض مع الأتراك للحصول على وثيقة تتيح لليهود استيطان فلسطين، طالب الصهاينة الروس ذوو الاتجاهات الاستيطانية بالقيام بمشاريع استيطان فعلية في فلسطين وتنظيم برامج ثقافية تمهيداً لتوطين اليهود في فلسطين. ورغم هذا، لم يصل الخلاف إلى حد القطيعة أو الانفصال، فقد كان كل فريق بحاجة للآخر، فالروس (الاستيطانيون) كانوا في حاجة إلى الغربيين (التوطينيين) لإمدادهم بالدعم المادي والسياسي اللازم، والغربيون كانوا بحاجـة للروس لأنهم يمثلون المـادة البشـرية الخام. وعلى هذا، حضر الصهاينة الروس المؤتمر الثاني بينهم ياحيل تشيلينوف وحاييم وايزمان وناحوم سوكولوف وشماريا ليفين وموتزكين الذي قدَّم تقريراً مفصلاً عن رحلته التي قام بها بتكليف من المؤتمر الصهيوني الأول (1897) إلى فلسطين.

وازدادت قـوة الصهيونية الروسـية وسط المنظمة العالمية بمرور الوقت، فقد حضر المؤتمر الرابع في لندن عام 1900 أكثر من 200 مندوب روسي، وقاموا في المؤتمر الخامس في بازل عام 1901 بتشكيل "العصبة الديموقراطية" برئاسة وايزمان وموتزكين التي عبَّرت عن تطلعات الروس الاستيطانية مقابل المسعى التوطيني الذي التزم الغربيون به عن طريق العمل الدبلوماسي والضغط السياسي.

وشكَّل الجناح الأرثوذكسي المتدين بقيادة الحاخام إسحق رينز حركة المزراحي للتعبير عن مخاوف المتدينين من سيطرة العلمانيين. وفي عام 1902، عُقـد المؤتمر الصهيوني الأول لعمـوم روسـيا في مدينة منـسك.

وقام أحاد هعام وناحوم سوكولوف بطرح فكر العلمانيين فيما يخص الثقافة والتربية "اليهوديتين". وقد عارضت حركة المزراحي هذا الفكر بشدة تحت قيادة رينزو شمويل ياكوف. ووصلت الحركة الصهيونية إلى حل توفيقي يقبل جود اتجاهين متعارضين في الصهيونية فيما يخص التربية والثقافة اليهودية. والواقع أن هذا الحل وتلك الطريقة التوفيقية التلفيقية المستمرة حتى اليوم إنما تكشف عن جانب مهم وخاصية أساسية في الصهيونية الاستيطانية ألا وهي محـورية فكرة الاسـتيطان نفسـها التي تتـلاشى معها الفروق الأخرى.

وقد أثارت زيارة هرتزل لروسيا في صيف 1903 ومحاولته مقابلة وزير الداخلية فون بليفيه ضجة استنكارية واسعة في صفوف الصهاينة الروس الذين عبَّروا عن رفضهم أسلوب التعامل مع من كانوا يعتبرونه جلاد اليهود والمسئول عن المذابح اليهودية.

وفي المؤتمر الصهيوني السادس (1902)، اتُخذت تلك المسألة تكئة لمعارضة هرتزل في مسألة أهم هي اقتراحه الرامي إلى وضع خطة التوطين في شرق أفريقيا. وقد كانت الحركة الصهيونية الروسية بشُعبها التي تعدَّت 1572 جمعية محلية (عام 1903) تمثل القوة الأولى في المنظمة وتمثل المادة الخام البشرية الأهم. ومن ثم، لم يكن بالإمكان الاستهانة بمعارضة الصهاينة الروس لهذا المشروع. ويمكننا أن نقول إن هذه المعارضة قد تصاعدت حتى بلغت ذروتها في أكتوبر عام 1903 وتجلَّت في شكل مؤتمر كراكوف الذي حضرته القيادات الصهيونية الروسية كافة وقُدِّم في هذا المؤتمر تهديد صريح لهرتزل بضرورة ترك مشروع شرق أفريقيا أو مواجهة انسحاب شامل من المنظمة. وفي مؤتمر بازل عام 1905، حدث الصدام الحاد بين التوطـينيين بقيادة إسـرائيل زانجويل وبين الصهاينة الاستيطانيين الروس، وخصوصاً بعد موت هرتزل. وانتصر الاستيطانيون وانفصل زانجويل مكوِّناً المنظمة الصهيونية الإقليمية.

بيد أن التأثير الأعظم للإقليميين كان على الحركة العمالية الصهيونية التي كانت لا تزال وليدة عام 1905 ولم تكن ذات شأن بين الحركات العمالية في روسيا في هذا الوقت، حيث رأى القادة العماليون أن أية هجرة يهودية إلى أي مكان ستشكل في النهاية حركة استيطان ذات طابع عمالي ومن ثم تنحل المشكلة اليهودية حلاًّ اشتراكياً. وكان الداعية الأساسي لهذه الحركة هو الزعيم الصهيوني بير بوروخوف. وقد تعرضت الحركة الصهيونية في هذا الوقت إلى معارضة قوية في صفوف أعضاء الجماعات اليهودية من حزب البوند الذي كان يدعو إلى نبذ فكرة الهجرة وإلى الاستقلال الذاتي في إطار روسيا الكبرى. وقد ساهمت الحركة العمالية الصهيونية في حركة الهجرة الروسية الثانية التي اسـتمرت بين عامي 1904 و1914 والتي أقـامت مسـتوطـنات مثل داجانيا.

وقد أيَّدت الحكـومة الروسـية الاتجاهات الاستيطانية ورحبت بالهجرة، إلا أن مقررات مؤتمر هلسنجفورس عام 1906، التي دعت إلى تقوية الحركة داخلياً والدفاع عن حقوق اليهود القومية، أثارت شـكوك الحكومة القيـصرية، وهو ما حـدا بها إلى منع الحركة عام 1907. وفي عام 1908، زار ديفيد ولفسون رئيس المنظمة الصهيونية العالمية سان بطرسبورج وحصل ثانيةً على وعد بالاعتراف بالنشاطات الصهيونية الخاصة بالصندوق القومي والصندوق الاستعماري. بيد أن الحكومة القيصرية رفضت التصريح بإعادة المنظمة للمجال الشرعي. ورغم هذا، استمر تأثير المنظمة الروسية عالمياً، فحصل الصهاينة الروس على مقاعد أساسية في اللجنة التنفيذية للمنظمة العالمية في المؤتمر العاشر عام 1911 وفي المؤتمر الحادي عشر في فيينا عام 1913.

ومع اندلاع ثورة فبراير عام 1917 في روسيا، انتهت كل المعـوقات التي كانت تضـعها الحكومة القيصـرية أمام الحركة الصهيونية، فاجتذبت أعداداً ضخمة من اليهود الذين شردتهم الحرب وأضرت بهم. وعُقد مؤتمر صهيوني لعموم روسيا في بتروجراد في 24 مايو عام 1917 حضره 552 مندوباً يمثلون 140 ألف شيقل بالمقارنة بعام 1913 حيث كان عدد دافعي الشيقل 26 ألفاً فقط. وقد أقر هذا المؤتمر مقررات مؤتمر هلسنجفورس وصاغ برنامجاً موحداً لكل الجماعات الصهيونية للمشـاركة فيانتخـابات الجمعية التأسيسـية لعموم يهود روسيا. ودُعيت اللجنة التنفيذية الجديدة للعمل على إعداد مؤتمر عام. وحينما عُقد المؤتمر، حضره جوزيف ترومبلدور من فلسطين ودعا إلى إنشاء جيش من اليهود الروس لاحتلال فلسطين مروراً بالقوقاز، وأيَّد حوالي 20 مندوباً أفكار جابوتنسكي حول التعاون مع بريطانيا من أجل تكوين الفيلق اليهودي. بيد أن الغالبية العظمى كانت تؤيد فكرة حياد اليهود التي تبنتها المنظمة الصهيونية العالمية. وقد انتهى هذا الحياد مع صدور وعد بلفور عام 1917.

ومع قيام الثورة البلشفية في 24 أكتوبر 1917، لم تتأثر الحركة الصهيونية في البداية، بل أُقيم أسبوع لفلسطين في ربيع عام 1918. وسيطر الصهاينة على الاجتماعات اليهودية التي قاطعتها الأحزاب الاندماجية، ففي مؤتمر موسكو الذي حضره 149 مندوباً من أربعة تجمعات يهودية محلية في روسيا كان الصهاينة هم الوحيدون المُمثَّلون، وحصل الصهاينة في أوكرانيا على 55% من مقاعد المجالس اليهودية. ولكن، مع ازدياد قوة الحكم السوفيتي واستتباب الأمر للشيوعيين، أصبحت الصهيونية هدفاً للاتهامات الحكومية، وتم إلغاء الأحزاب والمنظمات الصهيونية وألُقي القبض على بعض القادة. وقد قام القسم اليهودي في الحزب الشيوعي السوفيتي الجديد بمحاربة الروح (الانعزالية والكهنوتية) الصهيونية بين الجماعات اليهودية. وفي العشرينيات، قامت الحركة الصهيونية بعدة محاولات للحصول على حق القيام بنشاط صهيوني علني، وخصوصاً في المجال الثقافي، وفي مجال تشجيع الهجرة لفلسطين (مثلما حدث في المفاوضات شبه الرسمية التي أجراها عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية العالمية م.د. إدر أثناء زيارته لموسكو عام 1921). بيد أن هذه المحاولات باءت بالفشل. وقد استؤنف النشاط الصهيوني العلني في روسيا وأوكرانيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.

تاريــخ الصهيونيــة في بولنـدا

History of Zionism in Poland

لا يمكن الحديث عن تاريخ متجانس للصهيونية في عموم بولندا. فقد ارتبطت الحركة في كل قطاع من قطاعات بولندا بتاريخ البلد الذي ينتمي إليه هذا القطاع، بمعنى أن يهود بولندا في القطاع الألماني تأثروا بنظرة اليهود الاندماجية الألمان ومن ثم كانوا يرفضون الصهيونية. لذا، سينقسم الحديث عن تاريخ الصهيونية في بولندا إلى مرحلتين: المرحلة الأولى تشمل تاريخ الصهيونية في بولندا المقسَّمة والمحتلة، والمرحلة الثانية تشمل تاريخ الصهيونية في بولندا المستقلة. وتنقسم المرحلة الأولى بدورها إلى ثلاثة أقسام حيث يعالج كل قسم تاريخ الصهيونية في قطاع بعينه من قطاعات بولندا:

المرحلة الأولى: بولندا المحتلة المقسَّمة:

أ) الصهيونية في القطاع الألماني:

كان عدد اليهود في القسم الألماني من بولندا لا يتعدى 50 ألف نسمة في بداية القرن العشرين، وقد تأثروا جميعاً بالفكر الاندماجي السائد بين اليهود الألمان حتى أن اهتمامهم باليهودية في ذاتها لم يكن كبيراً. ومن ثم، كان موقفهم من الصهيونية معادياً وبشدة لخطورة تلك الأفكار على وضعهم الاجتماعي في ألمانيا. ورغم وجود داعـيين صهـيونيين مهـمين، هـما زفي هيرش كاليشر وإليا جوتيماخر، في هذا القطاع، وإقامة أول مؤتمر لحركة أحباء صهيون في كاتوفيتش عام 1884، إلا أن تأثير هذا على الجماعة اليهودية في القطاع الألمـاني كان ضئيـلاً جــداً (بل يمكـن القـول بأنـه كان منعدماً).

ب( الصهيونية في القطاع الروسي:

بلغ تعداد السكان اليهود في القطاع الروسي من بولندا، في نهاية القرن التاسع عشر، حوالي 2 مليون نسمة. وكان هذا القطاع قطاعاً متقدماً اقتصادياً، بل من أغنى مناطق بولندا وروسيا كلها، وكان مركزاً للصناعة والتجارة ومحطة مهمة بين روسيا القيصرية وباقي أوربا. ولم يكن يهود هذا القطاع متعاطفين في البداية مع الصهيونية بل كان موقفهم، على حد تعبير الموسوعة اليهودية، "معادياً ومضاداً للصهيونية". وذلك فضلاً عن أن المذهب الأرثوذكسي المنتشر بين يهود هذه المنطقة كان معادياً بشدة لفكرة الصهيونية. وكان حَمَلة لواء الصهيونية الأساسيون في تلك المنطقة هم الليتفاك، أي اليهود القادمون من ليتوانيا وأستونيا ولاتفيا وفنلندا، أي دول البلطيق الروسية في ذلك الوقت، والذين كانت الصهيونية بالنسبة لهم وسيلة للخلاص من القمع المزدوج من قبَل الروس وأهالي البلطيق.

بيد أن الوضع كان مختلفاً في مناطق أخرى من القطاع الروسي في بولندا حيث استُقبلت الأفكار الصهيونية منذ البداية بترحاب شديد لأنها كانت تمثل طريقاً للخلاص، وخصوصاً وسط القطاعات الهامشية من يهود بولندا الروسية الذين كانوا يعيشون بعيداً عن منطقة الوسط الصناعية المتقدمة.

وكانت السلطات الروسية ترحب بالأفكار الصهيونية على أساس أنها وسيلة ناجعة لمكافحة الأفكار الاشتراكية والثورية، وللتخلص من الفائض البشري اليهودي. وتقول الموسوعة الصهيونية في هذا الصدد: "كان رد فعل الأغيار البولنديين إيجابياً تجاه الحركة الصهيونية حيث إنهم نظروا للاستيطان في فلسطين باعتباره السبيل الأمثل للإسراع بطرد اليهود من بولندا".

وقد أدَّى إقرار برنامج هلسنجفورس (1906)، الذي تبنَّى مطلب الدفاع عن المصالح الآنية و"الحقوق المشروعة" للقومية اليهودية إلى وضع الجماعة اليهودية المؤيدة للصهيونية في موقف عداء مباشر مع غيرها من الأقليات والقوميات وكذلك مع السلطات القيصرية التي كانت تنادي بالقومية الروسية السلافية كقومية فوق القوميات. وقد اتخذ هذا العداء أحياناً شكل القمع السياسي ومصادرة الصحف، واتخذ أحياناً أخرى شكل مقاطعة اليهود اقتصادياً، وخصوصاً في الأوساط الشعبية. وقد شهدت تلك الأعوامأيضاً مجموعة يهودية معادية للصهيونية هم اليهود الذين عملوا من خلال البرلمان البولندي أو «السييم». وقد سُمِّيت تلك المجموعة «السييميون» أو «مؤيدو الانضمامللسييم»، وكانت الحركة الصهيونية تقاطـع البرلمانات سـواء الروسـية (الدوما) أو البولندية (السييم). ولكن، مع التطورات السياسية وظهور تلك الجماعة المنافسة، نجحالصهاينة في انتخاب أحد ممثلي الحركة في لودز. ورغم هذا النشاط السياسي والدعائي، لم تنجح الحركة الصهيونية في تهجير عدد كبير من اليهود إلى فلسطين في هذه الفترة.

ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، توقفت النشاطات الصهيونية في بولندا، وبعد قيام دول الوسط باحتلال بولندا المؤتمر، بدأت حركة عمال صهيون في الحركة تحترعاية قوى الوسط التي كانت تبغي توظيف النشاط الصهيوني في مواجهة الأطماع البريطانية في الشرق العربي.

جـ) الصهيونية في جاليشيا (القطاع النمساوي من بولندا):

اختلف نمو وتطوُّر الحركة الصهيونية في جاليشيا، عنها في القطاعات الأخرى من بولندا، اختلافاً بيَّناً. فعلى جانب كانت الحكومة النمساوية أكثر ليبرالية من الحكومة القيصرية في روسيا، وكانت الحركة الصهيونية من جانب آخر تطلب عون النمساويين والألمان من أجل تحقيق فكرة الوطن القومي اليهودي. وقد تطوَّرت الحركة الصهيونية في جاليشيا في صفوف دعاة حركة التنوير اليهودية. وبمعنى آخر، تأثرت الحركة الصهيونية في جاليشيا منذ البداية بالرؤية المعرفية الإمبريالية الكامنة في التنوير وبالبُعْد القومي الرومانسي الذي نشأ في دول الوسط في أوربا. وكانت إمبراطورية النمسا/المجر تعتبر اليهود جماعة دينية لا جماعة قومية. وفي خضم الصراع بين القوميات داخل الإمبراطورية، حاول البولنديون ضم أعضاء الجماعة اليهودية لصفوفهم من أجل التفوق على الأوكرانيين عددياً، كما حاول الأوكرانيون فعل الشيءنفسه. بيد أن هذا الاتجاه لاقى معارضة كبيرة من جانب الصهاينة الاستيطانيين الذين نظروا لهذا الاتجاه على أنه تكريس للاندماج، وأصروا على أن هدف الصهيونية هو الهجرة إلى فلسطين ومن ثم أصروا على أن يقتصر دورها في البلاد الأخرى على الجانب التثقيفي والمالي اللازم لتحقيق الهدف الأساسي، أي الاستيطان في فلسطين. من ثم، فقد وصل مؤتمر كراكوف عام 1906 إلى نوع من الحل التوفيقي في هذا المضمار حيث أنيط بالحزب القومي اليهودي الذي كان حديث النشأة مسئولية الدفاع عن حقوق اليهود (المدنية والسياسية)، بينما أنيط بالمنظمة الصهيونية مهمة جَمْع المال والتثقيف الصهيوني. وقد كان مؤتمر كراكوف هذا حلبة خاصة لصهاينة جاليشيا رغم أنه كان، من الناحية النظرية، يمثل سائر الاتجاهات الصهيونية في النمسا. وفي عام 1907، نجح الحزب القومي اليهودي الذي كان مجرد واجهة في إرسال أربعة من ممثليه إلى أول برلمان نمساوي، كان ثلاثة منهم من جاليشيا والرابع من بوكوفينا. وفي خضم هذا الصراع السياسي، نجح الصهاينة في إحكام قبضتهم على التجمعات اليهودية في جاليشيا من خلال العديد من المطبوعات اليديشية والبولندية، بل نجح الصهاينة في جاليشيا في إقامة مستوطنة خاصة بهم في فلسطين ونشروا سلسلة من المدارس العبرية وسيطروا على مدارس البارون دي هيرش اليهودية وطردوا الاندماجيين منها. والجدير بالذكر في هذا الصدد أن أعداداً كبيرة من يهود جاليشيا كانوا من الفرانكيين (أتباع فرانك الذي تأثر بالتنوير والفكر القومي الرومانسي). ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، أصيبت الحركة الصهيونية في بولندا النمساوية بالشلل حيث احتلت القوات الروسية (في بداية الحرب) جاليشيا لمدة سنة، وأدَّى هذا إلى فرار ما يزيد على نصف السكان اليهود إلى داخل النمسا وخصوصاً لاتفيا. ومع تغيُّر مجريات الأمور في الحرب، استعادت الحركة الصهيونية نشاطها ولكن في حذر، وذلك تحسباً لما ستسفر عنه الحرب.

المرحلة الثانية: بولندا المستقلة:

وتتميَّز تلك المرحلة بما يلي:

1 ـ زيادة عضوية المنظمة الصهيونية. وكانت منافستها الوحيدة للسيـطرة على يهـود بولندا هي منظمة أجـودات إســرائيل الأرثوذكسـية.

2 ـ نجاح جميع الحركات الصهيونية في مختلف قطاعات بولندا في الاندماج وسط الحركات العمالية (عمال صهيون) والدينية (مزراحي) ولكنهم أخفقوا في الاندماج في الحركات الأخرى.

3 ـ أدَّى هذا الفشل إلى ظهور صراعات حزبية هي في الواقع تعبير عن الصراع حول الرؤية بين الاستيطانيين والتوطينيين. فقد حاول التوطـينيون دائماً إبعـاد الصهيونية عن دخول مواجهات مع الحكومات، بيد أن الاستيطانيين كانوا يرون أن المواجهة مع الحكومة تدفع إلى هجرة اليهود إلى فلسطين وهو الهدف الأساسي. وقد أدَّى هذا في النهاية إلى هزيمة التوطينيين (الصهاينة العموميين).

4 ـ ازدادت أهمية الجماعة اليهودية في بولندا وازدادت أهمية الهجرة اليهودية من بولندا إلى فلسطين.

ورغم الانقسامات التي حدثت في صفوف الحركة، فإن كل الأحزاب الصهيونية استمرت داخل نطاق المنظمة الصهيونية العالمية عدا حركة اليسار العمالي المتطرف، عمال صهيون والصهاينة التصحيحيين. وقد ارتبطت الحركة الأولى بالحركات الاشتراكية والعمالية في العالم، وساعد نجاح البلاشفة في الاستيلاء على السلطة على تدعيم موقفها الرافض للتعاون مع البورجوازية. وبينما اعتمد العماليون على نجاح البلاشفة لتدعيم حركتهم وسط العمال اليهود، اعتمد التصحيحيون على عدوانيتهم وطابعهم القومي الاستيطاني المتطرف لاجتذاب الشباب. وقد نجح التصحيحيون في أن يحركوا الشباب اليهودي في بولندا فأعلنوا عام 1930 عن خطة ضخمة لتهجير اليهود من بولندا إلى فلسطين. وقد قوبلت الخطة برفض شديد من قبَل أعضاء الجماعات اليهودية لأنها ترسخ الموقف البولندي المعادي لليهود، ولكنها نجحت في دعم موقف التصحيحيين وسط الحركة الصهيونية ذلك أن الحكومة البولندية التي كانت تضم عناصر معادية لليهود استقبلت الخطة بترحاب شديد، وقامت بدعم التصحيحيين باعتبارهم العنصر الصهيوني الذي يعبِّر بشكل متبلور عن الروح الاستيطانية وعن رفض أي شكل من أشكال الاندماج أو الانتماء لغير "القومية اليهودية".

وقد تركزت المعارضة اليهودية للصهيونية، أساساً، في الحركات التي كانت تنادي باندماج اليهود وسط المجتمع البولندي مثل البونديين والسييميين (أي البرلمانيين). بيد أن النواة الأساسية للمعارضة في الأوساط اليهودية كانت من صفوف اليهود الأرثوذكس في حركة أجودات إسرائيل وغيرهم من حاخامات الحسيديين (رغم أن بعضالحسيديين كانوا مؤيدين للصهيونية(

وكان الاندماجيون من البونديين والسييميين يعارضون العبرية ويدعون لاستخدام اليديشية بوصفها لغة قومية. وقد تميزت علاقة هؤلاء بالحكومة البولندية بالتوتر نظراً لطابعـهم الذي كان قـومياً واندماجياً في آن واحد، وكذلك بسبب الأيديولوجيا الثورية التي كانوا ينادون بها.

وقد لعبت الحركة الصهيونية في بولندا دوراً مهماً في تهجير اليهود البولنديين بين الحربين، حتى أن بولندا صارت المصدر الأول للمادة الاستيطانية البشرية في فلسطين بعد أن منع الشيوعيون اليهود من الهجرة من روسيا، وكان معظم المهاجرين من الشباب من الصهاينة العماليين ذوي التوجه الاستيطاني. وقد جُرِّم النشاط الصهيوني بعد أن وصل الشيوعيون إلى الحكم.

تاريـــخ الصهيونيــة في ألمانيــا

History of Zionism in Germany

كانت ألمانيا في بداية الحركة الصهيونية محط أنظار القادة الصهاينة ومحور اهتمامهم لأسباب عديدة نوجزها فيما يلي:

1 ـ كانت ألمانيا مهد الفكر القومي الأوربي العضوي وهو الفكر الذي انطلقت منه الصهيونية والإطار الذي تحركت من خلاله.

2 ـ لم تكن ألمانيا قد كوَّنت مستعمراتها بعد، ومن ثم كانت التطلعات الإمبريالية الألمانية محتاجة إلى طلائع استعمارية استكشافية، وقد عرضت الحركة الصهيونية نفسـها على الحكـومة الألمانية للقيام بهذا الدور.

3 ـ كانت علاقة ألمانيا بالشرق وبالإمبراطورية العثمانية علاقة قوية. ومن ثم، نظر الصهاينة إلى ألمانيا على أنها المعْبَر الأساسي لهم نحو فلسطين. لكل هذا، يمكننا أن نقول إن ثمة اعتبارات معرفية وسياسية وعملية جعلت العلاقة بين الصهيونية وألمانيا علاقة خاصة على مدى تاريخها.

وقد كانت الحركة الصهيونية في ألمانيا ذات توجُّه توطيني، وكان موقف معظم اليهود الألمان من الصهيونية معادياً وبشدة. وقد كانت خطة هرتزل الأصلية هي إقامة المؤتمر الصهيوني الأول (1897) في ميونيخ، ولكن محاولته باءت بالفشل بسبب العداء الشديد الذي واجهه من الجماعة اليهودية.

ورغم أن عدد المندوبين الألمان في المؤتمر الصهيوني الأول كان 40 مندوباً، إلا أن معظمهم لم يكن ألمانياً، فبعضهم كان قادماً من فلسطين والبعض الآخر كان مهاجراً من دول أوربا الشرقية.

أُسِّست في ألمانيا أكثر من حركة صهيونية المنحى، والطابع المميِّز لهذه الحركات جميعاً هو استخدامها ديباجة علمية مثل جمعية الإسـرائيليين ذات الطـابع التاريخي التي تأسست في برلين عام 1883، والجمعية العلمية ليهود روسيا في برلين وتأسست عام 1889 وكان أعضاؤها من يهود شرق أوربا، وجمعية تنمية الزراعة والحرف في فلسطين والتي أسَّسها ماكس بودنهايمر وديفيد ولفسون في كولونيا عام 1892، وقد تحوَّلت عام 1897 إلى الجمعية اليهودية القومية وطالبت بإيجاد دولة يهودية. والطابع العلمي لهذه الجمعيات يدل على أنها جمعيــات نخبـوية ثقافية كما يشير إلى طرق التفكير المنطقية المنظمة الصارمة التي تتسم بها الصهيونية في ألمانيا.

وقد تأسَّست في أكتوبر 1897 الجمعية الصهيونية الألمانية لتنضم إلى الجمعيات الصهيونية في ألمانيا. وقد نمت تلك الجمعية ببطء. ففي عام 1912، كان عدد أعضائها 8.400 ، ووصل هذا الرقم عام 1927 إلى 20.000 ، ثم زاد إلى أقصى عدد عام 1934 بعد استيلاء النازيين على السلطة وصار 35.000. وكانت الجمعية تُصدر صحيفة اليوديشر روندشاو، كما كانت تمتلك مؤسسة دار النشر اليهودية، وشهد عام 1912 انعقاد المؤتمر الإقليمي الصهيوني الذي أصدر قرار بوزن والذي نص على أن: "الهجرة هي البرنامج الأساسي للصهيوني في حياته" وعلى الصهيوني أن يربط بين قدره الشخصي وبين مصير الوطن القومي عن طريق الوسائل الاقتصادية والمصالح المادية. وكما نرى، فإن هذا البرنامج التوطيني في الأساس يتيح الفرصة للقادة الصهاينة الألمان من أمثال المالي الكبير ولفسون والعالم البيولوجي واربورج للارتباط المزدوج، وهو ما يتيح لهم إمكانية أكبر داخل المجتمع الألماني حيث تصير الصهيونية بالنسبة لهم نوعاً من تأكيد الانتماء لألمانيا.

وقد كان تأثير الاتحاد الصهيوني الألماني قوياً، وبخاصة في الأعوام الخمسة عشر التي بقيت خلالها رئاسة المنظمة الصهيونية العالمية في ألمانيا سواء في كولونيا أثناء فترة رئاسة ديفيد ولفسون أو في برلين أثناء فترة رئاسة أوتو واربورج. ولقد ساعد وجود المنظمة في ألمانيا على إحجام الأتراك (حلفاء الألمان) عن اعتقال اليهود في فلسطين. ومن ثم، لعبت الحرب العالمية الأولى في ألمانيا دوراً حاسماً في تاريخ الصهيونية لا يقل أهمية عن الدور الذي لعبته بريطانيا بعدها بإصدارها وعد بلفور. وقد كان النفوذ الصهيوني لدى الحكومة الألمانية والضغط الذي مارسته ألمانيا على تركيا العثمانية هو الذي حمى الاستيطانيين في فلسطين. بل إن بعض الاستيطانيين من أمثال ديفيد بن جوريون جرى اعتقالهم على يد الإنجليز بوصفهم رعايا دولة معادية. وحتى بعد انتقال المنظمة العالمية من ألمانيا، احتل قادة صهاينة ألمانيا مواقـع مهمـة في المنظمة العـالمية وإن كانت أقـل مما كانوا يحتلون بالطبع، ومن هؤلاء فليكس روزنبلوت وريتشارد لختهايم وكورت بلومنفيلد. وقد احتفظت الحركة الصهيونية في فترة جمهورية فايمار (1918 ـ 1933) بطابعها التوطيني، فكانت حركة نخبوية ولم تكن حركة جماهيرية. وكان ظهور النازية فرصة هائلة لازدهار الحركة الصهيونية، فزادت العضوية زيادة هائلة، كما تعاونت الحكومة النازية مع الحركة الصهيونية في ترحيل اليهود من ألمانيا داخل إطار ما عُرف باتفاق الهعفراه أو اتفاق التهجير الذي أصبح بمنزلة بوابة الخروج الوحيدة ليهود ألمانيا حيث أُجبروا على الذهاب إلى فلسطين، أي أن الحركة الصهيونية التوطينية تحوَّلت إلى حركة استيطانية وتم توفير المادة الخام البشرية نتيجة الأزمة التي خلقتها النازية ونتيجة تعاون الحكومة النازية مع المنظمة الصهيونية. ولقد استمرت الحركة الصهيونية في العمل الشرعي في ألمانيا حتى عام 1938، أي أن التعاون بين النازية والصهيونية ظل قائماً طالما ظلت المصالح المشتركة قائمة، ثم انفض الرباط مع إحساس كل منهما بعدم حاجته للآخر.

وقد أُقيم اتحاد صهيوني جديد بعد الحرب العالمية الثانية مباشرةً وأُعيد تكوين الحركة الصهيونية في ألمانيا عام 1954 واعترفت بها المنظمة العالمية عام 1956. وهي تلعب دوراً مهماً في جمع المال ودق ناقوس الجرائم النازية، أي أنها استعادت الطابع التوطيني السالف للحركة.

تاريــخ الصهيونيـة في فرنسـا

History of Zionism in France

لم تكن الصهيونية غير اليهودية قوية في فرنسا، فهي بلد كاثوليكي (والصهيونية غير اليهودية ظهرت وترعرت داخل التشكيل البروتستانتي بالأساس). ومع هذا، ظهرت شخصيات صهيونية غير يهودية داخل التشكيل الاستعماري الفرنسي من أهمها نابليون بونابرت وإرنست لاهاران.

أما بالنسبة للصهيونية بين يهود فرنسا، فيمكن أن نلخص مراحل تطورها فيما يلي:

1 ـ المرحلة الأولى 1880 ـ 1919 (مرحلة النشأة):

كانت الغالبية العظمى من اليهود المولودين في فرنسا لا مبالية إن لم تكن معادية للبرنامج الصهيوني. وحينما بدأ النشاط الصهيوني في فرنسـا على يـد البارون إدموند دي روتشـيلد والتحالف الإسرائيلي العالمي، كان نشاطاً توطينياً، فقد قاما بإنشاء شبكة من المدارس في فلسطين لتدريب اليهود المستوطنين (الذين أتوا أساساً من شرق أوربا) على الزراعة. وقد كان اليهود في فرنسا يمثلون في الأغلب الأعم الشرائح المتوسطة في الطبقة الوسطى، وبذا كان الاتجاه الغالب هو رفض الحل الصهيوني الذي يطلب منهم التخلي عن الوضع المستقر الذي يعيشونه والذهاب إلى أرض يجهلونها تماماً. وكان التوجه السياسي العام لليهود في فرنسا محافظاً ومسايراً لحكومة فرنسا بوجه عام. ولأن الحكومة الفرنسية (في المراحل الأولى من الصهيونية) لم تكن مهتمة بفلسطين، فإن يهود فرنسا تبنوا موقفها. كما أن القيادات الصهيونية الأولى نفسها لم تكن مهتمة بالتوجه للحكومة الفرنسية بحكم نشأتها في ألمانيا. ومع هذا، لاقت الصهيونية في فرنسا ترحيباً كبيراً من قبَل المهاجرين اليهود من شرق ووسط أوربا الذين بدأوا في الوصول إلى فرنسا مع ثمانينيات القرن التاسع عشر، وهكذا كان قادة الحركة الصهيونية في فرنسا هم على التوالي: إسرائيل يفرويكين ومارك ياربلوم وجوزيف فيشر، وكلهم من شرق أوربا. ويمثل هؤلاء المادة البشرية المطلوبة للفكر التوطيني.

وكان أول تجمُّع يشكله هؤلاء في فرنسا هو تجمُّع اليهودي الأبدي الذي شكَّلته جماعة من المهاجرين الروس على شاكلة التجمعات الطلابية المماثلة في روسيا عام 1881. وأسست هذا التجمع جماعة استيطانية اسمها "بني صهيون" عام 1886 ، وقامت هذه الجمعية بشراء 120 دونماً من الأرض في وادي حنين في فلسطين. وعلى المنوال نفسه، نشأت جمعيات طلابية صهيونية في مختلف أنحاء فرنسا. وحاول الطلاب الفرنسيون اليهود ذوو الأصل الروسي أن يكون التجمع في شكل لجنة مركزية تمثل جمعيات أحباء صهيون كافة من بقاع الأرض كافة. بيد أن هذه المحاولة باءت بالفشل. وقد كان عدد المندوبين الفرنسيين في المؤتمر الصهيوني الأول (1897) 12مندوباً، ولم يكن معظمهم من يهود فرنسا. وتذكر المصادر الصهيونية أن كبير حاخامات فرنسا، الحاخام زادوك كاهـن، قد أثَّر كثيراً في الحركـة الصهيونيـة رغم رفضهالمُعلَن لها. ونجد أن أبرز الصهاينة الفرنسيين في تلك الفترة هو البيولوجي ألكسندر مارموريك الذي ترأس الاتحاد الصهيوني الفرنسي منذ إنشائه عام 1901 وحتى وفاته عام 1923، والكاتب برنار لازار الذي كان من بين المدافعـين عن دريفوس، والنحـات فردريش بير، والكاتبة ميريام شاخ. وجميعهم باختصار من مثقفي باريس المعارضين الذين وجدوا في الفكر الصهيوني التوطيني وسيلة للتعبير عن الذات والتميز داخل المجتمع الثقافي في فرنسا. وطوال الفترة الممتدة بين المؤتمر الصهيوني الأول وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918، لم يزد اليهود المنضمون للحركة الصهيونية ومنظماتها العديدة في فرنسا عن بضع مئات من المثقفين ممن لا تأثير لهم في الجماعة اليهودية التي ظلت ترفض الصهيونية.

2 ـ المرحلة الثانية: 1914 ـ 1939 (مرحلة التطور(:

تميَّزت هذه المرحلة بازدياد الاهتمام المُتبادَل بين الحكومة الفرنسية والحركة الصهيونية ونمو العلاقة بين الصهاينة والحركات المعارضة. وكانت المادة البشرية في هذه المرحلة من يهود الألزاس واللورين أساساً ثم من الفارين من ألمانيا النازية. وتميَّز الموقف العام للجماعة اليهودية بالاهتمام والترقب دون التأييد الكبير.

ومع الحرب العالمية الأولى وازدياد الاهتمام الإمبريالي الفرنسي بالمشرق العربي بعد أن كان مقصوراً على المغرب، ومع انتصار الحلفاء على دول الوسط وتفتُّت الإمبراطورية العثمانية وسَلْخ الألزاس واللورين من ألمانيا وضمهما لفرنسا، بدأت الحكومة الفرنسية تُظهر اهتماماً خاصاً بالحركة الصهيونية وبدأت أسماء السياسيين تظهر في قائمة مؤيدي الصهيونية. وقد تَوافَق مع هذا الاتجاه التغير في قيادة الحركة الصهيونية وتوجُّهها نحو بريطانيا وفرنسا بدلاً من ألمانيا والنمسا لتكونا القوتين الإمبرياليتين الراعيتين للحركة. ومن ثم، فقد شهدت فترة ما بين الحربين العالميتين نمواً مطرداً في صفوف الحركة الصهيونية في فرنسا حيث وجد يهود الطبقة المتوسطة أن هذا التأييد يضمن لهم مكانتهم في المجتمع نظراً لأنه موقف الحكومة الرسمي، ووجد يهود الألزاس واللورين ذوو الارتباطات الثقافية الألمانية في الحركة الصهيونية نوعاً من التحقق القومي الرومانسي الذي يمثل استمراراً لتلك الارتباطات الثقافية ولا يتعارض في الوقت نفسه مع انتماءاتهم الألمانية الرومانسية التي تغيَّرت. وقد شكَّل هؤلاء في ستراسبورج (عام 1917) حركة صهيونية شبابية عُرفت باسم «هاتيكفاه»، ومن هذه المنطقة أتى معظم المهاجرين اليهود إلى إسرائيل.

وفي عام 1921 تأسست في ستراسبورج أيضاً جماعة مزراحي. وفي إطار هذه الجماعة، أكدت الجمعية الفرنسية للحاخامات (عام 1923) أهمية الاستيطان اليهودي في الأراضي المقدَّسة وضرورة خلق مجتمع صهيوني. وشهدت الأعوام 1919 ـ 1939 نشـاطاً محـموماً في الحـركة الصهــيونية، وعلى مستويات عدة. فتحْت قيادة جوزيف فيشر (الذي صار سفيراً لإسرائيل في بلجيكا عام 1949) قام الصندوق القومي اليهودي بفتح فروع له في الجزائر، واشتركت الحركة الصهيونية الفرنسية في الوكالة اليهودية الموحَّدة عام 1929. وكان ممثل فرنسا في مجلس الوكالة هو السياسي الفرنسي الشهير ليون بلوم. وعلى أية حال، كان هذا مؤشراً على ازدياد أهمية الحركة الصهيونية سياسياً داخل فرنسا، كما كان مؤشراً على ضعفها النسبي فلم يكن هذا الممثل صهيونياً قحاً بل كان يهودياً غير صهيوني أو مجرد واجهة ملائمة.

وفي عام 1937، شُكِّلت لجنة التنسيق بين المنظمات الصهيونية التي شملت عضويتها كل الفصائل والتنظيمات الصهيونية حتى أنها ضمت منظمة صهيونية سفاردية بلغت عضويتها 250 فرداً. ورغم كل هذا النشاط، أو بالأحرى لأن كل هذا النشاط كان تعبيراً عن آراء توطينيـة لا عن آراء اسـتيطانية، لم تكـن الهـجرة من فرنسـا هــدفاً حقيقياً، ولم يتعد عدد المهاجرين بضع مئات. وحتى عندما وصل العدد إلى بضعة آلاف من المـهاجرين، كان 90% منهـم من لاجـئي ألمانيا النازية، وبالتالي يمكننا أن نقول إن الحركة الصهيونية الفرنسية وجدت في هؤلاء ضالتها المنشودة ومادتها البشرية التي تسعى إلى توطينها.

3 ـ المرحلة الثالثة1939 ـ 1967 (مرحلة الاستقرار):

وتميَّزت هذه المرحلة بغلبة الطابع السياسي التحريضي وشهدت دعماً مالياً معنوياً ضخماً للحركات الصهيونية في فلسطين ثم لدولة إسرائيل، وازدادت العلاقة توثُّقاً مع الحكومة الفرنسية (ويرجع هذا أيضاً لوصول الاشتراكيين للحكم). وكانت المادة البشرية في هذه المرحلة أساساً من الفارين من مناطق الاحتلال النازي في أوربا ثم بعد الحرب من يهود شمال أفريقيا بعد حرب تحرير الجزائر واستقلال تونس والمغرب. وتميَّز الموقف العام للجماعة اليهودية في هذه المرحلة بالتأييد الضخم والمبالغ فيه أحياناً حتى صارت التفرقة بين المنظمات اليهودية والصهيونية عسيرة جداً.

وقد ازداد هذا الدور التوطيني مع الغزو النازي لفرنسا وازدياد عدد اللاجئين من بولندا وهولندا وغيرها من المناطق الواقعة تحت الاحتلال النازي. ولقد استقر النشاط الصهيوني في منطقة جنوب فرنسا في جمهورية فيشى. وفي عام 1941 أُنشئت في فيشى حركة الشباب الصهيوني بقيادة سيمون ليفيت وجول جفروكن (وهو حفيد إسرائيل يفرويكين الذي تفرنس). وهنا نلاحظ أن نزعات الجد الاستيطانية تحوَّلت إلى نزعات توطينية لدى الحفيد مع استقرار الأسرة في فرنسا ومع إحساسها بالأمان، ومن ثم تغيَّر محتوى الخطاب وكذلك أهدافه (بل تغيَّر الاسم ذو الطابع السلافي إلى اسم لاتيني النبرة). وقد لعبت حركة الشباب الصهيوني دوراً بارزاً في تهريب اليهود اللاجئين عبر الحدود إلى إسبانيا وسويسرا ومنها إلى فلسطين، بل شاركت في المقاومة المسلحة. وفي عام 1942، ساهم الشباب الصهيوني في تولوز في تشكيل ما عرف بالجيش اليهودي الذي لعب أيضاً دوراً مهماً في توطين اللاجئين اليهود الفارين في فلسطين وشارك بعدئذ في وحدات فرنسا الحرة تحت قيادة ديجول. وقد كان لهذا الدور، وكذلك لفكرة المذابح اليهودية على يد النازي، أثر جديد مهم في التحول الذي طرأ على الحركة الصهيونية في فرنسا بعد الحرب. فقد قدَّرت الحكومة الفرنسية المساعدات الصهيونية واعتبر يهود فرنسا الصهاينة أبطالاً منقذين.

وتشكَّلت في عام 1947 منظمة الاتحاد الصهيوني الفرنسي التي رأسها أندريه بلوميل وهو اشتراكي من أتباع ليون بلوم كما أنه قانوني شهير، ولعبت تلك المنظمة دوراً بالغ الأهمية في عمليات الهجرة غير الشرعية عَبْر الموانئ الفرنسية إلى فلسطين. كما قدَّمت مساعدات مالية هائلة للاستيطان الصهيوني في فلسـطين، وخصوصاً بعـد صدور قرار التقسيم، حتى أن الهاجاناه وحدها تلقت ما يزيد على 2 مليون من الفرنكات. وفي عام 1950، كان هناك 63.248 دافع شيقل فرنسي في المؤتمر الصهيوني الثالث والعشرين. وتشكلت لجان تبرع عديدة لإسرائيل في فرنسا تحت اسم «مساعدة إسرائيل»، و«النداء الموحَّد» وغير ذلك.

ومع اندلاع حرب تحرير الجزائر عام 1954، وجدت الحركة الصهيونية في فرنسا فرصة جديدة، فقد جاء تيار المهاجرين اليهود القادم من شمال أفريقيا إلى فرنسا بمادةبشرية جديدة يمكن توجيهها إلى إسرائيل التي كانت في حاجة ماسة للأفراد ذوي التخصصات الدقيقة والأكاديمية. ويمكننا أن نقول إن كل الحركات اليهودية في فرنسا بحلول الستينيات كانت مؤيدة للصهيونية وإسرائيل حتى أن الحاخام الأكبر يعقوب قبلان كان الرئيس الفخري لحركة مزراحي (عمال مزراحي في إسرائيل)، وشاركت مشاركة فعالة في كل الجهود الصهيونية في فرنسا.

وقد ظهر هذا التأييد الواسع في المساعدات الهائلة التي قدمتها الحركة الصهيونية والمؤسسات اليهودية في فرنسا إلى إسرائيل قبل حرب 1967 مباشرةً، وأثناءها وبعدها، حتى أن حملة التبرعات التي حدثت بعد الحرب مباشرةً أرسلت 4000.000 جنيه إسترليني إلى إسرائيل تحت اسم «تبرعات التضامن مع إسرائيل». وقد عارضت الحركة الصهيونية الموقف الرسمي الفرنسي الديجولي بعد الحرب وتشكلت جماعة تحت اسم «لجنة التنسيق بين المنظمات اليهودية في فرنسا» لتشكيل رأي عام ضاغط على الحكومة ومساندة إسرائيل.

تاريـــخ الصهيونيــة في إنجـلترا

History of Zionism in England

ارتبطت حركة أعضاء الجماعات اليهودية وهجرتهم بالتشكيل الاستعماري الاستيطاني الغربي (وخصوصاً الإنجليزي). ويُلاحَظ أن الفكر الصهيوني قد وُلد في البداية في الأوساط الإنجليزية البروتستانتية قبل أن يصل إلى أعضاء الجماعات اليهودية. فمفكرون مثل شافتسبري وأوليفانت، كانوا قد توصلوا إلى كل الأطروحات الصهيونية قبل بنسكر وهرتزل بعشرات السنين. كما أن أوليفانت وغيره كانوا قد بدأوا بوضع مشروعهم الصهيوني موضع التنفيذ. ومقابل ذلك، كان هناك معارضة للصهيونية بين يهود إنجلترا المندمجين. ولم تبدأ الأفكار الصهيونية في الظهور إلا مع هجرة يهود اليديشية في أواخر القرن التاسع عشر.

ويمكن تقسيم تاريخ الحركة الصهيونية في إنجلترا إلى أربع مراحل:

المرحلة الأولى: منذ نشأة الحركة حتى 1914:

اتسمت علاقة الحركة الصهيونية باليهود البريطانيين بالمعاداة أو اللامبالاة حيث اعتبرها معظم الرموز اليهودية في إنجلترا حركة خرافية خيالية تضر بمصالح اليهود، وكان الأنصار الأساسيون للحركة الصهيونية في بريطانيا هم الساسة غير اليهود الذين وجدوا فيها وسيلة جيدة لتحقيق الأطماع البريطانية الاستعمارية في الشرق العربي.

وكانت لندن أول العواصم الأوربية التي عبَّر فيها هرتزل عن فكرته الصهيونية في النادي المكابي في عام 1895 ونشر برنامجه الصهيوني لتوطين اليهود في فلسطين في جريدة جويش كرونيكل (يناير 1896) قبل نشره كتاب دولة اليهود . وكما هو متوقَّع أخذت الصهيونية في بريطانيا الشكل التوطيني. وعندما وصل هرتزل إلى لندن عام 1896، لم يُقابَل اقتراحه بحماس كبير بين اليهود الإنجليز المندمجين. وتخبرنا موسوعة إسرائيل والصهيونية بأن "موجة الحماس التي نتجت عن ظهور هرتزل لم تتعد المهاجرين قط" (بعبارة أخرى: المادة البشرية من شرق أوربا).

وقد أثارت كلمة هرتزل مخاوف جماعة أحباء صهيون اللندنية برئاسة الكولونيل ألبرت جولد سميد من أن تثير خطته السلطات التركية فتمنع إقامة المستوطنات اليهوديةفي فلسطين، وهو ما حدا بالجماعة إلى رفض دعوة هرتزل لها لحضور المؤتمر الصهيوني الأول (1897) الذى حضره ثمانية مندوبين بريطانيين (من بينهم إسرائيل زانجويل) معظمهم ليسوا من أصل بريطاني بل مهاجرون من أصول شرق ووسط أوربية. وقد تعرَّضت الحركة الصهيونية في بدايتها لانتقادات ومعارضة شديدة من قبَل اليهود البريطانيين حتى أن الحاخام الأعظم الدكتور هرمان أدلر أصدر مرسوماً يحذر فيه من "الأفكار الخرافية والخيالية حول الأمة اليهودية والدولة اليهودية". وقد تطلَّب الأمر من هرتزل، الذي كان يطمح إلى الحصول على تأييد بريطاني لمشروعه، أن يعمل جاهداً على ضم حركة أحباء صهيون. وبحلول المؤتمر الصهيوني الثاني (1898)، كان عدد الجمعيات الصهيونية في بريطانيا 26 جمعية، ومَثل تلك الجمعيات في بازل 15 مندوباً. وفي عام 1899، تَشكَّل اتحاد صهيوني برئاسة السير فرانسيس مونتفيوري وهو ابن أخى السير موسى مونتفيوري (الداعية اليهودي الشهير). وفي العام نفسه، نجح هرتزل في تسجيل الصندوق اليهودي الاستعماري، وهو أول أداة مالية صهيونية لتمويل المشروع التوطيني في لندن، كشركة بريطانية. وقد أدَّى هذا إلى القضاء تماماً على جمعية أحباء صهيون كجماعة مستقلة حيث اشترك أغلب أعضائها البارزين في الصندوق وبالتالي في الاتحاد الصهيوني.

وقد عُقد في لندن المؤتمر الصهيوني الرابع (1900) وحضره 28 مندوباً يمثلون 38 جمعية أعضاء في الاتحاد الصهيوني الإنجليزي. وفي محاولة من المؤتمر لكسب الرأي العام السياسي البريطاني للفكرة الصهيونية، وزَّع المؤتمر على النواب البريطانيين في مجلس العموم دوريات تشرح أغراض الصهيونية وتدعوهم إلى الرد وإبداء آرائهم حول هذا الموضوع. وقد وصف هرتزل هذا الفعل بأنه "أذكى فعل قامت به حركتنا منذ فترة بعيدة". وقد أيَّد الصهاينة البريطانيون مشاريع الاستيطان الصهيونية خارج فلسطين، سواء مشروع أوغندا أو مشروع العريش أو غيرهما من المشاريع.

المرحلة الثانية: 1904 ـ 1939:

اتسمت تلك المرحلة بازدياد أهمية لندن كمركز للحركة الصهيونية وتلاشي دور برلين الصهيوني، وازدادت العلاقات بين الحكومة البريطانية وبين الصهاينة توثقاً، وشهدت مرحلة صدور وعد بلفور ومن ثم أصبح بإمكان الحركة أن تتغلغل سريعاً وسط اليهود البريطانيين. وقد مثَّل عام 1904 نقطة تحوُّل مهمة في تاريخ الحركة الصهيونية البريطانية والحركة الصهيونية ككل، إذ مات هرتزل وانتقلت القيادة إلى ولفسون. وعارضت جماعة من البريطانيين هذه القيادة الجديدة الموالية لألمانيا، كما أن موت هرتزل أضعف التوجهات الألمانية للحركة. كما ساعد على تقوية التوجهات البريطانية ظهور وايزمان وتشكُّل ما عُرف باسم «جماعة مانشستر»، وهي جماعة من المثقفين اليهود الشبان من بينهم إسرائيل موسى سيف وسيمون ماركس وهاري ليون سيمون. وكانت تربط هذه الجماعة علاقة قوية بشخصيات إعلامية بريطانية مثل تشارلز سكوت رئيس تحرير وصاحب جريدة جارديان مانشستر. وعن طريق هذه الوسائل ازدادت أهمية جماعة مانشستر وزادت أهمية وايزمان كقائد جديد للحركة الصهيونية، وخصوصاً من خلال دعوته الملحة للتركيز على التأثير في بريطانيا العظمى والتخلي عن فكرة "الدبلوماسية التركية الألمانية" التي كان هرتزل يتبناها وكذلك فكرته حول العمل على زيادة عدد المهاجرين اليهود إلى فلسطين لخلق تجمُّع يهودي استيطاني قوي يُوظَّف لصالح بريطانيا. وقد أدَّت هذه العوامل إلى أن يُنتخب وايزمان عام 1914 نائباً لرئيس الاتحاد الصهيوني البريطاني.

ومما زاد من أهمية الحركة الصهيونية في بريطانيا، ازدياد اهتمام حكومة بريطانيا بمنطقة الشرق العربي ليس فقط جغرافياً، بل اقتصادياً، مع ظهور البترول وازدياد أهميته كمصدر للطاقة. ومع نشوب الحرب العالمية الأولى، أصبح الاتحاد الصهيوني البريطاني الذي كان يضم في هذا الوقت حوالي 50 جمعية في موقع رئيسي حيث فقدت اللجنة التنفيذية دورها القيادي لأنها تقع في برلين وبالتالي انعزلت فعلاً وقولاً عن العالم كله. وقام ناحوم سوكولوف عضو اللجنة التنفيذية بالانضمام إلى وايزمان، ومن ثم أصبحت اتصالات وايزمان بالساسة البريطانيين أكثر رسمية. ومما ساعد على تقوية موقع وايزمان، تأييد لويس برانديز رئيس اللجنة التنفيذية المؤقتة في نيويورك. وفي الوقت نفسه، عمل هربرت صمويل، وهو عضو في الوزارة البريطانية، على أن يحصل على وعد من الحكومة بإقامة دولة يهودية في فلسطين. وفي يناير عام 1916، كُوِّنت لجنة استشارية من ناحوم سوكولوف وياحيل تشيلينوف وموسى جاستر وحاييم وايزمان وغيرهم. بيد أن عمل اللجنة انتهى عام 1917 بعد استقالة هربرت بنتويتش منها لإتاحة الفرصة لوايزمان ليصير رئيساً للاتحاد الصهيوني الذي كان يخوض معركة شرسة على جانبين: الأول مع اللجنة التنفيذية العالمية ذاتالاتجاه الألماني، والثاني ضد قادة التجمع اليهودي البريطاني من غير الصهاينة الذين كانوا يرفضون الصهيونية بعنف، حتى أن مؤيدي الصهاينة وبرنامج بازل لم يتعدوا 5% من جملة يهود بريطانيا في هذا الوقت.

ومع صدور وعد بلفور وتَواجُد العديد من القادة الصهاينة في لندن أثناء الحرب مثل أحاد هعام وجابوتنسكي، ازدادت قوة الاتحاد الصهيوني سواء عددياً أو من حيث تأثيره وسط الجماعة اليهودية. ومن الواضح أن الاعتراف الرسمي من قبَل الحكومة البريطانية بالحركة الصهيونية وتبنيها موقفاً صهيونياً حَسَم الموقف لصالح المنظمة الصهيونية وسط الجماعة اليهودية. ومع تبعية المشروع الاستيطاني الصهيوني للمشروع البريطاني الاستعماري، صار الفكر الصهيوني مكملاً للروح الاندماجية وغير متناقض معها، بمعنى أنه أصبح من السهل أن يكون المواطن الإنجليزي اليهودي يهودياً وصهيونياً في آن واحد، بعد أن كان الموقف مختلفاً قبل أشهر قليلة.

وقد عُقد مؤتمر صهيوني في عام 1920 قام بانتخاب وايزمان رئيساً للمنظمة الصهيونية العالمية، وسوكولوف رئيساً للجنة التنفيذية. وبمعنى آخر، كرس هذا المؤتمر سيطرة الاتجاه البريطاني وأنهى تماماً الاتجاه الألماني. وحظي الاتحاد الصهيوني بتأييد سياسيين بريطانيين كبار من أمثال لويد جورج ولورد ملنر ونشرت الصحف البريطانية الصهيونية مقالات تؤيد وضع فلسطين تحت حكم الانتداب.

وقد أنشأ المؤتمر الصهيوني في لندن (1920) الصندوق التأسيسي الفلسطيني (الكيرين هايسود)، وأصبحت لندن مقره الرئيسي حتى عام 1926 عندما انتقل إلى فلسطين. وهي خطوة ارتبطت بتنامي قوة الاستيطانيين وتأسيس مؤسسات خاصة. ثم انتقلت اللجنة التنفيذية إلى لندن وبقيت بها حتى عام 1936، ومنها انتقلت إلى القدس. ويتبدَّى تنامي نفوذ الصهاينة وسط اليهود البريطانيين، وبكل وضوح، في تكـوين الوكالة اليهودية الموسـعة التي كانت تحت سيطرة الصهاينة تماماً.

المرحلة الثالثة (1939 ـ 1948(:

اتسمت تلك المرحلة بسيطرة الحركة الصهيونية تماماً على حياة ومقدرات اليهود في بريطانيا وكذلك سياسة الشد والجذب بين الصهاينة والحكومة البريطانية، ويمكن أن نعزو هذا لازدياد أهمية الولايات المتحدة الأمريكية وسط القوى الإمبريالية العالمية وازدياد ارتباط الصهاينة بالولايات المتحدة.

وكتعبير آخر عن محورية الدور البريطاني في الشئون الصهيونية في ذلك الوقت، استقر جابوتنسكي في لندن (منذ 1936) لإدارة أعمال المنظمة الصهيونية الجديدة التيأنشأها. وكالعادة، وفرت النازية للصهاينة التوطينيين البريطانيين المادة البشرية (الخام) الضرورية للعمل التوطيني. وتم تأسيس الصندوق البريطاني المركزي لمساعدةاليهود الألمان، وكان الغرض الأساسي منه هو تهجير اليهود من ألمانيا وتوطينهم في فلسطين. وكما ساعدت تلك المادة على تقوية الدور الصهيوني التوطيني، فقد ساعدت أيضاً الاستيطانيين على زيادة نفوذهم وسط الحركة الصهيونية العالمية بتزويدهم بمادة خام بشرية وأيضاً بإظهار قدرات الاستيطانيين الكبيرة على الاستيعاب، وبالتالي تخليص التوطينيين من مشاكل التعامل المباشر مع المادة البشرية. وقد ظهرت هذه الآثار في تحوَّل الاتحاد الصهيوني البريطاني إلى أقوى المنظمات تأثيراً وسط اليهودالبريطانيين كما تخرَّج من تنظيمه الشبابي العديد من القيادات الإسرائيلية فيما بعد، مثل أبا إيبان وإفرام هرمان. وقد ساعدت النازية أيضاً على إثارة مخاوف بعضالقطاعات بين الجماعة اليهودية في بريطانيا، وهو ما شجع على ذهاب بعض منهم إلى فلسطين. ونقل هؤلاء عند عودتهم آراء المستوطنين الصهاينة في فلسطين وكيفية التعامل مع العرب. ومع الانتفاضة العربية عام 1936، وقبل ذلك مع ثورات أعوام 1921 ـ 1929، كانت بريطانيا تلجأ لإصـدار الكـتب البيضـاء من أجـل إدخال الطمأنينة على قلوب العرب، وخصوصاً أعضاء النخب العربية المرتبطة بإنجلترا، وكان هذا يثير حفيظة الاستيطانيين الذين بدأوا في التفكير في أن الاعتماد الكامل على بريطانيا الإمبريالية غير ممكن، ومن هنا كانت زياراتهم المتكررة للندن بهدف الضغط على الدولة البريطانية عن طريق التأثير المباشر في الاتحاد الصهيوني.

وقد خلقت الحرب العالمية الثانية وضعاً صعباً لليهود الإنجليز، فمع اشتداد الأزمة في بريطانيا، اعتبرت الحكومة البريطانية كل اليهود الألمان الموجودين في بريطانيا جواسيس ممثلين للعدو، أي أنها نظرت إليهم النظرة التقليدية على أساس أن اليهودي هو دائماً الخائن/الجاسوس/المرابي الأبدي، أي الجماعة الوظيفية التي تعمل دائماً في خدمة من يدفع لها أجرها، ولم تقم الجماعات الصهيونية في بريطانيا بمعارضة هذا العمل.

وقد شهد عام 1942 تطوراً مهماً في تركيبة الاتحاد الصهيوني البريطاني، فقد انضمت إليه حركة عمال صهيون ذات الصلات القوية بحزب العمال البريطاني. وتجدرالإشارة إلى أن هذا يُعدُّ مؤشراً على ازدياد أهمية الاستيطانيين وغالبيتهم من حركة عمال صهيون وأيضاً على توثيق الصلة بين الصهاينة في بريطانيا وبين القوى السياسيةالمختلفة، فقد كانت حكومة كلمنت إتلي العمالية هي التي وصلت إلى الحكم عام 1945 قبل نهاية الحرب العالمية وانتهى في عهدها الصدام المسلح بين الاستيطانيين والبريطانيين على أرض فلسطين. وقبيل تقسيم فلسطين عام 1948، وأثناء انعقاد مؤتمر حزب العمال البريطاني عام 1947، طالب مندوب حركة عمال صهيون في كلمته الموجهة للمؤتمر (الذي حضره كمراقب زائر) باتخاذ قرار بصدد قضية فلسطين يراعي روح وعود الحزب قبل الانتخابات البرلمانية، أي الإقرار بحق اليهود في كامل فلسطين.

المرحلة الرابعة (1948 ـ (:

وتتسم المرحلة الحالية بضعف الحركة الصهيونية نسبياً وانشغالها بأمور ثقافية وشكلية طقوسية. ويعود هذا بالطبع لتضاؤل أهمية بريطانيا في السياسة الدولية وزيادة أهمية الولايات المتحدة بشكل ضخم واعتماد إسرائيل الكامل عليها.

وبعد إنشاء دولة إسرائيل، استمر الصهاينة البريطانيون في عملهم الدعائي وفي خلق مؤسسات لرعاية مهاجري اليهود إلى فلسطين، وقد مثلت المنظمة الصهيونية جسراً بين إسرائيل وأوربا. وساهمت الحركة الصهيونية في دعم إسرائيل مادياً بمبلغ يزيد على 17000.000 جنيه إسترليني خلال الأيام الأولى لحرب 1967. وكل هذه المساعدات تأتي في الإطار التوطيني. ويتضح الطابع التوطيني للصهيونية البريطانية في المساهمة الفعلية في الهجرة لإسرائيل حيث نقرأ في موسوعة إسرائيلوالصهيونية أن "عدد اليهود البريطانيين الذين استقروا فعلاً في إسرائيل كان عدداً قليلاً". لقد صارت إسرائيل بالنسبة للصهاينة البريطانيين مركزاً روحياً أو بقعة مقدَّسة يتطهر فيها يهود المنفى مما علق بهم من أدران. ويتبدَّى هذا فيما يُسمَّى برنامج "عام العمل" الذي تبنته منظمة اتحاد الشباب الصهيوني عام 1950 والقاضي بأن يسافر الشباب اليهودي من بريطانيا لقضاء سنة من العمل التطوعي في إسرائيل، وهو تعبير عن تقبُّل كامل لحالة الدياسبورا باعتبارها حالة نهائية.

تاريخ الصهيونية في الولايات المتحدة

History of Zionism in the U.S.A

يبدأ تاريخ الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة بالجماعات الصهيونية غير اليهودية التي طالبت بتوطين اليهود في فلسطين (أو خارجها). وفي عام 1818 طالب جون آدامز رئيس الولايات المتحدة بأن يصبح اليهود أمة مستقلة، هذا في وقت لم يزد فيه عدد اليهود عن أربعة آلاف ولم يكن هناك لوبي يهودي أو صهيوني، وهو ما يدل على أن النزعة الصهيونية في الولايات المتحدة أصيلة متجذرة في المجتمع الأمريكي (وهو على كلٍّ مجتمع استيطاني يمكنه التعاطف مع التجربة الاستيطانية الصهيونية). ومن أهم الشخصيات الصهيونية غير اليهودية وليام بلاكستون (الذي اشترك في مؤتمر اتحاد الصهاينة الأمريكيين في فيلادلفيا) وقد أعلن المؤتمر أن بلاكستون هو "أبو الصهيونية" وهو لقب تستخدمه بعض المراجع للإشارة إلى الرئيس وودرو ويلسون أيضاً (انظر الباب المعنون «صهيونية غير اليهود»).

أما تاريخ الحركة الصهيونية بين أعضاء الجماعات اليهودية، فهو لا يبدأ إلا في مرحلة لاحقة، وقد بدأت الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة مع وصول ألوف المهاجرين اليهود من شرق أوربا في بداية ثمانينيات القرن التاسع عشر حاملين معهم تقاليدهم وأفكارهم ومعتقداتهم وتنظيماتهم وجمعياتهم التي كان من بينها جمعية أحباء صهيون. وبحلول عام 1890، كان هناك فروع لجمعية أحباء صهيون في نيويورك وشيكاغو وبلتيمور وبوسطن وميلووكي وفلادلفيا وكليفلاند. وتكوَّنت جمعيات العودة لصهيون على يد آدم روزنبرج بغرض شراء أرض في فلسطين والإعداد لعودة اليهود إلى هناك. وفي عام 1896، طرح البروفسير بول هاوبت من جامعة جون هوبكنز خطة ترمي إلى توجيه المهاجرين اليهود القادمين من شرق أوربا إلى بلاد بين النهرين وسوريا. وأيده في هذه الخطة العديد من الشخصيات اليهودية البارزة مثل سيروس أدلر وماير سولزبرجر وأوسكار شتراوس. في هذه الأثناء، قام هرتزل بالإعداد لمؤتمره الصهيوني الأول (1897) وحضره أربعة من اليهود الأمريكيين.

وفي 13 نوفمبر 1897، كوَّنت الجمعيات الصهيونية في نيويورك اتحاد صهاينة نيويورك بغرض تكوين منظمة على مستوى الأمة كلها. وقد عُقد مؤتمر لمندوبين من منظمات مماثلة في 4 يوليه 1898 في نيـويورك ونتـج عـن المؤتمر تكوين اتحاد الصهاينة الأمريكيين. وقد رأس منظمة نيويورك ريتشارد جوتهيل. وتكوَّنت جمعيةأخرى تحت اسم «عصبة الجمعيات الصهيونية في الولايات المتحدة الأمريكية الشمالية»، ثم اتحدت المنظمات لتكوين اتحاد صهـاينة نيويورك الكبرى وما حولها. وعندما تكوَّن الاتحاد الأمريكـي، تولَّى رئاسـته جوتهيل، وكان أمينه الأول هو ستيفن وايز.

وقد عارض الصهيونيةَ (في البداية) اليهودُ من الطبقات العليا والحاخامات الإصلاحيون الذين أصدروا بياناً في يوليه 1897 أدانوا فيه المحاولات الرامية لإنشاء دولة يهودية. كما واجهت الحركة الصهيونية معارضة من قبَل اليهود الاشتراكيين الذين انخرطوا في الحركات النقابية الأمريكية التي كانت قوية في بداية القرن، وكان هؤلاءينظرون للصهيونية على أنها أيديولوجيا رجعية تهدف إلى فرض سيطرة البورجوازية على الطبقة العاملة. ورفضوا أيضاً سيطرة من أسموهم بالألمان على المهاجرين من أوربا الشرقية.

وقد أصدر الاتحاد عام 1901 جريدة المكابي برئاسة لويس ليبسكي، وشارك جوتهيل في المجلس الاستشاري الأول للصندوق الاستيطاني اليهودي. ودعا الاتحاد إلى شراء أسهم في الصندوق القومي اليهودي، كما قدَّم مساعدات مادية ضخمة للمستوطنات وساهم في إنشـاء المدرسـة العليا بهرتزليا وتخنيـون حيفا ومدرسة بيزالال وغيرها.

وقد ارتحل دي هاس موفَداً من قبَل اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية العالمية ليقوم بقيادة الاتحاد الصهيوني في الولايات المتحدة. فعلى ما يبدو لم يكن الأداء في تلك الآونة مرضياً للقيادة. واستقر دي هاس في بوسطن ليعمل بدءاً من 1902 كأول محترف صهيوني، يعمل أميناً للاتحاد، ونجح دي هاس في ضم شخصية يهودية مرموقةللحركة هو القاضي لويس برانديز. وقد أدَّى انتقال دي هاس إلى استقالة جوتهيل الذي عانت الحركة في عهده من صعوبات مالية ضخمة، وأُسندت رئاسة الحركة إلى هاري فردنفالد. وفي بداية 1905، استقال دي هاس من الأمانة وتَسلَّمها يهودا ماجنيس، وكان هذا إيذاناً بازدياد التوجه التوطيني قوة بحيث رأت القيادات الجديدة أن الصهيونية هي بعث ونهضة القيم اليهودية القديمة وضبط للاندماج. ولم يكن هؤلاء ينفون أهمية أرض إسرائيل بيد أنهم لم تكن عندهم أية نية للاستيطان فيها.

والواقع أن القادة الصهاينة الاستيطانيين رأوا الأهمية المتزايدة للولايات المتحدة وبدأوا في توثيق علاقاتهم بها، فقام كلٌّ من شماريا ليفين وبن جوريون وسوكولوف وبن زفي بزيارات قصيرة وأحياناً طويلة للولايات المتحدة بغرض توطيد علاقاتهم مع أعضاء الجماعات اليهودية وإشاعة الأفكار الصهيونية بينهم. هذا، وقد وصل عدد أعضاء الاتحاد الصهيوني الأمريكي عشية الحرب العالمية الأولى إلى 21.000 عضو، وهو عدد صغير للغاية بالنسبة لعدد أعضاء الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة البالغ عددهم حوالي ثلاثة ملايين، خصوصاً أن كثيراً من الأعضاء لا تتجاوز عضويتهم في المنظمة الصهيونية دفع رسوم العضوية (الشيقل). وكانت توجد تحت مظلة الاتحاد 88 جمعية صهيونية محلية ومتخصصة، ومن هذه الجمعيات منظمة أبناء صهيون والشباب اليهودي وعصبة التحالف الصهيوني الجامعي، هذا غير منظمة الهاداساه أو منظمة النساء الصهيونيات الأمريكية عام 1912برئاسة هنرييتا سيزولد. ومن رؤساء المنظمات الصهيونية الشبابية والجامعية، نذكر فليكس فرانكفورتر وماكس هيلر وهوراس كالن. وقد تأسَّست أول جمعية عمالية صهيونية في أمريكا عام 1903، وكانت تهدف إلى إبعاد اليهود عن الأوساط الاشتراكية. وأُصدرت صحيفة باليديشية منذ عام 1905، ومن أهم وأبرز قياداتها حاييم جرينبرج.

وقد أُجـريت عـام 1911 انتخــابات الاتحاد الصهيوني الأمريكي، وقد فاز فيها اليهود المهاجرون من شرق أوربا بكل مقاعد اللجنة التنفيذية وترأس اللجنة لويس ليبسكي وكان هذا إيذاناً بسيطرة التوطينيين العماليين تماماً وإنهاء تواجد الألمان والصهاينة الثقافيين. وشهد عام 1911 أيضاً تكوين منظمة مزراحي أمريكا على يد مائير بار إيلان وهي المنظمة التي صارت بمرور الزمن الأساس المادي لمنظمة المزراحي العالمية نظراً لقوتها المالية والعددية والتنظيمية. وهذا دليل على تنامي أهمية الحركة الصهيونية الأمريكية في الحركة الصهيونية العالمية، كما أنه أيضاً دليل مهم على التوجه الديني لليهود الأمريكيين في الإطار التوطيني، أي أن المزراحي أتاحت للمتدين الأمريكي اليهودي حلاًًّ رائعاً يمكِّنه من البقاء في أرض الميعاد الحقيقية (أي الولايات المتحدة) وإرضاء تطلعاته الدينية والروحية نحو أرض الميعاد المُتخيَّلة في فلسطين والتي لا ينوي الذهاب إليها.

ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، حدثت تحولات مهمة في الحركة الصهيونية نتيجة إعلان ويلسون تأييده وعد بلفور وقبول برانديز رئاسة الحركة الصهيونية الأمريكية. وجذبت هذه الشخصية المرموقة العديد من الشخصيات اليهودية البارزة للحركة مثل برنارد فلكسنر ولويس كيرشكين. وأدَّى هذا إلى تَحسُّن الوضع المالي للاتحاد وزيادة العضوية فيه وازدياد قوة الضغط السياسي له. وقد كان برانديز مؤمناً بفكرة أن الولايات المتحدة الأمريكية هي تجسيد للتعددية الثقافية على الأرض وهي أمة الأمم، ومن ثم فلا تَعارُض بين الأمريكية والصهيونية، أي لا تعارُض بين الانتماء لأمريكا والانتماء لأرض الميعاد. وقد عبَّر برانديز بذلك عن الفكر التوطيني الأمريكي وبلوره وساعد على استمراره وكسب الأنصار له. وقد استقال برانديز من منصبه كرئيس للاتحاد عام 1916 بعد توليه منصب قاض في المحكمة الدستورية العليا، بيد أنه استمر في قيادة الاتحاد من خلال الشخصيات المؤثرة من حوله مثل دي هاس وكالن وفرانكفورتر وغيرهم. وفي عام 1917، أعاد الاتحاد تنظيم فروعه وجمعياته في المنظمة الصهيونية الأمريكية التي أُقيمت على أساس إقليمي. وكان القاضي برانديز رئيساً فخرياً، والقاضي جوليان ماك رئيساً للمنظمة، وكل من ستيفن وايز وهاري فردنفالد نائبين للرئيس. وقد مهد هذا التحول الطريق للاتصالات التي تمت على أعلى المستوىات بين الصهاينة (من خلال برانديز) وبين حكومة الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون، ومن ثم حظي وعد بلفور فور صدوره بموافقة وترحيب الحكومة الأمريكية.

ورغم معارضة كثير من أعضاء الجماعات اليهودية، ونتيجة تنامي قوة الصهاينة (ارتفع عدد الصهاينة إلى 150 ألفاً) وإحساسهم بتأييد الحكومة الأمريكية لهم، اقترح القادة الأمريكيون الصهاينة إقامة مؤتمر يهودي أمريكي عن طريق الانتخاب الديموقراطي لمناقشة مشكلات اليهـود فيما بعـد الحرب وضمن ذلك إقامة وطـن قومي في فلسطين وغيرها. وقد عُقد هذا المؤتمر في 15 ديسمبر 1918 في فيلادلفيا، وقد تبنَّى قراراً يطالب عصبة الأمم بتولية بريطانيا العظمى مهام الانتداب على فلسطين. وتَطوُّع عدة آلاف من الشباب الأمريكي اليهودي للسفر إلى فلسطين، بيد أن العدد الحقيقي لم يتعد 50 فرداً هم الذين استقروا هناك. وهذا مؤشر آخر على طبيعة الفكرة الصهيونية بالنسبة لليهودي الأمريكي، فالمواطن الأمريكي اليهودي يحس بأن ما يدفعه للصهاينة من تبرعات هو الضريبة التي على أساسها يكتسب انتماءه الروحي والفكري وإحساسه بالهوية. وبعد الحرب، قام برانديز بزيارة فلسطين وصاغ خططاً عديدة لإدارة الاستيطان الصهيوني على أسس رأسمالية رشيدة، ومن خلال لجانتكنوقراطية، أي أنه كان يحاول أن يفرغ الاستيطان الصهيوني من خصوصيته الإحلالية وبالتالي حاجته للدعم المالي والمعنوي الدائم، وهو الأمر الذي أدرك المستوطنوناستحالته فحدث صراع بين برانديز ووايزمان. وقد اقترح وايزمان إنشاء صندوق قومي يهودي لتمـويل الاسـتيطان اليهودي في فلسطين وتحسين الاقتصاد اليهودي هناك، وكذلك لإقامة مؤسسات تربوية وتعليمية وعلمية هناك تدار مركزياً من المقر الرئيسي للمنظمة الصهيونية، وقد رفض برانديز ومجموعته قبول هذه الرؤية.

وقد قاد المعارضة هذه المرة لويس ليبسكي (تلميذ دي هاس) وصار رئيساً للمنظمة ومعه كل من أبراهام جولدبرج وإيمانويل نيومان وموريس روزنبرج، وأدَّى هذا إلى انسحاب برانديز وأتباعه الأقربين من المنظمة الأمريكية وركزوا جهودهم على تنمية المجتمع اليهودي في فلسطين اقتصادياً عن طريق مؤسسة فلسطين الاقتصادية التي أنشأوها. وبالمقابل، قام ليبسكي بإنشاء فرع للكيرين هايسود في أمريكا واختير نيومان مديراً له والمحامي صمويل أونترماير رئيساً له. لكن خروج برانديز شكَّل ضربة قوية للمنظمة الأمريكية رغم كل شيء حتى أن عضويتها انخفضت إلى 800 عضو بحلول عام 1929. وقد ارتبط هذا أيضاً بانخفاض التبرعات، وتَدهور الوضع المادي للطبقة الوســطى الأمريكيـة مع الكسـاد العظيـم (ومعظم أعضـاء الجماعـات اليهودية في الولايات المتحدة من أبناء هذه الطبقة).

وقد أصبحت الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة، نظراً لحجمها وقدرتها المالية والاجتماعية، المساهم الأول في تطوير الخطط الاستيطانية في فلسطين. وقد بلغت التبرعات التي قدَّمتها المنظمة الصهيونية الأمريكية في الفترة بين عامي 1929 و1939 مبلغ 100 مليون دولار أمريكي. وساعد الصهاينة الأمريكيون في عمليةالتهجير غير الشرعي لليهود، وهو ما يعكس تنامي قوتهم في الحركة العالمية وتناقص قوة الأوربيين والبريطانيين على وجه الخصوص. وفي عام 1939 رفضت الولايات المتحدة الكتاب الأبيض الذي حدَّد هجرة اليهود إلى فلسطين وقامت بالضغط من أجل فتح أبواب فلسطين (في الوقت الذي أوقفت فيه الهجرة اليهودية إلى الولايات المتحدة).

ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، شُكِّلت لجنة طوارئ برئاسة ناحوم جولد مان وصارت هذه اللجنة أهم منبر سياسي للصهيونية الأمريكية، وأُعيـدت تسـميتها باسـم «لجنة الطوارئ الصهيونية الأمريكية». وقد أصدرت بياناً نوهت فيه بأن الاحتجاج على الكتاب الأبيض البريطاني عام 1939 يجب ألا يقتصر على الاجتماعات والمؤتمرات بل يجب أن يكون هناك موقف إيجابي لبرنامج عملي لفلسطين في فترة ما بعد الحرب. ولهذا الغرض، أقام الصهاينة الأمريكيون مؤتمراً في فندق بيلتمور بنيويورك في الفترة بين 9 ـ 11 مايو 1942، وكانت نتيجة هذا المؤتمر المقررات التي عُرفت باسم مقررات أو برنامج بلتيمور القاضي بوجوب فتح فلسطين أمام الهجرة اليهودية والاستيطان اليهودي تحت رعاية وسلطة الوكالة اليهودية ووجوب تحويلها إلى كومنولث يهودي على أساس وجود أغلبية يهودية، ويجب دمج الكومنولث في بنية العالم الديموقراطي الجديد. وصار هذا البرنامج، الذي يستخدم مفردات لغة الخطاب الأمريكي حول العالم الديموقراطي الجديد والحرية، الحل الصهيوني الرسـمي لمشـكلة فلسـطين.

ويعطينا مؤتمر بلتيمور والبرنامج الذي نجم عنه دلالة قوية على ارتباط الحركة الصهيونية بالتشكيل الاستعماري الغربي، فمع تغيُّر مركز الثقل الإمبريالي من بريطانيا وانتقاله إلى أمريكا، ازدادت أهمية الولايات المتحدة وبالتالي الحركة الصهيونية التوطينية فيها. ومع اندلاع الحرب ووضوح أن الولايات المتحدة في سبيلها إلى وراثة كل القوى الإمبريالية الأوربية، كان هذا البرنامج بمنزلة تدشين للصداقة والعلاقة الوثيقة بين القوة الإمبريالية الصاعدة والحركة الصهيونية التي تبحث عن راع إمبريالي. وقد شهدت تلك الفترة أيضاً ازدياد أهميـــة رؤســاء الحركة الصهيــونية في أمريكا حتى أنهم صاروا يُعامَلون كرؤساء الدول ورؤساء الحكومات، وقد أعطاهم هذا انطباعاً موهوماً بأن هذا هو ما سيحدث لو أُنشئت الدولة.

وقد دعا ستيفن وايز وناحوم جولدمان الجمعيات اليهودية الأمريكية إلى إرسال مندوبين إلى مؤتمر تمهيدي في بتسبرج في يناير 1943 لطرح خطة عمل مشتركة بصدد مصير فلسطين بعد الحرب. وطالب هؤلاء بتشكيل جيش يهودي يحارب إلى جانب قوات الحلفاء وأرسلوا عريضة إلى الرئيس روزفلت مطالبين إياه بالضغط على الحكومة البريطانية للعمل على إنشاء وطن قومي لليهود بعد الحرب بما في سلطتها من صلاحيات الانتداب. وفي 23 أغسطس عام 1943 عُقد المؤتمر الأمريكي اليهودي بحضوراللجنة الأمريكية اليهودية ولجنة العمل اليهودية وهما منظمتان غير صهيونيتين. ورأس لجنة فلسطين في المؤتمر الحاخام أبا هليل سيلفر. وقد استخدم سيلفر موهبته الخطابية لإثارة حماس الحضور، وتمت الموافقة بالإجماع تقريباً على قرار يطلب فتح أبواب الهجرة أمام اليهود إلى فلسطين للاستيطان هناك تحت إدارة الوكالة اليهودية (وذلك من أجل الوصول إلى أغلبية يهودية في فلسطين لخلق الكومنولث اليهودي المنشود).

وقامــت لجنة الطــوارئ بشن حملة مكثفة واسعة النطاق لجمع التأييــد للمشــروع الصهيوني في أنحاء الولايات المتحدة كافة وقد أحـــرزت تلك الحملــة نجاحــاً منقطع النظير. وظهر هذا النجاح في تشكيــل لجنة رأي عام أمريكية تؤيد برنامج بلتيمور هي اللجنة الأمريكــية المسيحية من أجــل فلســـطين التي شُكِّلت بمبـــادرة من الصهاينة عام 1946 عن طريـــق اندماج لجنـــة فلســـطين الأمريكية والمجلـــس المسيـــحي من أجـــل فلسطين، وقد شملت هذه اللجنــة في عضــويتها 20 ألف فرد في كل مجال من مجالات الحياة.

وفي المؤتمر الصهيوني الثاني والعشرين (1946)، قام بن جوريون وأبا هليل سيلفر بمعارضة محاولات وايزمان الرامية إلى الرضوخ للسياسة البريطانية ونجحا في كسب تأييد المؤتمر، وهو ما أدَّى إلى استقالة وايزمان. وتبوأ بن جوريون رئاسة المجلس التنفيذي للوكالة اليهودية وأصبح سيلفر رئيساً للفرع الأمريكي للوكالة. وهكذا بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الحركة الصهيونية استمرت حتى تكوين دولة إسرائيل عام 1948 وتميَّزت هذه المرحلة بالتعاون بين الصهاينة الاستيطانيين في فلسطين والصهاينة التوطينيين الأمريكيين.

وقد استمرت مرحلة التعاون هذه فترة عامين، فبعد إعلان الدولة وجد التوطينيون أنفسهم بدون سلطة حقيقية. بل إن بن جوريون طالب بأن تتسع دائرة التأييد لتشمل كل اليهود ومنهم غير الصهاينة، الأمر الذي هدد المنظمة الصهيونية نفسها. وقد عارض أبا هليل سيلفر هذا بشدة وأصر على أن دور المنظمة بعد إنشاء الدولة لا يقل خطورة عن دورها قبله. ووصل هذا الخلاف إلى ذروته في فبراير عام 1949 عندما استقال إيمانويل نيومان وأبا هليل سيلفر من منصبيهما في الوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية الأمريكية. وهكذا أُحكمت قبضة الاستيطانيين بالكامل على المنظمة التي أصبحت مهمتها الوحيدة جَمْع المال لمصلحة دولة إسرائيل.

ويجب أن نضع في الاعتبار دائماً أن الحركة الصهيونية واجهت معارضة شديدة في البداية من أعضاء الجماعات اليهودية، ولم تحقق نجاحها إلا بعد أن تأكد يهود أمريكا من أن الصهيونية والمصالح الأمريكية شيء واحد، أي أن صهيونية يهود أمريكا نابعة من أمريكيتهم لا من يهوديتهم. كما يمكن القول بأن الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة، رغم تشنجها الواضح، هي من النوع التوطيني وحسب، إذ لا يهاجر إلا قلة قليلة.

الصفحة التالية ß إضغط هنا