المجلد السابع: إسرائيل.. المستوطن الصهيوني 9

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

الباب الرابع: نظرية الأمن

الإســتراتيجية والأمـــن القومـــي: مشــكلة التعـــريف

Strategy and National Security: Problem of Definition

ثمة عائلة من المصطلحات التي يصعب تحديد مدلولها بدقة نظراً لتداخلها وتشابكها. وتُشكِّل هذه المصطلحات طيفاً أو متصلاً بين نقطتين أقصى أحد طرفيه "السياسة العليا للدولة" والطرف الآخر "الإستراتيجية العسكرية". وإذا كانت السياسة العليا تمثل أعلى درجات السياسي والقومي وأكثرها تجريداً، فإن الإستراتيجية العسكرية تمثل العسكري والإجرائي.

وإذا حاولنا تصوُّر نقط الطيف المختلفة لقلنا إن «السياسة العليا» للدولة هي السياسة التي تعبِّر عن العقد الاجتماعي السائد في المجتمع وعن ثوابته وأيديولوجيته وأهدافه الكبرى ورؤية النخبة الحاكمة (التي تقبلها غالبية أعضاء المجتمع) للأرض والشعب والحدود وهوية العدو وهوية الصديق.

تأتي بعد ذلك «الإستراتيجية العليا» وهي الخطط العامة المدروسة التي تعالج الوضع الكلي للدولة من خلال الاستخدام الأمثل لجميع مصادر القوة المتاحة حتى يتسنى تحقيق الأهداف الكبرى لهذه الدولة، وتنسيق جميع إمكاناتها الاقتصادية والبشرية (أي القوة القومية) لتلبية أهداف الأمن القومي، كما حددته السياسة العليا، ضمن كل الظروف الممكن تصوُّرها، سواء في حالة الحرب أو السلم. ففي حالة السلم يكون هدف الإستراتيجية العليا دعم القوى المعنوية، وتنظيم توزيع الأدوار بين مختلف المرافق، والحفاظ على تماسك المجتمع ضد الظواهر الداخلية التي قد تهدد هذا التماسك (ظاهرة المخدرات في الولايات المتحدة ـ الهجرة غير الشرعية في كثير من المجتمعاتالأوربية).

أما «الأمن القومي» لأية دولة فهو دفاع ووقاية ضد الأخطار الخارجية مثل وقوع الدولة تحت سيطرة دولة أخرى أو معسكر أجنبي أو اقتطاع جزء من حدودها أو التدخل في شئونها الداخلية لتحقق دولة خارجية صالحها. وفي حالة الحرب هو الذي يحدد أعضاء التحالف المشترك في الحرب بقصد تحقيق الهدف السياسي للحرب وهو الذييخطط للسلم الذي يعقب الحرب. وبهذا المعنى فمفهوم الأمن القومي مفهوم متعدِّد الأبعاد يمثل نواحي عسكرية واقتصادية واجتماعية.

ويتفرع من كل هذا ما يُسمَّى «العقيدة العسكرية» وهي تعبر عن تصورات القيادة السياسية/العسكرية العليا لطبيعة الحرب التي تتوقع خوضها في المستقبل سواء من ناحية النتائج السياسية أو الإجراءات العسكرية. ومن ثم فالعقيدة العسكرية تشمل تصوُّر الدولة المعنية لأسلوب الاستعداد للحرب اقتصادياً ومعنوياً، وكذلك كيفية إنشاء وتجهيز القوات المسلحة وطرق إدارة الحرب. وهي تعتمد بصورة مباشرة على البنية الاجتماعية للدولة وعلى حالتها السياسية. وفي إسرائيل يذهب كثير من العسكريين إلى الإشارة إلى «العقيدة العسكرية» باعتبارها «نظرية الأمن».

وتتفرع عن العقيدة العسكرية ما يُسمَّى «الإستراتيجية العسكرية» (أو سياسة الحرب) وهي الإستراتيجية أو السياسة التي توجِّه الحرب (مقابل الإستراتيجية العليا التي تحكم هدف الحرب) وتضع المخططات اللازمة لتحقيق النصر العسكري مهتدية في ذلك بمبادئ العقيدة العسكرية.

وبدلاً من أن نتوه في فوضى المصطلحات فإننا سنتصور أنها كلها تكوِّن متصلاً أو كلاً غير عضوي، أي مليئاً بالثغرات، أقصى أطرافه السياسة العليا للدولة (والعقد الاجتماعي للمجتمع) ومن الناحية الأخرى الإستراتيجية العسكرية. ونحن سنستبعد السياسة العليا للدولة الصهيونية باعتبار أن هذا المجلد في معظمه يتناول الثوابتالأيديولوجية الصهيونية. وسنفترض وجود نقطتين أساسيتين: الإستراتيجية والأمن القومي. والإستراتيجية في تصوُّرنا ستقترب من السياسي والأيديولوجي، أما الأمن القومي فسيقترب من العسكري والإجرائي. ورغم الفصل بين المصطلحين فإنهما متداخلان، فنحن سنتعامل هنا مع السياسي في علاقته بالعسكري، وكذلك مع العسكري في علاقته بالسياسي.

إستراتيجية إسرائيل المستقبلية

Israel's Future Strategy

إن إستراتيجية إسرائيل المستقبلية تدور حول منطقين كلاهما يكمل الآخر: الأول شل المخاطر التي تواجهها، والثاني العمل على تحقيق أهدافها الصهيونية لابالمعنى الذيوضعه آباء الصهيونية الأوائل،ولكن بالمعنى الذي يفرضه الواقع المعاصر.

من هذا المنطلق علينا أن نفصل ونميز في الأهداف القومية لإسرائيل بين ستة مداخل أساسية:

1 ـ تجزئة الدول العربية وبلقنة الوطن العربي.

2 ـ تمكين الدولة اليهودية النقية من التكامل.

3 ـ تحويل إسرائيل إلى قلعة صناعية ودولة خدمات سياحية.

4 ـ ربط الاقتصاد العربي بالاقتصاد الإسرائيلي من منطلق السيطرة ومبدأ التبعية.

5 ـ تجزئة دول المنطقة غير العربية.

6 ـ تحويل القدس إلى عاصمة عالمية: مصرفية وصناعية.

إن إسرائيل تواجه مجموعة من المخاطر التي لا يجوز الاستهانة بها وهي لن تقف صامتة إزاء تلك المخاطر.

وأول أهداف السياسة الإسرائيلية في الأعوام القادمة هو بلقنة المنطقة العربية.فالقناعة الإسرائيلية هي أنها لن يحميها في الأيام القادمة إلا تجزئة الدول العربية، أي ضمان أمني أو اتفاقية مع الدول العظمى لتكون لها قيمة. فهي تعلم أنه في الأمد البعيد إذا ظل الوضع على ما هو عليه، فإن الولايات المتحدة سوف تنتهي بأن تجد مصالحها مهددة في المنطقة. وهي كدولة عظمى لا تستطيع أن تضحي بمصالحها كليةً لحساب دولة أياً كانت أهميتها العاطفية،كذلك فإن الجانب العربي في طريقه لأن يضع حداً للتخلف الذي يفصله عن إسرائيل. وقد أثبتت مصر قدرتها على ذلك.ومصر في الأمد البعيد سوف تعود إلى الصف العربي لأنها تعلم أن هذا هو انتماءها. ومن ثم ولضمان أمنها ليس أمامها سوى تفجير العالم العربي وتحويله إلى العديد من الكيانات ذات الطابع الطائفي أو الديني.مثل هذا التفجير سوف يسمح لإسرائيل بتحقيق هدفين في آن واحد: من جانب سوف تجد تبريراً لها في عالم يسوده مفهوم الدولة الطائفية،فإسرائيل نفسها ليست دولة علمانية وهي من ثم سوف تخلق التجانس بين منطق وجودها والمنطق السياسي الذي سوف يسود المنطقة في تلك اللحظة،وهي من جانب آخر سوف تلهي القيادات لمدة خمسين عاماً في خلافات محلية حول الحدود والأطماع المتعلقة بالممرات المائية والثروات البترولية وما عداها. وفي خلال ذلك تستطيع أن تؤمن لنفسها التطور الذي سوف يسمح لها بأن تحقق أهدافها البعيدة المدى والمتعلقة بالسيطرة الكاملة والتحكم في المنطقة الممتدة من المحيط الهندي حتى المحبط الأطلسي.

ولا يستثني هذا التصور مصر، رغم أنها الدولة الوحيدة في المنطقة التي ظلت ستة آلاف عام تمثل تماسكاً قومياً ثابتاً. فإسرائيل تعلم أن المخاطر التي يتعرض لها الكيان الصهيوني إن ظلت مصر في تماسكها أولاً،وفي تَضخُّمها الديموجرافي ثانياً، وفي تَقدُّمها التكنولوجي ثالثاً هي مخاطر قاتلة. فمصر وحدها تستطيع، إذا قدرت لها القيادة الصالحة على تعبئة القدرات والاستخدام الأمثل للإمكانيات، أن تقضي على إسرائيل.وهي لذلك أكثر إلحاحاً في تطبيق مفهومها للتجزئة على مصر.

إن الفكر الإستراتيجي الإسرائيلي بهذا الخصوص واضح ولا يعرف أي غموض، ولكن التساؤل المطروح هوترتيب تعامله مع المنطقة من هذا المنطلق، كما أنه يحاول أن يطوع الإدراك الأمريكي ليجعل السياسة الأمريكية إن لم تقف موقف المساندة لمثل هذه الإستراتيجية فعلى الأقل أن تتجنب الرفض.

ومما لا شك فيه أن السياسة الإسرائيلية تسير بوعي حقيقي أساسه ألا تتسرع في خطواتها وألا تلهث وراء تحقيق أهدافها وأن تنتظر اللحظة المناسبة عندما يصير الموقف ناضجاً لتدفع عجلة التطور، وهي تعلم أن اقتطاف ثمرة سياستها في حاجة بدوره إلى حنكة معينة.

والواقع أن المتتبع للدبلوماسية الصهيونية ـ وليس السياسة الإسرائيلية ـ يلحظ أنها أعدت لدبلوماسية الدولة اليهودية بهذا الخصوص بكثير من بُعد النظر عندما عملت على تحويل النظام القومي العربي إلى نظم داخلية متعددة ولو في النطاق الاقتصادي.

إن مفهوم إسرائيل للسلم هو أنه وسيلة لأن تستوعب في النظام الإقليمي بحيث يصير الوجود الصهيوني بجانب الوجود العربي في كل ما له صلة بإدارة المرافق الإقليمية حقيقة قائمة وثابتة ودائمة، بحيث يتعود العالم العربي على التعامل المباشر مع العنصر الإسرائيلي. هذه هي المقدمة الأولى لإمكانية التغلغل في الاقتصاد الإقليمي وتوجيه خيرات المنطقة نحو المصالح الصهيونية. ولعل هذه الناحية هي التي تفسر كيف تسير السياسة الإسرائيلية بهذا الخصوص بتدرج متتابع من مبدأ خطوتين إلى الأمام وخطوةإلى الخلف. والواقع أن إسرائيل تعلم بأن مستقبلها من حيث التقدم الاقتصادي يتوقف على فتح أبواب التعامل المباشر مع المنطقة العربية. فهي لذلك تسعى لخلق سوق مشتركة إقليمية تقوم على مبدأ التعاون المباشر بين التكنولوجيا الإسرائيلية والعمالة المصرية ورأس المال العربي.

هذه السياسة ستحقق ثلاثة أهداف في آن واحد:

1 ـ هي مقدمة لاستيعاب النظام الإقليمي العربي، ومن ثم فبدلاً من أن يبتلع الجسد العربي الكيان الصهيوني تستوعب إسرائيل الجسد العربي من خلال التحكم في شرايينه الحيوية.

2 ـ كذلك فإن هذه السياسة منطلق أساسي للسيطرة.فعقب السيطرة الوظيفية من خلال التحكم في الشرايين والمفاصل تأتي السيطرة الاقتصادية بفضل الاستجابة لمتطلباتالحياة اليومية من حيث الاستهلاك وتقديم الخدمات، وجميع هذه المداخل لابد أن تفرض التبعية السياسية.

3 ـ هذه السياسة لن تحدث نتائجها في التعامل مع الجسد العربي فقط بل كذلك مع كل من يريد التعامل مع ذلك الجسد.ومن ثم تصير هذه السياسة، وقد أضحت قوة ضاغطة،لا في مواجهة أوربا الغربية فقط بل كذلك في مواجهة الولايات المتحدة، وهو ما سوف يخلق وضعاً يفرض على أية قوة كبرى تريد أن تتعامل مع المنطقة أن تتعامل أولاً وأساساً من خلال الإرادة الإسرائيلية.

الإستراتيجية الصهيونية/الإسرائيلية

Zionist-Israeli Strategy

تنبع الإستراتيجية الإسرائيلية من الصيغة الصهيونية الشاملة (شعب عضوي منبوذ لا نفع له، يتم نقله خارج أوربا ليتحوَّل إلى عنصر نافع يقوم على خدمة المصالح الغربية في إطار الدولة الوظيفية، نظير أن تقوم الدول الغربية بدعمه وضمان بقائه واستمراره). ويتطلب تطبيق هذه الصيغة عمليتي نَقْل سكاني: نَقْل بعض أعضاء الجماعات اليهودية من المنفى إلى فلسطين، ونَقْل العرب من فلسطين إلى أي منفى.

وتترجم هذه الصيغة نفسها على مستوى الإستراتيجية إلى رؤية للذات (الوافد المستوطن) ورؤية للآخر (السكان الأصليين) وطبيعة العلاقة بينهما وكيفية حسم الصراع. فعلى مستوى الذات تنبع الرؤية الإستراتيجية الصهيونية/الإسرائيلية من الإيمان بأن اليهود شعب واحد، وأن المستوطنين الصهاينة هم طليعة هذا الشعب، وأن مركزه هو الدولة الصهيونية في فلسطين المحتلة.

هذه الدولة ستُنصِّب نفسها الحامية والراعية للشعب اليهودي بأسره أينما كان، وهي ملجأ لهذا الشعب حينما يضيق عليه الخناق. ولكن الشعب اليهودي في المنفى هو مجرد هامش وجزء، فالكل والمركز هو المستوطن الصهيوني والمستوطنون الصهاينة فهم الذين سيقومون بتخليص "الأرض القومية" من السكان الأصليين، ولابد أن تتم تنشئة أبنائهم تنشـئة قومـية صارمة تسـتند إلى وعي عمـيق بالمشروع الصهيوني، وبذلك تتبلور شخصيتهم القومية، ويتخلَّصون من أدران المنفى ومن طفيلية الشخصية اليهودية الجيتوية، ويحققون قدراً كبيراً من التماسك الحضاري والعرْقي، ويحافظون على سيادتهم كشعب يهودي مستقل.

ورغم أن أعضاء هذا الشعب اليهودي منتشرون في أنحاء الأرض وسيأتي كل واحد منهم حاملاً هوية حضارية مختلفة، فإنهم سيتم صهرهم في بوتقة واحدة ليصبحوا شعباً واحداً بحق (وهذا الجانب من الإستراتيجية الصهيونية هو مجرد ادعاءات أيديولوجية براقة تُستخدَم في الدعاية. وقد تم إسقاطها تماماً من الخطاب الصهيوني في السبعينيات ولم يَعُد لها من صدى إلا في كتابات بعض المتزمتين الهامشيين).

وبما أن المستوطنين الصهاينة سيعيشون في بيئة معادية لهم، فإنهم كجماعة بشرية لابد أن يحققوا تفوقاً اقتصادياً (صناعياً وزراعياً) وأن يؤسسوا قاعدة تكنولوجية عصريةلتحقيق الاكتفاء الذاتي. ولابد أن يتمتع المستوطنون بمستوى معيشي مرتفع لضمان بقائهم حسب الشروط الصهيونية ولضمان بقاء الدولة الصهيونية (داخل حدودها التي لم يتم تحديدها) وحتى يمكن إغراء المزيد من المهاجرين للقدوم إليها. ويتطلب المشروع الصهيوني توثيق العلاقة مع يهود العالم باعتبارهم مصدراً أساسياً من مصادر الدعم السياسي والمالي والمادة البشرية الاستيطانية.

هذه هي رؤية الذات، أما بالنسبة لرؤية الآخر، فالعالم بالنسبة للصهاينة يشكِّل دائرتين حضاريتين أساسيتين متعارضتين وإن تداخلتا جغرافياً. أما الدائرة الأولى فهي العالم الغربي الذي يضم غالبية يهود العالم. ورغم أن هذا العالم الغربي هو الذي اضطهد اليهود عبر تاريخهم، ونكَّل بهم وبآبائهم، فإن الصهاينة يتناسون هذا تماماً (إلا في مجال زيادة ما يُسمَّى «الوعي اليهودي» ومحاولة تعميق الإحساس بالذنب في الوجدان الغربي حتى يتسنى توظيفه في خدمة الصهاينة) ويحصرون عـداءهم للغرب في ألمانيا النازية.

ويؤكد الصهاينة أن الدولة الصهيونية تنتمي للحضارة الغربية بكل قيمها وتوجهاتها ومصالحها. والتشكيل الإمبريالي الغربي هو الذي قام بتبني المشروع الصهيوني من البداية، فساعد على نقل الكتلة البشرية وقام بتغطية المُستوطَن الصهيوني، من الناحية العسكرية والاقتصادية، أثناء مرحلة التأسيس، أي قبل قيام الدولة. ثم استمر في دعمه مالياً واقتصادياً وعسكرياً بعد قيامها. وهو لا يزال يضمن، من خلال هذا الدعم المستمر، بقاء الدولة الصهيونية واستمرارها ورخاءها. ولذا تحرص هذه الدولة على الإبقاء على علاقات وثيقة مع كل المجتمعات الغربية ومع الولايات المتحدة على وجه الخصوص. والدولة الصهيونية ترى مصالحها الإستراتيجية باعتبارها متفقة تماماً مع المصالح الإستراتيجية الغربية (إن لم تكن جزءاً عضوياً منها) ومن ثم فهي قادرة على خدمة أهداف الغرب الإستراتيجية. ولذا تحدِّد إسرائيل أولوياتها الإستراتيجية في ضوء الأولويات الإستراتيجية الغربية. وهي دائماً مستعدة لتغيير وتبديل أولوياتها في ضوء ما قد يطرأ من تغيُّرات وتعديلات على الأولويات الغربية. فالدولة الوظيفية الصهيونية، إن لم تفعل ذلك، وجدت نفسها بلا وظيفة تؤديها ولا دور تلعبه. وعلى سبيل المثال فإن العدو الأكبر للحضارة الغربية في الستينيات كان القومية العربية، فهي التي كانت تحمل لواء المقاومة ضد الإمبريالية الغربية، ومع انحسار التيار القومي العربي والتيار الماركسي نسبياً (وسقوط ثم اختفاء الكتلة الاشتراكية) وظهور الحركة الإسلامية، أصبح العدو الأول للغرب هو الإسلام والحركات الإسلامية. ولذا كان عدو الدولة الصهيونية الأول آنذاك هو القومية العربية. أما في الوقت الراهن فقد أصبحت الأصولية الإسلامية هي الخطر الجديد الزاحف، الممتد من منطقة الشرق الأوسط إلى الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى، باعتبار أن هذا هو الخطر الذي يتهدد الدول الغربية وروسيا. وأصبحت مواجهة الإرهاب تمثل الركيزة الأساسية في الإستراتيجية الصهيونية الإسرائيلية. وإسرائيل بذلك تخلق لنفسها دوراً جديداً تقوم من خلاله بأداء وظيفتها تجاه الغرب والولايات المتحدة وهو يتفق مع دورها في إطار النظام العالمي الجديد، إذ يمكنها أن تبني الجسور لتتواصل من خلالها مع بعض النخب العربية التي تم تغريبها. وبذلك تعوِّض الدولة الصهيونية ما فَقَدته من مكانة إستراتيجية متميِّزة عقب انتهاء الحرب الباردة.

وتحرص الدولة الصهيونية على أن تبين مقدرتها على البقاء والعمل على أداء وظيفتها القتالية والاقتصادية دون أن يتحمل الراعي الإمبريالي تكلفة عالية. وهذا يتطلب وجود مؤسسة عسكرية ضخمة معبأة بشرياً ومادياً تشرف على كل النشاطات في المجتمع.

ثم نأتي للرؤية الصهـيونية للآخر الذي يقع خارج العالم الغربي، أي "الشرق"، ويمكن تخيُّل هذا الشرق باعتباره عدة دوائر متداخلة أوسعها دول آسيا وأفريقيا، وتتفاوت هذه الدول في أهميتها. ويهتم الفكر الإستراتيجي الإسرائيلي بالدول الواقعة على سواحل البحرين الأحمر والمتوسط والدول التي توجد في أعالي النيل. وتوجد داخل هذه الدول دول "صديقة" أو دول يمكن شراؤها تدور في فلك الغرب وتمثل مجالاً حيوياً لإسرائيل يمكن أن يساعدها على التغلغل في آسيا وأفريقيا والالتفاف حول العالم العربي وكسر طوق الحصار الذي يُفرض على إسرائيل، بل يمكن من خلالها الضغط عليه. كما توجد دول معادية إما لأن مصالحها مرتبطة بمصالح الدول العربية أو بسبب توجهها الأيديولوجي.

ولكن أشد الدول عداءً وأكثرها خطراً داخل هذه الدائرة الأولى هي الدول الإسلامية مثل باكستان وإيران التي تشكل بمكانتها وتوجهاتها الإستراتيجية خطراً على الأمن الإسرائيلي. ويوجد داخل هذه الدائرة العريضة دائرة الدول العربية الواقفة وراء دول المواجهة والتي تساند دول المواجهة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. كما يمكنها أن تشكل أداة ضغط على الصعيد العالمي لصالح دول المواجهة. ثم تأتي أخيراً دول المواجهـة وهي مصر وسـوريا والأردن. وفي مركز الدائرة توجـد إسرائيل.

وتذهب الإستراتيجية الإسرائيلية إلى أن اللغة الوحيدة التي يفهمها العرب هي لغة القوة (وإسرائيل على كل هي نتاج المنظومة الداروينية الغربية، ووجودها ثمرة القوة والعنف) وأن صالح إسرائيل والعالم الغربي هو إبقاء العالم العربي في حالة تجزئة وفرقة (وهذا على كل، بُعْد أساسـي في الإسـتراتيجية الغربية منذ منتـصف القرن التاسـع عشر). ويمكن تحقـيق حالة التـجزئة هذه من خلال اتفاقيات السلام المختلفة، وخلق مـصالح اقتصادية متضـاربة ومتناقضـة بين الدول العربية، على أن تمسك إسرائيل بالخيوط الأساسية وأن تصبح النقطة التي تتفرع منها كل القنوات الاقتصادية، فتصب فيها التكنولوجيا الغربية ورأس المال الغربي وتقوم هي بتوزيعها بما يتفق مع مصلحة الغرب الإستراتيجية.

ويُقسَّم العالم العربي، من المنظور الإستراتيجي الصهيوني الإسرائيلي، إلى أربعة أقسام:

1 ـ دائرة الهلال الخصيب وتتناوب كل من سوريا والعراق قيادتها.

2 ـ دائرة وادي النيل وتمثل مصر الدولة الرائدة فيها.

3 ـ دائرة شـبه الجزيرة العربية وتمثل السـعودية الدولة القائدة فيها.

4 ـ دائرة المغرب العربي وعلى رأسها المغرب والجزائر.

وتتمثل الإستراتيجية الإسرائيلية للتعامل مع هذه الدوائر في العمل على منع التقائها أو تعاونها لما يشكله مثل هذا التعاون من خطورة على الأمن الإسرائيلي، نظراً للإمكانات الضخمة التي تملكها كل دائرة إذا ما تعاونت مع غيرها. ولذا تصر إسرائيل على ضرورة مواجهة كل دولة عربية على حدة سواء في الحرب أم في السلم. ومن هنا تصوُّر إسرائيل للعالم العربي باعتباره "المنطقة"، أي منطقة جغرافية لا يربطها رابط تاريخي تنقسم إلى دويلات صغيرة تتنازعها الانقسامات الطائفية بحيث تصبح هذه الدويلات الطائفية فاقدة لكل عناصر القوة وبشكل تقع فيه تحت السيطرة الإسرائيلية. والخطط الإسرائيلية المستقبلية بهذا الشأن.

1 ـ التعامل مع الدائرة الأولى (الهلال الخصيب):

أ) كانت الإستراتيجية الإسرائيلية في الماضي تهدف إلى احتلال الأردن وتجزئته ونقل السلطة فيه للفلسطينيين وتهجير عرب الضفة وغزة للسكن فيه للتخلص من الكثافة العربية في الأرض الفلسطينية. ولكن الإستراتيجية الآن هي تحييد الأردن وكسبه لصف إسرائيل والتلويح بالمكاسب الاقتصادية حتى يشارك الأردن في عملية حصارالفلسطينيين واستيعابهم داخل أي إطار سياسي اقتصادي، ليتحولوا من قوة ذاتية داخل التشكيل الحضاري العربي إلى مجموعة بشرية مشـتتة ذات توجُّهات اقتصادية ضيقةمباشـرة.

ب) كانت الإستراتيجية الإسرائيلية في الماضي ترى ضرورة تجزئة لبنان إلى خمس مقاطعات: درزية في الشوف، ومارونية في كسروان، وشيعية في الجنوب والبقاع، وسنية في طرابلس، ودولة سنية أخرى في بيروت. وستكون هذه التجزئة كسابقة للعالم العربي وبداية المسيرة في هذا الاتجاه.

جـ) كما كان التصور الإستراتيجي الإسرائيلي يذهب إلى ضرورة تقسيم سوريا والعراق في مرحلة لاحقة إلى مناطق عرْقية أو دينية خالصة، فتُقسَّم سوريا إلى دولة شيعية علوية على طول الساحل السوري، ودولة سنية في حلب، ودولة سنية معادية لها في دمشق، ودولة درزية في حوران والجولان. أمـا العراق فإنه يمثل ـ بسبب الثروة النفطية ـ مصدر تهديد لإسرائيل ولذا فيمـكن تمزيقه إلى أجـزاء تتمحـور حول المدن الكبرى، دولة شيعية في الجنوب حول البصرة، ودولة سنية حول بغداد، ودولة كردية حول الموصل. ولكن لاعتبارات إستراتيجية محلية وعالمية، ومع ظهور النظام العالمي الجديد، أصبحت الإستراتيجية الإسرائيلية لا تهدف إلى تقسيم هذه البلاد وإنما الاستفادة من بعض الثغرات الموجودة في بعض البلدان العربية مثل النزاعات الطائفية في لبنان أو مصر والنزعات الانفصالية في العراق والسودان.

2 ـ الدائرة الثانية (وادي النيل(

بالنسبة لمصر، تهدف الإستراتيجية الإسرائيلية إلى تحطيم فكرة أن مصر الزعيمة القوية للعالم العربي وإلى تشجيع الصراعات بين المسلمين والأقباط وإضعاف الدولة المركزية والسعي إلى قيام عدد من الدول الضعيفة ذات قوى محلية وبدون حكومة مركزية. وأما الدول المجاورة مثل السودان فمصيرها هو التقسيم، وعزل الجنوب، الذي يضم منابع النيل، ليشكل ذلك نقطة ضغط على مصر.

3 ـ الدائرة الثالثة (الجزيرة العربية(

أما فيما يتعلق بشبه الجزيرة العربية فهي من وجهة نظر إسرائيلية يسهل اختراقها وترويضها وإغواؤها بالحديث عن مظلة إسرائيل الأمنية (ضد الجيران الفقراء المتربصين) وعن المكاسب الاقتصادية التي يحققها من يتحالف مع إسرائيل وعن توثيق العلاقة مع الولايات المتحدة من خلال الدولة الصهيونية.

4 ـ الدائرة الرابعة (المغرب العربي(

أما فيما يتعلق بالمغرب العربي فهو من وجهة نظر إسرائيلية يمكن تحييده بسهولة عن طريق عزله عن بقية العالم العربي وعن طريق المكاسب الاقتصادية وربطه بالاتحاد الأوربي.

وإذا كانت إسرائيل في وسط الدائرة، فالفلسطينيون يوجدون في نفس دائرتها وفي صميمها، يتحدون وجودها. ولذا إذا كانت الإستراتيجية الصهيونية تهدف إلى كسب بعض دول آسيا وأفريقيا إلى صفها وضرب البعض الآخر. وإذا كانت تهدف إلى كسر شوكة العرب وتفريقهم واستيعابهم داخل تنظيمات اقتصادية وسياسية مختلفة، فحينما يكون الأمر متصـلاً بالفلسـطينيين فإنه يتجـاوز كل هذا، إذ أن الإستراتيجية الصهيونية تؤكد أن الوجود الفلسطيني في إرتس يسرائيل أمر عرضي، ولذا فمصير الفلسطينيين الوحيد هو التغييب التام، إما عن طريق الطرد أو الإبادة أو التفكيك والتذويب، وإن ظهروا إلى الوجود فلابد من تهميشهم وإخضاعهم واستعبادهم من خلال حكم ذاتي محدود وعقد صفقة تاريخية شاملة تزيل القضية الفلسطينية من جدول الإعمال السياسي الدولي في عصرنا وتحول الصراع القوي الفلسطيني إلى حرب أهلية فلسطينية لا علاقة لأحد بها، وبذا تصبح فلسطين أرضاً بلا شعب.

الهاجــــــس الأمـــــــني وعقليـــة الحصــــار

Israeli Feeling of Insecurity and Siege Mentality

«الهاجس الأمني» و«عقلية الحصار» عبارتان تردان في الخطاب السياسي العربي لوصف إحدى جوانب الوجدان الإسرائيلي، وهو الانشغال المرضي بقضية الأمن. وقد وُصف هذا الانشغال بأنه «مرضي» لأنه لا يتناسب بأية حال مع عناصر التهديد الموضوعية (فالشعب الفلسطيني شعب موضوع تحت حكم عسكري قاس، وموازين القوى العسكرية بين الدولة الصهيونية والدول العربية في صالح إسرائيل. كما أن أكبر قوة عسكرية في العالم، الولايات المتحدة، تقف بكل صرامة وراء الدولة الصهيونية).

وفي محاولة تفسير هذا الوضع، يذهب بعض الدارسين إلى أن تجربة الإبادة النازية قد تركت أثراً عميقاً في الوجدان اليهودي والإسرائيلي بحيث تَجذَّر الخوف من الإبادة في الوجدان وأصبح شيئاً من قبيل العقدة التاريخية أو العقد النفسية الجماعية المتجذرة في العقل الجمعي اليهودي رغم زوال العناصر الموضوعية. وقد يكون لهذا التفسير بعض المصداقية، وبخاصة أن الصهاينة والإعلام الغربي قد حوَّلوا الإبادة النازية ليهود الغرب إلى ما يشبه الأيقونة التي لا علاقة لها بالزمان أو المكان وجعلوها مركز ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي». ويرى البعض أن عقلية الحصار هي بعض بقايا ورواسب الوجود في الجيتو اليهودي في أوربا، وأن يهود أوربا (وبخاصة شرق أوربا) عاشوا عبر تاريخهم لا سيادة لهم ولا يشاركون في أية سلطة، معرضين دائماً لهجوم الأغيار عليهم.

وبسبب هذا الهاجس الأمني وعقلية الحصار تؤكد إسرائيل دائماً أنها قلعة مسلحة لا يمكن اختراقها، قوة لا تقهر، قادرة على الدفاع عن نفسها وعلى البطش بأعدائها، ولكنها مع هذا مهددة طيلة الوقت بالفناء (ومن هنا أسطورة ماسادا وشمشون).

ونحن نرى أن كل هذه الأسباب قد تفسر حدة الهاجس الأمني وعقلية الحصار ولكنها لا تفسر سبب وجوده وتجذره. ونحن نذهب إلى أن الهاجس الأمني قد يكون حالة مرضية ولكنه في نهاية الأمر ثمرة إدراك عميق وواقعي (واع أو غير واع) من جانب المستوطنين الصهاينة لواقعهم.

لقد أدرك هؤلاء المستوطنون أن الأرض التي يسيرون عليها ويدَّعون ملكيتها منذ آلاف السنين هي في واقع الأمر ليست أرضهم وليست أرضاً بلا شعب كما كان الزعم، وأن أهلها لم يستسلموا كما كان متوقعاً منهم، ولم تتم إبادتهم كما كان المفروض أن يحدث. بل إنهم يقاومون وينتفضون ويتزايدون في العدد والكفاءات ولم يكفوا عن المطالبة بشكل صريح بالضفة والقطاع، وبشكل خفي بكل فلسطين وبحق العودة لها. وقرارات هيئة الأمم المتحدة الخاصة بحق العودة لا تزال سارية المفعول. ولم تُقبل إسرائيل عضواً في المنظمة الدولية إلا بعد تعهدها بتنفيذ هذه القرارات. ويساندهم في هذا كل الشعب العربي. ومسألة العجز العسكري العربي والتفوق العسكري الإسرائيلي ليسا مسألة أزلية، وقد أثبتت حرب 1973 ثم المقاومة في لبنان، وبعدها الانتفاضة أن العرب قادرون على أن يعيدوا تنظيم أنفسهم ويهاجموا المستعمر ويلحقوا به خسائر فادحة.

ثمة إحساس عميق بأن العربي الغائب لم يغب، وهو إحساس في جوهره صادق، فالكيان الصهيوني مُحاصَر بالفعل ومهدد دائماً، والعرب في واقع الأمر لا يمكن "الثقة بهم"، لأن الجماهير العربية لن تقبل حالة الظلم باعتبارها حالة نهائية رغم توقيع معاهدات السلام الكثيرة! وأقصى ما يطمح إليه المستوطنون الصهاينة هدنة مؤقتة تنتهي عادةً بمواجهات عسكرية. فالصراع مع الكيان الصهيوني صراع شامل على الوجود، لأن وجود الشعب الفلسطيني لا يهدد حدود الدولة الصهيونية أو سيطرتها على أجزاء من الأرض الفلسطينية، وإنما يهدد وجودها كله. كل هذا يعمق إحساس المستوطنين الصهاينة بأن دولتهم كيان مشتول، فُرض فرضاً على المنطقة بقوة السلاح، وهم أول من يعرف أن ما أُسِّس بالسيف يمكن أن يسقط به. ومما يعمق مخاوفهم إحجام يهود العالم عن الهجرة والتكلفة المتزايدة للتكنولوجيا العسكرية. كل هذا يولِّد الهاجس الأمني المرضي وعقلية الحصار المرضية وهي حالة لا علاج لها داخل الإطار الصهيوني.

والهاجس الأمني وعقلية الحصار يحددان كثيراً من جوانب السلوك الإسرائيلي، فبسبب هذا الهاجس لابد من زيادة القوة العسكرية والدعم الاقتصادي والتفوق التكنولوجي والمزيد من السيطرة على الأراضي. وبسبب حجة الأمن يطالب الإسرائيليون بالاحتفاظ بالضفة الغربية وقطاع غزة وإنكار حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. وباسم هذا الهاجس الأمني يحق للإسرائيليين اللجوء للإغلاق الأمني للقرى الفلسطينية وحصارها وتجويعها. وفي أية مفاوضات مع العرب يطرح الإسرائيليون دوماً بند الأمن والأخطار التي تتهددهم وضرورة وجود محطات إنذار مبكر ومناطق فصل. وعندما تعقد أية اتفاقية مع العرب يصر الإسرائيليون على ضرورة امتحانهم للتأكد من نيتهم خوفاً من الخديعة دون أن يكون من حق الفلسطيني أو العربي أن يفعل المثل. في هذا الإطار يتم التمييز بين المستوطنات السياسية التي يمكن التخلي عنهاوالمستوطنات الأمنية التي يجب الاحتفاظ بها (وبالتالي بقسم كبير من أراضي الضفة والقطاع). وتمت عملية غزو لبنان باسم «السلام من أجل الجليل». وتنعقد المفاوضات مع سوريا بسبب أمن إسرائيل. بل إن الدولة الصهيونية بسبب الهاجس الأمني تسمح وبشكل قانوني بدرجة من الإجبار والضغط البدنيين للحصول على معلومات من الفلسطينيين (أما ممارسة الإجبار والضغط البدنيين بشكل غير قانوني فهذا أمر مفروغ منه).

والهاجس الأمني يقف أيضاً عقبة كأداء في المجال الاقتصادي إذ يضع الإسرائيليون الاعتبارات الأمنية قبل اعتبارات الجدوى الاقتصادية ومن ثم فهو يعوق عمليات الخصخصة التي تتطلب جواً منفتحاً يسمح بتدفُّق رؤوس الأموال والخبرات والعمالة والسلع. بل إنه يمكننا القول بأن الهاجس الأمني يشكل عائقاً ضخماً في مجال التطبيع، إذ أن الإسرائيليين حينما تتدفق عليهم العمالة العربية والبضائع تبدأ مخاوفهم الأمنية في التهيج فيخضعون كل شيء للاعتبارات الأمنية بما يحول دون تدفق العمالة والبضائع.

البُـعْـد الصهيـــوني لنظــــرية الأمــــن القومـــي في إســرائيل

Zionist Dimension of the Israeli Concept of National Security

تُعَد نظرية الأمن القومي في إسرائيل ذات مركزية خاصة بالنسبة للكيان الصهيوني. فالمشروع الصهيوني مشروع استيطاني مبني على نقل كتلة بشرية لتحل محل الفلسطينيين وتغيبهم (فيما نسميه بمقولة «العربي الغائب») وتلغي تاريخهم وتستولي على أرضهم، وهو ما لن يتحقق إلا من خلال العنف والقوة العسكرية وخلق الحقائق الاقتصادية والسياسية والاستيطانية، وهذا هو الإطار الحقيقي الذي تدور داخله نظرية الأمن الإسرائيلي. وما عقلية الحصار سوى نتاج لهذا الوضع البنيوي، أي أن نظرية الأمن الإسرائيلي والهاجس الأمني يفترض أن الصراع حالة دائمة.

هذا الإدراك يعبِّر عن نفسه في كثير من المفاهيم التي تشكل ركائز نظرية الأمن في إسرائيل التي تدور جميعها حول فكرة إلغاء الزمان والارتباط بالمكان. فهناك فكرةالأمن السرمدي، أي أن أمن إسرائيل مهدَّد دائماً، وأن حالة الحرب مع العرب حالة شبه أزلية، وأن البقاء هو الهدف الأساسي للإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية. وقد عبَّرحاييم أرونسون عن هذه الرؤية في إحدى دراساته بالإشارة إلى ما سماه «حرب المائة عام» (1882 ـ 1982)، أي الحرب الدائمة بين العرب والصهاينة. وهو يذهب إلى أن هذه الحرب لا تزال مستمرة، ويُفسِّر هذا الاستمرار على أساس أن إسرائيل بلد غربي حديث يعيش في وسط عربي لا يزال يخوض عملية التحديث ومن ثم فهو معرَّض للقلاقل ولا يمكن عقد سلام معه. ويتوقع أرونسون أن تستمر الحرب لفترة أخرى إلى حين الانتهاء من تحديث العالم العربي. وقد تحدَّث موشيه ديان عن إين بريرا "لا خيار"، فعلى المستوطنين أن يستمروا في الصراع إلى ما لا نهاية (وأسـطورة ماسـاداه الشمشـونية تعـبير عن هذه الرؤية المظلمة).

وقد استخدم إسحق رابين تعبير "الحرب الراقدة" لوصف العلاقة القائمة بين إسرائيل والمحيط العربي، كما استخدم الكثير من القيادات الإسرائيلية تعبيرات مشابهة مثل تعبير "الحرب منخفضة الحدة"، حيث تشير كلها إلى غياب الحدود الواضحة بين حالة الحرب وحالة السلم في علاقة الدولة الصهيونية بمحيطها.

ويرى كثيرون من أعضاء المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أن التوجه نحو السلام مجرد مرحلة انتقالية يلتقط العرب فيها أنفاسهم ليعاودوا القتال (وهو ما أثبته تاريخ الصراع عبر الأعوام المائة السابقة). ومن ثم يصبح من الضروري محاصرة العنصر البشري الفلسطيني وقمعه بضراوة (كما حدث أثناء الانتفاضة، وكما يتبدَّى في المفهوم الإسرائيلي للحكم الذاتي). أما بالنسبة للعرب فلابد من ضربهم باستمرار لبث روح اليأس فيهم وإقناعهم بأن الاستمرار في تبنِّي الصراع العسكري كوسيلة لاستعادة الحقوق غير مجد.

وإذا كان الزمان تكراراً رتيباً لا يأتي بالسلام أو بالتحولات الجذرية، لا يبقى إذن سوى المكان، الثابت الذي لا يعرف الزمان. وبالفعل نجد أن الأرض تشكل حجر الزاوية في الأيديولوجية الصهيونية وفي نظرية الأمن الإسرائيلية، فالأرض الخالية من العرب (بالألمانية: أراب راين Arabrein)، أي من الزمان العربي، هي المجال الحيوي الذي يمكن توطين الشعب اليهودي فيه وتحويله إلى عنصر استيطاني يقوم على خدمة المصالح الغربية في إطار الدولة الوظيفية. وبدون الأرض سيظل الشعب اليهودي شعباً شريداً طريداً، بلا سيادة سياسية أو اقتصادية. والأرض التي يستولي عليها الصهاينة لابد أن تُعقَّم من زمانها التاريخي العربي، لكي تصبح أرضاً بلا زمان، أي أرضاً بلا شعب.

لكل هذا نجد أن نظرية الأمن الإسرائيلية تؤكد البعد المكاني (الجغرافي ـ اللاتاريخي ـ اللازمني) بشكل مبالغ فيه وتهمل البعد التاريخي (الزماني ـ الإنساني) وإن قبلته فإنها تفعل ذلك صاغرة وتحاول الالتفاف حوله تماماً مثلما تلتف الطرق الالتفافية الصهيونية حول القرى العربية. ولذا فنظرية الأمن الإسرائيلي تدور داخل فكرة الحدود الجغرافية الآمنة (ذات الطابع الجيتوي) التي تستند إلى معطيات جغرافية مثل الحدود الطبيعية (نهر الأردن ـ هضبة الجولان ـ قناة السويس). وقد اقترح حاييم أرونسون ما سماه «الحائط النووي»، أي أن تقبع إسرائيل داخل حزام مسلح تحميه الأسلحة النووية. وهي فكرة بسيطة مجنونة، تتجاهل العنصر البشري الملتحم بالجسد الصهيوني نفسه. ولا تختلف فكرة المستوطنات/ القلاع المحصنة كثيراً عن الحائط النووي، وهي سلسلة من المستوطنات التي تحيط بحدود إسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان والنقب، وهي مُستوطَنات أمنية مختلفة عن تلك التي أقيمت لأسباب دينية أو اقتصادية (وهذه المستوطنات تذكِّر المرء تماماً بالشتتلات التي أقامها النبلاء البولنديون [شلاختا] للملتزمين [أرنداتور] اليهود كي يحتموا بها ضد هجمات الفلاحين الأوكرانيين). وتحافظ هذه المستوطنات على العمق الإستراتيجي للمراكز البشرية والاقتصادية وتحول دون تعرُّض إسرائيل للهجمات العربية، كما أنها تحقق النصر في حالة الهجوم بأقل قدر ممكن من الخسائر في الجانب الإسرائيلي، وتوفر الفرصة للقوات الإسرائيلية للقيام بأعمالها الانتقامية والتوسعية في الدول العربية المجاورة.

وتأكيد عنصر الأرض يظهر في انشغال التفكير العسكري الإسرائيلي بمحدودية العمق الإستراتيجي للدولة الصهيونية، فإسرائيل في التصور الصهيوني كلها منطقة حدودية، ومن ثم لا يمكن السماح مطلقاً بأن تدور الحرب في أرض إسرائيل. ولذا لا يوجد مكان لعقيدة دفاعية في الفكر العسكري الإسرائيلي، نظراً لأن أيَّ فشل في العقيدة الدفاعية سيؤدي حتماً إلى اختراق إسرائيل نفسها. ومما عمق هذا الإحساس إدراك القيادة الإسرائيلية ضعف القاعدة السكانية الإسرائيلية بالنسبة للقوة البشرية العربية. ومن هنا ضرورة تفادي الحرب الفجائية وضرورة تحصين الحدود بعدد من المُستوطَنات (كما أسلفنا) وضرورة السبق لتوجيه الضربة الأولى من خلال حرب خاطفة لتجنب الحرب الطويلة والحرب الاستنزافية (لأن إسرائيل لا تتحمل التعبئة العسكرية الشاملة لفترة طويلة)، وضرورة إلحاق خسارة فادحة سريعة بالطرف العربي المهاجم لئلا تُجبَر إسرائيل على تقديم تنازلات سياسية أو إقليمية.

وإزاء مشكلة غياب العمق الإستراتيجي للكيان الصهيوني يُحدِّد الفكر العسكري الإسرائيلي ما يُسمَّى «ذرائع الحرب» على نحو فريد. فالدولة الصهيونية تعتبر كل دولة عربية مسئولة عن أي نشاط فدائي ينطلق من أراضيها، وازدياد هذا النشاط يُعَد ذريعة من ذرائع الحرب. ويضاف إلى هذا الذرائع التالية:

1 ـ قيام حشود عسكرية عربية على أي جانب من حدود إسرائيل.

2 ـ تغيير ميزان القوى العسكرية على حدود إسرائيل الشرقية نتيجة دخول قوات دولة أخرى إلى الأردن، أو قيام وحدة سورية الطبيعية أو إنشاء أو قيام دولة فلسطينيةمعادية على حدود إسرائيل.

3 ـ تهديد الأمن الإسرائيلي بسبب حصول الأطراف العربية على أفضلية نوعية في سباق التسلح (مثل التسلح النووي).

4 ـ إغلاق المضائق أو الممرات المائية، أو أية خطوط بحرية أو جوية.

5 ـ تحويل مصادر المياه في لبنان أو في الجولان أو الأردن بطريقة ترى إسرائيل أنها تهدد الأمن الإسرائيلي.

لقد حددت الحركة الصهيونية فكرة الأمن بشكل جغرافي وأسقطت العنصر التاريخي، وتصوَّرت أنه عن طريق الاستيلاء على قطعة ما من الأرض أو على هذا الجزء من العالم العربي أو ذاك وعن طريق التحالف مع الولايات المتحدة والقوة العسكرية فإنها تحل مشكلة الأمن وتصل إلى الحدود الآمنة. ولكن الانتصارات الإسرائيلية التي كانت ترمي لتحقيق الأمن كانت تؤدي إلى نتيجة عكسية على طول الخط، حتى وصلت التناقضات إلى قمتها مع انتصار 1967، وكان لابد أن تُحسَم هذه التناقضات، وهو الأمر الذي أنجزت القوات المصرية والسورية يوم 6 أكتوبر 1973 جزءاً منه. ثم اندلعت الانتفاضة لتُبيِّن العجز الصهيوني.

ومع هذا تجدر الإشارة إلى أنه ثمة اختلافات داخل المعسكر الصهيوني في مدى هيمنة مقولة الأرض. ويمكن القول بأن صهيونية الأراضي (الليكودية) تعبير عن هذا التمركز الشرس حول الأرض وإهمال الزمان والتاريخ. أما الصهيونية الديموجرافية أو السكانية (العمالية) فهي تعبير عن إدراك الوجود العربي والزمان العربي وربما استعداد للتعامل معه، وإن كان التعامل يظل في إطار المطلقات الصهيونية، وهي أن أرض فلسطين، أي إرتس يسرائيل في المصطلح الصهيوني، هي ملك خالص للشعب اليهودي وحده (كما تنص على ذلك لوائح الوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي). ولكن إن اختلف الصهاينة بشأن بعض التفاصيل فثمة إجماع صهيوني راسخ بأن أمن إسرائيل يتوقف على الدعم الغربي لها، وبخاصة الدعم الأمريكي، ولذا لا يوجد أي اختلاف بشأن هذه النقطة.

والحقيقة التي فاتت الزعامات الصهيونية أن أمن إسرائيل يمثل مشكلة كيانية لأن إسرائيل كيان مزروع بلا جذور، ممول من الخارج من قبل يهود الغرب والدولالإمبريالية الغربية، لا يتفاعل مع الواقع التاريخي العربي المحيط به. ولكي تُدافع إسرائيل عن أمنـها، أي كيانها، يضطر الكيان الاستيطاني الشاذ إلى أن يعسكر نفسهعسكرة تامة ليتحول إلى المجتمع/القلعة الذي تجري العسكرية في عروقه والذي لا توجد فيه أية فواصل بين الشعب والجيش. وما تنساه الزعامات الصهيونية أنه بغض النظر عن مقدار الأمن الذي سيصل إليه هذا المجتمع وبغض النظر عن حجم انتصاراته فإن عليه أن يخوض الحرب تلـو الحرب ليدافـع عن أمنه "المهدد" وذلك بسـبب الحركة الطاردة في المنطقة. لقد بدأ الاستيطان الصهيوني مستنداً إلى أسلوب المستوطنات ذات السور والبرج وعاش المستوطنون داخل هذا الأمن المؤقت يحلمون بالأمن النهائي. وقد صعَّدت المؤسسة الصهيونية آمالهم بأن "السلام سيحل عن قريب" وخاض المستوطنون، ومن بعدهم الدولة الصهيونية، عدة حروب ليصلوا إلى الأمن النهائي والحدود الآمنة إلى أن وصل يوم 6 أكتوبر 1973 وكانوا لا يزالون واقفين وراء قناة السويس خلف سور وبرج كانا يعرفان باسم «خط بارليف» الذي كان يحيط بالحدود الآمنة المفترضة. ثم تحولت إسرائيل بأسرها إلى أسوار وأبراج وطرق التفافية يحيط بها حزام أمني في لبنان وسلسلة من المستوطنات في الجولان، ومعابر مسلحة مع السلطة الفلسطينية.

وعبور القوات المصرية والسورية في أكتوبر وانتفاضة الفلسطينيين التي استمرت بشكل حاد حوالي ستة أعوام (ولا تزال مستمرة في صور أخرى في المجتمعات وبعض النقاط الساخنة) واستمرار المقاومة اللبنانية بدرجات متفاوتة من الحدة أثبت أن نظرية الأمن الإسرائيلي، كما حددتها المؤسسة العسكرية، لا أساس لها ولا سند، فسقطت أجزاء كبيرة من العقيدة الصهيونية وانكشف الغطاء عنها.

إن التعريف الصهيوني للأمن شجرة عقيم، فالحدود الجغرافية الآمنة لا يمكنها أن تهزم التاريخ، والأمن لا يتحقَّق داخل المكان وحسب، عن طريق الآلات والردع التكنـولوجي، وإنما يتحقَّق داخل الزمان، فالأمن الدائم والنهائي والحقيقي علاقة بين مجموعات بشرية تعيش داخل الزمان وليس أسطورة لا تاريخية تُفرَض عن طريق الردع التكنولوجي. والدولة الصهيونية غير قادرة على تحقيق الأمن لشعبها أو للآخرين. ومع هذا نجحت في إقناع المؤسسة الحاكمة الجماهير الإسرائيلية أنها لا يمكن أن تتعايش إلا داخل الكيان الصهيوني الشاذ، وعلينا أن نثبت أن العكس هو الصحيح، فصهيونية هذا الكيان هي السبب في انعدام أمنه وهي السبب في الزج بالجماهير الإسرائيلية في حروب متتالية، فلا أمن إلا من خلال إطار ينتظم كل سكان المنطقة ولا يستبعد الإسرائيليين أو الفلسطينيين. أما الأمن الذي يتجاهل الواقع فهو أمن مسلح مؤقت، هو سلام مبني على الحرب يهدف إلى فرض الشروط الصهيونية.

إن الصهيونية تَصدُر عن رؤية تفترض انفصال اليهودي عن الأغيار ووحدته مع كل يهود العالم، وتحاول الدولة الصهيونية أن تترجم هذا الافتراض إلى حقيقة. فإسرائيل تحاول أن تظل بمعزل عن حركة التاريخ في منطقة الشرق العربي وتتحرك في إطار فكرة وحدة «التاريخ اليهودي»، ولذلك فهي تمنع الفلسطينيين من العودة إلى ديارهم ولكنها في الوقت نفسه تقوم بالحملات المسعورة لتهجير يهود الاتحاد السوفيتي (سابقاً)، ثم تبحث عن "الأمن" بعد هذا. وعلى العرب أن يثبتوا للإسرائيليين أن السير عكس الاتجاه الصهيوني هو المخرج الوحيد، أي دولة تعبِّر عن حركة التاريخ في المنطقة وتنتظم كل سكان فلسطين بغض النظر عن انتمائهم الديني أو العرْقي، دولة منفصلة عن ديناميات «التاريخ اليهودي» الوهمية متحرِّرة من التصوُّرات الخاصة بـ «وحدة الشعب اليهودي» في كل زمان ومكان.

وقد شبَّه أحد الكتَّاب الإسرائيليين نظرية الأمن بأنها عبادة وثنية للعجل الذهبي (الشيء ـ المكان) الذي رقص حوله اليسرائيليون والعبرانيون مهملين عبادة الله الحق، المتجاوز للطبيعة والمادة والمكان.

تطـــــوُّر مفهـــــوم الأمـــــن القومــــي الإســـرائيلي

Development of the Israeli Concept of National Security

ينطلق الأمن القومي الإسرائيلي من مقولة في غاية البساطة والسذاجة وهي أن فلسطين أو إرتس يسرائيل هي أرض بلا شعب، ومن ثم إن وجد مثل هذا الشعب فلابد أن يغيب، أي أن مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي ينطلق من إنكار الزمان العربي والوجود العربي، والفلسطيني على وجه التحديد. وهذا يعني ضرورة فرض الوجود الصهيوني والشروط الصهيونية بكل الوسائل المتاحة،أي أن ردع العرب وإضعافهم هوهدف أساسي للأمن القومي الإسرائيلي، وأن على الجيش الإسرائيلي أن يحتفظ بقدرته العسكرية، وأن على الدولة الصهيونية أن تحتفظ بعلاقاتها المتينة بالعالم الغربي الذي يدعمها ويمولها ويضمن تفوقها العسكري الدائم.

ومع هذا طرأ على مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي بعض التعديلات نتيجة الحروب العربية ـ الإسرائيلية، والمتغيرات والمعطيات الجغرافية والسـياسـية الناجمة عنهـا، وما تغيَّر عبر هذه السنوات فقط أدوات تحقيق هذا الأمن ولكن ليس بمعنى التغيُّر الكامل أو الإحلال. وقد تطور مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي عبر عدة مراحل:

* قام مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي في مرحلته الأولى على مفهوم "الضربة المضادة الاستباقية"، الذي كان يرتبط بانعدام العمق الإستراتيجي لإسرائيل. وينطلق هذا المفهوم من مقولة مفادها أن من الحيوي عدم السماح مطلقاً بأن تدور الحرب في أرض إسرائيل، بل يجب نَقْلها وبسرعة إلى أراضي العدو، وطوَّرت مفهوماً للردع ثم استبدلته بمفهوم لذرائع الحرب الاستباقية يقوم على شن حرب استباقية إذا حاول العدو (العربي) التصرف في أرضه على نحو يقلق إسرائيل مثل المساس بحرية العبور أو حشد قوات على الحدود الإسرائيلية أو حرمانها من مصادر المياه. ولذا كانت عملية تأميم قناة السويس تستدعي عملاً عسكرياً تمثَّل في عملية قادش أو ما نسميه «العدوان الثلاثي».

* تطـوَّر مفـهوم الأمن القـومي الإسرائيلي لتظهر نظرية "الحدود الآمنة". وهي نظرية وُضعت أُسسها قبل 1967 لكنها تبلورت بعد حرب 1967، وقد شرحها آبا إيبان وزير الخارجية آنذاك بأنها نظرية تقـوم على حدود يمكن الدفــاع عنهــا دون اللجــوء إلى حرب وقائية. ويُلاحَـظ في هذه النظريــة غلبة المكان على الزمان بشكل تام، إذ يُنظَر للشـعب العــربي باعــتبار أنه يجـب القضـاء علـيه تماماً أو تهميشه، فنظرية الحدود الآمنة إعلان عن نهاية التاريخ (العربي).

* أكدت حرب 1973 فشل معظم نظريات الأمن الإسرائيلي المكانية وهو ما استدعى تكوين نظرية جديدة هي نظرية «ذريعة الحرب»، وتذهب هذه النظرية إلى أن إسرائيل لن تتمكن بأي شكل من الأشكال من الامتناع عن تبنِّي إستراتيجية الحرب الوقائية وتوجيه الضربات المسبقة في حال تَعرُّضها لتهديد عربي.

وأضافت إسرائيل إلى هذا التصوُّر مفهوم حرب الاختيار، ومفهوم ذريعة الحرب كمبررات لشن حرب من أجل تحقيق مكاسب سياسية أو أمنية مزدوجة المعايير. كما تم تطوير إستراتيجية الردع النووي. لذا شهدت هذه الفترة عَقْد اتفاق التعاون الإستراتيجي بين إسرائيل والولايات المتحدة عام 1891 من ناحية والذي تَوافَق من ناحية أخرى مع صعود اليمين الأمريكي الذي كان يسعى إلى تصعيد المواجهة مع الاتحاد السوفيتي. وقد شُن في تلك الفترة الهجوم على العراق ثم لبنان ثم تونس، في حين أوكلت باقي المهام الأمنية لجهاز السياسة الخارجية وجهاز الاستخبارات الإسرائيلية اللذين قاما بجهودهما لإجهاض الكفاءات العسكرية العربية كما قاما بأنشطة مشبوهة في أعالي النيل والقرن الإفريقي وغيرها (انظر: «البُعْد الصهيوني في السياسة الخارجية»).

وقد حوَّلت الانتفاضة (والمقاومة في الجنوب اللبناني) الأنظار عن مفهوم الحرب الخاطفة إذ طرحت إمكانية "حرب طويلة" تعتمد على الاحتكاك المباشر على الأرض التي يُفترض أنها لا شعب لها ولا تاريخ. ولذا فقد نظر الصهاينة إلى الانتفاضة باعتبارها حرب عصابات شعبية غير مسلحة تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية معادية لإسرائيل، هي فك الجيب الاستيطاني الصهيوني، الأمر الذي يعني طَرْح قضية شرعية الوجود وبحدة. بل إن الانتفاضة هدَّدت البُعد الوظيفي، إذ أن الجيش الصهيوني فَقَد هيبته وأثبت عجزه عن خوض الحرب الطويلة وهي نقطة قد تكون فاصلة في حالة نشوب صراع مع العرب. وإذا كانت الدولة الوظيفية قد فَقَدت مقدرتها على قمع المواطنين الأصليين داخلها، فكيف سيمكنها أن تضطلع بوظائفها القتالية الأخرى؟

الأمـن القومي الإسرائيلي في التسعينيات

Israeli National Security in the Nineties

تضافرت مجموعة من العوامل تاركة آثاراً مهمة على مجمل الأوضاع في المنطقة العربية وعلى مقومات مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، حيث شهد عقد التسعينيات تحولات وتطورات غيَّرت مفاهيم كثيرة كانت راسخة، وقلبت موازين كانت مستقرة، فقد اختفت الدولة السوفيتية من الخريطة السياسية العالمية، وأدَّى انتهاء الحرب الباردة إلى فقدان العديد من الدول العربية الفاعلة حليفها الإستراتيجي القديم، وإلى انعدام هامش المناورة أمامها، الأمر الذي قلَّص إلى حدٍّ بعيد قدرتها على شن حرب ضدإسرائيل، ولكنها أدَّت إلى تقوية الموقف الإسرائيلي في الميزان الإستراتيجي، فضلاً عن اتساع نطاق هجرة اليهود السوفييت وبخاصة من العلماء وذوي الكفاءات والخبرات، وتنامت العلاقات الروسية الإسرائيلية حتى تُوِّجت بتوقيع اتفاق للتعاون الدفاعي والأمني في ديسمبر 1995. وفي ظل انفراد الولايات المتحدة بالهيمنة في الساحة العالمية، تم توطيد التحالف الإستراتيجي الأمريكي ـ الإسرائيلي، وامتد إلى مجال أنظمة التسلح الكبرى التي تعتمد في الأساس على الثورة التكنولوجية، كما أبرزت تلك التطـورات العالمية علو شـأن الاقتصاد والاتجـاه نحو التكتلات الاقتصادية. ورغم ذلك فلم تَعُد الخيارات السياسية أمام إسرائيل بالاتساع الذي كانت عليه سابقاً، وهذا ما يفسر مقولة جيمس بيكر "إن إسرائيل الكبرى فكرة ليست واقعية وليست ممكنة"، لأن تحقيق ذلك الهدف يتطلب أن يكون لدى إسرائيل قوة تُمكِّنها من فَرْض سيطرتها على المنطقة دون دعم خارجي تتحمل الولايات المتحدة تكلفته السياسية والمالية وتتحمل معها مزيداً من العداء من قبَل الشعوب العربية.

وعلى صعيد البيئة الإقليمية، أثبتت خبرة الحروب العربية ـ الإسرائيلية فشل الحرب في تأمين السلام لإسرائيل وعجزها عن توفير الأمن لها، في حين رأى عدد كبير من أعضاء المؤسسة الصهيونية أن التفاوض مع العرب بضمانات دولية قد يلبي الحاجة إلى الأمن وخصوصاً في ظل تَزايُد إدراكها أنها رغم تَفوُّقها العسكري لم تتمكَّن من فرض استسلام غير مشروط على العرب، بل على العكس فقد تمكَّن العرب من تجاوز العديد من مضاعفات وآثار هذا التفوق. وأثبتت حرب 1973 وغزو لبنان 1982 محدودية القوة الإسرائيلية وعجزها.

ثم جاءت الانتفاضة، ويمكن القول بأن أقوى ضربة وجِّهت لنظرية الأمن الإسرائيلي هي الانتفاضة التي أصبح بعدها إنكار وجود الشعب الفلسطيني غير ممكن. ومن هنا كان الاعتراف بهم بوصفهم «الفلسطينيين»، كما في صيغة مدريد واتفاقية أوسلو. وبذلك لم تَعُد نظرية الأمن الإسرائيلي تختص بالأمن الخارجي > إذ أصبح الداخل هوالآخرمصدرتهديد، وهو ما لا تستطيع إسرائيل حياله شيئاً فهي لا تستطيع أن تحرك جيوشها لقمع الانتفاضة. وبذلك أسقطت الانتفاضة الدور الوظيفي للجيش الإسرائيلي، ولو مؤقتاً، كما أنها غيَّرت مفهوم الأمن لديها من كونه تهديداً خارجياً إلى كونه هاجساً أمنياً داخلياً لا يمكن السيطرة عليه مهما بلغت قوة إسرائيل العسكرية من بأس وشدة. ولعل هذا هو الذي دفع الإسرائيليين بالمطالبة بأن يتزامن توقيع اتفاق أوسلو مع إعلان الفلسطينيين وقف الانتفاضة، وهو ما لم ينجح أبداً.

وأدَّت حرب الخليج الثانية إلى إبراز عدد من الفجوات في مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، حيث أوضحت أولاً أن الجيش الإسرائيلي لا يمتلك قدرة ملائمة مضادة للتهديدات الصاروخية لا سيما التهديدات القادمة من بعد. وأدى القصف الصاروخي العراقي ـ رغم محدودية تأثيره المادي ـ للعمق الإسرائيلي إلى انكشاف المؤخرة الإسرائيلية بما فيها من تجمعات سكانية كثيفة، وازداد إدراك الخطر الصاروخي في ظل سعي دول المنطقة إلى امتلاك قدرة صاروخية بإمكانها إصابة أهداف إستراتيجية إسرائيلية. كما أن حرب الخليج من ناحية ثانية أظهرت استحالة قيام الجيش الإسرائيلي بتنفيذ مفهومه الأمني التقليدي القائم على نقل الحرب بسرعة إلى أرض الخصم، وخصوصاً أن عنصر البُعْد الجغرافي قلَّل كثيراً قدرة السلاح الجوي الإسرائيلي على توجيه ضربات عنيفة إلى العراق.

يُضاف إلى ذلك أن عملية تسوية الصراع العربي الإسرائيلي سوف تكون لها انعكاسات إستراتيجية بارزة، حيث يفترض أن تفضي هذه العملية إلى قيام إسرائيل بتقديمتنازلات جغرافية إقليمية وهو ما يعني تآكل العمق الإستراتيجي، والتخلي عن مفهوم الحدود الآمنة بالمعنى الجغرافي، وإقامة تعاون اقتصادي يكفل إقامة شبكة علاقاتاقتصادية متداخلة بين جميع دول المنطقة.

لقد أثبتت حرب الخليج انعدام جدوى دور إسرائيل القتالي. ثم مع سقوط الاتحاد السوفيتي وظهور النظام العالمي الجديد بدأ مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي يتشكل حسب ألوان جديدة، هي مجرد تنويعات جديدة على النغمة الأساسية القديمة. فالثوابت ستظل كما هي (البقاء حسب الشروط الصهيونية وتوظيف الدولة في خدمة المصالح الغربية)، ولكنها ستكتسب أشكالاً جديدة مثل التعاون العسكري مع بعض الدول العربية والمحيطة بالعالم العربي. والعدو هنا لم يَعُد النظم العربية الحاكمة ولا جيوشها، وإنما أشكال المقاومة الشعبية المختلفة.

والتقديرات الإستراتيجية الإسرائيلية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتدمير القوة العسكرية العراقية تخلُص إلى التهوين من احتمال نشوب حرب عربية شاملة ضد إسرائيل على المستويين القصير والمتوسط (مع عدم استبعادها على المدى الطويل)، مع تحوُّل الدول العربية نحو الشكل السـلمي للصراع، وفي ظـل التحالف الإستـراتيجي الأمريكي الإسرائيلي. ورغم انكماش التهديدات الفعلية واسعة النطاق الماثلة أمام إسرائيل، فإن هناك طائفة واسعة من التهديدات المحتملة والكامنة والمقصورة، فمن ناحية أولى طرأت نوعيات جديدة من التهديد العسكري ليس من اليسير إيجاد حلول عسكرية واضحة لها، بل أصبح من الصعب تشخيصها وما إذا كانت ذات طبيعة دفاعية أم هجومية. وأبرز مثال على ذلك الانتفاضة الفلسطينية، وانتشار الأسلحة الكيميائية والبيولوجية والنووية ووسائل إيصالها وبخاصة الصواريخ البالستية.

ومن ناحية ثانية أدى تطوُّر العملية السلمية وانكماش التهديدات الخارجية واسعة النطاق إلى بدء تبلور "التهديد الداخلي" الناتج عن ضعف التماسك الاجتماعي والتكامل القومي فتفاقمت التناقضات الداخلية الناتجة عن طبيعة التركيب الاجتماعي/السياسي للدولة الصهيونية، وهو ما بلغ أخطر مراحله باغتيال رئيس الوزراء السابق إسحق رابين.

مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي وعملية التسوية السلمية

Israeli Concept of National Security and the Process of Peaceful Settlement

تسود رؤية إسرائيلية أمنية لأبعاد السلام مع المحيط العربي، فحاجة إسرائيل للسلام ترتبط بالخوف متعدِّد المصادر (الهاجس الأمني)، لذلك توضح الترتيبات والمقترحات الأمنية التي تطرحها إسرائيل في المفاوضات والاتفاقات مع الدول العربية المحيطة أنها تعتمد إستراتيجية تهدف إلى مواصلة أوسع قدر من السيطرة العسكرية على محيطها، وهذا ما تعكسه بدقة المقولة الإسرائيلية "السلام الإسرائيلي العربي سيكون سلاماً مسلحاً"، وحديث نيتنياهو عن"السلام القائم على الأمن"، أي على قوة إسرائيل العسكرية، وهي تكشف عن تأثير الأيديولوجية الصهيونية وهيمنة الشأن الأمني على الشأن السياسي وأبعاد التسوية السياسية التي تتطلبها، وضمن ذلك رؤيتها للترتيبات المتعلقة بشئون المياه والسكان والحدود والعلاقات الاقتصادية، ولذا فإن نظرة أحادية الجانب وصيغاً لترتيبات غير متكافئة تسيطر على أطروحات إسرائيل مع جوارها العربي كجزء من تنظيم شروط "إندماجها" الإقليمي في مرحلة ما بعد التسوية، وهو ما يتمثل في:

1 ـ احتلال الترتيبات الأمنية والعسكرية حيزاً مهماً من اتفاق أوسلو واتفاقــات القاهرة اللاحقة مع منظمة التحرير الفلسطينية، والإصــرار على تضـمين الاتفاقات مع الـدول العــربية بنــوداً تفرض على الجانب العربي مناطق منزوعة السلاح واسعة نسبياً، وإدخال تعديلات على الحدود لمصلحة توسُّع إسرائيل، وإعادة النظر في بنية الجيوش العربية وتخفيض أحجامها، وتقليص قدراتها الهجومية.

2 ـ وجود تَوجُّه واضح لإقامة نظام أمني إسرائيلي/أردني/فلسطيني يرتبط لاحقاً، عبر إسرائيل بنظام أمني إسرائيلي/سوري/لبناني وذلك لتحويل أي انسحاب تقوم به إسرائيل من أية أراضي عربية محتلة إلى رصيد أمني لها.

3 ـ تحويل مرحلة الحكم الذاتي الفلسطيني المنصوص عليها في اتفاق أوسلو إلى مرحلة اختبارية لمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، يكون مقياسها أمن مستوطناتإسرائيل وجيشها داخل مناطق الحكم الذاتي والمناطق المحتلة.

4 ـ النظر إلى التجمعات الفلسطينية في الدول العربية وفي إسرائيل نفسها من منظور أمني، وتشترط أن تقبل الدول العربية التي تستضيفهم الموافقة على مبدأ توطينهم.

5 ـ النظر إلى الأردن من زاوية الوظائف الأمنية التي يمكن أن يؤديها كعازل بين إسرائيل وبين الدول العربية المجاورة للأردن.

6 ـ اعتماد مفهوم الأمن اللا متكافئ في:

* اعتماد مقولة أن التفوق العسكري الإسرائيلي ومقدرة إسرائيل على الردع هو الذي أرغم الدول العربية على التفاوض معها، وأن الحفاظ على هذا التفوق أحد ضماناتالسلام.

* استخدام العلاقة المتميِّزة التي تربط إسرائيل بالولايات المتحدة كدعامة من دعائم أمنها، أي قوة ردع مساندة لها في مواجهة محيطها العربي.

* اعتبار أن احتفاظ إسرائيل بتفوقها العسكري النوعي في مجال الأسلحة التقليدية والأسلحة غير التقليدية لفترة مفتوحة زمنياً أمر لا بديل عنه، وبالتالي البقاء خارج أية معاهدات قد تضع قيوداً على تسلُّحها، وضمن ذلك معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية.

* اعتبار أن وجود حالة عدم استقرار في الشرق الأوسط (والتي يجري توسيع حدودها لتشمل، إضافة للدول العربية، كلاً من إيران ودول آسيا الوسطى، وباكستان) يشكل تهديداً ممكناً لأمن دولة إسرائيل ومناقضاً لأية إجراءات يمكن أن تُتخذ للحد من الأسلحة.

* بناء الثقة بين الطرفين العربى والإسرائيلى، يعنى الإجراءات التى يقوم به الطرف العربى لكبح جماح المقاومة الفلسطينية،بل والقضاء علىها.

7 ـ مفهوم المنطقة العازلة منزوعة السلاح أو شبه المنزوعة:

تبلور هذا المفهوم كنتيجة لحرب 1973، وعلى أساسه تمت ترتيبات فصل القوات المصرية الإسرائيلية ثم اتفاق السلام سنة 1979. لكن مفهوم "المنطقة العازلة منزوعةالسلاح" كبديل عن مفهوم العمق الإستراتيجي بقي ـ من منظور الأمن الإسرائيلي ـ قابلاً للتطبيــق على أوضــاع الجبـهة المصرية ـ الإســرائيلية فقـط، وغــير قابـلللتطبيـق على الجبـهات الأخــرى بدون إدخـال ترتيبات إضافية. وإزاء موضوع العمق الإستراتيجي برزت في إسرائيل مدرستان:

تعتبر المدرسة الأولى ـ التي تسود أوساط حزب العمل واليسار الصهيوني ـ أن نزع سلاح الضفة الغربية وقطاع غزة أمر حيوي في أية تسوية سياسية، وتُميِّز بين مفهوم الحدود السياسية (حدود دولة إسرائيل) والحدود الأمنية. على العكس تصر المدرسة الثانية، التي تسود أوساط الليكود وأحزاب اليمين، على أن إبقاء السيطرة العسكرية (المباشـرة) على عمـوم المناطق الفلسـطينية المحتـلة عام 1967 لا بديل عنه، وترفض الفصل بين مفهومي السيادة والسيطرة العسكرية. وتفترض المدرستان كلتاهما مواصلة سيطرة إسرائيل على السفوح الجبلية للضفة الغربية وغور الأردن، وتفترض المدرسة الأولى أن نَزْع سلاح الضفة الفلسطينية يفترض استمرار سيطرة إسرائيل على المعابر والطرق.

8 ـ تأكيد مفهوم الحرب الاختيارية كبديل للحرب الدفاعية أو الإجهاضية، ويُقصَد بها تلك الحرب التي تخوضها إسرائيل بمحض اختيارها وبدافع من رغبتها في تحقيق مصالحها القومية كما تراها وتحددها، وهي حرب تستجيب لتطوُّر دور إسرائيل في الشرق الأوسط، من دولة تبحث عن الاعتراف والقبول إلى دولة تؤكد دورها السياسي والإستراتيجي في المنطقة.

9 ـ يمثل البُعد النووي في الأمن الإسرائيلي أحد المظاهر المهمة لسيطرة هاجس الأمن السرمدي الذي فرض ضرورة انفراد إسرائيل بامتلاك مقدراتها الخاصة بصرف النظر عن الارتباط العميق بدولة عظمى توفِّر لها المساندة السياسية والعسكرية.

والبُعْد النووي احتل موقعاً خاصاً في الفكر الإستراتيجي الشامل للساسة الإسرائيليين انطلاقاً من اعتباره مظلة أمنية مستقلة لا تعتمد على محددات وعوامل حاكمة خارجية. ومن هنا ظهور ما يُسمَّى «عقيدة بيجين» التي تعني منـع دول الشرق الأوسط من التسلح بأسلحة نووية ومن امتلاك التكنولوجيا النووية. وكانت عملية قصف المفاعل النووي العراقي 1981 فاتحة تطبيقات تلك العقيدة.

وموقع الخيار النووي في المنظومة الأمنية لم يكن مرتبطاً بركيزة إضعاف الخصوم، وإنما المحافظة على البقاء، الأمر الذي يتضح من كونه ذخيرة إستراتيجية غير مطروحة للاستخدام المباشر الفعلي إلا في حالات خاصة جداً هي على وجه الحصر تعرُّض الدولة لتهديد حقيقي بالفناء، فاستخدامه الفعلي لن يكون إلا بعد اختلال الميزان التقليدي لصالح العرب ونشوب حرب شاملة تتعرض فيه الدولة لتهديد فعلي بإنهاء وجـودها أو ضرب مواقع حيوية فيها، فالسـلاح النووي هـو الملاذ الأخير. أما الاستخدام الفعلي للبُعْد النووي فكان الاستخدام السياسي سواء من خلال الضغط النفسي على الدول العربية بفَرْض ستار من الغموض حول حدود وطبيعة الخيار النووي يؤدي إلىتحسين وضع إسرائيل التفاوضي أو من خلال عملية الابتزاز التي تقوم بها مع الولايات المتحدة لتقديم مساعدات اقتصادية وسياسية وعسكرية ضخمة تغنيها عن اللجوء للقوة النووية.

الجزء الخامس: أزمة الصهيونية والمسألة الإسرائيلية

الباب الأول: أزمة الصهيونية

أزمـــة الصهيونيــة: تعـريف

Crisis of Zionism: Definition

«أزمة الصهيونية» اصطلاح نستخدمه للإشارة إلى المشاكل التي تواجهها الصهيونية كعقيدة تستند إليها الدولة الصهيونية، وتدَّعي لنفسها الشرعية على أساسها، وتؤسس علاقتها بيهود العالم والعالم الغربي من خلالها.

ومن المعروف أن المشروع الصهيوني قد حقق نجاحات كثيرة لا شك فيها، مثل احتلال الأرض الفلسطينية بالقوة وطرد أعداد كبيرة من الفلسطينيين من ديارهم ووضع الباقين منهم تحت قبضته الإدارية والعسكرية الحديدية. كما نجح المشروع الصهيوني في نقل كتلة بشرية ضخمة استوطنت في هذه البقعة وأسست بنية تحتية زراعية صناعية عسكرية وانتصرت في عدة حروب ضد جيوش الدول العربية. ويحصل المشروع الصهيوني على الدعم غير المشروط من التشكيل الحضاري والسياسي الغربي،وبخاصة من الولايات المتحدة، التي تقف في الوقت الحاضر على رأس هذا التشكيل.

ولكن رغم كل هذه الإنجازات المهمة، التي لا يمكن التهوين من شأنها، يردد أصحاب المشروع الصهيوني أنفسهم أن مشروعهم يواجه أزمة حقيقية، حتى أن عبارة «أزمةالصهيونية» أصبحت مصطلحاً أساسياً في الخطاب السياسي، ولا تخلو صحيفة إسرائيلية من عبارات مثل «صهيونية بدون روح صهيونية» و«انحسار الصهيونية».

وتُناقَش الأزمة الصهيونية بشكل شبه مستمر في المؤتمرات الصهيونية الواحد تلو الآخر. ونحن نذهب إلى أن أسباب هذه الأزمة بنيوية، أي لصيقة ببنية الاستيطان الصهيوني نفسه. ولذا بدأت الأزمة مع بداية هذا الاستيطان عام 1882، ولم يحلها إنشاء الدولة بل زادها تفاقماً وإن ظلت في حالة كمون إلى أن تبدَّت بشكل واضح عام 1967، وزادت حدتها مع حرب الاستنزاف وحرب 1973، ووصلت إلى لحظة حرجة مع هزيمة الدولة الصهيونية في لبنان ثم مع اندلاع الانتفاضة.

وعناصر الأزمة كثيرة من أهمها: قضية الهوية اليهودية (من هو اليهودي؟)، وتطبيع الشخصية اليهودية، ومشكلة اليهود الشرقيين، وهوية الدولة اليهودية، والأزمة السكانية والاستيطانية، وتحجُّر الثقافة السياسية الصهيونية، وتصاعُد معدلات العولمة والأمركة في المستوطن الصهيوني.

وعناصر الأزمة الصهيونية متشابكة (كما سيتضح لنا أثناء التعرض لجوانبها كلٌّ على حدة)، فمشكلة الهوية والصراع بين الدينيين والعلمانيين مرتبطة بالأزمة السكانية (الديموغرافية)، وكلاهما مرتبط بأزمة الهجرة والاستيطان وبقضية تطبيع الشخصية اليهودية. كما أن أزمة صهاينة الداخل مرتبطة من بعض النواحي بأزمة صهاينة (ويهود) الخارج، وتتبلور العناصر في قضية اليهود الشرقيين (من السفارد واليهود العرب ويهود البلاد الإسلامية). ورغم علمنا بهذا التشابك، إلا أننا فصلنا العناصربعضها عن بعض كضرورة تحليلية.

وكل القضايا السابقة تشكل تحدياً للصهيونية وتقوض شرعيتها أمام يهود العالم ويهود المستوطن الصهيوني والدول الغربية الراعية للمشروع الصهيوني (وهذه هي الشرعية الصهيونية مقابل شرعية الوجود، أي شرعية النظام الاستيطاني أمام السكان الأصليين، أي الفلسطينيين).

وقد أدَّت الأزمة إلى انفراط العقد الاجتماعي الصهيوني أو على الأقل تآكله. فقد كان هناك اتفاق على بعض المقولات الأساسية، مثل أن اليهود شعب واحد (يضم الدينيين واللادينيين والإشكناز والسفارد وغيرهم)، وهو شعب يطمح للعودة إلى أرضه للاستيطان فيها، وأن الصهيونية ستنهي حالة المنفى وستقوم بتطبيع اليهود. لقد فشلتالصهيونية في كل هذا، فاليهودي (هذا المكوِّن الأساسي لهذا الشعب اليهودي) لم يعرَّف بطريقة ترضي كل الأطراف، وهو شعب يرفض العودة لوطنه القومي، الأمر الذي يخلق أزمة سكانية استيطانية. ولهذا، لم يَعُد هناك اتفاق على المكونات الأساسية للصهيونية وأهدافها المبدئية، فالرؤية ليس لها ما يساندها في الواقع، والواقع صلب لا يود أن يخضع للرؤية.

وقد ترجم هذا التآكل نفسه إلى عدم اكتراث بالمشروع الصهيوني الذي ترجم نفسه بدوره إلى عدم الإيمان بالقيم الصهيونية «الريادية» المبنية على التقشف وتأجيل الإشباع. وبدلاً من ذلك، ظهر السعار الاستهلاكي والنزوع نحو الأمركة والعولمة والخصخصة، وهي حالة لا تصيب الصهاينة وحدهم وإنما تصيب أيَّ مجتمع يفتقر إلى الاتجاه ولا يحل مشكلة المعنى. ولكن رغم كل هذا التآكل يظل هناك إجماع صهيوني لم يتآكل وهو رفض الاعتراف بالفلسطينيين وحقهم في هذه الأرض التي تم اغتصابها.

ولكن قبل أن نعرض لعناصر الأزمة الصهيونية المختلفة يجب أن نشير إلى أن بوسع المجتمعات الإنسانية أن تعيش في حالة أزمة مستمرة لعشرات السنين دون أن "تنهار من الداخل"، إن لم تُوجَّه لها ضربة من الخارج. والتجمع الصهيوني ليس استثناءً من هذه القاعدة، وخصوصاً أن كميات المساعدات التي تصب فيه من الولايات المتحدة تزيد عن ثمانية بلايين دولار لمجموع عدد السكان الذي يبلغ عددهم حوالي أربعة ملايين، الأمر الذي يجعل التجمُّع الإسرائيلي (الاستيطاني الوظيفي) من أكثر المجتمعات تلقياً للمساعدات الخارجية بالنسبة لعدد السكان. فالتجمُّع الصهيوني لا يحوي مكونات بقائه واستمراره داخله، فهو يستمدها من دولة عظمى تكفله وترعاه.

ومن الواضح أن إسرائيل مدركة تماماً لأبعاد أزمتها وأنه لا حل لها داخل إطار ما هو قائم. وقد أدَّى هذا إلى استقطاب شديد، فطرح حلاّن: الأول، الصهيونية الحلولية العضوية، ويتسم بالصلابة، والثاني، صهيونية عصر ما بعد الحداثة، ويتسم بالسيولة.

الأزمــة البنيوية للصهيونيـة

Structural Crisis of Zionism

«الأزمة البنيوية للصهيونية» عبارة نستخدمها للإشارة إلى طبيعة الأزمة الصهيونية وهي أزمة لصيقة ببنية الصهيونية نفسها. فالمواجهة مع السكان الأصليين ليست كما يظن البعض مسألة عرضية، وإنما هي نتيجة حتمية وملازمة لتحقق المشروع الصهيوني على الأرض الفلسطينية.

وأزمة الصهيونية، رغم بنيويتها، تزداد حدة وانفراجاً حسب الظروف التاريخية. ونحن نذهب إلى أن الأزمة تفاقمت بعد "انتصار" 1967 وهو ما حوَّله إلى عملية انتشار. ولأن طبيعة الأزمة بنيوية فلا يمكن حلها إلا عن طريق تغيير البنية نفسها، أي العلاقات التي تأسَّست في الواقع. ونحن نذهب إلى أن صهيونية الدولة (أو يهوديتها المزعومة) هي أساس عنصريتها وبنية التفاوت والظلم التي تأسَّست في فلسطين، ومن ثم فلا سبيل لحل الأزمة إلا عن طريق نزع الصبغة الصهيونية عن الدولةالصهيونية.

الأزمــة الصهيونيــة وبنيــة الأيديولوجيــة الصهيونيــة

Crisis of Zionism and the Structure of Zionist Ideology

تعود الأزمة الصهيونية إلى عدة أسباب بنيوية تنصرف إلى صميم المشروع الصهيوني الاستيطاني الإحلالي. ولكن ثمة سمات تتسم بها بنية الأيديولوجية الصهيونية نفسها ساعدت على تفاقم الأزمة نذكر منها ما يلي:

1 ـ ثمة مسافة بين أقوال أي إنسان وأفعاله، فالقول الإنساني بطبيعته لا يتفق تماماً ولا يتطابق مع الفعل الإنساني. ولكن في حالة القول الصهيوني نجد أن المسافة التي تفصله عن الواقع شاسعة حتى يصبح القول كله (أحياناً) ديباجة لا علاقة لها بأي واقع، فهي تهدف أولاً وأخيراً إلى التبرير والتسويغ. ويعود هذا إلى أن الصهيونية لم تنبع من واقع أعضاء الجماعات اليهودية في العالم وإنما هي صيغة أساسية توصلت لها الحضارة الغربية في عصر نهضتها وبداية تجربتها الاستعمارية الاستيطانية للتعامل مع الجماعات اليهودية ففرضتها عليها ثم تبنتها هذه الجماعات، أي أن حالة التبعية أو الذيلية الصهيونية للعالم الغربي ليست مسألة تنصرف إلى أمور السياسة والاقتصاد وإنما إلى بنية الأيديولوجية نفسها وأصولها الحضارية والفكرية.

2 ـ قامت الحضارة الغربية بنقل بعض أعضاء هذه الجماعات ككتلة بشرية مستقلة تُوطَّن في وسط العالم العربي عن طريق القوة العسكرية، فهي صيغة لا علاقة لها بالواقع العربي الذي زُرعت فيه.

3 ـ لكل هذا نجد أن الفكر الصهيوني فكر اختزالي يتجاهل معطيات الواقع سواء أكان الأمر يتعلق بواقع أعضاء الجماعات اليهودية في العالم أم واقع الفلسطينيين العرب. وتتضح هذه الاختزالية في إنكار التاريخ والتفكير في وضع نهاية له: تواريخ أعضاء الجماعات اليهودية والتاريخ العربي في فلسطين. كما يتضح في إنكار الجغرافيا. ففلسطين تصبح إسرائيل، وهي بلد لا حدود لها، إذ أن حدودها توجد داخل مفهوم إرتس يسرائيل الديني.

4 ـ لكل هذا نجد أن العقيدة الصهيونية أيديولوجية فاشية، نسق عضوي مغلق يخلع القداسة على الأرض (أرض الميعاد) والشعب (الشعب المختار) وينكر الآخر (الصراع مع الأغيار والعقلية الجيتوية). ومثل هذه الأيديولوجيات تُكْسب حاملها قوة ومناعة وصلابة، ولكنها في الوقت نفسه تتسم بالجمود والانغلاق. ومن ثم فكثير من التناقضات الكامنة داخل الأيديولوجية أو في واقعها حينما تتبدى في الواقع، تظهر بشكل عنيف إن لم يكن فجائياً.

وقد حدثت داخل الدولة الصهيونية وخارجها تطورات عميقة من أهمها ظهور النظام العالمي الجديد وتصاعُد معدلات العلمنة بين يهود العالم وتبنِّي المعسكر العربي خطاباً برجماتياً بل انكماش المطالب العربية. ويستمر التجمُّع الصهيوني ونخبته الحاكمة في استخدام نفس الخطاب الصهيوني القديم ويدركون العالم من خلال المقولات القديمة للثقافة السياسية الصهيونية. وهو وضع يهدد بتصعيد الأزمة.

5 ـ تستند الأيديولوجية الصهيونية إلى فكرة الهوية وإلى تعريف عضوي ضيق لهما، ولذا فإن أية تحديات لهذه الفكرة تسبب شرخاً عميقاً في المجتمع.

6 ـ ثمة تناقضات عديدة داخل القول الصهيوني نفسه، فالتناقض ليس بين القول والفعل وحسب وإنما بين قول صهيوني وآخر، فدعاة القول الصهيوني لم يتفقوا فيما بينهمعلى الحد الأدنى فيما يتصل بكثير من القضايا النظرية الأساسية (حدود الدولة ـ الهوية اليهودية ـ موقفهم من يهود العالم) وإنما اتفقوا على الحد الأدنى من الفعل وحسب (نقل بعض يهود العالم إلى فلسطين وتوظيفهم داخل إطار الدولة الوظيفية).

كل هذه السـمات البنيوية في الأيديولوجية سـاهمت في تفاقم الأزمة، إلا أن السبب الأساسي لها يظل أنه حين وُضعت هذه العقيدة الصهيونية موضع التنفيذ أفرزت الكثير من المشاكل بعضها خاص بالمستوطن الصهيوني ويهود العالم، والبعض الآخر خاص بالفلسطينيين (فيما نسميه «المسألة الفلسطينية»). وحسب تصوُّرنا لا يوجد حل داخل إطار الأمر الواقع الصهيوني لأيِّ من هذه المشاكل. وقد تفرز الصهيونية حلولاً يمينية صلبة (الصهيونية الحلولية العضوية) أو يسارية سائلة (صهيونية عصر ما بعد الحداثة)، ولكنها حلول لا تتوجَّه إلى جذور المشكلة.

وأزمة الصهيونية متشابكة تتداخل فيها أسباب مع الأخرى وكذلك الأسباب والنتائج والأيديولوجية والواقع. ومع هذا لضرورات تحليلية سـنقسِّم أوجـه هذه الأزمة (في إطار الشرعية الصهيونية) إلى أربعة أقسـام نتناول كل قسم في مدخل مستقل أو في عدة مداخل:

1 ـ إشكالية الديني والعلماني.

2 ـ أزمة الهوية.

3 ـ الأزمة السكانية والاستيطانية.

4 ـ تفكُّك الأيديولوجية الصهيونية من خلال تصاعُد النزعات الاستهلاكية (والعلمنة والأمركة والعولمة والخصخصة).

العلمانيـــة الشــــاملة والدولــــة الصهيونيـــة

Comprehensive Secularism and the Zionist State

تَصدُر الحركة الصهيونية عن الصيغـة الصهيونية الأسـاسية الشاملة، ولكنها تم تهويدها، أي إدخال ديباجات يهودية عليها، واتفق الجميع على أن تكون الدولة الصهيونية «دولة يهودية». ولكن مضمون كلمة «يهودية» كان يختلف من تيار صهيوني لآخر، فهرتزل كان يتحدث عن دولة علمانية لليهود، بينما تحدث الحاخام إسحق كوك عن دولة يهودية تعبِّر عن حلول الإله في الشعب وامتلائه بالقداسة. ورغم اختلاف الديباجات إلا أن العلمانية الشاملة، سيطرت على الدولة الصهيونية، شأنها في هذا شأن معظم البلاد الصناعية المتقدمة.

ويُلاحَظ أنه توجد ثلاثة مصطلحات في إسرائيل لوصف الانتماء الديني أو غيابه. أما المصطلح الأول، فهو «داتي» وهو مصطلح يُستخدَم عادةً للإشارة إلى المتدينين الأرثوذكس ورثة اليهودية الحاخامية. ولكن هناك مصطلحين يصفان اليهود الذين انسلخوا عن اليهودية الحاخامية: «حيلونى» و « ماسوراتى». أما مصطلح «حيلوني» فيعنى «علماني» (من فعل «حل» بمعنى «حدث» أو «جرى» أو «صادف» أو «حال» الشيء أي «تحوَّل من حال إلى حال»). ومصطلح «حيلوني» شأنه شأنمصطلح «علماني» في اللغة العربية ومصطلح «سكيولار secular» في اللغة الإنجليزية ومصطلح «لائيك laique» في اللغة الفرنسية مختلط الدلالة. فالشخص الذي يوصف بأنه «حيلوني» يمكن أن يؤمن أو لا يؤمن بالإله.

ولكن المصطلح في المعجم الحضاري الإسرائيلي يزداد اختلاطاً واضطراباً بسبب وجود مصطلحات أخرى مثل «ماسوراتي» أي «تقليدي» أو «محافظ». والكلمة تشير إلى اليهودي الانتقائي في ممارساته الدينية، والذي يؤدي بعض الشعائر دون البعض. ونصف سكان إسرائيل يصفون أنفسهم بأنهم «حيلوني» (زادت النسبة إلى 60% عام 1997)، وتبلغ نسبة الماسوراتي 30%. ويصف 17% منهم أنفسهم بأنهم «متدينون» والباقي من أعضاء العبادات الجديدة (الآخذة في الانتشارفي إسرائيل).

وكثيرون يترددون في تسمية أنفسهم «حيلوني» (أي «علمانيين») بسبب ما قد يوحي به المصطلح من الإلحاد ويفضلون صفة «تقليديين» أو «محافظين» («ماسوراتي»). ولكن، مع هذا، تجب الإشارة إلى أن «التقـليدي» في إطار يهـودي قد تعـني أيضاً شـيئاً قريباً من الإلحاد، إذ يمكن أن يُقيم اليهودي التقليدي الشعائرويعطيها مضموناً وثنياً قومياً دون إيمان بالإله، كما هو الحال مع الصهاينة، واتباع اليهودية المحافظة وإن كان الاستخدام الأكثر شيوعاً هو «اليهودي المحافظ»، أي منيقيم بعض الشعائر وحسب. وبطبيعة الحال مما يزيد الأمر اضطراباً أن مصطلح «يهودي» يكاد يكون دالاً دون مدلول، في الدولة العلمانية التي يُقال لها يهودية.

ويُلاحَظ، في إسرائيل، أن من السهل على اليهودي تأدية شعائر دينه إذ أن إيقاع الحياة وقوانين الدولة تساعده على ذلك. ومع هذا، ففي استطلاع للرأي أُجري عام 1975، وصف 55% أنفسهم بأنهم «متدينون جداً» أو «متدينون» فحسب، ووصف 45% أنفسهم بأنهم ليسوا متدينين على الإطلاق. ولكن حين طُبِّق على المتدينين ستة معاييرللتدين، مثل عدم قيادة السيارة يوم السبت والذهاب إلى المعبد، ظهر أن 15% منهم فقط هم المتدينون حسب المعايير الستة وتم تصنيف 15% من هؤلاء على أنهم يقيمون الشعائر بشكل عام، مع ملاحظة أن هذه هي رؤيتهم لأنفسهم حيث لم يُختبر قولهم. ووصف 40% أنفسهم بأنهم تقليديون أو محافظون، في حين صرح 30% بأنهم ليسوا متدينين على الإطلاق. ولتوضيح مضمون صفة «تقليدي»، تنبغي الإشارة إلى أن الأغلبية العظمى من الإسرائيليين صرحوا بأنهم لا مانع لديهم من الذهاب إلى السينما وركوب المواصلات يوم السبت، الأمر الذي يتنافى مع الشريعة. ومع هذا، قال 70% إنهم يوقدون الشموع في منازلهم في ذلك اليوم، وهو ما يعني أنهم اختاروا من الشعائر ما يتناسب مع الحياة العلمانية. إذ أن إيقاد الشموع عمل رومانسي لطيف لا يكلِّف كثيراً ولا يشكل قيداً على الحرية أو على الذات ولا يتطلب أية تضحية، وإلى جانب ذلك فهو ذو قيمة رمزية ترفع معنويات الشخص الذي يؤدي هذا الطقس. ومن الممكن بطبيعة الحال افتراض أن عدداً كبيراً من هؤلاء يوقد الشموع لأسباب إثنية لا علاقة لها بالدين.

وفيما يتصل بالطعام الشرعي، صرح 70% عام 1975 بأن تناول الطعام الشرعي أمر مهم ولكنه ليس أمراً ضرورياً أو مفروضاً. وقد انخفضت هذه النسبة إلى 56% في عام 1988. ويُقال إن نصف اللحم المُستهلَك في إسرائيل لحم خنزير. ومع هذا تشير إحدى الإحصاءات إلى أن 27% فقط يأكلون لحم خنزير. ولعل الباقين يستهلكونه ولكنهم لا يصرحون بذلك. وقد بيَّنت إحدى الدراسات أن عدد من يقيم شعائر الطعام في منزله وحسب 66%، وتنخفض النسبة إلى 55% في البيت وخارجه!

وفيما يتعلق بالذهاب إلى المعبد، نجد أنه أصبح عادة سنوية لا أسبوعية أو يومية، تماماً كما هو الحال بين يهود الولايات المتحدة. وقد صرح 63% بأنهم يذهبون إلى المعبد و23% يذهبون كل عيد. وتنخفض النسبة إلى أقل من 10% حينما يكون السؤال عن الذهاب للمعبد كل سبت! ومن الضروري تأكيد أن الذهاب إلى المعبد في العيد لا يكون بالضرورة تعبيراً عن توجُّه ديني بل قد يكون على العكس تعبيراً عن تزايد العلمنة إذ أن المعبد يصبح تعبيراً عن التمسك بالهوية الإثنية.

وقد أدَّى تزايد معدلات العلمنة في المجتمع الإسرائيلي إلى انتشار الإباحية. ولم تَعُد تل أبيب وحدها مركزاً للإباحية، بل وصلت الإباحية إلى القدس أيضاً حيث توجد محلات لبيع الأشياء الإباحية على بعد خطوات من حائط المبكى، كما يتزايد بشكل ملحوظ خرق شعائر الدين اليهودي. ويُقال إن المجتمع الإسرائيلي أصبح من أهم مصادر البغايا في العالم، وأن لغة القوادين في أمستردام هي العبرية.

وقد أدَّى كل هذا إلى الاصطدام بين العناصر الدينية والعناصر اللادينية. وهذا يعني أن العقيدة اليهودية أصبحت من أهم مصادر الشقاق والتوتر بين اليهود، سواء بين أعضاء التجمُّع الصهيوني في إسرائيل أو بين أعضاء الجماعات اليهودية في العالم. وتتزايد التناقضات حدة مع تزايد معدلات العلمنة بينهم (للمزيد عن النقد اليهودي الديني للدولة الصهيونية باعتبارها دولة علمانية، انظر: «موقف الجماعات اليهودية من الصهيونية»).

الدينـــي والعلمــاني فــي الدولـــة الصهيونيـــة

The Religious and the Secular in the Zionist State

رؤية الصراع في إسرائيل على أنه صراع بين المتدينين والعلمانيين هو شكل من أشكال التطبيع المعرفي. فالكيان الصهيوني كيان له خصوصيته وقوانينه، فمعظم المتدينين فيه ليسوا متدينين بالمعنى المألوف، ومعظم العلمانيين ليسوا "علمانيين" أيضاً بالمعنى المألوف للكلمة (فهم ليسوا علمانيين جزئيين وإنما هم علمانيون شاملون بدرجة متطرفة). وإذا حاولنا إعادة تقسيم أعضاء المجتمع الصهيوني من منظور الاقتراب أو الابتعاد عن كل من الدين اليهودي والأيديولوجية الصهيونية، فيمكننا تقسيمهم إلى أربعة أقسام وليس إلى قسمين اثنين:

1 ـ المتدينون:

وهؤلاء يؤمنون باليهودية ديناً توحيدياً ويرون أن اليهود هم شعب بالمعنى الديني للكلمة أساساً، وأن العناصر القومية الإثنية في الدين اليهودي (مثل العودة والارتباط بالأرض) هي في جوهرها مفاهيم دينية لا يتم تحقيقها إلا بمشيئة الإله. وهذا الفريق معاد للصهيونية رافض للدولة الصهيونية، بل يرى فيها فعلاً من أفعال الشيطان. ولا تزال جماعة الناطوري كارتا (نواطير المدينة) من أهم الجماعات التي تمثل هذا التيار وتطالب بالانضمام لحكومة فلسطينية في المنفى، وهي تكافح ضد الصهيونية ولهانشاط داخل وخارج الكيان الصهيوني.

2 ـ الصهاينة المتدينون (أو الإثنيون الدينيون)، أي الصهاينة من أصحاب الديباجات الدينية:

إذا كان المتدينون يرون أن على اليهودي الانتظار، ويرون العودة إلى صهيون فعلاً من أفعال الهرطقة (دحيكات هاكتس، أي التعجيل بالنهاية) فإن مسار التاريخ المقدَّس بالنسبة لهم يأخذ الشكل التالي: نفي ـ انتظار ـ عودة بمشيئة الإله. ومع هذا تغلغلت الصهيونية في صفوف المتدينين ونجحت في "صهينة" قطاعات كبيرة منهم (في الواقع الغالبية العظمى) بحيث تم طرح تصوُّر مفاده أنه يجب العودة قبل ظهور الماشيَّح دون انتظار لمشيئة الإله للإعداد لعودته وبهذا يأخذ التاريخ الشكل التالي: نفي ـ عودة للإعداد لمقدم الماشيَّح ـ انتظار ـ مقدم الماشيَّح.

ومن الواضح أن الشكل الجديد يسقط العنصر الديني إلى حدٍّ كبير بحيث تصبح العودة فعلاً من أفعال البشر يتم تحت مظلة المنظمة الصهيونية، وبالتالي استطاع هذا الفريق المساهمة في مشروع الاستيطان الصهيوني والمشاركة في كل النشاطات الصهيونية ـ الاستيطانية والعنصرية والإرهابية.

ولابد من إدراك أن المعسكر الصهيوني الديني (أي صاحب الديباجات الدينية) ليس معسكراً واحداً. فالانقسام السفاردي الإشكنازي يجد أصداءه داخله، فحزب شاس حزب ديني سفاردي. بل يمكن القول بأنه سفاردي أكثر من كونه دينياً، إذ ينضم له المهاجرون من البلاد الإسلامية بغض النظر عن مدى تديُّنهم. وهناك أيضاً الانقسام بين ممثلي حركة حبد الحسيدية من أتباع شنيرسون (ديجيل هاتوراه) وممثلي الجناح الديني الليتواني (المتنجديم) من أتباع الحاخام شاخ (أجودات إسرائيل). وهناك الحزب الديني القومي أقدم الأحزاب الدينية وقد تعاون مع المؤسسة الصهيونية منذ البداية. وهناك المتدينون العاديون والحريديم الذي يوصفون عادة بالتطرف الصهيونى.

3 ـ العلمانيون الشاملون ( من الصهاينة(

كانت اليهودية كنسق ديني في أوائل القرن التاسع عشر مع ظهور المجتمع الحديث في أوربا في حالة أزمة عميقة، إذ يبدو أنها تجمدت وتحجرت بحيث أصبح من العسير عليها أن تتطور. وقد ظهرت الصهيونيـة وطرحت نفســها على أنهــا سـتحل محل اليهودية كمصـدر للهـوية، بحيث تصبح اليهودية انتماءً إثنياً بالدرجـة الأولــى (على طـريقـة المشروع القومي في الغرب)، ولكـن هـذه الإثنـــية اليهــودية لا تستند إلى تـراث تاريخــي طويــل كما هــو الحــال مع الهــويات الغـربية كالفرنسـية والإنجلــيزية، وإنمــا تستند إلى التــراث الديــني اليهـودي، كما تســتند إلى اعـتذاريات، هي في جوهرها مطلقة مستمدة من المنطق الديني مثل حـق اليهـود الأزلـي في أرض الميعاد. ولذا من الممكن أن نجد شخصاً ملحداً موغلاً في الإلحاد مثل بن جوريون يقتبس التوراة بل يقوم بتفسيرها. وقد استولى الصهاينة على الخطاب الديني اليهودي بكل ما فيه من إطلاق ديني، فهم علمانيون شاملون وليسوا جزئيين، باعتبار أن العلمانية الجزئية تفترض التعددية والنسبية. وهذا الفريق العلماني الشامل هو الذي أسَّس المنظمة الصهيونية العالمية، وهو الذي شيَّد المستوطن الصهيوني. وأهم ممثل له المؤسـسة العمـالية في إسـرائيل بأحـزابها ومسـتوطناتها وتنظيماتها.

4 ـ العلمانيون الجزئيون (أو الإنسانيون)

وهذا فريق صغير من اليهود الذين يرفضون الدين اليهودي، ولا يقبلون الصهيونية، أو يقبلون صيغة صهيونية يمكن تصنيفها على أنها صيغة علمانية جزئية، بمعنى أنها لا تبحث عن مسوغات لنفسها في الدين اليهودي ولا تخلع على نفسها أيَّ إطلاق ومن ثم فهي تقبل بقدر من المشاركة من العرب. وأهم من يمثل هؤلاء في إسرائيل جماعات صغيرة وشخصيات هامشية مثل حركة حقوق المواطن وأوري أفنيري وآربيه إلياف وشالويت ألوني.

والأيديولوجية الصهيونية تستبعد الفريق الأول تماماً وتستبعد الأخير بدرجات متفاوتة وتتوجَّه للفريق الثاني والثالث، وقد نشأ بينهم تحالف أو تفاهم منذ المؤتمر الصهيوني الأول، يستند أساسا إلى ما يسمى «الوضع الراهن».

اهــــتزاز الوضــــع الراهــــن

Destabilization of the Status Quo

«الوضع الراهن» عبارة تُستخدَم للإشارة للأمر الواقع الديني بين المستوطنين الصهاينة إبَّان حكم الانتداب. فعلى سبيل المثال، تتوقف المواصلات العامة يوم السبت، ولكن يمكن استخدام السيارات الخاصة أو التاكسيات، وتُغلَق الشوارع في الأحياء التي تقطنها أغلبية متدينة وتُترَك مفتوحة في الأحياء الأخرى. أما في مجال الزواج والطلاق فقد وضعت الصلاحيات المطلقة في يد مؤسسة القضاء الحاخامي التي يسيطر عليها المتدينون (وهو استمرار لنظام الملة العثماني والذي أبقت عليه سلطات الانتداب). وقد تم الاعتراف بالتعليم الديني المستقل، وهو ما يعني أن الدولة عليها أن تموِّله (وقد أصبح فيما بعد هو العمود الفقرى لتطور التطرف الصهيونى، ذى الديباحات الدينية). ولا تُعرَض أفلام سينمائية ابتداءً من يوم الجمعة مساءً، وإن كان يُصرَّح بلعب كرة القدم يوم السبت (على أن تباع التذاكر في اليوم السابق). وقد أرسل بن جوريون عام 1947 (باعتباره رئيس الوكالة اليهودية) خطاباً إلى زعماء أجودات إسرائيل وعد فيه بالحفاظ على الوضع الراهن. وقد تم أيضا اعفاء طلبه المعاهد الدينية من الخدمة العسكرية.

والعقد الاجتماعي الصهيوني يستند إلى قبول «الوضع الراهن» باعتباره الإطار المرجعي لكل العناصر التي تقبل المشروع الصهيوني (ولذا تُرفق اتفاقية الوضع الراهنبكل اتفاق ائتلافي منذ عام 1955). والتفاهم العملي يمكن أن ينصرف إلى التفاصيل والفروع ولكنه غير قادر على حل المشاكل المبدئية، ولذا فالعقد الاجتماعي الذي يستندإليه المجتمع الصهيوني عقد واه جداً مهدد بالتمزق دائماً وفي أية لحظة. وقد أشرنا إلى أن الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة تفترض أن اليهود شعب عضوي منبوذ ونافع يمكن توظيفه خارج أوربا لصالحها داخل إطار الدولة الوظيفية. وقد وُلدت الصهيونية على يد صهاينة غير يهود لا يكترثون باليهود وينظرون إليهم من الخارج باعتبارهم مادة استيطانية. ثم انضم إليهم صهاينة يهود غير يهود يشاركونهم عدم الاكتراث هذا. ثم ظهر دعاة الصهيونية الإثنية العلمانية الذين هوَّدوا الصيغة عن طريق إدخال مصطلحات الحلولية اليهودية العضوية على الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة، ونادوا بالقومية اليهودية. لكن القومية، بالنسبة إليهم، تستند في نهاية الأمر إلى قراءة صهيونية لما يسمونه «التاريخ اليهودي» تثبت وجـود شعب يهودي متميِّز مستقل. ولا تُعدُّ كُتب اليهود المقدَّسة مـن هذا المنظور سوى جزء من فلكلور هذا الشعب وتاريخه. ولذا، فإن القومية اليهودية قومية مقدَّسة، ولكنها مختلفة عن الدين اليهودي ومستقلة عنه، بل معادية له أحياناً. ثم كان هناك الجيب الصغير من الصهاينة الإثنيين الدينيين، وقد افـترض هـؤلاء منذ البداية أن الدين هو القومية وأن القومية هي الدين. وهكذا، فبدلاً من القومية بلا دين على طريقة هرتزل (والغرب عامة بعد عصر الإعتاق والاستنارة)، أو القومية بدلاً من الدين على طريقة آحاد هعام (والقومية العضوية الألمانية السلافية)، نصل إلى القومية كدين والدين كقومية على طريقة الشرق الأدنى القديم (الحلولية الوثنية). ولعل أهم مفكري هذا التيار هو الحاخام كوك صاحب الفكر الصهيوني الحلولي الذي هاجم من سماهم «الانشطاريين»، أي الذين يفصلون الدين عن القومية.

وقد حاولت اليهودية الحاخامية محاصرة النزعة المشيحانية الحلولية بأن جعلت العودة منوطة بالأمر الإلهي، فكأنها استعادت شيئاً من الثنائية التوحيدية بدلاً من الواحدية الحلولية. ولكن الصهيونية الإثنية الدينية حطمت السدود الحاخامية الأرثوذكسية وبعثت النزعة الحلولية. ورغم أن مارتن بوبر يُعَد من أتباع الصهيونية الإثنية العلمانية، إلا أن مصطلحه الصهيوني ديني صوفي حلولي عضوي إلى أقصى درجة، إذ يلغي الازدواجيات والحدود ويؤكد أن إسرائيل شعب وأن القومي والمقدَّس يتداخلان في حالته تداخلاً تاماً. ولقد تلقَّى إسرائيل الشعب وحياً دينياً في سيناء، ولكن روح هذا الدين هي روح قوميته. ولا يختلف الوحي الذي تلقاه موسى من الرب عن الروح القومية للشعب. وهكذا يذوب الشعب في الإله ليكوِّنا كلاًّ واحداً غير متمايز، فلقد حل المطلق في النسبي حلولاً كاملاً، كما ابتلع النسبي المطلق ابتلاعاً كاملاً، ولذلك فإن في وسـع اليهـودي أن يعي الإله بأن يعي نفسه، أو كما قال الحاخام كوك: "إن روح إسرائيل وروح الإله هما شيء واحد".

وكما أسلفنا تعايش التياران جنباً إلى جنب: التيار الحلولي الديني (القومية كدين والدين كقومية)، والتيار الحلولي العلماني (القومية كدين)، وتقبلا سياسة الوضع الراهن، وكان من الممكن أن يستمر التياران في التعايش إلى ما لا نهاية، فالخطاب الصهيوني المراوغ كان كفيلاً بذلك. ولكن قبول الوضع الراهن كان مجرد تفاهم عملي، ولم يكن مبدئياً بأيِّ شكل من الأشكال تتحكم فيه توازنات القوى بين الفريقين الديني والعلماني واللاديني.

وقد ظل الوضع الراهن قائماً لمدة سنوات طويلة، ودخلت الأحزاب الدينية كل الائتلافات الوزارية التي حكمت إسرائيل، وقنعت بدور التابع الذي يقنع بقطعة من الكعكة. ولكن مع تزايد علمنة المجتمع الصهيوني وعلمنة يهود العالم وتصاعد الخطاب الديني وزيادة عدد الصهاينة من دعاة الديباجات الدينية وظهور مشكلة اجراءات اليهود زادت حدة الاستقطاب في المجتمع الصهيوني بين الدينيين والعلمانيين. ومن الأمثلة على ذلك الموقف من طلبه المعاهد الدينية، فعند إعلان الدولة، وحين تم اعفاءهم من الخدمة العسكرية، كان عددهم لا يتجاوز 400، ولكن عام 1997 كان عددهم يزيد عن29.000. وهذه الألوف لا تعمل، فهم طلبه وحسب، أى أن نسبة كبيرة منالمستوطنين أصحاب الديباجات الدينية يعيشون على نفقة دافع الضرائب الإسرائيلي. ولذا أشار لهم أحد كبار العلمانيين في إسرائيل بأنهم «طفيليين»، وهي كلمة لها مدلول خاص في المعجم الإسرائيلي، فكان يستخدمها أعداء اليهود للإشارة لهم. وقد قال شيمون بيريز حين هُزم في الانتخابات: «لقد هزم اليهود الإسرائيليين»، كما لو كان هناكفريقان يتصارعان في إسرائيل: «يهود متيدينون» ضد «إسرائيليين علمانيين»، والفريق الأخير ليس «يهوديا».

واحتكار المؤسسة الدينية لعمليات الزواج والدفن يثير حفيظة العلمانيين. فالمهاجرون اليهود السوفييت (وعدد كبير منهم «غير يهودى» حسب التعريف الأرثوذكس)، لا يمكنه أن يتزوج فى إسرائيل أو يدفن حسب الشريعة اليهودية فيها وقد أُخرج جثمان أحدهم بعد خمس أعوام من دفنه حين شكّت المؤسسة الحاخامية فى يهوديته. كما أن أحد المستوطنين من أصل سوفييتى لقي حتفه بعد إحدي الهجمات الاستشهادية الفلسطينية، ومع هذا لم يتم دفنه في مقبرة يهودية.

كل هذا أدي إلي أن حوالي نصف الإسرائيليين يري أن الموقف المتأزم من العلمانيين والمتدينين سيؤدى إلي نشوب حرب أهلية. وقد قال الحاخام حاييم ميلر إن الحل هو الفصل بين الفريقين منها للاشتباك بينهما.

الأصوليــة اليهـــودية

Jewish Fudmentalism

كلمة «أصولية» هي ترجمة حرفية لكلمة فاندا منتاليزم Fundamentalism، وهي مأخوذة من كلمة فاندمنت Fundament التي تعني «الأساس» أو «الأصل» (من اللغة اللاتينية، كلمة «فاندا منتم» Fundamentum تعني «أساس»).

وكلمة «أصولية» الإنجليزية استُخدمت أول ما استخدمت في سياق مسيحي وتعني «حركة بروتستانتية أمريكية» تهدف إلى إعادة تأكيد بعض ما يتصور أنه عقائد ثابتةوأصلية مسيحية مثل قدسية الكتاب المقدَّس وأنه صائب تماماً (بل قد ارتبطت كلمة «أصولية» بالتفسير الحرفي والمباشر لنصوص الكتاب المقدس)، والإيمان بالمعجزات (وخصوصاً الحمل بلا دنس) والبعث الجسدي للمسيح. ثم طبقت هذه الكلمة على الاتجاهات التجديدية في الإسلام ثم الحركات الدينية المتطرفة في اليهودية. و«الأصوليات» الثلاث مختلفة تمام الاختلاف في مضمونها واتجاهها.

وعبارة «الأصولية اليهودية» تُستخدم في الخطاب السياسي العربي والغربي للإشارة إلى شكل من أشكال التطرف الديني عادةً «الأرثوذكسي» (وتترجم كلمة «أصولي» أحياناً إلى كلمة «متزمت» أو «متشدد» أو «متطرف» مما يعني ترادف كل هذه المصطلحات مع لفظ «أرثوذكسي». وهذا خلل ناجم عن تطبيق مصطلح ديني، ثم اقتراضه من نسق ديني ما ثم تطبيقه على نسق ديني آخر).

ويرى مستخدمو هذا المصطلح أن هذه الأصولية تعود إلى الحاخام أبراهام كوك (الذي كان يشغل منصب الحاخام الإشكنازي في فلسطين) وأنها مستمرة حتى هذه الأيام (على يد ابنه الحاخام تسفي كوك وغيره)، بل إنها آخذة في التنامي. فقد بلغ عدد أعضاء الكنيست «الأصوليين»، أي ممثلي الأحزاب الدينية (المفدال وديجيل هاتوراه وشاس) 23 عضواً (مقابل 16 عضواً في الكنيست السابق) من مجموع 120 عضواً. وتُعد هذه أكبر نسبة في تاريخ إسرائيل السياسي.

وهذا التيار الديني أصبح بمقدوره التحكم في رئاسة الحكومة وإسقاط الحكومات. ولا يمكن تشكيل أية حكومة دون مشاركته (رغم أن أعضاء هذا التيار غير معنيين بالسياسة بالمعنى الضيق للكلمة فهم يهتمون بميزانيتهم بالدرجة الأولى) وهم يستأثرون بوزرارات المستقبل (التعليم ـ الإسكان ـ الأراضي ـ المهاجرون ـ الأديان) ويتحكمون في وزارة حيوية مثل وزارة التعليم، ويُقال إنهم أصبح لهم نفوذ كبير داخل الجيش. فهناك حاخامية عسكرية تتولَّى مهمة التوجيه الفكري والديني داخل القوات المسلحة، وهي تباشر كل شئون الأحوال الشخصية المتعلقة بالعسكريين، وتشرف على المدارس العسكرية الدينية، وتخرِّج أجيالاً مسكونة بالكراهية المطلقة للعرب، كما تتولى الحاخامية إصدار الفتاوى التي تضفي القداسة على الممارسات والجرائم التي يرتكبها الجنود ضد العرب. وقد أوصل هذا التغلغل داخل الجيش عدداً غير قليل من الضباط الأرثوذكس إلى مراتب عليا.

وفي استطلاع أجرته صحيفة يديعوت أحرونوت قال 47% من الإسرائيليين أنهم يتوقعون حدوث حرب أهلية بين المتدينين والعلمانيين اليهود (وقد تكون هذه مبالغة، ولكنها «مبالغة دالة» إن صح التعبير). ودعاة الأصولية اليهودية يقفون الآن بمنتهى الحزم والشراسة ضد أي انسحاب من الضفة والجولان ومع الاستيطان وطرد العرب، وهم مستعدون للذهاب في سبيل الدفاع عن موقفهم هذا إلى أبعد مدى. ولا تنس أنهم يعتبرون باروخ جولدشتاين منفذ مجزرة الحرم الإبراهيمي قديساً ومثلاً أعلى يجب الاحتذاء به.

والأطروحات الأساسية لهذه «الأصولية» ـ حسب تصوُّر من يستخدمون هذا المصطلح ـ كما يلي:

1 ـ إنشاء دولة إسرائيل هو تجسيد للحلم التوراتي اليهودي القديم، رغم أن الحركة الصهيونية نفسها، المؤسسة للكيان الصهيوني، لم تكن حركة دينية، وإنما كانت أيديولوجية سياسية علمانية، ورغم أن الآباء المؤسسين (الحرس القديم) مثل بن جوريون وإيجال آلون، كانوا ملحدين في حياتهم، علمانيين في طرق تفكيرهم. ويسمي كوك هذه الظاهرة (وعد ديني يتحقق على يد علمانيين) «الانشطارية». ولذا بينما يرفض الأصوليون هذا الطابع العلماني للدولة، فإنهم يقبلون بفكرة الدولة اليهودية نفسها (على عكس ناطوري كارتا التي ترفض فكرة الدولة من أساسها).

2 ـ لا يمكن الثقة في الأغيار، بأي شكل، وأرض إسرائيل الكبرى هي أرض يهودية، ولابد للدولة اليهودية أن تعتمد على نفسها وحسب (رغم كل المساعدات الخارجية التي تصب فيها). ولذا لا يفهم أعضاء هذا اليمين الديني الموازنات الدولية حق الفهم. وهم يتصورن أنه لا يمكن عقد سلام مع العرب، بل يجب طردهم أو تهجيرهم. ولذا نجد أن الأغلبية الساحقة لهؤلاء المستوطنين من أصحاب الديباجات الدينية يقضون ضد أى تنازل عن الأرض اليهودية.

وهذه المقولات ليست بالضرورة مقولات دينية ويمكن لأي حزب علماني أن يتبناها. وبالفعل نجد أن اليمين (المؤيد لنتنياهو) يضم في صفوفه متدينين قوميين وعلمانيين. فهو يضم (كما أسلفنا) أحزاب دينية مثل حزب المفدال وشاس وديجيل هاتوراه، ولكنه يضم أيضاً أحــزاب موليــديت وإســرائيــل بعاليـاه وتسوميت. وحزب إسرائيلبعالياه هو حزب الصهاينة المرتزقة، أي المهاجرين السـوفييت الراغبين في تحسين مستواهم المعيشي، أما حزب تسوميت، فهو حزب صهيوني لا ديني. ولا يمكن الحديث عن نتنياهو أو عن جيله بأســره، باعتـباره متـديناً. ولكل هذا نجد صعوبة بالغة في استخدام هذا المصطلح، نظراً لعدم دلالته وتفسيريته.

ولابد من القول بأن الخاصية الجيولوجية التراكمية لليهودية تبرر الشيء وعكسه، فهي على سبيل المثال تبرر الاستيلاء على الأرض وعلى إعادتها للعرب (في سبيل الحفاظ على النفس اليهودية "بيكوح نيفيش"). كما يمكن القول بأن اليهودية الحاخامية حاولت، بشكل عام، محاصرة النزعة المشيحانية ولذا جعلتها منوطة بمشيئة الإله، والعودة الشخصية الفعلية (دون انتظار أوامر الإله وتعاليمه) يُعد ارتكاباً لخطيئة «دحيكات هاكتس»، أي «التعجيل بالنهاية» ولذا فالأرثوذكسية تبرر «العودة» وتحرمها في آن واحد. ورغم التأييد الأرثوذكسي للاستيلاء على الأرض فقد أحجم الحاخام شنيرسون عن إتمام رحلته إلى فلسطين قائلاً: "في السماء شهودي، لو كان الأمر بيدي لحثثت الخطى إلى هناك [إلى فلسطين] كالسهم حينما يخرج من قوسه" ولكنه لم يفعل، خشية أن يفسر الصهاينة رحلته هذه على أنها قبول لرؤيتهم، كما أن الحاخام هيرش، زعيم الناطوري كارتا، امتنع عن زيارة حائط المبكى، رغم أنه كان يعيش على بُعد خطوات منه.

التطــرف اليهــودي

Jewish Extremism

«التطرف اليهودي» مصطلح يُستخدم، خطأ، في الخطاب السياسي العربي والغربي للإشارة إلى «الأصولية اليهودية» أو إلى «اليهودية الأرثوذكسية». ويتحدث الإعلامأحياناً عن «المتطرفين اليهود» بمعنى «اليهود الأرثوذكس».

اليهودية المتزمتة

Rigid Judaism

«اليهودية المتزمتة» مصطلح يُستخدم، خطأ، في الخطاب السياسي العربي والغربي للإشارة إلى «الأصولية اليهودية» أو إلى «الأرثوذكسية اليهودية». ويتحدث الإعلام أحياناً عن «المتزمتين اليهود» بمعنى «اليهود الأرثوذكس».

اليهودية المتشددة

Rigid Judaism

«اليهودية المتشددة» مصطلح يُستخدم، خطأ، في الخطاب السياسي العربي والغربي للإشارة إلى «الأصولية اليهودية» أو إلى «الأرثوذكسية اليهودية». ويتحدث الإعلامأحياناً عن «المتزمتين اليهود» بمعنى «اليهود الأرثوذكس».

أزمة الصهيونية الإثنية العلمانية وتصاعـد الديباجات الدينية

Crisis of Ethnic Secular Zionism and the Escalation of Religious Apologetics

رغم تزايد معدلات العلمنة في المجتمع الإسرائيلي ورغم اهتزاز الوضع الراهن إلا أنه لوحظ تَصاعُد الديباجات الدينية في إسرائيل. ولتفسير هذه الظاهرة يمكن أن نشير إلى ما قاله هارولد فيش أستاذ الأدب الإنجليزي، أحد أهم منظري الصهيوني الإثنية الدينية الجديدة الذي هاجر إلى إسرائيل عام 1958، حيث درس في جامعة بار إيلان وأسَّس معهد اليهودية والفكر الحديث.

1 ـ يرى هارولد فيش أن من أهم التحولات التي طرأت على المجتمع الإسرائيلي تآكل المؤسسات المختلفة التي يُقال لها «اشتراكية» والتي كانت تهيمن على الحياةالاقتصادية والسياسية والاجتماعية في إسرائيل. فالكيبوتسات نفسها انكمش حجمها بالنسبة إلى الاقتصاد القومي وتحولت عن الزراعة إلى الصناعة واستخدمت العمالةالعربية، وتحوَّل أعضاء الكيبوتس أنفسهم إلى ما يشبه المديرين ورجال الأعمال. كما أن الطبيعة الاستعمارية للدولة الصهيونية، وتحالفها مع الإمبريالية الغربية وجنوبأفريقيا، زادا وضـوحاً وذيوعاً. وقد أدَّى هذا إلى تآكل الديباجة الاشتراكية، إذ أصبحت فارغة من المعنى يتمسك بها الإشكناز وأولادهم وهم يتمتعون بمستويات معيشيةعالية داخل الكيبوتسات الاشتراكية التي يتم تمويلها من الولايات المتحدة والتي كانت تصدِّر منتجاتها إلى جنوب أفريقيا!

2 ـ مما زاد عملية التآكل، وصول يهود البلاد العربية الذين لم تحقق لهم الصهيونية العمالية مستوى معيشياً مرتفعاً بقدر ما سلبتهم هويتهم الحضارية ودفعت بهم إلى أدنى درجات السلم الاجتماعي (فوق العرب مباشرةً!).

3 ـ ثم جاء اليهود السوفييت الهاربون من النظام الاشتراكي، الباحثون عن النعيم الاستهلاكي، الذين لم يكونوا على أدنى استعداد لأن يمضوا في اللعبة الصهيونيةالاشتراكية.

4 ـ كان المعسكر العمالي اللاديني هو المعسكر المهيمن على المشروع الصهيوني منذ العشرينيات، إذ كانت مؤسساته القوية الضخمة (الهستدروت والكيبوتس) هي المهيمنة. ولكن هزيمة 1973 أفقدته كثيراً من شرعيته، وأصبح بإمكان معسكر الليكود (الصهيونية ذات الديباجة اليمينية) أن يطرح نفسه كبديل. ثم نجح بالفعل في الوصول إلى الحكم عام 1977. ورغم أن زعماء الليكود هم أنفسهم لا دينيون، إلا أنهم زادوا جرعة الاعتذاريات الدينية الصهيونية حتى يمكنهم اجتذاب اليهود السفاردواليهود العرب الذين لا يزال الدين يلعب دوراً كبيراً في حياتهم.

5 ـ أصبح المجتمع الصهيوني مجتمعاً متسيباً من الناحية الأخلاقية ويعود هذا بغير شك إلى أنه مجتمع مستوطنين مهاجرين. ومثل هذه المجتمعات تتسم بالتفكك والتسيب الخلقي لأسباب كثيرة ليس هنا مجال حصرها. ولعل اعتماد المجتمع الإسرائيلي على السياحة (وفي تصوري أن السائح باعتباره شخصاً مُقتلَعاً باحثاً عن المتعة العابرة لقاء أجر، عنصر مدمر من الناحية الأخلاقية والاجتماعية) ساهم هو الآخر في زيادة التفكك والتسيب. ثم كان للسياسات الاقتصادية التي تبناها الليكود في أوائل الثمانينيات (كجزء من حملته الانتخابية) والتي تشبه من بعض الوجوه سياسات الانفتاح في مصر ـ بتشجيعه الاستيراد الاستهلاكي ـ أعمق الأثر في زيادة حدة السعار الاستهلاكي وما يصاحبه من توجهات اجتماعية ضارة. مهما كان السبب فالمحصلة النهائية هي أن المجتمع الإسرائيلي ـ كما يقول أمنون روبنشتاين في كتابه العودة للحلم الصهيوني ـ أصبح من أكثر المجتمعات انحلالاً في العالم، ولا يوجد أيُّ نوع من أنواع الانحرافات الجنسية إلا ويُمارَس فيه.

6 ـ لا يمكن فصل الصهيونية عن التوسع وضم الأراضي، وبعد عام 1967 تم ضم أراض شاسعة كان على الصهاينة استعمارها. وقد تمت حركة الاستعمار الاستيطاني في الضفة الغربية تحت رايات الديباجة الدينية. فمعظم المستوطنين في الضفة الغربية من المتدينيين لأن العلمانيين فقدوا الرغبة في الدفاع عن المُثُل الصهيونية العلمانية، وقد اسبغ هذا الكثير من الشرعية على المؤسسة الدينية.

7 ـ استخدام الاعتذاريات الصهيونية العلمانية (الصهيونية كحركة تحرُّر وطني للشعب اليهودي ـ الصهيونية كحركة بَعْث اشتراكي) أصبح أمراً صعباً جداً مع تزايد قمع الشعب الفلسطيني، ولذا لم يكن هناك مفر من استخدام اعتذاريات دينية مغلقة.

8 ـ وأخيراً هناك أزمة الأيديولوجية الصهيونية العامة، فيجب ألا نسقط من اعتبارنا الأزمة العامة التي تعيشها المجتمعات العلمانية في الغرب، فهي مجتمعات اكتشفت إفلاس مبدأ اللذة والمنفعة (التي تستند لها فلسفة الحكم في هذه الدول) وظهر ما يُطلَق عليه أزمة المعنى، فالفرد في مجابهة العزلة والشيخوخة والمشاكل الشخصية والموت لا يقنع بالتفسير النفعي أو ما شابه من تفسيرات مادية أخرى. ويبحث عن إجابات أكثر عمقاً وإنسانية للأسئلة التي تطرحها عليه تجربته الشخصية والحياتية في هذا الكون.

كل هذا أدَّى إلى إفلاس الصهيونية الإثنية العلمانية وحسب تصوُّر هارولد فيش، فإن الموقف يتلخص في هذه الكلمات: "ثمة أزمة روحية مركبة تؤثر في المجتمع الإسرائيلي العلماني، فكثيرون من أتباع جوردون يبحثون عن الوظائف... كما أن هناك بين أبناء الرواد الاشتراكيين قدر متزايد من التقليد الرخيص لحضارة الغرب، والعدمية في الأدب والفنون، والتلاعب بالمال العام من أجل الربح الخاص. وبين أبناء اليهود الأتقياء، الذين أتوا من الأحياء اليهودية في الدار البيضاء ومراكش، قدر متزايد من جرائم العنف وإدمان المخدرات. فعندما وصلوا (وهم أطفال) في بداية الخمسينيات، حرمهم المجتمع العلماني من حقهم الطبيعي الروحي وأعطاهم بضائع رخيصة في المقابل".

لكل هذا، بدأت المؤسسة الدينية الصهيونية تطرح نفسها كبديل وتبدي استعدادها للإمساك بزمام القيادة، ولم تَعُد تقنع بدور الشريك الضعيف، وعلى كلٍّ، إذا كانت إسرائيل دولة يهودية حقاً كما تدَّعي، فمَن أحق بالحديث باسمها وإدارتها من المتدينين الصهاينة الذين يرفعون لواء الدين القومي والقومية الدينية ويُعرِّفون اليهودي تعريفاً يحلمشكلة المعنى بالنسبة له ويسوِّغ وجوده في فلسطين في خط النار داخل الحروب المتكررة. فالشعب المختار ـ حسب تفسيرهم ـ شعب كُتبت عليه مجابهة الأغيار، ولا يمكنأن يقنع بالحياة الرخوة اللينة (التي يبشر بها اللادينيون(.

صهينة العناصر الدينية الأرثوذكسية بعـد عام 1967

Zionization of the Orthodox Elements after 1967

بعد احتلال ما تبقى من فلسطين في حرب يونيه 1967، طرأ تحوُّل على مواقف معظم الأحزاب الدينية الصهيونية وغير الصهيونية من اعتبار هذه الحرب معجزة وإشارة ربانية إلى اعتبارها بداية الخلاص، وفي الأوساط الدينية غير الصهيونيةانطلق الصوت الجديد من الولايات المتحدة، موطن زعيم حركة حبد، الحاخام شنيرسون. ويتلخص الموقف الجديد بالقول بأنه صحيح أن دولة إسرائيل بوصفها كياناً صهيونياً تعبير عن الكفر والتمرد على إرادة الله، ولذلك فهي بالتأكيد ليست تعبيراً عن الخلاص، لكن، ومن ناحية أخرى، فإن أرض إسرائيل بسيادة يهودية تنطوي على مغاز ذات أهمية. ولذلك تدعو هذه الحركة إلى عدم التنازل عن أيٍّ من الأراضي التي احتُلت عام 1967، وذلك من منطلق أحكام الشريعة الدينية.

لقد تأثر هذا الموقف منذ البداية بما سمي «المعجزات والإشارات السماوية» التي تجلت بالانتصارات في الحروب المختلفة، وخصوصاً حرب 1948 وحرب 1967. وقد اعتمد قسم من هذا التيار، في تأكيده عدم قدسية إسرائيل، على الفارق بين دولة إسرائيل وأرض إسرائيل، وعلى ذلك الجزء بالذات الذي لا يمثل مكاناً مهماً في التقاليد الدينية اليهودية. لكن، بعد احتلال عام 1967، زال الفارق عملياً، وأصبح هناك تطابق بين أرض إسرائيل وهي مفهوم ديني وبين دولة إسرائيل وهي مفهوم سياسي علماني،وزاد اقتراب اتباع هذا التيار تدريجياً من الأوساط اليمينية في إسرائيل، أو لوبي أرض إسرائيل كما تُسمِّي هذه الأوساط نفسها. ومع أن هذا التيار ما زال غير صهيوني بالمعنى التقليدي، إلا أن تحوُّل أرض إسرائيل إلى قيمة دينية في نظره، جعله يقترب كثيراً من مواقف جوش إيمونيم.

أما التيار الثاني القديم الجديد، فهو التيار الذي تمثله المدارس الدينية الليتوانية بزعامة الحاخام إليعازر مناحم شاخ، وهو الآن شخصية متميزة في عالم المتدينين اليهود. وقد ساهم الحاخام شاخ بعد انشقاقه عن مجلس كبار التوراة، السلطة الروحية لأجودات إسرائيل، في إقامة حزبين هما: حركة شاس التي قاسمه زعامتها الروحية الحاخامالشرقي عوفاديا يوسف، وحركة ديجل هتوراه (علم التوراة) التي لا ينافسه أحد في زعامتها حتى اليوم.

ينظر الحاخام شاخ إلى دولة إسرائيل نظرة برجماتية مغالية في برجماتيتها، لأنه ينزع عنها أية قيمة مقدسة؛ فلا هي بداية الخلاص كما تعتقد جوش إيمونيم، ولا هي مقدمة لبداية الخلاص إذا أحسن استخدامها، كما تدَّعي أوساط من أجودات إسرائيل، وليست أرض إسرائيل مقدسة بحد ذاتها. ويعتقد الحاخام شاخ بقدوم الماشيَّح، أي أن هناك جانباً مشيحانياً في تدينه. إلا أنه لا يرى أي عنصر مشيحاني في الواقع، فالواقع التاريخي يتطور بموجب منطقه الداخلي. والتوراة حافظت على الشعب اليهودي آلاف السنين، فهل نستبد بها شيئاً آخر، وبماذا؟ التوراة هي التي تحافظ على شعب إسرائيل، لا الدولة.

ينقسم العالم، في نظر الحاخام شاخ، إلى يهود وغير يهود (الأمم). والمقولة التلمودية والتوراتية: "عليك ألا تعجل النهاية وألا تتمرد ضد الأمم" تحمل، لدى هذا التيار، معاني محددة. فالتمرد ضد الأمم لا يعني أن على اليهود البقاء في منفاهم الجغرافي وألا يقيموا دولة يهودية، بل يعني أن تتعامل إسرائيل بحذر مع الدول العظمى ومع العرب، وعليها أن تكون مستعدة لتقديم تنازلات من أجل السلام، وهذا موقف يتبناه بشكل أكثر حدة الحاخام عوفاديا يوسف الذي يدعو إلى تفضيل "سلامة اليهود على سلامة أرض إسرائيل". لكن، ومن ناحية أخرى، فإن الحاخام شاخ يطرح أمام الصهيونية تحدياً جديداً هو وطنية يهودية تنظر إلى غير اليهود بريبة وحذر. فالصهيونية تحاول تحويل اليهود إلى أمة كباقي الأمم، لكنهم ليسو كذلك، فالأمم تترقب الفرصة للانقضاض على اليهود: "من البديهي أن يكره عيسو يعقوب" (مقولة من المدراش). وعلى اليهود أن يفوتوا الفرصة على غير اليهود؛ عليهم إذن أن يتصرفوا بحكمة وحذر وأن يتقنوا إجراء الحلول الوسط.

أزمــة الصهـيونيـة الإثنيـة الدينيـة

Crisis of Ethnic Religious Zionism

يرى دعاة الصهيونية الإثنية العلمانية أن أزمة المجتمع الصهيوني ليست كامنة فيه وإنما في وجود هذه الكتلة البشرية اليهودية المتمسكة بالعقائد الدينية الجامدة والآخذة في التكاثر. وهم يرون أن عصر النظام العالمي الجديد (وما بعد الحداثة) يتيح فرصة ذهبية أمام الدولة الصهيونية لتعقد تحالفات مع أعضاء النخب الحاكمة ضد الأصوليات الدينية، إسلامية كانت أم يهودية.

وهذا المنطق ينطوي على خلل أساسي، فالدعوة لإسرائيل الكبرى ـ على سبيل المثال ـ ليست مقصورة على المتدينين الجامدين، وإنما تضم عدداً كبيراً من الملاحدة، أو اليهود الإثنيين كما يسمون أنفسهم. وإيريل شارون ونتنياهو قد يرتدون غطاء الرأس اليهودي ولكنهم لا يؤمنون بالإله ولا يقيمون أبسط الشعائر اليهودية. وحينما يفعلون ذلك فإنهم يفعلونه من قبيل التمسك بالفلكلور. وحروب إسرائيل ومشروعها الاستيطاني تمت تحت ألوية الصهيونية الإثنية العلمانية، المتطرفة في علمانيتها.

دار الحاخامية الرئيسية في إسرائيل

Chief Rabbinate in Israel

أبرز المؤسسات الدينية في إسرائيل إلى جانب وزارة الشئون الدينية. أنشأتها حكومة الانتداب البريطاني عام 1921، لتحل محل مؤسسة الحاخام باشي العثمانية، وعهدت إليها بتصريف أمور الأحوال الشخصية لليهود المقيمين في فلسطين. وهي تتمتع بصلاحيات واسعة في الأمور المتعلقة بالزواج والطلاق والإرث والطعام والختان والدفن وإقامة شعائر السبت وكان أول رئيس للحاخامية الحاخام الصهيوني إسحق كوك.

وقد أُعيد تعريف سلطات وصلاحيات الحاخامية عام 1928. إذ قُسِّمت السلطة بين حاخام إشكنازي وآخر سفاردي يحمل لقب ريشون لتسيون: أي الأول في صهيون،باعتبار أن وجوده في فلسطين يسبق وجود الإشكناز. وكانت العضوية في مجلس الحاخامية مقسَّمة بين الإشكناز والسفارد بالتساوي. وقد عارض تأسيس الحاخامية كل من اليهود الأرثوذكس واليهود العلمانيون. فالأرثوذكس كانوا يرون أن الحاخامية تتلقى الأوامر من الزعامات الصهيونية العلمانية ومن ثم فهي تشكل خضوعاً للأيديولوجية العلمانية. أما العلمانيون فكانوا يخشون من تعاظم نفوذ الحاخامية ومن أنها قد تتدخل في الحياة العامة وتفرض عليها طابعاً دينياً.

وقد استمرت الحاخامية في ممارسة صلاحياتها بعد تأسيس الدولة. وقد أصبح الحاخامان الأكبران هما أيضاً رئيسا المحكمة الحاخامية العليا. وترفض الحاخامية الخضوع للسلطات القضائية في الدولة كالمحكمة العليا (ومما يساعدها على مزيد من الهيمنة أن إسرائيل ليس لها دستور مكتوب). وتُسيطر على دار الحاخامية العناصر الأرثوذكسية التي قَبلت التعاون مع المؤسسة الصهيونية. أما اليهود المحافظون والإصلاحيون فهم غير مُمثَّلين فيها. وتُعَدُّ الأحزاب الدينية في إسرائيل بمنزلة الذراع السياسية لدار الحاخامية، وتدور دار الحاخامية (وكل المؤسسات الدينية) داخل إطار ما يُسمَّى «سياسة الوضع الراهن»، أي العرف السائد في فلسطين إبَّان حكم الانتداب البريطاني فيما يتصل بما يجب مراعاته من الشعـائر الدينية اليهودية في رقعة الحياة العامة، وما يمكن تجاهله.

وتفجر دار الحاخامية من آونة لأخرى بعض التناقضات الكامنة في الأطروحات التي تستند إليها الدولة الصهيونية. فالصهاينة يفترضون وحدة اليهود. ولذا، فحينما تشكِّكالحاخامية في يهودية بني إسرائيل من الهند والفلاشاه من أثيوبيا فإنها تهز هذه الوحدة من جذورها. وحين ترفض الاعتراف بالحاخامات الإصلاحيين والمحافظين، وبعمليات التهود التي يشرف عليها هؤلاء الحاخامات، وحينما تُصر على التحقق من الأصول اليهودية للمهاجرين السوفييت فإنها تخلق توترا بين الدولة الصهيونيةوالأغلبية الساحقة من يهود العالم، وتُعيد طرح السؤال الذي لا يريد أن يتوارى، أي من هو اليهودي؟ كما أنها تعمق الانقسامات داخل إسرائيل نفسها بين أصحاب التعريف العلماني لليهودي وأصحاب التعريف الديني القومي، فهي تُصر على التمسك بسياسة الوضع الراهن وعلى إقامة بعض الشعائر وتُحارب الإباحية المتزايدة في المجتمع الصهيوني، الأمر الذي يثير حنق العلمانيين، وخصوصاً أن الإباحية والانفتاح مرتبطان تماماً بالقطاع السياحي وهو من أهم القطاعات في المجتمع الصهيوني. ويحاول العلمانيون داخل إسرائيل، واليهود الإصلاحيون والمحافظون ـ داخلها وخارجها ـ تكوين تحالف مشترك ضد الحاخامية الأساسية والمؤسسة الدينية الأرثوذكسية.

أزمــة الهويــة اليهوديـة

Crisis of Jewish Identity

1 ـ من هو اليهودي؟:

لعل أولى الخطوات التي تتخذها أية حركة بعث قومي أو حركة تحرُّر وطني هي تحديد الـ «نحن» ومنْ «هم»، ومنْ يقع داخل نطاق الهوية ومنْ يقع خارجها. وهذه الخطوة ليست أكاديمية أو حماسية أو مجرد ديباجة تبريرية وإنما هي من صميم الفعل السياسي، إذ أنها خطوة ضرورية لصياغة المشروع، بجميع جوانبه الحضارية والسياسية والاقتصادية، وللتعريف بمن سيتم تجنيده ومن سيتم استبعاده، وتحديد الصديق والعدو، وحدود الدولة، وهويتها، وسكانها، ومن يحق له الهجرة إليها وهكذا. وقد طرحت الصهيونية نفسها باعتبارها حركة تحرير الشعب اليهودي ومرادفة للقومية اليهودية وبدأت من القول بأن اليهود شعب واحد يندرج داخله كل أعضاء الجماعات اليهودية وأن ثمة تاريخاً يهودياً واحداً يدورون جميعهم في إطاره. وانطلاقاً من هذا تقرَّر أن تؤسَّس الدولة اليهودية.

وقد نشب الصراع حول هذه الهوية اليهودية القومية الوهمية منذ البداية بين دعاة الإثنية الدينية (الصهيونية الدينية) ودعاة الإثنية العلمانية (الصهيونية الثقافية) وكان مركز الصراع مصدر يهودية اليهودي (الخالص المقدَّس) هل هو التطور التاريخي والتراث اليهودي والانتماء العرْقي، أم الاختيار الإلهي والتاريخ اليهودي المقدَّس؟ كما نشب صراع بين يهود الشرق والغرب وطُرح سؤال: هل اليهودي هو اليهودي الإشكنازي الأبيض وحده، أم أن مقولة اليهودي تشمل يهود العالم كافة متضمنة بذلك السفارد والفلاشاه؟ وأرجئ حسم الخلاف، واتفق الجميع على الإشارة مؤقتاً لكل الجماعات اليهودية بكل تنوُّعها الحضاري وانعدام تجانسها العرْقي على أنهم "اليهود" أو "الشعب اليهودي" بشكل عام مطلق مع التزام الصمت تجاه رقعة الخلاف. وقد ظلت حالة اللاحرب واللاسلم الهلامية سائدة حتى إقامة الدولة حين أُصدر قانون العودة الذي يعطي لأيِّ يهودي الحق في الاستيطان في فلسطين استناداً إلى "يهوديته" التي لم يتم تعريفها! وبذا تم وضع قضية الهوية (بل قضايا أخرى مثل "الشخصية اليهودية" و"وحدةالشعب اليهودي") على المحك.

وقد يقول قائل إن هذه الإشكالية هي من "مخلفات الماضي"، وأنها من الأمور الشكلية غير العملية التي لا تمس الجوهر، ولن تؤثر في سلوك المستوطن الصهيوني من قريب أو بعيد. ولكن مثل هذا القول سيكون من قبيل تطبيع النسق السياسي الصهيوني، أي النظر إليه كما لو كان نسقاً سياسياً طبيعياً وليس كياناً استيطانياً إحلالياً له ظروفه الخاصة التي تحدد طبيعته الخاصة. فتعريف اليهودي مسألة أساسية للعقد الاجتماعي الصهيوني للأسباب التالية:

أ) إذا كان تعريف المسيحي في الولايات المتحدة مسألة شكلية، فإن هذا يعود إلى أن حكومة الولايات المتحدة لا تبحث عن شرعية مسيحية. ذلك أن مصادر شرعيتها تقع خارج نطاق الديانة المسيحية، بل ربما خارج التراث المسيحي ككل. أما الدولة الصهيونية فهي تدَّعي أنها يهودية وأنها تجسد قيماً (إثنية دينية أو علمانية) يهودية، وأنها استمرار للدولة اليهودية القديمة (ولذا يطلق الصهاينة على إسرائيل اصطلاح «الهيكل الثالث»). وانطلاقاً من هذا، تطلب الصهيونية من اليهود الالتفاف حولها ودعمها، وباسم هذه الهوية اليهودية المزعومة تقوم أيضاً بضم الأراضي. لكن الفشل في تعريف اليهودي يضعف مقدراتها التعبوية ويضرب أسطورة الشرعية في الصميم.

ب) تدَّعي الدولة الصهيونية أنها دولة كل اليهود في أنحاء العالم. ومن المعروف أن المؤسسة الدينية في إسرائيل تصر على أن التهويد يجب أن يتم على يد حاخام أرثوذكسي، وهذا يعني في واقع الأمر استبعاد أكثر من 80% من يهود العالم الذين يعرِّفون اليهودي على أسس لادينية أو لا يقبلون اليهودية الأرثوذكسية. فأغلبية يهود الاتحاد السوفيتي قد تحولوا إلى يهود إثنيين، أو يهود غير يهود، والمهاجرون منهم حينما يصلون إلى إسرائيل يواجهون الكثير من المتاعب بسبب إصرار المؤسسة الأرثوذكسية على تعريفها. كما أن كثيراً منهم طرف في زيجات مُختلَطة (أي من غير اليهود)، وبالتالي لا تعترف المؤسسة الأرثوذكسية بأولادهم يهوداً. أما يهود الولايات المتحدة، فإن أعداداً كبيرة منهم من الإصلاحيين والمحافظين الذين لا يعترف الأرثوذكس بيهوديتهم.

جـ) في أيامها الأولى، عرَّفت الصهيونية اليهودي على أنه اليهودي الأبيض (أي الإشكناز). وهي في هذا كانت متسقة تماماً مع نفسها، فقد كانت تقدِّم نفسها على أنها تجربة تتم داخل إطار التشكيل الاستعماري الغربي. ولكن، نظراً لملابسات الاستيطان نفسها ونظراً لطبيعة التكوين الإثني للمهاجرين، تم إخفاء هذا التعريف، الذي يعادل بين اليهودي والإشكنازي، عن الأنظار. ولكن إخفاءه عن الأنظار (أي اللجوء إلى الحل المراوغ) لا يحل المشكلة إذ أن القضية تثار بدرجات متفاوتة في الحدة. فالرؤية الكامنة التي توجِّه الدولة الصهيونية لا تزال أولاً وأخيراً رؤية إشكنازية تحاول القضاء على الأشكال الحضارية الشرقية التي أحضرها اليهود الشرقيون معهم (من السفارد واليهودالعرب ويهود البلاد الإسلامية). وقد أدَّى وصول الفلاشاه إلى طرح القضية مرة أخرى، إذ لم تعترف دار الحاخامية بيهوديتهم وطلبت منهم أن يتهودوا، كما أن لونهم الأسود قد أثار العنصرية البيضاء القديمة بين الإشكناز.

د) ومما يزيد مسألة الهوية تعقيداً، ظهور هوية إسرائيلية جديدة بين جيل الصابرا من الإشكناز تتسم بسمات عديدة من بينها احتقار عميق ليهود العالم (وعقلية المنفى) وعدم الاكتراث بالقيم التي يُقال لها «يهودية» في القول الصهيوني. ومن هنا، كان وصف عالم الاجتماع الفرنسي جورج فريدمان للصابرا بأنهم "أغيار يتحدثون العبرية"، ويجد البعض صعوبة بالغة في تصنيف هوية هؤلاء على أنها "يهودية". هذا وتشهد الدولة الصهيونية تصاعداً حاداً في مستويات التهويد والعلمنة الأمر الذي يعمق من حدة التناقضات.

كل هذه العناصر والتوترات والتناقضات، تجعل من العسير على اليهود أنفسهم تصديق مقولة الشعب اليهودي الذي يتجاوز الأزمنة والأمكنة ويتسم بجوهر عضوي يهودي أزلي، تلك المقولة التي تنطلق منها الأيديولوجيا الصهيونية. فالفعل أثبت أنه لا يوجد جوهر واحد أو وحدة عضوية وإنما سمات عديدة متنوعة بتنوع التشكيلات الحضارية والتاريخية التي عاش فيها اليهود.

إن قضية تعريف اليهودي، إذن، ليست قضية دينية أو سياسية، وإنما هي قضية مصيرية تنصرف إلى رؤية العالم والذات والأساس الذي يستند إليه تضامُن المجتمعومصدر الشرعية فيه.

2 ـ اليهود الشرقيون:

أسس الإشكناز الجيب الصهيوني من خلال خلايا زراعية عسكرية متناثرة على أرض فلسطين، ثم قامت بالاستيلاء عليها وطَرْد سكانها حينما سنحت الفرصة وأعلنت قيام الدولة الصهيونية ـ ولكن الدولة شيء والمجتمع شيء آخر. وحتى يتم تأسيس مجتمع متكامل، كان لابد أن يضم مادة بشرية جديدة لشغل قاعدة الهرم الإنتاجي، ليصبحوا عمالاً وفلاحين يقومون بالأعمال الإنتاجية ـ ومن هنا كان تهجير اليهود العرب بالوعد أحياناً (اليمن) وبالوعيد أحياناً أخرى (العراق). وقد نجح الصهاينة في إنجاز هذا الجزء من مخططهم، إلى حدٍّ بعيد، بسبب عمالة بعض الحكومات العربية وجهل بعضها الآخر.

وقد كانت الأمور مستقرة وهادئة داخل الكيان الصهيوني حتى عام 1967. وكان الهرم المقلوب قد وقف على قاعدته من خلال يهود البلاد العربية، وتربَّع على قمته يهود البلاد الغربية الذين كانوا يديرون الأمور ويستخدمون اليهود السفارد والشرقيين كعمالة رخيصة وأداة لضمان دوران دولاب العمل، وجعل هؤلاء يهللون بأن الهرم اليهودي تم تطبيعه مع أن قاعدته كانت سفاردية وشرقية وقمته إشكنازية غربية. ولكن، مع دخول العمالة العربية بعد عام 1967، ومع تزايد الثروات التي صبت في التجمع الصهيوني، حقق اليهــود الشرقيـون شـيئاً من الحراك الاجتماعي، وتركوا قاعدة الهرم الإنتاجي والأعمال الوضيعة للعمال العرب، بل تحولوا إلى مقاولي أنفار (فهم يجيدون التعامل مع المادة البشرية العربية بسبب خلفيتهم الثقافية المشتركة، وبالتالي فقد تحولوا إلى جماعة وظيفية وسيطة). وقد زادت بسبب هذا طفيلية وهامشية القطاع اليهودي في الاقتصاد الإسرائيلي. وقد بدأ الشرقيون يطالبون بالمساواة مع الإشكناز. ولكن المفارقة الكبرى تكمن في أنه كلما ازدادت مساواة الشرقيين بالغربيين ازدادت أزمة المجتمع الصهيوني تفاقماً، إذ أن العنصر اليهودي (بشقيه الغربي والشرقي) سيزداد صعوداً إلى قمة الهرم وانعزالاً عن قاعدته الإنتاجية الأمر الذي يزيد تواجد العرب فيها.

ويحاول الإشكناز تحاشي هذا الموقف عن طريق استيعاب الشرقيين دون دمجهم في المجتمع. فالاستيعاب لا ينطوي على صهر الجماعات المختلفة بل يعني إمكانيةالسيطرة والتحكم لدرجة قد تصل إلى الهيمنة. وهذا يعني أن الشرقيين سيصبحون يهوداً بالمعنى العام للكلمة دون أن يصبحوا إشكنازاً، أي أنهم سيحلون الأزمة السكانيةللتجمع الصهيوني (كيهود) دون أن يهددوا مواقع الإشكناز المتميِّزة. ويتم إنجاز ذلك عن طريق طرح إطار مرجعي ثقافي غربي يشعرالشرقيون داخله بدونيتهم بشكل دائم، فالشرقي حينما يحكم على نفسه بمقاييس حضارية إشكنازية سيجد نفسه ناقصاً (وهذا تكتيك استعماري معروف يشكل جوهر التبعية). كما أن الإحساس بالدونية تجاه الإشكناز يترجم نفسه إلى إحساس بالفوقية تجاه العرب وإلى كره عميق نحوهم يجعل الشرقيين حريصين على خلق مسافة واسعة بينهم وبين العرب (وهذه إحدى السمات الأساسية لسلوك الطبقات التي توجد في الوسط). وقد أدَّى ذلك إلى تهميش الشرقيين سياسياً وقطع جسورهم مع العرب. فالشرقيون ليؤكدوا ولاءهم للدولة، وحتى لاتنصرف إليهم شبهة الخيانة، يأخذون موقفاً متشدداً من العرب (وهم بذلك حـمائم تحـاول أن تكون صقوراً). ولكن، بسبب موقفهم المتشدد هذا، يؤكد أعضاء المؤسسة الإشكنازية أن الشرقيين غير صالحين للتفاوض مع العرب (أي أنهم صقور لا تَصلُح أن تكون حمائماً).

إن عملية التهميش السياسي والثقافي للشرقيين تشبه من بعض الوجوه عملية تغييب العربي وتهميشه في علاقته بالأرض. وفي الواقع فإن هذه العملية ساندتها بنية القوة المتحيزة للإشكناز الذين احتفظوا بكل مؤسسات صنع القرار في أيديهم (الوزارة والكنيست والوظائف الإدارية والسياسية العليا. وبالدرجة الأولى المناصب القيادية في الجيش). ويُلاحَظ أثر هذا الوضع في حدود الحراك الاجتماعي الذي يحققه الشرقيون، فقد زادت نسبتهم في جميع مراحل التعليم ما عدا مرحلة التعليم العالي، ونجدهم في الجيش في جميع مستوياته. ولكن نسبتهم تقل عند قمة الهرم العسكري، فلا يوجد سوى 3% من الشرقيين بين القيادات. وقد يشغل أحدهم منصب رئيس الدولة، أما منصب رئيس الوزراء صاحب القوة الفعلية فهو من نصيب الإشكناز. وهم قد يوجدون في الموشافيم ولكن لا يُسمَح لهم بدخول الكيبوتسات، أي المؤسسة التي تفرخ القيادات السياسية والعسكرية، إلا بنسبة صغيرة. والفجوة بين الإشكناز والشرقيين ليست فجوة طبقية اجتماعية بالمعنى المألوف، وإنما هي أيضاً تعبير عن الطبيعة الإحلالية للمجتمع الصهيوني الاستيطاني باعتباره مجتمعاً مبنياً على اغتصاب الأرض وطرد سكانها واستيراد عنصر بشري يهودي شرقي فقير، عليه أن يبقى كذلك حتى يظل عند قاعدة الهرم الإنتاجي.

ولذا، يمكن القول بأن أزمة اليهود الشرقيين هي، عن حق، بؤرة أزمات المجتمع الصهيوني، فهي تعبِّر عن أزمة الهوية والأزمة السكانية الاستيطانية وأزمة الإنتاجية والتطبيع، أي أزمة الأيديولوجيا الصهيونية (الاستيطانية). فإن قنع الشرقيون بموقعهم عند قاعدة الهرم، وتقبلوا الصيغة المراوغة التي تجعلهم يهوداً وطليعة قتالية للشعباليهودي دون أن يكونوا إشكنازاً ودون أن يشاركوا في صنع القرار بما يتناسب مع عددهـم، وزادوا معـدلات استهلاكهم دون أن يتحركوا إلى قمة الهرم، فإن أزمةالصهيونية كانت قابلة للحل، وكان من الممكن أن يُقال حينذاك إن هذا شعب يهودي واحد، منتج بطبيعته، له مؤسساته الديموقراطية مثل كل الأمم، ولأمكن الاستمرار في القتل والقتال والاستيطان بالمادة البشرية اليهودية الشرقية تُوجِّهها المادة البشرية اليهودية الغربية، وبذا تستمر الإمبريالية في الدعم والتمويل. ولكن إذا صاح الشرقيون، وبددوا الصمت وملأوا الفراغات، وطالبوا بأن يتحول القول إلى فعل وقالوا: إن كنا شعباً واحداً حقاً، فلمَ لا نشارك في صنع القرار بما يتفق مع نسبتنا العددية، ولمَ لا نصعد نحن أيضاً إلى قمة الهرم، إن صاحوا بذلك فيكون في صياحهم هذا تهديد حقيقي للأوهام الصهيونية.

3 ـ هوية الدولة اليهودية:

تفجرت قضية الهوية اليهودية على مستوى الدولة التي يُقال لها يهودية. فنشبت معركة بين الدينيين واللادينيين، فاللادينيون يودون أن يروا إسرائيل دولة علمانية بمعنى الكلمة لا تلتزم بأية قيم دينية أو أخلاقية، يمارس فيها كل فرد حريته كاملة بحيث تتحوَّل شعائر الدين اليهودي إلى مجرد شكل لطيف من أشكال الفلكلور والموروث القومي وبالتالي فهي ليست ملزمة. أما الصهاينة الدينيون فيذهبون إلى أن الدولة اليهودية لابد أن تتبع القيم الإثنية الدينية فتقيم شعائر الدين اليهودي وتمنع الإباحية وتغلغل الممارسات العلمانية (مثل البغاء والصور الفاضحة وأكل لحم الخنزير الذي يستهلكه الإسرائيليون بشراهة). ولهذا السبب احتدم الصراع. ويتساءل اليهود المتدينون داخل وخارج إسرائيل كيف يمكن أن تُسمَّى الدولة الصهيونية، التي تُعَد من أكثر الدول إباحية في العالم، دولة يهودية؟ وقام العلمانيون من جانبهم بمحاولة تأكيد أن الدولةالصهيونية دولة علمانية ويهودية في آن واحد، وقاموا بحرق أحد المعابد اليهودية وإلقاء رأس خنزير في معبد آخر (وهذه وقائع مرتبطة في وجدان أعضاء الجماعات اليهودية بالنازية ومعاداة اليهود).

ولكن إلى جانب هذا الانقسام الأساسي حول الدولة اليهودية هناك انقسامات أخرى فرعية. فاليهود الإثنيون المتمسكون بإثنيتهم، وبخاصة المقيمون في الخارج، يقولون كيف يمكن أن نسمِّي الدولة الصهيونية، التي تتزايد فيها معدلات الأمركة والعولمة، دولة يهودية. أما اليهود ذوي الاتجاهات الثورية واليسارية فيقولون: هل يمكن أن نسمي دولة تقوم بالتجسس لحساب الولايات المتحدة وتزويد النظم الفاشية في أمريكا اللاتينية بالأسلحة، وكانت تتعاون مع نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، دولة يهودية؟

قد شهدت الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة عودة السياسة الإثنية (التى تعبر عن نفس الأزمنة) إذ ظهرت عدة أحزاب ذات أساس إثني وليس عقائدياً (شاس ـ جيشر) ـ إسرائيل بعالياه وهي ظاهرة اتسمت بها الحياة السياسية في إسرائيل في السنين الأولى بعد إعلان الدولة. وعودتها بهذه الحدة مرة أخرى بعد حوالي نصف قرن يدل علىعمق التناقضات وبنيويتها وعلى الفشل في تعريف اليهودي.

4 ـ الشعب اليهودي في الخارج:

كانت الصهيونية ترى أنها ستؤسس دولة يهودية تكون بمنزلة المركز ليهود العالم وكان من المفروض أن تهاجر أغلبيتهم إليها، أما من تبقَّى منهم فواجبه دعم الدولةالصهيونية مادياً وسياسياً نظير أن تحافظ له على هويته اليهودية وتحفظها من الانصهار والذوبان. ولكن ما حدث كان أبعد ما يكون عما هو مُتوقع، إذ لم يهرع الشعب اليهودي إلى وطنه الجديد، وآثر البقاء خارج حدود أرضه ووطنه المزعوم دون أن يحرك ساكناً، منفياً بإرادته متمتعاً بمنفاه. أو لعل أعضاء هذا الشعب، إذا ما نفضنا غبار القول الصهيوني، ليسوا أعضاء فيه وإنما هم بشر عاديون يعيشون في أوطانهم الفعلية ينتمون إليها ولا يفكرون في الهجرة لأنه ليس هناك ما يدعو إلى ذلك. وحـتى حينما يفكرون في ترك أوطانهم، فإنهم (كبشر) يدرسون البدائل والفرص، وتتجه أغلبيتهم نحو الولايات المتحدة، وهو ما يدل على أنهم أبناء عصرهم وأن حساباتهم دقيقة وسليمة، فمن ذا الذي يطيب له أن يترك الأمن والمستوى المعيشي المرتفع في الولايات المتحدة ليستوطن حيث الحرب والهجمات الانتحارية وشظف العيش؟

بل لقد ثبت أن الدولة الصهيونية ساعدت على تسارُع معدلات الاندماج بينهم، إذ أن يهودية هؤلاء "الإثنية" عبَّرت عن نفسها لا من خلال أسلوب حياة يهودية متكامل وإنما من خلال دعم إسرائيل وحسب. كما ظهر أن الدولة الصهيونية تسبب لهم الكثير من الحرج حينما تتصرف في إطار المقولات الصهيونية الجامدة وتفصح عن وجهها الإرهابي، وبخاصة على شاشات التليفزيون وأمام جيرانهم الليبراليين العلمانيين. هذا فضلاً عن أن الدولة اليهودية لم تنجح في أن تنتج فكراً دينياً يهـودياً، فمعظم المفكرين الدينيين اليهـود لا يزالوا نتاج الدياسبورا. لكل هذا يحاول أعضاء الجماعات اليهودية في العالم حل مشاكلهم (ومن ذلك مشكلة المعنى) داخل إطار مجتمعــاتهم (انظر: «موقـف الجمــاعـات اليهودية من الصهيونية»).

إن مقولة "اليهودي" التي تشكل حجر الأساس في المشروع الصهيوني تفككت أثناء الممارسة الصهيونية في أرض فلسطين المحتلة.

من هو اليهودي عام 1997؟

Who is a Jew 1997 ?

مما يزيد مشكلة الهوية اليهودية تفاقماً أن اليهودية الإصلاحية والمحافظة بدأت تصل إلى إسرائيل وقد تزايد عدد التابعين لها، هذا في الوقت الذي وصل فيه عدد الإصلاحيين والمحافظين المتدينين في الولايات المتحدة حوالي 85% من عدد يهود الولايات المتحدة المتدينين. ويجب أن نذكر أن اليهود الملحدين (وكثير من المتدينين) في الولايات المتحدة يصرون على فصل الدين عن الدولة (متبعين في ذلك مجتمعهم منادين بذلك باعتبارهم أعضاء أقلية يرون أن ذلك في مصلحتهم)، أما اليهود الملحدون في إسرائيل فهم لا يكترثون أساساً بالدين (وهم أعضاء أغلبية) ولذا فهم لا يمانعون في أن يسيطر الأرثوذكس على جميع مناحي الحياة (وخصوصاً أن مثل هذاالاستعراض الديني يزيد من شرعية الدولة وشرعية الاستيلاء على الأراضي).

وقد أدَّى هذا الوضع إلى فقدان الاتزان على مستوى يهود العالم. فبينما ترى أغلبية الدياسبورا (التي تهيمن على المنظمة الصهيونية) ضرورة فصل الدين عن الدولة، تحاول المؤسسة الأرثوذكسية في إسرائيل أن يلعب الدين دوراً أساسياً في حياة الفرد الخاصة والعامة بل أن يتحكم الدين في الحياة الخاصة للمواطنين، وأن تقوم هي بتعريف من هو اليهودي والقوانين الخاصة بالعلاقة الدينية بين الفرد والمجتمع.

وقد جرى تمرير قانون في الكنيست يلغي الاعتراف بعقود الزواج التي يجريها الحاخامات التابعون للتيار الإصلاحي والمحافظ. ومع أن القانون مر في المرحلة الأولى (من أربع مراحل)، فقد غضب اليهود الإصلاحيون والمحافظون بشدة وهددوا علانية بقطع المساعدات والتبرعات عن إسرائيل. فاتصل نتنياهو شخصياً برؤسائهم ودعاهم للقائه في مكتبه (في القدس). وأخبرهم أن تمرير القانون في القراءة التمهيدية لا يعني أنه سينجح. وقال إنه قرر إقامة لجنة تضم المسئولين من كل التيارات الدينية في إسرائيل لتبحث الموضوع وتتوصل إلى قرارات وحلول ترضي كل الأطراف.

وبالفعل تم تشكيل لجنة يرأسها وزير المالية يعقوب نئمان لإنشاء محكمة تفصل في حالات اعتناق الديانة اليهودية داخل إسرائيل. وقد وعد زعماء الإصلاح والمحافظة بالتوقف عن الهجوم على الحكومة الصهيونية أو القيام بأية إجراءات قبل أن تنهي اللجنة عملها، وكان نئمان قد اقترح إنشاء محكمة مشتركة تضم ممثلين عن اليهود المحافظين والإصلاحيين على أن يرأسها حاخام من اليهود الأرثوذكس. ولكن الأرثوذكس (في الحاخامية الرئيسية) رفضوا هذه المقترحات تماماً. ووصف قادة الإصلاحيين والمحافظين قرار الحاخامات الأرثوذكس بأنه سيؤدي إلى انقسام خطير في صفوف اليهود، ويهدد مستقبل حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

وفي المقابل، أعرب اليهود الإصلاحيون والمحافظون عن شعورهم بالصدمة، وقال الحاخام إيهود باندل، رئيس الحركة المحافظة في إسرائيل، إن رفض المتشددين للتسوية بمنزلة إعلان حرب ضد الشعب اليهودي. وأكد الحاخام يوري ريجيف رئيس الحركة الإصلاحية أن الحاخامية الكبرى قد أغلقت الباب في وجه التسوية.

ثم وقعت مشكلة جديدة، إذ تم انتخاب امرأة، من التيار الديني الإصلاحي، عضواً في المجلس الديني لمدينة نتانيا. وهو مجلس مؤلف من تركيبة حزبية (لكل حزب ممثلون حسب نسبته في الانتخابات البلدية) وشعبية (ممثلي الشعب) ودينية (مندوبين يعينهم مجلس الرئاسة الروحية الرسمية) وجاء تعيين "الحاخامة" جويس برنر (وهي بروفسير في اللاهوت) عن حزب ميرتس اليساري الصهيوني.

هذا الانتخاب أثار جنون الأرثوذكس (فاليهودية الأرثوذكسية لا تقبل باشتراك النساء في صلاة الجماعة في المعبد ولا بحاخامات إناث) فرفضوه، فتوجهت الحاخامة الجديدة إلى المحكمة العليا واستصدرت أمراً يجيز التعيين ويؤكد أنه قانوني وبأمر وزير الأديان بالمصادقة عليه. ولكيلا يعتبر موقفه إهانة للمحكمة وقرارها، وهو أمر مخالف للقانون، اتفق نتنياهو، مع قيادة شاس، أن يقيل وزير الأديان (إيلي سويسا من حزب شاس) ويأخذ صلاحياته لمدة ساعة، يوقع خلالها بنفسه على كتاب التعيين، ثم يعيد الوزارة إليه. لكن هذا الحل لم يرض الأرثوذكس ولا حتى الحاخامين الأكبرين، فراحوا يهاجمون نتنياهو وقرروا مقاطعة كل مجلس ديني يضم امرأة أو يضم حاخاماً إصلاحياً أو محافظاً (يرى الأرثوذكس أن هذين "المذهبين" يجب ألا يُمثَّلا أساساً في المجالس الدينية).

ولعل تزايد النسبية الأخلاقية في الولايات المتحدة، وهو أمر يترك أثره بشكل واضح على يهود الولايات المتحدة، وانتماءاتهم الدينية وشبه الدينية واللا دينية المختلفة سيزيد من تصعيد الصراع بين الأرثوذكس وغيرهم. فعلى سبيل المثال، يمكن للمرء تخيل استجابة الحاخامات الأرثوذكس لقيام بعض النساء من الولايات المتحدة بلبس الطاليت وحمل التوراة ومحاولة الصلاة بجوار حائط المبكى والإصرار على أن يرسمن حاخامات. ويمكن للمرء كذلك تخيل موقف المؤسسة الأرثوذكسية من قيام أحد الحاخاماتالإصلاحيين بعقد أول قران "ديني" بين زوجين،كلاهما من الذكور، في إسرائيل!

الصفحة التالية ß إضغط هنا