الولاء والبراء في الإسلام 4

الفصل الثاني

الهجرة

هذا الفصل له أهمية خاصة، ذلك أن الهجرة مرتبطة بالولاء والبراء، بل هي من أهم تكاليفها. والحديث فيها متشعب لذلك سأقسمه إلى الفقرات التالية:

أ- الإقامة في دار الكفر وحكم ذلك.

ب- الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.

أ- الإقامة في دار الكفر:

لا بد لنا أولاً أن نعرف دار الكفر ودار الإسلام. فقد قال أهل العلم رحمهم الله:

إن دار الكفر: هي التي يحكمها الكفار، وتجري فيها أحكام الكفر، ويكون النفوذ فيها للكفار وهي على نوعين:

1) بلاد كفار حربيين.

2) بلاد كفار مهادنين بينهم وبين المسلمين صلح وهدنة. فتصير إذا كانت الأحكام للكفار: دار كفر، ولو كان بها كثير من المسلمين (19).

ودار الإسلام: هي التي يحكمها المسلمون، وتجري فيها الأحكام الإسلامية ويكون النفوذ فيها للمسلمين ولو كان جمهور أهلها كفاراً (20).

ص273

ولما كان الإسلام هو دين العزة ودين القوة: فإنه قد أبى على معتنقه أن يستذلوا للكفار، وبذلك جاء المنع من الإقامة بين ظهراني غير المسلمين، لأن إقامته بينهم تشعره بالوحدة والضعف وتربي فيه روح الاستخذاء والاستكانة، وقد تدعوه إلى المحاسنة ثم المتابعة. والإسلام يريد للمسلم أن يمتلئ قوة وعزة وأن يكون متبوعاً لا تابعاً، وأن يكون ذا سلطان ليس فوقه إلا سلطان الله لذلك حرم الإسلام على المسلم أن يقيم في بلد لا سلطان للإسلام فيه إلا إذا استطاع أن يظهر إسلامه ويعمل طبقاً لعقيدته دون أن يخشى الفتنة على نفسه، وإلا فعليه أن يهجر هذا البلد إلى بلد يعلو فيه سلطان الإسلام فإن لم يفعل فالإسلام بريء منه ما دام قادراً على الهجرة. وفي ذلك كله يقول المولى سبحانه:

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا {97} إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً {98}فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا { [سورة النساء: 97 – 99].

وقال صلى الله عليه وسلم (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين) قيل: يا رسول الله ولم؟ قال: (لا تراءى ناراهما) (21) وقال (من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله) (22) ويقول (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) (23) ([1])

ص274

وقال الحسن بن صالح:

(من أقام في أرض العدو – وإن انتحل الإسلام وهو يقدر على التحويل إلى المسلمين فأحكامه أحكام المشركين، وإذا أسلم الحربي فأقام ببلادهم وهو يقدر على الخروج فليس بمسلم، ويحكم فيه بما يحكم على أهل الحرب في ماله ونفسه) (25).

وقال الحسن: إذا لحق الرجل بدار الحرب ولم يرتد عن الإسلام فهو مرتد بتركه دار الإسلام [2].

وقال ابن حزم: من لحق بدار الكفر والحرب مختاراً محارباً لمن يليه من المسلمين: فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام المرتد كلها: من وجوب القتل عليه متى قدر عليه، ومن إباحة ماله وانفساخ نكاحه وغير ذلك.

(وأما من فر إلى أرض الحرب لظلم خافه، ولم يحارب المسلمين، ولا أعان عليهم، ولم يجد في المسلمين من يجيره، فهذا لا شيء عليه، لأنه مضطر مكره.

أما من كان محارباً للمسلمين معيناً للكفار لخدمة أو كتابة فهو كافر.

وإن كان إنما يقيم هنالك لدنيا يصيبها وهو كالذمي لهم، وهو قادر على اللحاق بجمهرة المسلمين وأرضهم فما يبعد عن الكفر، وما نرى له عذراً، ونسأل الله العافية.

وأما من سكن في أرض القرامطة مختاراً فكافر بلا شك لأنهم معلنون بالكفر وترك الإسلام. وأما من سكن في بلد تظهر فيه بعض الأهواء المخرجة إلى الكفر فهو ليس بكافر لأن اسم الإسلام هو الظاهر هنالك على كل حال من التوحيد والإقرار برسالة محمد صلى الله عليه وسلم والبراءة من كل دين غير الإسلام وإقامة الصلاة وصيام رمضان وسائر الشرائع التي هي الإسلام والإيمان.

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين)

ص275

يبين ما قلناه، وأنه عليه السلام، إنما عنى بذلك دار الحرب، وإلا فقد استعمل عليه السلام عماله على خيبر وهم كلهم يهود.

(ولو أن كافراً مجاهداً (*) غلب على دار من دور الإسلام، وأقر المسلمين بها على حالهم إلا إنه هو المالك، المنفرد بنفسه في ضبطها وهو معلن بدين غير الإسلام: لكفر بالبقاء معه كل من عاونه وأقام معه وإن ادعى أنه مسلم – لما ذكرنا)(27).

وللشيخ حمد بن عتيق (28) رحمه الله رسالة قيمة حول هذا الموضوع (29) فقد قسم المقيمين في بلاد الحرب إلى ثلاثة أقسام.

أحدهما: أن يقيم عندهم رغبة واختياراً لصحبتهم، فيرضى ما هم عليه من الدين أو يمدحه، أو يرضيهم بعيب المسلمين، أو يعاونهم على المسلمين بنفسه أو ماله أو لسانه: فهذا كافر عدو لله ولرسوله لقوله تعالى:

{لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ{ [سورة آل عمران: 28]

ص276

قال ابن جرير: قد برئ من الله وبرئ الله منه لارتداده عن دينه ودخوله في الكفر. وقال تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ{ [سورة المائدة: 51].

وقال صلى الله عليه وسلم(من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله)(30)

وصح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: من بنى بأرض المشركين فصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة (31).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وظاهر هذا أنه جعله كافراً بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور.

وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: لما ذكر الأنواع التي يكفر بها الرجل: قال النوع الرابع: من سلم من هذا كله ولكن أهل بلده يصرون على عداوة التوحيد واتباع أهل الشرك وهو يعتذر أن ترك وطنه يشق عليه، فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده ويجاهد بماله ونفسه فهذا أيضاً كافر، فإنه لو يأمرونه بتزوج امرأة أبيه ولا يمكنه ترك ذلك إلا بمخالفتهم فعل. وموافقته لهم مع الجهاد معهم بنفسه وماله مع أنهم يريدون بذلك قطع دين الله ورسوله أكبر من ذلك بكثير فهذا أيضاً كافر وهو ممن قال الله فيهم:

{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ

ص277

أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَـئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا{ (32)[سورة النساء:91].

القسم الثاني: أن يقيم عندهم لأجل مال أو ولد أو بلاد وهو لا يظهر دينه مع قدرته على الهجرة، ولا يعينهم على المسلمين بنفس ولا مال ولا لسان، ولا يواليهم بقلبه ولا لسانه، فهذا لا يكفرونه لأجل مجرد الجلوس، ولكن يقولون أنه قد عصى الله ورسوله بترك الهجرة، وإن كان مع ذلك يبغضهم في الباطن لقول الله تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا{ [سورة النساء: 97].

قال ابن كثير: (ظالمي أنفسهم) أي بترك الهجرة، ثم قال: فهذه الآية عامة لكل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر، وليس متمكناً من إقامة الدين فهو مرتكب حراماً بالإجماع وبنص هذه الآية (33).

قلت: وقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما. أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي

ص278

السهم فيرمى به فيصيب فيقتله أو يضرب فيقتل فأنزل الله هذه الآية (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) (34).

وقد سد الله باب الأعذار الواهية في قوله تعالى:

{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ{ [سورة التوبة: 24].

وما من أحد يترك الهجرة إلا وهو يعتذر بشيء من هذه الثمانية وقد سد الله على الناس باب الاعتذار بها وجعل من ترك الهجرة لأجلها أو لأجل واحد منها فاسقاً وإذا كانت مكة هي أشرف بقاع الأرض وقد أوجب الله الهجرة منها ولم يجعل محبتها عذراً فكيف بغيرها من البلدان؟ (35).

القسم الثالث: من لا حرج عليه في الإقامة بين أظهرهم وهو نوعان:

(ا) أن يكون مظهراً دينة فيتبرأ منهم وما هم عليه، ويصرح لهم ببراءته منهم وأنهم ليسوا على حق، بل إنهم على باطل وهذا هو إظهار الدين الذي لا تجب معه الهجرة كما قال تعالى {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ {1}لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ {2} وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ {إلى آخر السورة.

ص279

فأمره أن يخاطبهم بأنهم كافرون، وأنه لا يعبد معبوداتهم، وأنهم بريئون من عبادة الله أي أنهم على الشرك وليسوا على التوحيد، وأنه قد رضي بدينه الذي هو عليه وبرئ من دينهم الذي هم عليه كما قال تعالى:

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {104} وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ { [سورة يونس: 104 – 105]

فمن قال مثل ذلك للمشركين لم تجب عليه الهجرة.

وليس المراد بإظهار الدين: أن يترك الإنسان يصلي ولا يقال له اعبد الأوثان! فإن اليهود والنصارى لا ينهون من صلى في بلدانهم ولا يكرهون الناس على أن يعبدون الأوثان؟! بل المقصود: أن إظهار الدين هو: التصريح للكفار بالعداوة كما احتج خالد بن الوليد على مجاعة (36) بأنه سكت ولم يظهر البراءة كما أظهرها ثمامة (37) واليشكري. والقصة معروفة في السير، فما لم يحصل التصريح للمشركين بالبراءة منهم ومن دينهم لم يكن إظهار الدين حاصلاً (38).

ص280

(2) أن يقيم عندهم مستضعفاً وقد بين الله الاستضعاف في كتابه فقال:

{إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً{ [سورة النساء: 98].

وهذا الاستثناء بعد ما توعد المقيمين بين أظهر المشركين بأن

{مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا {[سورة النساء: 97].

فاستثنى من لا يستطيع حيلة ولا يهتدون سبيلاً. قال ابن كثير: لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق (39).

وقال تعالى:

{وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا

ص281

مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً{ [سورة النساء: 75].

فذكر في الآية الأولى: حالهم وهو العجز عن الخروج وعدم دلالة الطريق.

وذكر في الآية الثانية: مقالهم وهو أنهم يسألون الله أن يخرجهم من بلاد الشرك الظالم أهلها وأن يجعل لهم ولياً يتولاهم وناصراً ينصرهم، فمن كانت تلك حاله وهذا مقاله

{فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا{(40) [سورة النساء: 99].

وقد ذكر البغوي: أن الأسير المسلم عند الكفار إذا استطاع الخلاص والانفلات منهم لم يحل له المقام بينهم، فإن حلفوه أنهم إن خلوه لا يخرج فحلف فخلوه، وجب عليه الخروج ويمينه يمين مكره لا كفارة عليه فيها، وإن حلف استطابة لنفوسهم من غير أن يحلفوه فعليه الخروج إلى دار الإسلام ويلزمه كفارة اليمين (41).

أما حكم السفر إلى بلاد الكفار الحربية لأجل التجارة ففي ذلك تفصيل: فإن كان يقدر على إظهار دينه ولا يوالي المشركين جاز له ذلك فقد سافر بعض الصحابة رضي الله عنهم كأبي بكر رضي الله عنه وغيره إلى بلدان المشركين لأجل التجارة ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه أحمد في مسنده (42) وغيره.

ص282

وإن كان لا يقدر على إظهار دينه ولا على عدم موالاتهم لم يجز له السفر إلى ديارهم كما نص على ذلك العلماء وعليه تحمل الأحاديث التي تدل على النهي عن ذلك. ولأن الله تعالى أوجب على الإنسان العمل بالتوحيد، وفرض عليه عداوة المشركين، فما كان ذريعة وسبباً إلى إسقاط ذلك لم يجز (43).

وبعد هذه النصوص الكثيرة الصريحة علينا أن ندرك مدى الهوة التي وصل إليها (المسلمون) اليوم، ومدى موالاتهم لأعداء الله والإقامة بأرضهم وابتعاث أبنائهم إلى ديارهم لتحضير الشهادات العليا في الشريعة واللغة العربية!

إنها مهزلة مبكية ووصمة عار سيسجلها التاريخ: أن يذهب أبناء المسلمين لأخذ الشهادات في العلوم الشرعية واللغة العربية من بلاد الكفار!

وقد كتب علماء أفاضل في خطورة هذه المسألة، وبينوا مخاطر الابتعاث، وأهداف الكفار من غسل أدمغة أبناء المسلمين ومسخهم من إسلامهم، فلتراجع في مظانها (44).

(ب) الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام

أصل المهاجرة: المجافاة والترك.

وفي الاصطلاح الشرعي: الانتقال من بلد الكفر والشرك إلى دار الإسلام (45). ومن المعلوم: أن من كان دينه الإسلام المبني على صرف جميع العبادات لله وحده ونفي الشرك وبغضه وبغض أهله ومعاداتهم ومقاطعتهم فإنه لا

ص 283

يتركه أهل الكفر على دينه مع القدرة عليه كما أخبر عن ذلك المولى عز وجل بقوله:

{وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ{ [سورة البقرة: 217].

كما أخبر الله عن أصحاب الكهف أنهم قالوا:

{إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدً ا{ [سورة الكهف: 20].

وأخبر سبحانه بذلك عن جميع الكفار حيث قال:

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ { [سورة إبراهيم: 13].

وكذلك قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا ليتني أكون جذعاً إذ يخرجك قومك قال: أو مخرجي هم؟! قال: نعم. لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، فلذلك أخرجوه من مكة إلى الطائف ثم هاجر إلى المدينة بعدما هاجر طائفة من أصحابه إلى الحبشة مرتين (46).

والهجرة شأنها عظيم، وأمرها كبير إذ هي فرع الولاء والبراء، بل إنها من أبرز تكاليف الولاء والبراء، وما كانت الجماعة المسلمة لتترك أرضها وقومها وتتكبد مشاق الغربة ووعثاء السفر لولا أن ذلك تكليف رباني لمن لا يستطيع أن

ص284

يقيم دينه، ويظهر إسلامه في أرضه. وقد وعد الله عباده المؤمنين المهاجرين بـ (الحسنات) في الدنيا والآخرة فقال:

{وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ {41}الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ{ [سورة النحل: 41-42].

وللهجرة مفهوم شامل في التصور الإسلامي ليس مقتصراً على الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام فحسب ولكنه كما يقول ابن القيم: الهجرة هجرتان هجرة بالجسم من بلد إلى بلد وهذه أحكامها معلومة.

والهجرة الثانية: الهجرة إلى الله ورسوله فهذه هي الهجرة الحقيقية، وهجرة الجسد تابعة لها وهي هجرة تتضمن (من) و (إلى) فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته، ومن عبودية غيره إلى عبوديته، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه. ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل. والاستكانة إلى دعائه سبحانه وسؤاله والخضوع له والذل له والاستكانة له. وهذا بعينه معنى الفرار إلى الله كما قال تعالى:

{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ{ [سورة الذرايات: 50].

والتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه.

والهجرة إلى الله تتضمن: هجران ما يكرهه، وإتيان ما يحبه ويرضاه.

وأصلها: الحب والبغض، فإن المهاجر من شيء إلى شيء لا بد أن يكون ما يهاجر إليه أحب مما هاجر منه، فيؤثر أحب الأمرين إليه على الآخر.

وهذه الهجرة تقوى وتضعف بحسب دواعي المحبة في قلب العبد، فإن كان

ص285

الداعي أقوى كانت هذه الهجرة أقوى وأتم وأكمل، وإذا ضعف الداعي ضعفت الهجرة حتى لا يكاد يشعر بها علماً ولا يتحرك لها إرادة (47).

أما الهجرة التي هي الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام فإليك تفصيل أحكامها:

قال الخطابي: (48) كانت الهجرة في أول الإسلام مندوباً إليها غير مفروضة وذلك في قوله تعالى:

{وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً{[سورة النساء: 100].

فقد نزلت حين اشتد أذى المشركين على المسلمين عند انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدنية. ثم أمروا بالانتقال إلى حضرته ليكونوا معه، فيتعاونوا ويتظاهروا إن حزبهم أمر، وليتعلموا منه أمر دينهم، ويتفهموا فيه. وكان أعظم الخوف في ذلك الزمان من قريش وهم أهل مكة، فلما فتحت مكة ونخعت بالطاعة زال ذلك المعنى وارتفع وجوب الهجرة وعاد الأمر فيها إلى الندب والاستحباب فهما هجرتان: فالمنقطعة منهما هي الفرض، والباقية هي الندب. وبهذا يظهر الجمع بين حديث معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) (49). وبين حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة (لا هجرة ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا)(50) على أن بين الإسنادين ما بينهما فإسناد حديث ابن عباس متصل

ص286

صحيح وإسناد حديث معاوية فيه مقال (51) .

ولأهمية موضوع الهجرة – خاصة في أول الإسلام – فقد قطع الله ولاية التناصر بين المسلمين المهاجرين في المدينة وبين المسلمين الذين لم يهاجروا وبقوا في مكة.

قال تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ{ [سورة الأنفال: 72].

ثم يأتي الثناء على المهاجرين والأنصار في قوله تعالى:

{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ{[سورة الأنفال: 74].

والكلام على المهاجرين والأنصار قد سبق فيه الحديث.

ص287

أما الصنف الذي نريد أن نتحدث عنه هنا فهم المؤمنون الذين آمنوا ولم يهاجروا بل أقاموا في مكة فهؤلاء هم الذين قال الله فيهم:

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا {97} إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً {98}فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا{ [سورة النساء: 97-99].

فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين، يكثرون سوادهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأتي السهم فيرمي به، فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب عنقه فيقتل فأنزل الله (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم)(52).

ولذلك فالذين آمنوا ولم يهاجروا، بل أقاموا في بواديهم ليس لهم في المغانم نصيب ولا في خمسها إلا ما حضروا فيه القتال كما قال الإمام أحمد (53)، يدل على ذلك الحديث المروي في المسند وصحيح مسلم عن ابن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال: اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا وليداً وإذا لقيت

ص288

عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال) فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فان أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحويل من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم (54)...الحديث.

ونستطيع أن نلخص أنواع الهجرة – سواء ما بقي منها مفروضاً أو نسخ، وما هو غير ذلك – في النقاط التالية:

(1) الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، وكانت فرضاً في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة، والتي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان. فمن أسلم في دار الحرب وجب عليه الخروج إلى دار الإسلام (55).

ويؤيد ذلك حديث مجاشع بن مسعود (56) حين جاء بأخيه مجالد بن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا مجالد يبايعك على الهجرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا هجرة بعد فتح مكة ولكن أبايعه على الإسلام)(57) وعلى ذلك فإن النصوص الواردة في وجوب الهجرة باقية في حال المسلم المقيم بدار الحرب وقد ذكرتها في الإقامة في دار الكفار.

ص289

(2) الخروج من أرض البدعة. قال الإمام مالك: لا يحل لأحد أن يقيم ببلد سب فيها السلف (58).

(3) الخروج عن أرض غلب عليها الحرام، فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم [3].

وفي هذا الشأن يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: أحوال البلاد كأحوال العباد فيكون الرجل تارة مسلماً، وتارة كافراً، وتارة مؤمناً، وتارة منافقاً، وتارة براً تقياً، وتارة فاجراً شقياً. وهكذا المساكن بحسب سكانها فهجرة الإنسان من مكان الكفر والمعاصي إلى مكان الإيمان والطاعة كتوبته وانتقاله من الكفر والمعصية إلى الإيمان والطاعة، وهذا أمر باق إلى يوم القيامة (60).

(3) الفرار من الأذية في البدن، وذلك فضل من الله عز وجل أرخص فيه، فإذا خشي المرء على نفسه في موضع فقد أذن الله سبحانه له في الخروج عنه، والفرار بنفسه ليخلصها من ذلك المحذور، وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام لما خاف من قومه قال: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي { [سورة العنكبوت: 26].

{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ{ [سورة الصافات: 99].

وموسى عليه السلام قال الله فيه:

{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {(61) [سورة القصص: 21].

ص290

(5) خوف المرض في البلاد الوخمة، والخروج منها إلى الأرض النزهة وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للعرنيين في ذلك حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المرج، فيكونوا فيه حتى يصحوا وقد استثنى من ذلك الخروج من الطاعون كما قرر ذلك الحديث الصحيح (62).

(6) الفرار خوف الأذية في المال، فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه، والأهل مثله أو آكد(63).

وبعد: فإن الهجرة وغيرها من الأعمال والأقوال – مبنية على النية كما قال صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه (64).

ص291

الفصل الثالث

الجهاد في سبيل الله

وهو من أهم مقتضيات الولاء والبراء لأنه الفاصل بين الحق والباطل وبين حزب الرحمن وحزب الشيطان والجهاد: بكسر الجيم – لغة: المشقة، يقال: جهدت جهاداً: بلغت المشقة.

وشرعاً: بذل الجهد في قتال الكفار (65).

ويطلق أيضاً: على مجاهدة النفس والشيطان والفساق.

فأما مجاهدة النفس: فعلى تعلم أمور الدين، ثم على العمل بها ثم على تعليمها وأما مجاهدة الشيطان: فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات.

وأما مجاهدة الكفار: فتقع باليد والمال واللسان والقلب.

وأما مجاهدة الفساق: فباليد ثم اللسان ثم القلب [4].

وقد سبق القول في الفصل الثاني من الباب الأول (أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وطبيعة العداوة بينهما ): أن العداوة بين الفريقين أمر متأصل وستبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وذلك لأن المنهجين مختلفان، ويستحيل الالتقاء بينهما لأن حزب الله يريد إقامة كلمة الحق في الأرض وهيمنة الشريعة الإسلامية

ص292

على كل وضع. وحزب الشيطان يغيظه هذا المنهج فيسعى جاهداً في سحقه وإبادته ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

وقد تحدثنا عن البراء وقلنا: أن أبرز صوره هو الجهاد لأنه هو السبيل الوحيد للمفاصلة بين حزب الرحمن وحزب الشيطان.

وإذا رجعنا إلى سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم: لوجدنا أن الجهاد هو الخطوة التالية للهجرة النبوية. مما يدل على أهميته في إقامة هذا الدين، وبيع المهج في سبيل الله تلبية لنداء الجهاد في سبيل الله.

ومن المعلوم: أن هذا الدين الحنيف يأمر بدعوة الناس إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة والألوهية فإذا لبوا هذا النداء فهذا هو المراد من بعثة الرسل، وإنزال الكتب وإن انتكصوا على أعقابهم فلا بد من جهادهم.

{حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه{[سورة الأنفال: 39].

وقد سبق معنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (.. فإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم)(67).

فالدين الإسلامي يبدأ بدعوة الناس إلى الخير وجدالهم بالتي هي أحسن فإذا قامت عليهم الحجة ثم أعرضوا وجب قتالهم. وإذا كان هناك سلطان وطواغيت ترفض أن يستمع الناس للإسلام فإنه يجب بتر هذه الطواغيت من ساسها لتبلغ كلمة الإسلام للناس ثم يأتي هنا مبدأ (لا إكراه في الدين) أي إذا سيطر سلطان المسلمين على منطقة ما فإن أهلها لا يجبرون على اعتناق عقيدة الإسلام، ولكن يجب أن يخضعوا لسلطانه، فإن أسلموا فلهم ما للمسلمين وإن طلبوا البقاء على

ص293

ديانتهم فعليهم دفع الجزية للمسلمين وإلا فالسيف بينهم وبين المسلمين (68).

ومن هنا: فإن أهداف الجهاد في الإسلام أهداف سامية عالية فهو:

(1) يقاتل الكفار لتقرير حرية العقيدة.

(2) ويجاهد ثانياً لتقرير حرية الدعوة.

(3) ويجاهد ثالثاً: لإقامة نظام الإسلام في الأرض. وتحقيق حرية الإنسان، حينما يقرر أن هناك عبودية واحدة لله الكبير المتعال، ويلغي من الأرض عبودية البشر للبشر في جميع أشكالها وصورها.

فليس هناك فرد ولا طبقة ولا أمة تشرع الأحكام للناس، وتستذلهم عن طريق التشريع، وإنما هناك رب واحد للناس جميعاً هو الذي يشرع لهم وهو الذي يتوجهون إليه وحده بالطاعة والخضوع كما يتوجهون إليه بالإيمان والعبادة على السواء (69).

وعبودية الجهاد من أشرف وأوجب أنواع العبودية لله سبحانه وتعالى لأنه (لو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها. ومن الموالاة فيه سبحانه، والمعادة فيه والحب فيه والبغض فيه، وبذل النفس له في محاربة عدوه، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى، وإيثار محاب الرب على محاب النفس)(70).

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه (لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها مثل ما ورد فيه.. لأن الجهاد عام لفاعله ولغيره في الدين والدنيا، وهو مشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة، ففيه من محبة الله، والإخلاص له، والتوكل عليه، وتسليم النفس والمال له والصبر والزهد وذكر الله وسائر أنواع

ص294

الأعمال ما لا يشتمل عليه عمل آخر، والقائم به من الشخص والأمة بين إحدى الحسنيين دائماً: إما النصر والظفر وإما الشهادة والجنة)(71) .

وقد وردت نصوص كثيرة جداً في فضيلة الجهاد نذكر طرفاً منها:

قال تعالى في بيان منزلة الشهيد وأنه حي عند ربه

{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ {169} فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ{ [سورة آل عمران: 169 – 170].

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ{ [سورة الحجرات: 15].

والجهاد هو التجارة الرابحة مع الله كما قال سبحانه:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ {10} تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {11}يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ

ص295

تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {12} وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ{ [سورة الصف:10-13].

أما السنة النبوية فقد ورد فيها أحاديث كثيرة في فضيلة الجهاد نذكر منها قوله صلى الله عليه وسلم (إن الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض (72).

وقال أيضاً (ما اغبرتا قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار)(73).

وفي الصحيح: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد قال: لا أجده.قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر؟ فقال ومن يستطيع ذلك (74).

وفي السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال (إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله تعالى)(75).

والجهاد ذروة سنام الإسلام كما جاء ذلك في الحديث (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد) (76) وقال أيضاً (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها) رواه البخاري (77) ومسلم.

ص 296

وفي مقابل هذا الثناء الجميل: ورد الذم للتاركين للجهاد، بل إن الله وصفهم بالنفاق ومرض القلوب فقال تعالى:

{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[سورة التوبة: 24].

وقال سبحانه:

{فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ {20} طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ {21} فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ {22} أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ{[سورة محمد: 20-23].

ص297

والجهاد ضرورة للدعوة وسنة ربانية في الابتلاء والتمحيص. قال تعالى

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ{ [سورة آل عمران: 142].

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {16}[سورة التوبة: 16].

(إن الجهاد في سبيل الله هو طريق الدعوة إلى الله، والجهاد ليس ملابسة طارئة من ملابسات فترة الدعوة الأولى. وإنما هو ضرورة مصاحبة لركب هذه الدعوة، ولو كان الجهاد ملابسة طارئة في حياة الأمة المسلمة ما استغرق كل هذه الفصول الواسعة من صلب كتاب الله ولما استغرق فصولاً طويلة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(والله يعلم أن هذا المنهج الإلهي تكرهه الطواغيت، ويعلم أنه لا بد لأصحاب السلطان أن يقاوموه لأنه طريق غير طريقهم، ومنهج غير منهجهم، ليس بالأمس فقط ولكن اليوم وغداً، وفي كل أرض وفي كل جيل، وأن الله سبحانه يعلم أن الشر متبجح ولا يمكن أن يكون منصفاً،ولا يمكن أن يدع الخير ينمو مهما يسلك هذا من طرق سليمة موادعة فإن مجرد نمو الخير يحمل الخطورة على الشر، ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل ولا بد أن يجنح الشر إلى العدوان، ولا بد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولته قتل الحق وخنقه بالقوة هذه فطرة وليست حالة طارئة.. ومن ثم لابد من الجهاد.. لابد منه في كل صورة، ولا بد أن يبدأ في عالم الضمير ثم يظهر فيشمل عالم الحقيقة والواقع. ولا بد من مواجهة الشر المسلح بالخير المسلح، ولا بد من لقاء الباطل

ص298

المتترس بالعدد بالحق المتوشح بالعدة. إلا كان الأمر هزلاً لا يليق بالمؤمنين ولا بد من بذل الأموال والنفس كما طلب الله من المؤمنين)(78).

ويوم أدرك المسلمون معنى قوله تعالى:

{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا{ [سورة النساء: 74].

انطلقت كتائب الفتح الإسلامي في الأرض تنشر الخير، وتلقن الإيمان وتكسر شوكة الطاغوت من أجل أن يعبد الله وحده في الأرض.

ووجد في ذلك التاريخ المشرق نماذج رفيعة أجادت – بحق – صناعة الموت لأنها تريد الحياة الكريمة سواء كانت الحياة على هذه الأرض بالنصر وإعلاء كلمة الله. أم بالحياة عند الله

{ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون{[سورة آل عمران: 169].

لقد كانت هذه النماذج الإيمانية تستبطئ أن تحول بينها وبين الجنة تمرات كما في قصة الصحابي الجليل عمير بن الحمام الأنصاري: (79) حين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في غزوة بدر (قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض) قال: يا رسول الله: جنة عرضها السموات والأرض! قال: نعم قال: بخ بخ قال

ص299

رسول الله: وما يحملك على قول بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: (فإنك من أهلها) ثم أخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة. فرمى بها ثم قاتلهم وهو يقول:

ركضاً إلى الله بغــير زاد إلا التقى وعمل المعـاد

والصبر في الله على الجهـاد وكل زاد عرضة النفـاد

غير التقى والبر والرشاد

فما زال يقاتل حتى قتل (80).

وهذا غسيل الملائكة الصحابي الجليل حنظلة بن أبي عامر يخرج من بيته حين سمع نداء الحرب في معركة أحد وكان حديث عهد بعرس لم يكن ليتأخر حتى يغتسل من جنابته، بل هرع إلى ساحة الوغى حتى لا يفوته الجهاد فلما قتل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن صاحبكم تغسله الملائكة فاسألوا صاحبته، فقالت: خرج وهو جنب لما سمع الهيعة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لذلك تغسله الملائكة)(81).

هذا غيض من فيض، ونقطة من بحر، من تلك البطولات التي بعث الإيمان فيها شجاعة خارقة للعادة وحنيناً إلى الجنة واستهانة نادرة بالحياة، تمثلوا الآخرة وتجلت لهم الجنة بنعمائها كأنهم يرونها رأى العين، فطاروا إليها طيران الحمام الزاجل لا يلوي على شيء (82).

هذا هو مفهوم الجهاد، وهؤلاء المؤمنون هم أصحاب الجهاد، ويلحق بهم من سار على نهجهم لأنهم يقاتلون في سبيل الله أما غيرهم فيقاتل في سبيل الطاغوت:

ص300

{الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ{[سورة النساء: 76].

وليس ما يقوله المنهزمون اليوم هو الجهاد، بل إنه من الوجهة الصحيحة فساد. إنهم يدعون إلى عدم مقاتلة أولياء الشيطان، ويدعون إلى موالاتهم وإلى مودتهم وإلى الاستكانة إليهم وإلى تمييع نصوص كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مقابل شبهات الملاحدة انهزموا وذلوا واستكانوا لأنهم لا يعرفون حقيقة الإسلام ولا يمثلون إلا اسماً مسمى، همهم التقليد الأعمى، وديدنهم الركض خلف كل ناعق ولو كان الأمر هكذا لهان الخطب لأنه لا عبرة بهم ففي أرض الله من يقوم بدين الله والله متكفل بذلك. ولكن أن يمتد جبنهم وذلتهم إلى الالتواء على النصوص القرآنية والسنة النبوية فيقال: إن الجهاد في الإسلام هو الدفاع فقط فهذا ما يجب أن نعريه، ولا نسكت عنه، مهما كانت ألقابهم ومهما كانت شهرتهم، فإن دين الله هو الحق والحق أحق أن يتبع ولست بحاجة إلى الإطالة في هذا فقد ذكرت في الفصول السابقة (83) مجموعة من العلماء الفضلاء في القديم والحديث تولوا تعرية هذا الفكر الغريب على التصور الإسلامي. فلتراجع في مظانها.

وعوداً على بدء نقول: إنه لا حياة شريفة في ظل هذا الدين الحنيف إلا بالعودة إلى ينابيعه الصافية كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم العقيدة الصحيحة وسيرة سلف الأمة وإدراك معنى لا إله إلا الله ومعنى العبادة ومعنى الدين، ومعنى الجهاد في سبيل الله. وليس في سبيل الأرض أو الوطن أو الجنس أو اللون أو الشخص أو.. أو.. الخ.

وعلى المسلمين اليوم إدراك هذه المعاني والاستعلاء بأنفسهم وعقيدتهم من

ص301

تمييع المائعين وكيد الكائدين، وأن يواجهوا كل موقف بما يمليه عليهم كتاب ربهم وسنة نبيهم، وليعلموا أنهم مفتقرون إلى معية الله وولايته لهم وأن كيد الشيطان كان ضعيفاً.

حكم التجسس على المسلمين

جرت عادة المصنفين من العلماء أن يدرجوا الحديث عن الجاسوس في باب الجهاد. وذلك لحكمة هامة وهي أن التجسس أبرز ما يكون في موضوع كشف عورات المسلمين لأعدائهم خاصة وقت نشوب الحرب، فلذلك يأتون بالحديث عن الجاسوس، وأحكامه في ذلك الموضع ولذلك اقتديت بهم فأوردت هذا المبحث في فصل الجهاد.

والتجسس خيانة عظمى، وكبيرة من الكبائر إذا فعله المسلم. وهو من صور موالاة الكفار التي يتراوح الحكم فيها بين الكفر المخرج من الملة إذا كان تجسسه حباً في انتصار الكفار وعلو شوكتهم على المسلمين وبين الكبيرة من كبائر الذنوب إذا كان لغرض شخصي أو دنيوي أو جاه أو ما أشبه ذلك.

وقد حذر الله من ذلك في قصة حاطب بن أبي بلتعه (84) رضي الله عنه في سورة الممتحنة.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ

ص302

يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ{[سورة الممتحنة:1].

قال الطبري: لا يدعونكم أرحامكم وقراباتكم وأولادكم إلى الكفر بالله واتخاذ أعدائه أولياء تلقون إليهم بالمودة، فإنه لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم عند الله يوم القيامة لأنه سيدخل أهل طاعته الجنة، وأهل معاصيه والكفر به النار (85).

وروى البخاري في صحيحه بسنده عن على رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد بن الأسود وقال: (انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه منها) فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا: أخرجي الكتاب. فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا حاطب ما هذا؟ قال: يا رسول الله لا تعجل علي، إني امرءاً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي وما فعلت كفراً ولا ارتداداً ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قد صدقكم) فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. قال: (إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا

ص303

ما شئتم فقد غفرت لكم) فأنزل الله (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء)(86) الآيات.

قال العلامة ابن القيم: يؤخذ من هذه القصة جواز قتل الجاسوس وإن كان مسلماً، لأن عمر رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل حاطب بن أبي بلتعة فلم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل قتله إنه مسلم بل قال: وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال (اعملوا ما شئتم) فأجاب بأن فيه مانعاً من قتله وهو شهوده بدراً. وفي الجواب بهذا كالتنبيه على جواز قتل جاسوس ليس له مثل هذا المانع. وهذا مذهب مالك وأحد الوجهين في مذهب أحمد، وقال الشافعي وأبو حنيفة لا يقتل وهو ظاهر مذهب أحمد، والفريقان يحتجون بقصة حاطب.

والصحيح: أن قتله راجع إلى رأي الإمام، فإن رأى في قتله مصلحة للمسلمين قتله وإن كان استبقاؤه أصلح استبقاه والله أعلم (87).

وقال أيضاً: ومن فوائد هذه القصة: أن الكبيرة العظيمة مما دون الشرك قد تكفر بالحسنة الكبيرة الماحية، كما وقع الجس من حاطب مكفراً بشهوده بدراً، فإن ما اشتملت عليه هذه الحسنة العظيمة من المصلحة وتضمنه من محبة الله لها ورضاه وفرحة بها، ومباهاته للملائكة بفاعلها: أعظم مما اشتملت عليه سيئة الجس من المفسدة، وتضمنه من بغض الله لها فغلب الأقوى على الأضعف، فأزاله وأبطل مقتضاه، وهذه حكمة الله في الصحة والمرض الناشئين من الحسنات والسيئات، الموجبين لصحة القلب ومرضه قال تعالى:

{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ{ [سورة هود: 114].

ص304

وقال: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم { [سورة النساء: 31].

إلى أن قال قوة إيمان حاطب التي حملته على شهود بدر، وبذله نفسه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيثاره الله ورسوله على قومه وعشيرته وقرابته وهم بين ظهراني العدو وفي بلدهم ولم يثن ذلك عنان عزمه، ولا فل من حد إيمانه ومواجهته للقتال لمن أهله وعشيرته وأقاربه عندهم، فلما جاء مرض الجس برزت إليه هذه القوة. وكان البحران (*) صالحاً فاندفع المرض وقام المريض كأن لم يكن به قلبه (**) ولما رأى الطبيب قوة إيمانه قد استعلت على مرض جسه وقهرته قال لمن أراد فصده: لا يحتاج هذا العارض إلى فصاد (وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال، اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، وعكس هذا ذو الخويصرة التميمي (88) وأضرابه من الخوارج الذين بلغ اجتهادهم في الصلاة والصيام والقراءة إلى حد يحقر أحد الصحابة عمله معه كيف قال فيهم: (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) (89) . وقال (اقتلوهم فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم) (90). ومن له لب وعقل يعلم قدر هذه المسألة: وشدة حاجته إليها وانتفاعه بها، ويطلع منها على باب عظيم من أبواب معرفة الله سبحانه وحكمته في

ص305

خلقه وأمره وثوابه وعقابه، وأحكام الموازنة.. وتفاوت المراتب في ذلك بأسباب مقتضية بالغة ممن هو قائم على كل نفس بما كسبت (91).

والذي يظهر لي – والله أعلم – هو ما ذهب إليه مالك وابن عقيل من أصحاب أحمد وغيرهما أن الجاسوس المسلم يقتل لأن التعليل في قصة حاطب (تعليل بعلة مانعة من القتل منفية في غيره ولو كان الإسلام مانعاً من قتله لم يعلل بأخص منه، لأن الحكم إذ علل بالأعم كان الأخص عديم التأثير وهذا أقوى والله أعلم)(92).

ونزول الخطاب القرآني بقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء).

يدل على دخول حاطب في المخاطبة باسم الإيمان ووصفه به، وتناوله النهي بعمومه، وله خصوص السبب الدال على إرادته، مع أن في الآية ما يشعر أن فعل حاطب نوع موالاة وأنه أبلغ بالمودة، فإن فاعل ذلك قد أضل سواء السبيل، لكن قوله صلى الله عليه وسلم (صدقكم خلوا سبيله) ظاهر في أنه لا يكفر بذلك إذا كان مؤمناً بالله ورسوله غير شاك ولا مرتاب، وإنما فعل ذلك لغرض دنيوي، ولو كفر لما قيل (خلوا سبيله) (93). أما الجاسوس الكافر فهذا يجب قتله لأنه صلى الله عليه وسلم قتل جاسوساً من المشركين. فعن أياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين من المشركين وهو في سفر فجلس عند أصحابه يتحدث ثم انفتل فقال النبي صلى الله عليه وسلم (اطلبوه واقتلوه). فقتلته فنفله سلبه (94).

ص 306

الفصل الرابع

هجر أصحاب البدع والأهواء

من تكاليف الولاء والبراء: هجر أصحاب البدع والأهواء والبراءة من معتقداتهم الفاسدة ونحلهم الباطلة. وقد تكلمت في الفصل الثالث من الباب الأول عن طرف من موقف السلف من هؤلاء المبتدعة، وذكرت هناك تعريف البدعة وتقسيمها إلى كفرية وغير كفرية.

أما الحديث هنا فيأتي لبيان أن هجرتهم وعدم مخالطتهم والإنكار عليهم واجب من واجبات الولاء والبراء، ومقتضى من مقتضياته، لأن المنطلق في هذه القضية هو حب الله وحب ما يحبه وبغض من يبغضه أو يرتكب ما يبغضه. وفساد الدين إنما يأتي من إحدى طريقتين أو هما معاً: فإما أن يقع بالاعتقاد الباطل والتكلم به وهو الخوض، أو يقع في العمل بخلاف الحق والصواب وهو الاستمتاع بالخلاق.

فالأول: البدع، والثاني: اتباع الهوى، وهذان هما أصل كل شر وفتنة وبلاء. وبهما كذبت الرسل، وعصي الرب، ودخلت النار، وحلت العقوبات. لأن الفساد في الاعتقاد يأتي من جهة الشبهات والفساد في العمل يأتي من جهة الشهوات ولهذا كان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى فتنه هواه وصاحب دنيا أعجبته دنياه (95).

ص307

ويقولون أيضاً: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فان فتنتهما فتنة لكل مفتون، لأن الأول يشبه المغضوب عليهم الذين يعملون الحق ولا يتبعونه، والثاني يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم (96).

وخطورة البدعة تكمن في أنها تناقض (الاستسلام لله وحده) كما قال بعض السلف: (قدم الإسلام لا تثبت إلا على قنطرة التسليم) (97) وهي – كما قال الإمام سفيان الثوري – أحب إلى إبليس من المعصية، لأن البدعة لا يتاب منها، أما المعصية فيتاب منها. وذلك أن المبتدع الذي يتخذ ديناً لم يشرعه الله ورسوله قد زين له سوء عمله فرآه حسناً، فهو لا يتوب ما دام يراه حسناً، لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه. فما دام يرى فعله حسناً – وهو سيئ في نفس الأمر – فإنه لا يتوب.

ولكن التوبة ممكنة وواقعة بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق، كما هدى الله من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف أهل البدع والضلال، وذلك بأن يتبع من الحق ما علمه لأن الله يقول:

{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ {(98)[سورة محمد: 17].

وإذا انتشرت الجهالة بدين الرسل بين الناس، ونما زرع الجاهلية في نفوسهم: سارعت الطباع إلى الانحلال من ربقة الاتباع لأن النفس فيها نوع من الكبر فهي تحب أن تخرج من العبودية بحسب الإمكان كما قال أحد السلف: ما ترك أحد سنة إلا تكبر في نفسه (99)وكما قلنا في الفصل الثاني من الباب الأول: أن العداوة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان أمر محتم وواقع فإن العداوة هنا بين المتبع والمبتدع تأخذ نفس المرتبة والشأن ولذلك قال الشوكاني: العداوة

ص308

بين المتبع والمبتدع أوضح من الشمس لأن المتبع يعادي المبتدع لبدعته، والمبتدع يعادي المتبع لاتباعه وكونه على الصواب. بل قد تبلغ عداوات أهل البدع لغيرهم من أهل الاتباع فوق ما تبلغه عداوتهم لليهود والنصارى (100). وقبل أن نعرف كيفية البراءة من أهل البدع والأهواء لابد من إلمامة بسيطة بكيفية مخالطة الناس وقد رأيت كلاماً حسناً لابن القيم رحمه الله. أوجزه فيما يلي فقد قسم رحمه الله مخالطة الناس إلى أربعة أضرب (101):

(1) من مخالطته كالغذاء، لا يستغنى عنه في اليوم والليلة، فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة ثم إذا احتاج خالطه. وهذا النوع أعز من الكبريت الأحمر، وهم العلماء بالله وأمره ومكايد عدوه، الناصحون لله ولكتابه ولرسوله ولخلقه. فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كله.

(2) من مخالطته كالدواء يحتاج إليه عند المرض، فما دمت صحيحاً فلا حاجة لك فيه. وهم من لا يستغنى عن مخالطتهم في المعاش، وما يحتاج إليه من المعاملات والمشاركات فإذا قضيت حاجتك من مخالطته بقيت مخالطتهم من القسم الثالث وهم:

(3) من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه، فبعضهم كالداء العضال لا تربح عليه في دين ولا دنيا، بل تخسر معه الدين والدنيا أو أحدهما ومنهم من مخالطته كوجع الضرس يؤلمك فإذا فارقك سكن الألم ومنهم من مخالطته حمى الروح، وهو الثقيل البغيض العقل، الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك، وإذا تكلم فكلامه كالعصى على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه، وظنه أنه كالمسك يطيب به المجلس وإن سكت فأثقل من نصف الرحى التي لا يطاق حملها، ولا جرها على الأرض، وإذا كان لابد من هذا الضرب فليعاشر بالمعروف حتى يجعل الله لك منه فرجاً ومخرجاً.

(4) من مخالطته فيها الهلاك كله، وهي بمنزلة أكل السم، فإن اتفق لآكله

ص309

ترياق (102) و إلا فأحسن الله فيه العزاء، وما أكثر هذا الضرب في الناس لاكثرهم الله، وهم أهل البدع والضلالة، الصادون عن سنة رسول لله صلى الله عليه وسلم الداعون إلى خلافها، والذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً فيجعلون البدعة سنة، والسنة بدعة والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً، إن جردت التوحيد بينهم قالوا: تنقصت جناب الأولياء والصالحين، وإن جردت المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أهدرت الأئمة المتبوعين وإن وصفت الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه رسوله من غير غلو ولا تقصير قالوا أنت من المشبهين، وإن أمرت بما أمر الله به رسوله من المعروف ونهيت عما نهى الله عنه ورسوله من المنكر قالوا: أنت من المفتنين، وإن اتبعت السنة وتركت ما خالفها قالوا: أنت من أهل البدع المضلين، وإن انقطعت إلى رسول الله تعالى وخليت بينهم وبين جيفة الدنيا قالوا: أنت من الملبسين، وإن تركت ما أنت عليه واتبعت أهوائهم فأنت عند الله من الخاسرين وعندهم من المنافقين! فالحزم كل الحزم التماس مرضاة الله تعالى ورسوله بإغضابهم، وأن لا تشتغل بأعتابهم ولا باستعتابهم ولا تبالي بذمهم، ولا بغضهم فإنه عين كمالك كما قال الشاعر:

وإذا أتتك مذمتي من ناقــص فهي الشهادة لي بأني فاضــل

وعند الممات يحمد القوم التقـى وفي الصباح يحمد القوم السرى

انتهى من بدائع الفوائد.

وموقف المسلم من أصحاب البدع والأهواء يختلف باختلاف ما هم عليه. فأما من كانت بدعته كفرية أو شركية فهذا يتبرأ منه ويهجر هجراً نهائياً وليس له أي موالاة بل البراءة منه كالبراءة من الكافر الأصلي أو المشرك. ومثال ذلك من أحدث حدثاً في الإسلام، أو آوى محدثاً ونصره وأعانه كما جاء في الحديث (من أحدث حدثاً أو آي محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)(103). وقال ابن القيم: (ومن أعظم الحدث تعطيل كتاب الله وسنة

ص310

رسوله وإحداث ما خالفهما، ونصر من أحدث ذلك والذب عنه، ومعاداة من دعا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم) (104) وأما من كانت بدعته دون ذلك أي من المعاصي والذنوب التي لا تصل إلى حد الكفر أو الشرك فهذه تختلف أيضاً باختلاف الأشخاص والأزمان.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يستقيم إلا بالبصيرة والمعرفة التامة وأقل الأحوال إذا لم يحصل للعبد ذلك: أن يقتصر على نفسه كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك)(105). فإذا رأى المسلم من يعمل شيئاً من المعاصي: أبغضه على ما فيه من الشر، وأحبه على ما فيه من الخير – كما ذكرنا ذلك في معتقد أهل السنة في أول البحث – ولا يجعل بغضه على ما معه من الشر قاطعاً وقاضياً على ما معه من الخير فلا يحبه، بل إن كان بغضه له يزجره ذلك ولا يرتدع هو وأمثاله راعى فيه الإصلاح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم هجر من علم أن الهجر يزجره ويردعه، وقبل معذرة من علم أن الهجر لا ينجع فيه شيئاً ووكل سرائرهم إلى الله) (106).

وعلى أي حال فإنه ينبغي للمسلم أن لا يخالط أهل البدع والفجور وسائر المعاصي، إلا على وجه يسلم به من عذاب الله عز وجل، وأقل ذلك أن يكون منكراً لظلمهم، ماقتاً لهم، شائناً ما هم فيه بحسب الإمكان كما في الحديث، (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)(107).

ص311

والهجر الشرعي نوعان:

الأول: بمعنى الترك للمنكرات.

والثاني: بمعنى العقوبة عليها.

فالأول هو المذكور في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ{ [سورة الأنعام: 68].

وقوله تعالى:

{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ {[سورة النساء: 140].

وهذا الهجر من جنس هجر الإنسان نفسه عن فعل المنكرات كما قال صلى الله عليه وسلم"المهاجر من هجر ما نهى الله عنه" (108) ومن هذا الباب الهجرة من دار الكفر والفسوق إلى دار الإسلام والإيمان، فإنه هجر للمقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكنونه من فعل ما أمر الله به، ومن هذا قوله تعالى:

{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ {[سورة المدثر: 5].

أما النوع الثاني وهو الهجر على وجه التأديب: فهو هجر من يظهر المنكرات حتى يتوب منها كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون "الثلاثة الذين خلفوا" (109) حتى أنزل الله توبتهم.

وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم، وقلتهم وكثرتهم فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يقضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعاً، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف، بحيث تكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوماً ويهجر آخرين.

وإذا عرف هذا فالهجر يجب أن يكون خالصاً لله وموافقاً لأمره، لأن من هجر لهوى نفسه أو هجر هجراً غير مأمور به كان خارجاً عن هذا الأصل، وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله (110).

والهجر من باب "العقوبات الشرعية" فهو من جنس الجهاد في سبيل الله، وهذا يفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، والمؤمن عليه أن يعادي في الله، ويوالي في الله، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية قال تعالى:

{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {9}إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ{[سورة الحجرات: 9-10].

فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي (111).

ومما ينبغي التنويه به: " أن هذا الهجران والتبري والمعاداة لأهل البدع المخالفين في الأصول. أما الاختلاف في الفروع بين العلماء فاختلاف رحمة أراد الله أن لا يكون على المؤمنين حرج في الدين، فذلك لا يوجب الهجران والقطعية، لأن الاختلاف كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إخواناً مؤتلفين، رحماء بينهم، وتمسك بقول كل فريق منهم طائفة من أهل العلم بعدهم، وكل في طلب الحق، وسلوك سبيل الرشد مشتركون " (112).

كلمات للسلف

في الاتباع والنهي عن الابتداع

سلف الأمة رحمهم الله كانوا حريصين على الوقوف عند كتاب الله العزيز وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وكانوا يمقتون من يخرج عن هذين المصدرين الأصليين. وقد كثر كلامهم في هذا ولكني أورد بعض هذه الكلمات القيمة لما لها من أثر في تزويد المؤمن بالثبات على ما ثبتوا عليه.

قال الإمام مالك رحمه الله: " من أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الدين، لأن الله تعالى يقول:

{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ {[سورة المائدة: 3].

فما لم يكن يؤمئذ ديناً لا يكون ديناً" (113)

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ستجدون قوماً يدعونكم إلى كتاب الله وقد

ص314

نبذوه وراء ظهورهم فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع والتنطع والتعمق وعليكم بالعتيق (114).

وقال أبو العالية الرياحي: تعلموا الإسلام فإذا علمتوه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم، فإن الصراط المستقيم: الإسلام، ولا تحرفوه يميناً ولا شمالاً، وعليكم بسنة نبيكم وأصحابه (115).

وقال الشافعي رحمه الله: لأن يلقى الله العبد بكل ذنب – ما خلا الشرك – خير من أن يلقاه بشيء من الهوى (116).

وقيل لسفيان بن عيينة: ما بال أهل الأهواء لهم محبة شديدة لأهوائهم فقال: أنسيت قوله تعالى:

{وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ{ (117). [سورة البقرة: 93].

ولذلك قال أبو قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواء فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون (118).

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم " (119). حقاً، لقد كفينا فكتاب الله واضح وجلي، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واضحة ومفصلة وشارحة لكتاب الله، وسيرة سلفنا الصالح محفوظة لدينا وما علينا إلا اتباع الكتاب والسنة والبعد عن كل مبتدع ودخيل،وإذا فعلنا ذلك كنا أمة متميزة لها شخصيتها المستقلة التي لا تجاري أصحاب الأهواء والآراء البشرية الناقصة.

ص315

وما تبعت أمة داعي كل ناعق إلا تردت في مهاوي الجهل والظلام والله يريد لعباده المؤمنين النور والصلاح والفلاح وكل ذلك في الإسلام وحده وما عداه فجاهلية وضلال. أعاذنا الله من ذلك.

ص316

الفصل الخامس

انقطاع التوارث والنكاح بين المسلم والكافر

من حرص الإسلام على تميز المسلم وقطع العلائق والوشائج التي قد ترده عما أراده الله له: قطع التوارث بين المسلم وقريبه الكافر، وكان هذا التكليف من مقتضيات الولاء والبراء في التصور الإسلامي.

ولكن ذلك جاء بعد الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالجهاد، فقد كان صلى الله عليه وسلم – كما يذكر ابن القيم – قبل أن يفرض الجهاد يقر الناس على ما هم عليه في الأنكحة ويدعوهم إلى الإسلام، وكانت المرأة تسلم وزوجها كافر فلا يفرق الإسلام بينهما حتى صلح الحديبية وبعد هذا الصلح نزل تحريم المسلمة على الكافر (120). قال تعالى:

{لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ{ [سورة الممتحنة: 10].

وقال تعالى:

{وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ{ نفس الآية

لقد آن أن تقطع المفاصلة الكاملة وأن يستقر في ضمير المؤمنين والمؤمنات كما

ص317

يستقر في واقعهم: أن لا رابطة إلا رابطة الإيمان، وأن لا وشيجة إلا وشيجة العقيدة، وأن لا ارتباط إلا بين الذين يرتبطون بالله (121).

وجاء التحريم أيضاً في سورة البقرة في قوله تعالى:

{وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون} [سورة البقرة: 221].

قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي: رحمه الله في قوله تعالى: "ولا تنكحوا المشركات"

هذه عامة في جميع النساء المشركات، وخصصتها آية المائدة في إباحة نساء أهل الكتاب كما قال تعالى:

{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ{ [سورة المائدة: 5].

أما قوله تعالى:

{وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ { فهذا عام لا تخصيص فيه.

ص318

وذكر سبحانه العلة والحكمة في تحريم نكاح المسلم أو المسلمة لمن خالفهما في الدين فقال (أولئك يدعون إلى النار) أي في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم فمخالطتهم على خطر منهم: بل إنه الشقاء الأبدي (122).

ونكاح المسلم للكتابية مجمع عليه – كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية – من السلف والخلف ولكن يروى عن ابن عمر أنه كره نكاح النصرانية وقال: لا أعلم شركاً أعظم ممن تقول إن ربها عيسى ابن مريم (123)، ولكن الجواب على ذلك من ثلاثة أوجه:

(1) أن أهل الكتاب لم يدخلوا في المشركين بدليل قوله تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ{ [سورة البقرة: 62].

فإن قيل قد وصفوا بالشرك بقوله:

{اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ{ [سورة التوبة: 31].

قيل: أهل الكتاب ليس في أصل دينهم شرك، لأن الله بعث الرسل

ص319

بالتوحيد، ولكن النصارى ابتدعوا الشرك وما دام أنه ميزهم عن المشركين فلأن أصل دينهم اتباع الكتب المنزلة.

(2) أن يقال: آية البقرة عامة وآية المائدة خاصة. والخاص يقدم على العام.

(3) أن يقال آية المائدة ناسخة لآية البقرة لأن المائدة نزلت بعد البقرة باتفاق العلماء (124).

والذي يظهر لي. والله أعلم – أن الجواب الأول من الأجوبة الثلاثة التي ذكرها شيخ الإسلام غير مسلم به، مع التسليم بأن أصل دينهم التوحيد، ولكنهم نقضوا هذا الأصل والعبرة بالخواتيم. أما الجواب الثاني والثالث فهذا الذي ذهب إليه كثير من أهل العلم (125).

وأما انقطاع التوارث بين المسلم والكافر فهذا أيضاً من التكليف، والمقتضيات للولاء والبراء دليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم) متفق عليه (126).

والسبب في ذلك: أن التوارث يتعلق بالولاية. ولا ولاية بين المسلم والكافر لقوله تعالى {لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ{ (127).

قال البغوي: والعمل على هذا عند عامة أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم: أن الكافر لا يرث المسلم، والمسلم لا يرث الكافر لقطع الولاية بينهما، إلا ما روي عن معاذ أنهما قالا: المسلم يرث الكافر، ولا يرثه الكافر، وحكي ذلك عن إبراهيم النخعي، كما أن المسلم ينكح الكتابية ولا ينكح الكافر المسلمة، وبه قال إسحاق بن راهويه (128).

ص320

أما المرتد: فلا يرث أحداً. ولا كافراً ولا مرتداً. واختلفوا في ميراثه:

فذهب جماعة: إلى أنه لا يورث منه بل ماله فيء. وهذا قول مالك والشافعي.

وذهب جماعة: إلى أن ميراثه لأقاربه المسلمين وهو قول الحسن والشعبي وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي وأبو يوسف ومحمد. وذهب بعضهم: إلى أن ما اكتسبه بعد الردة فيء وهو قول سفيان الثوري وأبي حنيفة (129).

إن الإسلام دين عزة وعفة وقوة يرتفع بالمسلم أن تبقى نفسه معلقة بأطماع قاصرة لا تتفق مع مبدأ هذا الدين وتميزه وسمو تشريعه. بل إنه ليقطع كل ما من شأنه أن يثبط المسلم أو يغريه بالتذبذب في دينه أو بالنفاق. ولذلك قطع النكاح من الكافر لئلا يكون له سلطة على المسلمة، فالإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وقطع النكاح من الكافرة لأنها سبب خطير في (جرف) زوجها إلى ملتها وتنشئة الأطفال على مبدأ الكفر والشرك. وقطع التوارث بين المسلم والكافر حتى يبقى المسلم مصوناً من المال الحرام لأن صاحبه الكافر رضي بالحرام وترك شريعة الله الحلال شريعة الإسلام.

وما دام أنه قد انقطع التناصر والولاء الإيماني بين المسلم والكافر فلأن يقطع النكاح والتوارث من باب أولى لتخلص نفس المسلم لله رب العالمين وتصبح حياته ومماته كلها قائمة على منهج الله القويم وشرعه الحكيم.

وبهذا يكون التميز الكامل متحققاً في حياة المسلم فهو لا يعبد إلا الله، ومن ثم فلا يتلقى إلا من الله، ولا يرجو ولا يطلب الرزق إلا من الله. ولا يسير في أمر يسير أو كبير إلا بحسب ما أراده الله وهذا هو معنى الاستسلام لله. والطاعة والانقياد له.

ص321

الفصل السادس

النهي عن التشبه بالكفار والحرص

على حماية المجتمع الإسلامي

الدين الإسلامي ليس حريصاَ على تميز المسلمين في المضمون فحسب وإنما حتى في المظهر العام للمسلم في نفسه وللمجتمع الإسلامي في عمومه. ولذلك كان النهي عن التشبه بالكفار أحد التكاليف الربانية لهذه العقيدة. وقد حفل الكتاب والسنة بأدلة كثيرة حول هذه القضية. لأن التشبه بالكفار في الظاهر يورث التشبه بهم في العقيدة أو مودتهم، ومسايرتهم وموافقتهم على هواهم مما يحدث التميع في حياة المسلم ويجعله إمعة يتبع كل ناعق، والله يريد له العزة والكرامة. وإذا تمعنا في طريقة التربية القرآنية: وجدنا أن الإسلام ربى المسلمين على العقيدة الصحيحة فترة طويلة قبل نزول التكاليف، فلما رست جذور هذه الشجرة المباركة في النفوس جاءت التكاليف واحداً إثر الآخر مما جعل المسلمين يترقون في هذا السلم التربوي الإيماني إلى الذروة.

من هنا جاء النهي عن التشبه بالكفار في العهد المدني. وذلك بعد الجهاد من أجل صيانة وحماية المجتمع الإسلامي من كل دخيل، وحرصاً على بناء الشخصية الإسلامية الفريدة. فكما أن هذه العقيدة فريدة في مضمونها وجوهرها فهي أيضاً فريدة في شكلها ومظهرها. لذا وجب على صاحبها أن يكون متميزاً بعد أن أخرجه الله من الظلمات إلى النور.

وتجتاح العالم الإسلامي اليوم موجة من التبعية الجارفة في كل شيء، ومن ذلك التشبه بالغرب الكافر من قبل ضعاف الإيمان الذين يرون أن ذلك الفعل هو سبيل التقدم والرقي!

ص322

وفي هذا يقول الأستاذ محمد أسد (… وإن السطحيين من الناس فقط ليستطيعوا أن يعتقدوا أنه من الممكن تقليد مدنية ما في مظاهرها الخارجية من غير أن يتأثروا في الوقت نفسه بروحها.

"إن المدنية ليست شكلاً أجوف فقط، ولكنها نشاط حي. وفي اللحظة التي نبدأ فيها. بتقبل شكلها تأخذ مجاريها الأساسية ومؤثراتها الفعالة تعمل فينا، ثم تخلع على اتجاهنا العقلي كله شكلاً ولكن ببطء ومن غير أن نلحظ ذلك.

ولقد قدر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الاختيار حق قدره حينـما قال: " من تشـبه بقـوم فهـو منهم" (131). وهذا الحديث المشهور ليس إيماءة أدبية فحسب، بل تعبير إيجابي يدل على أن لا مفر من أن يصطبغ المسلمون بالمدنية التي يقلدونها؟

"ومن هذه الناحية قد يستحيل أن نرى الفرق الأساسي بين "المهم" وبين غير المهم في نواحي الحياة الاجتماعية وليس ثمة خطأ أكبر من أن نفترض أن اللباس – مثلاً – شيء خارجي بحت وأن لا خوف منه على "حياة الإنسان" العقلية والروحية. إنه على وجه العموم نتيجة تطور طويل الأمد لذوق شعب ما في ناحية معينة وزي هذا اللباس يتفق مع الإدراك االبديعي لذلك الشعب ومع ميوله. لقد تشكل هذا الزي ثم ما فتىء يبدل أشكاله باستمرار حسب التبدل الذي طرأ على خصائص ذلك الشعب وميوله. وبلبس الثياب الأوربية يوفق المسلم من غير شعور ظاهر بين ذوقه والذوق الأوربي ثم يشوه "حياته" العقلية بشكل يتفق نهائياً مع اللباس الجديد وبعمله هذا يكون (المسلم) قد تخلى عن الإمكانيات الثقافية لقومه، وتخلى عن ذوقهم التقليدي، وتقبل لباس العبودية العقلية الذي خلعته عليه المدنية الأجنبية.

" إذا حاكى المسلم أوروبة في لباسها، وعاداتها وأسلوب حياتها فإنه يتكشف عن أنه يؤثر المدنية الأوربية، مهما كانت دعواه التي يعلنها، وإنه لمن المستحيل عملياً أن تقلد مدنية أجنبية في مقاصدها العقلية والبديعية من غير إعجاب

ص323

بروحها، وإنه لمن المستحيل أن تعجب بروح مدنية مناهضة للتوجيه الديني، وتبقى مع ذلك مسلماً صحيحاً.

" إن الميل إلى تقليد التمدين الأجنبي نتيجة الشعور بالنقص هذا ولا شيء سواه، ما يصاب به المسلمون الذين يقلدون المدنية الغربية " (132)

وأصل المشابهة: أن الله جبل بني آدم – بل سائر المخلوقات – على التفاعل بين الشيئين المتشابهين، وكلما كانت المشابهة أكثر: كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم. والمشاركة بين بني الإنسان أشد تفاعلاً فلأجل هذا الأصل وقع التأثر والتأثير في بني آدم فاكتسب بعضهم، أخلاق بعض بالمشاركة والمعاشرة.

والمشابهة في الأمور الظاهرة: توجب مشابهة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي، وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين أقل كفراً من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيماناً من غيرهم ممن جرد الإسلام (133).

ثم إن المشاركة في الهدي الظاهر: توجب مناسبة وائتلافاً وإن بعد المكان والزمان وهذا أمر محسوس، بل إنها تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر.

وإذا كانت المشابهة في الأمور الدنيوية تورث المحبة والموالاة فكيف بالمشابهة في أمور دينية؟ نعم. إنها تقتضي إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد. والمحبة لهم تنافي الإيمان كما قال تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ

ص324

وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ{ [سورة المائدة: 51].

وثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان، لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم(134).

وهنا لابد أن نورد بعض النصوص الكثيرة والمستفيضة من الكتاب والسنة التي نهت عن مشابهة الكفار واتباع أهوائهم.

منها قوله تعالى:

{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ {18} إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ{ [سورة الجاثية: 18-19].

يقول في تفسيرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: جعل الله محمداً صلى الله عليه وسلم على شريعة من الأمر شرعها له وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته. وأهواءهم: هي ما يهوونه وما عليه المشركون من هديهم الظاهر الذي هو من موجبات دينهم الباطل وتوابع ذلك، فموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين لهم في بعض الأمور ويسرون بذلك.

ولو فرض أن الفعل ليس من اتباع أهوائهم: فلا ريب أن مخالفتهم في ذلك

ص325

أحسم لمادة متابعتهم في أهوائهم وأعون على حصول مرضاة الله في تركها (135).

ومن الأدلة أيضاً قوله تعالى:

{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِير{ [سورة البقرة: 120].

فانظر كيف جاء في الخبر "ملتهم" وفي النهي "أهواءهم" لأن القوم لا يرضون إلا باتباع الملة مطلقاً. والزجر وقع عن اتباع أهوائهم في قليل أو كثير، ومن المعلوم أن متابعتهم في بعض ما هم عليه من الدين: نوع متابعة لهم في بعض ما يهوونه، أو مظنة لمتابعتهم فيما يهوونه (136)

وممن الأدلة القرآنية أيضاً ما ورد في سورة البقرة بخصوص تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة قال تعالى:

{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ{ [سورة البقرة: 145].

ص326

إلى قوله تعالى:

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ{ [سورة البقرة: 150].

قال غير واحد من السلف: معناه لئلا يحتج اليهود عليكم بالموافقة في القبلة فيقولوا: قد وافقونا في قبلتنا فيوشك أن يوافقونا في ديننا. فقطع الله بمخالفتهم في القبلة هذه الحجة، وبين سبحانه أن من حكمة فسخ القبلة وتغييرها: مخالفة الكافرين في قبلتهم ليكون ذلك أقطع لما يطمعون فيه من الباطل، وهذا المعنى ثابت في كل مخالفة وموافقة فإن الكافر إذا اتبع في شيء من أمره كان له من الحجة مثل ما كان – أو قريب مما كان – لليهود من الحجة في القبلة (137).

ومن الأدلة القرآنية أيضاً الدالة على النهي عن التشبه بهم في أي حال وأي وضع قوله تعالى:

{فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ{ [سورة يونس: 89].

وقوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ{ [سورة الأعراف: 142].

وقال تبارك وتعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ

ص327

غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا{ [سورة النساء: 115].

كل ذلك يدل على أن جنس مخالفتهم وترك مشابهتهم أمر مشروع (138)

أما السنة النبوية فورد فيها نصوص كثيرة في هذا الموضوع ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم " من تشبه بقوم فهو منهم " (139). وفي هذا الحديث يقول ابن تيمية:

إسناده جيد وأقل أحواله: أنه يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله تعالى:

{وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ{ [سورة المائدة: 51].

وهو نظير ما قاله عبدالله بن عمرو: " من بنى بأرض المشركين وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة " (140). فقد يحمل هذا على التشبه المطلق الذي يوجب الكفر.. وقد يحمل على أنه صار منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفراً أو معصية أو شعاراً للكفر أو المعصية: كان حكمه كذلك.

أما من فعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضاً، ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه ففي كون هذا تشبهاً نظراً. لكن قد ينهى عن هذا لئلاً يكون ذريعة إلى التشبه ولما فيه من المخالفة (141). ومن الأدلة النبوية أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم" قلنا: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ (142).

وفي الصحيح أيضاً: عن ابن عمر: أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على

ص328

الحجر – أرض ثمود – فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة (143).

ولما كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم ويسمونها "ذات أنواط" قال بعض الناس: يا رسول الله: اجعل ذات أنواط كما لهم ذات أنواط؟ فقال صلى الله عليه وسلم " الله أكبر، قلتم كما قال قوم موسى لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم " (144). فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم مجرد مشابهتهم الكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها، معلقين عليها سلاحهم، فكيف بما هو أطم من ذلك من مشابهتهم المشركين أو هو الشرك بعينه؟ (145).

أيهما أعظم – يا ترى – شجرة يعلق عليها سلاح نهي عنها لأن فيها اقتداء بفعل الكفار أم نظام حياة فيه التشريع والتحليل والتحريم والإلزام والعقوبة على المخالفة.

ومن الأحاديث الواردة في النهي عن التشبه قوله صلى الله عليه وسلم "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم " (146).

وقوله صلى الله عليه وسلم " خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم " (147)

وقوله صلى الله عليه وسلم " ليس منا من تشبه بغيرنا" (148).

ص329

إن هذه النصوص وغيرها تهدف إلى سد الذرائع لأن المشابهة في الظاهر ذريعة إلي الموافقة في القصد والعمل (149).

ولكن هناك حالات معينة قد تجعل المسلم يشارك الكفار في الهدي الظاهر فمتى تكون الموافقة ومتى تكون المخالفة؟

يجيب على ذلك شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله بقوله: إن المخالفة لا تكون إلا بعد ظهور الدين وعلوه كالجهاد وإلزامهم بالجزية والصغار ولما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء فإنه لم يشرع لهم المخالفة، فلما كمل الدين وظهر وعلا شرع ذلك.

ومثل ذلك اليوم – هذا كلام الشيخ في عصره فكيف بالعصور التالية؟! – لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب: لم يكن مأموراً بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر لما عليه في ذلك من الضرر. بل يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحياناً في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك أو دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الصالحة فأما في دار الإسلام والهجرة التي أعز الله فيها دينه، وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية: ففيها شرعت المخالفة.

وإذا ظهرت الموافقة والمخالفة لهم باختلاف الزمان: ظهرت حقيقة الأحاديث (150) في هذا.

وقد ذكر العلماء رحمهم الله قاعدة جليلة عليها مدار الشرع وإليها مرجع الخلق والأمر – كما يقول ابن القيم – وهي: إيثار أكبر المصلحتين وأعلاهما، وإن فاتت المصلحة التي هي دونها، والدخول في أدنى المفسدتين لدفع ما هو أكبر منها. فيفوت مصلحة لتحصيل ما هو أكبر منها، ويرتكب مفسدة لدفع ما هو أعظم منها (151)

ص330

ولكن مع هذا يجب أن يحذر المسلم فإن هذا أمر لا يتوصل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد، يكون سببه تجريد متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله، وأحبها إليه، وأرضاها له (152).

وإذا أردنا أن نعرف تفصيل مخالفة أهل الكتاب وجدنا أن ذلك يندرج تحت ثلاثة أقسام: (153)

(1) ما كان مشروعاً في الشريعتين، أو ما كان مشروعاً لنا وهم يفعلونه كصوم يوم عاشوراء، أو كأصل الصلاة والصيام، فهنا تقع المخالفة في صفة ذلك العمل كما سن لنا صوم تاسوعاء، وعاشوراء، وكما أمرنا بتعجيل الفطر والمغرب مخالفة لأهل الكتاب، وكذلك تأخير السحور مخالفة لهم، والصلاة في النعلين مخالفة لليهود وهذا كثير في العبادات وكذلك في العادات.

(2) ما كان مشروعاً ثم نسخ بالكلية كالسبت، أو إيجاب صلاة أو صوم، ولا يخفى النهي عن موافقتهم في هذا.

وكذلك الأمر في أعيادهم، لأن الأعياد المشروعة يشرع فيها وجوباً أو استحباباً من العبادات ما لا يشرع في غيرها كالصلاة أو الذكر أو الصدقة أو النسك ويباح فيها أو يستحب أو يجب من العادات التي للنفوس فيها حظ ما لا يكون في غيرها كذلك كالتوسع في الطعام واللباس.

ولهذا وجب علينا فطر العيدين وقرن بالصلاة في أحدهما الصدقة وقرن بها في الآخر الذبح وكلاهما من أسباب الطعام فموافقتهم في هذا القسم المنسوخ من العبادات أو العادات أو كلاهما أقبح من موافقتهم فيما هو مشروع الأصل. ولهذا كانت الموافقة في هذا محرمة … وفي القسم الأول قد لا تكون إلا مكروهة.

(3) ما أحدثوه من العبادات أو العبادات أو كليهما، فهذا أقبح وأقبح، فإنه لو أحدثه المسلمون لقد كان يكون قبيحاً، فكيف إذا كان مما لم يشرعه نبي قط؟ بل أحدثه الكافرون؟ فالموافقة فيه ظاهرة القبح. فهذا أصل.

ص331

وأصل آخر: وهو أن كل ما يتشابهون فيه من عبادة أو عادة أو كليهما هو من المحدثات في هذه الأمة ومن البدع إذ الكلام فيما كان من خصائصهم وأما ما كان مشروعاً لنا وقد فعله سلفنا السابقون فلا كلام فيه.

ونخلص إلى القول: أن حكم الموافقة في الأول مكروهة وفي الثاني محرمه وفي الثالث أشد حرمة.

ما بين التشبه والولاء من علاقة

من نافلة القول: أن الشارع ما ترك خيراً إلا دل الأمة عليه، وما ترك شراً إلا حذر الأمة عنه. وحين أمر الشارع الحكيم بمخالفة الكفار – في الهدي الظاهر – فإن ذلك لحكم جليلة (154) منها:

(1) إن المشاركة في الهدي الظاهر: تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال.

وهذا أمر محسوس، فإن اللابس لثياب الجند المقاتلة – مثلاً – في نفسه نوع تخلق بأخلاقهم، ويصير طبعه مقتضياً لذلك، إلا أن يمنعه من ذلك مانع.

(2) إن المخالفة في الهدي الظاهر: توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال. والانعطاف إلى أهل الهدي والرضوان، وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين.

وكلما كان القلب أتم حياة، وأعرف بالإسلام الذي هو الإسلام – لست أعني مجرد التوسم به ظاهراً، أو باطناً بمجرد الاعتقادات التقليدية من حيث الجملة – كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطناً أو ظاهراً أتم. وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد.

ص332

(3) إن مشاركتهم في الهدي الظاهر: توجب الاختلاط الظاهر، حتى يرتفع التمييز ظاهراً بين المهديين المرضيين، وبين المغضوب عليهم والضالين إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية.

هذا إذا لم يكن ذلك الهدي الظاهر إلا مباحاً محضاً، لو تجرد عن مشابهتهم.

فأما إن كان من موجبات كفرهم فإنه يكون شعبة من شعب الكفر، فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع ضلالتهم ومعاصيهم. وهذا أصل ينبغي أن يتفطن إليه (155).

مثال واحد من مشابهة اليهود والنصارى

(العيد)

العيد مظهر مميز للأمة، ومن هنا اخترته مثالاً واحداً من أمثلة التشبه باليهود والنصارى، وقد وردت الأدلة الكثيرة المحرمة للتشبه بهم في هذا الشأن من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار (156).

أما الكتاب فقد قال تعالى:

{والذين لا يشهدون الزور} [سورة الفرقان: 72].

قال مجاهد في تفسيرها إنها أعياد المشركين وكذلك قال مثله الربيع بن أنس

ص333

والقاضي أبو يعلى والضحاك (157).

وإذا كان الله قد مدح ترك شهودها الذي هو مجرد الحضور برؤية أو سماع فكيف بالموافقة بما يزيد على ذلك من العمل الذي هو عمل الزور لا مجرد شهوده؟

ومن السنة: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما، يوم الأضحى ويوم الفطر " رواه أبو داود (158) وأحمد والنسائي على شرط مسلم.

ووجه الدلالة: أن اليومين الجاهلين لم يقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة بل قال " إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما.." والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه، إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه. وهذه العبارة لا تستعمل إلا فيها ترك اجتماعهما كقوله تعالى:

{أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظلمين بدلا }[سورة الكهف: 50].

وقوله صلى الله عليه وسلم "خيراً منهما " يقتضي الاعتياض بما شرع لنا عما كان في الجاهلية.

والمحذور في أعياد أهل الكتابين التي نقرهم عليها أشد من المحذور في أعياد الجاهلية التي لا نقرهم عليها، فإن الأمة قد حذروا مشابهة اليهود والنصارى وأخبروا إن سيفعل قوم منهم هذا المحذور، بخلاف دين الجاهلية فإنه لا يعود إلا في آخر الدهر عند اخترام أنفس المؤمنين عموماً، ولو لم يكن أشد منه فإنه مثله على ما لا يخفى، إذ الشر الذي له فاعل موجود يخاف على الناس منه أكثر من شر لا مقتضي له قوي (159).

ص334

أما الإجماع: فما هو معلوم من السير أن اليهود والنصارى والمجوس ما زالوا في أمصار المسلمين بالجزية يفعلون أعيادهم التي لهم، ومع ذلك لم يكن على عهد السلف من المسلمين من يشركهم في شيء من ذلك.

وكذلك ما فعله عمر بخصوص أهل الذمة – سيأتي ذكر ذلك قريباً – وما اتفق عليه الصحابة والفقهاء أن أهل الذمة لا يظهرون أعيادهم في دار الإسلام، وإذا كان هذا اتفاقهم فكيف يسوغ للمسلمين فعلها؟ أو ليس فعل المسلم لها أشد من فعل الكافر لها مظهراً لها؟

وقد قال عمر رضي الله عنه: " إياكم ورطانة الأعاجم، وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم فإن السخطة تتنزل عليهم" رواه أبو الشيخ الأصبهاني ورواه البيهقي بإسناد صحيح (160).

وأما الاعتبار: فالأعياد من جملة الشرع، والمناهج والمناسك التي قال الله فيها: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا{ [سورة المائدة: 48].

فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج، فإن الموافقة في جميع العيد: موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه: موافقة في بعض شعب الكفر، بل إن الأعياد من أخص ما تتميز به الشرائع، ومن أظهر ما لها من الشعائر، فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع الكفر وأظهر شعائره.

ولا ريب: أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة (161).

ثم إن عيدهم من الدين الملعون هو وأهله، فموافقتهم فيه موافقة فيما يتميزون به من أسباب سخط الله وعقابه.

ومن أوجه الاعتبار أيضاً: أنه إذا سوغ فعل القليل من ذلك أدى إلى فعل

ص335

الكثير، ثم إذا اشتهر الشيء دخل فيه عوام الناس وتناسوا أصله حتى يصير عادة للناس بل عيداً لهم، حتى يضاهى بعيد الله، بل قد يزيد عليه حتى يكاد أن يفضي إلى موت الإسلام وحياة الكفر " (162).

أما ما ينعكس على نفوسهم إذا تشبه بهم المسلمون في العيد خاصة فهو السرور والفرح لأن في ذلك رفعة لباطلهم وتنافياً لمبدأ القهر والجزية والصغار الواقعين تحته.

وخلاصة المشابهة: أنها تفضي إلى كفر أو معصية غالباً، أو تفضي إليهما في الجملة وليس في هذا المفضي مصلحة، وما أفضي إلى ذلك كان محرماً فالمشابهة محرمة، والمقدمة الثانية لا ريب فيها، لأن استقرار الشريعة يدل على أن ما أفضى إلى الكفر غالباً وما أفضى إليه على وجه خفي حرام وما أفضى إليه في الجملة ولا حاجة تدعو إليه حرام (163).

وبعد أن يتمعن المسلم كل هذه الأحكام بخصوص العيد عليه أن يقيس بمقياس الكتاب والسنة: الأعياد المحدثة اليوم ومن يحدثونها ومن يهنئون بها الكفرة والملاحدة. مثل عيد الثورة! وعيد الجلوس! وعيد الميلاد! وعيد الأم، وعيد تحكيم القانون ونبذ الشريعة وعيد الوطن وعيد الجلاء … إلى أخر هذه المسميات والأسماء الجاهلية التي ما أنزل بها من سلطان، والتي هي مضاهاة ومنازعة لشريعة الله وحكمه.

فواجب المسلم أن لا يقر بها ولا يهنىء أحداً بها ويكتفي بالعيدين الإسلاميين الفطر والأضحى وفي الأيام الأخرى كالجمعة وغيرها ما يغنينا عن استيراد شعائر وشارات الكفر وأربابه.

صورة مشرقة من صور

التميز في المجتمع الإسلامي الأول

كلما عاد الحديث إلى الرعيل الأول كان له حلاوة خاصة تبعث في النفس

ص336

الأمل والرجاء بالاقتضاء بأولئك العظام، وتحفز الهمم لتشمر عن ساعد الجد فتلحق بركب قافلة الإيمان، ودعاة الهدى والخير.

ولقد كانت الشروط العمرية التي وضعها الفاروق رضي الله عنه مثالاً رائعاً في تعامل المسلمين مع غيرهم وتميز أهل الذمة عن المسلمين مما يحفظ على المجتمع الإسلامي شخصيته المستقلة ويرعى لأولئك الذميين حقوقهم التي أمر بها هذا الدين الحنيف.

إن الحرص العمري على تميز المسلمين عن غير المسلمين هو عمق هذه العقيدة في نفسه والقيام بمسؤوليته كراع للأمة يعلم أنه مسؤول عنها كما في الحديث الصحيح "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " (164) متفق عليه.

والذي جعلني أختار موضوع أهل الذمة في هذه النقطة بالذات هو أن وضع الذميين في الدولة الإسلامية وضع خاص غير وضع الكفار الحربيين أو المهادنين.

وحيث ينشأ ويعيش الذميون وسط المجتمع الإسلامي فإن هذا الشيء يجب أن يكون محاطاً بحصانة خاصة للمسلمين لئلا يؤدي احتكاكهم بالذميين إلى التشبه بهم وذوبان الشخصية الإسلامية التي أراد هذا الدين أن تكون فريد متميزة في كل شيء.

ثم إن من صفات هذا الدين الحنيف العدل حتى مع الكفار، ولكن ما حدود هذا العدل وما سماته؟ خاصة وأنه قد أقر "الذميين" على العيش وسط المجتمع الإسلامي؟

الجواب: هو ما ورد في "الشروط العمرية" التي نصت على حماية المسلمين وكفلت للذميين حقوقهم على أن يكونوا هم أيضاً متميزين بزيهم وديانتهم حتى لا يلتبس المسلم بالذمي: وينتج من ذلك خليط لا يعرف له اتجاه محدد وهوية خاصة. وهذه الشروط – كما يقول عنها شيخ الإسلام ابن تيمية – منها: ما مقصوده التمييز عن المسلمين في الشعور واللباس، والأسماء، والمراكب والكلام

ص337

ونحوها ليتميز المسلم من الكافر ولا يشبه أحدهما الآخر في الظاهر. ولم يرض عمر رضي الله عنه والمسلمون بأصل التمييز، بل بالتمييز في عامة الهدي … وذلك يقتضي: إجماع المسلمين على التميز عن الكفار ظاهراً، وترك التشبه بهم، ولقد كان أمراء الهدى مثل العمريين وغيرهما يبالغون في تحقيق ذلك بما يتم به المقصود. ومنها: ما يعود بإخفاء منكرات دينهم وترك إظهارها، كمنعهم من إظهار الخمر، والناقوس والنيران في الأعياد. ومنها: ما يعود بإخفاء شعار دينهم كأصواتهم بكتابهم.

ومنها: ما يعود بترك إكرامهم وإلزامهم الصغار الذي شرعه الله (165).وإليك نص هذه الشروط:

روى سفيان الثوري عن مسروق عن عبدالرحمن بن غنم قال: كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى الشام، وشرط عليهم فيه ألا يحدثوا في مدينتهم ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة، ولا قلاية (166)، ولا صومعة راهب، ولا يجددوا ما خرب، ولا يمنعوا كنائسهم أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم، ولا يؤوا جاسوساً، ولا يكتموا غشاً للمسلمين، ولا يعلموا أولادهم القرآن، ولا يظهروا شركاً، ولا يمنعوا ذوي قراباتهم من الإسلام إن أرادوا وأن يوقروا المسلمين، وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس، ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم، ولا يتكنوا بكناهم، ولا يركبوا سراجاً، ولا يتقلدوا سيفاً، ولا يبيعوا الخمور، وأن يجزوا مقادم رؤوسهم، وأن يلزموا زيهم حيثما كانوا، وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم ولا يظهروا صليباً ولا شيئاً من كتبهم في شيء من طرق المسلمين، ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضرباً خفياً، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من محضرة المسلمين، ولا يخرجوا شعانين، ولا يرفعوا أصواتهم مع موتاهم، ولا يظهروا النيران معهم ولا يشتروا من الرقيق ما جرت فيه سهام المسلمين.

ص338

فإن خالفوا شيئاً مما شرطوه فلا ذمة لهم، وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق (167) انتهى.

ولهذه الشروط طرق أخرى في روايتها، ولكنها كلها تلتقي عند هذا المعنى، ولذلك عقب ابن القيم رحمه الله على اختلاف تلك الروايات بقوله: وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها، فإن الأئمة تلقوها بالقبول وذكروها في كتبهم واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها من بعده الخلفاء وعملوا بها (168) .

سبحان الله!!!

ما هذا البون الشاسع بين تلك القمة وبين هذا الغثاء الذي يعيش اليوم على الأرض متميعاً متسكعاً وراء الكفار والملاحدة. ويحسب نفسه مسلماً؟

أين تلك العزة والقوة والسلطان الرباني الذي أخذ به ذلك الجيل، وأين الضعف والاستخذاء والتبعية العمياء التي يعيشها "المسلمون" اليوم؟

ترى: هل المنتسبون اليوم للإسلام في درجة الذميين الذين طبقت عليهم هذه الشروط؟

هل "المسلمون" اليوم ذميون للكفار؟

إن الذي يظهر لي أنه حتى على هذا الافتراض الأخير فإن المسلمين اليوم أقل قدراً من ذميي الأمس. ذميو الأمس: في صغار وفى ذلة وفي زي معين ومكان معين. نعم.

أما مسلمو اليوم ففي صغار وذلة واستكانة عن إسلامهم وتبعية للشرق الملحد والغرب الكافر، وإعجاب وانبهار بما عليه أعداء الإسلام، وسخرية واستهزاء بما كان عليه سلف هذه الأمة!

من هنا فهم أحط قدراً عند الله – ما داموا بهذه الصفات – وأحقر من أن يهابوا

ص339

وأصغر من أن يسمع لهم كلمة في المجتمع الدولي المعاصر.

فعلى المسلم الصادق. المسلم الواعي. المسلم المدرك لحقيقة إسلامه أن يعرف أين يضع قدمه ولمن يهب حبه وولاءه، وأن يعلم أن حب أعداء الله وموالاتهم والتشبه بهم لا تلتقي مع صدق إيمانه وإنما يفعل ذلك من يزعم الإسلام زعماً وبئس ذلك الزعم الكاذب.

وقد ذكر علماء الإسلام ما ينتقض به عهد الذمي حرصاً على حماية المسلمين من أي دخيل يستغل سماحة الإسلام فيغدر بالمسلمين. وهذه النواقض هي:-

(1) الإعانة على قتال المسلمين، وقتل المسلم أو المسلمة.

(2) قطع الطريق عليهم.

(3) إيواء جواسيس المشركين أو التجسس للمشركين بأن يكتب لهم أسرار المسلمين.

(4) الزنا بالمسلمة أو إصابتها باسم النكاح.

(5) فتن المسلم عن دينه.

(6) سب الله أو النبي صلى الله عليه وسلم (169).

والأدلة على انتقاض عهد الذمي بسب الله أو كتابه أو دينه أو رسوله وجوب قتله، وقتل المسلم إذا فعل ذلك كثيرة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين والاعتبار (170).

أما الكتاب: فقوله تعالى:

{وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ{ [سورة التوبة: 12].

ص340

وقوله تعالى:

{قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ{ [سورة التوبة: 29].

وقوله تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا {57}وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا{ [سورة الأحزاب: 57 – 58].

ومن السنة: ما رواه الشعبي عن علي رضي الله عنه أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها " (171) رواه أبو داود وابن بطة في سننه، والحديث متصل لأن الشعبي رأى علياً وكان على عهد علي قد ناهز العشرين سنة. ثم إن كان فيه إرسال – لأن الشعبي يبعد سماعه من علي – فهو حجة وفاقاً، لأن الشعبي عندهم صحيح المراسيل لا يعرفون له مرسلاً إلا صحيحاً (172).

ص341

وأيضاً ما رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، فلما كان ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه فأخذ المغول فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فلما أصبح ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فجمع الناس فقال: "أنشد رجلاً فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام " قال: فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتدلدل، حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين،وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليه حتى قتلها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اشهدوا أن دمها هدر" رواه أبو داود والنسائي (173).

ومن السنة أيضاً: ما احتج به الشافعي على أن الذمي إذا سب قتل وبرئت منه الذمة وهو قصة كعب بن الأشرف اليهودي. والحديث متفق عليه (174). وأما إجماع الصحابة: فقد نقل ذلك عنهم في قضايا متعددة مستفيضة ولم ينكرها أحد فصارت إجماعاً ومن ذلك: ما رفع إلى المهاجر بن أبي أمية (175)، وكان أميراً على اليمامة ونواحيها: أن امرأتين مغنيتين غنت أحدهما بشتم النبي صلى الله عليه وسلم فقطع، يدها ونزع ثنيتيها وغنت الأخرى بهجاء المسلمين فقطع يدها ونزع ثنيتيها، فكتب إليه أبو بكر: بلغني الذي سرت به في المرأة التي غنت وزمزمت بشتم النبي صلى الله عليه وسلم فلولا ما قد سبقتني لأمرتك بقتلها، لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود، فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر (176).

ص342

وفي عهد عمر رضي الله عنه: جاءه رجل من أهل الكتاب – حين دخل الشام – وهو مشجوج مضروب فغضب لذلك عمر وأمر بإحضار عوف بن مالك (177) الأشجعي لأنه هو الذي فعل ذلك بالذمي فلما سأله عمر عن فعله هذا قال: يا أمير المؤمنين رأيت هذا يسوق بامرأة مسلمة على حمار فنخس بها لتصرع، فلم تصرع، فدفعها فصرعت فغشيها، وأكب عليها، فقال عمر أئتني بالمرأة فلتصدق على ما قلت فأتاها عوف، فذهب معه أبوها وزوجها فأخبر عمر بمثل قول عوف، فأمر عمر باليهودي فصلب وقال: ما على هذا صالحناكم ثم قال: يا أيها الناس اتقوا الله في ذمة محمد صلى الله عليه وسلم فمن فعل منهم مثل هذا فلا ذمة له (178).

وأما الاعتبار: فمن وجوه: (179)

أحدهما: أن عيب ديننا وشتم نبينا مجاهدة لنا ومحاربة، فكان نقضاً للعهد كالمجاهدة والمحاربة بطريق الأولى.

الثاني: - إن مطلق العهد الذي بيننا وبينهم يقتضي أن يكفوا ويمسكوا عن إظهار الطعن في ديننا، وشتم رسولنا، كما يقتضي الإمساك عن دمائنا ومحاربتنا.

الثالث: إن الله فرض علينا تعزيز رسوله وتوقيره، وتعزيزه: نصره ومنعه، وتوقيره إجلاله وتعظيمه، وذلك يوجب صون عرضه بكل طريق. فلا يجوز أن نصالح أهل الذمة، وهم يسمعونا شتم نبينا وإظهار ذلك، لأنا إذا تركناهم على هذا تركنا الواجب علينا نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص343

الأمكنة التي يمنع أعداء الله

من دخولها والإقامة فيها

قال الله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ { [سورة التوبة: 28].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "انطلقوا إلى يهود" فخرجنا معه حتى إذا جئنا بيت المدراس قام النبي صلى الله عليه وسلم فناداهم فقال: " يا معشر اليهود: أسلموا تسلموا " فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أريد، فقال: اسلموا تسلموا، فقالوا قد بلغت يا أبا القاسم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك أريد، ثم قالها الثالثة فقال: "اعلموا إنما الأرض لله ورسوله، وإني أريد أجليكم من هذه الأرض، فممن وجد منكم بماله شيئاً فليبعه، وإلا فاعملوا إنما الأرض لله ورسوله" متفق عليه ولفظه للبخاري (180).

وقال صلى الله عليه وسلم "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب" متفق عليه (181).

وقال أيضاً "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلماً " رواه مسلم (182).

وهذه النصوص الصريحة الواضحة وغيرها توضح – بجلاء – مدى حرص الإسلام على حماية أمته من معاشرة الكفار، ومعايشتهم لما في ذلك من جلب

ص344

لمودتهم وموالاتهم التي نهى الله عنها.

قال الشافعي رحمه الله: يمنعون من الحجاز وهو مكة والمدينة واليمامة وقراها. أما غير الحرم منه فيمنع الكتابي وغيره من الاستيطان والإقامة به، وله الدخول بإذن الإمام لمصلحة كأداء رسالة أو حمل متاع يحتاج إليه المسلمون: وإن دخل لتجارة ليس فيها كثير حاجة لم يأذن له إلا بشرط أن يأخذ من تجارته شيئاً، ولا يمكن من الإقامة أكثر من ثلاث (183). وعقب ابن القيم رحمه الله على كلام الشافعي بقوله: أما حرم مكة فإنهم يمنعون من دخوله بالكلية فلو قدم رسول لم يجز أن يأذن له الإمام في دخوله، ويخرج الوالي أو من يثق به إليه، وأما حرم المدينة فلا يمنع من دخوله لرسالة أو تجارة أو حمل متاع (184).

اعتراض وجوابه

إن قيل: إن الله سبحانه إنما منع المشركين من قربان المسجد الحرام ولم يمنع أهل الكتاب منه، ولهذا أذن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحج الأكبر أنه لا يحج بعد العام مشرك. والمشركون الذين كانوا يحجون هم عبدة الأوثان لا أهل الكتاب؟ (185).

والجواب: للناس قولان في دخول أهل الكتاب في لفظ المشركين: " فابن عمر رضي الله عنهما وغيره كانوا يقولون: هم من المشركين، قال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما لا أعلم شركاً أعظم من أن يقول المسيح ابن الله وعزير ابن الله، وقد قال الله فيهم:

{اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ

ص345

إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ{ [سورة التوبة: 31].

والثاني لا يدخلون في لفظ "المشركين" لأن الله سبحانه جعلهم غيرهم في قوله:

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ{ [سورة البقرة: 62].

" قال ابن تيمية: والتحقيق: أن دينهم دين التوحيد فليسوا من المشركين في الأصل، والشرك طارىء عليهم فهم منهم باعتبار ما عرض لهم لا باعتبار أصل الدين، فلو قدر أنهم لم يدخلوا في لفظ الآية دخلوا في عمومها المعنوي وهو كونهم نجساً والحكم يعم بعموم علته.

"وجميع الصحابة والأئمة فهموا من قوله " فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا " إن المراد مكة كلها والحرم ولم يخص ذلك أحد منهم بنفس المسجد الذي يطاف فيه. ولما نزلت هذه الآية كانت اليهود بخيبر وما حولها ولم يكونوا يمنعون من المدينة "(186)

ص346

الفصل السابع

تعامل المسلمين مع غير المسلمين

وفيه ثلاثة مباحث

· المبحث الأول: الفرق بين الموالاة وحسن المعاملة:

(كلمة حول ما يسمى بزمالة الأديان)

أجدني مضطراً لذكر هذه المسألة لتوضيح وبيان وجه الحق والصواب حول هذا المفهوم الخاطئ، الذي خلط فيه الحق بالباطل. وطالب العلم المبتدئ – مثلي – يعجب لمشايخ كبار من أهل العلم "وقعوا في هذا الفخ الذي تولى كبر الدعوة له أعداء هذا الدين من صليبيين ويهود"!

ويراد من وراء هذا التقريب والزمالة المزعومة إضاعة تميز المسلم وانصهار شخصيته في تيار هذه الدعوة المشبوهة.

ونحب أن نقرر – ابتداء – أن الرسالات السماوية التي أنزل الله بها رسله عليهم السلام كلها تدعو إلى عبادة الله وحده قال تعالى:

{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ { [سورة النحل: 26].

ص 347

مع اختلاف في الشرائع اقتضتها حكمة ربانية لا نعلمها.

ولكن الرسالات التي سبقت الرسالة المحمدية الخاتمة: اعتورها التحريف والتبديل الذي صنعته أيد بشرية.

{يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ{[سورة البقرة: 79].

لذلك اقتضت مشيئة الله وحكمته أن تكون رسالة محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم هي خاتمة الرسالات وناسخة لما قبلها من الشرائع.

ولا بد: أن نورد طرفاً من أقوال دعاة التقارب بين الأديان كما يسمون أنفسهم الذين يزعمون أنهم بصنيعهم هذا يخدمون الإسلام والبشرية كلها.

يقول الشيخ مصطفى المراغي في رسالة بعث بها إلى مؤتمر الأديان العالمي:

(اقتلع الإسلام من قلوب المسلمين جذور الحقد الديني بالنسبة لأتباع الديانات السماوية الأخرى وأقر بوجود زمالة عالمية بين أفراد النوع البشري. ولم يمانع أن تتعايش الأديان جنباً إلى جنب) (187)؟

ويقول الشيخ محمد أبو زهرة: (إذا اختلفت الأديان فإن أهل كل دين لهم أن يدعوا إلى دينهم بالحكمة والموعظة (!!) من غير تعصب يصم عن الحقائق ولا إكراه ولا إغراء بغير الحجة والبرهان) (188).

ص348

أما الدكتور وهبة الزجيلي فيقول: (ليس من أهداف الإسلام أن يفرض نفسه على الناس فرضاً حتى يكون هو الديانة العالمية الوحيدة، إذ أن كل ذلك محاولة فاشلة، ومقاومة لسنة الوجود، ومعاندة للإرادة الإلهية) (189) وغير هؤلاء الثلاثة خلق كثير. والذي يظهر لي أن هؤلاء وأمثالهم اعتمدوا ما ذكره شيخهم الأول جمال الدين الأفغاني الذي كان متأثراً بأفكار الماسونية الخبيثة وهو أول من حمل راية الدعوة إلى زمالة الأديان فهو يقول في خاطراته بعنوان "نظرية الوحدة" ما نصه: "وجدت بعد كل بحث وتنقيب وإمعان أن أديان التوحيد الثلاثة على تمام الاتفاق في المبدأ والغاية وإذا نقص في واحد منها شيء من أوامر الخير المطلق استكمله الثاني (!).

… وعلى هذا لاح لي بارق أمل كبير أن تتحد أهل الأديان الثلاثة مثلما اتحدت الأديان في جوهرها وأصلها وغايتها وأنه بهذا الاتحاد يكون البشر قد خطا نحو السلام خطوة كبيرة في هذه الحياة القصيرة وأخذت أضع لنظريتي هذه خططاً وأخط أسطراً وأحبر رسائل للدعوة كل ذلك وأنا لم أخالط أهل الأديان كلهم عن قرب وكثب ولا تعمقت في أسباب اختلاف أهل الدين الواحد وتفرقهم فرقاً وشيعاً وطوائف … (190).

وهذه الأقوال فيها من المغالطات ما هو ظاهر لكل ذي عينين، فمن قال: أن الدين الإسلامي يسمح للنصراني: أن يدعو إلى نصرانيته، ولليهودي أن يدعو إلى يهوديته والبوذي أن يدعو إلى بوذيته، وغير ذلك من أديان البشر الوضعية أو الأديان المحرفة؟

هل هؤلاء الدعاة يجهلون ما ذكره القرآن عن بني إسرائيل وقتلهم الأنبياء ثم تحريف التوراة والإنجيل، ثم اللعب بالكتب المنزلة حسبما تمليه عليهم أهواؤهم؟

ص349

هل هؤلاء يجهلون قوله تعالى:

{لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ{ [سورة المائدة: 73].

وقول تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ{ [سورة التوبة: 30].

وقوله تعالى: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء{ [سورة النساء: 89].

وقوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً{ [سورة البقرة: 109].

وغير ذلك من النصوص الكثيرة التي تبين عداوة أهل الكتاب للمسلمين , ورحم الله الأستاذ الجليل، العالم الرباني سيد قطب حين قال: إن سماحة الإسلام مع أهل الكتاب شيء؛ واتخاذهم أولياء شيء آخر، ولكنهما يختلطان على بعض المسلمين الذين لم تتضح في نفوسهم الرؤية الكاملة لحقيقة هذا الدين ووظيفته، الذي يهدف إلى إنشاء، واقع في الأرض وفق التصور الإسلامي الذي

ص350

يختلف في طبيعته عن سائر التصورات التي تعرفها البشرية.

إن هؤلاء الذين تختلط عليهم تلك الحقيقة لأنه ينقصهم الحس النقي بحقيقة العقيدة كما ينقصهم الوعي الذكي لطبيعة المعركة وطبيعة أهل الكتاب فيها: ويغفلون عن التوجيهات القرآنية الواضحة الصريحة فيها، فهم يخلطون بين دعوة الإسلام إلى السماحة في معاملة أهل الكتاب والبر بهم في المجتمع المسلم الذي يعيشون فيه وبين الولاء الذي لا يكون إلا لله ولرسوله وللجماعة المسلمة، ناسين ما يقرره القرآن من أن أهل الكتاب بعضهم أولياء بعض في حرب الجماعة المسلمة، وأن هذا شأن ثابت لهم، وأنهم ينقمون من المسلم إسلامه، ولن يرضوا عن المسلم إلا أن يترك دينه ويتبع دينهم.

وسذاجة أية سذاجة، وغفلة أية غفلة أن تظن أن لنا وإياهم طريقاً واحداً نسلكه للتمكين للدين! أمام الكفار والملحدين! فهم مع الكفار والملحدين إذا كانت المعركة ضد المسلمين!

يقول السذج: إننا نستطيع أن نضع أيدينا في أيدي أهل الكتاب للوقوف في وجه المادية والإلحاد – بوصفنا جميعاً أهل دين! ناسين تعليم القرآن كله.وناسين تعليم التاريخ كله.

فأهل الكتاب هؤلاء هم الذين كانوا يقولون للذين كفروا من المشركين

{هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً { [سورة النساء:51].

وهم الذين ألبوا المشركين على المسلمين في المدينة وكانوا لهم درعاً وردءاً.

وأهل الكتاب هم الذين شنوا الحروب الصليبية خلال مائتي عام. وهم الذين ارتكبوا فظائع الأندلس، وهم الذين شردوا المسلمين في فلسطين وأحلوا اليهود محلهم، متعاونين في هذا مع الإلحاد والمادية!

وأهل الكتاب هم الذين يشردون المسلمين في كل مكان في الحبشة

351

والصومال وأرتيريا وغيرها حيث يتعاونون في هذا التشريد مع الإلحاد والمادية والوثنية في يوغسلافيا والصين والتركستان والهند وفي كل مكان!

إن هؤلاء الذين يظنون – وهم واهمون – أنه يمكن أن يقوم بيننا وبين أهل الكتاب هؤلاء ولاء وتناصر ندفع به المادية الإلحادية عن الدين: لا يقرأون القرآن، وإذا قرأوه اختلطت عليهم دعوة السماحة التي هي طابع الإسلام فظنوها دعوة الولاء الذي يحذر منه القرآن. ومن هنا يحاولون تمييع المفاصلة الحاسمة بين المسلمين وأهل الكتاب، باسم التسامح والتقريب بين أهل الأديان السماوية. فكما أنهم مخطئون في فهم الأديان هم أيضاً مخطئون في فهم معنى التسامح.

إن الدين الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الدين عند الله. والتسامح يكون في المعاملات الشخصية، لا في التصور الاعتقادي ولا في النظام الاجتماعي. أما هؤلاء، فيحاولون تمييع اليقين الجازم في نفس المسلم الذي يقرر أن الله لا يقبل ديناً إلا الإسلام، وأن على المسلم أن يحقق منهج الله الممثل في الإسلام ولا يقبل دونه بديلاً، ولا يقبل فيه تعديلاً – ولو طفيفاً – قال تعالى:

{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ { [سورة آل عمران: 19].

{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ{ [سورة آل عمران: 85].

والإسلام قد جاء ليصحح اعتقادات أهل الكتاب كما جاء ليصحح اعتقادات المشركين والوثنيين سواء، ودعاهم إلى الإسلام جميعاً لأن هو "الدين" الذي لا يقبل الله غيره من الناس جميعاً..والمسلم مكلف أن يدعو أهل الكتاب إلى الإسلام، كما يدعو الملحدين والوثنيين سواء، وهو غير مأذون في أن يكره أحد من هؤلاء ولا هؤلاء على الإسلام، لأن العقائد لا تنشأ في الضمائر بالإكراه، فالإكراه في الدين فوق أنه منهي عنه، هو كذلك لا ثمرة له (191).

ص352

الفرق بين الموالاة والمعاملة بالحسنى

قلنا قبل قليل أن الولاء شيء والمعاملة بالحسنى شيء آخر والأصل في هذا قوله تعالى:

{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ{[سورة الممتحنة:8].

وقد اختلف أهل العلم في تفسيرها فقال بعضهم أن المعني بها: الذين كانوا آمنوا بمكة ولم يهاجروا فأذن الله للمؤمنين ببرهم والإحسان إليهم وإلى هذا ذهب مجاهد.

وقال آخرون: عني بها من غير أهل مكة من لم يهاجر.

وقال آخرون: بل عني بها من مشركي مكة من لم يقاتل المؤمنين ولم يخرجوهم من ديارهم ونسخ الله ذلك بعد بالأمر بقتالهم. ويروى هذا عن قتادة (192).

ورجح ابن جرير: أن أولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عني بذلك: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم. لأن الله عز وجل عم بقوله: [الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم]. جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضاً دون بعض، ولا معنى لقوله من قال: ذلك منسوخ. لأن بر المؤمن أحداً من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن

ص353

لا قرابة بينهما ولا نسب غير محرم، ولا منهي عنه إذا لم يكن في ذلك دلاله له أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح.

ويبين ذلك الخبر المروي عن ابن الزبير في قصة أسماء مع أمها (193). والإسلام بفعله هذا – حتى في حالة الخصومة – يستبقي أسباب الود في النفوس بنظافة السلوك، وعدالة المعاملة انتظاراً لليوم الذي يقتنع فيه خصومه بأن الخير في أن ينضووا تحت لوائه الرفيع (194).

وقد سبق الحديث في أول هذا البحث: أن الله أمر بصلة الأقارب الكفار والمشركين وأن ذلك ليس موالاة لهم في شيء.

ونزيد هذا الأمر إيضاحاً بقصة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها مع أمها فقد روى البخاري ومسلم عن أسماء رضي الله عنها قالت – قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصل أمي؟ قال: [نعم صلي أمك] (195).

قال الخطابي: فيه – أي الحديث – أن الرحم الكافرة توصل من المال ونحوه كما توصل المسلمة ويستنبط منه وجوب نفقة الأب الكافر والأم الكافرة وإن كان الولد مسلماً (196).

قال ابن حجر: البر والصلة والإحسان لا يستلزم التحابب والتوادد المنهي عنه في قوله تعالى:

{لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ { [سورة المجادلة: 22].

ص354

فإنها عامة في حق من قاتل ومن لم يقاتل (197).

وقال ابن القيم: الذي يقوم عليه الدليل وجوب الإنفاق، وإن اختلف الدينان لقوله تعالى:

{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا { [سورة لقمان: 14 –15].

وليس من الإحسان ولا من المعروف ترك أبيه وأمه في غاية الضرورة والفاقة وهو في غاية الغنى. وقد ذم الله قاطعي الرحم وعظم قطيعتها وأوجب حقها وإن كانت كافرة لقوله تعالى:

{وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ { [سورة النساء: 1].

وقي الحديث " لا يدخل الجنة قاطع رحم " (198).

وصلة الرحم واجبة، وإن كانت لكافر، فله دينه وللواصل دينه وقياس النفقة على الميراث قياس فاسد، فإن الميراث مبناه على النصرة والموالاة بخلاف النفقة فإنها صلة ومواساة من حقوق القرابة.

ص255

وقد جعل الله للقرابة حقاً – وإن كانت كافرة – فالكفر لا يسقط حقوقها في الدنيا. قال تعالى:

{وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ{[سورة النساء: 36].

وكل من ذكر في هذه الآية فحقه واجب وإن كان كافراً، فما بال ذي القربى وحده يخرج من جملة من وصى الله بالإحسان إليه (199)؟

من هنا: يتضح لنا: أن الموالاة الممثلة في الحب والنصرة شيء. والنفقة والصلة والإحسان للأقارب الكفار شيء آخر. وسماحة الإسلام أيضاً تتضح في معاملة الأسرى والشيوخ والأطفال والنساء في الحرب. كما هو معلوم من صفحاته المشرقة.

ص356

(19) الفتاوى السعدية للشيخ عبد الرحمن بن سعدي (1/92) الطبعة الأولى سنة 1388 هـ دار الحياة بدمشق .

(20) المصدر السابق : (1/92) .

(21) سبق تخريجه .

(22) سبق تخريجه .

(23) المسند (4/99) أبي داود (3/7 ح 2479) كتاب الجهاد والدارمي (2/239) كتاب السير وقال الألباني : صحيح . انظر صحيح الجامع الصغير (6/186 ح 7346) .

(24) المصدر السابق

(25) انظر : الإسلام وأوضاعنا القانونية للأستاذ عبد القادر عودة (ص81) .

(26) " أحكام القرآن " للجصاص (ج 3/216) .

* كذا بالأصل والذي يظهر لي أن الصواب : مجاهراً لأن الكافر لا يسمى مجاهداً .

(27) " أحكام القرآن " للجصاص (ج 3/216) .

(28) هو الشيخ المحقق حمد بن علي بن محمد بن عتيق ولد سنة 1227 هـ بالزلفى وحفظ القرآن ، وكانت له همة وعلو نفس سمت به إلى معالي الأمور : تتلمذ على الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ صاحب كتاب فتح المجيد ولازمه . ولازم أيضاً غيره من العلماء . وجد واجتهد حتى صار من كبار العلماء . عين قاضياً في الخرج ثم الأفلاج ومن مؤلفاته إبطال التنديد شرح كتاب التوحيد . والنجاة والفكاك والدفاع عن أهل السنة والاتباع . والفرق المبين بين السلف وابن سبعين . وغير ذلك وتوفي سنة 1301 هـ عن عمر يناهز السبعين ورثاه تلميذه سليمان بن سحمان بقصيدة منها :

يعز علينا أن نرى اليوم مثله لحل عويص المشكلات البوادر

انظر ترجمته في كتاب علماء نجد خلال ستة قرون للبسام (1/229) .

(29) اسمها : الدفاع عن أهل السنة والاتباع : نشرها حفيده إسماعيل بن سعد بن عتيق بدون تاريخ .

(30) الدفاع لابن عتيق (10-12) والحديث سبق تخريجه .

(31) قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (ص200) إسناده صحيح .

(32) الدفاع (10 – 12) .

(33) انظر تفسير ابن كثير (2/343) . والدفاع لابن عتيق : 13 .

(34) صحيح البخاري (8/262 ح 4596) كتاب التفسير .

(35) الدفاع لابن عتيق (ص13 – 14) وانظر : بيان النجاة والفكاك له أيضاً من (70 – 72) .

(36) هو مجاعة بن مروان بن سلمي الحنفي اليمامي . وكان من رؤساء بني حنيفة وكان ممن أسر يوم اليمامة . وكان بليغاً حكيماً . ومن حكمه قال لأبي بكر الصديق : إذا كان الرأي عند من لا يقبل منه ، والسلاح عند من لا يقاتل به ، والمال عند من لا ينفقه ضاعت الأمور الإصابة (3/362) .

(37) هو ثمامة بن أثال بن النعمان بن سلمة الحنفي أبو أمامة اليمامي ، حديثه في البخاري حين أسر ثم أسلم قال ابن اسحاق إن ثمامة ثبت على إسلامه لما ارتد أهل اليمامة وارتحل هو ومن أطاعة من قومه فلحقوا بالعلاء بن الحضرمي فقاتل معه المرتدين من أهل البحرين الإصابة (1/203) .

(38) الدفاع (ص 16) والقصة المذكورة هنا أوردها المؤلف في كتابه (النجاة والفكاك) حيث قال : لما سار خالد إلى اليمامة لقتال المرتدين بعث قبله مائتي فارس ، وقال من أصبتم من الناس فخذوه فأخذوا (مجاعة) في ثلاثة وعشرين رجلاً من قومه فلما وصلوا إلى خالد فقال له : يا خالد : لقد علمت أني قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فبايعته على الإسلام وأنا اليوم على ما كنت عليه أمس ، فإن يك كاذباً قد خرج فينا فإن الله يقول : (ولا تزر وازرة وزر أخرى) فقال خالد : يا مجاعة تركت اليوم ما كنت عليه أمس وكان رضاك بأمر هذا الكذاب وسكوتك ، عنه وأنت أعز أهل اليمامة وقد بلغك مسيري – إقرار له ورضاء بما جاء به فهلا أبديت عذراً وتكلمت فيمن تكلم ؟ فقد تكلم ثمامة فرد وأنكر ، وتكلم اليشكري : فإن قلت : أخاف قومي . فهلا عمدت إلي أو بعثت إلي رسولاً ؟ فقال : إن رأيت يا بن المغيرة أن تعفو عن هذا كله ؟ فقال خالد : قد عفوت عن دمك ، ولكن في نفسي حرج من تركك .

بيان النجاة والفكاك (ص 68- 70) .

(39) ابن كثير (2/343) .

(40) الدفاع (ص16) وما ذكره الشيخ حمد هنا موافق تماماً لإجابة الشيخين حسين وعبد الله ابني محمد بن عبد الوهاب حين سئلا في هذا الموضوع انظر مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (1/39) الطبعة الأولى سنة 1346 هـ مطبعة المنار بمصر .

(41) شرح السنة للبغوي : (10/246) .

(42) هكذا في النص الذي في الجامع الفريد ولكنني بحثت عنه في المسند فلم أجده .

(43) انظر الجامع الفريد (ص 382) الطبعة الثانية .

(44) من هؤلاء الكتاب : الأستاذ الدكتور محمد محمد حسين في كتبه القيمة (الاتجاهات الوطنية) و لطفي الصباغ بعنوان (الابتعاث ومخاطره) نشره المكتب الإسلامي فلتراجع أمثال هذه المؤلفات بخصوص ما ذكرنا .

(45) انظر فتح الباري (1/16) .

(46) انظر الدفاع لابن عتيق (18- 19) وقصة ورقة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابن هشام (1/254) .

(47) الرسالة التبوكية لابن القيم (14-18) الطبعة الثانية سنة 1394 هـ المطبعة السلفية بمصر .

(48) هو الإمام حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب من ولد زيد بن الخطاب . يكنى أبا سليمان .

كان محدثاً فقيهاً وأديباً شاعراً لغوياً ومن تلاميذه الحاكم النيسابوري . ولد سنة 319 هـ في بلدة بست من بلاد كابل وتوفي فيها سنة 388 هـ انظر مقدمة معالم السنن المطبوع مع سنن أبي داود (1/11) والأعلام للزركلي (2/273) الطبعة الرابعة .

(49) سبق تخريجه في أول هذا الفصل .

(50) صحيح البخاري كتاب الجهاد باب وجوب النفير (6/37 ح 2825) .

(51) معالم السنن للخطابي : (3/352) تحقيق أحمد شاكر ومحمد حامد الفقي وانظر الناسخ والمنسوخ للحازمي (ص207) .

(52) سبق تخريجه .

(53) تفسير ابن كثير (ج4/40) .

(54) الحديث في مسند أحمد (5/352) وفي صحيح مسلم (3/1527 هـ ح 1731) كتاب الجهاد .

(55) أحكام القرآن لابن العربي (1/484) وانظر شرح النووي على مسلم (13/8) وتفسير القرطبي (5/308) .

(56) مجاشع بن مسعود بن ثعلبة السلمي . قال البخاري وغيره له صحبة ، وروى عنه أبو عثمان النهدي وغيره . وقتل يوم الجمل . الإصابة (3/362) والمعارف لابن قتيبة 331 .

(57) صحيح البخاري كتاب الجهاد ، باب لا هجرة بعد الفتح (6/189 ح 3079) وصحيح مسلم (3/1488 ح 1864) كتاب الإمارة .

(58) أحكام القرآن لابن العربي (1/484 ، 485) .

59 أحكام القرآن لابن العربي (ج 1/484، 485).

(60) مجموع فتاوى ابن تيمية (18/284) .

(61) أحكام القرآن لابن العربي (1/485) .

(62) المصدر السابق (1/485) وحديث العرنيين في صحيح البخاري (10/142 ح 5686) كتاب الطب وصحيح مسلم (3/1296 ح 1671) كتاب القسامة أما حديث الطاعون ففي البخاري - كتاب الطب وصحيح مسلم (ج 4/1741 ، ح 2219) كتاب السلام ، ونصه :إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها " .

(63) أحكام القرآن(1/486) .

(64) صحيح البخاري كتاب بدء الوحي (1/9 ح 1) وصحيح مسلم (3/1515 ح 1907) كتاب الإمارة .

(65) فتح الباري لابن حجر (6/3) .

(16) فتح الباري لابن حجر 6/3.

(67) سبق تخريجه .

(68) انظر تفسير (لا إكراه في الدين) في ابن كثير (1/459) وانظر فصل الجهاد في معالم في الطريق (ص74) .

(69) انظر طريق الدعوة (1/288 – 289) .

(70) مدارج السالكين (2/196) .

(71) السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية (ص118)طبع الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة سنة 1389 هـ .

(72) صحيح البخاري باب درجات المجاهدين في سبيل الله (6/11 ح 2790)كتاب الجهاد .

(73) صحيح البخاري (6/29 ح 2811) كتاب الجهاد .

(74) صحيح البخاري (6/4 ح 2785) كتاب الجهاد .

(75) سنن أبي داود كتاب الجهاد (3/12 ح 2486) ومستدرك الحاكم (2/73) وسنده حسن . انظر مشكاة المصابيح (1/225 ح 724) .

(76) سنن الترمذي : أبواب الإيمان (7/281 ح 2619) وابن ماجه (2/1314 ح 3973) وقال الألباني : حديث صحيح . انظر صحيح الجامع (5/30 ح 5012) .

(77) البخاري (6/13 ح 2792) كتاب الجهاد وصحيح مسلم (3/1499 ح 1880) كتاب الإمارة .

(78) طريق الدعوة (1/303 – 304) .

(79) هو عمير بن الحمام بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن سلمة الأنصاري السلمي : ذكره موسى بن عقبة وغيره فيمن شهد بدراً . وهو أول قتيل قتل في سبيل الله في الحرب . وانظر ترجمته في الإصابة (3/31) .

(80) مسند أحمد (3/137) وصحيح مسلم (3/1509 ح 1899) كتاب الإمارة بدون ذكر الأبيات وانظر فقه السيرة للشيخ الغزالي (ص244) .

(81) الإصابة لابن حجر (1/360) وانظر فقه السيرة للغزالي 272 .

(82) انظر مزيداً من تلك البطولات في ماذا خسر العالم للندوي (ص 104 – 108) .

(83) راجع ص 217 .

(84) هو حاطب بن أبي بلتعة اللخمي ، حليف قريش ، وقيل هو حليف للزبير بن العوام . شهد بدراً والحديبية ومات سنة ثلاثين بالمدينة وهو ابن خمس وستين سنة وصلى عليه عثمان رضي الله عنهم وقد شهد الله لحاطب بالإيمان في سورة الممتحنة . بعثه رسول صلى الله عليه وسلم سنة ست من الهجرة إلى المقوقس صاحب مصر والإسكندرية فأتاه من عنده بهدايا منها مارية القبطية . انظر الاستيعاب (1/348) والإصابة (1/300) .

(85) تفسير الطبري (28/61) .

(86) صحيح البخاري كتاب التفسير تفسير سورة الممتحنة (8/633 ح 4890) .

(87) زاد المعاد (3/422) بتصرف بسيط .

(88) *الأطباء يسمون التغير الذي يحدث للعليل دفعة واحدة في الأمراض الحادة : بحرانا انظر حاشية (ص425 ج 3) زاد المعاد .

**القلبة : الداء والتعب . انظر مادة قلب في القاموس المحيط .

[5] ذو الخويصرة التميمي ذكره ابن الأثير في الصحابة مستدركاً على من قبله ولم يورد في ترجمته سوى ما أخرجه البخاري كتاب المناقب (6/617 ح 3610) ومسلم في الزكاة (2/740 ح1063) من حديث أبي سعيد قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم ذات يوم قسماً فقال ذو الخويصرة رجل من بني تميم يا رسول الله : اعدل فقال : (ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل) الحديث انظر الإصابة لابن حجر (1/485) .

(89) سبق تخريجه .

(90) صحيح البخاري كتاب المناقب باب علامات النبوة (6/618 ح 3611) وصحيح مسلم (2/746 ح 1066) كتاب الزكاة .

(91) بتصرف . زاد المعاد (3/424 – 427) .

(92) زاد المعاد (3/114) وانظر أقضية الرسول صلى الله عليه وسلم لابن فرج المكي (ص25) .

(93) إرشاد الطالب للشيخ سليمان بن سحمان (ص15) .

(94) صحيح البخاري كتاب الجهاد باب الحربي إذا دخل دار الإسلام بغير أمان (6/168 ح 3051) وأبي داود في الجهاد (3/112 ح 2653) .

(95) إعلام الموقعين لابن القيم (1/136) وانظر اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (ص25) .

(96) اقتضاء الصراط المستقيم (ص25) .

(97) شرح السنة للبغوي (1/171) .

(98) انظر التحفة العراقية لابن تيمية (ص 38) .

(99) ملحق مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهاب (ص87) طبعة جامعة الإمام .

(100) قطر الولي للشوكاني (ص259) .

(101) بدائع الفوائد (2/274 – 275) .

(102) الترياق : بكسر التاء : دواء السموم وهو فارسي معرب . مختار الصحاح (ص91) .

(103) أبو داود (4/669 ح 4530) كتاب الديات والنسائي في القسامة (8/20) وإسناده حسن .

(104) إعلام الموقعين لابن القيم (4/405) .

(105) أبو داود (4/512 ح 341) كتاب الملاحم والترمذي في التفسير (ح 3060) وقال : حديث حسن غريب وابن ماجة (2/1331 ح 4014) وانظر جامع الأصول (10/3 ح 7453) . وقال الألباني : ضعيف ولبعضه شواهد انظر مشكاة المصابيح (3/1423) .

(106) انظر الدرر السنية في الأجوبة النجدية (7/41) .

(107) تفسير سورة النور لابن تيمية (ص 55) الطبعة الأولى / 1397 هـ والحديث في صحيح مسلم (1/69 ح 49) كتاب الإيمان .

(108) صحيح البخاري كتاب الإيمان باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده (ج 1/53 ح 10) .

(109) سيرد حديثهم إن شاء الله في الباب الأخير عند الحديث عن كعب بن مالك وهو أحدهم .

(110) انظر مجموع الفتاوى (ج 28/203-207)

(111) المصدر السابق (28/208)

(112) شرح السنة للبغوي (1/229) .

(113) الاعتصام للشاطبي (2/53) .

(114) التنبيه والرد للملطي (ص85) ومعنى العتيق : أي القديم الأول .

(115) المصدر السابق (ص 84) .

(116) الاعتقاد على مذهب السلف للبيهقي (ص 118) .

(117) العبودية لابن تيمية (ص70)

(118) الاعتقاد للبيهقي (ص 118) .

(119) سنن الدارمي في كتاب العلم باب كراهية الأخذ بالرأي (ج 1/69) . قال السخاوي : وأخرجه الديلمي في مسنده . انظر المقاصد الحسنة (ص 16) .

(120) أحكام أهل الذمة (1/69)

(121) الظلال (6/3546) .

(122) تفسير كلام المنان لابن سعدي (1/274) .

(123) الحديث في صحيح البخاري كتاب الطلاق باب قول الله تعالى (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) . عن نافع أن ابن عمر كان إذا سئل عن نكاح النصرانية واليهودية قال : إن الله حرم المشركات على المؤمنين ولا أعلم من الإشراك شيئاً أكبر من أن تقول المرأة ربها عيسى وهو عبد من عباد الله . (9/416 ح 5385) .

(124) دقائق التفسير لابن تيمية (1/258 – 260) تحقيق وجمع د . محمد السيد الجليند . الناشر دار الأنصار .

(125) انظر على سبيل المثال . المغني لابن قدامة (7/129) .

(126) صحيح البخاري : (12/50 ح 6764) كتاب الفرائض وصحيح مسلم في الفرائض (3/1233 ح 1614) .

(127) فتح الباري (12/50) .

(128) شرح السنة (8/364) .

(129) شرح السنة (8/365) .

(131) سيرد تخريجه بعد قليل

(132) الإسلام على مفترق الطرق . ترجمة د. عمر فروخ (ص 81 – 83) الطبعة الثامنة سنة 1974م دار العلم للملايين .

(133) بتصرف : اقتضاء الصراط المستقيم : 220

(134) اقتضاء الصراط المستقيم بتصرف من (ص 219-222) .

(135) اقتضاء الصراط المستقيم (ص14) .

(136) المصدر السابق (ص15) .

(137) نفس المصدر (ص16) .

(138) انظر نفس المصدر (ص16) .

(139) سنن أبي داود كتاب اللباس (4/314 ح 4031) ومسند أحمد (7/142 ح 5114) وقال الشيخ أحمد شاكر إسناده صحيح وقال الألباني : صحيح انظر صحيح الجامع (5/270 ح 6025) .

(140) اقتضاء الصراط المستقيم (ص83) والأثر سبق تخريجه .

(141) اقتضاء الصراط المستقيم (ص 82 – 83) .

(142) سبق تخريجه .

(143) صحيح مسلم (4/2285 ح 2981) .

(144) مسند أحمد (5/218) إسناد صحيح ورجاله رجال الصحيح

(145) اقتضاء الصراط المستقيم (ص 314) .

(146) صحيح البخاري كتاب الأنبياء باب نزول عيسى (6/496 ح 3462) وصحيح مسلم (3/1663 ح 2103) كتاب اللباس .

(147) سنن أبي داود (1/427 ح 652) كتاب الصلاة وقال الألباني : صحيح . انظر صحيح الجامع (3/106 ح 3205) .

(148) سنن الترمذي (ح 7/335 ح 2696) وقال : إسناده ضعيف . ولكن الألباني حسنه . انظر صحيح الجامع (5/101 ح 5310) .

(149) إعلام الموقعين لابن القيم (ج3/140) .

(150) اقتضاء الصراط المستقيم (ص 176-177) .

(151) الجواب الكافي (ص 167) .

(152) انظر بدائع الفوائد (2/262) .

(153) ذكرها شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم من (178 – 179) .

(154) اقتضاء الصراط المستقيم (11-12) .

(155) نفس المصدر (ص12) .

(156) أفاض شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا الموضوع بما يكفي ويشفي في كتابه القيم اقتضاء الصراط المستقيم . ولذا فما أذكره هنا مقتبس من كلامه رحمه الله

(157) المصدر السابق (ص181) .

(158) كتاب الصلاة / 675 ح 134 وانظر اقتضاء الصراط المستقيم ص 184

(159) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (ص 184 – 186) .

(160) نفس المصدر (ص 182 ، 199) .

(161) نفس المصدر (ص 208) .

(162) المصدر السابق (ص 209) .

(163) المصدر السابق (ص 216) ..

(164) صحيح البخاري (13/111 ح 7138) كتاب الأحكام وصحيح مسلم (3/1459 ح 1829) كتاب الإمارة .

(165) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (122 – 124) .

(166) القلاية : مبنى يبنيه النصارى كالمنارة ولا تكون إلا لواحد ينفرد فيها بنفسه ولا يكون لها باب ، بل فيها طاقة يتناول منها طعامه وشرابه وما يحتاج إليه . انظر أحكام أهل الذمة (2/668) .

(167) أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/661 – 662) .

(168) أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/663) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (ص12).

(169) انظر : الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية (5-26) .

(170) المصدر السابق : والمراد بالاعتبار : القياس

(171) سنن أبي داود (4/530ح 4362) كتاب الحدود ، والدار قطني في الحدود (3/112 ح 102) قال الحافظ في بلوغ المرام رواته ثقات انظر التعليق ((المغني)) (3/112) .

(172) الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص61) .

(173) أبو داود (4/528 ح 4361) والنسائي في باب حكم من سب النبي (ج 7/108) وإسناده حسن

(174) صحيح البخاري (7/336 ح 4037) كتاب المغازي ومسلم في الجهاد (ج 2/1425 ح 1801) .

(175) المهاجر بن أبي أمية بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي أخو أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قال الزبير : شهد بدراً مع المشركين ولاه رسول الله على صدقات صنعاء ، ثم ولاه أبو بكر ، الإصابة (3/465) .

(176) انظر الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص 200) .

(177) عوف بن مالك الأشجعي قال الواقدي أسلم عام خيبر ونزل حمص ، وقال غيره شهد الفتح وكانت معه راية أشجع ، قال ابن سعد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي الدرداء ومات سنة 73 في خلافة عبدالملك . الإصابة (3/43) .

(178) الأموال لأبي عبيد (ص 235 – 236) .

(179) الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص 206 – 209) .

(180) صحيح البخاري كتاب الإكراه (ج 12/317 ح 6944) وصحيح مسلم في الجهاد (ج3/1387 ح 1765) .

(181) صحيح البخاري كتاب الجهاد (ج6/170 ح 3053) وصحيح مسلم في (3/1258 ح 1637) كتاب الوصية

(182) كتاب الجهاد (3/1388 ح 1767) صحيح مسلم.

(183) أحكام أهل الذمة (1/184) وقارن بالأموال لأبي عبيد (ص90) .

(184) أحكام أهل الذمة (1/185) .

(185) المصدر السابق (ج1/188) .

(186) المصدر السابق (ج1/189) .

(187) نقلاً عن آثار الحرب في الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزجيلي (ص63) الطبعة الثانية / سنة 1385 هـ وهذا الرجل دعا إلى أكثر من ذلك في تفسيره لبعض آيات القرآن . وتكلم بكلام لا يقره العامي الموحد فضلاً عن طالب العلم والعلماء !!

(188) العلاقات الدولية في الإسلام (ص42) الناشر الدار القومية للطباعة سنة 1384 هـ .

(189) آثار الحرب (ص65) .

(190) خاطرت جمال الدين الأفغاني / اختبار عبدالعزيز سيد الأهل (ص14) وانظر (ص 158) الناشر دار حراء بالقاهرة .

(191) بتصرف : انظر في ظلال القرآن (ج 2/909 – 915) .

(192) تفسير الطبري (28/66) .

(193) تفسير الطبري (28/66) .

(194) انظر الظلال (6/3544) .

(195) صحيح البخاري كتاب الهبة باب الهدية للمشركين (5/233 ح 2620) وصحيح مسلم (2/696 ح 1003) كتاب الزكاة .

(196) فتح الباري (5/234) .

(197) فتح الباري (5/233) .

(198) صحيح البخاري كتاب الأدب باب إثم القاطع (10/415 ح 5984) وصحيح مسلم في (4/1981 ح 2556) كتاب البر والصلة ويلاحظ هنا : أن النكرة وقعت في سياق النفي فتعم .

(199) أحكام أهل الذمة (2/417 – 418) .