المجلد الثانى: الجماعات اليهودية.. إشكاليات 12

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

2 ـ ويُلاحَظ أن الهجرة اليهودية في العالم، منذ نهاية القرن الماضي، تتجه من بلاد متخلفة مثل روسيا إلى بلاد متقدمة تتبع الاقتصاد الحر مثل الولايات المتحدة وغيرها من البلاد الاستيطانية (أستراليا وكندا وجنوب أفريقيا). ومن هنا يمكن تفسير خروج يهود كوبا.

3 ـ كما يُلاحَظ أن دول العالم الثالث، التي تخرج عن المسار الغربي، تمارس نوعاً من التضامن فيما بينها، وبالتالي فهي تأخذ موقفاً متعاطفاً من الدول العربية ومن منظمة التحرير الفلسطينية ومن كفاح الشعب الفلسطيني ضد الاستعمار الغربي والصهيوني. وقد نجحت المنظمة من جانبها في أن تقيم علاقات مع الحركات الثورية في الأرجنتين ونيكاراجوا واليابان، وهو ما يخلق خطاباً سياسياً يولد إحسـاسـاً بعـدم الأمن لدى أعضاء الجماعات اليهودية فتهاجر أعداد منهم، وتقع كوبا داخل هذا النمط . ومن المعروف أن نظام كاسترو بذل جهوداً غير عادية للدفاع عن حقوق المواطنين اليهود في كوبا، ولتيسير السبل لهم للتعبير عن هويتهم الدينية، وهذا يبين مدى تهافت فكرة كره اليهود.

وإذا قبلنا المقولة السابقة، فمن الممكن إعادة تفسير خروج اليهود من بعض البلاد العربية، مثل مصر وسوريا والجزائر، لا باعتباره طرداً وإنما باعتباره اتجاهاً ينتمي إلى الظاهرة نفسها، أي ظهور حكـومات قـومية محلية تستولي على الحكم وتعادي الاستعمار. والواقع أن ظهور مثل هذه الحكومات يجىء عادةً تعبيراً عن ظهور قوى محلية تشـارك بشـكل أكثر نشـاطاً في الاقتصاد الوطني، وهو ما نجم عنه تأميم (تمصير وتعريب) بعض القطاعات التي كان يتركز فيها أعضاء الجماعات الوظيفية الوسيطة (اليهود، واليونانيون، والإيطاليون). كما أن كثيراً من الدول العربية دخلت في صراع ضد الاستعمار الغربي وضد الدولة الصهيونية حليفته الأساسية في المنطقة، الأمر الذي خلق توتراً شديداً بين الأغلبية وأعضاء الجماعة اليهودية الذين تدَّعي الدولة الصهيونية تمثيلهم. وفي بعض الأحيان، كان أعضاء الجماعة اليهودية يتعاونون مع الدولة الصهيونية ـ كما حدث في حادثة لافون ـ كما أن الأغلبية العظمى من يهود العالم العربي، جاءوا إما من العالم الغربي (أساساً) مع الموجة الاستعمارية أو حصلوا على جوازات غربية للاستفادة من قوانين الامتيازات، ليلعبوا دور الجماعة الوسيطة بين الاستعمار والسكان المحليين. ومع تراجُع الاستعمار، كان لابد لهذه الجماعات (مثل اليونانيين والإيطاليين) أن يخرجوا معه. كما أن الدولة الصهيونية، بالقياس إلى كثير من دول العالم، تتمتع باقتصاد متقدم توجد فيه فرص كثيرة للنشاطات الاقتصادية المرتبطة بالاقتصاد الحر، وبالتالي فهي تمثل نقطة جذب بالنسبة إلى يهود العالم العربي، تماماً كما تمثل الولايات المتحدة نقطة جذب بالنسبة إلى اليهود الروس (ولذا، فهم لا يهاجرون إلى إسرائيل التي لا يمكنها أن تحقق لهم حراكاً اجتماعياً مماثلاً). والواقع أن خروج اليهود من البلاد العربية هو جزء من حركية مركبة ولا يمكن أن يُسمَّى «طرداً» ببساطة وآلية.

أما يهود العراق، فإن الأوضاع نفسها السابقة تنطبق عليهم، إلى جانب قيام العملاء الصهاينة بارتكاب أعمال تخريبية لإجبارهم على الهجرة . وقد نجحت المنظمةالصهيونية، بسعيها الحثيث، في تهجير يهود اليمن. ولا يمكن أن نعتبر كل هذه العمليات عمليات طرد!

تدنيس خبز القربان المقدَّس

Desecration of the Host

«تدنيس خبز القربان المقدَّس» عبارة تعني اتهام اليهود بأنهم لم يندموا على قيامهم بصلب المسيح (عيسى بن مريم) بل ويدنسون خبز القربان (الذي يتحول إلى جسدالمسيح في القداس المسيحي) فيدوسونه بأقدامهم ثم يضربونه بوخزه وطعنه حتى يجددوا عذاب المسيح. كما تعني اتهام اليهود بالحصول على هذا الخبز عن طريق سرقته. وقد شاع هذا الاتهام في أوائل القرن الثالث عشر بعد أن اعترف المجمع اللاتراني الرابع عام 1215 بمبدأ تحوُّل خبز القربان وخمره إلى جسد المسيح ودمه. والاتهام مضحك وسخيف، فهو يفترض أن اليهود يؤمنون بمبدأ تحوُّل خبز القربان، وهو أمر بطبيعة الحال مستحيل. ولكن من منظور عنصري، لا يُعَدُّ عدم الاتساق أمراً مهماً، بل إن عدم الاتساق ذاته قد يُوظَّف لتأكيد صورة اليهودي لا من حيث هو منكر للمسيح وإنما من حيث هو شخص يؤمن فعلاً بالمسيح بل ويرى بنفسه ألوهيته ولكنه، مع هذا، ينكره ويتمادى في تعذيبه بعد أن قام بصلبه.

وتهمة تدنيس خبز القربان، مثل تهمة الدم والتهم الأخرى التي تعبِّر عن معاداة اليهود، هي نتاج الوجدان الشعبي في لحظات إحباطه وحيرته. فالجماهير البائسة لم تكن تفهم مصدر بؤسها، فكانت تفسره على أساس أنه من صنع اليهود الأشرار أعداء المسيح، خصوصاً وأن هؤلاء الأشرار كانوا أيضاً يشتغلون بالتجارة والربا، كما كانوا قريبين من النخبة الحاكمة التي تستخدمها كأدوات لها.

تهمـة الــدم

Blood Libel

«تهمة الدم» هي اتهام اليهود بأنهم يقتلون صبياً مسيحياً في عيد الفصح سخرية واستهزاء من صلب المسيح. ونظراً لأن عيدي الفصح المسيحي واليهودي قريبان، فقد تطورت التهمة وأصبح الاعتقاد أن اليهود يستعملون دماء ضحيتهم في شعائرهم الدينية وفي أعيادهم، وبخاصة في عيد الفصح اليهودي، حيث أُشيع أن خبز الفطير غير المخمر (ماتزوت) الذي يُؤكل فيه يُعجَن بهـذه الدمـاء. وقد تطـورت الإشاعة، فكان يُقال إن اليهود يُصَفّون دم ضحاياهم لأسباب طبية أو لاستخدامه في علاج الجروح الناجمة عن عملية الختان، بل و لاستخدامه كمنشط جنسي.

وتمتد جذور تهمة الدم إلى عصر اليونان والرومان، أي إلى ما قبل العصور المسيحية، فقد أتى في كتابات كلٍّ من الكاتبين اليونانيين آبيون (السكندري) وديموقريطس إشارة إلى أن اليهود يقدمون ضحايا بشرية إلى آلهتهم. ولكن هذا الادعاء لم يصبح جزءاً من الصورة الإدراكية العامة في الوجدان الغربي لليهود، ولم تُوجَّه هذه التهمة إليهم بشكل متكرر إلا في العصور الوسطى.

وقد وُجِّهت أول تهمة دم لأعضاء الجماعات اليهودية في إنجلترا في القرن الثاني عشر، في وقت كانوا يمارسون فيه نشاطهم التجاري والمالي والربوي، وهو ما كان يعني أن هناك أفراداً كثيرين اقترضوا أمولاً من المرابي اليهودي ولم ينجحوا في تسديدها وأن ملكية بعض أراضيهم أو ربما منازلهم قد آلت إليه. ففي عام 1144، اتُهم أعضاء الجماعة اليهودية في نورويتش بأنهم ذبحوا طفلاً يُدعَى ويليام عمره أربعة أعوام ونصف في الجمعة الحزينة (وقد نُصِّب قديساً فيما بعد). كما ذكر أحد اليهود المتنصرين أن من المعتاد أن تقوم إحدى الجماعات اليهودية في إحدى مدن أوربا بذبح طفل مسيحي في يوم عيد الفصح المسيحي (إيستر) الذي يقع عادةً في التاريخ نفسه الذي يقع فيه عيد الفصح اليهودي (بيساح). ثم وُجِّهت تهم دم أخرى في مناطق مختلفة من إنجلترا بين عامي 1168 و1192. أما في فرنسا، فقد وُجِّهت التهمة إلى الجماعة اليهودية في بلوا عام 1171. كما وُجِّهت خمس عشرة مرة في القرن الثالث عشر، ومن بينها حالة هيو من بلدة لنكولن عام 1255 والتي يذكرها تشوسر في حكايات كانتربري. وقد استمر توجيه التهمة حتى منتصف القرن العشرين، ومن أشهرها حادثة دمشق عام 1840، وقضية بيليس عام 1911. وتُعَدُّ حادثة دمشق التي حدثت في العالم الإسلامي استثناءً، إذ أن الظاهرة تكاد تكون مقصورة على العالم المسيحي.

وكانت تهمة الدم تأخذ الشكل التالي: يختفي شخص مسيحي (في العادة طفل)، أو يوجد مقتولاً، فيتذكر أحد الأشخاص أن هذا الطفل أو الشخص شُوهد آخر مرة بجوار الحي اليهودي، أو أن هناك عيداً يهودياً (عادةً عيد الفصح) تتطلب شعائره دم نصراني، ومن ثم، كانت تُوجَّه لأعضاء الجماعة اليهودية تهمة قتله ويُقبَض على بعضهم، ويتم تعذيبهم ثم يُشنَق عدد منهم أحياناً.

ويُشير الصهاينة إلى تهمة الدم باعتبارها أكبر دليل على أن عالم الأغيـار يرفض اليهود ويفتك بهم، وبالتالي لابد أن يكون لهم وطن قومي. ولكننا لو وضعنا هذه الوقائع في سياقها التاريخي، فإنها ستكتسب دلالة جديدة وسيمكننا فهمها بشكل أعمق.

لقد ظهرت تهمة الدم بعد تحوُّل اليهود في العالم الغربي إلى جماعة وظيفية وسيطة تشتغل بالتجارة والربا. وكانوا يُشبَّهون آنذاك بالإسفنجة التي تمتص نقود الطبقات كافة، والطبقات الشعبية على وجه الخصوص، ثم يقوم الإمبراطور أو الأمير أو الحاكم باعتصارهم لحسابه بعد ذلك (وهو الأمر الذي لم تكن تدركه هذه الطبقات الشعبية بطبيعة الحال). ومن هنا، كانت الإشارة إلى اليهود (كجماعة وظيفية وسيطة لا كيهود) على أنهم مصاصو دماء، ولم يكن من الصعب على الوجـدان الشـعبي أن يسـقط في الحرفية ويحـوِّل المجاز إلى حقيقة واقعـة.

وكان توجيه تهمة الدم يعني، في واقع الأمر، شنق بعض اليهود من بينهم عدد كبير من المرابين، حيث كان الربا من أهم الوظائف التي اضطلع بها اليهود في التشكيل الحضاري الغربي. وكان هذا يعني، في كثير من الأحيان، إسقاط الديون، أي أن توجيه تهمة الدم يشبه، من بعض الوجوه، التخطيط لسرقة بنك من البنوك على يد عصابةشعبية، وكان شنق اليهود بمثابة النجاح في هذه العملية، وهي عملية تشبه أيضاً عمليات روبين هود الذي كان يسرق من الأثرياء ليعطي الفقراء، وهو ما جعل جرائمه تحظى بشعبية كبيرة، بل وكانت الجماهير تحيطه بحمايتها.

وكانت الخزانة الملكية ذاتها تستفيد أحياناً من تهمة الدم حيث ترث ديون المرابي الذي يُشنَق أو يُطرَد، كما أن النخبة الحاكمة كانت تنتهز مثل هذه الفرصة لتعرض على اليهود تجديد المواثيق الممنوحة لهم والتي تتضمن حمايتهم وتكفل لهم المزايا نظير مبالغ جديدة يدفعونها.

ويبدو أن تهمة الدم صورة نمطية تتكرر في الوجدان الشعبي حينما يدرك «الآخر»، وهي عادةً اتهام يستخدمه فريق ضد أعدائه ليسقط عنهم إنسانيتهم. فقد اتُهم الغجر بأنهم يخطفون الأطفال ويمصون دمهم. كما وجَّه اليهود التهمة نفسها إلى المسيحيين الأوائل (حسبما جاء في كتابات أوريجين). وجاء في أحد كتب المدراش أن فرعون مصر حاول أن يحصل على الشفاء من البرص بذبح مائة وخمسين طفلاً يهودياً كل صباح وكل ظهر ليستحم في دمهم. كما أن بعض كتب الهاجاداه محلاة بصور لتهمة الدمالموجهة إلى فرعون مصر. وقد وُجِّهت التهمة كذلك إلى الغنوصيين من قبَل المسيحيين، وإلى إحدى الفرق الدينية الإيطالية عام 1466 من قبل الجماهير. واتُهِم المبشرونالمسيحيون في الصين عام 1870 بأنهم يسرقون الأطفال الصينيين ليصنعوا من دمهم دواء سحرياً. واتُهم الأجانب في مدغشقر عام 1891 بابتلاع قلوب بعض السكان المحليين. أما الرهبان الدومينكان، فقد اتهمهم خصومهم من الرهبان الفرنسيسكان باستخدام دم وحواجب طفل يهودي في بعض شعائرهم السرية! ومعنى هذا كله أن تهمة الدم لم تكن مقصورة على اليهود. وإذا كان مرابون آخرون، مثل اللومبارد والكوهارسين (وهم مسيحيون)، لم تُوجَّه إليهم (بحسب علمنا) تهمة الدم، فقد وُجِّهت إليهم تهم أخرى لا تقل عنها سوءاً، كما أنهم كانوا أيضاً عرضة للطرد والمصادرة والشنق.

وساعد تكرار تصوير الدم والقتل في العهد القديم على إلصاق التهمة باليهود دون المرابين المسيحيين. كما أن شعائر اليهود الدينية، وخصوصاً شعائر عيد الفصح، كانت تثير الريبة في نفوس أعضاء الأغلبية، الأمر الذي كان يجعلهم يبحثون عن تفسير لها. هذا، مع العلم بأن قوانين الطعام اليهودية تمنع شرب الدم كما تمنع أكل اللحم قبل تصفية الدم منه. ويبدو أن ممارسة الختان والذبح الشرعي غذيا هذه الأوهام، حتى سُمِّي اليهود «أهل السكين».

ولم يكن اليهود يقفون في مجابهة مع كل الأغيار كما يدَّعي الصهاينة، فقد كانت النخبة الحاكمة (الكنيسة والإمبراطور والملوك) تدافع عن أعضاء الجماعة ضد هذه التهم التي كان يوجهها إليهم عامة الشعب. فبيَّن البابا إنوسنت الرابع، في مرسوم صدر عام 1245، أن التهمة باطلة وحرم على المسيحيين توجيهها إلى اليهود. ودافع البابا جريجوري العاشر، في مرسوم صدر عام 1274، عن اليهود، كما فعل بابوات آخرون الشيء نفسه. وفي عام 1758، أصدر الكاردينال لورنز جانجانلي (البابا كليمنت الرابع عشر فيما بعد) مذكرة يدين فيها تهمة الدم. وقد أصدر التحريم نفسه الإمبراطور الألماني فريدريك الثاني (1194 ـ 1250)، وإمبراطور النمسا رودولف من أسرة الهابسبرج عام 1275. وحاول الكثير من المسيحيين والعلماء تفنيد التهمة وإقناع الناس ببطلانها، ولكنهم فشلوا في مسعاهم واستمرت تهمة الدم مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بصورة اليهودي حتى عهد قريب.

أما في حادثة دمشق، فقد كانت تهمة الدم مرتبطة بالصراع بين الاستعمارين الإنجليزي والفرنسي اللذين كانا يتنافسان على مد نفوذهما عن طريق حماية أعضاء الأقليات الدينية. فكان الفرنسيون يحمون الكاثوليك والمارونيين الذين وجهوا تهمة الدم. أما الإنجليز، فإنهم نظراً لعدم وجود مسيحيين بروتستانت بأعداد كبيرة في العالم العربي كانوا يقومون بحماية اليهود! خصوصاً وأن روسيا، وهي بلدهم الأصلي، لم تكن مهتمة بهم كثيراً بسبب وجود المسيحيين الأرثوذكس، كما أن روسيا لم يكن لها أطماع في الشرق الأوسط إذ أن مشروعها الاستعماري كان موجَّهاً إلى مناطق أخرى. وقد أصدر السلطان العثماني فرماناً جرَّم فيه تهمة الدم.

حادثــة دمشــق

Damascus Affair

تُعتبَر حادثة دمشق من أشهر تهم الدم، وقد وقعت عام 1840 حين كانت سوريا تحت الحكم المصري. وتكاد تكون هذه الحالة المرة الوحيدة التي وجِّهت فيها تهمة دم لأعضاء الجماعات اليهودية في العالم الإسلامي. فقد اتُهم يهود دمشق بقتل راهب من الفرنسيسكان يُدعَى الأب توماس الكبوشي وخادمه المسلم إبراهيم عمارة لاستخدام دمائهما في أغراض شعائرية وفي صنع خبز عيد الفصح غير المخمر (ماتزوت). وقد أُشيع أن الأب توماس شوهد آخر مرة وهو يهم بالدخول إلى حارة اليهود، فتم تفتيش الحي اليهودي بتحريض من الكاثوليك المحليين يتزعمهم القنصل الفرنسي، وقُبض على زعماء اليهود ومات منهم اثنان أثناء التحقيق، وأشهر واحد إسلامه وحُكم على الباقين بالإعدام.

وقد تفاقمت ردود فعل هذه القضية بسبب الصراع السياسي للأوربيين للحصول على النفوذ في الشرق الأوسط. ولا يمكن رؤية هذه الحادثة إلا في إطار النشـاط التبشـيري الاسـتعماري في فلسـطين والشام، والذي كان تعبيراً عن الصراع بين الدول الاستعمارية الكبرى. إذ كانت كل دولة تحمي أعضاء جماعة دينية بعينها، فكان الروس يحمون الأرثوذكس وكان الفرنسيون يحمون الكاثوليك. وربما لعدم وجود عدد كبير من البروتستانت، قام الإنجليز «بحماية» اليهود. ومن هنا، يُعَد الصراع بين الكاثوليك المحليين (بزعامة القنصل الفرنسي) واليهود تعبيراً عن الصراع على النفوذ. ومما له دلالته أن احتجاج يهود فرنسا ومناشدتهم لحكومتهم لم يأت بنتيجة، في حين أدى احتجاج يهود إنجلترا إلى تحرك بالمرستون ومطالبته محمد علي بأن يعامل اليهود معاملة حسنة (باعتبارهم عنصراً يهدف إلى حمايته)، وأدى تدخُّل أدولف كريميه وموسى مونتفيوري ومقابلتهما لمحمد علي في الإسكندرية، ثم لقاؤهما مع السلطان عبد الحميد في إستنبول إلى الإفراج عن المتهمين وإسقاط التهمة عنهم.

وقد أصدر السلطان العثماني فرماناً يدين تهمة الدم ويعتبرها قذفاً في حق اليهود.

منــدل بيليـس (1874-1934(

Mendel Beilis

عامل بناء روسي وجِّهت إليه تهمة الدم، حيث اتُهم عام 1911 بأنه استدرج طفلاً روسياً إلى أحد الكهوف خارج المدينة وقتله بطعنه أربعاً وسبعين طعنة، ثم صفى كل دمه كما جاء في تقرير الطبيب الشرعي. وكان الجو مواتياً في روسيا لتصديق مثل هذه الافتراءات، إذ كانت الحكومة القيصرية تلقي باللوم على اليهود في محاولتها تبرير كثير من المشاكل. وتم القبض على بيليس وأُحضر سكيران ليشهدا بأنهما رأياه يختطف الطفل، واستمر التحقيق عامين. ولكن رئيس البوليس السري الروسي في كييف توصَّل إلى أن عدداً من المجرمين غير اليهود تترأسهم إمرأة هم الذين قاموا بارتكاب الجريمة لأن الطفل كان قد أخبر الشرطة عن جرائم ارتكبوها. ومع هذا، استمرت المحاكمة لمدة شهر وتحولت إلى قضية تشغل الرأي العام. وبعد أن استجوب محامو المتهم الشاهدين، تراجع الشاهدان عن أقوالهما، واعترفت رئيسة العصابة التي قتلت الطفل بالجريمة. وفي عام 1913، أُفرج عن بيليس الذي هاجر إلى فلسطين ولكنه لم يستطع الاستمرار فيها، مثله مثل كثيرين غيره من اليهود، فهاجر إلى الولايات المتحدة عام 1920 ومات هناك.

هجوم أو مذبحة (بوجروم(

Pogrom or Massacre

«بوجروم» كلمة روسية معناها «تدمير» أو «هجوم» أو «فتك» أو «مذبحـة». وعـادةً ما تكون هذه المذبحة منظمة لتدمير جماعة أو طبقة معيَّنة. وقد دخلت الكلمة اللغات الأوربية بمنطوقها الروسي، وضاق مجالها الدلالي بحيث أصبحت تشير أساساً إلى الهجوم على أعضاء الجماعة اليهودية، ولكنها تُستعمل مجازاً للإشارة إلى الهجوم على أعضاء الجماعات والأقليات الأخرى. وقد استُخدمت الكلمة للمرة الأولى في الإنجليزية عام 1905.

وقد عرف التاريخ القديم والوسيط والحديث مثل هذه الهجمات على أعضاء الجماعة اليهودية. ويمكن القول بأن أول بوجروم في التاريخ الإنساني هو هجوم المصريين على أعضاء الجماعة اليهودية (المرتزقة) في جزيرة إلفنتاين. ومن أشهر الهجمات الأخرى، هجمات بعض جيوش الفرنجة على أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب، وهجمات شميلنكي في بولندا في القرن السابع عشر على أعضاء الجماعة اليهودية في أوكرانيا. وتُعدُّ أهم الهجمات في العصر الحديث تلك التي نظمتها العناصر الرجعية الروسية في أواخر القرن التاسع عشر (خصوصاً جماعة المائة السود) والتي يُقال إنها كانت تتم بموافقة النظام القيصري وممالأة وزراة الداخلية. وقد تصاعدت الهجمات قبل وبعد صدور قوانين مايو عام 1881، ومن أهمها مذبحة كيشينيف. كما نظَّم النازيون هجوم ليلة الزجاج المحطم (كريستال ناخت) في 9 - 10 نوفمبر 1938.

وتجب الإشارة إلى أن معظم هذه الهجمات كانت ذات طابع شعبي وتُعبِّر بشكل مشوه وغير مشروع عن تطلعات مشروعة للجماهير التي لم تكن تفهم آليات الاستغلال. فالهجوم على الحامية اليهودية في إلفنتاين هو هجوم على جماعة وظيفية قتالية موالية لقوة أجنبية غازية (الفرس). كما أن هجمات الجماهير على اليهود في العصور الوسطى في الغرب كانت هجمات على واحدة من أهم أدوات السلطة في استغلال الجماهير، إذ كان اليهود هم المرابون وجامعو الضرائب. وتميل الأدبيات اليهوديةالمعاصرة إلى المبالغة في أعداد ضحايا هذه الهجمات، بينما تميل الدراسات الحديثة عن هذه الظاهرة إلى الأخذ بأرقام أقل كثيراً.

لكن الهجمات ليست أمراً مقصوراً على أعضاء الجماعة اليهودية، فمن المعروف أن الهجمات ظاهرة لها أسباب اقتصادية واجتماعية وحضارية تسم علاقة الأغلبية بالأقلية في لحظات التطاحن الاجتماعي وفي أوقات الانتقال والانحلال الاقتصادي والاجتماعي. وتُدبَّر هذه الهجمات ضد مختلف الغرباء، خصوصاً إذا كانوا يشكلون جماعة وظيفية وسيطة مرتبطة بالنخبة الحاكمة وتقوم على خدمتها. فقد نُظِّمت هجمات ضد المرابين غير اليهود في العصور الوسطى مثل الكوهارسين واللومبارد، وضد الصينيين في جنوب شرق آسيا عبر تاريخهم، وقام الفرنسيون في أواخر القرن التاسع عشر بتنظيم هجمات على العمال الإيطاليين المهاجرين. وقد نظم الأفارقة السود المسلمون هجوماً (إبادة) على المسلمين الأفارقة من أصل عربي في موزمبيق في العصر الحديث، ونظم السنغاليون هجمات على الموريتانيين واللبنانيين في الآونة الأخيرة.

وبالمثل، تورَّط أعضاء الجماعات اليهودية في شن هجمات على كتل بشرية أخرى معادية لهم، فقد دبر اليهود مذبحة ضد اليونانيين في الإسكندرية في العصر الهيليني، ورد اليونانيون بدورهم على هذه المذبحة. كما قام الصهاينة العلمانيون في الدولة الصهيونية بحرق معبد يهودي في إسرائيل احتجاجاً على تشدد الدينيين. ويقوم المستوطنون الإسرائيليون بالهجوم على قرى الفلسطينيين وتدبير المذابح ضدهم.

وتتجه الكتابات الصهيونية إلى تصوير الهجمات على أعضاء الجماعات اليهودية باعتبار أنها أمر فريد يحدث لهم وحدهم، وأنها تعبير عن كُره أزلي لليهود، ونتيجة حتمية لوضع أعضاء الجماعات خارج فلسطين، وهو وضع يتسم (بحسب تصورهم) بخلل بنيوي أساسي. وتُحوِّل الصهيونية هذه الهجمات إلى مصدر أساسي للهوية اليهوديةوالوعي اليهودي، وتبين في الوقت نفسه أن تاريخ اليهود في المنفى لا قيمة له. وقد حاول المدعي العام الإسرائيلي في قضية أيخمان أن يستدر العطف على الشعب اليهودي بأن تلا قائمة بالهجمات التي دُبرت ضد اليهود عبر تاريخهم ولكن بعد عزلها عن سياقها التاريخي، فما كان من محامي أيخمان إلا أن أثار تساؤلاً مفاده: لمَ يستفز هذا الشعب كل الشعوب الأخرى عبر التاريخ؟ أوَ لا يدعو هذا الوضع إلى طرح احتمال أن يكون هذا الشعب مسئولاً عما يلحق به من مذابح؟

وتُثار، من آونة إلى أخرى، قضية دور الدولة اليهودية في صد الهجمات الموجهة ضد اليهود وهل يمكنها أن تقوم بذلك؟ ولكن النقاش حُسم مؤخراً حين صرح شامير بأن الدولة لا يمكنها أن تدافع عن اليهود أينما كانوا، كما كانوا يدَّعون، فأدواتها قاصرة، كما أن لها أولوياتها التي من أهمها الدفـاع عن نفسـها. وقد كتب أحد الدراسـين بحثاً عن " ليلة الزجاج المحطم " وقد وصفها بأنها كانت هجوماً (بوجروم) تقليدياً إذ قامت السلطات النازية باستثارة غيظ الجماهير وحنقهم على اليهود وتركتهم يقتلون ويحطمون. ويستطرد الكاتب قائلاً إن الهدف من الهجوم (البوجروم) التقليدي هو إرهاب أعضاء الأقلية ووضعهم في مكانهم، ولكن الدولة النازية كانت تهدف لشيء مغاير تماماً وهو إبادة اليهود، ومن ثم فإن البوجروم لا يصلح بتاتاً أداة لإنجاز هذا الهدف فإذا كان عدد يهود بولندا ثلاثة ملايين، فإن إبادتهم تتطلب عدة مئات من السنين باعتبار أن عدد القتلى في ليلة الزجاج المحطم لم يتجاوز الخمسين. فإذا أضفنا إلى ذلك ملايين البولنديين والغجر، يتضح أن الهجمات العادية غير فعالة على الإطلاق لإنجاز مثل هذا المشروع الإبادي. كما لاحَظ الكاتب أن من المستحيل استثارة عاطفة الكره لدى الجماهير لمدة طويلة إذ لابد أن تفتر أية عاطفة بعد فترة، ومن المحتمل أن تتحول الاستجابة العاطفية من الكُره إلى التعاطف، خصوصاً إذا كان الضحايا من الأطفال أو العجزة أو الجيران.

لكل هذا، استبعدت الدولة النازية نظام الهجمات وتبنت بدلاً منه نموذجاً مختلفاً. فحل محل التلقائية والعاطفية التخطيط والحياد، وحل محل الهجوم المتقطع (الذي لا شكل محدد له) العمل المستمر المتكامل الذي يتبع منهجاً صارماً. وبدلاً من الغوغاء المتعصبة التي تطلق العنان لعواطفها، ظهرت البيروقراطية التي تكبح عواطفها ولا تكترث بالضحية لا حباً ولا كرهاً وتتبع أحدث أشكال الإدارة. ومن ثم، فإن الهجوم (البوجروم)، رغم قسوته، يختلف في هدفه ومجاله وطبيعته عن عمليات الإبادة.

اضطرابات فيتميلخ

Fettmilch Riots

أحداث شغب مناهضة لليهود جرت في مدينة فرانكفورت الألمانية في أوائل القرن السابع عشر. وقد اندلعت هذه الأحداث في الفترة التي أعقبت اندلاع حرب الثلاثين عاماً والتي نتج عنها تدهوُّر حاد في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في البلاد. حيث وجَّه أفراد الشعب، وخصوصاً نقابات التجار والصناع، سخطهم لأعضاء الجماعة اليهودية في المدينة. فاليهود باعتبارهم جماعة وظيفية وسيطة مرتبطة بالنخبة الحاكمة، خصوصاً الإمبراطور، كانوا محط كراهية مختلف الفئات والطبقات في المجتمع. ومع تأزم الأوضاع الاقتصادية، ازدادت حدة السخط والكراهية. وقد تزعم فنسنت فيتميلخ زعيم النقابات في فرانكفورت الحملة المناهضة لليهود، فقدَّم عام 1612 التماساً للإمبراطور يتهم فيه برلمان فرانكفورت بالفساد ومحاباة اليهود وطالب بفرض قيود اقتصادية على اليهود وتقليص عددهم في المدينة، ولكن الإمبراطور رفض هذا الالتماس. وفي عام 1614، دخلت بعض العناصر المؤيدة لفيتميلخ مجلس المدينة وطالبت بفرض قيود صارمة على اليهود من بينها طرد كل اليهود الذين يمتلكون أقل من 1500 فلورين فوراً. وقد رفض الإمبراطور مرة ثانية هذه المطالب، ولكن تم طرد 60 أسرة يهودية فقيرة. وإزاء ذلك، قام فيتميلخ على رأس أنصاره بمهاجمة الجيتو اليهودي وقاموا بنهبه وطرد 1380 من اليهود خارج المدينة. وفي أعقاب ذلك، أصدر الإمبراطور أوامره بإلقاء القبض على فيتميلخ. وفي عام 1616، تم إعدامه مع ستةمن أعوانه، وقُطِّعت أجسادهم إلى أربعة أجزاء وعُلِّق رأس فيتميلخ على مسمار ضخم (ليكون عبرة للجميع) كما دُمِّر منزله وسُوِّي بالأرض وطُردت عائلته من المدينة. وسمح الإمبراطور بعودة اليهود المطرودين للمدينة وأمر بدفع تعويض لهم قدره 176.919 فلوريناً. وفي أعقاب ذلك، كان أعضاء الجماعة اليهودية يحرصون على الاحتفال سنوياً بيوم عودتهم إلى المدينة وأطلقوا على هذا اليوم اسم «بوريم فنسنت».

وتدل هذه الحادثة على مدى ارتباط أعضاء الجماعات اليهودية كجماعات وظفية ووسيطة بالطبقات الحاكمة والملوك. فقد رفض الإمبراطور الإذعان لمطالب فيتميلخ ولمطالب الجماهير في فرانكفورت، ثم أنزل أشد العقاب بفيتميلخ وأعوانه. ويعود كل هذا إلى حوسلة أعضاء الجماعات اليهودية، حيث كانوا عنصراً نافعاً يؤدي وظيفة اقتصادية مهمة، وكانوا أداة في يد الطبقة الحاكمة التي استفادت من خدماتهم التجارية والمالية لتكديس الثروات وتدعيم السلطان واستنزاف الجماهير، ومقابل ذلك كانت الطبقة الحاكمة تزودهم بالحماية والامتيازات التي تؤهلهم للاضطلاع بدورهم الوظيفي بكفاءة عالية.

كيشـينيف

Kishinev

«كيشينيف» مدينة روسية في بيساربيا (التي ضُمت إلى روسيا عام 1812) وأصبحت مركزاً تجارياً وصناعياً مهماً، وكانت توجد فيها أقلية يهودية كبيرة وصل عددها عام 1847 إلى عشرة آلاف، أي 12% من مجموع سكان المدينة، ثم إلى ثمانية عشر ألفاً عام 1867، أي 21% من مجموع السكان، وخمسين ألفاً بعد ذلك التاريخ. وكانت أغلبية اليهود في هذه المدينة تعمل بالتجارة وصناعة الملابس والأخشاب والاتجار في المنتجات الزراعية، وهي قطاعات اقتصادية كانت مركزة في أيديهم. ومع هذا، كانت توجد نسبة كبيرة من المتسولين اليهود. وكان سكان كيشـينيف من اليهود ينقسـمون إلى أغلبية أرثوذكسـية ونخبة مثقفة روسية. وقد افتُتحت أول مدرسة يهودية حديثة في روسيا عام 1836. وفي عام 1903 (يومي 19 ـ 20 إبريل)، وقع هجوم (بوجروم) ضد أعضاء الجماعة اليهودية، إثر توجيه تهمة دم لبعضهم، قُتل فيها واحدوأربعون (32 رجل ـ 6 نساء ـ 3 أطفال) وجُرح خمسة وتسعون ودُمر سبعمائة وخمسة وخمسون منزلاً، ونُهب ستمائة محل، وحدثت بعض حالات اغتصاب. ويُقال إن الشرطة القيصرية لم تتدخل لحماية أعضاء الجماعة اليهودية.

ويتواتر ذكر هذه الحادثة في الكتابات الصهيونية، وتُصوَّر كما لو كانت جزءاً من مؤامرة الأغيار ضد اليهود. ولكن قارئ التاريخ الروسي يعرف أن القمع والإرهاب القيصريين كانا موجهين ضد مختلف الأقليات الدينية والعرْقية في روسيا، بل وضد الجماهير الروسية التي كان الحرس القيصري يطلق عليها النار بدون رحمة أو هوادة (كما حدث في مظاهرة الأب جابون التي وقعت في الفترة نفسها عام 1905). ورغم تباكي الصهاينة على ما حدث، فإن الواقعة حدثت في عهد وزير الداخلية الروسي فون بليفيه الذي تفاوض معه الزعيم الصهيوني هرتزل (في العام نفسه الذي شهد وقوع الحادثة) للحصول على تأييد روسيا للمشروع الصهيوني. ولذا، يُلاحَظ أنالمؤتمرات الصهيونية التي عُقدت آنذاك لم تذكر الحادث من قريب أو بعيد، ولم تحتج عليها، بل لزمت الصمت الكامل تجاهها حتى تضمن التأييد الروسي. ولا تزال هناك أقلية يهودية كبيرة نسبياً في كيشينيف في الوقت الحاضر يبلغ عددها اثنين وأربعين ألفاً.

ليـو فرانـك (1884-1915)

Leo Frank

أمريكي يهودي وُلد في تكساس بالولايات المتحدة الأمريكية، ونشأ في بروكلين، أحد أحياء اليهود المهمة في مدينة نيويورك. اتُهم ليو فرانك في قضية عام 1908، ويُقال إن انتماءه اليهودي كان عنصراً مهماً أثر في محاكمته وفي الأحداث التي تلتها. كان فرانك يعمل مديراً لمصنع أقلام في أتلانتا (ولاية جورجيا) حيث قُبض عليه بتهمة قتل فتاة بيضاء عمرها ثلاثة عشر عاماً تُدعَى ماري فيجان، بعد محاولة اغتصابها. وقد حُوكم فرانك وصدر حكم بإعدامه. وحينما خفف حاكم الولاية الحكم إلى السجن مدى الحياة، هاجمت مجموعة من المواطنين السجن واختطفوا فرانك وشنقوه في المدينة التي وُلدت ودُفنت فيها ضحيته المفترضة، وهو ما يُسمَّى في اللهجة الإنجليزية الأمريكية «لينشنج Lynching» وهي عملية الاختطاف والشنق. وقد صدر عفو عن فرانك عام 1986 وبُرئ اسمه من الجريمة التي نُسبت إليه.

ويُجرد الصهاينة هذه الواقعة من سياقها التاريخي ليفرضوا عليها معنى صهـيونياً بحـيث يظـهر اليهودي وكأنه ضحية عنف الأغيار. ولو نظرنا إلى واقعة ليو فرانك بمنظار تاريخي، فسنكتشف أنه لم يكن يُنظَر إليه باعتباره يهودياً أساساً وإنما باعتباره رمزاً متبلوراً لعـدة عناصر تاريخـية واجتماعية وثقافية ليس لها علاقة وثيقة بيهوديته، شأنه في هذا شـأن دريفـوس. وأهم هذه العناصر على الإطلاق هو أن المجتمع، مسرح الواقعة، كان يخوض ثورة صناعية حقيقية متأخرة، مع كل ما يصاحب مثل هذه الانقلابات من ظروف صحية سيئة وأمراض اجتماعية عاش في ظلها أعضاء الطبقة العاملة من البيض المحليين أو المهاجرين المُقتلَعين من جذورهم الزراعية، سواء في أوربا أو جنوب الولايات المتحدة. والواقع أن من أهم مظاهر الثورة الصناعية تركُّز السكان في المدن، وقد تضاعف عدد سكان مدينة أتلانتا بين عامي 1900 و1913، إذ زاد من نحو 89.870 إلى نحو 173.713، وهو يُعَدُّ أعلى معدل ارتفاع لأي مدينة أمريكية في الفترة نفسها باستثناء برمنجمهم (بولاية ألاباما). وكان نمو المدينة عشوائياً، ولذلك لم تكن هناك المؤسسات اللازمة للحياة الإنسانية الكريمة، مثل: أماكن الترويح، أو أماكن السكن، أو ما يكفي من المستشفيات العامة... إلخ. وكانت أتلانتا تعاني من أزمة مساكن، فقد كان هناك حوالي 30.308 من المساكن لنحو 35.813 أسرة، وكان نصف المساكن بلا مياه، وكان نحو 50 ألف شخص يعيشون في منازل لا يوجد بها نظام للصرف الصحي. وكانت نسبة تلوث الجو عالية للغاية، ولهذا انتشرت الأمراض مثل التيفود وغيره من الأمراض، وارتفعت معدلات الوفاة، ويُقال إن 90% من المساجين كانوا يُعانون من مرض الزهري. وقد زاد فقر سكان أتلانتا بشكل رهيب، وكان الأجر اليومي للطفل لا يزيد عن 20 سنتاً، وكان الأجر الأسبوعي لماري فيجان دولاراً وعشرين سنتاً.

ولم يكن الجو موبوءاً من الناحية المادية وحسب، وإنما كان موبوءاً من الناحية الأخلاقية أيضاً، وهذا أمر متوقع في مثل هذا المجتمع، حيث انتشرت مختلف أنواع الجرائم: السرقة والقتل والدعارة والسُكْر. وكانت نسبة الجريمة في أتلانتا من أعلى النسب في الولايات المتحدة وتُعادل نسبتها في شيكاغو عاصمة الجريمة في العالم. وقد قبضالبوليس عام 1907 على 17 ألف شخص من مجموع السكان البالغ عددهم 102.700 في ذلك العام. ومع هذا، كان جهاز الشرطة هزيلاً للغاية، إذ أن مجموع عدد العاملين في قوة الشرطة لم يكن يزيد على مائتي شرطي. وكانت توجـد في هذه المدينة الواسـعة نقطة شـرطة واحـدة، ولذا، كان كثير من المجرمين يفرون من قبضة القانون. وفي عام 1912/1913 بالذات، كانت هناك اثنتا عشرة جريمة قتل، لم يتم الاهتداء إلى مرتكبيها.

هذه هي بعض مظاهر الثورة الصناعية في أتلانتا. ولنا أن نلاحظ أن هذه الثورة كانت في الواقع جزءاً من عملية غزو واسعة، فالجنوب الأمريكي، مسرح الواقعة، كان لايزال يشعر بمذاق الهزيمة في الحرب الأهلية (1861 ـ 1865) حين هزمه الشمال الصناعي وأكد سلطة الحكومة الفيدرالية على حساب استقلال الولايات. وقد فقد ما يقرب من 600.000 شخص حياتهم إبَّان هذه الحرب. وبعد انتصار الشمال فُتحت الولايات الجنوبية (المتخلفة نسبياً وذات الاقتصاد الزراعي) لرأس الـمال الشـمالي والنخبة الشمالية التي أسست الصناعات وغزت السـوق. ويرى بعض المؤرخين أن العلاقة بين الشمال والجنوب كانت علاقة شبه كولونيالية، وأن ما يسميه الشماليون «توحيد» الولايات المتحدة هو في واقع الأمر «غزو» شمالي للجنوب وهيمنة عليه. وهو غزو لمجتمع زراعي كانت تسوده علاقات شبه إقطاعية توجد على قمته أرستقراطية تعتز بمكانتها الرفيعة وبقيم الشرف والالتزام الإقطاعي، وقد كان ذلك المجتمع مجتمعاً أنجلو ساكسونياً بروتستانتياً متجانساً لم يستوطن فيه ملايين المهاجرين كما حدث في بقية الولايات المتحدة، وبخاصة في الساحل الشرقي. وكانت مؤسسة الأسرة قوية جداً في مجتمع الجنوب وتتسم بقدر كبير من التماسك. وكانت المرأة رمز هذا التماسُك الأسري، ومحط تقديس المجتمع. لكن أعضاء مثل هذا المجتمع الزراعي الأرستقراطي عادةً ما ينظرون بقدر من الاحتقار، بل والبغض أحياناً، إلى الاقتصاد النقدي المبني على التعاقد وعلى آليات العرض والطلب.

وقد كانت شكوكهم في محلها، فبعد توحيد الشمال مع الجنوب فُتح الجنوب أمام الصناعات الشمالية التي هاجرت لتستفيد من العمالة الرخيصة والأراضي قليلة التكاليفوالسوق البكر، وهي صناعات لم تخدم تقاليد المجتمع كثيراً، بل ساهمت في تفكيك نسيجه المجتمعي وفي تحطيم بناء الأسرة، فكان الأطفال يعملون في المصانع ساعات طويلة، وكذا النساء. وأدَّى دخول الصناعات إلى تزايد معدلات التحديث والعلمنة بكل ما يتبع ذلك من تفكك اجتماعي، في المراحل الأولى على الأقل، خصوصاً وأن هذه الصناعات لم تظهر نتيجة تطوُّر عضوي وتفاعُل عناصر محلية وظهور بورجوازية في رحم المجتمع ذاته، وإنما فُرضت عليها فرضاً من مجتمع اليانكي الشمالي.

كان ليو فرانك رمزاً لهذه القوة الغازية، فقد كان شمالياً في الجنوب، صاحب ومدير مصنع في مجتمع زراعي ينظر بعين الشك إلى الصناعة، يقوم باستئجار النساء والأطفال كعمالة رخيصة في ظل مجتمع يقدس الأسرة حتى عهد قريب. وكان يُشار إلى ماري فيجان على أنها « عاملة المصنع الصغيرة »، أي أنها تحوَّلت إلى رمز الطفولة البريئة التي استغلها المستثمرون من الشمال. وكان فرانك عضواً في النخبة العلمانية المهيمنة التي لا تكترث كثيراً بالقيم التقليدية في وسط بيئة جنوبية عمالية مقتلعة من بيئتها الزراعية، لا تزال تؤمن بالقيم التقليدية والمسيحية وتحلم بالمجتمع المتماسك الذي دُمِّر إبَّان الحرب الأهلية. ولم تكن يهودية فرانك سوى البؤرة التي جمعت كل هذه العناصر السابقة وبلورتها، إذ أن المعركة الحقيقية كانت بين الشمال الصناعي الغازي والجنوب الزراعي الذي تم غزوه، وبين ضحايا التقدم من ناحية والصناعة وممثلي هذا المجتمع الجديد الرهيب من ناحية أخرى.

وقد يكون من المفيد، عند هذه النقطة، أن نتناول الانتماء اليهودي لفرانك. كان فرانك يشغل منصب رئيس فرع جماعة أبناء العهد (بناي بريت) اليهودية في المدينة. كذلك لابد أن نعرف، على وجه الدقة، موقف الجنوب الأمريكي من اليهود. لقد حدد الجنوب الأمريكي التضامن على أساس عرْقي بسيط (الأبيض مقابل الأسود)، على عكس الشمال الذي حدده على أساس عرْقي ديني إثني مركب: أبيض بروتستانتي من أصل أنجلو ساكسوني، يليه أبيـض كاثوليكي من أصل إيطالي وأيرلندي، ثم يليهم اليهودي الأبيض في المنزلة، ثم يأتي الأسود، كاثوليكياً كان أم بروتستانتياً في أسفل السلم العرْقي. ومن الواضح أن التعريف الجنوبي لم يستبعد اليهود وإنما صنفهم ضمن البيض، تماماً كما حدث في جنوب أفريقيا. الأمر الذي سمح لهم بدرجة عالية من الاندماج والحراك الاجتماعي، فأصبحوا جزءاً عضوياً من المجتمع، كما أصبحوا أعضاء في النخبة الحاكمة وامتلكوا الرقيق وتاجروا فيه، ولم تكن هناك صورة مستقلة لليهودي في الوجدان الأمريكي الجنوبي التقليدي.

لقد أشرنا من قبل إلى أن ليو فرانك كان رمزاً للقوة الغازية الشمالية. ويمكن أن نضيف هنا أنه، مع التحولات التي دخلت على الجنوب، اكتسبت كلمة «يهودي» مدلولاً جديداً. فلم يكن يهود جورجيا هم يهود الجنوب التقليديين القدامى وإنما كانوا عنصراً غريباً جديداً وافداً. وفي عام 1910، كان اليهود في أتلانتا (جورجيا) يشكلون أكبر جماعة من المهاجرين الأجانب، إذ بلغ عددهم 1342، أي 25% من مجمـوع الأجانب. ورغم أن نسـبتهم لم تتجـاوز 1% من عدد السـكان، فإنهم كانوا يشكلون جماعة وظيفية وسـيطة حققت بروزاً مشيناً. فقد كانوا يمتلكون معظم الحانات ومحلات الرهونات وبيوت الدعارة، وهذا جزء من ميراثهم الاقتصادي الأوربي، وكان زبائنهم من الزنوج أساساً. ويُقال إن بيوت الدعارة التي امتلكها اليهود كانت تزينها « صور نساء بيض لإثارة شهوة الزنوج الذين كانوا يحتسون الخمر في الحانات اليهودية وينطلقون بعدها كالوحوش »، وهذه صورة إدراكية عنصرية، ولكنها على أية حال ربطت الجرائم الجنسية في ذهن سكان أتلانتا باليهـود. وكان فرانك نفسـه مشـهوراً بمغازلة العامـلات وملاحقتهن، ويُقال إن ماري فيجان نفسها اشتكت إلى صديقاتها من محاولات فرانك الإباحية. وقد تكون هذه الاتهامات باطلة تماماً، وقد يكون السلوك الإباحي المنسوب إلى فرانك لا يختلف عن سلوك أو حركات أي شخص جاء من مجتمع حضري مفتوح يتصرف بتلقائية في مجتمع مغلق فيُساء فهم سلوكه وحركاته. ولكن المهم إدراك الناس له ولسلوكه، خصوصاً وأن اشتغال اليهود بالمهن المشينة يدعم هذا الإدراك.

وإلى جانب هذه الخلفية الاجتماعية والتاريخية والثقافية، ثمة جانب إحصائي مهم. فالدراسات الصهيونية لا تكف عن الإشارة إلى قضية ليو فرانك وإلى الظلم الذي حاق به نتيجة اختطافه من السجن وشنقه بعد أن خفف الحاكم الحكم عليه. ولكن هذه الدراسات لا تذكر الحقائق التالية:

1 ـ لم يكن احترام القانون سمة سائدة في المجتمع الأمريكي ككل، وفي مجتمع أتلانتا على وجه الخصوص. فعلى سبيل المثال ، قبضت الشرطة ذات مرة على كل الذكور القادرين لأن أتلانتا كانت تعاني من نقص في العمالة. ومن المعروف أن الشرطة اتُهمت عام 1909 بضرب أحد الزنوج ضرباً أفضى إلى موته، وأنهم قاموا بتقييد إمرأة بيضاء إلى الحائط حتى زهقت روحها.

2 ـ اندلعت عام 1906 اضطرابات، فهاجم السكان البيض حي السود لعدة أيام واشتبكوا معهم، فقتلوا عشرة زنوج وجرحوا ستين في حين قُتل من بينهم رجلان وجُرح عشرة، واضطرت المدينة إلى استدعاء الحرس الوطني. ويُقال إن الاضطرابات اندلعت نتيجة تقارير مثيرة نشرت في الصحف عن اعتداء السود على النساء البيض.

3 ـ كانت المدينة محتاجة إلى مزيد من الأيدي العاملة، وبالتالي إلى مزيد من المهاجرين. ولكن كلما زاد عدد المهاجرين، كانت تزداد نسبة غضب السكان المحليين المقتلعين. ففي عام 1891، تم اختطاف وشنق أحد عشر مهاجراً إيطالياً. وفي عام 1899، اختُطف خمسة آخرون. وفي عام 1900، اختفى ثلاثة آخرون في ظروف غامضة.

4 ـ شهدت الفترة من 1889 إلى 1918 ألفين وخمسمائة حالة اختطاف وشنق (لينشنج) أخرى. وكان معظم ضحايا الاختطاف من السود، كما تم اختطاف قلة من أعضاء الأقليات الأخرى. ولكن لم يكن هناك سوى حالة واحدة فقط اختطف فيها يهودي وشنق، وهي حالة ليو فرانك وهي الحالة التي يرد ذكرها في الأدبيات الاختزاليةالصهيونية وكأنها ظاهرة عامة متواترة! وهكذا يتحول الاستثناء إلى قاعدة، ويتحول الخاص إلى عام، وتتحول الواقعة العابرة إلى رمز عالمي مركزي!

حادثة دريفـوس

Dreyfus Affair

«حادثة دريفوس» يُشار إليها أيضاً بعبارة «واقعة دريفوس»، وبطلها هو ألفريد دريفوس (1856 ـ 1935) الذي كان من كبار الضباط الفرنسيين، واليهودي الوحيد في هيئة أركان الجيش الفرنسي. وُلد في مقاطعة الألزاس باسم «مولهاوزن» لأسرة يهودية ثرية مندمجة في محيطها الفرنسي. ونظراً لأن اسمه ألماني الطابع، فقد غيره إلى اسمه الذي اشتهر به. وقد اتُهم دريفوس بسرقة وثائق سرية عسكرية بمساعدة الماسونيين، وتسليمها إلى الملحق العسكري الألماني في باريس، فوُجِّهت إليه تهمة الخيانة العظمى والتجسس لحساب ألمانيا عام 1894. وقامت السلطات العسكرية بمحاكمته، وتابعت الصحافة المعادية لليهود آنذاك الأحداث وعبأت الرأي العام ضده، الأمر الذي خلق جواً غير ملائم لضمان حياد المحاكمة. وفي نهاية الأمر، قضت المحكمة عليه بالسجن مدى الحياة، وجُرِّد من رتبته علناً أمام الجماهير، ونُفي إلى جزيرة الشيطان (ديفلز أيلاند) التي تقع على الساحل الأفريقي (وكانت مستعمرة فرنسية). ورحبت الصحافة المعادية لليهود بالحكم.

ويُقال إن واقعة دريفوس تركت أثراً عميقاً في تيودور هرتزل لدرجة أنه اكتشف عبث محاولة الاندماج، فتبنَّى بدلاً من ذلك الحل الصهيوني. ولكن هذه الفكرة في حد ذاتها عملية تبسيط فجة للعوامل التي أدَّت بهرتزل إلى اقتراح الدولة الصهيونية حلاًّ للمسألة اليهودية. والحقيقة التي لا توردها المراجع الصهيونية هي أن هرتزل نفسه كان مقتنعاً في بادئ الأمر بأن دريفوس كان مذنباً وخائناً، ولا أحد يدري ما الذي جعله يغيِّر رأيه فيما بعد، ولكن هذا ليس هو موضوعنا الأساسي. وقد يكون من الأجدى وضع واقعة دريفوس في إطارها التاريخي والاجتماعي والإنساني.

ابتداءً، كان دريفـوس محل شـك المخابرات الفرنسية لأسباب وجيهة. فالقوات الفرنسية ذاتها كانت تجند كثيراً من يهود ألمانيا ويهود الألزاس واللورين للعمل كجواسيس لحسابها. ولذا، ساد الاعتقاد بأن ألمانيا أيضاً كانت تقوم بالشيء نفسه، وهو أمر متوقع. والجدير بالذكر أن هذا جزء من الإدراك الأوربي لأعضاء الجماعات اليهودية، وهو إدراك كانت تدعمه بعض الممارسات التاريخية. ففي القرن السابع عشر، لعب أعضاء الجماعات اليهودية في أوربا دوراً أساسياً في عملية التجسس بين الدول. كما حاول أوليفر كرومويل أن يخطب ود أعضاء الجماعات اليهودية ويوطنهم في إنجلترا حتى يستفيد من خدماتهم كجواسيس له.

ويُلاحَظ أن هذه الفترة شهدت كساداً اقتصادياً في أوربا، الأمر الذي أدَّى إلى انتقال أعداد كبيرة من المهاجرين إلى فرنسا، فجاء مهاجرون من إيطاليا وغيرها من البلدانالأوربية. وكان عدد العمال الإيطاليين عـام 1872 نحـو 112 ألفاً، فأصبح 300 ألف عام 1890، وجاء معهم قرويون (من القرى الفرنسية) يتحدثون لهجاتهم المحلية، مثل البريتون والأفيرنيان. كما هاجرت أعداد كبيرة من يهود الألزاس واللورين الذين لم يكونوا قد اصطبغوا بعد بالصبغة الفرنسية. ووصلت أعداد كبيرة كذلك من يهود شرق أوربا الذين يتحدثون اليديشية (وهي رطانة ألمانية). وقد أدَّى كل هذا إلى زيادة عدد الأجانب. كما أن تزايُد يهود شرق أوربا ويهود الألزاس واللورين، على حساب العنصر اليهودي الفرنسي المحلي، أدَّى إلى تصنيف كل أعضاء الجماعة اليهودية على أنهم أجانب. ومن المعروف أن العناصر الأجنبية عادةً ما تتعرض في فترات الكساد الاقتصادي للهجوم من قبل أعضاء الأغلبية المحليين الذين يتهمون العناصر الوافدة بأنهم سبب الأزمة. كما أن العامل الأجنبي يرضى بأجر أقل ومستوى معيشي أكثر انخفاضاً، الأمر الذي يثير الحقد عليه.

وعلاوة على هذا، كان الجو العام في فرنسا آنذاك متوتراً، وخصوصاً إزاء أعضاء الجماعة اليهودية، بعد هزيمة الجيش الفرنسي على يد بروسيا عام 1870. وكانت العناصر الليبرالية التي تضم نسبة عالية من أعضاء الجماعة اليهودية تقف ضد فكرة الانتقام من ألمانيا. كما كان المد العلماني آخذاً في التزايد وفي الإصرار على فصل الدين عن الدولة. هذا إلى جانب أن الثورة الصناعية اقتلعت الكثيرين من جذورهم وأدَّت إلى إفقارهم وقذفت بهم في المدن الكبرى (مثل باريس). وكان هؤلاء المُقتلَعون يشعرون بانعدام الأمان في المجتمع الجديد (بعلمانيتـه وثوريتـه وقيـمه التجارية) والذي كان اليهود يوجدون في مركزه. وإلى جانب كل ذلك، كان هناك أيضاً عدد كبير من اليهود بين قيادة كومونة باريس في عام 1871. وأدَّى هذا كله إلى الربط بين الجماعة اليهودية والعناصر الثورية والعلمانية والفوضوية في المجتمع. ولكن من المفارقات التي تستحق التأمل أن أعضاء الجماعات اليهودية ارتبطوا في الوقت نفسه في الوجدان الأوربي، منذ العصور الوسطى حتى العصر الحديث، بالمصالح المالية الكبيرة،والبنوك والشبكات المالية والتجارية، وهي صورة دعمها بروز أسرة روتشيلد في عالم التجارة والمال.

وهكذا، أصبح اليهودي رمزاً متبلوراً لكثير من العناصر محط شك الجماهير وكرهها، فهو الأجنبي البغيض، وهو الثوري العلماني التقدمي الذي يحمل لواء المجتمع الجديد المدمر، وهو أيضاً رجل المال الذي لا يكترث بأية قيم سوى الربح، ولا يرتبط بأي أرض سوى السوق. وقد كانت الصحف المعادية لليهود تشير إلى دريفوس باعتباره ألزاسياً وأجنبياً وعضواً في طبقة المموِّلين الأثرياء.

وقد انضمت أعداد كبيرة من ضحايا الثورة الصناعية إلى التنظميات المعادية لليهود التي كانت تستخدم خليطاً جذاباً ومريحاً من الديباجات المسيحية والاشتراكية والعرْقية وتطرح صورة للمجتمع المبني على التضامن المسيحي والتكافل الاجتماعي والتعاون الاقتصادي (جماينشافت)، تلك الصورة التي تقف على الطرف النقيض من المجتمعالصناعي الجديد المبني على التنافس والتفاؤل، الذي يؤمن بإمكانية البقاء للأصلح والأقوى وحسب (جيسيلشافت). وقد انضمت أغلبية أعضاء الجماعة اليهودية المتركزون في العاصمة إلى القوى العلمانية والتقدمية التي أدارت المعركة مع العناصر الدينية والمحافظة. فاليهودي كان رمزاً مهماً بلا شك للقوى الجديدة، ولكنه لم يكن قط أحدأطراف المعركة بل كان جزءاً من كل، فهو جزءٌ من القوى الاجتماعية المتصارعة في المجتمع الفرنسي في أواخر القرن التاسع عشر والتي كانت كل واحدة منها تحاول أن تصوغ المجتمع حسب رؤيتها. وقد حولت هذه القوى قضية دريفوس إلى حلبة للصراع فيما بينها.

ففي عام 1896، اكتشف جورج بيكار رئيس مخابرات الجيش الفرنسي، وبطل واقعة دريفوس الحقيقي، أدلة تثبت براءته من التهمة المنسوبة إليه، وتشير بأصابع الاتهامإلى شخص آخر هو الميجور إسترهازي الذي لعب دوراً مهماً في سير أحداث القضية بحيث انتهت إلى الإدانة التامة للكابتن دريفوس. وحاول بيكار إقناع المسئولين بإعادةالمحاكمة، ولكنه أُمر بالتزام الصمت ونُقل إلى تونس بسبب ذلك.

وقد شُنت حملة إعلامية مكثفة قادها المفكر الفرنسي اليهودي برنارد لازار للمطالبة بإعادة النظر في القضية حيث كتب عدة مقالات دافع فيها بحماس عن دريفوس، كما طالب رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي بإعادة النظر في القضية لاقتناعه ببراءته. وتحت إلحاح الموقف المتفجر وإصرار بيكار، قُبض على الميجور إسترهازي وحوكم ذراً للرماد في العيون ولكن سرعان ما بُرئ لعدم كفاية الأدلة. فكتب الروائي الفرنسي إميل زولا سلسلة مقالات تحت عنوان «إني أتهم» هاجم فيها المحاكمتين، وكانت النتيجة أن اتُهم زولا بالقذف العلني وحكم عليه بالسجن ففر إلى إنجلترا.

وفجأة، برزت أحداث جديدة غيرت مجرى القضية، فقد انتحر الكولونيل هيوبرت جوزيف هنري أثناء استجوابه ، وهو شاهد الإثبات الأول في القضية، بعد أن اعترف بتزويره الوثائق التي أدَّت إلى إدانة دريفوس. وعندما علم إسترهازي بحادث الانتحار اعترف بجريمته وفر إلى إنجلترا. وفي صيف عام 1899، أمرت محكمة النقض بإعادة محاكمة دريفوس على ضوء الأحداث التي استجدت. وتحت ضغط بعض الشخصيات من ذوي النفوذ في الجيش، أُعلن مرة أخرى أنه مذنب. وفي هذه المرة حُكم عليه، مع مراعاة الظروف المخففة، بالحبس عشر سنوات كان قد قضى خمساً منها في المنفى. وبعد عدة أيام أمر الرئيس الفرنسي إميل لوبيه بالعفو عنه. وقد حثه كثير منأصدقائه والمدافعين عنه على استئناف المعركة لإثبات براءته التامة، وذلك لأن القضية قضية مبدئية تتجاوز الأشخاص. غير أن ألفريد دريفوس نفسه لم يكن مدركاً للأبعادالسياسية التي اتخذتها هذه القضية، فكان كل ما يتمناه وتتمناه عائلته الثرية المندمجة هو الإفراج عنه سواء عن طريق العفو أو التبرئة، ولهذا، قبل قرار العفو. أما بيكار، فأصبح بطلاً قومياً ورقاه رئيس الجمهورية إلى مرتبة بريجادير جنرال، وعُيِّن فيما بعد وزيراً للحرب.

ثم فتحت محاكمة دريفوس، مرة أخرى، عام 1903 بضغط من القوى العلمانية والثورية وصدر الحكم بتبرئته، وأُعيدت له حقوقه السـابقة، وعُيِّن في هيئة الأركان مرة أخرى بوظيفة ميجور ومنح نوط الشرف، ولكنه ما لبث أن ترك الخدمة. وقد عُيِّن أثناء الحرب العالمية الأولى قائداً لأحد قطاعات باريس برتبة كولونيل. ثم اعتزل الحياة العامة تماماً بعد ذلك وعاش في منزله بقية حياته غير مدرك للدلالات التاريخية والسياسية للواقعة التي ارتبطت باسمه (حسبما أخبرني أحد أفراد أسرتي الذي قابله في منزله عام 1934 حيث كان صديقاً لابنه).

وقد عمقت هذه القضية الخلافات الموجودة بين مؤيدي وخصوم النظام الجمهوري في فرنسا، وأدَّت إلى تقوية الأحزاب الاشتراكية، كما كانت وراء القانون الذي صدر عام 1905 بفصل بقايا الدين عن الدولة.

المؤامـرة اليهـودية الكـبرى أو العالميـة

Grand or World Jewish Conspiracy

يميل العقل الإنساني، إن لم يجد نموذجاً تفسيرياً ملائماً لواقعة ما، إلى ردهـا إلى يـد أو أياد خفية تُنسَـب إليها التغييرات والأحداث كافة. فالأحداث ـ حسب هذا المنظور ـ ليست نتيجة تفاعل بين مركب من الظروف والمصالح والتطلعات والعناصر المعروفة والمجهولة من جهة وإرادة إنسانية من جهة أخرى، وإنما هي نتاج عقل واحد وضع مخططاً جباراً وصاغ الواقع حسب هواه، وهو ما يعني أن بقية البشر إن هم إلا أدوات. ومن أهم تجليات هذا النموذج الاختزالي ما يُقال له «المؤامرة اليهودية الكبرى» أو «المؤامرة اليهودية العالمية» والتي تفترض أن أعضاء الجماعات اليهودية يُكوِّنون كلاًّ واحداً متكاملاً متجانساً، وأن لهم طبيعة واحدة، وأن اليهودي شخص فريد لا يخضع للحركيات الاجتماعية التي يوجد فيها، ولا ينتمي إلى الأمة التي يعيش بين ظهرانيها. وهو يقف دائماً مقابل الأغيار (غير اليهود)، إذ أن ثمة خاصية ما في اليهود، وخصوصية كامنة فيهم، تجعل من العسير على كل المجتمعات الإنسانية دمجهم، أو استيعابهم، وتجعل اندماجهم فيها عسيراً.

ويتسم اليهود (حسب نموذج المؤامرة الكبرى) بالشر والمكر والرغبة في التدمير (فهذه أمور وُجدت في عقولهم بالفطرة وهي بُعد أساسي وثابت في طبيعتهم)، وسلوكهم هو تعبير عن مخطط جبار وضعه العقل اليهودي الذي يخطط ويدبر منذ بداية التاريخ، والذي وضع تفاصيل المؤامرة الكبرى العالمية لتخريب الأخلاق وإفساد النفوس حتى تزداد كل الشعوب ضعفاً ووهناً بينما يزداد اليهود قوة، وذلك بهدف السيطرة على العالم (وربما لإنشاء حكومة عالمية يكون مركزها أورشليم القدس). والتاريخ اليهودي بأسره إن هو إلا تعبير عن هذا النموذج وعن هذه المؤامرة الأزلية المستمرة، واليهود من ثم هم المسئولون في كل الأزمنة والأمكنة عن كل الشرور والمنكرات. فهم، على سبيل المثال، الذين أراقوا دم المسيح (حسب الرواية المسيحية)، وهم الذين وضعوا السم للرسول عليه الصلاة والسلام، وهم وراء مؤامرة عبد الله بن سبأ (ثم أتباعه من بعده) للقضاء على الإسلام، وهم الذين قاموا بدس الإسرائيليات دساً على الدين الحنيف، بل يُنسَب إليهم ذبح الأطفال واستخدام دمهم في صنع خبز الفطير الذي يأكلونه في عيد الفصح.

وفي العصر الحديث يرى التآمريون أن اليهود وراء أشكال الانحلال المعروفة والعلنية (وغير المعروفة والخفية) في العالم الغربي والعربي، بل وفي كل أرجاء العالم. فهم وراء المحافل الماسونية التي أسسوها أداة لمؤامراتهم، وهم وراء البهائية التي تسعى لإفساد الإسلام وكل العقائد، وهم الذين أدوا إلى ظهور الرأسمالية بكل بشاعتها، والبلشفية بكل إرهابها، والإباحية بكل تدميرها، وهم يسيطرون على رأس المال العالمي والحركة الشيوعية ويتحكمون في الصحافة ووسائل الإعلام. وهم الذين ضغطوا على الإمبراطورية الإنجليزية وجعلوها تُصدر وعد بلفور. وهم الذين أسقطوا الدولة العثمانية من خلال يهود الدونمه وهم الذين يحركون الآن اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية ويوجهون الإعلام الأمريكي ويجندون الصوت اليهودي، وذلك حتى يُسخِّروا الولايات المتحدة ويُرغموها، بما لديهم من نفوذ وسطوة وهيمنة، على تحقيق مآربهم وتنفيذ مصالحهم. وهم على اتصال بعالم الجريمة للمساعدة في إفساد العالم. والصهيونية ليسـت ظاهرة مرتبطة بحركيات التــاريخ والفكر الغربي، وليست مرتبطة بظهور الإمبريالية الغربية وهيمنتها على العالم، وإنما هي مجرد تعبير عن هذا الشر الأزلي الكامن في النفس اليهودية الذي يتبدَّى في الغزو الصهيوني لفلسطين، وضرب المفاعل الذري العراقي وغزو لبنان وقمع الانتفاضة والهجرة اليهودية السوفيتية إلى فلسطين والسوق الشرق أوسطية... إلخ. ومن أهم إفرازات هذاالتصور الاختزالي الوثيقة المسماة بروتوكولات حكماء صهيون.

وقد ساعد على نشر التصورات التآمرية عن اليهود، شعائرهم الدينية المركبة التي لا يستطيع كثير من الناس فهمها. كما ساهمت النزعة الحلولية الانعزالية في الدين اليهودي، والتصورات اليهودية الخاصة بالشعب المختار، والمركزية الكونية والتاريخية التي يضفيها اليهود على أنفسهم، في تعميق شكوك غير اليهود فيهم. ومما لا شك فيه أن وجود اليهود، بوصفهم جماعات وظيفية متفرقة، داخل عديد من المجتمعات الغربية، تنتظمها شبكة من العلاقات التجارية الوثيقة التي تحقق من خلالها قدراً كبيراً من النجاح التجاري والمالي قد عمَّق الرؤية التآمرية لليهود. وقد بلغت هذه الشبكة قمة تماسكها وقوتها في القرن السابع عشر حين كانت تنتظم يهود الأرندا في شرق أوربا، ويهود البلاط في وسطها وغربها، ويهود السفارد في البحر الأبيض والدولة العثمانية وشبه جزيرة أيبيريا والعالم الجديد، وخلق هذا الوجود الإحساس بالتنسيق فيما بينهم. ومع ضعف المجتمعات الغربية وبنائها القيمي، بسبب انتشار قيم النفعية والعلمانية، ومع تركُّز اليهود في كثير من الحركات العلمانية والفوضوية، تعمَّق الإحساس بأن ثمة مؤامرة يهودية تهدف إلى السيطرة على العالم كما تهدف إلى إفساده.

والباحث المدقق سيكتشف أن الرؤية الاختزالية التآمرية لليهود لا تختلف في أساسياتها مطلقاً عن الرؤية الاختزالية الصهيونية لليهود. فكلا الفريقين يرى اليهود من خلال رؤية واحدية اختزالية ساذجة، تقوم بتبسيط دوافعهم ووجودهم في التاريخ إذ أنها تسقط عنهم زمنيتهم وتركيبيتهم وإنسانيتهم. فبدلاً من رؤية أعضاء الجماعات اليهودية كجزء من تواريخ بلادهم وحضاراتهم، فإنها تنظر إليهم باعتبارهم كياناً واحداً متماسكاً فريداً يتحرك داخل تاريخه اليهودي الخاص بمعزل عن المجتمعات التي يعيشون فيها. وبسبب هذا الاتفاق بين الفريقين نجد أن كلاًّ من التآمريين والصهاينة يتحدثون عن «الشعب اليهودي عبر التاريخ» وعن «الشخصية اليهودي في كل العصور» وعن «العبقرية أو الجريمة اليهودية في كل زمان ومكان» وهكذا.

ويُقدِّم كلا الفريقين تصوُّراً لليهود باعتبارهم كيانات بسيطة دوافعها وغاياتها بسيطة. فأعضاء الشعب اليهودي هذا، حسب رؤية التآمريين والصهاينة، لا يشعرون بالانتماء لأوطانهم، إذ أنهم أينما وُجدوا يحنون لصهيون ويدينون لها وحدها أو لحكومتهم اليهودية بالولاء، ومن ثم فاليهودي عادةً يعاني من ازدواج الولاء ولا يشعر بالاستقرار في وطنه، ونتيجةً لهذا يصبح شخصية مريضة لا تخضع للقوانين الإنسانية العامة، يقاوم الاندماج في الأغيار ويقع ضحية فريدة لعنفهم.

والخلاف بين التآمريين والصهاينة لا يوجد في التشخيص أو في الوصف أو في المنطلقات أو المسلمات ولا حتى في الحل وإنما في آليات الحل وحسب،أي أن الاختلاف بينهم اختلاف إجرائي بسيط وليس كلياً وشاملاً،فكلا الفريقين يطرح حلاًّ بسيطاً لمشكلة الكيان اليهودي المتماسك الفريد الذي يرفض الاندماج،ألا وهو ضرورة «خروج » اليهود من أوطانهم.ولكن بينما يرى التآمريون وأعداء اليهود أنه لا مناص من استخدام العنف في هذه العملية (من طرد وإبادة)،فإن الصهاينة يرون أن الحركة الصهيونية يمكنها أن تشرف على عملية الخروج هذه بطريقة منهجية منظمة،بحيث لا يوجد أي مبرر للعنف.ومع هذا،لا يستبعد الصهاينة استخدام العنف كآلية لإخراج اليهود منأوطانهم،كما حدث عام 1951،حينما ألقى عملاء إسرائيل القنابل على أماكن تجمُّع أعضاء الجماعة اليهودية في العراق حتى يضطروهم للهجرة منها إلى الدولة الصهيونية الناشئة، وكما يحدث الآن حينما تضغط الحركة الصهيونية على الولايات المتحدة لتغلق أبوابها أمام اليهود السوفييت حتى يضطروا إلى الهجرة إلى إسرائيل.

وفكرة المؤامرة أكذوبة تلائم معظم الأطراف المشتركة في الصراع الإسرائيلي، فإسرائيل تستفيد كثيراً من هذا الفكر التآمري لأنه يضفي عليها من القوة ما ليس لها، ومن الرهبة ما لا تستحق، وهو في نهاية الأمر يجعلها تكسب معارك لم تدخلها قط.

كما أن الحكومات الأمريكية المختلفة تفسر للزعماء العرب عجزها عن مساعدة الحق العربي بتعاظم النفوذ الصهيوني في الكونجرس. أما الحكومات العربية، فإنها تُفسِّر تخاذلها وهزيمتها أمام العـدو الصهـيوني على أساس الأسطورة المريحة نفسها. وبالتالي، يجد كل من أطراف الصراع تفسيراً يبدو معقولاً ومقبولاً لوضعه أمام نفسه وأمام جماهيره.

اليهـــــود كشــــياطــين

Demonization of the Jews

من الصور الأساسية المتواترة في أدبيات معاداة اليهود تصويرهم على أنهم شياطين، فالشر لصيق بطبيعتهم، فهم يخربون أي مجتمع يعيشون في كنفه، ويحيكون المؤامرات عبر التاريخ للقضـاء على الجنـس البشـري (ربما مثل إبليـس منذ أن خـرج من الجنة). وهذا هو المفهوم الكامن وراء بروتوكولات حكماء صهيون ووراء فكرة المؤامرة اليهودية العالمية. وهذه الفكرة تفترض وحدة اليهود عبر التاريخ وأنهم يمتلكون قوة سحرية (تماماً مثل الشيطان)، ولذا فهـم لا يُقهرون أو لا يمكـن قـهرهم إلا باللجــوء للحلول السحرية، إذ لا يهزم السحر إلا السحر. كما لا يمكن هزيمة الشياطين بالجهد البشري العادي، جهاداً كان أو اجتهاداً، ولذا في مجابهة الشيطان لا يملك المرء إلا أن يستعيذ بالله أو يفر من الشيطان أو يستسلم له، ويوقِّع معاهدة سلام واستسلام.

والإيمان بأن اليهود وحدة صلبة متماسكة لا تُقهر، أو بأن إلحاق الهزيمة بهم في حكم المستحيل، هي فكرة تروج لها الدعاية الصهيونية الواعية (والدعاية المعادية لليهود غير الواعية). وتظهر في شعارات مثل «جيش الدفاع الإسرائيلي الذي لا يُقهر». وفكرة اليهود كشياطين هي مقلوب فكرة اليهود ككتلة صلبة لا تُكسر، وكلاهما يدور فيإطار الحلولية الكمونية الواحدية. فكما أن الفكر الحلولي (الصهيوني) يجعل اليهود موضعاً للحلول الإلهي (باعتبارهم الشعب المختار صاحب الحقوق المطلقة)، فإن مفهوماليهود كشياطين يجعلهم موضع الشر الكوني الذي لا يتحول، فالأول يجعل منهم شعباً مقدَّساً يتجاوز الخير والشر، والثاني يجعل منهم شعباً شيطانياً يتجاوز الخير والشرأيضاً. وهذه الفكرة لها امتدادها في التراث المسيحي الذي يجعل من اليهودي مركزاً للدراما المسيحية الكونية التي تدور حول صلب المسيح وقيامه والتي يلعب فيها اليهوددور قاتل الرب الذي يقف بعد ذلك، في ضعته وتدنيه، شاهداً على انتصار الكنيسة وعظمتها. وقد وجدت هذه الفكرة طريقها إلى العالم الإسلامي وحلّت محل فكرة الفطرةالخيرة التي يولد الإنسان بها.

وإضفاء صفة الإنسانية على أعضاء الجماعات اليهودية (بدلاً من الشيطانية) يعني إمكانية دراستهم وفهمهم والتمييز بين الخيِّر والشرير فيهم، وبين العدو والصديق، وفي نهاية الأمر طرح إمكـانية الجـهاد ضد من يعادينا ويغتصب أرضنا منهم وإلحاق الهزيمة بـه.

بروتوكـــولات حكمـــاء صهيــون

Protocols of the Elders of Zion

كلمة «بروتوكول» كلمة إنجليزية تعني «اتفاقية»، و بروتوكولات حكماء صهيون وثيقة يُقال إنها كتبت عام 1897 في بازل بسويسرا، أي في العام نفسه الذي عقد فيه المؤتمر الصهيـوني الأول. بل يزعم البعض أن تيودور هرتزل تلاها على المؤتمر، وأنها نوقشت فيه، بل وتذهب بعض الآراء إلى التأكيد على أن المؤتمرات الصهيونية المختلفة إن هي إلا مؤتمرات حكماء صهيون هذه، وأن الهدف من المؤتمر السري الأساسي الأول الذي ضم حاخامات اليهود هو وضع خطة محكمة (بالتعاون مع الماسونيين الأحرار والليبراليين والعلمانيين والملحدين) لإقامة إمبراطورية عالمية تخضع لسلطان اليهود وتديرها حكومة عالمية يكون مقرها القدس. وتقع البروتوكولات البالغ عددها أربعاً وعشرين بروتوكولاً في نحو مائة وعشر صفحات، ونشرت لأول مرة عام 1905 ملحقاً لكتاب من تأليف سيرجي نيلوس وهو مواطن روسي ادعى أنهتسلَّم المخطوطة عام 1901 من صديق له حصل عليها من امرأة (مدام ك) ادعت أنها سرقتها من أحد أقطاب الماسونية في فرنسا. لكن نيلوس نفسه أخبر أحد النبلاء الروس بأن هذه المرأة أخذتها من رئيس البوليس السري الروسي في فرنسا، وأن الأخير هو الذي سرقها من أرشيف المحفل الماسوني. وقد كانت لنيلوس اهتمامات صوفية متطرفة، كما كان غارقاً في الدراسـات الخاصـة بالدلالات الصوفية للأشـكال الهندســية.

وقد لاقت البروتوكولات رواجاً كبيراً بعد نشوب الثورة البلشفية التي أسماها البعض آنذاك «الثورة اليهودية»، إذ عزا الكثيرون الانتفاضات الاجتماعية التي اجتاحت كثيراً من البلدان الأوربية إلى اليهود.

وانتقلت البروتوكولات إلى غرب أوربا عام 1919 حيث حملها بعض المهاجرين الروس. وبلغت البروتوكولات قمة رواجها في الفترة الواقعة بين الحربين، حينما حاول كثير من الألمان تبرير هزيمتهم بأنها طعنة نجلاء من الخلف قام بها اليهود المشتركون في المؤامرة اليهودية الكبرى أو العالمية. وقد أصبحت البروتوكولات من أكثر الكتب رواجاً في العالم الغربي بعد الإنجيل، وتُرجمت إلى معظم لغات العالم وضمن ذلك العربية حيث ظهرت عدة طبعات منها. وحازت البروتوكولات اهتمام بعض المشتغلين بالتأليف وبالإعلام حيث أشاروا إليها باستحسان كبير، وكأنها وثيقة ذات شأن كبير. ولحسن الحظ، لا يوجد مركز دراسات عربي واحد أعارهـا أي اهتمـام، ولايتـم نشـرها إلا من خـلال دور نشـر تجـارية.

والرأي السائد الآن في الأوساط العلمية التي قامت بدراسة البروتوكولات دراسـة علمية متعمقة هو أن البروتوكولات وثيقة مزورة، استفاد كاتبها من كتيب فرنسي كتبه صحفي يدعى موريس جولي يسخر فيه من نابليون الثالث بعنوان حوار في الجحيم بين ماكيافللي ومونتسيكو، أو السياسة في القرن التاسع عشر، نُشر في بروكسل عام 1864، فتحول الحوار إلى مؤتمر وتحول الفيلسوف إلى حكماء صهيون. وقد اكتُشفت أوجه الشبه بين الكتيب والبروتوكولات حيث تضمنت هذه الأخيرة اقتباسات حرفية من الكتاب المذكور، وأحياناً تعبيرات مجازية وصوراً منه. والرأي السائد الآن أن نشر البروتوكولات وإشاعتها إنما تم بإيعاز من الشرطة السياسية الروسية للنيل من الحركات الثورية والليبرالية ومن أجل زيادة التفاف الشعب حول القيصر والأرستقراطية والكنيسة وبتخويفهم من المؤامرة اليهودية الخفية العالمية.

وقد قمنا بدراسة سريعة لعناصر خطاب البروتوكولات (الأسلوب والمفردات والصور... إلخ)، فوجدنا أن هناك من الدلائل ما يدعم وجهة النظر القائلة بأنها وثيقة مزيفة:

1 ـ يُلاحَظ أن البروتوكولات وثيقة روسية بالدرجة الأولى والأخيرة:

أ) فكاتب الوثيقة لا يعرف شيئاً عن المصطلح الديني اليهودي ولا يسـتخدم أية كلمات عبرية أو يديشية. وهناك إشــارتان للإله الهندي فشنو، وإشارة واحدة لأسرة داود. وبطبيعة الحال، يمكن إثارة القضية التالية: إذا كانت البروتوكولات وثيقة سرية، فلماذا لم يكتبها حاخامات اليهود بالعبرية أو الآرامية أو اليديشية ليضمنوا عدم تَسرُّبها؟ ومما يجدر ذكره أن كثيراً من يهود روسيا آنذاك كانوا يتحدثون اليديشية ولا يعرفون الروسية. وكان حزب البوند، أكبر الأحزاب العمالية في أوربا يدافع عن حقوق العمال من أعضاء الجماعة اليهودية ويُطالب بالاعتراف باليديشية باعتبارها لغتهم القومية (باعتبارهم أحد «شعوب» الإمبراطورية الروسية).

ب) الموضوعات الأساسية المتواترة في البروتوكولات موضوعات روسية، فهناك دفاع عن الاستبداد المطلق وعما يُسمَّى «الأرستقراطية الطبيعية الوراثية»، وهجوم شرس على الليبرالية والاشتراكية، وهو ما يبيِّن أن اهتمامات الكاتب روسية تماماً وتعكس رؤية الطبقة الحاكمة الروسية في السنين الأخيرة من حكم النظام القيصري.

جـ) هناك هجوم على الكنيسة الكاثوليكية واليسوعية، وهو ما يدل على أثر التربة المسيحية الأرثوذكسية السلافية التي كانت تناصب الكاثوليكية العداء.

د) ثمة هجوم شرس على الماسونية، التي كانت آنذاك جزءاً لا يتجزأ من الحركة الليبرالية والثورية الروسية.

هـ) هناك هجوم شديد على دزرائيلي، الذي كان شخصية مكروهة تماماً من النخبة الحاكمة في روسيا لأنه كان يساند الدولة العثمانية حتى تظل حاجزاً منيعاً ضد توسُّع الإمبراطورية الروسية.

2 ـ كما أن نبرة البروتوكولات ساذجة للغاية، فمن الواضح أن كاتبها الذي زيفها، لا يجيد التزييف، فقد حاول أن يبيِّن الخطر العالمي لليهود. وحتى يعطي وثيقته درجة من المصداقية، جعل حكماء صهيون (لا أحد سواهم) يتحدثون عن الخطر اليهودي، حتى يبدو الأمر كله وكأنه « شهد شاهد من أهلها »، غير أنه لم يكن على درجة كبيرة من الذكاء في عملية تزييفه هذه:

أ) ففي الصفحة الأولى من البروتوكول الأول ينطق حكيم صهيون الأول بالكلمات التالية: "يجب أن يُلاحَظ أن ذوي الطبائع الفاسدة من الناس أكثر عدداً من ذوي الطبائع النبيلة". وهذه ملحوظة تبين الشر المتأصل في صاحبها. ولكن السؤال البدهي الذي يطرح نفسه هو: لماذا يصر كبير حكماء صهيون على نقل هذه الآراء لحكماء صهيون؟ أليس كل الحاضرين من الأشرار الذين لا توجد شبهة في شرهم؟ والسذاجة نفسها تتبدَّى في الملاحظة التي ترد بعد عدة صفحات حيث يقول كبير الحكماء: "إن الغاية تبرر الوسيلة، وعلينا (ونحن نضع خططنا) ألا نلتفـت إلى ما هو خـيِّر وأخلاقي بقدر ما نلتفت إلى ما هو ضروري ومفيد!" ومرة أخرى لماذا يكلف كبير الحكماء نفسه بتذكيرالحاضرين من الحاخامات بمثل هذه البدهيات المتداولة بين الأشرار في كل زمان ومكان؟ أم أنه لاحَظ بعض علامات الخير بينهم فأراد أن يحذرهم منها؟

ب) يحاول واضع البروتوكولات أن يضخم اليهود وقوتهم ليخيف الناس منهم فيجعلهم ينسبون إلى أنفسهم في البروتوكول الثاني كل شر فيقول: "نجاح داروين وماركس ونيتشة قد رتبناه من قبل". ولكنه ينسى نفسه بعد قليل وتتبدل النبرة إذ يبدأ اليهود في توجيه الاتهامات لأنفسهم في البروتوكول الثاني نفسه: "من خلال الصحافة اكتسبنا نقودنا، وبقينا نحن وراء الستار، وبفضل الصحافة كدَّسنا الذهب، ولو أن ذلك سبَّب أنهاراً من الدم". وهذه في الواقع عريضة اتهام موجهة للذات؛ فلماذا يكلف كبير الحكماء خاطره ليقدمها لبقية أعضاء المجتمع الذين يعرفون ذلك مسبقاً؟ ولماذا يُصر على أن يُخبرهم في البروتوكول الثالث أن "أسرار تنظيم الثورة الفرنسية معروفة لنا جيداً لأنها من صنع أيدينا، ونحن من ذلك الحين نقود الأمم قدماً من فشل إلى فشل، حتى أنهم سوف يتبرأون منا " فمن يمكن أن يصف حركته بأنها حركة لقيادة الأمم من "فشل إلى فشل"، ويصر على أن هذه الحركة ستودي بهم؟ ثم يضيف في البروتوكول التاسع: "إن لنا طموحاً لا يُحدّ، وشرّهاً لا يُشبع، ونقمة لا تَرحم، وبغضاء لا تُحس. إننا مصدر إرهاب بعيد المدى. وإننا نُسخِّر في خدمتنا أناساً من جميع المذاهب والأحزاب". ثم يتطوع بالتأكيد على ما يلي: « لقد خدعنا الجيل الناشيء من الأمميِّين، وجعلناه فاسداً متعفناً بما علمناه من مبادئ ». ومن الواضح أن التزييف لم يبق منه سوى صيغة المتكلم الجمع، أما الباقي فهو اتهامات موجهة بالتآمر لليهود، ينسبها كاتبها لهم حتى تبدو كما لو كانت صادقة.

ويمكننا الآن أن نعرض للأفكار الأساسية في البروتوكولات التي تؤكد أن السياسة لا تخضع للأخلاق، وأن اليهود سينفذون مخططهم الإرهابي عن طريق الغش والخداع. فعلى مستوى المجتمع، سيقومون بتقويض دعائم الأسرة وصلات القرابة، وإشاعة الإباحية، واستغلال الحريات العامة، وتخريب المؤسسات المسيحية، وإفساد أخلاق العالمالمسيحي الأوربي. أما على مستوى الدولة، فإنهم سيسعون إلى تقويض كيان الدول عن طريق الإيقاع بينها بحيث تندلع الحروب، على ألا تؤدي هذه الحروب إلى تعديلات في حدود الدول أو إلى مكاسب إقليمية، ليتمكن رأس المال فقط من الخروج بالغنائم. وينبغي التركيز على المنافسة في المجتمع، وعلى تصعيد الصراع الطبقي، ليجري الجميع نحو الذهب الذي لابد أن اليهود سيحتكرونه، وتُصاب المؤسسات الدينية والسياسية بالاهتراء ويسود رأس المال كل شيء.

وتهتم البروتوكولات في المراحل الأولى من المخطَّط بأن يسيطر اليهود على الصحافة ودور النشر وسائر وسائل الإعلام، حتى لا يتسرب إلى الرأي العام العالمي إلا ما يريدونه. كما أنها ترى ضرورة أن يسيطر اليهود على الدول الاستعمارية وأن يسخروها حسب أهوائهم. كما أنهم سيسيطرون أيضاً، بطبيعة الحال، على الدول الاشتراكية المعادية للاستعمار. و البروتوكولات تجعل اليهود مسئولين عن كل شيء: عن الخير والشر، والثورة والثورة المضادة، والاشتراكية والرأسمالية. فالبروتوكول السادس، مثلاً، يقول: «كي نخرب [أي نحن اليهود] صناعة الأغيار سنزيد من أجور العمال [اتجاهات اشتراكية] ونعرِّض الصناعة للخراب والعمال للفوضى [اتجاهات فوضوية[».

ومن الواضح أن البروتوكولات ليست نقداً لليهود بمقدار ما هي تعبير عن إحـساس الإنسان الأوربي في أواخر القرن التاسع عشر بأزمته، و بقدر ما هي تعبير عن إدراكه السطحي المباشر لها بعد تزايد معدلات العلمنة في الغرب وبعد تفكك المجتمع التقليدي الذي كان يوفر له قدراً كبيراً من الطمأنينة، حتى وإن سلبه حريته وفرصه في الحراك الاقتصادي. فالمجتمع الذي يحاول اليهود فرضه على العالم، حسبما جاء في البروتوكولات، ليس عالماً شريراً بشكل شيطاني ميتافيزيقي، وإنما هو في الواقع العالم الغربي الصناعي الذي سادت فيه قيم العلمانية والنفعية، ومن هنا كان الجمع بين الرأسمالية والاشتراكية باعتبارهما نظامين يبشر بهما اليهود، كما كان الجمع بين نتيشه وماركس باعتبارهما فيلسوفين يبشر اليهود بفكرهما. فبرغم الاختلافات العميـقـة بين النظامـين المذكورين، والاختـلاف بين الفيلسوفين، فإن العامل المشترك الأعظم (أو نقطة البدء أو التلاقي) هو تأسيس مجتمع علماني يستند إلى قيمتي المنفعة واللذة لا إلى القيم الدينية الأخلاقية المطلقة.

وقد وُجد أعضاء الجماعات اليهودية في مختلف القطاعات والاتجاهات، شأنهم في ذلك شأن أعضاء أية أقلية أخرى، فكانت توجد أعداد كبيرة من كبار المموِّلين الرأسماليين اليهود، كما كان كثير من أعضـاء الجمـاعات اليهـودية يشتغلون بالتجارة الصغيرة والربا، وكان من بينهم عدد كبير من المفكرين الليبراليين بل والرجعيين الذين يدافعون عن حرية التجارة وعن أكثر الأفكار الداروينية الاجتماعية تطرفاً. بل ونجد أن بعض اليهود ارتبطوا بالتجارب الاستعمارية الغربية غير الصهيونية كما حدث في جنوب أفريقيا (في صناعة التعدين)، أو في شركة الهند الشرقية الهولندية، أو في شركة قناة بنما. كما تركَّز أعضاء الجماعات اليهودية بأعداد كبيرة في قطاعات اقتصادية مشينة مثل البغاء (قوادين وعاهرات) ونشر المجلات والمطبوعات الإباحية. وقد ربط هذا بين اليهودي من جهة وكلٍّ من «اليمين» و«التحلل الرأسمالي» و«التفكك الليبرالي» من جهة أخرى.

ولكن، إلى جانب ذلك، كانت هناك أعداد كبيرة من أعضاء الجماعات اليهودية في حركة اليسار أيضاً: فقد كان أكبر حزب اشتراكي في أوربا هو حزب البوند اليهودي. وقد انخرط الشباب اليهودي بأعداد كبيرة في الحركات الثورية، حتى أن 30% من أعضاء الحركات الثورية في روسيا القيصرية كانوا من الشباب اليهودي. وحينما قامت جمهورية بلشفية في المجر عام 1919، كان رئيس الدولة يهودياً، وكان عدد اليهود من الوزراء كبيراً لدرجة مدهشة، وكانت هناك أعداد كبيرة من المفكرين الاشتراكيين والشيوعيين من أصل يهودي. كما كان لليهود حضور واضح في الفكر الفوضوي. وفي نهاية الأمر، كان كل من روتشيلد رمزاً للارتباط العضوي بين اليهود والرأسمالية، وماركس رمزاً للارتباط العضوي أيضاً بين اليهود والاشتراكية. ولذا، كان من الممكن تفسير كل شيء بالرجوع إلى مقولة «يد اليهود الخفية».

ولعل ما ساعد على إشاعة هذا النموذج التفسيري الساذج أن الوجدان المسيحي كان يجعل من اليهودي قاتل الرب رمزاً لكل الشرور. وقد شهدت نهاية القرن التاسع عشرعصر الهجرة اليهودية الكبرى، ولذا كان هناك يهود في كل مكان، يهود لا جذور لهم في طريقهم من شرق أوربا إلى الولايات المتحدة. وكما هو معروف، فإن الإنسان المهاجر المتنقل لا يلتزم بكثير من القيم. ولكل هذا، أصبح اليهودي رمزاً متعيناً لعملية ضخمة لم يكن الإنسان الأوربي يفهمها جيداً رغم شقائه الناجم عنها، وهي الثورةالعلمانية الشاملة الكبرى (بشقيها الاشتراكي والرأسمالي)، وهي ثورة لم يكن اليهودي يشكل فيها سوى جزء بسيط من كلٍّ ضخم مُركَّب. بل إن العقيدة اليهودية ذاتها سقطتضحية هذه الثورة، وفقدت قطاعات كبيرة من الجماعات اليهودية هويتها نتيجةً لها.

والفكرة الأساسية في البروتوكولات هي فكرة الحكومة اليهودية العالمية. لكن المعروف تاريخياً أنه لم تكن هناك سلطة مركزية تجمع سائر يهود العالم بعد تحطيم الهيكل على يد نبختنصر عام 586 ق.م، وذلك بسبب طبيعة الوجود اليهودي في العالم حيث انتشر اليهود على هيئة أقليات دينية لا يربطها رباط قومي، وقد كان لكل أقلية محاكمها وهيئاتها الخاصة التي تقوم برعاية شئونها. ولكن اليهود لا يختلفون في هذا عن أية أقلية دينية أو جماعة وظيفية أخرى.

وهنا، يمكن أن نثير قضية مهمة هي قضية الوسائل: هل للجماعات اليهودية في العالم من القوة ما يمكنها من تنفيذ هذا المخطط الإرهابي العالمي الضخم؟ إن الدارس لتواريخ الجماعات اليهودية يعرف أنها كانت دائماً قريبة من النخبة الحاكمة لا بسبب سطوتها أو سلطانها وإنما بسبب كونها أداة في يد النُخب ولأنها لم تكن قط قوة مستقلة أو صاحبة قرار مستقل.

والإشارة إلى البروتوكولات واستخدامها في الإعلام المضاد للصهيونية أمر غير أخلاقي لأنها وثيقة مزوَّرة، ولا توجد دراسة علمية واحدة (سواء بالعربية أو بغيرها من اللغات) تثبت أنها وثيقة صحيحة. ولكن، وحتى ولو كانت البروتوكولات وثيقة صحيحة، فإن من يستخدمها يفقد مصداقيته وفعاليته أمام الرأي العام الغربي الذي لا يؤمنبصحتها. كما لا يمكن إثبات أن هذه الوثيقة تعبر تعبيراً حقيقياً عن دوافع أغلبية أعضاء الجماعات اليهودية في العالم، أو أنهم يأخذون بها كوثيقة ملزمة تحدد سلوكهموأهدافهم. وبسبب السمعة الشائنة للبرتوكولات، فإن الصهاينة يصفون أي نقد موجَّه إليهم بأنه وقوع في أحابيل البروتوكولات. ومن الطريف أن هناك وثائق يتداولها بعضأعضاء الجماعات اليهودية تحتوي على آراء أكثر تآمرية من البروتوكولات مثل ما يُسمَّى كتاب التربية الذي يوزع في إسرائيل في الوقت الحالي. كما يحوي التلمودوتراث القبَّالاه (وهي كتابات يهودية لا شك فيها) مقطوعات عنصرية إلى أقصى درجة، ولكن يبدو أن مروِّجي البروتوكولات لا يعرفون عنها شيئاً، وهي على كلٍّ كتابات لا يعرف عنها معظم أعضاء الجماعات اليهودية بدورهم شيئاً، ولا يتداولها في الغالب إلا بعض العنصريين الموجودين في كل المجتمعات وبين أتباع كل العقائد.

وثمة رأي يذهب إلى أن الصهاينة يقومون بالترويج لهذه البروتوكولات لأنها تخدم المشروع الصهيوني الذي يهدف إلي ضرب العزلة على اليهود وتحويلهم إلى مادة خام صالحة للتهجير والتوطين في فلسطين المحتلة. كما أن كثيراً من الافتراضات الكامنة في البروتوكولات، مثل «الشعب اليهودي» و«الشخصية اليهودية» و«المصالح اليهودية»، هي جميعاً افتراضات صهيونية أساسية والهجوم عليها هو في واقع الأمر تسليم غير مباشر بوجودها.

وسواء أكان هذا الرأي الأخير صحيحاً أم كاذباً، فإن ترويج البروتوكولات يخدم المصالح الصهيونية من الناحية العملية. ويتم الآن، في العالم العربي، تداول كم هائل من الكتابات (مثل أحجار على رقعة الشطرنج وغيرها) كل هدفها إشاعة الخوف من اليهود والصهيونية بتبنِّي رؤية بروتوكولية تنسب إلى اليهود قوى عجائبية. ويساهم بعض أعضاء النخب الحاكمة في الترويج لهذه البروتوكولات لتبرير العجز العربي والتخاذل أمام العدو الصهيوني، دون أن يدركوا أنهم بهذا إنما يخدمون مصلحة العدو. وقد صرح المعلق السياسي الإسرائيلي يوئيل ماركوس في جريدة هآرتس (31 ديسمبر 1993) بأن كثيراً من الدول تغازل إسرائيل وتحاول أن تخطب ودها نظراً لأن حكام هذه الدول يؤمنون بأن البروتوكولات وثيقة صحيحة وأن ما جاء فيها هو المخطط الذي يتحقق في العالم والذي سيؤدي إلى سيطرة اليهود وأن اليهود يتحكمون بالفعل في رأس المال العالمي وفي حكومة الولايات المتحدة. ومن ثم فالطريق إلى المعونة الأمريكية يمر من خلال اللوبي الصهيوني والدولة الصهيونية. ويضيف ماركوس معلقاً على هذه المفارقة: "إن البروتوكولات [بسبب أثرها هذا الذي يولِّد الرهبة في النفوس ويدفع الناس لمغازلة إسرائيل واليهود] تبدو كأن الذي كتبها لم يكن شخصاً معادياً لليهود، وإنما يهودي ذكي يتسم ببعد النظر". وقد أثبتت الانتفاضة الفلسطينية أن اليهود بشر وأن إلحاق الأذى بهم وهزيمتهم أمر ممكن، وأنهم قد يهاجمون عدوهم كالصقور حينما تسنح الفرصة ثم يفرون كالدجاج حينما يدركون مدى قوته وإصراره. والاستمرار في إشاعة الرؤية البروتوكولية هـو نـوع من الإصرار على مد يد العون للعدو الصهيوني، وعلى التنكر لإنجازات الانتفاضة.

ولا يمكن للمسلم الملتزم بتعاليم دينه أن يوجه الاتهام إلى أي إنسان جزافاً ودون قرائن، كما لا يمكن لرؤية دينية حقة أن تحكم على الفرد باعتباره تجسداً لفكرة، إذ يظل كل إنسان مسئولاً عن أفعاله. وقد عرَّف الإسلام حقوق أعضاء الأقليات، خصوصاً أهل الكتاب، فحدّد أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وهي حقوق مطلقة لا يمكن التهاون فيها. وفي الواقع، فإن استخدام البروتوكولات لاتهام اليهود فيه سقوط في العنصرية والعرْقية التي تصنف الناس لا على أساس أفعالهم وإنما على أساس مادي لاديني (علماني) مسبق وحتمي. ولذا، فهي لا تميِّز بين ما هو خيّر وما هو شر.

اليــهـودي الـدولي

International Jew

شهدت أوائل العشرينيات في الولايات المتحدة نشر عدة كتب معادية لليهود من بينها بروتوكولات حكماء صهيون وكتيب سبب عدم الاستقرار في العالم الذي سبق نشره على هيئة سلسلة مقالات في جريدة المورننج بوست اللندنية. وقد نشرت مجلة الديربورن إند بندانت (1920)، التي كان يمتلكها هنري فورد صاحب مصنع السيارات الشهير، بعض هذه الأدبيات وغيرها في سلسلة مقالات بعنوان « اليهودي الدولي ». وبدأ نشر المقالات ابتداءً من 22 مايو 1922 واستمر لمدة سبع سنوات ثم نُشرت المقالات بعد ذلك على هيئة كتيبات. واتهمت هذه المقالات اليهود بأنهم يحاولون هدم أسس الحياة الأمريكية وأنهم وراء مؤامرة عالمية لتحطيم المسيحية والهيمنة على العالم وأن الثورة البلشفية ما هي إلا تعبير عن هذه الثورة المستمرة.

والكتاب، مثله مثل كثير من أدبيات معاداة اليهود في الغرب، يرى اليهودي ممثلاً للثوري المتطرف والثري فاحش الثراء (البلشفي - الصيرفي، تروتسكي ـ روتشيلد)، وهو في نهاية الأمر خليط من شيلوك وعدو المسيح وقاتل الإله واليهودي التائه.

وقد وجدت هذه الدعاية العنصرية قبولاً واسعاً في الأوساط القـروية الريفـية وفي المـدن الصـغيرة وبين بعـض أعضاء النخبة الحاكمة. ولكن غالبية أعضاء النخبة والجهاز السياسي في المدن كانوا يعارضون هذه الحملة إذ أنهم أدركوا أن المهاجرين اليهود بدأوا يتخلون عن رؤيتهم وعقائدهم وهويتهم ويندمجون في المجتمع الأمريكي ويتأمركون أسرع من غيرهم، ولذلك، نُظِّمت حملة مضادة اضطر هنري فورد بعدها للاعتذار عن الحملة التي شنها، وذلك من خـلال لويس مارشــال رئــيس اللجــنة الأمريكية اليهودية.

جيكوب برافمان (1825-1879(

Jacob Brafman

روسي يهودي متنصر. وُلد لأسرة يهودية وتيتم في سن مبكرة، ويبدو أن قيادة الجماعة اليهودية (القهال) في المدينة قرروا أن يرسلوا به ليُجنَّد في القوات القيصرية (ربما بسبب يتمه) الأمر الذي ولَّد في نفسه حقداً كبيراً على اليهود واليهودية. تنصَّر برافمان وهو في سن الرابعة والثلاثين، وعُيِّن أستاذاً للعبرية في إحدى المدارس الدينية اليهودية التابعـة للحكومـة القيصرية، كما عُيِّن رقيباً على الكتـب العبريـة واليديشـية.

هاجم برافمان مؤسة القهال بشراسة ووصفها هي والمؤسسات اليهودية الأخرى بأنها « دولة داخل دولة » وبأنها جزء من مؤامرة دولية. وفي عام 1869، أصدر برافمان كتاب القهال، ثم نشر طبعة ثانية موسعة عام 1875. وقد تُرجم الكتاب إلى الفرنسية والبولندية والألمانية. ويهدف الكتاب إلى إعطاء القراء الروس فكرة عن ممارسات اليهود السرية والتي يستخدمونها للهيمنة على الأغيار. وقد أصبح الكتاب من كلاسيكيات العداء لليهود في الغرب.

والكتاب يتكون أساساً من ترجمات لمحاضر جلسات بعض مجالس القهال. وقد اتُّهم برافمان بالتزوير، ولكن (حسبما جاء في الموسوعة اليهودية [جودايكا]) ثبت أن ما ورد في الكتاب هو ترجمة دقيقة لبعض الجلسات ولذا أصبح الكتاب من أهم المراجع العلمية لدراسة حياة الجماعة اليهودية في روسيا القيصرية.

اليـهودي التائــه

Wandering Jew

«اليهودي التائه» شخصية أسطورية في التراث الشعبي الغربي، وهو إسكافي يهودي يُدعَى كارتافيلوس، طلب منه المسيح عليه السلام، وهو يحمل صليبه، جرعة ماء ليروي بها عطشه، ولكن الإسكافي ضربه بدلاً من أن يسقيه، وقال له: « فلتسرع يا يسوع، ماذا تنتظر؟»، فأجاب المسيح: « أنا ذاهب ولكنك ستنتظر حتى أعود »، فحلت على اليهودي لعنة جعلته يجوب بقاع الأرض إلى أن يعود المسيح مرة أخرى، ومن هنا سُمِّي «اليهودي التائه». وقد بدأت الأساطير المستوحاة من هذه الشخصية الغريبة في الظهور في القرن الثالث عشر وتحولت إلى إحدى الصور الإدراكية النمطية التي يدرك العالم الغربي اليهود من خلالها. ومن الكتب الأولى التي أشارت إليه كتاب زهور التاريخ للراهب الإنجليزي روجر (من وندوفر) عام 1228. وكانت الشائعات تظهر من آونة إلى أخرى، ومن مكان إلى آخر، أن اليهودي التائه قد شُوهد يتجول في هذا المكان أو ذاك بلحيته الطويلة البيضاء وعيونه اللامعة الشريرة وعصاه الطويلة. وكانت آخر مرة قيل إنه شُوهد فيها خلال القرن التاسع عشر.

وقد وجدت هذه الأساطير سنداً لها في سفر ماثيو في كلمات المسيح التي تقول: « الحق أقول إن من القيام ها هنا قوماً لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتياً في ملكوته» (إنجيل متى 16: 28).

وقد ظل اليهودي التائه رمزاً للشعب اليهودي، هذا الشعب الشاهد الذي يقف خارج التاريخ شاهداً مقدَّساً على التاريخ من وجهة نظر اليهود، منبوذاً من الجميع، ومن وجهة نظر المعادين لليهود شعباً عضوياً منبوذاً. وأساس هذه الصورة هو اشتغال أعضاء الجماعات اليهودية بالتجارة والربا كجماعة وظيفية وسيطة، ووقوفهم خارج العملية الإنتاجية على هامش المجتمع، وانتقالهم من بلد إلى بلد بسبب طردهم أو سعياً وراء الربح. كما كان أبطال اليهود في العهد القديم رجالاً جوَّالين لا منزل لهم بسبب البيئة الرعوية التي كانوا يتحركون فيها.

وقد استغل تراث معاداة اليهود في الغرب هذه الصورة في ترسيخ سلبيات ما يُسمَّى «الشخصية اليهودية» في الوجدان الشعبي. ورغم أن أسطورة اليهودي التائه اختفت بعض الوقت، إلا أنها عاودت الظهور في القرن السادس عشر، مع تصاعد الحمى المشيحانية وانتشار العقيدة الألفية أو الاسترجاعية، بعدة أسماء من بينها اسم أهازويروس. وبظهور الرؤية الرومانتيكية للعالم وظهور الفلسفات العبثية والعدمية أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وتحوُّل الاغتراب إلى إحدى علامات التميز والتفوق في الخطاب الفلسفي، تحوَّل اليهودي التائه بدوره إلى رمز لهذا الإنسان المغترب الذي يرفضه المجتمع بسبب تميُّزه ويتعاطف معه المثقفون الثائرون على مجتمعاتهم، وهو الأمر الذي أدَّى إلى خلق جوٍّ من التعاطف الرومانسي مع اليهود.

وتجدر الإشارة إلى أن اليهودي التائه، سواء أكان شخصية سلبية مخربة أم كان شخصية إيجابية عبقرية، يقف دائماً خارج التاريخ وخارج نطاق ما هو إنساني وسويّ. ومن هنا، يمكننا أن نرى كيف يمكن أن تتحول الصورة من صورة يستخدمها المعادون لليهود إلى صورة يستخدمها المحبون لليهود، وذلك دون إدخال أية تغييرات على بنيتها العامة.

هـب هـب

Hep, Hep

»هب هب» صيحة استهزاء كانت شائعة في ألمانيا والنمسا. ويُقال إنها اختصار للعبارة اللاتينية «هيروسوليما إست برديتاhierosolyma est perdita»، ومعناها « لقد ضاعت القدس » التي شاعت أثناء حروب الفرنجة. وهناك رأي يذهب إلى أنها مجرد صوت يستخدم لقيادة الحيوانات المستأنسة، وخصوصاً الكباش والماعز في مقاطعة فراكونيا، مع افتراض أن اليهود هم الماعز بسبب لحيتهم الطويلة. وهناك نظرية ثالثة ترى أنها اختصار لكلمة «هبرايرhebraer» أي «عبرانيون». وقد استُخدمت العبارة في اضطرابات عام 1819 التي يُطلَق عليها «اضطرابات هب هب» والتي كانت تعبيراً عن احتجاج بعض قطاعات الشعب ضد إعتاق اليهود. وتعود الاضطرابات إلى عدة أسباب من بينها أن عام 1816 كان عام مجاعة للفلاحين، فاضطروا إلى الاستدانة من المرابين اليهود، كما عمت البطالة صفوف العمال في ألمانيا آنذاك. وقد رأت العناصر الثورية أن اليهود صنائع لمترنيخ (الذي أشيع عنه أنه كان يتسلم راتباً من كبار المموِّلين اليهود)، وأن مؤتمر فيينا (1814ـ 1815) الذي أوصى بزيادة حقـوق اليهـود في ألمانيا هو ثمرة هذه العلاقة.

كايـــك وشـــيني

Kike and Sheeny

«كايك» هي كلمة تحقير إنجليزية أمريكية ذات نبرة عنصرية فاقعة يستخدمها أعداء اليهود للإشارة إليهم. وقد نحت الكلمة، في القرن التاسع عشر، يهود أمريكيون من أصل ألماني لوصف اليهود المهاجرين من شرق أوربا، وهي إشارة واضحة إلى اللغة اليديشية التي تضم كلمات سلافية كثيرة وإلى اللغة الروسية التي كان يتحدث بها بعضهم، والتي تحتوي على عدد كبير من الكلمات تنتهي بحرف الكاف، مثل «تشرنحوفسكي» و«مالينوفسكي»... إلخ. كما نحت اليهود من أصل ألماني كلمة «شـيني» وهي أيضاً كلمة تحقير أخرى لوصـف يهود اليديشـية.

إسرائيل ويست

Israel West

«إسرائيل ويست» مصطلح يستخدمه المعادون لليهود في الولايات المتحدة ومعناه «إسرائيل غرب». وفي الولايات المتحدة، عادةً ما يشير بعض أعضاء الأغلبية أو أعضاء الأقليات الأخرى إلى المناطق التي يسكن فيها أعضاء الجماعة اليهودية على أنها «إسرائيل» (تماماً كما يُشار إلى أحياء الأمريكيين السود بأنها «أفريقيا»). وقد أشار أحد المتحدثين مرة إلى ما سماه «ذي جويش ستيت أوف نيويورك The Jewish State of New York» أي «ولاية نيويورك اليهودية». وهو لعب على لفظ «ستيت state» الإنجليزي والذي يعني «ولاية» و«دولة» في آن واحد (وأحياناً لا تحمل الإشارة أي مضمون قدحي بل تكون كما في الإشارة إلى «تشيناتاونChinatown» أي «مدينة الصينيين» وإلى «ليتل إيجيبت Little Egypt» أي مصر الصغرى).

وأخيراً، قام ديفيد ديوك، أحد زعماء جماعة الكو كلوكس كلان المعادية للأمريكيين السود، بطرح فكرة بشأن الأقليات التي «لا يمكن دمجها » حسب تعبيره. وسيتم بموجب هذه الخطة نقل (ترانسفير) كل يهود أمريكا إلى «إسرائيل غرب»، أي في ولاية لونج أيلاند وفي حي مانهاتن في نيويورك (باعتبار أن فلسطين هي إسرائيلشرق). وقد أشار ديوك إلى أن عملية الترانسفير هذه قد لا تكون مناسبة بالنسبة لبعض اليهود، ولكنها ـ حسب قوله ـ لن تمس سوى مليوني يهودي، وهو رقم أقل من الثمانية ملايين من الأمريكيين الذين أُرسلوا إلى خارج الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية. وفي إشارة واضحة إلى الدولة الصهيونية، قال ديوك: "إن هذا العدد أقل بكثير من الثلاثة ملايين ونصف مليون فلسطيني التي قامت «إسرائيل شرق» بطردهم من ديارهم".

الباب الثالث: معاداة اليهود والتحيز لهم

معاداة اليهود (والتعاطف مع الصهيونية) كإمكانية/ إشكالية كامنة منذ العصور الوسطى في الغرب

Anti-Semitism (and Pro-Zionism) as a Latent Possibility\ Proble-matic since the Middle Ages in the West

يُلاحظ الدارس أن كلاًّ من ظاهرة معاداة اليهود والصهيونية (وهما وجهان لعملة واحدة) متجذّرتان في الحضارة الغربية. وهذا يعود إلى عدة أسباب تراكبت معاً، ويمكن أن نشير إلى بعضها فيما يلي:

1 ـ سيطر على الحضارة الغربية منذ نشأتها نموذج عضوي في التفكير، ومثل هـذه النمـاذج عـادةً ما تفضل التجانس على عدم التجانس، والاتساق الداخلي الصارم على عدم الاتساق، والواحدية على التعددية، ومن ثم يكون وضع الأقليات قلقاً وغير مستقر، باعتبارها عنصراً من عناصر عدم التجانس.

2 ـ تعود جذور الحضارة الغربية إلى المدن/الدول اليونانية، وهي تشكيلات حضارية صغيرة تتسم بالتجانس الشديد ولا يوجد فيها مكان للغريب، وهو ما دعم هذه الرؤية العضوية، على عكس الحضارات الشرقية التي نشأت في أحضان التشكيلات الإمبراطورية الضخمة فكان عليها أن تتعامل مع عشرات الشعوب والأقليات العرْقية والدينية.

وحينما نشأت الإمبراطورية الرومانية وبسطت نفوذها على الشرق والغرب، فلم تستطع هزيمة التشكيلات الحضارية الشرقية المحلية (الأرمن ـ الأقباط ـ الثقافة الآرامية) بينما قضت على كثير من اللغات والتشكيلات الحضارية في القارة الأوربية وفرضت الثقافة اللاتينية، أي أنها قضت على التنوع الحضاري في القارة الأوربية.

3 ـ طرح الإسلام من البداية مفاهيم أخلاقية ومقولات قانونية للتعامل مع الأقليات الدينية والعرْقية (وهو في هذا متسق إلى حدٍّ كبير مع التقاليد الحضارية في الشرق الأوسط في كثير من مراحله التاريخية)، بينما فشلت المسيحية الغربية في تطوير أية مقولات بشأن الأقليات، حيث لا يصلح مفهوم المحبة (المسيحي) لتنظيم العلاقة بين الأقلية والأغلبية. وفي الوقت نفسه، ظهر مفهوم الشعب الشاهد (الكاثوليكي) والعقيدة الاسترجاعية (البروتستانتية) وهي مفاهيم تتسم بالإبهام الشديد، فهي من ناحية تضع اليهود في مركز الكون باعتبارهم شعباً مقدَّساً، حَمَلة الكتاب المقدَّس، ويتوقف خلاص الكون على استرجاعهم، ولكنهم أيضاً هم قتلة الإله، وهم كذلك في شتاتهم وضعَتهم يقفون شاهداً على عظمة الكنيسة. كما أن خلاص الكون يتوقف على تنصيرهم. وقد ورثت المسيحية الغربية العرف الألماني حيث طُبِّق قانون الصيد على اليهود، وهو قانون يجعل من الغريب ملكاً للملك ومن ثم أصبح اليهود ملكية للملك، وكذلك كتلة بشرية تتعاقد مع الحكومة وليسوا أهل ذمة، فكانوا يوقعون المواثيق التي تمنحهم الحماية والمزايا نظير خدمات يؤدونها أو ضرائب أو مبالغ مالية يدفعونها.

4 ـ تحوَّلت الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية تقف على هامش المجتمع دون أن تصبح من صميمه. وحينما بدأت عملية علمنة الفكر والحضارة الغربية، تمت مناقشة المسألة اليهودية في ضوء مفهوم نفع اليهود، وهو أمر منطقي للغاية إذ أن الجماعة الوظيفية هي جماعة يستند بقاؤها إلى مدى نفعها.

5 ـ ترجم كل هذا نفسه إلى مفهوم الشعب العضوي المنبوذ الذي يشكل إطار كل من العداء العرْقي لليهود والتحيز الصهيوني لهم.

6 ـ ظل اليهود خارج التشكيل الرأسمالي كرأسمالية منبوذة. كما أن الفكر الاشتراكي، كان ينظر إليهم باعتبارهم عناصر تجارية طفيلية مستغلة.

7 ـ ارتبط اليهود بالتشكيل الاستعماري الاستيطاني وجرى النظر إليهم باعتبارهم مادة استيطانية نافعة.

8 ـ شكلت كل هذه العناصر الإطار الذي تطورت من خلاله الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة. ومما له دلالته أن صهيونية غير اليهود تسبق صهيونية اليهود بعشرات السنين، فالصهيونية ظاهرة لصيقة بالحضارة الغربية ويقع عقد بلفور في هذا الإطار حيث تقرَّر إخراج اليهود من التشكيل السياسي الغربي، لأنه لا يطيق وجودهم داخله كعنصر غريب، وتقرَّر نقلهم إلى أي مكان خارج أوربا كعنصر نافع، على أن تقوم أوربا (التي طردتهم) بحمايتهم ودعمهم وضمان بقائهم واستمرارهم وتوظيفهم لصالحها داخل إطار الدولة الوظيفية التي تتحرك في الفلك الغربي. فالدولة الصهيونية هي في نهاية الأمر تَحقُّق هذه الإمكانية الكامنة في الحضارة الغربية: العداء العرْقي لليهود والتحيز الصهيوني لهم. وقد استبطنت المادة البشرية اليهودية المُستهدَفة هذه الصيغة فهوَّدتها.

التحيز لليهود (حب السامية(

Phlio-Semitism

«التحيز لليهود» ترجمة للمفهوم الكامن وراء الاصطلاح الإنجليزي «فيلو سيميتزم»، والذي يعني حرفياً «حب السامية» أو «حب الساميين»، وهو مصطلح شائع في اللغات الأوربية يشير إلى مشاعر الحب التي قد يشعر بها بعض الأغيار تجاه اليهود (مقابل («أنتي سيميتزم» والتي تعني «معاداة اليهود»). ومصطلح «حب اليهود» الذي نشير إليه بـعبارة «التحيز لليهود» له من العمومية ما لمصطلح «معاداة اليهود». فالموسوعات تورد أسماء حيرام ملك صور، وقورش الأخميني، والإسكندر المقدوني، ويوليوس قيصر، والإمبراطور الروماني جوليان، وردريجير هاوتسمان أسقف سبير، وإمبراطور ألمانيا فريدريك باربروسا، وريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا،وفريدريك الثاني إمبراطور النمسا، وكاسيمير الأعظـم ملك بولندا، على اعتبار أنـهم جميـعاً أصـدقاء لليهود ومحبون لهم. وإذا نظرنا إلى كل اسم على حدة، لوجدنا أنتحيُّزه لليهود (أو أعضاء الجماعات اليهودية في مصطلحنا) ينبع من مواقف تاريخية متباينة. فحيرام ملك صور كان يود تحسين علاقته مع سليمان ملك العبرانيين حتى تُتاح له فرص التجارة. وقورش الأخميني أعاد اليهـود وغـيرهم من الأقـوام المهجَّرة ضمن سياسـة الإمبراطورية الفارسية. أما الإسكندر الأكبر فليس له موقف محدد من اليهود، وهو على كل لم يكن لديه سبب قوي لحبهم أو كرههم. أما يوليوس قيصر، فكان مديناً لليهود لتأييدهم له في سياساته. أما أصدقاء اليهود في العصور الوسطى في الغرب، فقد كان اهتمامهم ينصب في معظم الأحوال على اليهود باعتبارهم جماعة وظيفية وسيطة تُنشِّط التجارة وتحقق دخلاً كبيراً لهم.

ويمكن القول بأنه مع عصر النهضة والإصلاح الديني، بدأ يظهر اهتمام خاص بالثقافة العبرية وباليهود في العالم الغربي. وبدأ التأكيد على أن اليهودية هي أحد مصادر المسيحية، فبيَّن المفكر الهولندي هوجو غروتيوس المصادر المشتركة بين المسيحية واليهودية في كتابه حقيقة المسيحية. وألف لوثر كتاباً بعنوان المسيح وُلد يهودياً. وبدأ كثير من الكُتَاب يهتمون بالتلمود وكتب القبَّالاه والتراث الديني اليهودي. وقد انعكس هذا الاتجاه، في نهاية الأمر، في ظهور القبَّالاه المسيحية ومصطلح «التراث اليهودي - المسيحي» الذي اكتسب شيوعاً كبيراً. كما ظهر الاهتمام بالموضوعات اليهودية والعبرية في الآداب والفنون الغربية، وكان هذا أمراً جديداً إلى حدٍّ كبير. وظهرت معالجة إيجابية لشخصية اليهودي في أعمال ملتون وراسين وباسكال ورمبرانت وسكوت وبايرون وجورج إليوت وغيرهم من الكتاب.

وقد تزايد التحيز لليهود نتيجة عدد مترابط من الأسباب:

1 ـ طرح الإصلاح الديني في الغرب تصوُّراً جديداً للعلاقة بين الخالق والمخلوق بحيث يتم الخلاص لا من خلال الكنيسة وإنما من خارجها. وأصبح من حق الفرد المسيحي أن يفسر الكتاب المقدَّس بنفسه تفسيراً حرفياً يبتعد عن التفسيرات المجازية والرمزية التي تبنتها الكنيسة الكاثوليكية. وقد اكتسب الكتاب المقدَّس بشقيه (العهد القديم والعهد الجديد) أهمية خاصة في الوجدان الغربي، وأصبح العهد القديم من أكثر الآثار الأدبية شيوعاً. وقد ساهم كل ذلك في تزايد الاهتمام بأعضاء الجماعات اليهودية وبميراثهم الديني في العالم الغربي.

2 ـ منذ نهاية القرن السادس عشر، ومع تعاظُم انتشار العقيدة البروتستانتية، شهد العالم الغربي انتشار العقيدة الألفية التي تربط بين رؤية الخلاص وعودة اليهود إلى فلسطين.

3 ـ ساهم ظهور الفكر المركنتالي، الذي أكد أهمية النشاط التجاري، في الاهتمام باليهود كعنصر تجاري نشيط وكواحد من أهم عناصر التجارة الدولية.

4 ـ شهد القرن السادس عشر بدايات حركة الاستيطان الغربية. ويبدو أن أسطورة الاستيطان الغربية والصورة الوجدانية الأساسية، في مراحل الاستيطان الأولى على الأقل، كانت أسطورة عبرانية. فقد كان المستوطنون البيض في كل أرجاء العالم ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم عبرانيين يخرجون من مصر (بلادهم الأصلية) ثم يصعدون إلى صهيون (البلد الجديد) ويهاجمون الكنعانيين (السكان المحليين) ويبيدونهم عن بكرة أبيهم. وكان المسـتوطنون الأمريكيـون يشيرون إلى أنفسهم على أنهم « أبناء العهد »، ويشيرون إلى القارة الأمريكية على أنها « صهيون الجديدة »، بل تم التفكير في تبنِّي العبرية كلغة رسمية للولايات المتحدة عند إعلان استقلالها.

5 ـ انتشر في القرن الثامن عشر فكر الربوبيين، الذين كانوا ينادون بأن العقل قادر على الوصول إلى فكرة الخالق بدون حاجة إلى ديانات منزلة أو معجزات أو وحي خاص، وهو الفكر الذي تطوَّر ليصبح الفكر العلماني فيما بعد. وقد أظهر هؤلاء المفكرون الربوبيون والعلمانيون اهتماماً باليهود من حيث هم أعداء الكنيسة.

ويمكننا القول بأن الاهتمام بالتراث الديني لليهود لا يعني بالضرورة اهتماماً بهم كبشر. إذ كان كثير من المفكرين يهتمون بأبطال العهد القديم ويكنون، مع هذا، احتقاراً عميقاً لليهود بوصفهم جماعات دينية أو إثنية. بل إن عظمة التراث الديني اليهودي في رأي هؤلاء تقف شاهداً على مدى ضعة اليهود. كما أن مناداة المرء بمنح اليهود، وغيرهم من أعضاء الأقليات، حقوقهم السياسية كاملة يُعتبَر جزءاً من فلسفة سياسية ليبرالية عامة، وليس تعبيراً عن حب خاص أو تحيُّز لهم أو ضدهم. كما يمكن الاهتمام بالتراث الديني اليهودي كجزء من الاهتمام بتراث الديانات التوحيدية دون أي تركيز على اليهود ذاتهم، وخصوصاً أن علاقتهم بتراثهم الديني قد تآكلت إلى حدٍّ كبير.

ولذا، سنقصراستخدام مصطلح «التحيز لليهود» على هؤلاء الذين يعطون اليهود مركزية خاصة في رؤيتهم للعالم. ومن أهم هؤلاء اللورد شافتسبري (السابع)، ولورانس أوليفانت، ولورد بلفور، ممن يُطلَق عليهم مصطلح «الصهاينة غير اليهود». وعند تحليل فكر هؤلاء، سنكتشف أنه فكر معاد لليهود وأن حبهم لليهود ومحاولة مساعدتهم على الهجرة إلى فلسطين هي أيضاً محاولة للتخلص منهم. فالهجرة، التي تُطرَح حلاًّ للمسألة اليهودية، وتتضمن توظيفاً لليهود باعتبارهم مادة بشرية، هي تهجير وطرد وترحيل. وربما كانت فكرة الشعب العضوي، الذي يُنبَذ بسبب عضويته، هي الأساس الفكري لهذا الحب/الكره. والتركيز على اليهود كعنصر أساسي في أية عمليةاستيطانية هو علمنة لفكرة الشعب الشاهد الذي يقف على حافة التاريخ الغربي، والذي ليس له قيمة ذاتية في حد ذاته وإنما يكتسب قيمته بمقدار أدائه لوظيفته وبمقدار نفعه. وقد تبدَّى هذا الحب/الكره في نهاية الأمر في الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة.

شــيلوك

Shylock

شخصية أساسية في مسـرحية تاجر البندقية لوليم شكسبير، وهو يهودي يعمل بالربا. وقد أصبحت الكلمة جزءاً من المعجم الإنجليزي وتعني «الرجل الطماع الشره الذي لا تعرف الرحمة طريقاً إلى قلبه». ولا يُعرَف على وجه الدقة أصل هذا الاسم، فهو ليس اسماً يهودياً، ولذا تضاربت النظريات بشأنه، فيُقال إنه مأخوذ من كلمة «شيلوه»، ويُقال أيضاً إنه مأخوذ من كلمة «شالح» وهي شخصية يرد اسمها في سفر التكوين (11/14 ـ 15).

ويتسم الفكر العنصري بأنه فكر اختزالي، أي أنه فكر كسول، لا يكد ولا يتعب لكي يحيط بتركيبية الواقع وتعدُّد مستوياته، بل يقنع بإدراك هذا الواقع إما على مستوى واحد أو من خلال صورة إدراكية واحدة بسيطة أو صورة مجازية اختزالية ساذجة. فالعالم كله ذو بُعد واحد، وهو يشبه الساعة أو النبات الذي يتبع دورات طبيعية منتظمة، وهناك منهج واحد لإدراك كل الظواهر إنسانية كانت أم مادية، والبشر دوافعهم كلها مفهومة ويمكن تفسيرها من خلال عامل أو أكثر من العوامل المادية (فالإنسان يمكن رده إلى قوانين الطبيعة)، وكأن العالم (الطبيعة والإنسان) كيان أحادي مكوَّن من ذرات وأرقام، كما يتصور بعض الماديين السذج والعلماء البسطاء من دعاة الواحدية المادية الكونية.

ويتَّسم الأدب العظيم بأنه يرفض هذه الاختزالية والواحديــة الكونية، ويحاول أن يعود بالإنسـان إلى ذاته ليدركها ويُقدرها حق قدرها، ولذا فهو يقدم صورة للنفس البشرية باعتبارها كياناً مركباً إلى أقصى حدٍّ يستعصي على التفسيرات المادية البسيطة ولا يمكن أن ينضوي تحت القوانين العلمية الرتيبة، فالعالم بالنسبة للأديب العظيم لا يمكن أن يُختَزل في بُعد واحد أو أن يُردَّ إلى مستوى مادي واحد أو أن يسقط في صورة مجازية واحدة ساذجة. واللغة الأدبية المجازية تنفر من لغة الجبر والقوانين الهندسية لأنها تتعامل مع ظاهرة مركبة. وإذا كانت لغة الجبر لغة بسيطة لا تتحمل الإبهام، فلأنها لغة تهدف إلى وصف الأشكال الهندسية وحركة الكواكب وعلاقة الأرقام والذرات وكل ما هو محسوس وقابل للقياس. أما لغة الأدب، فتتعامل مع الإنسان في أفراحه وأتراحه، ومن ثم فهي لغة مجازية تحاول الإفصاح عن المفارقات والتعبير عن الشيء وعكسه في آن واحد وتتعامل مع المحدود واللا محدود والمتناهي واللا متناهي وما يُقاس وما يستعصى على القياس.

والأنماط الإدراكية العنصرية هي أنماط اختزالية تبسيطية تُعبِّر عن كسل من يستخدمها، فهي تختزل الآخر في كلمة أو كلمتين وفي صورة بسيطة وفي صورة مجازية أكثر بساطة، فالآخر «غشاش» ولا يمكن الثقة فيه. والعالم سيصبح مكاناً جميلاً رائعاً فردوسياً لو اختفى منه هذا الآخر، فالآخر هو الجحيم وهو مصدر كل التعاسة.

ومن أهم الأنماط الإدراكية الاختزالية للآخر، والتي توجد في كل الأدبيات العنصرية في العالم، صورة الآخر باعتباره «حريصاً على المال» و«شرهاً بطبعه»، وهي صورة منتشرة عن الصينيين في جنوب شرق آسيا، وعن الباكستانيين في إنجلترا، وعن اليهود في أوربا والعالم العربي.

وهذه الصورة الإدراكية الاختزالية كثيراً ما يكون لها أساس في الواقع، ولكن ما يفعله العقل العنصري هو أنه يعزل بعض التفاصيل عن واقعها المركب وعن أسبابها وملابساتها ويحولها إلى بنية مجردة ونموذج إدراكي معرفي يفسر به كل الأمور. ولنأخذ تهمة الحرص الزائد هذه التي يدعي العنصري أنها صفة لصيقة بطبيعة الآخر. لو دقق العنصري الاختزالي قليلاً لاكتشف أن الصينيين والباكسـتانيين أهل كرم في بلادهم، وأن عقائدهم الدينية تشجع على السخاء وإكرام الضيف، ولذا فالحرص المتطرف ليس أمراً كامناً في طبيعة الصينيين أو الباكستانيين أو في عقائدهم الدينية، وإن وُجد مثل هذا الحرص الشديد فيهم فلابد من البحث عن مصدره في مكان آخر. ولو دقق صاحبنا العنصري قليلاً لاكتشف أن هؤلاء الباكستانيين والصينيين واليهود يعيشون في بلاد غير بلادهم، وأن إحساسهم بالأمن يكون عادةً ضعيفاً بينما يتزايد إحساسهم بالخطر، وعادةً لا يكون لهؤلاء الغرباء علاقة بالأرض أو الثوابت في المجتمع إذ أن كيانهم ووجودهم في المجتمع يستند إلى الدور الذي يلعبونه وإلى الوظيفة التي يضطلعون بها وإلى الثروة التي يراكمونها، ولذا يصعب عليهم أخذ موقف متسامح من المال.

كما أن هذا الصيني الشره في علاقته مع الأغلبية، عادةً ما يكون سخياً جداً مع أعضاء جماعته ومع وطنه الأصلي إن وُجد. فكأن هذا الصيني الشره، في علاقته مع الأغلبية في المجتمع المضيف، هو نفسه الصيني السخي في علاقته مع أعضاء جماعته. ويختزل العنصري كل هذا ويأبى إلا أن يركز على عنصر واحد منتزع من ملابساته الاجتماعية ولحظته التاريخية ومنفصل عن كل زمان ومكان.

وقد قام شكسبير بتناول هذا النمط الإدراكي الاختزالي والعنصري في شخصية شيلوك في مسرحية تاجر البندقية. ولكن تناول شكسبير لهذا النمط الإدراكي هو نموذج جيد للأدب العظيم الذي يتجاوز كل محاولات الاختزال التي يتسم بها الفكر العنصري، فهو يقدم تصويراً مركباً لهذه الشخصية الأمر الذي جعل النقاد يقدمون تفسيرات عديدة لأبعادها وأصلها ودلالتها ويركز كل تفسير على بُعد واحد أو بُعدين، مع أن كل العناصر متداخلة. ولكن هذه هي حدود اللغة النقدية: إنها تقوم بتفكيك العمل الأدبي ثم تركيبه، فتقدم كل عنصر على حدة، وكأنه مستقل بذاته، على عكس العمل الأدبي الذي يقدِّم العناصر كافة في تداخُّلها وتركيبيتها وتزامنها. ورغم إدراكنا لهذه العناصر كافة، إلا أننا سنقوم بتقديم هذه التفسيرات المختلفة، كلاًّ على حدة، على أن يقوم القارئ برؤيتها في تلاحمها وتمازجها. ولن نُقدِّم هنا قراءة أدبية للنص ذاته، مسرحية تاجر البندقية، وإنما سننظر إلى النص باعتباره تعبيراً عن مواقف إنسانية متباينة متنوعة تُعبِّر عن نفسها خلال مستويات مختلفة (اجتماعية وفلسفية ونفسية وتاريخية وأدبية) أي أن اهتمامنا ليس أدبياً صرفاً، إذ أننا سنستخدم النص في دراسة هذه المواقف الإنسانية. ورغم أن دراستنا ليست أدبية خالصة، إلا أنها ستنير العمل الأدبي:

1 ـ التفسير التاريخي: من المعروف أنه لم يكن يوجد يهود في إنجلترا زمن كتابة المسرحية (في أواخر القرن السادس عشر الميلادي ـ حوالي 1597) إلا بعض يهود المارانو الذين كانوا يقيمون هناك. ويُقال إن رودريجيز لوبيز، طبيب الملكة إليزابيث، والذي اتُهم بالتآمر ضدها ثم أُعدم، هو النموذج الذي استخدمه شكسبير (وكان عدو رودريجيز لوبيز هو دوم أنطونيو، ومن هنا نجد أن أنطونيو هو أهم شخصية في المسرحية وعدو شيلوك اللدود). ولكن المؤرخ الأمريكي اليهودي سيسل روث يذهب إلى أن شيلوك يهودي إشكنازي من البندقية. وكانت البندقية تضم في ذلك الوقت ثلاثة أنواع من اليهود كان يُشار إليهم باسم «الأمم الثلاث»: سفارد الشام والمارانو والإشكناز. وكان مصرحاً للسفارد والمارانو بالعمل في التجارة المحلية والدولية وكانوا يمتلكون السفن التجارية ويتاجرون مع الشام. أما الإشكناز، فكان ممنوعاً عليهم الاتجار، بل لم يكن مسموحاً لهم إلا بالعمل بالربا وبيع الملابس القديمة (وهي وظيفة مرتبطة تماماً بالربا).

2 ـ التفسير الطبقي: يذهب بعض النقاد إلى أن أعضاء الأرستقراطية الإنجليزية الزراعية (الإقطاعيون)، وكثيرون منهم كانوا يرتادون مسرح جلوب الذي كانت تُعرَض فيه مسرحيات شكسبير، بدأوا يشعرون بآثار الثورة التجارية وبنمو اقتصاد المدن والتضخم الذي صاحب ذلك، الأمر الذي زاد من نفقاتهم، ولكن لم تكن لديهم الكفاءات اللازمة للاستثمار التجاري باستثناء أقلية صغيرة منهم. ولهذا، بدأت ديونهم تزداد أكثر فأكثر. وفي الوقت نفسه، بدأت القيم التجارية التعاقدية تسود في المجتمع وتحل محل قيم الشرف والكرم والأبهة التي كان يؤمن بها هؤلاء الإقطاعيون. ويُجسِّد أنطونيو في المسرحية المذكورة الأخلاقيات الأرستقراطية، فهو كريم يقرض أمواله بدون فوائد، يعيش حياة مسرفة ولكنه ليس تاجراً بمعنى الكلمة لأنه غير مشغول بتراكم رأس المال. وهكذا، فإن أنطونيو يقف على الطرف النقيض من شيلوك عضو الجماعة الوظيفية المالية الذي لايدين بالوفاء إلا لقيمة التراكم ولا يدين بالولاء إلا للمال. ويعرِّف شيلوك الخير تعريفاً نفعياً مادياً حينما يشير إلى أن أنطونيو لديه من الممتلكات ما يسمح له برد الدين، فكأن حكمه عليه حكم مالي إجرائي ينزع عنه أية قداسة وينظر إليه بشكل موضوعي كمي غير تراحمي. ومقابل العلاقة الحميمة وكلمة الشرف التي يؤمن بها الأرستقراطيون، هناك العلاقات الموضوعية التعاقدية التي تؤمن بها الطبقة التجارية الجديدة والتي يدافع عنها شيلوك في المسرحية.

3 ـ التفسير الديني الاقتصادي: وهناك بعد ديني اقتصادي يتمثل في ظهور جماعات البيوريتان البروتستانت من عناصر البورجوازية الجديدة النشطة المؤمنة بتعاليم كالفن، والتي حوَّلت الزهد المسيحي في الدنيا من أجل الآخرة إلى زهد داخل الدنيا من أجل تراكم رأس المال، علامةً على الخلاص في الآخرة. ولذلك، كان هؤلاء يكرهون الملذات والإنفاق وارتياد المسرح والمسرات. ويجىء شيلوك، في هذه المسرحية، رمزاً لهذه القطاعات المتزمتة الملتزمة بالتراكم وحسب والتي تنكر العلاقات الإنسانية وخلاص الروح حتى تحقق تزايد الثروة. ولم يكن شكسبير مخطئاً على الإطلاق، فبعد فترة وجيزة استولى هؤلاء على الحكم في ثورة كرومويل وأغلقوا المسارح كليةً. وكان من المألوف آنذاك أن يتم الربط بين غلاة البروتستانت واليهود.

4 ـ التفسير اللاهوتي: ولكن هناك بعداً دينياً خالصاً، فقد أشاع العهد الجديد صورة سلبية للغاية عن الفريسيين (وهي فرقة دينية يهودية ظهرت أيام المسيح)، وفي هذه المسرحية ارتبطت هذه الصورة باليهود بصورة واضحة تماماً. ويمثل شيلوك الفريسي بالدرجة الأولى، فهو يحترم حرفية القانون لا روحه، وهو بلا عاطفة، كما أنه يجيد استخدام الكتاب المقدَّس لتبرير أفعاله (وهي تهمه وجهها المسيح إلى الفريسيين). وأخيراً، ارتبط الفريسيون في الوجدان المسيحي بأنهم المحرضون الحقيقيون على صلب المسيح. ومن هنا، فإن شيلوك يُماثل الفريسيين، حين يطالب برطل اللحم، أما أنطونيو فهو كالمسيح إذ يمثل حَمَل الإله الذي سيُقدَّم للذبح.

بل إن العلاقة بين شيلوك وأنطونيو هي مثل العلاقة بين العهد القديم والعهد الجديد كما يرى المسيحيون. فاليهودية تمثل لاهوت العدل دون رحمة، ومن ثم أصبح التعاقد والميثاق مسائل مركزية في العقيدة اليهودية. ولكن العدل بدون رحمة، حسب رأي المسيحيين، لن يؤدي إلى خلاص. ولهذا، فإن المسيحية هي لاهوت الرحمة التي لا يمكن للإنسان بدونها أن يصل إلى الخلاص. والمسيحية ترى أن العهد الجديد أكمل العهد القديم بل ربما حل محله ونسخه، وأصبحت الرحمة لا العدل هي الهدف. وقد أنكر اليهود المسيح واستمروا حبيسي العهد القديم ولاهوت العدل والقانون والتعاقد، ولكنهم يذوقون في نهاية الأمر أشد ألوان العذاب ويعانون في الدنيا، وبذلك فإنهم يقفون شاهداً على عظمة المسيحية والكنيسة. ومن هنا، فإن شيلوك يجسد العنصر اليهودي كما يجسد التعاقدية ولاهوت العدل، في حين يقف أنطونيو ممثلاً للمسيحية والرحمة ولاهوتالمحبة.

ومع هذا، يُعطي شكسبير الفرصة لشيلوك ليُحاكم المسيحيين من منظور لاهوت الرحمة، هذا الذي يدَّعون إيمانهم به، فيُذكِّرهم بما كانوا يلحقونه به من أذى. كما يعطيه الفرصة للحديث عن الجوانب الإيجابية في فكرة التعاقد ولاهوت العدالة، فالإيمان بالتعاقد وبالعدل هو أيضاً إيمان بأن النفس البشرية ليست منزهة عن الهوى، وأن الأمور لو تُركَت للمحبة وحسب، لاختلط الحابل بالنابل لتحولت القيم الأخلاقية، ذات البُعد الاجتماعي، إلى تجارب نفسية شعورية. ويمكن القول بأن شكسبير يقترح علينا نموذجاً يجمع بين القانون والرحمة وبين العدالة والمحبة وبين التعاقد والتراحم وبين الذات والموضوع وبين الفرد والمجتمع.

5 ـ الجماعة الوظيفية: وقد اختلف النقاد في تفسير موقف شكسبير من شخصية شيلوك: هل هو يتعاطف معه جداً أم أنه يرفضه تماماً؟ وهل شيلوك شيطان رجيم يجب أن نفرح لسقوطه، أم أنه ضحية المجتمع المسيحي المستغل؟ وربما أمكن حسم هذه القضية بالتأكيد على هوية شيلوك كعضو في جماعة وظيفية أوكل لها المجتمع الاضطلاع بوظيفة الربا الذي يؤدي إلى دمار أعضاء المجتمع، أي أنه أداة دمار. ولكن عضو الجماعة الوظيفية لم يختر وظيفته، فوظيفته هي قدره ومصيره الذي اختير له. ومن ثم، فإن ما يقوله شيلوك عن نفسه باعتباره إنساناً أُهدرت إنسانيته هو أمر حقيقي، كما أن ما يُقال من أنه أداة استغلال صماء لا تدخل في علاقة إنسانية مع البشر وتحاول هدمهم هو أيضاً أمر حقيقي. وهذه الصورة المزدوجة التي يتحدث عنها بعض النقاد هي، في واقع الأمر، ازدواجية تُعبِّر عن علاقة أعضاء الجماعة الوظيفية بأنفسهم وبالمجتمع، فهم بشر في علاقتهم بأنفسهم وهكذا يرون أنفسهم، وهم أدوات في علاقتهم بالمجتمع وهكذا يراهم المجتمع. والواقع أن شكسبير، وكُتَّاب آخرون من بعده، حاولوا أن يتعاملوا مع هذه العلاقة في تركيبيتها الصلبة وثنائيتها الحادة.

وشيلوك شخصية فنية تأتي ضمن سلسة طويلة من الشخصيات الفنية رسمها الفنان الغربي لليهود قبل بعد تاجر البندقية (فاليهودي جزء لا يتجزأ من الخطاب الغربي فيمشوار اكتشافه لذاته وتحديدها). ومن أهم الشخصيات الفنية الأخرى شخصية باراباس في مسرحية مارلو يهودي مالطة (وهو شيطان صرف لا يتسم بازدواجية شيلوك). وهناك شخصية اليهودي في رواية وولتر سكوت إيفانهو، وشخصية فاجين في قصة ديكنز أوليفرتويست، وشخصية دانيل ديروندا في رواية جورج إليوت التي تحمل هذا الاسم، والشخصيات اليهودية المختلفة في روايات دزرائيلي. وتوجد إشارات مختلفة في الشعر الإنجليزي، عن اليهود، منذ القرن التاسع عشر، على وجه الخصوص. ويُقال إن الشخصية الأساسية في قصيدة «الملاح القديم» لكوليردج هي أساساً اليهودي التائه. ويتراوح الموقف من اليهود في الأدب الإنجليزي (وفي الآداب الغربية عامة) بين الكره الشديد والحب العميق، بين النبذ والتقديس، وكلاهما موقف يستند إلى فكرة الشعب العضوي المنبوذ حيث تتم رؤية أعضاء الجماعات اليهودية لا باعتبارهم بشراً، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وإنما باعتبارهم كياناً عضوياً متماسكاً غير منتمٍ للمجتمع ومن ثم لابد من طرده.

وتوجد الظاهرة نفسها في الأدب الأمريكي. ولعل من أهم الكُتَّاب الأمريكيين المعادين لليهود الشاعر عزرا باوند الذي وصل في بعض كتاباته إلى رؤية اليهود كشياطين مسئولين عن كل شرور العالم.

فيـودور دوسـتويفســكي (1821-1881(

Foyodor Dostoyevsky

روائي روسي، ومن أهم الروائيين العالميين على الإطلاق. كان موقفه من أعضاء الجماعات اليهودية يتسم بالعنصرية الشديدة. وهناك إشارات عديدة لأعضاء الجماعات اليهودية في كتابات دوستويفسكي غير الروائية، كما أن هناك إشارات هنا وهناك في أدبه الروائي، حيث توجد شخصيات يهودية في بعض رواياته، خصوصاً في بيتالموتى (1861) وهي رواية عن تجربة سجين (غير سياسي) في معتقل في سيبريا، ورد فيها وصف لسجين يهودي يقيم كل شعائر دينه بحرص شديد. ولكن أهم النصوص التي عبَّر فيها دوستويفسكي عن وجهة نظره العنصرية بشكل واضح ومباشر هي يوميات كاتب . ولا يختلف التناول الروائي لدوستويفسكي لليهود عما جاء في يومياته. وهذا يثير إشكالية كبرى وهي كيف يمكن لأديب، صاحب رؤية إنسانية في أدبه، أن يتسم موقفه المباشر والمعلن من أقلية دينية أو عرْقية بهذه العنصرية والاختزالية وضيق الأفق. وهذا ما سنحاول تفسيره (لا تبريره(.

ولنبدأ دراستنا بمحاولة استخلاص رؤية دوستويفسكي لليهود كما وردت في يوميات كاتب. كان دوستويفسكي يشير إلى اليهود بكلمة «جيد Zhid» الروسية التي تحمل مضموناً قدحياً، ويرفض استخدام كلمة «يفري Yevrey» أي «عبري» التي تُعَدُّ أكثر حياداً. وكان يذهب إلى أن اليهود شعب واحد له تاريخ يمتد لأربعة آلاف عام، وهو شعب حيوي طاقته لا تنتهي نجح في الاحتفاظ ببقائه وتماسكه، ولذا كان يشير إليهم باعتبارهم «القبيلة اليهودية» التي يعيش أفرادها فيما يسميه «حالة الجيتو»، يربطهم «ميثاق الجيتو»، وهو ميثاق يطالبهم بعدم إظهار الرحمة نحـو الغـير وبالتعالي عليهم وبالعيش في عزلة عن كل الشعوب عبر آلاف السنين. ومن أهم عقائد هذا الشعب ـ حسب تصور دوستويفسكي ـ عقيدة الماشيَّح ذات المضمون القومي، وهي عقيدة تذهب إلى أن المسيح المخلِّص اليهودي سيعود ويقود شعبه إلى القدس مرة أخرى ويمنحهم إياها ويرمي جميع الشعوب تحت أقدامهم. وهذا الشعب اليهودي تحركه القسوة والرغبة في شرب الدماء، ولذا فهم يعملون بالتجارة، خصوصاً تجارة الذهب، ويديرون البورصات ويستغلون الطبقات الفقيرة، خصوصاً الأقنان. ويجأر اليهود بالشكوى من المعاناة التي يلاقونها في روسيا، ويدَّعون أنهم غير متساوين في الحقوق مع الروس، مع أن معاناة الأقنان الروس تفوق كثيراً معاناة اليهود.

واليهود ـ حسب رأي دوستويفسكي ـ يوجدون في كل مكان، فهم يوجدون داخل التشكيل الاستعماري الغربي ويهيمنون على الرأسمالية الغربية، وهم بطبيعة الحال موجودون في كل الحركات الاشتراكية والثورية والفوضوية والعدمية. وقد جعل اليهود همهم إفساد الشعب العضوي الروسي إذ كانوا يقومون ببيع الكحول لهم وبالشرب من عَرَقهم ودمهم. وحينما أُعتق الأقنان، انقض عليهم اليهود واستغلوهم واستفادوا من هفواتهم الإنسانية. وهم في استغلالهم للناس لا يتسمون بالرحمة، فاستغلالهم للأقنان لا يختلف كثيراً عن استغلالهم للزنوج في الولايات المتحدة بعد إعتاقهم.

ويرى دوستويفسكي أنه حتى لو أُعطيت لليهود حقوقهم كاملة، فإنهم لن يتنازلوا قط عن أن يكونوا دولة داخل دولة. وهم يفعلون ذلك لأن مصالحهم مستقلة عن مصالح المجتمعات التي يعيشون في كنفها. بل إنه يرى أن هناك مؤامرة يهودية عالمية عبر التاريخ لخدمة المصالح اليهودية المستقلة وللدفاع عنها. فهو يشير إلى دزرائيلي رئيس وزراء بريطانيا باعتبار أن دفاعه عن الدولة العثمانية ضد روسيا وهو تعبير آخر عن المؤامرة اليهودية الأزلية ضد روسيا وعن المصالح اليهودية المستقلة (وهذا يختلف تماماً عن موقف المدافعين عن فكرة المؤامرة عندنا إذ يرى هؤلاء أن اليهود هم المسئولون عن سقوط الدولة العثمانية دفاعاً عن المصالح اليهودية). ويتجاهل دوستويفسكي حقيقة بسيطة واضحة وهي أن دزرائيلي كان يدافع عن الدولة العثمانية ضد روسيا لا حباً في الدولة العثمانية وإنما نكاية في روسيا وحتى تظل عنصر توازن معها، وتمنعها من التوسع، الأمر الذي قد يضر بالمصالح الإمبريالية البريطانية.

وفي الماضي، كان استغلال اليهود للآخرين أمراً تدينه العقيدة المسيحية، ولكن حدث تطوُّر في المجتمعات الغربية إذ أصبحت هذه المجتمعات تؤمن بمذهب المنفعة المادية. ويميِّز دوستويفسكي بين اليهود وروح اليهودية (وهو في هذا لا يختلف عن ماركس وعن كثير من المفكرين الغربيين في القرن التاسع عشر)، فقد يوجد يهود طيبون ومع هذا تظل روح اليهودية هي المنفعة المادية. وقد انتشرت هذه الروح اليهودية النفعية المادية في المجتمع المسيحي بحيث أصبح الاستغلال فضيلة (يتحدث ماركس عن «تهويد المجتمع» بهذا المعنى(.

وإذا كانت الروح اليهودية هي الروح النفعية المادية، فإن حلقات المؤامرة اليهودية أصبحت على وشك الاكتمال، كما أن حكم اليهود للعالم اقترب وهيمنتهم الكاملة أصبحت أمراً وشيكاً. وقد لخص دوستويفسكي المسألة كلها بقوله إن ثمة تناقضاً أساسياً بين الفكرة السلافية (الروحية المسيحية) والفكرة اليهودية (المادية العلمانية)، وصعود الفكرة اليهودية يعني تراجُع الفكرة السلافية، أي أن اليهودي هو الآخر الذي لابد من القضاء عليه!

ويمكننا الآن أن نطرح السؤال التالي: كيف يمكن أن يعتنق أديب إنساني مثل دوستويفسكي مثل هذه الآراء التي لا تختلف كثيراً عما ورد في بروتوكولات حكماء صهيون وكتاب هتلر كفاحي؟ لمحاولة تفسير هذه الظاهرة، يمكننا أن نشير إلى بعض الأسباب، بعضها خاص بدوستويفسكي ورؤيته للكون والبعض الآخر خاص بالمجتمع الروسي ككل وبوضع اليهودية فيه وموقف الروس منهم.

ولنبدأ برؤية دوستويفسكي للكـون:

1 ـ كان دوستويفسكي يرى أن روسيا قد تكون امتداداً لأوربا ولكنها في الوقت نفسه نقيضها. ورغم إيمانه بأن روسيا مدينة لأوربا إلا أنه يرى أن "المرحلة الأوربية" في تاريخ روسيا قد انتهت، وأن أوربا تمثل الماضي، بينما تمثل روسيا المستقبل .

2 ـ والغرب، من منظور دوستويفسكي، دمرته المادية والقيم الديموقراطية وضمور الحــس الخلقي وظهور النفعية والتمركز حـول الذات.

3 ـ كان دوستويفسكي يؤمن بالرسالة الأزلية لروسيا. فكل أمة، حسب وجهة نظره، لابد أن ترى أن خلاص العالم يكمن في خلاصها هي، وأن هدفها لابد أن يكون توحيد شعوب العالم كافة تحت قيادتها (أي أنه كان يؤمن بحتمية المشيحانية السياسية(.

4 ـ من أهم أفكار دوستويفسكي فكرة الشعب العضوي (بالروسية: نارود). فالشعب الروسي، حسب رأيه، شعب مرتبط بأرض روسيا الأم يستمد منها الطهر والأصالة، وهو شعب لم تفسده الحضارة الغربية بعد ولم يسقط في القيم التي دمرت هذه الحضارة. وهذا لا يعني عدم وجود فساد في روسيا وإنما يعني أن الفلاح الروسي حينمايرتكب الخطيئة يعرف أنها خطيئة، فهو لم يفقد بعد مقدرته على التمييز بين الخير والشر (أي أن حسه الخلقي لم يتم تحييده تماماً(.

5 ـ وتشكل الكنيسة الأرثوذكسية (أطهر أشكال المسيحية) الإطار الديني لهذه الرؤية الكونية، كما تشكل الجامعة السلافية الإطار الحضاري أو العرْقي لها. ولذا، فإن مستقبل العالم منوط بإرادة النارود الروسي تحت رعاية الكنيسة الأرثوذكسية وبقيادة القيصر.

وفي مقابل هذه المنظومة الدائرية المتماسكة التي يتداخل فيها الديني والقومي ويحل فيها الإله في الأرض الروسية والشعب الروسي، ينظر دوستويفسكي إلى الآخر الذي يقع خارج دائرة القداسة ويرفضه: وقد عرَّف الآخر بأنه أوربا الملحدة، والكاثوليك، والنظام الرأسمالي، والثورات الاشتراكية، ولكنه بالدرجة الأولى اليهود. فاليهود هنا ليسوا يهوداً وإنما هم النظام الجديد في العالم الحديث الذي يستند إلى البيع والشراء والمساومة والقيم البرجماتية ولا يعرف المثاليات أو المطلقات الأخلاقية. ولعل من المفيد الإشارة إلى أن علم الاجتماع الألماني يميِّز بين الجماينشافت (الجماعة المترابطة العضوية) والجيسيلشافت (المجتمع التعاقدي الحديث). واليهودي هو رمز هذا المجتمع التعاقدي بشقيه الرأسمالي والاشتراكي.

ولا يمكن فهم موقف دوستويفسكي وحدوده إلا بفهم وضع اليهود في روسيا والموقف الروسي منهم والذي يتمثل فيما يلي:

1 ـ كره اليهودي أمر متجذر ومتأصل في الوجدان الروسي (والسلافي على وجه العموم). فمسرح العرائس الشعبي كان يحوي شخصية اليهودي الجشع الجبان (رغم عدم وجود عدد يُذكَر من اليهود في روسيا). ولعل هذا الكره لليهود يعود إلى أيام إمبراطورية الخزر اليهودية التركية التي هددت الروس وأخضعتهم لهيمنتها. كما أن العداء التقليدي بين روسيا وتركيا (نظراً لأن صعود الواحد مرتبط تاريخياً بهبوط الآخر) لعب دوراً في ذلك، خصوصاً أن الوجدان الغربي كثيراً ما يربط بين اليهود والمسلمين (ولذا، ربط دوستويفسكي بين دزرائيلي اليهودي والعثمانيين(.

2 ـ ومع ظهور الأدب الروسي الحديث، ظل هذا النمط الإدراكي مسيطراً إلى حدٍّ بعيد. ومما زاده حدةً، ضم روسيا لبولندا ولملايين اليهود. والملاحَظ أن مطامح الأرستقراطية الروسية في السيطرة على الريف، والأحلام الرجعية الروسية المتصلة بقضية الشعب (نارود) كشعب عضوي راض بوضعه، متسم بالهدوء والاتزان، ارتطمت كلها بوجود اليهود كعنصر تجاري متحرك داخل الريف الروسي. وحيث إن كثيراً من الكُتَّاب الروس الأوائل كانوا من الأرستقراطية، فقد سادت الأنماط المعادية لليهود. ويتضح هذا في موقف أساطين الأدب الروسي، مثل: تورجنيف (1818 ـ 1883) وجوجول (1809 - 1852) بل تولستوي الذي كان يهاجم معاداة اليهود باعتبارها تتناقض مع ما ينادي به من ضرورة حب البشر، ولكنه كان في أماكن أخرى من كتاباته يُظهر موقفه الأرستقراطي الروسي المعادي لليهود. كما ظهر العداء لليهود في كتابات الأدباء النارودنيك مثل نيقولاي بيكراسوف (1841 ـ 1878) وفيودور ريشتنكوف (1841 ـ 1871). وقد تم الهجوم على اليهودي باعتباره مستغلاً للجماهير المسحوقة.

ولعل تشيخوف (1860 ـ 1904) من الكُتَّاب الروس القلائل الذين تناولوا شخصية اليهودي تناولاً يتسم بشيء من التعاطف. أما في الأدب السوفيتي، فقد كانت صورة اليهودي إيجابية على وجه العموم (بما يتفق مع الخط الرسمي للحزب)، ولا تثير أية مشاكل خاصة. (ومع هذا، صدرت كتيبات سوفيتية ذات طابع عرْقي واضح هي مجرد استمرار للموقف الروسي القديم. كما أن تصريحات بعض القادة السوفييت كانت تنحرف أحياناً عن خط الحزب وتُعبِّر عن الأنماط الإدراكية العرْقية القديمة. بل إن بعض سياسات السوفييت لا يمكن تفسيرها إلا باعتبار أنها سياسة معادية لليهود(.

3 ـ كان المستوى المعيشي لأعضاء الجماعات اليهودية أعلى على وجه العموم من مستوى كثير من الفلاحين الروس، كما أن مستواهم التعليمي كان أعلى بكثير من مستوى الأغلبية (الروسية). كما حقق بعض اليهود (مثل عائلة بولياكوف وجونزبرج) ثراءً واضحاً.

4 ـ كان اليهود في روسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر جماعة وظيفية فقدت وظيفتها وأساس بقائها. ومن ثم، كان أعضاؤها في حالة تَراجُع أخلاقي وحضاري هائلة. فتركَّزوا في مهن وحرف هامشية (عادةً مشينة) مثل تقطير الخمور وإدارة الحانات وبيع الملابس القديمة، كما كان عدد البغايا اليهود مرتفعاً إلى درجة كبيرة. وكان عدم تحدُّد ولاء أعضاء الجماعات اليهودية لروسيا أمراً مفهوماً، حيث كانوا عبر تاريخهم تابعين لبولندا عدو روسيا الأكبر. كما كانوا يتحدثون اليديشية، وهي لغة عدوهم الآخر: ألمانيا. ولذا، نجد أن صورة اليهودي كجاسوس صورة متواترة في الأدب الروسي. وهي صورة ذات أساس «مادي صلب». وما لم يدركه دوستويفسكي وغيره أن هذه الحالة اليهودية لم تظهر إلى الوجود إلا في منتصف القرن التاسع عشر، وأنها مرتبطة بعمليات التحديث في الإمبراطورية القيصرية، أي أنها مرتبطة بزمان ومكان محددين، ورغم أن يهود الإمبراطورية الروسية القيصرية كانوا يشكلون الغالبية الساحقة من يهود العالم، إلا أن حالتهم الخاصة لا يمكن تعميمها.

وقد كتب تورجنيف قصة قصيرة بعنوان اليهودي (1847) تُعبِّر بشكل مباشر عن هذا الاشمئزاز من اليهود، فبطل القصة يُعدَم بعد اتهامه بالجاسوسية. وهذا الموقف لا يختلف كثيراً عن موقف جوجول (1809 ـ 1852) في تاراس بولبا التي تقع أحداثها إبان حرب البولنديين والقوزاق. وتشتمل الرواية على وصف ليهودي صاحب حانة يتسم سلوكه بأنه مرتزق خائن يُشَك في أنه جاسوس للبولنديين (وقد ظهر الموضوع نفسه، أي اليهودي كجاسوس، في إحدى قصص الكاتب اليهودي الروسي السوفيتي إيزاك بابل بعنوان «بريستشكو» في مجموعة الفرسان الحمر(.

5 ـ لم تكن عملية التحديث تتم بسرعة كافية في روسيا، ولذا ظهرت الأمور وكأن اليهود يبذلون قصارى جهدهم للحفاظ على هويتهم والانسحاب من المجتمع الروسي.

6 ـ كان اليهود متواجدين بالفعل في صفوف الثوريين (تروتسكي) والرأسماليين (جونزبرج) والرجعيين (ستاهل) والمسيحيين (شستوف). كما كان لهم وجود ملحوظ في كل قطاعات المجتمع العلماني الجديد، الوضع الذي يعطي انطباعاً للمراقب السطحي بوجود اليهود في كل مكان وتآمرهم على كل القيم.

7 ـ كان دوستويفسكي وكل الإنتلجنسيا (بل البيروقراطية الروسية) يعانون من جهل شديد بأحوال اليهود. ويعود هذا إلى أن دخول روسيا كان محرَّماً على اليهود حتى نهاية القرن الثامن عشر، ولذا لم تكن توجد في روسيا أعداد تُذكَر من اليهود. ثم ضمت روسيا أوكرانيا وبولندا في ذلك التاريخ وضمت مع الأراضي أكبر تجمُّع يهودي على وجه الأرض، وهو تجمُّع كان يتحدث اليديشية وكان له وضع اقتصادي وحضاري متميِّز.

ورغم جهل دوستويفسكي الشديد بالحقائق التاريخية المتنوعة، قام بالتعميم استناداً إلى معرفته المقصورة على زمان ومكان محددين، فأصبح يهود روسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر هم اليهود كافة، واليهود في كل زمان ومكان. وهذه هي الطريقة التي تُولَد بها الأنماط الإدراكية العنصرية. ودوستويفسكي هو ابن عصره الغربي الذي هيمن عليه فكر عنصري إمبريالي (بالمعنى الحرفي)، يقسم العالم إلى عنصرين اثنين متصارعين (الأنا والآخر)، فيقدِّس الذات ويهدر حقوق الآخر، ولا يدخل في علاقة مركبة مع التاريخ وإنما يجتزئ منه ليدعم وجهة نظره العرْقية. وهذا ما فعله دوستويفسكي وهتلر، والعنصريون كافة قبلهما وبعدهما (وقد لاحَظ أحد الدراسين، بالفعل، السمات المشتركة بين هتلر ودوستويفسكي).

ثم نأتي أخيراً للقضية التي طرحناها في بداية هذا المدخل: التناقض بين رؤية دوستويفسكي الإنسانية العالمية، والتي تتبدى أساساً في أعماله الأدبية، وموقفه العنصري الضيق تجاه اليهود. ودهشتنا لهذا التناقض مردها وهمان آخران:

1 ـ يُسيطر علينا تصوُّر مفاده أن ثمة اتساقاً عضوياً وتكاملاً في حياة البشر، وأن كل إنسان يتبع منطقاً واحداً في حياته. وتبعاً لهذا التصوُّر، لا يمكن أن يكون فرد واحد إنساناً عامر الإنسانية مع بني جلدته وقبيلته، متوحشاً بالغ الوحشية مع مجموعة إنسانية أخرى، ورغم أن هذا التصور منطقي، فإنه أبعد ما يكون عن الحقيقة المتعيِّنة، فالوجود الإنساني يتسم بالتناقض والتركيب، ويجتمع في داخل الإنسان الواحد الخير والشر والنبل الخسة.

2 ـ يُسيطر علينا أيضاً تصوُّر أن ثمة ارتباطاً (يكاد يكون عضوياً أيضاً) بين الحس الخلقي والحس الجمالي. ومرة أخرى، فإن هذا التصور المنطقي المجرد أبعد ما يكون عن الحقيقة المتعيِّنة. انظر مثلاً إلى أعمال الشاعر الأمريكي روبرت فروست، هنا نجد قصائد رائعة الجمال ترتبط فيها فكرة النظام بالمعنى الجمالي بفكرة النظام بالمعنى الأخلاقي، ولكن يُقال إن حياة هذا الشاعر الشخصية تتسم بكثير من القسوة والوحشية تجاه أقرب أقاربه. ويمكن أن يكتب أديب عملاً فنياً في غاية الرقي الفني ولكنه يدعو إلى الانحطاط. إن الحق والجمال أمران مختلفان، وهو أمر لا شك محزن، ولكن هذه هي سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا. وعلينا أن نتأمل بشيء من التفلسف حينما نعرف أن ضباط فرق الصاعقة النازية كانوا يستمعون إلى موسيقى فاجنر الراقية ويناقشون الأعمال المعمارية الضخمة التي يشيِّدها النظام النازي وهم يشمون رائحة لحم ضحايا المحرقة النازية التي تشوى ضحاياهم. وانظر إلى القاهرة ذاتها تجد أن بعض أجمل المباني شيدها الإنجليز، هؤلاء الذي جيشوا الجيوش وأرسلوا بها إلى بلادنا لتنهبها وتحوِّلها إلى مصدر لفائض القيمة الذي يصّب في خزائن الإمبراطورية البريطانية.

إدوارد/أدولــف درومـــــــون (1844-1917(

Edouard-Adolphe Drumont

صحفي فرنسي، وواحد من أهم المفكرين المعادين لليهود في الحضارة الغربية. عاش في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في فرنسا،وهو عصر الهيمنة الأوربية على العالم واقتسامه بين القوى الإمبريالية المختلفة،وكان معروفاً باتجاهاته اليسارية في مقتبل حياته الصحفية. وقد اضطر درومون إلى الاستقالة من صحيفة لاليبرتيه عام 1866 وأرجع هذا إلى سيطرة المليونير اليهودي ذي الاتجاهات السان سيمونية إسحق بريير الذي كان يمتلك الجريدة،واتهم اليهود بالسيطرة على الاقتصاد والإعلام،وظهر في العام ذاته كتابه فرنسا اليهودية في جزئين،وهو من أهم كلاسيكيات معاداة اليهود في الحضارة الغربية،ويُقال إنه كان أكثر الكتب شيوعاً في أوربا في القرن التاسع عشر إذ طُبع ما يزيد على مائة طبعة،وتُرجم إلى عديد من اللغات.

ويتسم فكر درومون بأنه خليط من الأفكار الدينية الراسخة في الوجدان المسيحي الغربي والأفكار الاشتراكية والشيوعية التي حققت ذيوعاً بين الجماهير الأوربية في القرن التاسع عشر. ويتضح هذا في كتابه فرنسا اليهودية الذي يذهب فيه إلى أن اليهود عنصر تجاري هامشي بطبيعته يعوق نمو الطبقة الوسطى المحلية (المسيحية) بسبب سيطرته على المشاريع التجارية والصناعية الكبرى. واليهود لا يندمجون مع الأمم الأخرى، فهم عنصر غريب، يعيشون بين الفرنسيين ولا يندمجون معهم، فهم لا وطن لهم. بل إن أولئك اليهود الذين يبدو كما لو كانوا مندمجين، هم في واقع الأمر أكثر العناصر خطراً، فهم مخادعون يتسللون داخل الأمة لإفسادها وتدميرها. ويُلاحَظ أن وصف درومون لليهود يقترب كثيراً من وصفنا للجماعات الوظيفية التي تعيش في المجتمعات المختلفة دون أن تكون فيها، والتي تندمج فيها كي تتعامل معها بكفاءة ولكنها تظل منعزلة عنها، وتحقق تراكماً هائلاً في الثروة. وقد اقترح درومون مصادرة أموال اليهود على أن تُستخدَم هذه الأموال لإيجاد وسائل إنتاجية للطبقة العاملة المُستغَلة.

وفي عام 1892، أسس درومون جريدة لا ليبر بارول والتي أفصح فيها عن رؤيته التي تجمع بين توجه كاثوليكي وتوجه اشتراكي في آن واحد والتي نشر فيها مقالاته عن فضيحة قناة بنما، وقد سجن لمدة ثلاثة أشهر بسببها. كما أسس جماعة رابطة أعداء اليهود، ثم كتب ملحقاً لكتاب فرنسا اليهودية وعدة كتب أخرى تُعبِّر عن الاتجاه نفسه المعادي لليهود. ورشح نفسه للانتخابات عام 1898 وفاز بمقعد في البرلمان. ثم قاد الحملة ضد دريفوس، ولكن تبرئة دريفوس أدَّت إلى تراجُع نفوذه.

كـارل ليوجـر (1844-1915(

Karl Lueger

سياسي نمساوي ومؤسس وزعيم الحزب المسيحي الاشتراكي النمساوي الذي اتسم بتوجهه المعادي لليهود. وُلد في فيينا لعائلة متوسطة ودرس القانون. بدأ حياته السياسية مع الجناح اليساري للحزب التقدمي حيث تعاون مع أعضائه من اليهود ومن بينهم أجناز ماندل الذي ظل صديقاً لليوجر ومستشاره السياسي لفترة طويلة. وقد انتخب ليوجر عضواً بمجلس مدينة فيينا عام 1875 ودخل البرلمان عام 1885. ورغم أن ليوجر نفسه لم يكن معادياً لليهود، ولم يكن متحمساً لفكرة الشعب العضوي الألماني، إلا أنه مثل غيره من السياسيين النمساويين في تلك الفترة، لم يتردد في استغلال كلا الأمرين من أجل تحقيق أغراضه وطموحاته السياسية. إذ كانت فيينا تضم في تلك الفترة مزيجاً من القوميات المختلفة، وكان استخدام أي سياسي لمشاعر معاداة اليهود يشكل أداة لتوحيد وكسب تأييد هذه الجماعات المتنافرة، وكذلك كسب تأييد البورجوازية الصغيرة التي كانت تعاني من المشاكل الاقتصادية. وقد اشترك ليوجر عام 1893 في تشكيل الحزب المسيحي الاشتراكي. وكان يسعى لكسب أصوات البورجوازية الصغيرة لهزيمة الحزب الليبرالي الذي تولى السلطة آنذاك وحظي بتأييد يهود فيينا. وبالفعل، حقق ليوجر شعبية كبيرة بفضل مهاراته كخطيب، ونجح في أن يجعل حزبه القناة الرئيسية للتعبير عن الاستياء الاجتماعي والسخط العام. وهاجم ليوجر الرأسمالية والماركسية باعتبارهما نتاجاً للعقل اليهودي. وقد نجح حزبه في انتخابات مجلس مدينة فيينا، وانتُخب ليوجر عام 1895 عمدة للمدينة، إلا أن الإمبراطور النمساوي فرانسيس جوزيف رفض الموافقة على نتيجة الانتخابات، ربما بسبب نشاط ليوجر المستفز للشعور العام، ولكنه اضطر تحت ضغط الرأي العام في فيينا وبإيعاز من تيودور هرتزل إلى إقرار تعيينه. وقد عمل ليوجر من خلال منصبه الذي احتفظ به حتىوفاته على إدخال العديد من الإصلاحات الاجتماعية والخدمات العامة.

ورغم أن سياسة إدارته كان لها بعض الآثار الاقتصادية السلبية على أعضاء الجماعة اليهودية في فيينا، إلا أن موقفه تجاه اليهود أصبح أكثر اعتدالاً بعد وصوله إلى السلطة، وضمت إدارته صديقه اليهودي ماندل (الذي تنصر وسنه 72 سنة)، كما أن نائب العمدة كان ذا أصول يهودية. وكان ليوجر يقوم بزيارات للمعابد والأسر اليهودية. وأكثر ما يدل على انتهازية ليوجر واستغلاله لمعاداة اليهود للأغراض السياسية عبارته « أنا الذي أقرر من هو اليهودي »، وهي عبارة تعكس في الواقع إدراك ليوجر للإبهام وعدم الوضوح الذي يحيط بمسألة تعريف اليهودي في فيينا، حيث ذهب البعض إلى اعتبار اليهود جماعة دينية، بينما اعتبرهم البعض الآخر، مثل القوميين الألمان، جماعة عرْقية. وقد أتاح ذلك لليوجر إنكار معاداته لليهود أو تأكيدها وفقاً لما تستدعيه مصلحته والمصلحة السياسية لحزبه. إلا أن ترويجه الأفكار المعادية لليهود كان له أثر، فيما ما يبدو، على فكر أدولف هتلر إبان نشأته.

أوجست ســترندنبـرج (1849-1912(

August Strindenberg

أهم كُتَّاب المسرح السويديين، ومن أهم كُتَّاب الدراما في العالم أجمع. وُلد لأسرة من الطبقة الوسطى في العاصمة السويدية لأب يعمل وكيلاً في النقل البحري وأم خادمة.

ألَّف ما يزيد على الستين عملاً درامياً، كما كتب مئات المقالات والعشرات من الروايات والمجموعات القصصية القصيرة والسيرة الذاتية. وهو يمثل بالنسبة للأدب السويدي واللغة السويدية ما يمثله شكسبير للأدب الإنجليزي واللغة الإنجليزية.

وترجع علاقة سترندنبرج باليهود إلى بدايته الأولى ككاتب واقعي تقدُّمي هاجم الملكية والمؤسسات الرجعية في السويد في كتابه الملكية الجديدة وكتابه أشعار (1883). وقد أثار هذان الكتابان القوى المحافظة في السويد ضده، وهو ما حدا به إلى السفر إلى أوربا متنقلاً بين بلادها. ونشر، وهو في الخارج، مجموعة إسكتشات تحت عنوان «الزواج» عام 1884، وكان ناشرها يهودياً. وفي هذه المجموعة، هاجم سترندنبرج المؤسسات الدينية هجوماً شديداً ودافع عن الجانب الجسدي في الزواج الأمر الذي دفع أعداءه إلى مقاضاته باستخدام فقرة في القانون السويدي تجرِّم التجديف، وأشاروا إلى اسكتش في المجموعة سماه «شعراء الفضيلة» استخدم فيه إشارات ترمز للعشاء الأخير.

وفي البداية، رفض سترندنبرج العودة والوقوف أمام المحاكمة. إلا أنه عاد فيما بعد عندما بدأ الادعاء في مقاضاة ناشره اليهودي وفقاً للقانون السويدي الذي كان يجيز مقاضاة الناشر في حالة غياب المؤلف. وقد صرح سترندنبرج بأن عودته ترجع أساساً لخوفه من تحيُّز القانون ضد الناشر اليهودي لكونه يهودياً حيث إن أوربا كانت تجتاحها في تلك الآونة موجة من العداء لليهودية (على حد قوله). وقد بُرئ سترندنبرج من تهمة التجديف، إلا أن محاكمته ذاتها جلبت عليه الخراب، حيث قُوطع من الناشرين وأصحاب المسارح على حدٍّ سواء. وفي هذه الفترة، كتب سترندنبرج مسـرحياته الشـهيرة مس جولي، و الأب، و اللعب بالنار و الدائنون، وغير ذلك مما أعطـاه شهرة ككاتب طبيعي النهج. وقد أدَّت الضغوط الاقتصادية إلى رحيله عن السويد مرة ثانية عام 1892 والانغماس في الفترة من 1892 في محاولات عقيمة لتحويل المعادن وصناعة الذهب حيث ترك الأدب تماماً. وقد تأثر في هذه الفترة بأعمال المتصوف الديني السويدي سويدنبورج، بعد تأثره العميق بأفكار نيتشه.

وفي هذه الفترة أيضاً، نشر سترندنبرج عدة مقالات في صحف ومجلات الجماعات التي تهتم بالأسرار الروحية والسيميائية في فرنسا ووُجِّهت لها تهمة معاداة اليهود. وتستحق فكرة معاداة سترندنبرج لليهود وقفة طويلة. فقد ذاعت تلك الفكرة كما اشتُهر عنه أيضاً بأنه عدو المرأة. ولقد رأينا كيف عاد سترندنبرج للسويد ليواجه المحاكمةبتهمة التجديف بدلاً من إعطاء الفرصة لخصومه لمقاضاة ناشره اليهودي. وقد أعرب سترندنبرج في كتاباته وخطاباته أكثر من مرة عن كراهيته لناشره واحتقاره له حيث وصفه بأنه «مصاص دماء يثرى على حسابه»، ويراكم المال بينما يعيش هو « في الفاقة والعوز ». كما ذكر غير مرة أن معاداته لليهود إنما هي معاداة للماليين من اليهود والمرابين الذين يثرون على حساب غيرهم من البشر. وذكر أيضاً في خطابه للناقد الأدبي برانديز عام 1882 أن «المسألة ليست اليهود ولا اليهودية ولكنها مسألة أولئك اليهود السويديين الذين يستغلوننا ».

وحتى مقالاته التي نشرها في فرنسا والتي تتسم بعدائها لليهود بين عامي 1894 و1895 كانت رداً على دفاع زولا عن دريفوس، وقد كانت هذه المقالات ممتلئة بمعاداة زولا أكثر من معاداة اليهود كجنس في ذاته.

وفي 1897، نشر سترندنبرج انطباعاته عن هذه الفترة في كتابه الجحيم وهو دراما خيالية في شكل سيرة ذاتية تمتلئ بالإشارات الباطنية والإحساس المتزايد بارتكاب الذنب الأزلي. وقد عاد سترندنبرج ابتداءً من عام 1898 إلى الكتابة الدرامية حيث سارت مسرحياته في هذه المرحلة التي يدعوها النقاد «مرحلة ما بعد الجحيم» في مسارين يتقاطعان كثيراً هما رواية التاريخ السويدي من منظور شعبي، والمسرحيات ذات المحتوى الديني. ومن أمثلة ذلك كارل الثاني عشر و سوناتا الشبح المليئة بالرموز الموحية دينياً. وقد كان سترندنبرج في تلك الفترة من حياته يمثل المدافع الأول عن حقوق الطبقات الشعبية من واقع التزام ديني. وقد اتسمت نظرته لليهود في هذه المرحلة بروح التسامح، كما مثلت فكرة القبول عنده فكرة محورية في معظم المسرحيات، مثل: إلى دمشق و عيد الفصح و مسرحية حلم .

وتُوفي سترندنبرج في أبريل عام 1912، وتحوَّل آخر عيد ميلاد له (في 22 يناير 1912) إلى مناسبة شعبية تتخللها مظاهرات كبرى هتف فيها المتظاهرون: «عاش شاعر الشعب - عاش شاعر الحرية».

راينـــر فاســـبندر (1946-1982)

Reiner Fassbinder

مخرج ومنتج وكاتب سينمائي ومسرحي ألماني كان طالباً منتظماً في مدرسة تجريبية في ميونيخ، لكنه ما لبث أن هجرها وعمل بالصحافة ثم تركها والتحق بالفرقة المسرحية البافارية الثورية التي تُسمَّى «مسرح الفعل». وفي سن التاسعة عشرة، أخرج فيلمه القصير الأول «صعلوك المدينة» ليبدأ رحلة إبداعه الفني التي استمرت 17 عاماً وشملت 43 فيلماً و30 مسـرحية وعدداً هائلاً من الكتابات والتمثيليات الإذاعية كانت جميعها، تماماً مثل حياته، نموذجاً للتمرد والانطلاق والتجريب. وقد تناول في أعماله سلبيات المجتمع الألماني بشكل خاص، والمجتمعات الغربية الحديثة بشكل عام، وما يسود هذه المجتمعات من تفكُّك وتحلُّل وإحباط نتيجة اللهاث وراء المادة وغياب أية قيمة أو معنى للحياة سوى القيم والمعاني المادية. وكانت أغلب أعماله مثيرة للجدل، وتباينت حولها ردود أفعال النقاد، بل قد وُجِّهت له تهم معاداة اليهود والتعاطف مع الإرهاب وعدم إدانة النازية. وقد أثارت مسرحيته المدينة والزبالة والموت (1974) ضجة صحفية كبرى داخل ألمانيا وخارجها واتُهم فاسبندر بمعاداة اليهود نظراً لأن الشرير المرابي المتعاون مع السلطة في المسرحية كان يهودياً. وتكررت هذه التهمة مع فيلمه « ليلى مارلين » (1980) حيث توجد أيضاً شخصية اليهودي الشرير. ولم يكن تناول فاسبندر لليهودية في أعماله من منطلق أنها عقيدة دينية وإنما من منطلق أنها نزوع إلى جمع المال والربح والصعود على أكتاف الآخرين (وهذا نمط إدراكي شائع في الأدبيات الاشتراكية الغربية). فهو يبحث في أفلامه عن أسباب «يهودية» المجتمع (أو تهوده حسب تعبير ماركس، وهو ما نُعبِّر عنه هنا في هذه الموسوعة باصطلاح «تحوسل المجتمع»، أي تحوُّل أعضاء المجتمع إلى مجرد وسائل لخدمة أهداف يُقال لها نهائية ولكنها ليست بالضرورة إنسانية). وعملية التهود والتحوسل هذه تؤدي إلى التفكك والتحلل والهزيمة والعنصرية ومعاداة الأجانب وهو ما نراه في أفلام مثـل « الخوف يأكل الرمح » و« لا أبغي إلا أن تحبوني » و«الروليت الصيني ». والواقع أن كل الشخصيات في أفلامه مدانة باليهودية (بالمعنى الذي سبقت الإشارة إليه). وكل الأبطال يعانون من الشـعور بالوحـدة والعزلة والإحباط، فحـتى بعد النجاح لا يحقق المرء ذاته، والسؤال الأساسي «و ماذا بعد النجاح؟ » غير مطروح في هذا المجتمـع كما يتبدَّى لنا من أحداث فيلمه « بائع الفصول الأربعة » (1971). وفي هذا الإطار نفسه، تتعامل جميع أفلام فاسبندر مع موضوع الأسرة وانهيارها وانحلالها ثم اختفائها. ففي فيلم « زواج ماريا براون » (1978)، وهو أول أفلامه الضخمة، يتناول قصة امرأة تزوجت لمدة عشرة أيام ثم طُلب زوجها للجيش في الحرب العالمية الثانية، ولكنها حافظت على زواجها بأمل تكوين الأسرة الناجحة، ثم فسقت وقتلت واستغلت وسرقت من أجل تحقيق حلم النجاح والاحترام وليس من أجل التوازن المفقود الذي لن يعود.

ويبدو أن تهمة معاداة اليهود كلفت فاسبندر وظيفته وحرمته من نيل أية جائزة من جوائز المهرجانات السينمائية الكبرى (سواء في كان أو في فنيسـيا)، وكانـت الجائزة الوحـيدة التي حصل عليها من برلين عن فيلمه « فيرونيكا نوس ». وقد رفضت لجنة المساعدة الاتحادية التي تقدم العون لإنتاج الأفلام في ألمانيا مشروعين من مشروعات فاسبندر.

وقد أثارت أفلام فاسبندر اتهامات أخرى ضده منها أنه لا يدين النازية، فهو لا يعتبر النازية وحشاً في حد ذاته ولكنه يبحث دائماً وراء الظاهرة الاجتماعية عن الظاهرة/الرمز سواء أكانت تلك الصورة هي الصليب المعقوف أم شمعدان المينوراه أم النجمة المسدسة أم المطرقة والمنجل. كما اتُهم بأنه مرتبط بجماعات الإرهاب نظراً لما أبداه من تعاطف في بداية فيلمه «ألمانيا في الخريف» (1977) مع أعضاء جماعة بادر ماينهوف الذين ماتوا في زنازينهم.

وقد تُوفي فاسبندر عن عمر يناهز السادسة والثلاثين بعد أن عاش حياة حافلة بالنشاط وبالإنتاج الفني والسينمائي، وكان قد اعترف قبل وفاته بأنه يتعاطى المنشطاتوالكوكايين ليستمر في العمل، كما اعترف بشذوذه الجنسي في فيلم « ألمانيا في الخريف ».

الصفحة التالية ß إضغط هنا