هجرةُ إجبارٍ لا اختيار - اللاَّجئون الفلسطينيون في المنافي الجديدة

تُعرف الهجرة في علم السكان (الديموغرافيا) بأنها انتقال فرديِّ أو جماعي، من موقع إلى آخر بحثاً عن وضع أفضل اجتماعياً أو اقتصادياً أو دينياً أو سياسياً.

أما في علم الاجتماع، فهي تدل على تبدل الحالة الاجتماعية، كتغيير الحرفة أو الطبقة الاجتماعية وغيرها.

وتعد الهجرة السرية وما تحمله من توصيفات بأنها غير قانونية أوغير شرعية أو غير نظامية، ظاهرة عالمية موجودة في الدول المتقدمة كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أو في الدول النامية بآسيا كدول الخليج ودول المشرق العربي، وفي أمريكا اللاتينية.

ويصعب تحديد حجم الهجرة غير المنظمة نظراً لطبيعتها، ولكون وضع المهاجر السري يشمل أصنافاً متباينة من المهاجرين، فمنهم من يدخل بطريقة غير قانونية دول الاستقبال ولا يُسوي وضعه القانوني. ومنهم من يدخل دول الاستقبال بطريقة قانونية، ويمكث هناك بعد انقضاء مدة الإقامة القانونية.

وهناك من يعمل بطريقة غير قانونية خلال فترة الإقامة المسموح بها.

الهجرة غير الشرعية

يقصد بها أن يغادر الشخص موطنه الذي يقيم فيه، إلى موطن أخر يحظر عليه دخوله، فيتّبع الشخص أساليب التحايل والتزوير بمساعدة أشخاص آخرين للتمكن من دخول الموطن الجديد، بحيث يتعرض لمحاسبة قانونية من قبل السلطات هناك.

ومن الوسائل التي يلجأ إليها المهاجر غير الشرعي ليصبح شرعياً، تزوير جواز سفره بتغيير الاسم والمعلومات، أو استخدام جواز سفر لشخص آخر فقط يضع صورته بدلاً من صورة صاحب الجواز الأصلي.

أما أسباب منع شخص من دخول موطن ما، فإما أن تكون أسباباً سياسة أو أمنية بالدرجة الأولى، وهذا ينطبق على أي شخص في العالم.

أما اللاَّجئ الفلسطيني، فله خصوصية لا يحسد عليها، حيث يحظر على اللاجئين الفلسطينيين السفر إلى أي دولة دون تأشيرة أو موافقات أمنية للدول العربية.

وللحديث عن الهجرة غير الشرعية للاَّجئين الفلسطينيين من العراق، لا بد أولاً من إبراز الأسباب والدوافع التي أجبرت الآلاف منهم على مغادرة العراق، بطرق شرعية أوغير ذلك.

أسباب الهجرة غير الشرعية ودوافعها:

لجأ آلاف الفلسطينيين إلى العراق منذ نكبة عام 1948، حيث نقلهم الجيش العراقي من فلسطين ليحلُّوا ضيوفاً على العراق. وقد عاش الفلسطينيون في ظل تعاقب الحكومات العراقية، وسُنَّت لهم العديد من القوانين والتشريعات، واستمر هذا الحال إلى الحرب على العراق عام 2003.

أسباب الهجرة

تتلخص أسباب هجرة أكثر من (15 ألف) لاجئ فلسطيني من العراق ودوافعها، بعيد الحرب العدوانية الأمريكية، من خلال عدة جوانب:

أولاً: الجانب الأمني

انتشار الفوضى الأمنية في العراق، التي كانت لها آثار سلبية على واقع اللاجئين الفلسطينيين هناك، من حيث استهداف التجمعات الفلسطينية في العراق، واختطاف الفلسطينيين من قبل الميليشيات الإجرامية، وتعذيبهم حتى الموت، حيث سُجل ما يقارب (300) حالة قتل على يد تلك الميليشيات.

إضافة إلى مصادرة ممتلكات الفلسطينيين خارج التجمعات الفلسطينية، في مدينة الحرية والموصل وغيرها، وكذلك عمليات الدهم المستمرة للتجمعات السكنية الفلسطينية في العراق. والأشد من ذلك، كان التهديد المباشر من الميليشيات للفلسطينيين بالقتل إن لم يغادروا العراق، واتهامهم بأنهم من أنصار النظام العراقي السابق. إضافة إلى التحريض الإعلامي على الفلسطينيين وتلفيق التهم لهم بالمسؤولية عن تفجيرات إرهابية في العراق، وهذا ما جرى مع مجموعة من الشبان الفلسطينيين الذين أرغموا تحت التعذيب على الاعتراف بمسؤوليتهم عن تفجيرات منطقة بغداد الجديدة عام 2005، وذلك عبر إحدى الفضائيات العراقية.

وهكذا أصبح اللاجئ الفلسطيني في ظل الاستهداف المباشر لأطراف متعددة في الساحة العراقية تستخدم وسائل الترهيب والتهديد بغية طرد الفلسطينيين من العراق.

ثانياً: الجانب السياسي

أدرك الفلسطينيون في العراق أنهم أصبحوا غير مقبولين لدى عدد من الأطراف العراقية لأسباب سياسية ومذهبية، الأمر الذي أجبرهم على مغادرة العراق، مع العلم بأنَّ الفلسطينيين يؤكدون دائماً أن لاعلاقة لهم بالحياة السياسية العراقية، ويتمنون أن ينعم العراقيون بالوحدة الوطنية.

ثالثاً: الجانب الاقتصادي

وقد تمثَّل في تدهور الأحوال المعيشية، وغلاء الأسعار وإيجارات المنازل والبطالة نتيجة الظروف الأمنية السيئة، وضعف الخدمات التي تقدمها الجهات العراقية، من الانقطاع المستمر في الكهرباء، وغرق التجمعات الفلسطينية بمياه الأمطار بسبب سوء خدمات الصرف الصحي، وهي حالة عامة في جميع مدن العراق المحتل.

بالإضافة إلى تهديدهم بلقمة العيش، كما حدث في 24/10/2010 حين قامت أمانة بغداد بإزالة جميع المحال التجارية للفلسطينيين المقامة على شارع مجمع البلديات، حيث تمثّل هذه المحالّ مصدر رزق لعشرات الأسر الفلسطينية وسوقاً تجارياً لسكان البلديات.

رابعاً: الجانب التعليمي:

تخشى العائلات الفلسطينية من تعرض أبنائها للاختطاف خلال الذهاب الى المدارس، كما حدث مع العديد من الأطفال الفلسطينيين، فامتنع العشرات من الطلبة الفلسطينيين من الالتحاق بمدارسهم نتيجة الظرف الأمني الصعب وتلقيهم تهديدات بالقتل داخل حرم المدرسة.

أما الطلاب الجامعيون، فقد تعرض عدد منهم للاختطاف من أمام جامعاتهم، فمنهم من قتل ومنهم من حالفه الحظ في النجاة، الأمر الذي منع العشرات من إكمال دراستهم الجامعية، علماً بأنَّ بعضهم كان في السنة الأخيرة.

من هنا كانت الرغبة في إكمال الأبناء للدراسة الجامعية والخوف على مستقبلهم، عاملاً مهماً في هجرة العائلات الفلسطينية خارج العراق.

خامساً: الجانب الصحي

يعاني المرضى الفلسطينيون صعوبة تلقي العلاج المناسب داخل المشافي العراقية، خشية من التعرف إلى جنسيتهم الفلسطينية واختطافهم. كما حدث مع العديد منهم الذين اختطفوا من على أسرَّة المرض ليقتلوا بعد ذلك. ومن جهة أخرى، هناك سعي لللاجئين لإجراء عمليات جراحية خارج العراق بغية الحصول على العلاج المناسب من جهة، وكذلك اللجوء والأمان من جهة أخرى.

سادساً: الجانب الاجتماعي

شكلت الهجرة الجماعية دافعاً للعائلات الفلسطينية في مغادرة العراق تباعاً، العائلة تلو الأخرى بغية الحفاظ على النسيج الاجتماعي للعائلة الواحدة، وأن تبقى مجتمعة في بلد واحد، لكن نادراً ما تجدهم كذلك، كما يتطوع أحد أفراد العائلة بالمخاطرة بنفسه للهجرة بغية إنقاذ بقية أفراد العائلة من الواقع المأساوي في العراق.

سابعاً: الجانب القانوني

كان اللاجئ الفلسطيني يعامل قبل عام 2003 بأنه مقيم دائم، حيث يعامل كل لاجئ دخل العراق عام 1948م بهذه الصيغة. أما بعد الحرب، فأصبح على اللاَّجئ مراجعة دائرة الهجرة والإقامة باستمرار، ما أضاف أعباءً جديدة إلى واقع اللاجئين الفلسطينيين في العراق.

ثامناً: غياب المظلة الرسمية الفلسطينية

يعاني اللاجئون الفلسطينيون في العراق غياب الدور الرسمي الفلسطيني المتمثل بسفارة منظمة التحرير الفلسطينية التي لا تعطي قضيتهم أي اهتمام ولا تتدخل لدى الأطراف العراقية لإيجاد حل لمأساة فلسطينيي العراق وإيقاف الانتهاكات التي يتعرضون لها. كذلك، السلطة الفلسطينية لا تعير بالاً لمحنة اللاجئين الفلسطينيين داخل العراق، وبالتالي أصبح اللاجئ الفلسطيني في العراق دون قيادة سياسية مؤهلة لحمايته والدفاع عن حقوقه.

نماذج الهجرة غير الشرعية

اضطر اللاجئون الفلسطينيون في العراق إلى الحفاظ على أنفسهم، والنجاة من الموت المحدق بهم على أيدي القتلة وأعوان المحتل الأمريكي الغاصب، وخاصة بعد أن قصدوا الوجهة القانونية من خلال الهجرة إلى الحدود العربية العراقية التي فتحت لقلة منهم، فأُدخلوا إلى مخيم الهول في مدينة الحسكة السورية عام 2006، ثم أغلقت الحدود لتولد مخيمات الرويشد والتنف والوليد في المناطق التي تسمى «الحرام» بين العراق وجيرانه سورية والأردن.

وتنوعت أشكال الهجرة الفلسطينية الجديدة من العراق كما في نكبة عام 1948، ويمكن أن تقسم إلى محورين هما:

1- الهجرة إلى الدول العربية

بعد أن رفضت معظم الدول العربية استقبال الفلسطينيين النازحين من العراق، كان الخيار الوحيد أمام الفلسطينيين هو اللجوء إلى آليات تمكنهم من دخول الدول العربية، على الرغم من أن موقفهم قانوني، فلماذا يسمح للاجئ العراقي بالسفر إلى أية دولة عربية فيما يحرم اللاجئ الفلسطيني من ذلك؟

لذا اتجه معظم اللاجئين الفلسطينيين إلى استصدار جوازات عراقية رسمية بأسمائهم بحيث يكونون لاجئين عراقيين، عندها أصبحوا قادرين على التوجه إلى سورية والأردن مثلاً، لكن هذا الخيار صعب على اللاجئ أيضاً، إذ إن تكلفة إصدار جواز عراقي هذه الأيام لا تقل عن (1500$) لكل فرد، علاوة عن خشية اللاجئ من أن يكتشف أنَّ جواز السفر العراقي (مضروب) وفقاً للمصطلح المتعارف عليه في مجال التزوير.

ولقد تعرض الكثير من اللاجئين الفلسطينيين من حملة جوازات السفر العراقية للاعتقال في الدول العربية بعد التعرف إلى جنسيتهم الفلسطينية، ثم رحلوا إلى مخيم التنف عند الحدود السورية العراقية ومخيم الهول في الحسكة، وبعضهم أرجع إلى العراق ليبدأ رحلة جديدة نحو النجاة.

وتتوزع النسبة الأكبر من الفلسطينيين النازحين من العراق إلى الدول العربية على النحو الآتي: (سورية – الأردن – الإمارات – اليمن).

2- الهجرة إلى الدول الأوروبية والاسكندنافية

يواجه اللاجئ الفلسطيني الذي يفكر في الهجرة إلى هذه الدول عوائق عديدة وخطورات كبيرة، فهناك العشرات من اللاجئين الفلسطينيين الذين وضعوا أرواحهم بين أيدي المهربين الذين لا يهتمون إلا بالأموال، أما النفس البشرية فهي آخر ما يفكرون فيه.

فمثلاً إذا أراد لاجئ فلسطيني أن يصل إلى السويد كمحطة نهائية لنزوحه من العراق، عليه أولاً الوصول إلى تركيا ثم يركب زورقاً بحرياً ويبحر إلى قبرص اليونانية لساعات، وفي الليل الحالك برفقة مهرب لا يتوانى عن تسليم اللاجئين لخفر السواحل مقابل الافراج عنه، وكذلك الخوف من حدوث مكروه لهم، كما جرى مع بعض اللاجئين.

بعد وصول اللاجئ إلى قبرص، عليه أن يستريح بانتظار الخطوة التالية، التي تتمثل بمغادرة قبرص عبر المطار وبجواز سفر جديد إلى دولة في أوروبا، قد تكون المحطة قبل الأخيرة في طريقه إلى السويد، وذلك بعد أن ينجح في مغادرة قبرص، إذا لم يكتشف جواز سفره المزور، حيث يجبر حينها على «التبصيم» لدى السلطات القبرصية، وهذه مرحلة يَخشى منها جميع اللاجئين، لأن السويد إذا قبلت استقباله حينها فإنها سترجعه إلى قبرص.

لقد حالف الحظ كثيراً من اللاجئين الفلسطينيين بالوصول إلى تلك الدول، واستطاعوا بعد ذلك العودة بـ«جواز أوروبي شرعي» إلى الدول العربية التي منعوا من دخولها سابقاً، عندما كانوا فلسطينيين، ونجحوا في جمع شملهم بعائلاتهم.

ونتيجة للهجرة الجديدة، فإن الخريطة الجغرافية لتوزع اللاجئين الفلسطينيين من العراق في العالم تشمل الدول الآتية (السُّويد – النَّرويج – كندا –أوستراليا –إيطاليا – البرازيل – تشيلي – الهند – الصين – الولايات المتحدة الأمريكية – بريطانيا – فرنسا – الدنمارك – نيوزيلندا – فنلندا – البرتغال – اليونان – ألمانيا – سويسرا).

النتائج السلبية للهجرة غير الشرعية

للهجرة غير الشرعية التي لم يجد اللاجئون بداً من المضي في مخاطرها نتائج سلبية على واقع اللاجئين الفلسطينيين من العراق تتلخص بـ:

- تعرض العديد من اللاجئين الفلسطينيين للسجن والترحيل والاحتجاز في المطارات لدى العديد من دول العالم، كما حدث مع اللاجئ رأفت الجمل الذي احتجز مع زوجته المريضة وأطفاله في مطار دبي، ومجموعات فلسطينية اعتقلت في تركيا ثم رُحّلت إلى سورية.

- ولَّدت ضعفاً في النسيج الاجتماعي للعائلات الفلسطينية النازحة من العراق، حيث تشتّتت العائلة الواحدة في أكثر من دولة، فلا تجد اليوم عائلة فلسطينية نازحة من العراق يقيم أفرادها في دولة واحدة إلا نادراً.

- سجلت حالات وفاة من الفلسطينيين أثناء عملية تهريبهم بين تركيا واليونان بحراً، حيث توفي اللاَّجئ خالد الأسعد وابنتاه غرقا،ً بعد تحطم الزورق البحري الذي يقلهم نتيجة الأمواج العاتية عند الشواطئ التركية.

- الآثار النفسية السيئة والخوف الدائم من المجهول الذي ينتظر اللاجئ الفلسطيني، حيث غدا الخبز اليومي للاجئين هو الحديث والتفكير المستمر في أوضاعهم في البلد الذي يقيمون فيه وعن الإقامة والخشية من رفض السلطات منحهم إياها، ما يسبب إحباطاً لمعنوياتهم ويولد اليأس في نفوسهم من حل مأساتهم.

- تراكم المستحقات المالية على اللاجئين نتيجة تكاليف السفر الباهظة، علاوة على الخسارة المالية الكبيرة التي لحقت بهم نتيجة الفشل في الوصول إلى بر الأمان، وأيضاً غلاء المعيشة في هذه الدول مقابل عدم وجود فرص عمل للاجئين.

- حالات عدة من اللاجئين وخاصة أرباب الأسر الذين توفوا بعيداً عن عائلاتهم في المهجر، حيث كانت الغاية الرئيسة من هجرتهم هي الحصول على الإقامة الدائمة ثم القيام بإجراءات لمّ الشمل مع عائلاتهم.

- صعوبة تكيف اللاجئين مع الواقع الجديد في دول تختلف فيها اللغة والدين والعادات الاجتماعية والصحية عما هو عليه الحال في المحيط العربي والإسلامي.

ويبقى السؤال: لماذا لا تختصر هذه المحطات البعيدة من مسيرة اللاجئ الفلسطيني بحثاً عن النجاة والأمان، لتكون أقرب إلى وطنه فلسطين؟ مع العلم بأنَّ الفلسطيني إن هاجر إلى القمر ستبقى فلسطين تتدفق في دمائه وبصره، وسيظل يرنو إلى القدس والمسجد الأقصى المبارك؟