المجلد الرابع: الجماعات اليهودية.. تواريخ 13

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

الباب الرابع عشر: أمريكا اللاتينية

تعـداد الجماعـات اليهــودية في أمريكـا اللاتينيـة ومعالمـها السـكانية الأساسية

Number of the Jewish Communities in Latin America and Their Main Demographic Traits

لا يمكن اعتبار الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية مهمة في ذاتها، قفد ظل عدد اليهود فيها صغيراً منذ البداية. كما أنهم لم يلعبوا دوراً كبيراً في النظم السياسية فيها ولم يقدموا أية إسهامات ثقافية حقة لتراثها، إلى جانب أن دورهم في الحركة الصهيونية وفي تأسيس المُستوطَن الصهيوني دور غير مؤثر بالمرة. ولكن أهمية الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية تعود إلي أن دراسة أوضاع أعضائها توضح كثيراً من القضايا والأبعاد الخاصة بالجماعات اليهودية في العالم ككل.

ومن أهم هذه الأبعاد والقضايا عدم التجانس بين الجماعات اليهودية، وقضية الهوية اليهودية، وهناك قضايا أخرى، مثل الاندماج والانعزال، ودور الجماعة اليهودية كجماعة وظيفية مالية وسيطة، وفشلها في التحول إلى طبقة وسطى، وأثر الجماعات المضيفة ومجتمعات الأغلبية في أعضاء الجماعة. كما أنه من خلال عقد مقارنة بين الجماعات اليهــودية فـي أمريكـا اللاتيـنية والجماعـات اليهـودية في الولايـات المتحـدة (أهم الجماعات اليهودية في العالم)، أي من خلال تبنِّي منظور مقارن، يمكننا أننكتشف بعض سمات هذه الجماعة الأخيرة. ويُلاحَظ كذلك أن الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية تواجه مشاكل خاصة لا تواجههـا الجماعات اليهودية الأخرى الموجـودة في العالم الغربي "المتقدم".

ورغم أن الأسبان والبرتغاليين، حينما استوطنوا في أمريكا اللاتينية، منعوا أعضاء الجماعات اليهودية من الاستيطان فيها، فإن بعض يهود المارانو (المسيحيين الجدد) نجحوا في الهجرة إليها والاستيطان فيها، وقد قامت محاكم التفتيش بمطاردتهم لضمان تأكيد الهيمنة الكاثوليكية.

ويبدأ تاريخ الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية في القرن التاسع عشر بعد استقلال دولها وإلغائها محاكم التفتيش، وإعلانها سياسة تضمن المساواة بين المواطنين. ومع هذا، لم تهاجر أعداد كبيرة من اليهود حتى منتصف القرن التاسع عشر. ولكن أعداد المهاجرين إلى الأرجنتين والبرازيل تزايدت نسبياً (أي قياساً إلى العدد الكلي للمهاجرين اليهود إلى أمريكا اللاتينية). ويُعَدُّ عام 1860 بداية تاريخ الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية، ففي هذا التاريخ عُقد أول زواج يهودي في الأرجنتين. ولكن عدد أعضاء الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية لم يكن يزيد، مع نهاية الحرب العالمية الأولى، على 150 ألفاً أغلبيتهم العظمى (110 ـ 120 ألفاً) في الأرجنتين. جاء 80% منهم من وسط أوربا وشرقها، أي إشكناز، و20% سفارد ويهود من البلاد العربية. وكانت أغلبية المهاجرين اليهود إلى الأرجنتين من روسيا من يهود اليديشية. وكان يوجد من اليهود: 500 في شيلي، ونحو 1700 في أوروجواي، وحوالي 5000 في البرازيل.

وظل هذا النمط هو السائد. ففي الخمسينيات، بلغ عدد يهود الأرجنتين 385 ألفاً، وقفز عدد يهود شيلي إلى 32 ألفاً، وأوروجواي 38 ألفاً، والبرازيل 125 ألفاً. وفي عام 1970، كان تعداد يهود أمريكا اللاتينية كما يلي:

الأرجـنتين 450 ألفاً

شــــيلي 30 ألفاً

أوروجواي 150 ألفاً

البرازيــل 140 ألفاً

المكســيك 35 ألفاً

وهناك رأي يذهب إلى أن الأرقام السابقة مبالغ فيها، وأن الإحصاءات لا يمكن الوثوق بها تماماً، وهذا يعود إلى عناصر عديدة منها أن بعض المواطنين يسجلون أنفسهم باعتبارهم يهوداً أو يحجمون عن ذلك لأسباب لا علاقة لها بهويتهم الحقيقية (يهودية كانت أم غير يهودية). وقد لوحظ، على سبيل المثال، أن عدد يهود شيلي انخفض في إحدى الإحصاءات، بنسبة 50%، وربما يعود هذا إلى رغبة المتخفين في أن ينصهروا تماماً. وزاد عدد أعضاء الجماعة اليهودية في إحدى الإحصاءات في المكسيك بنسبة 47%، ولعل هذا يعود إلى رغبة الكثيرين من سكان المكسيك في الهجرة إلى الولايات المتحدة وطمعهم في أن تقوم المنظمات اليهودية بتيسير هذه العملية لهم. ولذا، فقد سجلوا أنفسهم يهوداً، الأمر الذي جعل من قاموا بالإحصاء مضطرين إلى تجاهل نتائجه. ويُلاحَظ كذلك أن كثيراً من أعضاء الجماعات اليهودية دخلوا أمريكا اللاتينية أثناء الحرب العالمية الثانية بشهادات تعميد (تدل على أنهم مسيحيون) أصدرها لهم الفاتيكان ليساعدهم على الهرب من النازيين، وبعد أن دخلوا وزال الخطر آثروا ألا يعلنوا عن هويتهم اليهودية الأصلية. ولهذا، يرى بعض الدارسين أن عدد يهود الأرجنتين كان في عام 1970 نحو 300 ألف فحسب وأن رقم 450 ألفاً مبالغ فيه إلى حدٍّ كبير، وأن عدد يهود البرازيل كان 100 ألف وحسب. فإذا أضفنا إلى ذلك 44 ألفاً في أوروجواي، و18 ألفاً في شيلي، و70 ألفاً في بقية أمريكا اللاتينية (يُقال إن 35 ألفاً منهم في المكسيك)، فإن المجموع الكلي يصل إلى نحو 500 ألف وحسب. وعلى أية حال، أثبتت إحصاءات عام 1986 ـ 1987 التي نشرها الكتاب الصهيوني السنوي لعام 1987 أن عدد يهود الأمريكتين « آخذ في التناقص السريع »، فعددهم الآن لا يزيد على 418 ألفاً يوجد منهم 233 ألفاً في الأرجنتين، أي أكثر من النصف، و100 ألف في البرازيل، و30 ألفاً في أوروجواي، و35 ألفاً في المكسيك، و20 ألفاً في شيلي، و20 ألفاً في فنزويلا.

ولا تختلف إحصاءات عام 1989 عن ذلك كثيراً. وإن كان كتاب الجماعات اليهودية في العالم الصادر عام 1989 يذهب إلى أن يهود البرازيل 150 ألفاً، وأن عدد سكان ساو باولو 75 ألفاً، وريو دي جانيرو 57 ألفاً، وقد أوردت الجيروساليم بوست في أواخر عام 1990 أن عدد يهود أمريكا اللاتينية يتراوح بين 400 و700 ألف من بينهم 300 ألف في الأرجنتين، و120 ألفاً في البرازيل، بينما أوردت الموسوعة اليهودية أن عدد يهود الأرجنتين لا يزيد على 228 ألفاً عام 1990، وآخر إحصاء هو الوارد في الكتاب الأمريكي اليهودي السنوي عام 1994، وورد فيه أن عدد يهود أمريكا الجنوبية هو 382 ألفاً منهم 211 ألفاً في الأرجنتين و100 ألف في البرازيل و23 ألفاًفي أوروجواي و20 ألفاً في فنزويلا و15 ألفاً في شيلي. ويذكر الكتاب أن عدد يهود أمريكا الوسطى هو 51.700، أي أن المجموع الكلي ليهود أمريكا الوسطى والجنوبية (أي أمريكا اللاتينية) هو 433.700 (ويذكر مصدر إحصائي آخر أن عدد يهود الأرجنتين عام 1995 هو 250 ألف وأن عدد يهود أوروجواي في العام نفسه هو 30 ألفاً). والواقع أن تضارب الأرقام مسألة مفهومة، فبعض أعضاء الجماعات اليهودية ينكرون انتماءهم اليهودي بينما يدَّعي بعض أعضاء الطبقات الفقيرة أنهم يهود ليستفيدوا من المعونات التي تقدمها المنظمات اليهودية الأمريكية. وإذا أضفنا إلى ذلك أن تعريف اليهودي مسألة خلافية، فإن فوضى الأرقام مسألة متوقعة. ومع هذا، تجب الإشارة إلى أن الاختلافات لا تؤثر في النمط العام. ولعل إحصاءات الكتاب الأمريكي اليهودي السنوي لعام 1994 هي أدقها.

ويُلاحَظ أن نسبة أعضاء الجماعات اليهودية إلى شعوب أمريكا اللاتينية نسبة ضئيلة للغاية إذ يبلغ تعداد شعوب أمريكا اللاتينية نحو 439 مليوناً. وبالتالي، فإن نسبة اليهود لا تتجاوز الآن 0.1%، وقد تزيد النسبة أو تقل من بلد إلى آخر، فالأرجنتين التي تضم نصف يهود أمريكا اللاتينية يبلغ عدد سكانها 33.487.000، وتبلغ نسبة اليهود فيها 0.64%، ويبلغ عدد سكان أوروجواي 3.149.000 نسبة اليهود فيه 0.77%، وتكاد تكون هذه أعلى نسبة في القارة بأسرها. أما البرازيل، فعدد سكانها ،156.578.000 ، منه 0.06% يهود. أما شيلي، فيبلغ عدد سكانها 13.813.000 نسبة اليهود فيه 0.11%، ويبلغ عدد سكان المكسيك 89.998.000، منه 0.04% يهود. أما بقية بلاد أمريكا اللاتينية، فتضم جماعات يهودية يمكن إهمالها إحصائياً. فسورينام، التي كانت تضم أول جماعة يهودية، وأُسِّس فيها ما يشبه الدولة الاستيطانية المستقلة التي ثار عليها العبيد ثم اسقطوها، تضم الآن مائتي يهودي، وتضم جواتيمالا 800، وبنما 5000، وهكذا.

ويُلاحَظ أن المهاجرين اليهود اتجهوا أساساً إلى الأرجنتين بالدرجة الأولى، وإلى بلاد أخرى مثل شيلي والبرازيل وأوروجواي، وهي جميعاً تقع في المخروط الجنوبي. وقد ابتعدوا عن بلاد مثل بيرو وبارجواي. وهناك عدة عناصر جذبت اليهود إلى هذه البلاد:

1 ـ أنها تتسم بوجود نسبة عالية من البيض، فنحو 90% من سكان الأرجنتين من البيض، وكذا أغلبية سكان شيلي، و95% من سكان أوروجواي، و60% من سكانالبرازيل، مقابل 15% في كلٍّ من بيرو وإكوادور، و20% في فنزويلا.

2 ـ تتسم كل هذه البلاد بارتفاع نسبة التعليم فيها، فنسبة الذين يعرفون القراءة والكتابة في الأرجنتين وشيلي وأوروجواي تبلغ نحو 90%، وتشكل البرازيل استثناء، فالنسبة فيها تصل إلى 70%، مقابل 61% في بيرو و 29% في بوليفيا.

3 ـ تتسم هذه الدول بأنها متقدمة اقتصادياً وتوجد فيها حركة تصنيع نشيطة نسبياً. ويتجلى هذا في وجود مراكز حضرية ضخمة فيها، فحسب إحصاءات أوائل السبعينيات يقطن في المدن 80.4% من سكان الأرجنتين، و72.9% من سكان شيلي، و78.4% من سكان أوروجواي. وتمثل البرازيل استثناء من القاعدة مرة أخرى، فنحو 56% فقط من سكانها يعيشون في المدن، ولكن ذلك كان قبل حدوث ما يُسمَّى «المعجزة الاقتصادية» التي أدَّت إلى الهجرة من القرية إلى المدينة.

4 ـ ويُلاحَظ كذلك أن هذه البلاد تتسم بارتفاع الدخل، إذ يصل متوسط الدخل فيها إلى ثلاثة أضعاف دخل الفرد في بقية بلاد أمريكا اللاتينية، باستثناء فنزويلا التي حققت رخاءً غير عادي بسبب الثروة البترولية.

5 ـ تتميَّز المجتمعات التي استوطن فيها اليهود بأن معدلات العلمنة فيها عالية بالمقارنة ببقية مجتمعات أمريكا اللاتينية.

6 ـ تتسم هذه البلاد أيضاً بوجود اقتصاد حر فيها. والواقع أن الميراث الاقتصادي لأعضاء الجماعات اليهودية في شرق أوربا جعل من السهل عليهم أن يحققوا نجاحاً اقتصادياً. وتنطبق معظم هذه المواصفات على الأرجنتين وشيلي والبرازيل.

ولكن من أهم العناصر التي شجعت اليهود على الاتجاه إلى الأرجنتين (أكثر من أي بلد أمريكي لاتيني آخر) أن حكومة الأرجنتين اختطت سياسة من شأنها تشجيع الهجرة، فكانت تقدم دعماً للمهاجرين وتزودهم بالأرض اللازمة للاستيطان، كما كانت تبدي تسامحاً غير عادي نحوهم. وقد رأي المليونير الفرنسي اليهودي البارون دي هيرش أن بالإمكان الاستفادة من هذا الوضع في حل المسألة اليهودية في شرق أوربا وكذلك مشكلة الانفجار السكاني الذي يقذف بآلاف اليهود على أوربا، وذلك بتحويلهم عنها وتوطينهم في الأرجنتين. وانطلاقاً من هذه الفكرة الصهيونية التوطينية، تم تأسيس جمعية الاستيطان اليهودي (إيكا) التي ساهمت في توطين عدة آلاف من اليهود.

والواقع أن هجرة يهود أوربا إلى أمريكا اللاتينية، وتركُّزهم في بلاد بعينها، هي تعبير عن نمط الهجرة اليهودية في العصر الحديث، وهي هجرة من البلاد الأقل تقدماً إلى البلاد الأكثر تقدماً، على عكس نمط الهجرة في أوربا في العصور الوسطى حيث كانت في معظم الأحيان هجرة إلى المجتمعات الأقل تقدماً. ويمكننا أن نضيف هنا أن هذا هو أيضاً نمط الهجرة الأوربية عموماً في العصر الحديث، أو لنسمِّه التجربة الاستعمارية الاستيطانية حيث صدَّرت أوربا فائضها البشري وحلت مشاكلها الاجتماعية عن طريق توطين هذا الفائض فيما سمته «الأرض البكر»، وهي أرض اغتصبتها من أهلها إما بإبادتهم أو نقلهم منها (ترانسفير).

والعناصر البشرية الفائضة المهاجرة هي دائماً عناصر خاضعة لقوتين متناقضتين متكاملتين: قوة طرد من الوطن الأصلي ، وقوة جذب للوطن المضيف. والواقع أن العناصر المهاجرة تبحث عن فرص جديدة، وتحاول أن تحقق في المجتمع الجديد ما فشلت في تحقيقه في مجتمعاتها الأصلية، ومن ثم لم تهاجر أعداد كبيرة إلى المجتمعات الزراعية.

وليس من قبيل الصدفة أن الولايات المتحدة استقبلت 85% من جملة المهاجرين الأوربيين بين عامي 1857 و1965 والبالغ عددهم 60 مليوناً، وتليها الأرجنتين التياجتذبت 6.500.000مهاجر في الفترة نفسها، أي نحو 11%، مكث منهم 4.379.000.

ويُلاحَظ تركُّز أعضاء الجماعات اليهودية في المدن الكبيرة، فيهود بيونس أيرس يتراوح عددهم، حسب إحصاءات عام 1970، بين 240 ألفاً و300 ألف، أي غالبيةاليهود الساحقة. وهذا يعني أن نصف يهود أمريكا اللاتينية يوجدون في مدينة واحدة. ومع هذا، فهم لا يشكلون سوى 2.18% من سكانها البالغ عددهم 8.353 مليون. (وقد انخفض عددهم إلى 180 ألفاً حسب إحصاءات عام 1989). ويقطن في ساو باولو وريو دي جانيرو 80 ألف يهودي، أي 80% من مجموع يهود البرازيل، ويبلغ سكان المدينتين نحو 10 مليون، وبالتالي يشكل اليهود أقل من 1% من عدد السكان. وتوجد نسبة الـ 20% الباقية في مدينة بورتو ألّيجري. وفي شيلي، يقطن 25 ألف يهودي في سنتياجو يشكلون 0.96% من سكان العاصمة البالغ عددهم مليونين و586 ألفاً. أما في أوروجواي، فيبلغ عدد السكان في مونتفيديو 45 ألفاً من سكان العاصمة البالغ عددهم مليوناً و450 ألفاً، وبالتالي ترتفع نسبة اليهود لتصل إلى 3.19%، وهي أعلى نسبة في أية مدينة في أمريكا اللاتينية.

ويجب ملاحظة أن تركُّز أعضاء الجماعات اليهودية في المدن جزء من اتجاه عام في الدول النامية يتحدد في الهجرة من القرية إلى المدينة، وإن كان ثمة اختلاف فهو اختلاف في الدرجة، باعتبار أن أعضاء الجماعات اليهودية عنصر مهاجر تستقر أعداد كبيرة منهم مباشرة في المدن حيث توجد فرص أكثر للحراك الاجتماعي. كما أنأغلبية سكان المدن من البيض ذوي الدخل المرتفع القادرين على القراءة والكتابة. وتُعَدُّ المدن من أكثر المناطق نمواً في البلاد النامية، ولذا فإن اتجاه اليهود نحو المدن هو جزء من اتجاه الهجرة اليهودية الحديثة. كما يُلاحَظ أن اليهـود يتركزون داخـل كل مدينـة في أحيـاء بعينهـا ومهن بعينها، كما أن تركُّزهم في المدن هو نفسه نتيجةٌ لتركزهم في مهن بعينها لا وجود لهم في غيرها، الأمر الذي يشجع الحديث عن «الخطر اليهودي» وما شابه ذلك من أقوال جزافية هي في الواقع نتيجة الملاحظة المباشرة العابرة التي لم تُخضَع بعد للتحليل أو النقد.

وقد يكون من المفيد مقارنة معدل هجرة أعضاء الجماعات اليهودية إلى أمريكا اللاتينية وفلسطين قبل وبعد الاحتلال الصهيوني حيث نجد أن عدد المهاجرين إلى فلسطين في الفترة ما بين عامي 1901 و1920 بلغ 15 ألفاً (وذلك بطرح الـ 15 ألفاً من جملة النازحين)، بينما بلغ عدد المهاجرين إلى أمريكا اللاتينية في الفترة نفسها 105.867 هاجرت غالبيتهم إلى الأرجنتين، وهو ما يبين نجاح الصهيونية التوطينية وفشل الصهيونية الاستيطانية الذريع حينما كانت تعتمد على ما يُسمَّى «القوى الذاتية». وبعد وضع فلسطين تحت الانتداب، لم يتحسن الوضع كثيراً إذ بلغ عدد المهـاجرين إلى أمريكا اللاتينية في الفترة من 1921 إلى 1930 نحـو 129.239 اتجـه منهـم 73.434 إلى الأرجنتين. أما فلسطين، فلم يزد عدد المهاجرين إليها على 70.944، وهو عدد يقل عن عدد المستوطنين في الأرجنتين وحدها، وهذا يدل وبشكل أكثر حدة على مدى فشل المنظمة الصهيونية التي تتمتع بالدعم الإمبريالي الكامل في الغرب، والتي تمتلك جهازاً له فروع في معظم بلاد أوربا، كما توجد تحت تصرفها ميزانية ضخمة (وهو ما توفر لمؤسسة هيرش التي قامت بتوطين بعض أعضاء الجماعات اليهودية في الأرجنتين). ولكن مسار الهجرة اليهودية ظل يتبع الخط العام للاستيطان الغربي، أي الهجرة إلى الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، ثم أمريكا اللاتينية. وكان الاستثناء الوحيد من هذه القاعدة في الفترة من 1921 إلى 1935 حين أغلقت بلاد العالم الغربي أبوابها في وجه المهاجرين اليهود وغيرهم، فهاجر إلى فلسطين 147.502 مقابل 44.550 اتجهوا إلى أمريكا اللاتينية، وهذا العدد لا يضماليهود الذين حصلوا على شهادات تعميد. وفي الفترة من 1936 إلى 1939، دخل فلسطين 75.510، مقابل 31.066 اتجهوا إلى أمريكا اللاتينية رغم ظروف الأزمة الاقتصادية ورغم وجود نظم فاشية تضطهد أعضاء الجماعات اليهودية ولا تشجع الهجرة. وقد شهدت سنين ما بعد الحرب، حتى عام 1948، تزايداً في عدد اليهود المهاجرين إلى فلسطين. ولكن، في المحصلة النهائية، بلغ عدد اليهود الذين استوطنوا فلسطين خلال الفترة من 1840 إلى 1942 نحو 378.956 بينما بلغ عدد من استوطنوا أمريكا اللاتينية 376.227 أي العدد نفسه تقريباً.

وينطبق على يهود أمريكا اللاتينية مقولة موت الشعب اليهودي، وهي أن الجماعات اليهودية في العالم آخذة في الانقراض بحيث سيتركز اليهود في الولايات المتحدة والدولة الصهيونية وحسب، وهما تجمعان لا يزداد عدد أعضاء الجماعات اليهودية فيهما بل هو آخذ في التناقص. ويتناقص عدد اليهود في أمريكا اللاتينية بشكل أسرع منه في أي مكان آخر، بحيث أن من المتوقع ألا يبقى منهم أعداد تذكر بعد فترة قصيرة إذ أن أمريكا اللاتينية تُعدُّ منطقة نزوح للأسباب التالية:

1 ـ ربما كان السبب الأساسي هو أن نمط الهجرة الاستيطانية الغربية (واليهودية) في العصر الحديث يتجه من البلاد المتخلفة إلى البلاد المتقدمة. وأمريكا اللاتينية لا تزالتصنف أساساً باعتبارها متخلفة ومن الدول النامية. ومما يساعد على هذا الاتجاه أن الولايات المتحدة تشكل عنصر جذب شديد ليهود أمريكا اللاتينية، فهي أكثر البلاد تقدماً في العالم، وهي توجد على مقربة منهم، كما توجد فيها الآن جماعة لاتينية ضخمة تشكل نواة حضارية قوية يمكنهم من خلالها الشعور بالأمن النسبي وعدم الاغتراب.وأخيراً، ثمة علاقات قوية بين يهود أمريكا اللاتينية من جهة ويهود الولايات المتحدة وتنظيماتهم اليهودية والصهيونية من جهـة أخرى، فهـؤلاء يعـدون أنفسـهم مسئولين عن يهود أمريكا اللاتينية.

2 ـ كان معظم المهاجرين إلى أمريكا اللاتينية من بلاد كاثوليكية، جاء 80% منهم من إيطاليا وإسبانيا والبرتغال. ولذا، لم تكن عملية تكيفهم مع المجتمع واندماجهم فيه عملية صعبة. أما أغلبية المهاجرين من أعضاء الجماعات اليهودية (نحو 80%) فكانوا من يهود اليديشية من إشكناز شرق أوربا، وكان يُطلَق عليهم مصطلح «روسوس» أي «الروس»، وكانت أقليتهم من السفارد «توركوس»، أي «الأتراك» (وهو المصطلح نفسه الذي كان يُطلَق على المسلمين). وثقافة الروسوس، وهي ثقافة ألمانية سلافية، كانت بعيدة عن الثقافة اللاتينية. كما أن البلاد التي جاءوا منها كانت بلاداً صناعية متقدمة نوعاً، وثقافة اليهود المهاجرين منها كانت ثقافة حديثة. لكل هذا، وجد المهاجرون من أعضاء الجماعات اليهودية (وبخاصة من شرق أوربا) صعوبات إضافية في عملية الاندماج في المجتمع، فقد كانوا غرباء على ثلاث مستويات: على المستوى الديني باعتبارهم يهوداً في مجتمع كاثوليكي، وعلى المستوى الثقافي باعتبارهم من شرق أوربا ووسطها بثقافتهم الألمانية والسلافية شبه الحديثة في تربة لاتينية تقليدية، وعلى المستوى الاقتصادي والوظيفي باعتبارهم عنصراً تجارياً في مجتمع زراعي. ويجيء هذا على خلاف تجربة المهاجرين غـير اليهـود الذين جــاءتغالبيــتهم (80%) من إيطــاليــا وإسبانيا والبرتغال، وهي بلاد كاثوليكية مستويات التحديث فيها متدنية وكثير من القيم السائدة فيها تقليدية وميراثها الثقافي لاتيني، ولذا لم تكن عملية تكيفهم مع المجتمع واندماجهم فيه صعبة.

3 ـ ومما عمَّق غربة يهود أمريكا اللاتينية أن الانتماء للنخبة الحاكمة يتطلب الانتماء الكاثوليكي وملكية الأراضي والأصل الأرستقراطي، وهي ثلاثة عناصر لم يكن بإمكان المهاجرين اليهود التمتع بها، على عكس المهاجرين المسيحيين الكاثوليك الذين ينتمون بالفعل إلى الكنيسة الكاثوليكية ويمكنهم شراء الأراضي، كما أن بعضهم يمكن أن يشتري أصولاً أرستقراطية أو يتزوج من نسل العائلات الأرستقراطية. وكل هذا يعني أن أعضاء الجماعات اليهودية اُستبعدوا من النخبة الحاكمة ومن مؤسسات صنع القرار.

4 ـ ويجب ملاحظة أن الحركة القومية التي نشأت في أمريكا اللاتينية تنتمي إلى نمط الحركات القومية في العالم الثالث الذي يتسم بالتركيز على الخصوصية المحلية في مجابهة الغزو الاستعماري الثقافي والاقتصادي الغربي، وخصوصاً الأمريكي. والاهتمام بالخصوصية يتخذ في أمريكا اللاتينية شكلاً حاداً بسبب طبيعة المواجهة مع اليانكي في الشمال. كما أن التجربة التاريخية في أمريكا اللاتينية التي تضرب بجذورها في التجربة الأيبيرية تجعل الكاثوليكية ورموزها بُعداً أساسياً في الحركات القومية اللاتينية، وخصوصاً أن الاستيطان في أمــريكا اللاتينية لم يتم في غياب الكنيسة، فقد تدخلت فيه وحاولت تنظيمه وتقليم أظافر العناصر التجارية الاستيطانية، كما حاولت حماية العناصر الهندية المحلية والحفاظ على حقوق العبيد الإنسانية. هذا على عكس الاستيطان البروتستانتي الأنجلو ساكسوني في أمريكا الشمالية الذي تم في غياب أية مؤسسات دينية. ولذا، انطلقت الحركة القومية فيها من فكرة حقوق الإنسان والأفكار العقلانية العلمانية السائدة في أوربا في القرن الثاني عشر. والواقع أن تزايد البعدالكاثوليكي في الحركات القومية اللاتينية يعني بالضرورة تزايد رفض اليهود وتهميشهم باعتبارهم عنصراً مهاجراً يحمل تقاليد ثقافية أجنبية.

5 ـ ومما ساعد على تفاقم المشكلة ارتباط اليهود في الوجدان اللاتيني بالولايات المتحدة واليانكي، فالمنظمات اليهودية في الولايات المتحدة وضعت الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية تحت حمايتها، تماماً كما كانت تفعل الدول الغربية مع الأقليات في العالم العربي، الأمر الذي يؤدي إلى توسيع الهوة بين أعضاء الجماعات اليهودية والأغلبية.

6 ـ يُلاحَظ كذلك أن الحركات القومية في أمريكا اللاتينية، شأنها شأن الحركات القومية في العالم الثالث، تنحو منحى يسارياً بسبب عدم توافر ظروف التراكم الرأسمالي (من استعمار وغيره) التي توفرت للعالم الحر في مراحله الأولى (حينما كان حراً تماماً في استعمار الكرة الأرضية). وهجرة أعضاء الجماعات اليهودية، كما أسلفنا، لا تتجه إلى البلاد المتقدمة وحسـب وإنما إلى البـلاد التي يسـود فيهـا اقتصاد حر، ولذا يتركز اليهود في هذه البلاد. ونجد أن الحركات القومية واليسارية في أمريكا اللاتينية، بل وفي الولايات المتحدة، تأخذ موقفاً معادياً من أعضاء الجماعة اليهودية لارتباطها بالنخبة الحاكمة الرجعية، كما أن عداء إسرائيل للحركة القومية العربية وموقفها الاستعماري الإرهابي من الفلسطينيين يزيد عداء هذه الحركات للجماعة اليهودية التي ترتبط وجدانياً، بل وفعلياً في بعض الأحيان، بإسرائيل وبالعقيدة الصهيونية. ويُلاحَظ أن إسرائيل تلعب في الآونة الأخيرة دوراً بارزاً واضحاً في دعم النظم الرجعية والفاشية في أمريكا اللاتينية مثل نظام سوموزا في نيكارجوا، وأصبحت إسرائيل مورِّداً أساسياً للسلاح لكثير من النظم الفاسدة، كما تقدم الخدمات والحراسة لبعض الشخصيات التي لا تتمتع بسمعة طيبة في الأوساط القومية أو اليسارية. كما أن بعض المرتزقة الإسرائيليين يقومون بتدريب ميليشيات المخدرات في كولومبيا.

7 ـ ولكن، يُلاحَظ أن التغيرات التي يحدثها استيلاء اليسار والعناصر القومية المحلية على الحكم تؤدي، بغض النظر عن موقف اليسار اللاتيني من الجماعات اليهودية، إلى طرد اليهود بشكل بنيوي وإلى تهميشهم. فأعضاء الجماعات اليهودية يتركزون في المدن في قطاع التجارة والمال والصناعات الاستهلاكية (النسيج أساساً) وهذه قطاعات تخضع لعمليات جذرية من إعادة التنظيم بسبب أهميتها الإستراتيجية. فالنظم الحاكمة القومية أو الاشتراكية، على سبيل المثال، تحاول وضعها في أيدي قطاعات بشرية محلية تثق فيها. وعلاوة على هذا، فإن النظم القومية الاشتراكية نظم مغلقة من منظور أعضاء الجماعات اليهودية، ولذا لا يمكنهم من خلالها تحقيق ما يصبون إليه من حراك اجتماعي. لكل هذا، ومع استيلاء العناصر القومية أو اليسارية على الحكم، يحدث خروج يهودي. ويُلاحَظ أنه حينما انتُخب ألليندي في شيلي، نزح عدد كبير من اليهود من أعضاء الطبقة الوسطى، ولكنهم عادوا مع استيلاء بينوشيه على الحكم. والوضع نفسه ينطبق على كوبا، فقد حرص كاسترو، في بداية حكمه، على إظهار تسامح غير عادي تجاه أعضاء الجماعات اليهودية، ووفر لهم (مثلاً) اللحم المذبوح شرعياً، كما كان يوجد عضو يهودي في أول وزارة كوبية اشتراكية. ولكن إعادة تنظيم الاقتصاد على أُسس اشتراكية أدَّى إلى خروج أعضاء الجماعة اليهودية، رغم أن بعض الرأسماليين اليهود كانوا أعضاء سابقين في البوند أو على الأقل متعاطفين مع الأفكار الاشتراكية، وقد خرجوا مع أعداد كبيرة من أعضاء الطبقة الوسطى. وبحلول عام 1965، لم يبق سوى 2400 يهودي معظمهم من المسنين، ثم تناقص العدد إلى 700 عام 1992 (ولكن يجب الإشارة إلى أنه، مع تحوُّل الأبنية المهنية لأعضاء الجماعة وتركُّز أعداد كبيرة منهم في المهن الحرة، سيتزايد احتياج النظم الجديدة إليهم).

8 ـ ومن المفارقات التي تستحق التسجيل (وهذا نمط وجدناه بين أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب في العصر الحديث) أنه رغم ارتباط النخبة اليهودية بالنخبة الحاكمة وارتباط أثرياء اليهود بالمؤسسات الحاكمة وعمالتهم لها، ورغم هامشية معظم الجماهير اليهودية وعدم مشاركتها في قاعدة الهرم الاقتصادي والعملية السياسية، فإن ثمة وجوداً ملحوظاً لبعض أعضاء الجماعات اليهودية في الحركات اليسارية. وقد جاء مع المهاجرين أعداد من أعضاء حزب البوند الذين حاولوا تنظيم نقابات العمال. وابتداءً من الستينيات، لوحظ مرة أخرى أن كثيراً من الشباب اليهودي ينخرط في الحركات السياسية اليسارية والقومية بأعداد متزايدة تفوق نسبتهم القومية، وهو ما يجعل لهم وجوداً ملحوظاً داخل الحركات اليسارية ويربط بين اليهود وهذه الحركات. ورغم أن القيادات اليهودية تزيد، كنوع من رد الفعل، من ارتباطها بالنخبة الحاكمة وبعمالتها لها، فإن هذا لا يجدي فتيلاً إذ أن القيادة اليهودية ذات تراث إثني يديشي يعزلها في العادة عن المجتمع. وفي الوقت نفسه، نجد أن الشباب، وخصوصاً أعضاء الجيل الثالث، لهم جذور راسخة في مجتمعاتهم تربطهم به. وفي عام 1960، كان ثلث يهود الأرجنتين من الأجانب، ولكن نسبة الأجانب بين الأعمار المتقدمة (65 عاماً وما فوقها) كانت 97%، بينما كانت هذه النسبة في الأجيال الجديدة (14 سنة فما فوق) نحو 2.4%، وهو ما يعني أن الأغلبية الساحقة من شباب الأرجنتين الآن من مواليد الأرجنتين نفسها (تصل النسبة حسب إحصاءات 1989 إلى 94%). ونظراً لاغترابهم عن تراث آبائهم الإثني، ونظراً لأنهم لا ينتمون لتراث الأغلبية الديني، فإنهم يعبِّرون عن ذواتهم من خلال الانتماء إلى الحركات الثورية. والارتباط بين بعض أعضاء الجماعات اليهودية والحركات اليسارية يجلب عليهـا عـداء قطاعــات كثيرة في المجتمع. يظهر هذا التناقض في شيلي، فقد ساهم السناتور اليهودي فولوديا تايتلباوم في صياغة سياسات ألليندي وبرنامج "الاشتراكية من خلال القانون أو من خلال صندوق الانتخابات"، فربط بين اليهود واليسارية. ولكن، مع انتصار ألليندي، ترك كثير من أعضاء الجماعة شيلي، ولكنهم عادوا إليها مع عودة بينوشيه، وازدادوا اعتماداً على النخبة الحاكمة، وهو ما ربط بينهم وبين النظام الفاشي.

9 ـ من العناصر الأخرى الطاردة لأعضاء الجماعات اليهودية في المجتمعات اللاتينية تركزهم في المدن، وفي مهن وصناعات بعينها، وهو ما أعطاهم وجوداً ملحوظاً لا يتناسب البتة مع حجمهم الحقيقي. وهذه ظاهرة عامة في البلاد النامية حينما يتركز عنصر أجنبي أو إثني في قطاع اقتصادي واحد بسبب غياب الخبرات المحلية أو بسبب التشكيل التاريخي نفسه. ولكن، ومهما كان السبب، فإن هذا الوجود الملحوظ يجعلهم عرضة للهجوم من العناصر اليمينية والقومية التي تطمع في الاستيلاء على هذه المواقع، ومن العناصر اليسارية المعادية لمثل هذه القطاعات بشكل مبدئي وبنيوي.

10 ـ من المعروف أن العناصر المهاجرة تبحث دائماً عن مكان تستقر فيه. ولذا، فهي تنظر إلى الثورات والانقلابات، التي قد تُحسِّن وضع الجماهير، بمنظار سلبي خالص، وبالتالي فإن مثل هذه الانقلابات التي قد تكون ذات عائد إيجابي للبلد تشكل عنصر طرد بالنسبة لأعضاء الجماعات اليهودية.

11 ـ ومن عناصر الطرد الأخرى، الهيمنة الصهيونية على يهود أمريكا اللاتينية. فمعظم المؤسسات والتنظيمات اليهودية قد أصبحت خاضعة للنفوذ الصهيوني، كما أن حركيات الصهيونية، شاءت أم أبت، أصبحت تؤدي إلى خلخلة وضع الجماعات اليهودية، ذلك أن الصهيونية تترجم نفسها إلى عدم ولاء للوطن الأم. وهذا يتجلى في يهود الأرجنتين الذين يركزون جزءاً كبيراً من طاقتهم على ما يدور في إسرائيل وهو ما يعني انصرافهم عن شئون الأرجنتين. ويزيد هذا بدوره غربة الشباب اليهودي عن قيادته اليهودية. وتدار الانتخابات في فروع المنظمة الصهيونية بناء على التقسيم الحزبي في إسرائيل وكأن انتماء هؤلاء اليهود لإسرائيل لا لأوطانهم التي يعيشون فيها. ويشير يهود الأرجنتين إلى السفير الإسرائيلي باعتباره «الوكيل»، وهي الكلمة التي كانت تستخدم في الماضي للإشارة إلى الحاكم الإسباني للأرجنتين.

وقد هاجر 48.770 يهودياً من أمريكا اللاتينية إلى إسرائيل (معظمهم من الأرجنتين) هاجر نصفهم (24.136) بعد حرب 1967، وهو عدد صغير للغاية إذا أخذنا فيالاعتبار أن أمريكا اللاتينية منطقة طرد ونزوح. ولا تذكر المصادر نسبة النزوح عن إسرائيل بين يهود أمريكا اللاتينية، ولكن يبدو أنها عالية إذ أن عدد يهود إسرائيلذوي الأصول الأمريكية اللاتيني لا يتجاوز ثمانية آلاف أسرة. ورغم صغر حجم الهجرة الصهيونية، فإن هذه الهجرة تساهم في إخلاء الجماعة اليهودية من العناصر القيادية النشيطة سياسياً وتنظيمياً ومن العناصر المهتمة بهويتها اليهودية، وهذا ما يعني إفقار الجماعة اليهودية وإضعافها والقضاء على فرصة ظهور قيادة في صفوفها. وعند انتخاب منعم رئيساً لجمهورية الأرجنتين، بدلاً من ألفونسين، توقعت المؤسسة الحاكمة في الدولة الصهيونية أن بضعة آلاف من أعضاء الجماعة اليهودية سيهاجرون إليها. ولكن الذي حدث أنه هاجرت بضع مئات لم يسعدها الوضع كثيراً فعادت أدراجها أو هاجرت إلى الولايات المتحدة، نقطة الجذب الأساسية ليهود العالم. ويُلاحَظ أن الهجرة، في الماضي، كانت مقصورة على الفقراء وأعضاء الطبقة الوسطى الصغيرة، ولكن هذا النمط تغيَّر مؤخراً إذ أن عناصر الطرد في أمريكا اللاتينية تزايدت إلى درجة جعلت كل العناصر الثرية (التي تشكل النخبة القائدة) تبدأ هي الأخرى في الهجرة.

والواقع أن الجماعات اليهودية ليست ملتفة التفافاً كاملاً حول الصهيونية ومُثُلها، فثمة توترات عميقة بين الجماعة اليهودية والدولة الصهيونية لعل من أهمها دعم الدولة الصهيونية لنظم فاشية شمولية تقمع كل الجماعات الرافضة وكذلك أعضاء الأقليات وضمن ذلك اليهود. وقد قامت الدولة الصهيونيـة ببيع السـلاح للنظـام العسـكري في الأرجنتين، كما قام شامير ونافون بزيارة الأرجنتين في وقت كان معروفاً فيه أن الحكومة قامت باعتقال أعداد كبيرة من الشباب اليهودي بسبب انتمائهم السياسي والديني. وقد نُشرت صورة الجنود الإسرائيليين (الحرس الخاص برئيس الدولة الصهيونية) وهم يقومون بضرب بعض النساء اليهوديات اللائي كن يحاولن أن يوسطنه للإفراج عنأبنائهن. وينعكس التوتر بين أعضاء الجماعة والدولة الصهيونية في انصرافهم عن انتخابات المنظمة الصهيونية (وإن كانت هذه ظاهرة غير مقصورة على الأرجنتين)، كما ظهرت جمعية اسمها بريرا تحاول أن تتبنى خطاً يتملص من الصهيونية. ولكن، مهما كانت درجة الالتفاف أو التملص أو حتى الرفض، فإن الصهيونية تُخَلخل وضع الجماعة وتزيد هامشيتها.

وإلى جانب عناصر الطرد السابقة، هناك عناصر أخرى تساهم في عملية موت الشعب اليهودي في أمريكا اللاتينية، ولكنها عناصر عامة وليست مقصورة على اليهودوحدهم، من بينها توقُّف الهجرة من الخارج.فهذه البلاد لم تَعُد ترحب كثيراً بالمهاجرين.كما أن المصدر الحقيقي الوحيد للمهاجرين اليهود في العالم هو الاتحاد السوفيتي. وليس من المتوقع أن يتوجه أي من هؤلاء إلى أمريكا اللاتينية بحكم تكوينهم الثقافي وطموحهم الطبقي وبحكم قوانين الهجرة في أمريكا اللاتينية.كما أن نسبة المواليد منخفضة بين الجماعات اليهودية (طفلان لكل أسرة) بسبب تركزهم في المدن وارتفاع المستوى الاقتصادي.وبالتالي،نجد أن فئات العمر العالية آخذة في التزايد،وخصوصاً أن أعداداً متزايدة من الشباب إما أن تهاجر أو تسقط انتماءها اليهودي.ومن هنا نجد أن معدل الوفيات آخذ في الارتفاع.

لقد تحدثنا عن هامشية أعضاء الجماعات اليهودية بالنسبة إلى المجتمع الأمريكي اللاتيني (وكانت الهامشية في المجتمعات التقليدية تؤدي إلى الانغلاق الجيتوي على التراث وإلى تكلس الهوية). ولكن في إطار مجتمعات أمريكا اللاتينية، اختلف الوضع تماماً، فهذه التجمعات لم ترفض الزواج المختلط. ولهذا، ورغم أن المجتمع فشل في دمج اليهود عن طريق إعتاقهم، فإننا نجد أنه صهرهم عن طريق الزواج المختلط آخذ في التزايد وقد وصل إلى 30% في الستينيات، ويُتوقع له أن يزيد مع تزايد معدلات العلمنة في المجتمعات اللاتينية. كما أن كثيراً من الزيجات اليهودية تُعقد بطريقة الزواج المدني، وهو ما يدل على عزم العروسين على نبذ الانتماء اليهودي. ويُلاحَظ أن ثمة هوة بين الأجيال تزيد من انصراف الشباب عن المؤسسات اليهودية، وخصوصاً التربوية، وعن الهوية اليهودية. ومن هنا نجد أن هذا بدوره يساهم في عملية الصهر. وعلى كلٍّ، تتسم أمريكا اللاتينية بمقدرتها الفائقة على صهر الجماعات المختلفة من المهاجرين، وعلى هضمهم وصبغهم بالصبغة اللاتينية. ومن المعروف أن يهود شيلي، الذين هاجروا في أواخر القرن التاسع عشر، اختفوا تماماً. ويُقال إنه قد هاجر 150 ألف يهودي إلى البرازيل بين عامي 1885 و1935، ولم ينزح منهم سوى 5%. ومع هذا فإن عدد اليهود بلغ نحو 40 ألفاً فقط عام 1935.

ولكل هذا، فمن المتوقع أن يختفي يهود أمريكا اللاتينية مع بداية القرن القادم.

هويات أعضــاء الجماعـات اليهودية في أمريكا اللاتينيــة

Identities of the Members of the Jewish Communities in Latin America

من القضايا المهمة، التي تثيرها دراسة أوضاع الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية، قضية الهوية. ونحن نذهب إلى أنه لا توجد هوية يهودية عالمية واحدة وإنما توجد هويات يهودية مختلفة غير متجانسة، كما أن كل هوية يهودية تختلف إلى حدٍّ ما عن المحيط الثقافي المحيط بها (ومصدر الاختلاف عادةً ما يكون عناصر إثنية حملها معهم المهاجرون من أعضاء الجماعة اليهودية من مجتمعهم القديم). ولكن اختلاف الهويات اليهودية، كلٌّ مع محيطها الثقافي، لا يعني اتفاقها الواحدة مع الأخرى، فكل هوية يهودية رغم اختلافها عن محيطها الثقافي تكتسب معظم سماتها منه وتتحدد من خلاله. وقد شبهنا هذا الوضع بالتركيب الجيولوجي الذي يحوي طبقات جيولوجية متراكمة أو متجاورة، ولكنها لا تتفاعل الواحدة مع الأخرى.

وتتبدَّى خاصية التركيب الجيولوجي التراكمي في الجماعات اليهودية التي هاجرت إلى أمريكا اللاتينية، فهناك اليهود الإشكناز من شرق أوربا (يهود اليديشية)، وهناك يهود بوزنان (في سلفادور وجواتيمالا)، وهناك يهود بيساربيا والمجر في نيكارجوا، وهناك يهود بولندا في كوستاريكا وغيرها من البلاد، وهناك كذلك اليهود الروس واليهود الليتوانيون والجاليشيون. والعلاقات بين الجماعات السابقة لا تتسم بالمودة، فالليتوانيون والجاليشيون في حالة صراع دائم مع بعضهم البعض. أما اليهود الروس الذين يظنون أنهم يتحدثون اليديشية بطريقة أفضل، فهم يتعالون على الفريقين السابقين. وهناك، كذلك، اليهود الألمان الذين لا يعتبرهم يهود شرق أوربا يهوداً على الإطلاق، فهم مازالوا يكنون احتقارهم الألماني التقليدي للسلاف والذي يتبدَّى في شكل احتقار يهود شرق أوربا (إيست يودين). ولا نعرف الكثير عن موقف يهود فرنسا ويهود إنجلترا من هؤلاء جميعاً. ولكن بناءً على معلوماتنا عن أمريكا اللاتينية، فإنهم يحتفظون بكل تأكيد بهويتهم الفرنسية والإنجليزية على التوالي، وإن كان من المحتمل أيضاً أنهم قد انضموا إلى إحدى المجموعات السالفة الذكر باعتبار أن معظمهم من أصل شرق أوربي (يديشي). وفي مقابل كل هؤلاء الإشكناز، هناك السفارد الذين يتحدثون اللادينو، وهؤلاء يعتبرون أنفسهم أرستقراطية حقة، فثقافتهم إسبانية وجذورهم أيبيرية، ولذا فإنهم يعزلون أنفسهم عن الإشكناز وعن يهود البلاد العربية الذين يتحدثون العربية، وينقسمون بدورهم إلى يهود حلب ويهود دمشق، كما توجد مجموعة جاءت من المغرب. وكل هذه المجموعات تنقسم إلى أقسام مختلفة، فمنهم المتدين ومنهم الملحـد ومنهـم منْ تخفَّـف من عقيدته دون أن يدير لهـا ظهره تماماً. وقد بدأت تظهر في صفوفهم اليهودية المحافظة واليهودية الإصلاحية.

وينقسم أعضاء الجماعات اليهودية إلى جماعات إثنية مختلفة لا يربطها رابط. ويتبدى عدم التجانس بين الجماعات والهويات اليهودية بشكل مثير وجلي في أمريكا اللاتينية، فإدراكهم لأنفسهم ليس موحداً، وسلوكهم تجاه أنفسهم وتجاه اليهود الآخرين وتجاه الأغلبية تحدده خلفيتهم الإثنية. ولكن، من المفارقات أننا نجد أن مجتمع الأغلبية مازال يسميهم «اليهود»، وهي تسمية تفترض الوحدة حيث لا توجد وحدة.

وتظل ظاهرة التركيب الجيولوجي لهويات الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية قائمة، بينما نجد أن الهويات اليهودية المختلفة قد اختفت في الولايات المتحدة وذابت وظهرت هوية جديدة واحدة. ذلك أن أمريكا اللاتينية لم تظهر فيها (كما حدث في الولايات المتحدة) مُثُل عليا علمانية قومية مركزية منفتحة تمنح المرء الشرعية بمقدار تحقيقه النجاح (المادي) في الحياة، أي من خلال مراكمة الثروة أو أية إنجازات مادية أخرى. ويستطيع المهاجر أن يتخلى عن هويته الإثنية أو القومية الأصلية ويكتسب هوية جديدة من خلال البوتقة التي ينصهر فيها الجميع معاً بحيث يتحوَّلون جميعاً إلى مادة بشرية أمريكية.

وحين ظهرت استحالة تحقيق هذه الفكرة العضوية المتطرفة بسبب ظهور أقليات كثيرة غير بيضاء وغير بروتستانتية، اتسع نطاق الفكرة قليلاً في الستينيات فسمحت بشيء من التنوع داخل الوحدة بحيث أصبح بإمكان الأمريكي أن يحتفظ ببعض عناصر من تراثه القومي الأصلي يؤكد من خلالها هويته، شريطة ألا تتناقض إثنيته هذه مع ولائه الأمريكي الكامل، فأصبـح المواطن الأمريكي أمريكياً بشرطـة (بالإنجليزية: هايفينيتيد أمريكان Hyphenated American)، فهو عربي/أمريكي أو بولندي/أمريكي أو يهودي/أمريكي، ثم تحوَّل الجميع بمرور الوقت إلى أمريكي/عربي أو أمريكي/بولندي أو أمريكي/يهودي، أي أن الجميع كان يتم صهرهم مع السماح لهم بالحفاظ على قشرة إثنية سطحية تساعد في واقع الأمر على مزيد من الاندماج وتخبئ الانصهار الفعلي. والفكرة القومية الأمريكية، سواء في صورتها الأولى أو في صورتها الثانية، تشجع المهاجر على الاندماج. وقد ساعد ذلك على تذويب الفروق بين أعضاء الجماعات اليهودية بحيث حققوا الوحدة بينهم من خلال المجتمع الأمريكي وبسببه لا رغماً عنه.

أما الفكرة القومية في أمريكا اللاتينية، فلم تكن قط فكرة اندماجية على النمط الأمريكي. كما أن المثل الأعلى لم يكن قط علمانياً متطرفاً تستند الشرعية فيه إلى النجاح في الحياة وإلى مراكمة الثروات. بل إننا نجد أن ثمة عناصر أرستقراطية دخلت عليه، وأن الكاثوليكية كانت عنصراً أساسياً في تكوين الشخصية اللاتينية على مستوى الممارسة وعلى مستوى الصورة المثالية، وكان لهذا الوضع نتيجتان متناقضتان ولكنهما متلازمتان:

1 ـ تحوَّلت المجتمعات اللاتينية إلى مجتمعات مغلقة بالنسبة لليهود، وخصوصاً الإشكناز من ذوي الثقافة الغربية والألمانية، وبالتالي أصبح الانتماء الكامل مستحيلاً.

2 ـ وكعادة أعضاء الجماعات اليهودية والأقليات كافة، فإنهم يختلفون عن مجتمعهم في بعض النواحي ويتشبهون به في كثير من النواحي الأخرى. ولذا، فكما أن الكاثوليكية هي مصدر الهوية لشعوب أمريكا اللاتينية، فإن اليهودية أصبحت مصدر الهوية بالنسبة إلى يهود هذه البلاد. وحيث إن اليهودية ليست كلاًّ متجانساً، فهي تركيب جيولوجي تراكمي، وحيث إن معظم أعضاء هذه الجماعات لم يكن لديهم انتماء ديني يهودي قوي، فقد عاد كل منهم إلى تراثه الإثني اليهودي، وهو متنوع بعدد المجتمعات التي أتوا منها فأصبحت يهوديتهم مصدر فُرقة وتنوع لا مصدر وحدة وتجانس، الأمر الذي أضعف هويتهم بشكل كبير.

وقد ساهمت عناصر أخرى في إضعاف هذه الهوية، من بينها أن تنوع اليهود وفرقتهم وعدم تجانسهم انعكست في التنظيمات التي تضمهم وفي مؤسـساتهم اليهـودية، فلايوجد تنظيـم واحـد يضمهم جميعاً، وهناك تنظيمات تقوم على أسس دينية (محافظة وإصلاحية مقابل الأرثوذكس)، أو على أسس إثنية ( إشكناز مقابل سفارد)، أو على أسس سياسية أو طبقية (البوند والشيوعيون وغيرهم مقابل الرأسماليين). كما توجد داخل كل جماعة إثنية عشرات الجماعات. وحتى عندما ظهرت تنظيمات لادينية تستند إلى الإثنية اليهودية، فإنها لم تنجح في ضم كل اليهود. ففي بلد مثل المكسيك، على سبيل المثال، يوجد ثلاثة وستون تنظيماً تتبع لجنة مركزية واحدة، منها عشرة تنظيمات دينية وتسعة اجتماعية وثمانية ثقافية وعشرة للرعاية الاجتماعية وعشرة صهيونية وعشرة للشباب وستة لمهام مختلفة.

وتوجد مؤسسات لإدارة شئون الجماعات اليهودية يُطلَق عليها اصطلاح «قهال» وقد أصبحت هذه المؤسسات ساحة قتال بين أعضاء الجماعات اليهودية المختلفة (وبخاصة بين الإشكناز والسفارد). ومن أهم نشاطات القهال الإشراف على أمور مثل الزواج والطعام والدفن. وقد أصبح الدفن بالذات من أهم نشاطات القهال، وأصبحترسوم الدفن، التي يجأر أعضاء الجماعات اليهودية بالشكوى منها،من أهم مصادر تمويل القهال (والواقع أن سيطرة القهال على المدافن تشبه سيطرة الكنيسة الكاثوليكية على الخلاص، فلا خلاص خارج الكنيسة، ولا دفن خارج القهال). وتسيطر الحاخامية الأرثوذكسية على القهال وتأخذ موقفاً متشدداً من كثير من القضايا، الأمر الذي يعنياستبعاد أعداد كبيرة من اليهود الذين تمت علمنتهم. ويتبع القهال عدد من الموظفين والحاخامات الذين لا يتمتعون بأية مكانة اجتماعية، فمكانة الحاخام في أمريكا اللاتينية أقل من مكانة الحاخام في الولايات المتحدة (مع أن هذا الأخير قد فَقَد كثيراً من أهميته).

والقيادات السياسية اليهودية منعزلة عن الشباب. وحينما اجتاحت الموجة اليسارية شباب أمريكا اللاتينية، وضمنهم الشباب اليهودي، وجد هؤلاء أن قيادتهم اليهودية التقليدية لا علاقة لها بهم ولا يمكنها أن تعمِّق هويتهم، كما لا يمكنها أن تتحدث بلغتهم. ولا توجد قيادة يهودية شابة الآن إذ أن كثيراً من العناصر الشابة تنزح إما إلى أمريكا الشمالية بأعداد كبيرة أو إلى إسرائيل. ومن الواضح أن الشباب منصرفون عن المؤسسات اليهودية، ففي انتخابات عام 1969 لم يشارك سوى ثلث اليهود، وكان معظمهم من كبار السن. ولا شك في أن نسبة المشاركين في هذه الأيام قد قلت عن ذي قبل.

وقد ارتبطت القيادات اليهودية في أمريكا اللاتينية بالمنظمات اليهودية الأمريكية وتحاول التأثير على الحكومات التي تتبعها من خلال هذه المنظمات. وهو تدخُّل قد يأتي بنتيجة إيجابية مباشرة ولكنه يأتي بأثر عكسي على المدى الطويل، إذ يُقوي الإدراك المحلي لأن يهود أمريكا اللاتينية يربطهم رباط خاص بالولايات المتحدة، الأمر الذي يزيد هامشية أعضاء الجماعات اليهودية ويزيد انصراف الشباب اليهودي عنها.

وينعكس الوضع نفسه على تعليم أعضاء الجماعات اليهودية، فأمريكا اللاتينية، على عكس الولايات المتحدة، لا يوجد فيها نظام تعليمي علماني إجباري مجاني قوي، وإن وُجدت مدارس حكومية فهي ذات توجه كاثوليكي قوي، وتوجد مدارس كثيرة تتبع الكنيسة. وقد انعكس هذا الوضع على نظام تعليم اليهود إذ أنشأت الجماعات اليهودية مدارس يهودية، فأنشأ السفارد مدارس تكميلية بحيث يستطيع الطالب اليهودي الانخراط في المدرسة الحكومية الأرجنتينية ثم يدرس المواد اليهودية في المدرسة اليهودية. وحينما يصل إلى مرحلة الجامعة فإنه يدخل الجامعة مع غيره من الشباب. أما الإشكناز، فأسسوا مدارس لتعليم المناهج الدراسية الأرجنتينية والإسبانية واليديشية والعبرية. وقد هاجمتهم العناصر القومية باعتبار أن مثل هذه المدارس لن تعمِّق ولاء اليهود وانتمائهم لوطنهم. ولكن المدارس اليهودية، مع هذا، لم يمكنها أن تصبح مصدراً من مصادر الهوية اليهودية. وقد أدَّى تزايد معدلات العلمنة في الأرجنتين وشيلي والبرازيل إلى اختفائها، فمثل هذه المدارس تملأ فجوة زمنية بين وصول المهاجرين بميراثهماللغوي والثقافي وبين الاندماج الكلي لأحفادهم من أبناء الجيل الثالث أو الرابع. كما أن مثل هذه المؤسسات تساعد المهاجرين على استيعاب الصدمة الحضارية، وهي تشبه في هذا اليديشية، لغة الشارع اليهودي، التي استمرت في الولايات المتحدة حتى الأربعينيات، وفي أمريكا اللاتينية حتى الخمسينيات، واختفت تماماً بعد ذلك.

ويُلاحَظ أن أحداً لا يُقبل على تَعلُّم العبرية. ولا تختلف أمريكا اللاتينية في هذا عن الاتحاد السوفيتي أو الولايات المتحدة. وقد بدأت البرتغالية والإسبانية تحلان محل أية لغات أخرى جاء بها أعضاء الجماعة اليهودية. كما يُلاحَظ أن المدارس اليهودية لا تزدهر إلا في البلاد التي لا تتمتع بمعدلات علمنة عالية والتي تسود فيها المثل الكاثوليكية كما هو الحال في بيرو، أي أن انتشار المدارس اليهودية ليس مؤشراً على مدى تَقبُّل المجتمع لليهود وتسامحه معهم أو مدى نفوذهم وسطوتهم وإنما هو مؤشر على عدم تقبُّلهم وعزلتهم. وبهذا المعنى، يمكن القول بأن الكنيسة الكاثوليكية أكبر مصادر الهوية اليهودية، وهذه مفارقة كبرى، فما يحدد مدى نجاح أو فشل المدارس اليهودية حركيات المجتمع وليس حجم الميزانيات المخصصة كما تتصور المنظمات اليهودية في أمريكا اللاتينية. ولعل هذا يجعلنا نعيد النظر في الاتهام الذي كان يوجه إلى الاتحاد السوفيتي بأنه قضى على اليديشية وعلى المدارس اليهودية. فالواقع أن معدلات العلمنة والتصنيع وإتاحة فرص الحراك الاجتماعي أمام اليهود هي التي أدَّت إلى القضاء على اليديشية وعلى المدارس اليهودية، فمع تَزايُد الفرص المتاحة أمام أعضاء الجماعة اليهودية أصبح من صالح الأسر اليهودية أن تُلحق أولادها بالمدارس الحكومية كي يتعلموا الخبرات اللازمة للاستفادة تماماً من الفرص المتاحة، كما حدث في الأرجنتين وشيلي والبرازيل، وهي البلاد التي تضم الأغلبية العظمى من يهود أمريكا اللاتينية.

وكان يمكن للانتماء الديني اليهودي أن يقوي الهوية اليهودية، ولكن جماعات المهاجرين اليهودية كانت، كما أسلفنا، قد فقدت انتماءها الديني. ولذا، فإنها حولت الرموز الدينية إلى رموز إثنية، وأصبحت العبادة شكلاً من أشكال التضامن الإثني. وجمعيات الدفن التي تُعَد أهم المؤسسات اليهودية، بل المعابد اليهودية نفسها، ليست لها علاقة كبيرة بالدين أو بمعدلات الإيمان إذ يتم تأسيسها لأسباب إثنية. ومن هنا نجد أن كل جماعة يهودية لها معبدها، فالمعبد في أمريكا اللاتينية الكاثوليكية هو المعادل البنيوي لمراكز أو نوادي الجماعة في الولايات المتحدة. وبالتالي، لا يعتبر عدد المعابد اليهودية مؤشراً على الانتماء الديني إذ أن وجود المعابد لا يعني وجود العابدين. وعلى سبيلالمثال، يوجد في سنتياجو عدة معابد يهودية لا يستكمل أي منها النصاب (المنيان) المطلوب لإقامة الصلاة اليهودية وهو عشرة أشخاص. وفي بيونس أيرس، يوجد خمسون معبداً يهودياً ولا يوجد حاخامات إلا في أقل من نصفها فقط. وفي عام 1970، لم يكن يوجد في أمريكا اللاتينية سوى خمسة وأربعين حاخاماً كلهم من أوربا. ولم تكن توجد مدارس لاهوتية لتخريج الحاخامات. وقد أُسِّست أخيراً مدرسة شبه لاهوتية تُدرَس فيها بعض المقررات الدينية. ولكن، لكي يُرسَّم الخريج حاخاماً، فلابد أن يدخل مدرسة لاهوتية في نيويورك أو القدس. والمدرسة اللاهوتية آنفة الذكر تابعة لليهودية المحافظة الآخذة في الانتشار في أمريكا اللاتينية.

ومما يساهم في إضعاف الانتماء الديني أن الحاخامات الأرثوذكس هم المسيطرون على المؤسسات الدينية، وهم يرفضون إدخال أية تجديدات ويرفضون عقد أي زواج مُختلَط رغم تزايد عدد الزيجات المُختلَطة. وبطبيعة الحال، يتزايد الانصراف عن الدين في صفوف الشباب، فقد أعلن 55% من الطلبة اليهود الجامعيين في الأرجنتين أنهم لا يؤمنون بالإله (ملحدون ولاأدريون). ولا يحضر الصلاة سوى 4% من الشباب. وتوجد نسبة كبيرة من الشباب اليهودي الذي لا يعرف كيف يؤدي الشعائر اليهودية ومن بينها شعيرة الصلاة. ويمكن القول بأن الموقف السائد هو موقف عدم الاكتراث من الدين وهو على أية حال النمط السائد في المجتمعات العلمانية.

ويبدو أن معدلات العلمنة قد ارتفعت بشكل مذهل. فقد قال أحد الحاخامات إن يهود أمريكا اللاتينية يكرسون أنفسهم لملذاتهم الدنيوية بطريقة متطرفة، بحيث يبدو سكان تل أبيب (المشهورون بالانفتاح المتطرف) كما لو كانوا من الرهبان مقارنةً بهم. وقال الحاخام مازحاً: لقد دخلت النساء عصر ما بعد البكيني (على غرار ما بعد الأيديولوجيا وما بعد الحداثة) إذ يلبسن مايوهات صغيرة جداً تُسمَّى «دنتال فلوس dental floss»، وهو الخيط الرفيع الذي يستخدم لتنظيف ما بين الأسنان.

وقد بدأت مؤسسة جديدة تحل محل جمعيات الدفن والقهال أو المعبد، وهي النادي الرياضي، والنادي مؤسسة معروفة في معظم أنحاء أمريكا اللاتينية تؤسسها الجماعات المهاجرة، وهذه النوادي لا تشتغل بالدين أو السياسة ولا تحاول تغذية الإثنيات اليهودية المختلفة، وهي مؤسسات ضخمة كل منها عبارة عن نادي كبير فيه حمامات سباحة وقاعات ديسكو ومطاعم تقدم الطعام المباح وغير المباح شرعاً.

وقد رصدنا حتى الآن عنصرين أحدهما انغلاق المجتمعات الكاثوليكية، وهو عنصر كان من المفروض أن يؤدي إلى إثراء الهوية اليهودية ولكنه أدَّى في واقع الأمر إلىتفتتها إلى هويات إثنية مختلفة. أما العنصر الثاني، فهو ضعف الهوية اليهودية الذي أدَّت إليه عناصر كثيرة مثل تزايد معدلات العلمنة وتساقط النظام التعليمي. ويمكننا الآن أن نشير إلى عنصرين آخرين ساهما في هذه العملية: العنصر الأول هو الثراء الحضاري لأمريكا اللاتينية، فلتراثها امتداد تاريخي ينعكس في الموسيقى واللغة والأدب والرموز الحضارية. ويقوم الشباب من أعضاء الجماعات اليهودية بمقارنة ذلك كله بميراثهم الحضاري الإشكنازي أو السفاردي فيكتشفون مدى ضآلته، كما أنهم ينظرون إلى الصهيونية باعتبارها إطاراً للتعامل مع الواقع يزودهم بالمعنى، فيجدون أنها لا تجيب على أي من أسئلتهم. ولذا، فهم يكتسبون الهوية اللاتينية بأعداد متزايدة. كما أنحضارة أمريكا اللاتينية قد تكون رموزها الكاثوليكية مغلقة إلا أنها لم تعارض قط الزواج المُختلَط. ولذا، فإن أعضاء الجماعات اليهودية إن كانوا لا يندمجون، فإنهمينصهرون من خلال هذا الطريق، وتقوم أمريكا اللاتينية بهضمهم بكفاءة شديدة.

ويُلاحَظ أن أعضاء الجماعات اليهودية لا يوجدون، كما أسلفنا، بين الفلاحين بتراثهم الكاثوليكي، ولا بين العمال الذين تنتظمهم إما جماعات اشتراكية أو نقابات عمال كاثوليكية، وإنما يوجدون في المدن الكبيرة بين أعضاء الطبقة الوسطى التي تزداد بينها معدلات العلمنة، وبالتالي يتزايد الزواج المخـتلط الذي وصـل إلى 50% في المدنالكبرى. ولكن حيث إن حجم الجماعات اليهودية في المناطق الريفية صغـير، نجد أن نسـبة الزواج المختلط تزيد عن مثيلتها في المدن الكبرى. وتوجد أعداد متزايدة من أعضاء الطبقات الوسطى يعارضون المؤسسة الدينية ويؤسسون جماعات معادية للكنيسة والكهنوت. وينخرط أعضاء الجماعات اليهودية في مثل هذه الجماعات، وخصوصاً في المحافل الماسونية التي تُعَد من أهم مواضع التقاء أعضاء الجماعات اليهودية بأعضاء الطبقة الوسطى اللاتينية التي تعلمنت.

وفيما يتصل بالمنظمات اليهودية في أمريكا اللاتينية، فيوجد فرع للمؤتمر اليهودي العالمي على مستوى القارة مقره بيونس أيرس، وأهم الهيئات في الأرجنتين هي ديليجاسيون ديس أسوسيانيس إسرائيليتاس أرجنتيناس. (الهيئة التمثيلية للمنظمات اليهودية الأرجنتينية) Delegacion des Associanes Israelitas Argentinas، واختصارها دايا DAIA، وهي التي تتحدث باسم الجماعة أمام الحكومة وتمثل يهود الأرجنتين في المؤتمر اليهودي العالمي والقهال الإشكنازي. كماتوجد عدة منظمات سفاردية أهمها: جمعية يهود السفارد في بيونس أيرس. أما أهم المنظمات في البرازيل فهي كونفدريساو إسرائيليتا دو برازيل (الاتحاد الإسرائيليللبرازيل Confederacao Israelita do Brasil)، واختصارها CIB ومقرها ساو باولو. وهي المنظمة المركزية التي تضم جميع الاتحادات اليهودية المحلية في البرازيل، وهي التي تمثل يهود البرازيل في المؤتمر اليهودي العالمي. وتنشط المنظمة الصهيونية في صفوف المنظمات والاتحادات اليهودية.

وظـــائف أعضـاء الجماعــات اليهـودية في أمريكا اللاتينيـة

Occupations of the Members of the Jewish Communities in Latin America

لا يمكن فهم الوضع الطبقي لأعضاء الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية، وتوزُّعهم الوظيفي والمهني والحرفي، إلا من خلال رؤيتهم باعتبارهم أقلية مهاجرة. وقد وصل اليهود إلى أمريكا اللاتينية بعد عدة قرون من تأسيس هذا المجتمع، وبعد أن اكتمل كثير من ملامحه الاقتصادية والثقافية. وقد نتج عن ذلك عدة أشياء من بينها أن أعضاء الجماعة اليهودية، عند وصولهم، وجدوا أن المهن الإنتاجية الأولية (الزراعة والتعدين) تم شغلها من قبَل المستوطنين الأوائل. وحتى إن وُجدت فيها فرص فهي عادةً، بسبب الميراث الحضاري، لا يغتنمها إلا السكان المحليون. ولذا، نجد أن اشتراك أعضاء الجماعات اليهودية في الزراعة أقل بكثير من النسبة على المستوى القومي، وضمن ذلك الأرجنتين التي تضم أكبر مشروع للاستيطان الزراعي خارج إسرائيل.

واتجه أعضاء الجماعات اليهودية المهاجرون، بطبيعة الحال، إلى القطاعات غير المتطورة في الاقتصاد وإلى أعمال الوساطة التي تقوم بها الجماعات الإثنية الغريبة والمهاجرة. وقد كان القطاعان التجاري والصناعي مُهمَلين في مجتمعات أمريكا اللاتينية بسبب سيطرة القيم التقليدية (الكاثوليكية) مثل الاحتقار التقليدي للتجارة والصناعة حيث ترتبط الأرستقراطية بفكرة الحسب والنسب وملكية الأرض. ومثل هذه المجتمعات ترفض القيم العقلانية والنفعية (البروتستانتية)، مثل حب الإنجاز والتوجه نحوه والتلهف على مراكمة الثروة، وتفضل البحث عن السعادة والتوازن وتركز على حياة التأمل والزهد. وهي لا تؤمن بأن العمل خير في ذاته، أو قيمة مطلقة يجب الالتزام بها بغض النظر عن نتائجها، بل تراه شراً لابد منه، وهي لا تقبل التنافس والتناحر بوصفه وسيلة مشروعة للبقاء وتركز على الجماعية والتكافل والتراحم.

ويُلاحَظ أن القطاع التجاري والصناعي في أمريكا اللاتينية قطاع أجنبي بالدرجة الأولى، فقد كان رأس المال أجنبياً وكذلك كان العمال المهرة. وفي الأرجنتين، على سبيل المثال، كان 80% من قطاع الصناعة والتجارة في أيد أجنبية عام 1895. وفي عام 1959، كان 45.5% من مجموع المستثمرين من الأجانب، ونسبة عالية من الباقين كانوا من مواليد الأرجنتين ولكن من أبوين مهاجرين. ولذا، لم يكن اتجاه اليهود نحو هذين القطاعين غريباً.

وقد كان القطـاع التجاري، كما أسـلفنا، يتسـم بالتخـلف. ومن ثم، اعتمدت مناطق واسعة في الأرجنتين على تصدير محاصيلها وموادها الخام. ولكن هذه المناطق كانت، مع هذا، تضم عدداً لا بأس به من السكان محدودي الدخل تتزايد تطلعاتهم الاستهلاكية، وخصوصاً بعد أن بدأوا يختلطون بالمهاجرين الذين أحضروا أنماطاً استهلاكية غير مألوفة، أي أن احتياجات بشرية جديدة ظهرت وكان لابد من الوفاء بها. وهنا يأتي دور الجماعة الوظيفية المالية الوسيطة لأن التاجر الأرجنتيني المحلي لم يكن يتاجر إلا في البضائع المستوردة الفاخرة مرتفعة الثمن وهو ما جعلها مقصورة على الأغنياء بعيدة عن متناول الفقراء. كما لم يكن التاجر الأرجنتيني يقدم أية تسهيلات ائتمانية لزبائنه إذ كان عليهم أن يدفعوا الثمن نقداً.

وداخل هذا الإطار، لعب أعضاء الجماعات اليهودية دوراً ريادياً مهماً، فهم ككل الجماعات المهاجرة يتسمون عادةً بعدة سمات من بينها تحرُّرهم النسبي من التقاليد والقيم، أية تقاليد وأية قيم. وهم لا يدينون بالولاء للقيم الأخلاقية أو الدنيوية للمجتمع. ولذا، فهم يشكلون عنصراً ريادياً، كما أنهم يأتون بخبرات تجارية ومالية ليست متوافرة في المجتمع المضيف بفضل ميراثهم الاقتصادي. ففي بلادهم الأصلية، أساساً روسيا، كانوا يعملون باعة جائلين يتاجرون في السلع الرخيصة ويتحملون من المخاطر ما لا يتحمله التاجر المحلي المستقر، ويصلون إلى الأماكن التي لا تصل إليها ذراع المؤسسات الاقتصادية الحديثة. وقد جاءوا دون أي رأسمال أو جاءوا برأسمال صغير لا يُذكَر، ولكنهم كانوا يملكون مجموعة من المهارات غير المتوافرة في المجتمع، ولهذا اتجهوا نحو البحث عن مجالات جديدة في الصناعة والتجارة لا تحتاج إلى رأسمال كبير بقدر ما تحتاج إلى مهارات خاصة. وقد كان من بين المهاجرين عمال في صناعة الملابس ونجارون وصناع أثاث وجواهرجية وصناع ساعات وعمال بناء وصناع أحذية وقبعات وخبازون. فتركزوا في إنتاج هذه السلع، وارتادوا كل الأسواق، ووصلوا إلى قطاع محدودي الدخل، وخصوصاً أنهم كانوا على استعداد للبيع بالتقسيط. وقد كان كثير من التجار المتجولين حرفيين في بلادهم، فكانت العملية الاقتصادية تبدأ بصناعة السلع في المنزل داخل إطار الاقتصاد المنزلي والصناعة المنزلية حيث يقوم أعضاء الأسرة بعملية التصنيع بأنفسهم. وقد أسهم التاجر اليهودي المتجول في زيادة الإقبال على السلع الاستهلاكية والترفية، فوسَّع نطاق السوق وحجم الطلب، وهو ما ساهم في تنشيط اقتصاديات المنطقة التي يرتادها. وكان هذا واضحاً في الأرجنتين على سبيل المثال. ولكن، بطبيعة الحال، زاد هذا النشاط أيضاً حسد الوسطاء الآخرين الذين ألفوا الطرق التقليدية في التسويق. وقد كان هناك بعض أعضاء الجماعات اليهودية ممن لا كفاءات لهم، أو ممن لهم كفاءات لا يستطيع المجتمع استخدامها مثل طلبة الجامعات الروسية الثوريين الذين نفاهم النظام القيصري أو موظفي الحكومة الذين كانوا يعملون في وظائف السكرتارية ولكنهم لا يجيدون اللغة الإسبانية أو البرتغالية. كل هؤلاء استوعبتهم الوظائف الهامشية في المدينة، أو انخرطوا في صفوف الطبقة العاملة (اليهودية) حيث كانوا يعملون في المصانع التي يمتلكها يهود، وهو ما كان يجعلهم عرضة للاستغلال إذ أن فرص الالتحاق بمصانع أخرى كانت ضعيفة أو منعدمة. ويجب ملاحظة أن عدد أعضاء الجماعات اليهودية الذين انخرطوا في سلك الطبقة العاملة كان صغيراً لأن القاعدة الصناعية في أمريكا اللاتينية كانت صغيرة والأجور كانت أقل كثيراً من نظيرتها في أوربا، كما لم تكن توجد اتحادات عمالية لحماية العمال. كذلك ظهر بين اليهود صناعات منزلية بدائية فيما يُسمَّى «ورش العرق»، وهي صناعات ملابس تُعدُّ امتداداً لتركز اليهود في أعمال الرهونات في روسيا.

ومن الأعمال التي عمل بها أعضاء الجماعات اليهودية مهنة البغاء الذي يُعدُّ شكلاً من أشكال التجارة المتجولة. فالبغيّ مثل التاجر المتجول، فقيرة لا تملك شيئاً وتود أن تبيع السلعة التي يرغبها الجمهور. والظروف التي أدَّت إلى ظهـور التاجر المتجـول هي نفسـها التي أدَّت إلى ظهور البغاء، أي وجود حاجة ما لدى المجتمع لا يمكنه الوفاء بها داخل مؤسساته القائمة، وهي في هذه الحالة وجود عدد كبير من الذكور المهاجرين بدون إناث. ويضاف إلى هذا وجود عدد كبير من الإناث اليهوديات في منطقة الاستيطان اليهودية، وخصوصاً جاليشيا، من الراغبات في الحراك الاجتماعي. وقد ظهرت شخصية القواد اليهودي الذي كان يَعدُ ضحيته بحياة مريحة فيها قسط من المتعة والراحة يختلف عن حياة الشقاء في ورش العرق والمستوطنات الزراعية. وكان القوادون دعامة المسرح اليديشي وحياة اللهو في المدن الأرجنتينية.

وترتبط أمريكا اللاتينية بتجربة يهودية في الاستيطان الزراعي (تجربة البارون هيرش) وهي تجربة لم يُقدَّر لها النجاح لأسباب كثيرة ومركبة.

وقد تطورت مجتمعات أمريكا اللاتينية وتزايدت معدلات التصنيع والتحديث، ولم يبق وضع أعضاء الجماعات اليهودية على ما كان عليه إذ أتيحت أمامهم فرص جديدة. وساعدت الحربان العالميتان على هذه العملية. ولذا، نجد أن اليهود حققوا حراكاً اجتماعياً في الأرجنتين والبرازيل وشيلي، وهي البلاد التي تركز فيها الغالبية العظمى من اليهود، كما أنها البلاد التي حقق سكانها دخلاً عالياً ومعدلات عالية من التصنيع. وقد أخذ هذا الحراك أشكالاً كثيرة، فالبائع اليهودي المتجول الذي عمل في هذه المهنة كعمل مؤقت، وكذا العامل الذي كان يعمل في المصنع بشكل غير نهائي لتحقيق بعض الأرباح لأنه مضطر إلى ذلك، وذلك الذي لم يكن قانعاً بوضعه بسبب جذورهالطبقية، هؤلاء كانوا يشترون محالَّ ثابتة ويتحولون إما إلى صاحب عمل ثابت أو تاجر صغير أو يتجهون إلى الصناعة مستخدمين مهارات المهاجرين اليهود من أوربا لتصنيع المواد الخام المحلية. وقد نجح اليهود في كلتا الوظيفتين لأنهم غير مرتبطين بأي وطن أصلي يرسلون إليه أرباحهم، بل كانوا يعيدون استثمار الأرباح التي يحققونها، وهو ما أدَّى إلى اتساع حجم مشروعاتهم التجارية والصناعية.

اتجه أعضاء الجماعات اليهودية إلى الصناعة في فترة مبكرة. فمنذ عام 1884، تركَّز اليهود في صناعة تكرير السكر ومعامل التبغ والخشب والكيماويات والزيوت والعطور ومصانع التغليف والنظارات وأجهزة التكييف. ويُلاحَظ أن هذه الصناعات جميعاً صناعات استهلاكية وصفت بأنها صناعات قريبة من المستهلك، على عكس الصناعات الثقيلة الأولية البعيدة عن مرحلة الاستهلاك (المرحلة النهائية). ولا شك في أن هذا يعود إلى الميراث الاقتصادي للمهاجرين اليهود. وقد عمل اليهود أيضاً منذ فترة مبكرة بالتصدير والاستيراد، كما عملوا كمديرين ومهندسين. وقد تطوَّر كل هذا بتزايد معدلات التصنيع والعلمنة، حتى نجد أن 37% من أعضاء الجماعات اليهودية في الأرجـنتين كانوا يعملون، في السـبعينيات، في قطـاع التجارة، و22% في الصناعة، و10% كمديرين، وهي نسبة أعلى من النسبة القومية (وقد اختلفت النسبة قليلاً في الثمانينيات إذ بلغ عدد الذين يقومون بأعمال تجارية 50% مقابل 22.5% في القطاع المالي وقطاع الخدمات). وفي البرازيل، بعد المعجزة الاقتصادية في السبعينيات، نجد أن 27% من أصحاب الأعمال منهم. وقد حقق أبناء المهاجرين من العمال وصغار التجار حراكاً اجتماعياً. ولكن هذه العملية استغرقت وقتاً طويلاً نسبياً، فأحفاد المهاجرين في أمريكا الشمالية أصبحوا مهنين، أي أفراداً في النخبة. أما في أمريكا اللاتينية، فقد حققوا معدل الحراك نفسه في أربعة أجيال بدلاً من ثلاثة. ويتضح نجاح أعضاء الجماعة في تحقيق قسط كبير من الحراك من واقع أن أعداداً متزايدة من الشباب اليهود تتلقى تعليماً جامعياً وتتركز في المهن وقطاع الخدمات أقل من تركزها في التجارة.

ويمكن وصف هذه العملية بأنها تبرجز الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية، وتحوُّلها من جماعة وظيفية مالية وسيطة إلى جماعة تنخرط في سلك الطبقة الوسطى اللاتينية. ولكن ثمة خصوصية لاتينية للطبقة الوسطى تنعكس بطبيعة الحال على أعضاء الجماعة اليهودية. فيُلاحَظ، حينما يتحول العامل اليهودي في الولايات المتحدة إلى عضو في الطبقة الوسطى، أنه ينخرط في سلك طبقة وسطى قوية. أما في أمريكا اللاتينية، فإنه ينخرط في سلك طبقة وسطى محدودة وضعيفة محصورة بين الأرستقراطية وجماهير الفلاحين والعمال المعدمين. ولذا، فهم يصبحون جزءاً من الجماعات الثرية (القطط السمان) في البلاد النامية التي تتسم بوجود هوة اجتماعية واقتصادية بينها وبين الجماهير الفقيرة. وهذا الاستقطاب الطبقي يؤدي إلى ظاهرة العنف في النشاط السياسي ويخلق مشكلات أمنية. وقد تحالف أعضاء الطبقة الوسطى المعادية للكنيسة داخل المحافل الماسونية وغيرها من المؤسسات العلمانية مع أعضاء الجماعات اليهودية الذين شقوا طريقهم.

توطين أعضاء الجماعات اليهودية في الأرجنتين

Settlement of the Members of the Jewish Communities in Argentina

ترتبط أمريكا اللاتينية بتجربة يهودية في الاستيطان الزراعي هي قيام البارون هيرش بتوطين عدة آلاف من اليهود في الأرجنتين ضمن محاولته تحويل الفائض البشري اليهودي عن أوربا وتوجيهه إلى بقعة أخرى في العالم، حيث يمكن تحويلهم من عناصر طفيلية هامشية ضارة (كما كان يُقال آنذاك) إلى عناصر إنتاجية نافعة. وقد ارتبطت الإنتاجية بالزراعة لأنها كانت كذلك في التراث الشعبي والفكر الشعبوي الروسي الذي تأثر به أعضاء الجماعات اليهودية (ومنهم الصهاينة). وقد أشرفت عدة وكالات يهودية على عملية التوطين من أهمها رابطة الاستيطان اليهودي (إيكا) التي قامت بتوطين اليهود في الأرجنتين وجمهورية الدومينكان وبوليفيا، وهي دول كانت تحتاج إلى مهاجرين للعمل في الزراعة حيث كانت تتوافر فيها أراض زراعية تُعطَى للوافدين الجدد بتسهيلات ائتمانية مريحة. وكانت نسبة اليهود الذين يعملون بالزراعة عام 1935، أي قبل الحرب العالمية الثانية، هي: 4.3% من يهـود بولندا، و4.2% من يهـود روسـيا، و2.2% من يهـود الولايات المتحدة، و5.8% من يهود الأرجنتين، وكانت هذه أعلى نسبة في العالم. وكانت النسبة قبل ذلك أعلى كثيراً، فقد وصلت إلى 22% عام 1920، ولكن العدد انخفض وتضاءل حتى أنه لم يزد في الستينيات على 2%. والواقع أن العدد آخذ في التضاؤل حتى أن كل ما تبقى من التجربة هو آثارها وبعض الظواهر التي تتسم بالطرافة مثل ظاهرة الكاوبوي اليهودي في هذه المستوطنات. ويعود فشل التجربة في الأرجنتين إلى عدة أسباب مرتبطة بحركيات المجتمع الأرجنتيني وخصوصيته ولا علاقة لها بما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» ولا بأية حركيات اجتماعية مقصورة على أعضاء الجماعة اليهودية ولا بطبيعة اليهود الأزلية التي تنفر ـ كما يقول العنصريون ـ من الزراعة:

1 ـ كانت الهيئات التوطينية اليهودية هيئات غير حكومية ليست لها صلاحيات كافية، كما أنها كانت تقوم بتوطين اليهود في أي مكان متاح في العالم، الأمر الذي كان يعني أن هذه الهيئات لم تكن مهتمة كثيراً بالأوضاع المحلية، وكانت تدرس الظروف الصالحة للتوطين من الناحية المادية والخارجية الظاهرة دون اعتبار كبير للأبعاد الثقافية الكامنة الداخلية الخاصة بجماعة المهاجرين اليهود. وقد كانت هذه الوكالات جاهلة تماماً بالظروف الثقافية المحلية وبظروف يهود شرق أوربا وبالتوترات التي يمكن أن تنجم عن توطين اليهود في أمريكا اللاتينية.

2 ـ كان يهيمن على هذه الهيئات يهود فرنسا المندمجون. وهؤلاء كانوا يرون أن الهدف من نشاطهم التوطيني ليس إنقاذ اليهود وحسب وإنما دمجهم في مجتمعاتهم تماماً كما اندمجوا هم في مجتمعهم الفرنسي اندماجاً كاملاً. وقد بذلوا جهوداً متطرفة في هذا المضمار. وهم، إلى جانب هذا، كانوا يكنون احتقاراً عميقاً ليهود اليديشية من شرق أوربا وثقافة الشتتل المتدنية. ولذا، كانوا يرون أنها ثقافة لا تستحق الحفاظ عليها. وقد قاومت هذه الهيئات فكرة إنشاء نظام تعليمي خاص باليهود، خشية أن يحافظوا على هويتهم اليديشية الشرق أوربية مع أن مثل هذا النظام التعليمي، بسبب طبيعته المختلطة، حيث يتضمن مقررات دراسية مختلطة أرجنتينية ويهودية شرق أوربية، يشكل عادةً وسيلة مهمة من وسائل التأقلم والدمج.

3 ـ هذه الهيئات لم تشرك المهاجرين في صنع القرارت الخاصة بهم والتي تحدد مصيرهم، وهو ما زاد تفاقم كثير من المشاكل.

4 ـ تم توطين المهاجرين اليهود في ضياع صغيرة (بالأسبانية: «ميني فونديا minifundia») وليس في الضياع الكبيرة (بالأسبانية: «لاتيفونديا latifundia») ذلك لأن المؤسسات اليهودية التوطينية لم يكن لديها إمكانات مالية لشراء ضياع كبيرة، كما أنها كانت ترى ضرورة ألا يحقق اليهود بروزاً أو تركزاً غير عادي في أي من المناطق. ومع هذا، يوجد الآن مزارعون يهود يملكون ضياعاً أصغرها حجماً تصل إلى ثمانية آلاف هكتار، اشتراها المستوطنون الناجحون الذين راكموا بعض الثروات، كما أن بعض اليهود استخدم ما حصل عليه من تعويضات ألمانية لشراء ضياع كبيرة. وأخيراً، هناك أعضاء الطبقة الوسطى الذين اشتروا ضياعاً كبيرة لاكتساب قدر من المكانة والهيبة.

5 ـ أدَّى ارتفاع أسعار الأراضي إلى قيام كثير من المستوطنين ببيع أرضهم واستثمار النقود في الصناعة والتجارة، وهو أمر كان يسيراً بالنسبة لهم بسبب الميراث الاقتصادي.

6 ـ كانت المؤسسات التوطينية تتكفل بتوطين المهاجرين الجدد وحسب وكانت ترفض المساهمة في دعم أبناء المستوطنين وتزويدهم بالأرض اللازمة للاستمرار في الزراعة. ولذا، لم يكن أمام أبناء المستوطنين من مفر من أن يعملوا أقناناً أو فلاحين بالأجر أو يهاجروا إلى المدينة.

7 ـ من المُلاحَظ أن كثيراً من الأراضي التي اشترتها الهيئات اليهودية لم تكن من أجود الأراضي الزراعية، وربما يعود هذا إلى انعدام خبرة القائمين على هذه الهيئات.

8 ـ أدَّى صغر حجم الضياع وتفرُّقها وتباعدها إلى صعوبة الحفاظ على الحياة اليهودية الجماعية التي تتركز حول المعبد والطعام الشرعي والمدرسة الدينية والمدفن.

9 ـ كان للمدن جاذبية خاصة بالنسبة لأعضاء الجماعات اليهودية المهاجرة بسبب أصولهم الحضارية في شرق أوربا وعدم خبرتهم بالزراعة. وكذلك وجد اليهود في المدينة تلك المؤسسات اليهودية اللازمة لحياتهم اليهودية والتي لم توفرها لهم الهيئات التوطينية. كما أن أعضاء الجماعة كانوا أساساً جماعة حضرية لها طموحات حضرية مثل الرغبة في الأمن الاقتصادي وتحقيق الحراك الوظيفي، كما كان لها أسلوب حياة يركز على الإنجاز في مجال التعليم ذي الآفاق الواسعة، وهي أمور كان يمكن تحقيق بعضها في سياق حضري ولا يمكن تحقيقها في بيئة ريفية.

10 ـ إلى جانب العناصر السابقة الخاصة بالمؤسسات اليهودية والتكوين الحضاري الشرق أوربي لليهود، وميراثهم الاقتصادي، هناك عناصر خاصة بالمجتمع الأرجنتيني نفسه من بينها أن القطاع الزراعي في الأرجنتين والعالم بأسره كان قد بدأ يفقد شكله التقليدي ويصبح جزءاً من النظام الرأسمالي العالمي والاقتصادي النقدي والميكنة الزراعية. وكان القطاع الزراعي، كذلك، آخذاً في الانكماش أو لم يَعُد فيه مجال للمزارع الصغيرة.

11 ـ لم تدعم الحكومة الأرجنتينية جماعات المهاجرين التي اشتغلت بالزراعة كما لم تغيِّر نظام ملكية الأرض بشكل يتيحها للمهاجرين، ولم تقم الحكومات كذلك بتوفير البنية التحتية اللازمة للانتشار الزراعي من مدارس وغيرها.

لكل هذا، تساقط الاستيطان الزراعي اليهودي في الأرجنتين تماماً كما تساقط كثير من المستوطنات غير اليهودية ونزحت أعداد كبيرة متجهة إلى الصناعات. وبذا، أصبحت المستوطنات مجرد محطات استراحة للمهاجرين تكيفوا أثناءها مع الحضارة المحيطة بهم واصطبغوا بالصبغـة الأرجنتينيـة وأصـبحوا مهيئين بشـكل أفضل للاستقرار في المدن.

علاقة أعضاء الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية بالنخب الحاكمة

Relationship between Members of the Jewish Communities and the Ruling Elites in Latin America

أشرنا في المدخل السابق إلى أن أعضاء الجماعات اليهودية بدأوا يصبحون أعضاء في الطبقة الوسطى. ولكننا حينما نقرر ذلك فنحن نفعل ذلك مع كثير من التحفظ لأنهم احتفظوا بالكثير من ملامح الجماعة الوظيفية المالية، فهم طبقة وسطى من ناحية الدخل والمقاييس الخارجية ونمط الاستهلاك ومتوسط العمر، ولكنهم ليسوا كذلك من ناحية التوزُّع الوظيفي والمهني أو من ناحية العلاقة مع النخبة الحاكمة. فالطبقة الوسطى توجد بين النخبة الحاكمة والجماهير، وهي تقوم بدور الوسيط. وهذا يتطلب علاقة قوية مع النخبة والجماهير وأن تكون الطبقة الوسطى جزءاً عضوياً من المجتمع ولا تتواجد في مسامه وحسب، وهو الأمر الذي لم يحققه أعضاء الجماعات اليهودية. فقد حققوا وضعاً اقتصادياً متميِّزاً، ولكنه كان في الواقع متميِّزاً لتركزهم في قطاعات بعينها دون غيرها، كما أن تميُّزهم هذا لم يترجم إلى مكانة سياسية. وهذا وضع مختلف إلى حدٍّ ما عن وضع يهود الولايات المتحدة الذين حققوا حراكاً اجتماعياً ترجم نفسـه إلى مكانة رفيعـة وهيبة وقـوة. ولتفسير هذه الظاهرة، يجب الإشارة إلى أن الانضمام إلى النخبة أمر صعب في المجتمعات ذات التقاليد العريقة والامتداد التاريخي والهوية الواضحة. وهذه عناصر يتسم بها المجتمع اللاتيني بشكل واضح. كما أن وضع النخبة داخل هذا المجتمع، وطريقة الانضمام إليها، يستند إلى ثلاثة عناصر أساسية، هي: الكاثوليكية، وملكية الأراضي، والأصل الأرستقراطي العريق. وهي جميعاً أصول تستبعد اليهود باعتبارهم مهاجرين وغير مسيحيين، وخصوصاً أن ارتباط اليهود بالتجارة في الوجدان الغربي المسيحي ثم في الوجدان اللاتيني (وهو ارتباط تؤكده حقيقة وضع اليهود) زاد قوة الطرد خارج النخبة. وحينما ظهرت نخب جديدة في المجتمع، مثل القوات المسلحة، فإن عملية الانضمام إليها كانت تتسم بمعايير تستبعد اليهود. ولذا، نجد أن نسبة الضباط اليهود في القوات المسلحة نسبة لا تُذكَر. ولم يؤد ظهور نخب معارضة حديثة، مثل القوميين واليساريين، إلى ضم بعض أعضاء الجماعات اليهودية، بل أدَّى إلى مزيد من الاستبعاد لهم نظراً لأن هذه الحركات ذات بعد محلي وتؤكد الخصوصية، وهو ما كان يعني تأكيد رموز التراث اللاتيني الكاثوليكي. ومن العناصر الأخرى التي باعدت بينهم وبين القوى القوميـة واليسـارية، اعتماد أعضـاء الجماعـة على الولايات المتحدة، وارتباط اليهود في الذهن اللاتيني باليانكي، وارتباطهم مؤخراً بإسرائيل (رجل أمريكا القبيح في أمريكا اللاتينية). هذا على الرغم من وجود أعداد كبيرة من الشباب الأرجنتيني في صفوف اليسار.

والجماعة اليهودية، إلى جانب هذا، صغيرة في حد ذاتها في كل بلاد أمريكا اللاتينــية وصغيرة بالنسـبة إلى عـدد الـسكان وهي جماعـات منقسـمة فيمـا بينهــا. كمــا أن تركُّزهـم في مهن وقطاعات اقتصادية معينة يعني استبعادهم من قطاعات أخرى، الأمر الذي يعني انعدام تأثيرهم فيها كما يعني ظهور شكل من أشكال الغيرة بين أعضاء الأغلبية الذين يتركزون في القطاعات التي يتواجد فيها اليهود بكثرة. ويعني هذا التركز أيضاً أنهم غير ممثَّلين في كل الطبقات وفي مؤسسات سياسة اجتماعية عظيمة الأهمية مثل اتحادات العمال والمزارعين، ومن ثم فلا يمكنهم أن يلعبوا دور الطبقة الوسطى العضوية.

وكان من الممكن أن يلـعب اليهــود دوراً ضاغطاً من خلال الانتخابات. ولكن صغر حجمهم، وانقسامهم إلى جماعات مختلفة، ومعـدلات الاندمـاج العالية بينهم، جعلت ذلك أمراً عسيراً. وعلى أية حـال، فإن الديموقراطية في أمريكا اللاتينية ليست ذات مؤسسات راسخة، ذلك لأن جماعات الضغط الأخرى مثل القوات المسلحة بانقلاباتها المتكررة والحركات اليسارية تجعلها تفقد كثيراً من أهميتها.

وثمة سبب أخير هو عدم ظهور شخصيات يهودية قيادية يمكنها أن تمثل اليهود داخل النخبة بسبب انقسام الجماعات اليهودية، وبسبب هجرة العناصر الشابة الواعية بهويتها إلى إسرائيل، وهجرة العناصر الشابة التي تطمح إلى مستوى أعلى من الحراك الاجتماعي إلى الولايات المتحدة.

ويذهب بعض الدارسين إلى أن الجيل الأول من اليهود، الذي اشتغل بالتجارة والصناعة، كان محكوماً عليه بالهلاك إما على يد اليمين المرتبط بالقيم الإقطاعية وإما على يد اليسار الذي يعبِّر عن القوى المعادية للمشروع الخاص. أما الجيل الجديد من الشباب اليهودي، الذي يُقبل بحماس على التعليم الجامعي، فهو مركز أساساً في الأعمال المهنية الإدارية. ومن ثم، فإن المجتمع اللاتيني الجديد يحتاج إلى خدماتهم التي ستتزايد الحاجة إليها مع تزايد معدلات التحديث والعلمنة. بل إن النظم اليسارية قد تتيح أمامهم فرص الحراك الاجتماعي والانضمام إلى النخبة، وهو الأمر الذي لم يحققوه من خلال اشتغالهم بالتجارة أو الصناعة. وقد بدأ يظهر فعلاً يهود بين أعضاء النخبة الحاكمة في الأرجنتين. وذهبت إحدى الدراسات إلى أن ثلثي يهود البرازيل من النخبة. وربما يكون الأمر كذلك، لكن من الممكن أن يكون هؤلاء قد انضموا إلى أعضاء النخبة أو الطبقة الحاكمة بحسب شروط هذه النخبة نفسها. وربما سُمح لهم بذلك بعد أن أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من المجتمع اللاتيني بثقافته ورؤيته. وعلى أية حال، فمع تزايد معدلات اندماج أعضاء الجماعات اليهودية تتناقص أعدادهم. ويمكن القول بأنه ليس من المتوقع أن يلعب اليهود دوراً يهودياً مستقلاًّ داخل النخب الحاكمة في أمريكا اللاتينية تماماً كما هو الحال في الولايات المتحدة.

الجماعات اليهودية في كل من أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة: منظورمقارن

The Jewish Communities in Latin America and the United States: Comparative Perspective

لا توجد أية أهمية خاصة للجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية من منظور الصراع العربي الإسرائيلي، فهي جماعات ضئيلة العدد لا تهاجر منها أعداد مهمة إلى الدولةالصهيونية. وهي لا تشكل «لوبي» أو جماعة ضغط داخل المجتمع اللاتيني، كما أنها متجهة إلى النقصان السريع، بل ربما إلى الاختفاء. ولكنها، مع هذا، في غاية الأهمية من منظور دراسة الجماعات اليهودية في العالم ومحاولة تحديد سماتها وعزلتها وبنيتها وحركيات اندماج أعضائها. وتتزايد أهميتها حين نقارنها بأهم الجماعات اليهودية في العالم، أي يهود الولايات المتحدة، فهما عينتان جيدتان للمقارنة إذ أن جماعات المهاجرين التي اتجهت إلى الولايات المتحدة وتلك التي استقرت في أمريكا اللاتينيةستبين لنا بعض حركيات اندماج اليهود وانعزالهم وطريقة تشكيل هويتهم. ويمكننا أن نقول إن مصدر الاختلاف بين يهود الولايات المتحدة ويهود أمريكا اللاتينية هوالمجتمع المضيف أو مجتمع الأغلبية أو المجتمع الجديد. وهذا، بدوره، سيبين أن فهم الجماعات اليهودية يقتضي العودة إلى حركيات المجتمعات والتشكيلات الحضارية التي يوجد فيها أعضاء الجماعات اليهودية ولا يتم بالعودة إلى هذا الشيء الوهمي الذي يُسمَّى «التاريخ اليهودي» الذي لا يمكنه أن يفسِّر هذا التنوع الهائل وعدم التجانسالعميق بين أعضاء الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية من جهة ووحدتها وتجانسها في الولايات المتحدة من جهة أخرى. ويمكن رؤية مصادر الاختلاف بين الجماعتين على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي على النحو التالي:

1 ـ ربما كانت أهم نقاط الاختلاف بين الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية أن الولايات المتحدة كيان سياسي ضخم موحد تحكمه دولة قومية قوية واحدة على عكس أمريكا اللاتينية التي انقسمت إلى عدة دويلات ودول. ويُقال إن هذا الانقسام يعود إلى طبيعة أمريكا الشمالية المنبسطة التي جعلت تطوير شبكة مواصلات ضخمة وبنية تحتية موحَّدة أمراً سهلاً، على عكس أمريكا اللاتينية التي تقسمها سلاسل الجبال الضخمة الشاهقة التي أدَّت إلى ظهور دول مختلفة وشبكات مواصلات مستقلة تستجيب لاحتياجات كل منطقة على حدة. كما أن التراث البروتستانتي في الولايات المتحدة شجع بكل تأكيد على قيام دولة قومية في وقت مبكر، ذلك لأن البروتستانتية لا تدين بولاء لكنيسة عالمية تضم كل البشر بل تعبِّر عن نفسها من خلال كنيسة قومية. كما أن ثمة ارتباطاً اختيارياً بين الرأسمالية والبروتستانتية، على النحو الذي أشار إليه فيبر. وهذا على عكس التراث الكاثوليكي ذي النزعة العالمية والذي يخلق توتراً بين النزعة القومية والنزعة الدينية إذ تعبِّر النزعة الدينية عن نفسها خارج الحدود القومية.

وقد أدَّى قيام الدولة القومية في الولايات المتحدة إلى نجاحها في إعادة صياغة المهاجرين وأمركتهم، وذلك عن طريق نظام تعليمي حكومي مجاني ساعد المهاجرين وأبناءهم على التخلي عن ميراثهم الثقافي وعلى اكتساب الهوية الجديدة برموزها ولغتها ومُثلها. ولعبت المدارس الحكومية الليلية دوراً مهماً في ذلك. ومن المعروف مثلاً أن الأطفال في الولايات المتحدة كانوا يتعلمون يمين الولاء للدولة قبل تَعلُّم حروف الهجاء. كما لعب التجنيد العسكري دوراً لا يقل أهمية في عملية اندماج المهاجرين وضمن ذلك اليهود. كل هذا على عكس ما حدث في أمريكا اللاتينية حيث لم يتم تطوير نظام تعليمي قومي متكامل. وحينما تم تأسيسه في نهاية الأمر، سادت فيه القيم الكاثوليكية. أما الجيوش الوطنية، فقد تحولت بعد الاستقلال إلى أدوات قمع في يد السلطات. ولم تكن هذه الجيوش منفتحة على كل طبقات الشعب وأقلياته، مثل القوات المسلحة الأمريكية، وإنما كانت ذات توجُّه كاثوليكي أرستقراطي أو زراعي، أي أن مؤسسات الدمج الوطني الأساسية كانت غائبة أو ضعيفة في أمريكا اللاتينية، الأمر الذي ساعد على تشجيع عناصر التفتت في المجتمع. وقد انعكس هذا الوضع على أعضاء الجماعات اليهودية، فلم تنشأ منظمة مركزية تضم كل يهود أمريكا اللاتينية إذ استقل يهود كل دولة عن يهود الدول الأخرى. بل إن كل مجموعة يهودية داخل نطاق الدولة الواحدة انقسمت إلى جماعات يهودية مختلفة احتفظت كل واحدة منها بسماتها الإثنية والحضارية.

2 ـ أما المصدر الثاني للاختلاف فينصرف إلى النظام السياسي ويرتبط بالمصدر السابق. فالنظام السياسي الأمريكي يستند إلى مُثُل عصر الاستنارة والإعتاق وإلى مُثُل العقل والتجريب، ومن هنا فإنه رفض الماضي والتراث وركَّز على الحاضر والمستقبل ووجد أن مصدر المعرفة الوحيد هو العقل (المادي النفعي) والحواس. ويمكن النظر إلى الولايات المتحدة ككل باعتبارها تجربة تبدأ من نقطة الصفر، صفحة بيضاء (باللاتينية: تابيولا رازا tabula rasa) دون أية أعباء تاريخية، وهو الأمر الذي يناسب الجماعات البشرية التي تريد هي الأخرى أن تبدأ حياتها الجديدة من نقطة الصفر الافتراضية هذه. والمجتمع الأمريكي تسوده مُثُل الديموقراطية والمساواة حيث يتم انتقال السلطة فيه بشكل سلمي عن طريق الانتخابات، كما تسوده مُثُل علمانية حيث يؤمن الإنسان بأن العالم خاضع للقانون الطبيعي وبأن الإله قيمة شخصية محضة يكشف عن نفسه (إن وُجد) بالطريقة نفسـها وداخـل النطاق المحـدود نفسـه، أي من خـلال القانون الطبيعي. ولذا، فهذا المجتمع يرفض أن تكون المُثُل الدينية هي محدد السلوك الإنساني، ويقوم بفصل الدين عن الدولة، ويعادي الكهنوت والكهنة. لكن هذه الرؤية لا تعطي اليهودي مركزية خاصة في الكون أو في دورة المعصية والتوبة والخلاص. وعلمانية الولايات المتحدة، علاوة على كل هذا، تم التوصل إليها دون حروب دينية، أي أنها مُعطَى وبُعْد أساسي من أبعاد الحضارة الأمريكية الحديثة.

ويقف هذا الوضع مخالفاً لما في مجتمعات أمريكا اللاتينية، فهي مجتمعات لم تقبل مُثُل عصر التنوير بل تم تأسيسها على أسس إقطاعية أو شبه إقطاعية وملكية وكاثوليكية. ومارست محاكم التفتيش نشاطها في هذا العالم الجديد. كما أن دول أمريكا اللاتينية ترى نفسها استمراراً للماضي الأوربي الكاثوليكي.

وحينما نشبت ثورات الاستقلال والتحرر الوطني بعد ذلك، تمت هذه الثورة بقيادة طبقة الكريول الإسبانية التي كانت تؤمن بالقيم القديمة نفسها ولم تتقبل مُثُل عصر العقل. ولذا، سادت المُثُل الإقطاعية حتى بعد أن اختفت تماماً في أوربا، وظلت لليهودي المكانة الرمزية نفسها التي كان يحتلها كغريب في أوربا في خلال العصور الوسطى، وظل التراث القديم مسيطراً. وحتى حينما أُعلن فصل الدين عن الدولة، ظل البُعْد الكاثوليكي قوياً للغاية على المستوى الثقافي، فقد لعبت الكاثوليكية دوراً قوياً في الحركاتالقومية كما لعبت بعد ذلك دوراً قوياً في الحركات اليسارية.

وهكذا، يمكن القول بأن مجتمع الولايات المتحدة مجتمع منفتح جديد لا ينوء بثقل أي تراث أو ذاكرة تاريخية. ولذا، كان متاحاً لجماعات المهاجرين فيه، ومنهم اليهود، أن تكوِّن جماعات ضغط داخل النظام طالما أنها قبلت قيم وقوانين اللعبة الخاصة به، وأن تؤثر فيه وفي قراراته من خلال الانتخابات. بل أمكنها أيضاً دخول النخبة، وهو الأمر الذي لم يتيسر تحقيقه في مجتمعات أمريكا اللاتينية المغلقة بدونهم. وكانت الولايات المتحدة تشكل ظاهرة فريدة تماماً بالنسبة لأعضـاء الجماعات اليهودية فهي لم تصدر أية تشـريعات خاصـة لإعتاقهم، فمُثُل الإعتاق والاستنارة كانت سائدة قبل وصولهم بأعداد كبيرة. ولذا، فإنهم لم يحاربوا قط من أجل استصدار أية تشريعات. ومن ثم، كانت الولايات المتحدة هي الجولدن مدينا، أي البلد الذهبي، ولم تُستخدَم قط كلمة «منفى» للإشارة إليها، فهي وطن قومي ثان وربما أول للمهاجرين من أعضاء الجماعات اليهودية.

3 ـ ومما دعم نقطتي الاختلاف السابقة نوعية المادة البشرية المهاجرة التي أسست كلا المجتمعين، فالمهاجرون إلى أمريكا الشمالية هاجروا إليها بعد أن كانت أوربا قد خاضت حركة الإصلاح الديني والثورة التجارية والصناعية، وبعد أن كانت الحروب الدينية قد أضعفت هيبة الكنيسة تماماً. كما أنهم كانوا من العناصر البروتستانتية المتطرفة (البيوريتان) التي رفضت مجتمعاتها وأتت لتأسيس مجتمع جديد على أسس جديدة .

ويقف هذا على النقيض من مجتمعات أمريكا اللاتينية التي بدأت تجربة الاستيطان فيها داخل إطار كاثوليكي إقطاعي، وتمت تحت رعاية التاج الإسباني أو البرتغالي. وانتقل إلى المجتمع هرم القيم السائد في المجتمع الإسباني أو البرتغالي، وكانت العناصر المهاجرة مضطرة إلى قبول هذا الهرم. كما أن المهاجرين الذين قاموا بتأسيس مجتمعات أمريكا اللاتينية لم يكونوا من العناصر التي رفضت المجتمع الإسباني أو البرتغالي الكاثوليكي، وإنما كانوا من العناصر الأرستقراطية التي رفضها هذا المجتمع، أو بتعبير أدق من العناصر التي فشلت في تحقيق الحراك داخله بسبب قوانين الميراث الإقطاعي فحاولت أن تحقق الحراك الاجتماعي خارجه، وذلك لتحقيق درجة أعلى من الانتماء إليه. وحينما بدأت موجات الهجرة الضخمة، كان المهاجرون من دول كاثوليكية أساساً. وكل هذا كان يعني، بطبيعة الحال، مزيداً من الانغلاق والتجانس، وبالتالي مزيداً من استبعاد اليهود.

4 ـ والواقع أن مجتمع الولايات المتحدة، رغم أنه مجتمع يتباهى بالتعددية والتنوع والانفتاح، يؤدي في نهاية الأمر إلى طمس معالم الهويات المختلفة ودمجها في هوية علمانية ديموقراطية واحدة، فهذا المجتمع تسوده أسطورة علمانية واحدة، ومعيار قبول اجتماعي علماني عقلاني يسمح للجميع بالانتماء شريطة أن يتخلوا عن خصوصيتهم، أي عن القسط الأكبر من هويتهم. وكلما ازداد تخليهم عن هويتهم ازدادت أمامهم فرص الحراك الجتماعي. فما يسود المجتمع ليس تنوعية حقة وإنما وحدة عقلانية علمانية عميقة وتنوعية إثنية سطحية، وهذا ما يُسمَّى «الأمركة». وقد تُرجمت هذه الأفكار إلى فكرة بوتقة الصهر التي تفترض إنساناً أمريكياً علمانياً ديموقراطياً ذا ثقافة بروتستانتية يتحدث الإنجليزية، وهي فكرة سادت في المجتمع الأمريكي حتى منتصف الستينيات حيث كان يُفترض أن يتأقلم المهاجر تماماً وينسى هويته ليصبح أمريكياً قلباً وإن أمكن قالباً أيضاً. ومن هنا، كانت هناك مشكلة السود الذين لم يكن بوسعهم تغيير لون جلدهم. وحينما انحسرت أسطورة بوتقة الصهر، حلّت محلها أسطورة أكثر تركيباً وإن كانت لا تقل عنها أحادية، إذ أصبح بالإمكان الاحتفاظ بالميراث الإثني القديم في الحياة الخاصة أو حتى العامة مادام ذلك لا يتعارض مع الولاء الأساسي للدولة (ذلك المطلق الذي يلتف حوله العلمانيون). وهكذا، تُعامَل الإثنية نفسها معاملة الدين، أي يتم الاعتراف بها ما دامت أمراً خاصاً تماماً. كما أصبح الدين من المسائل الخاصة بالضمير، لكن كلاهما لا يصلح أن يكون دليلاً أو أساساً أو إطاراً لسلوك الإنسان في الحياة العامة (فأخلاق المواطن المدنية هي وحدها الأساس والإطار والدليل). وكل هذا يعني، في واقع الأمر، طمس كل الهويات والخصوصيات لتحل محلها هوية قومية واحدة. وعلى أية حال، لا تستطيع الدولة القومية الموحدة أن تمارس نشاطها كاملاً إلا بالسيطرة على معظم أشكال الحياة العامة والمهمة، وقد كان هذا جوهر وصميم المشروع القومي. ووجد أعضاء الجماعة اليهودية هذا الوضع مناسباً، وكانوا من الأقليات الأولى التي تمت أمركتها تماماً، وتقبلوا أسطورة بوتقة الصهر ثم بعد ذلك تقبلوا أسطورة الاندماج المعدلة التي تقبل عناصر إثنية شريطة أن تكون سطحية، فأصبحوا أمريكيين يهوداً وهم الذين نطلق عليهم مصطلح «اليهود الجدد» نظراً لاختلافهم الجوهري عن يهود أوربا وبقية العالم.

ويقف هذا على الطرف النقيض من مجتمعات أمريكا اللاتينية التي لا تزال أسطورتها القومية كاثوليكية تستبعد اليهود. وحينما جاءت جماعات المهاجرين اليهود، وجدت التشكيل الحضاري المحلي (الهندي) الذي لا يتاح للغرباء أن يضربوا بجذورهم فيه، كما وجدت التشكيل الحضاري الكاثوليكي الذي ينبذها. ونجم عن ذلك انكفاء المهاجرين، كلٌّ على هويته التي أتى بها، فتشبث بها وعمَّقها، ولم تظهر هوية يهودية لاتينية إذ ظلت هناك هويات يهودية من ناحية، وهوية لاتينية من ناحية أخرى، الأمر الذي أدَّى إلى زيادة الانقسامات بين الجماعات اليهودية المختلفة. وإذا بدأت تظهر، مع تزايد معدلات التحديث والترشيد والعلمنة في أمريكا اللاتينية، مثل هذه الهوية اللاتينية اليهودية، فإنها ستكون في واقع الأمر هوية لاتينية وحسب، إذ سيظل البعد الإثني اليهودي سطحياً للغاية، ربما أكثر سطحية من إثنية يهود أمريكا.

5 ـ وإذا انتقلنا إلى المجال الاقتصادي والاجتماعي، فإننا نجد أن مجتمع الولايات المتحدة أسسته من البداية عناصر بروتستانتية تجارية ترى أن التجارة أهم النشاطات الإنسانية وترى أن قيم التنافس ومراكمة الثروة قيم إيجابية، بل إن الثروة علامة الرضا الإلهي. ثم استمر النظر إلى التجارة والمنافسة باعتبارهما نشاطات إيجابية كريمة حتى بعد أن ضعفت المسيحية البروتستانتية واختفت كمحدد أساسي للسلوك والرؤية. ثم أصبحت التجارة في نهاية الأمر نشاطاً ضرورياً محايداً، لا تنتظمه أية قيم أخلاقية وإنما تنتظمه آليات التنافس والبقاء، أي أن النشاط التجاري تمت علمنته تماماً وكذلك ترشيده وإخلاؤه من أية أبعاد أخلاقية أو عاطفية غير عقلانية متخلفة!

وتم الشيء نفسه بالنسبة إلى العمل الإنساني، فالحرفي التقليدي يتوارث الخبرة من أسرته، وعمله هو مصدر احترامه لنفسه وهويته. وهو يتبع إيقاعاً خاصاً يتفق مع حياته ومتطلباتها، وينتج سلعاً خاصة ترتبط بقيمه الحضارية والأخلاقية. هذا على عكس المجتمع الذي يقوم بعلمنة العمل الإنسـاني وترشــيده تماماً، أي وضعه داخل إيقاع مادي آلي. ولذا، فهو يشكل بوتقة صهر حقيقية للبشر. فالمصنع مؤسسة مادية تم ترشيدها تماماً، كل ما فيها محسوب وبطريقة رياضية آلية صارمة. والعامل الصناعي يخضع لهذا الإيقاع الآلي، إذ يجب عليه أن يصبح تابعاً للآلة بدلاً من أن تصبح الآلة تابعة له، بل يجب عليه أن يصبح مثل قطعة الغيار تماماً، ولا يهم إن كان العامل يهودياً أم مسيحياً، ذكراً أم أنثى

وفي المراحل الأولى للتصنيع، كان لا يهم إن كان كبيراً أم صغيراً، وقد استُخدم الأطفال في كل أفرع الصناعة، وفي كل الأعمال الممكنة. ولم يكن يهم أية خصوصيات أو انتماءات يتمتع بها العامل أو يعاني منها، مادام يؤدي عمله الآلي ويضبط حركته، في حضوره وانصرافه وإيقاع جسده وحياته، بما يتفق مع حركة المصنع، أي أن المصنع يقوم بعلمنة العمل الإنساني تماماً ويفصله عن كل قيمة (وضمن ذلك القيمة الإنسانية نفسها) بحيث لا توجد فيه أسرار ولا إبداع ولا حركات غير محسوبة. ولقد عرَّف ماكس فيبر الترشيد الكامل بأنه تحويل العالم إلى حالة المصنع، فالمصنع هو الخلية المثلى أو النموذج الأساسي في المجتمع الصناعي العلماني الذي يتحول فيه البشر إلى مجرد مادة بشرية تنتج طاقة! وهذان العنصران (علمنة كل من النشاط التجاري والعمل الإنساني في المجتمع الأمريكي) ساهما بشكل عميق في دمج المهاجرين اليهود،وخصوصاً أن القطاعين التجاري والصناعي في الولايات المتحدة من الضخامة بحيث استوعبا أعداد المهاجرين القادمين وفتحا لهم أبواب الحراك الاجتماعي. وقد كان الانخراط في التجارة والصناعة ثم المهن أسرع الطرق التي تمت بها أمركة يهود الولايات المتحدة. والأمركة هي علمنة اليهود مع صبغهم بالصبغة الأمريكية، أي دمجهم في المجتمع العلماني الأمريكي بحيث تحوَّل اليهود من جماعات اقتصادية هامشية وجماعة وظيفية وسيطة إلى أعضاء في الطبقة الوسطى التي تشكل جزءاً عضوياً أساسياً من النظام الاقتصادي السياسي؛ يستثمرون في الصناعة، ويلعبون دوراً في تنظيم نقابات العمال، ولهم صوت يُعتَد به في الانتخابات، ويشكلون قوة ذاتية مهمة. وقد بدأت أعداد متزايدة من أعضاء الجماعة اليهودية في الانخراط في سلك النخبة، وهم في هذا لا يختلفون عن كل جماعات المهاجرين الأخرى، وإن كانت درجة حراكهم أسرع باعتبار أنهم كانوا من أسرع الأقليات استجابة للأمركة والعلمنة. وقد أصبح اندماج أعضاء الجماعة اليهودية كاملاً، فهو لم يَعُد اندماجاً مدنياً بمعنى تَقبُّل القيم الثقافية المشتركة والسائدة وإنما اندماج بنيوي بمعنى الدخول في المؤسسات العامة والخاصة كافة، وضمن ذلك مؤسسة الزواج حيث أصبحت أعداد متزايدة من الأمريكيين الذين لا يكترثون بالدين يتزوجون من أعضاء الجماعة اليهودية الذين لا يكترثون بالدين أيضاً، أي أن الرقعة المشتركة هنا هي التخلي عن الهوية الدينية وتَقبُّل الآخر داخل إطار الهوية العلمانية الجديدة.

كل هذا مختلف عما حدث في أمريكا اللاتينية؛ فالنشاط التجاري ظل موضع ازدراء في حضارة لا تزال قيمها الأساسية أرستقراطية إقطاعية، كما ظلت المنافسة ومراكمة الثروة تحملان إيحاءات سلبية مظلمة. وقد بدأ التصنيع في وقت متأخر وحقق اليهود حراكاً اجتماعياً لا بأس به من خلال تزايد معدلات التصنيع. ولكن، مع هذا، ظلت المكانة في المجتمع والانتماء إلى النخبة يُحدَّدان بمعايير تقليدية مثل الحسب والنسب وما شابه.

لكل ما تقدَّم، ظهرت الاختلافات بين الجماعة اليهودية في الولايات المتحـدة والجماعات اليهـودية في أمريكا اللاتينيـة. فيهود الولايات المتحدة، بغض النظر عن أصولهم الإثنية والعرْقية والدينية، أصبحوا جماعة واحدة، ومن هنا نستخدم صيغة المفرد للإشارة إليهم. وتوجد جيوب هنا وهناك مثل اليهود الأرثوذكس (في وليامزبرج) الذين يتحدثون اليديشية، ولكن مقدرة المجتمع الأمريكي الامتصاصية الفائقة تتبدى في تحويل مثل هؤلاء إلى منظر يشاهده السياح، أي «فُرْجَة»، وبالتالي تهميشهم تماماً، وقد اندمج اليهود في مجتمعهم اندماجاً مدنياً وبنيوياً وتَقبُّلهم المجتمع على أساس تقبُّلهم الفكرة العلمانية الديموقراطية الأساسية.

أما يهود أمريكا اللاتينية، فلم تُطرَح أمامهم أسطورة قومية علمانية يمكنهم المشاركة فيها، إذ أن الفكرة السائدة كانت تستبعدهم. كما أن المؤسسات القومية لم تصبغهم بصبغتها، فاستمروا ينتمون إلى هوياتهم القديمة، وهو ما أدَّى إلى انقسامهم. ولم تكن هناك قنوات ديموقراطية يمكنهم التأثير من خلالها، أي أن المجتمع المضيف عزل نفسه عنهم، فقاموا هم بعزل أنفسهم عنه. ومن ثم، عزلت كل جماعة يهودية نفسها عن الجماعات اليهودية الأخرى، وظلوا جماعة وظيفية وسيطة محصورة في دور اقتصادي محدَّد ومُستبعَدة من النخبة الحاكمة. وقد حقق أعضاء الجماعة اليهودية نجاحاً اقتصادياً، ولكنهم مع هذا احتفظوا بهامشيتهم. ورغم كل هذا الاستبعاد، فإن مجتمعات أمريكا اللاتينية لم ترفض الزواج المختلط مع اليهود. ومن هنا نجد أنه، مع تَزايُد عدد الشباب اليهودي في الجامعات، تتزايد نسبة الزواج، الأمر الذي ينتج عنه الانصهار الكامل وليس الاندماج.

وكل هذه الفروق تبين أن ثمة نموذجاً تفسيرياً واحداً وأساسياً، وهو أن كل جماعة يهودية توجد داخل محيطها وتكتسب هويتها منه. وقد ذهب أحد الدارسين إلى القول بأن يهود أمريكا بروتستانت بينما يهود أمريكا اللاتينية كاثوليك. فيهود أمريكا البروتستانت قد قبلوا بالعلمانية، وقبلوا أن يتراجع الدين، وقبلوا قيم العملية والمرونة والبرجماتية، كما قبلوا بالإصلاح الديني، فانكمشت اليهودية الأرثوذكسية واكتسحتهم اليهودية الإصلاحية والمحافظة وأخيراً التجديدية.

أما في أمريكا اللاتينية، فلا تزال الحاخامية ترفض الإصلاح الديني، تماماً كما يرفض بعض أساقفة الكنيسة الكاثوليكية في أمريكا اللاتينية أية إصلاحات، ومن ذلك الإصلاحات التي أدخلتها كنيسة روما نفسها. ولقد تم تشبيه هيمنة الحاخامية على المقبرة اليهودية،وعلى قرار من يُدفَن فيها ومن لا يدفن،بسيطرة الكنيسة الكاثوليكية على عملية الخلاص التي لا يمكن أن تتم خارج الكنيسة.

وهناك نقطة اختلاف أخرى، وهي أن أمريكا اللاتينية منطقة نزوح بالنسبة لليهود، بينما لا تزال الولايات المتحدة بالنسبة إليهم نقطة الجذب الأساسية. ولكن، ورغم هذا الاختلاف، فإن الهجرة إلى إسرائيل من كلتا المنطقتين تكاد تكون منعدمة، وإن كان ذلك لأسباب مختلفة، فاليهود في الولايات المتحدة لا يحتاجون إلى الهجرة بعد تحقيقهم المستويات المعيشية المرتفعة، أما يهود أمريكا اللاتينية فلا يهاجرون إلى إسرائيل لأن الولايات المتحدة هي نقطة الجذب الأساسية بالنسبة لهم.

ولكن ينبغي الإشارة إلى أن معدلات العلمنة آخذة في الارتفاع في أمريكا اللاتينية، حيث يتضح هذا في ظهور العقائد العلمانية ذات الديباجات الدينية والعقائد شبه الدينية التي لا تختلف بنيتها عن بنية الفكر العلماني، مثل الماسونية والبهائية والربوبية، كما يُلاحَظ تزايد انتشار البروتستانتية. وكما هو مُتوقَّع، ترتفع بالتالي معدلات العلمنة بين الجماعات اليهودية وينضم أعضاؤها بأعداد متزايدة إلى المحافل الماسونية والمعابد البهائية ويظهر بينهم الفكر الربوبي. كما أن النادي اليهودي، وهو التعبير عن تزايد معدلات العلمنة والانصراف عن الدين وشعائره، آخذ في الانتشار. والواقع أن النادي اليهودي يحقق لأعضاء الجماعات اليهودية شيئاً مماثلاً لما حققته الدولة في الولايات المتحدة لأعضاء الجماعة اليهودية فيها، أي الاحتفاظ بقشرة إثنية سطحية لا علاقة لها بالدين أو لها علاقة واهية بالدين وتضمر معدلات علمنة هائلة. ففي النادي اليهودي، سيجد يهود أمريكا اللاتينية بعض الرموز اليهودية الإثنية أو الدينية التي ليس لها مضمون أخلاقي مُلزم، وإلى جوار ذلك سيجدون حمامات السباحة الضخمة وقاعة الديسكو والبلاجات التي تجلس فيها النساء (اليهوديات اسماً) يرتدين مايوهات عصر ما بعد البكيني (على حد قول أحد الحاخامات). وينخرط اليهود في أسلوب حياة علمانية كاملة مكرسة للاستهلاك والحرية الجنسية وغير الجنسية.

ولعل أهم جوانب هذه الظاهرة هو انتشار البروتستانتية في أمريكا اللاتينية (زاد عدد البروتستانت من 2.5 مليون في الثلاثينيات إلى 15 مليوناً في الستينيات ثم إلى 40 مليوناً في الثمانينيات، وهو ما يمثل حوالي 10% من مجموع السكان، وتصل هذه النسبة إلى 20% في جـواتيـمالا، و25% في البرازيل، و17% في شـيلي، و10% في الأرجنتين). وهذا يعني تزايد النفوذ الأمريكي والتعاطف مع الثقافة الأمريكية، ولكنه يعني في الوقت نفسه المزيد من تقبُّل الجماعات اليهودية والدولة الصهيونية.

والواقع أن البروتستانتية التي تنتشر في أمريكا اللاتينية هي من النوع المتطرف، أو الأصولي أو الحرفي، الذي يؤمن إيماناً حرفياً بما جاء في العهد القديم وبأن صهيون هي دولة إسرائيل. ولذا، تتنبأ الصحف الإسرائيلية بأن هذا التعاطف قد يترجم نفسه إلى مزيد من التأييد للدولة الصهيونية. ولكننا من ناحيتنا، نرى أن تناقص أعداد اليهود قمين بأن يجعل كل هذه الظواهر غير ذات موضوع في المستقبل البعيد.

الأرجنتين

Argentina

انظر: «أمريكا اللاتينية».

البرازيل

Brazil

انظر: «أمريكا اللاتينية».

الباب الخامس عشر: جنوب أفريقيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا

جنوب أفريقيا

South Africa

تُعَدُّ الحقيقة الأساسية بالنسبة لأعضاء الجماعة اليهودية في جنوب أفريقيا أن المجتمع الذي ينتسبون إليه مجتمع استيطاني مبني على الفصل بين الأعراق والقوميات، فهذه الحقيقة هي التي تحدد علاقة أعضاء الجماعة بمجتمع الأغلبية وبالعالم الخارجي وبأنفسهم.

وتعود أصول الجماعات اليهودية في جنوب أفريقيا إلى النشاطات الاستيطانية الغربية الأولى، فقد كان أثرياء اليهود السفارد في هولندا من المساهمين في شركة الهند الشرقية الهولندية التي أسست المُستوطَن الأبيض عام 1652. وتظهر أسماء يهودية في سجلات المستوطنين الأوائل. ولأن الشركة لا تسمح بتوطين أو توظيف غيرالبروتستانت، فإن الاحتمال الأكبر أنهم يهود من شرق أوربا (من يهود اليديشية) تنصَّروا حتى تتاح لهم فرصة الاستيطان والحراك الاجتماعي. ولم يبدأ استيطان اليهود إلا بعد عام 1803 تحت حكم الجمهورية الباتافية (كما كانت تُعرَف الجمهورية التي أسسها نابليون في هولندا) التي أعتقت اليهود ومنحتهم حقوقهم السياسية. وقد جاء اليهود في بداية الأمر من إنجلترا وألمانيا وكوَّنوا جماعة يهودية صغيرة ثرية مندمجة في محيطها الحضاري يتحدث أعضاؤها الإنجليزية، ولم يكن الانتماء الديني لأعضاء الجماعة قوياً.

ومع منتصف النصف الثاني من القرن التاسع عشر وتزايد معدلات النمو الصناعي في جنوب أفريقيا، في الفترة التي تزامنت مع فترة تعثُّر التحديث في شرق أوربا، بدأت تفد أعداد كبيرة من يهود اليديشية من ليتوانيا وبولندا بعد عام 1890. وكما هو الحال دائماً، لم يستقبل أعضاء الجماعة اليهودية القدامى المهاجرين الجدد بالترحاب، بل نشأت حزازات بينهم، ووقعت انقسامات دامت بعض الوقت بسبب الاختلاف الثقافي والعرْقي والديني بين القدامى المتحدثين بالإنجليزية ويهود اليديشية. ومع هذا، تشابك مصير الجماعتين في نهاية الأمر، ولم يَعُد بإمكان اليهود الناطقين بالإنجليزية تجاهُل المهاجرين الجدد، كما لم يَعُد بالإمكان الامتناع عن تقديم يد المساعدة لهم إذ كان بقاء هؤلاء الوافدين غير مُستوعَبين قابلاً لإحداث توترات في المجتمع تكتسح مختلف أعضاء الجماعة في طريقها.

شكَّل المهاجرون الجدد الأغلبية العظمى التي بلغت 70% بعد وقت قصير، وكان على المهاجرين أن ينجحوا في امتحان قراءة وكتابة إحدى اللغات التي تُكتَب بالحروف الأوربية. لكن اليديشية صُنِّفت كلغة أوربية رغم أنها تُكتَب بالعبرية، أي آسيوية، وذلك لتشجيع هجرة البيض. وكان معدل الهجرة يتفاوت. ففي عام 1903، بلغ عدد المهاجرين 4265 مهاجراً، أما عام 1936 فبلغ عددهم 3.330 مهاجراً، ومع استيلاء النازيين على الحكم في ألمانيا انخفض العدد عام 1937 إلى 954 مهاجراً بسبب القوانين التي حدت من قبول المهاجرين والتي أصدرتها كثير من الدول الغربية، من بينها الولايات المتحدة، والتي حذت جنوب أفريقيا حذوها.

وكان عدد اليهود لا يزيد على أربعة آلاف عام 1880، زاد إلى 38.101 عام 1904 (3.41% من السكان البيض)، ووصل إلى 90.645عام 1936، أي 4.52% من السكان البيض، وهذه أعلى نسبة بلغها أعضاء الجماعة اليهودية. وقد هبطت النسبة إلى 4.11% عام 1951. وكان عدد اليهود 108.497، ثم هبطت النسبة بعد ذلك إلى 3.62% عام 1960، حينما بلغ عدد أعضاء الجماعة 114.762، ثم وصلت نسبتهم إلى 2.6% من عدد السكان البيض و0.4% من مجموع السكـان (البالغ عـددهم 31 مليوناً) حـين بلغ عددهـم 120 ألفاً عام 1989. ويبلغ يهود جنوب أفريقيا في الوقت الحاضر (1992) 100 ألفاً من مجموع السكان البالغ عددهم 40.774.000، أي أن نسبتهم هي 0.25% (ويذهب مصدر إحصائي آخر لعام 1995 إلى أن عدد اليهود في جنوب أفريقيا 114 ألفاً).ويعود هذا التناقص إلى أن معدل زيادة أعضاء الجماعة اليهودية كان آخذاً في التراجع، بينما كان معدل زيادة السكان البيض آخذاً في الصعود. فقد كان السكان البيض يزدادون بنسبة 2.26%، ولم تكن نسبة الزيادة بين اليهود تتجاوز 1.77% في الفترة من 1936 إلى 1960. وفي الفترة من 1950 إلى 1960، كانت نسبة زيادة اليهود نصف نسبة زيادة السكان البيض. ويعود تناقص أعداد اليهود إلى الأسباب التالية:

1 ـ يُلاحَظ أن معدل نسبة المواليد بين أعضاء الجماعة أقل من المعدل بين الأقلية البيضاء، وهذا بدوره يعود إلى انخفاض نسبة الخصوبة بين اليهود لعدة أسباب من بينها عدم الإحساس بالأمن (وقد وُصفت الجماعة اليهودية بأنها أكثر الأقليات عصبية وتوتراً في العالم) وتركُّزهم في المدن حيث بلغ عددهم 57.490 في جوهانسبرج و25.650 في كيب تاون (أي 83% حسب إحصاء أوائل السبعينيات). كما اختفت الجماعات الريفية تقريباً ولم يبق سوى ثلاثة آلاف يهودي خارج المدن. ومعدل التكاثربين سكان المدن عادةً ما يكون أقل من نظيره بين سكان الريف، وخصوصاً إذا عرفنا أن أعضاء الجماعة اليهودية من أكثر الجماعات الدينية أو العرْقية ثراء في العالم، فثمة علاقة تناسب عكسي بين ارتفاع الدخل ونسبة المواليد. وكذلك، فإن معدلات الطلاق بينهم مرتفعة جداً، حيث تنتهي 33% من الزيجات بالطلاق، كما أن ضعف مؤسسة الأسرة يؤثر على نسبة المواليد أيضاً.

2 ـ تناقص عدد المهاجرين إلى جنوب أفريقيا. ومن المعروف أن يهود روسيا وأوكرانيا وغيرهما من دول الكومنولث (بعد تفكك الاتحاد السوفيتي) يتجهون أساساً إلى الولايات المتحدة أو إسرائيل. ومع هذا، تجدر الإشارة إلى أنه، منذ عام 1948 حتى الوقت الحالي، هاجر إلى جنوب أفريقيا من إسرائيل نحو 20 ألف إسرائيلي، كما هاجر إليها كثير من يهود زمبابوي بعد استقلالها. ويبدو أنها نسبة غير مهمة ولم تؤثر كثيراً في البنية السكانية للجماعة اليهودية ، فحتى عام 1936، ومع وجود هجرة من الخارج، كان نصف يهود جنوب أفريقيا من المولودين خارجها. أما في الوقت الحالي، فإن الأغلبية العظمى من مواليد جنوب أفريقيا.

3 ـ يُلاحَظ تزايد نسبة النزوح عن جنوب أفريقيا بين أعضاء الجماعة اليهودية ابتداءً من الستينيات، وذلك مع بداية حركة المقاومة السوداء ضد الحكم العنصري. وقد هاجر في العقدين الماضيين ما بين 20 و30 ألف يهودي، كما هاجر بين عامي 1985 و1986 نحو 64 ألف يهودي من جنوب أفريقيا إلى أستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة، ولم يذهب منهم سوى أربعمائة إلى إسرائيل. كما يُلاحَظ أن معظم المهاجرين من الشباب، ويُقال إنه لا توجد أسرة واحدة لم يهاجر أحد أبنائها من الشباب. وربما كان أحد أسباب إحجامهم عن الاستيطان في إسرائيل، عدم الرغبة في تأدية الخدمة العسكرية.

4 ـ يُلاحَظ أن العناصر الشابة المهاجرة هم عادةً من ذوي الكفاءات العالية الذين يمكنهم أن يحققوا حراكاً اجتماعياً في مجتمعات أخرى. ويُلاحَظ أيضاً أن نسبة كبيرة من العناصر الشابة المهتمة بهويتها اليهودية، أي الصهاينة، تهاجر إلى إسرائيل. كل هذا يعني أن الجماعة اليهـودية بدأت تفقد القيادات اللازمة وعنـاصر التماسـك الداخلي، كما أن المتوسط العمري أخذ يزداد حتى أن أكثر من 20% من أعضاء الجماعة ممن تجاوز الستين.

5 ـ تزايدت معدلات الاندماج والعلمنة بين أعضاء الجماعة اليهودية، ويتجلى ذلك في تزايد معدلات الطلاق حيث تنتهي زيجة من كل ثلاث بالطلاق، كما يتجلى في معدل الزواج المختلط الذي وصل إلى 16%، وهو معدل مرتفع بمقاييس جنوب أفريقيا رغم انخفاضه مقارناً بمعدل الزواج المُختلَط في الولايات المتحدة على سبيل المثال. وربما لم تزد النسبة عن ذلك لأسباب ترجع إلى حركيات مجتمع جنوب أفريقيا بغض النظر عن مدى تماسك أو ضعف الجماعة اليهودية في حد ذاته. ومن بين هذه الأسباب أن ثقافة المهاجرين لا تزال ذات فعالية في جنوب أفريقيا على عكس ما يحدث في الولايات المتحدة. فالمناخ الثقافي العام في جنوب أفريقيا، والذي يشجع على عزل الجماعات الإثنية والعرْقية الواحدة عن الأخرى، ساهم في إبطاء عملية الاندماج. كما أن في جنوب أفريقيا لا توجد فيها ثقافة موحَّدة فهناك تنافس دائم بين الثقافة الهولندية (الأفريكانز) والثقافة الإنجليزية، الأمر الذي أتاح لليهود فرصة الحفاظ على شيء من الهوية، فلم يمارس أحد الضغط على اليهودي ليسقط هويته كما حدث في الولايات المتحدة حيث نجد أن أسطورة بوتقة الصهر التي كانت سائدة في المجتمع، شجعت اليهود على التخلص من ثقافتهم بأسرع ما أمكن (ومن ذلك الثقافة اليديشية) واكتساب الثقافة الأنجلو أمريكية وعلى التأمرك الكامل. فالحراك في الولايات المتحدة كان ولا يزال مرتبطاً بالاندماج والانصهار، على خلاف جنوب أفريقيا حيث يمكن تحقيق الحراك مع الاحتفاظ بالهوية. وربما كان هذا من الأسباب التي ساعدت على استمرار اليديشية بعض الوقت. ومع هذا، يجب الإشارة إلى أن مجتمع الأغلبية، رغم تشجيعه الفصل بين الأعراق والأقليات والأقوام، لم يعترف بأعضاء الجماعة اليهودية إلا باعتبارهم بيضاً، وهو ما يعني أنهم كان عليهم الاختيار بين هوية الأفريكانز (الهولندية) والهوية الإنجليزية. وقد اختار عدد صغير من أعضاء الجماعة اليهودية الهوية الأولى واختارت أغلبيتهم العظمى الهوية الإنجليزية. ولا شك في أن هذا سيساعد على انصهار من بقي من أعضاء الجماعة اليهودية، الأمر الذي سيزيد معدلات الاندماج.

وبالفعل، فإن من كان يتحدث اليديشية لم يكن يتجاوز17.861 عام 1936، وانخفض هذا العدد ليصبح 9.970معظمهم من كبار السن عام 1951. بل يبدو أن اليديشية قد اختفت تقريباً في جنوب أفريقيا، فلا توجد أية إشارات إليها في صحف أعضاء الجماعة اليهودية أو مجلاتهم. وصورة الشباب اليهودي الآن هي بعامة صورة شباب يتباهى بيهوديته، ولكنه لم يستوعب أي شيء مما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» أو «الثقافة اليهودية». فالثقافة التي تشرَّبها والمعايير التي تبناها هي في الجوهر ثقافة ومعايير الناطقين بالإنجليزية.

كل العناصر السابقة دعت بعض المحللين إلي التنبؤ بأن عدد أعضاء الجماعة اليهودية لن يزيد عن 64 ألفاً مع نهاية القرن الحالي. والجماعة اليهودية في جنوب أفريقيا، بهذا المعنى، تنضوي تحت هذا النمط اليهودي العام الذي يُطلَق عليه «موت الشعب اليهودي».

ويُلاحَظ أن يهود جنوب أفريقيا من الإشكناز أساساً، وإن كانت توجد جماعة سفاردية صغيرة في كيب تاون. وأكبر تركُّز يهودي في الترنسفال (65% من كل أعضاء الجماعة) في منطقة جوهانسبرج، إذ تضم مدينة جوهانسبرج وحدها 63.620 يهودياً، أي أكثر من نصف يهود جنوب أفريقيا.

لعب أعضاء الجماعة اليهودية من الإنجليز دوراً مهماً في تطوير القطاعين الزراعي والصناعي في اقتصاد استيطاني مبتدئ، فساهموا بخبرتهم في توثيق الصلات الاقتصادية بين الكيب وبريطانيا عن طريق إنشاء المراكز التجارية والمصرفية وتنظيم النقل البحري، واهتموا أيضاً بتربية الماعز لنسج الموهير والمواشي عامة لصوفها وجلدها، وبرعاية النعام وصيد الفقم والحيتان والأسماك. وكان يهود الكيب بين أول العناصر الاستيطانية النشيطة التي اتجهت إلى حقول الماس والذهب فور اكتشافهاوكوَّنوا ثروات سريعة من ورائها. أما يهود اليديشية، فكانوا يستقرون بعض الوقت في كيب تاون، ثم ينطلقون نحو المناطق الريفية أو المدن الجديدة باعة جائلين أو مقيمينوحرفيين في قطاع الخياطة وصناعة الأحذية والتجارة والبناء. وكان ميراثهم الاقتصادي هو الذي يحدد نوع الحرف التي يختارونها.

وقد أصبح أعضاء الجماعة اليهودية من رواد بعض الصناعات المحلية، مثل الفولاذ والزجاج والمعلبات والأنسجة والملابس والسلع الجلدية والمفروشات، التي تتسم معظمها بقربها من المستهلك، أي أنها ليست في مراحل الإنتاج الأولى. كما أن الأجيال الجديدة من اليهود ساهمت منذ الحرب العالمية الثانية في الصناعات الدقيقة مثل المعدات الإلكترونية والهندسية، أو في المشروعات الضخمة مثل تخطيط المدن وبناء المجمعات السكنية والإدارية. وبرزت هذه الأجيال من اليهود في تأسيس شركات التأمين والإعلانات ووسائل التَرْفيه والفنادق والتموين والاستيراد والتصدير. ورغم عدم تواجدهم الآن، إلا بأعداد ضئيلة للغاية في القطاع الزراعي، فقد كان لهم دور فعال في إدخال التقنيات العلمية الحديثة على هذا القطاع.

ويأخذ الحراك الاجتماعي للمهاجرين اليهود عادةً شكل التحرك من التجارة إلى الصناعة الخفيفة ومنها إلى المهن الحرة. وهذا ما حدث في جنوب أفريقيا، إذ يوجد مناليهود عدد كبير في المهن الحرة (الطب والقانون والمحاسبة والهندسة والجامعات).

ويُلاحَظ تركز أعضاء الجماعة اليهودية في قطاعات اقتصادية بعينها، وغيابهم عن البعض الآخر، فنجد أن 49% من أعضاء الجماعة اليهودية يوجدون في قطاع التجارةمقابل 22% من البيض، و25% في قطاعات الخدمات مقابل 23% من البيض، و17% في الصناعة مقابل 18% من البيض، أي أن 91% من أعضاء الجماعة اليهودية مركزون في قطاعات بعينها مقابل 63% من البيض. ويظهر التفاوت الشديد في قطاعي الزراعة والمناجم إذ لا يتواجد أعضاء الجماعة اليهودية فيها إلا بنسبة 1.9% بينما نجد أن نسبة البيض من غير اليهود تصل إلى 15%. ويجب ملاحظة أن الفئة الصغيرة التي تعيش من الزراعة تضم في صفوفها ملاك مزارع البطاطا والذرة من اليهود، كما يضم قطاع المناجم الكوادر الإدارية اليهودية العاملة فيه، وهو ما يعني أن تمثيل أعضاء الجماعة اليهودية في هذين القطاعين أقل من 1.9%. وبطبيعة الحال، لا يوجد تمثيل يهودي بين السود، ولا بين الفلاحين أو المزارعين، ولا بين العمال، أي أن أعضاء الجماعة اليهودية مركزون أساساً في صفوف الطبقة الوسطى البيضاء. وقد انخرطوا في سلكها تماماً وأصبحوا جزءاً لا يتجزأ منها، بمعنى أنهم فقدوا سمة الجماعة الوظيفية. ولكن، مع هذا، تجب الإشارة إلى أن الطبقة الوسطى في جنوب أفريقيا طبقة وسطى استيطانية، وهو ما يجعلها ذات سمات خاصة، فعلاقتها بالطبقة العاملة السوداء تختلف تماماً عن علاقة الطبقة الوسطى في بلد مثل فرنسا مع الطبقة العاملة فيها. فالجيوب الاستيطانية الغربية كلها جيوب وظيفية تلعب دوراً حيوياً ومهماً في استغلال المناطق التي توجد فيها لصالح العنصر الأبيض المهيمن الذي يدين بالولاء للحضارة الغربية، وليس لديه أي نزوع قومي محلي. ومن ثم، فهي لا تحمل فكراً قومياً، وتحاول أن توقف عمليات التحديث بالنسبة للسكانالأصليين.

ورغم انتماء أعضاء الجماعة اليهودية إلى الطبقة الوسطى، ورغم أنهم يشكلون أكثر أقليات العالم ثراءً، فإنهم ليسوا جميعاً (بطبيعة الحال) من الأثرياء، إذ يوجد في صفوفهم الفقراء. وقد جاء في إحدى الإحصاءات أن عُشر العائلات اليهودية في كيب تاون احتاجت إلى مساعدة مالية عام 1968.

ويَقْرن المستوطنون البيض بين المستوطنين الصهاينة وأنفسهم، كما يقرنون بين الشعب اليهودي والشعب المستوطن في جنوب أفريقيا، فهم يرون أن اليهود، مثلهم، شعب مختار يحمل رسالة خالدة، وأن كلا الشعبين غُرس غرساً في أفريقيا أو آسيا دفاعاً عن هذه الرسالة. كما يرى البيض أن المستوطنين الصهاينة يبذلون أقصى جهدهم للاحتفاظ بعزلتهم عن السكان الأصليين. ولعل تغلغل الأساطير والرموز التوراتية في الخطاب الاستعماري الاستيطاني (اليهودي وغير اليهودي) يظهر بشكل واضح في جنوب أفريقيا. فهم يحتفلون بيوم الميثاق في 16 ديسمبر من كل عام، إذ يعتبرونه اليوم الذي عقد الإله فيه ميثاقه مع بعض الأفريكانز (الفورتركر Voertrekker) الذين آثروا الاستقلال عن الإنجليز. وقد عُقد الميثاق قبل المواجهة التي تمت بين البيض والسود في معركة نهر الدم. وقد أصبحت المعركة رمزاً لكل الأفريكانز. ويُعقد الاجتماع في مكان يوجد فيه تلٌّ عال تُبنَى عليه سفينة ضخمة (ترمز لسفينة العهد) تواجه بريتوريا، فكأن هذا المكان هو قدس الأقداس لقومية الأفريكانز.

ولقد وصف أحد المفكرين البيض في جنوب أفريقيا أعضاء الجماعة اليهودية بأنهم شعب الأبارتهايد، أي التفرقة اللونية. ويُصنَّف أعضاء الجماعة اليهودية، كما تقدَّم، باعتبارهم شعباً أبيض البشرة غربياً، وقد ساهمت هذه الرؤية في تعميق اندماج اليهود بحيث أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من مجتمعهم الاستيطاني وأصبحوا من أكثر قطاعاته استفادةً من وضع عدم التكافؤ الذي يسود مجتمع التفرقة اللونية، وأصبحوا جزءاً لا يتجزأ من البنية الاقتصادية المهيمنة في مجتمع جنوب أفريقيا، وارتبط مصيرهم بمصير الجماعة البيضاء. وقد انعكس ذلك على مشاركتهم في النظام السياسي إذ لا يوجد صوت يهودي متميز، فحين يرشح أحد أعضاء الجماعة اليهودية نفسه لمنصب ما فهو عادةً ما يعتمد على أصوات غير اليهود وعلى دعمهم إلى درجة كبيرة. ومعظمهم يمثل الناخبين البيض من سكان المدن على المستوى الوطني. وحينما يلعب اليهود دوراً أساسياً في إيصال أحد أعضاء الجماعة إلى مجالس المقاطعات أو المدن، وذلك في الحالات الشاذة التي يوجد فيها أعداد كبيرة من الناخبين تكفي لتحديد نتيجة المعركةالانتخابية، فإنهم يفعلون ذلك باستمرار ضمن إطار سياسة البيض، وبوصفهم أعضاء في أحزاب سياسية تقتصر على البيض لا باعتبارهم يهوداً. وهناك أعضاء يهود في البرلمان وشيوخ ومستشارو مقاطعات ومدن، ولكن الأغلبية العظمى منهم قد انتُخبوا، من قبَل ناخبين بيض، ممثلين للحزب الموحد وحزب العمال والحزب التقدمي. وفي الفترة التي سُمح فيها للسود بتمثيل شكلي في المناصب التشريعية على المستويين الوطني والإقليمي، عن طريق أعضاء بيض، انتخب السود لتمثيلهم أعضاءً يهوداً في الحزب الموحد والحزب الشيوعي والحزب الإصلاحي.

ويُلاحَظ تركز أعداد كبيرة من أعضاء الجماعة اليهودية في الأحزاب التي تتنافس مع الحزب الوطني الحاكم وتعارضه، ولكن معارضتها تنصرف إلى الطريقة التي يتم بواسطتها الحفاظ على السيطرة البيضاء ولا تشمل مبدأ السيطرة نفسه. ولكن يمكن تفسير هذا أيضاً بالعودة إلى وضع أعضاء الجماعة اليهودية في جنوب أفريقيا، فموقفهم الليبرالي انعكاس للتركيبة الاجتماعية الاقتصادية لسكان جنوب أفريقيا من اليهود. ودعمهم للمعارضة البرلمانية هو تعبير عن انتمائهم إلى القطاع الذي يتحدث الإنجليزية وعن تركزهم في المناطق الحضرية، وعن أنهم يقعون ضمن مجموعات الدخل الأعلى. وقد استمدت أحزاب المعارضة البرلمانية الدعم من هذه القطاعات البيضاء التي ينتمي إليها اليهود.

ولقد شهدت فترة أواخر الأربعينيات جفاء واضحاً بين الحزب الوطني والجماعة اليهودية. فالحزب الوطني كان حزباً نازياً ذا صلات نازية واضحة، وكانت معاداته لأعضاء الجماعة اليهودية واضحة إذ تبنَّى سياسة معادية لهجرتهم إلى جنوب أفريقيا في الثلاثينيات، كما كان يرفض عضويتهم في بعض المناطق. ورغم كل هذا، فقد حدث تقارب يستند إلى التعهد الضمني لليهود بعدم استنكار سياسة التفرقة اللونية مقابل أن يضمن الحزب مصالحهم واندماجهم وتمتعهم بمزايا التفرقة اللونية مع بقية السكان البيض.

وبشكل عام، يمكن القول بأن الجماعة اليهودية في جنوب أفريقيا جماعة صغيرة ليست لها أهمية ذاتية، وأنها مندمجة في المجتمع الأبيض ومعتمدةٌ عليه بينما لا يعتمد هو عليها في شيء، كما أنه لا يحتاج إليها بمقدار احتياجها إليه وإلى مؤسساته لتضمن لنفسها البقاء.

وقد انعكس هذا على موقف الجماعة اليهودية من كثير من القضايا، فالجماعة اليهودية هناك تؤثر الصمت بشأن قضايا الكفاح ضد التفرقة اللونية. وتُعرِّف المؤسسات اليهودية هناك دورها بأنه يهدف إلى الدفاع عن حقوق أعضاء الجماعة اليهودية وحسب ولا علاقة لها بالقضايا الأخرى (وهذا موقف صهيوني قح)، فهي تلتزم الحياد تجاهها وتترك لكل يهودي حرية اختيار الموقف الذي يراه. وفي الثلاثينيات، أخذ كثير من أعضاء الجماعة اليهودية موقفاً عنصرياً ضد الهنود ولا يزال موقفهم من السود لا يختلف في أساسياته عن موقف البيض. ولذا، التزمت الجماعة الصمت عام 1957 عندما صدر قانون يحظر كل تَجمُّع مختلط بين البيض والسود، حتى ولو كان التجمع لهدف ديني في كنيسة مثلاً. وقد احتج معظم رجال الدين من أنجليكان وكاثوليك وبروتستانت، حتى رؤساء الكنيسة الهولندية الإصلاحية. ولم يعترض رجال الدين اليهودي لأن الأمر لا يعنيهم، إذ لا يوجد يهود سود أو ملونون أو آسيويون في جنوب أفريقيا. وكذلك لم تتفوه المؤسسة اليهودية بكلمة عندما وقعت مجزرة شاربفيل، وقد تذرعوا بالمنطق نفسه. ولكنه منطق يتسم بالخلل. فممثلو الجماعة يعارضون الشيوعية ويصفون العنف الأسود بأنه عمل تخريبي، ويعلنون إخلاصهم للنظام القائم في جنوب أفريقيا وللصهيونية وإسرائيل، وهم يفعلون ذلك كجماعة، أي أن لهم مواقف سياسية واضحة أكيدة.

وهذا الموقف تدعمه المنظمة الصهيونية ويعمقه تزايد صهينة الجماعة اليهودية. وقد لاقت الصهيونية معارضة في بداية الأمر في العشرينيات من الشيوعيين ودعاة اليديشية وغيرهم، ولكنها اكتسحت الجماعة اليهودية تماماً بسبب طبيعة تكوين المجتمع باعتبار أن الصهيونية عقيدة استيطانية تشبه تجربة التفرقة اللونية. بل يُلاحَظ أن أهم المؤسسات اليهودية في جنوب أفريقيا هي المنظمة الصهيونية التي أصبحت تمثل المظلة التي تستظل بها المنظمات والمؤسسات اليهودية الأخرى. والصهيونية تعمق ولا شك من اندماجهم وتزودهم بإطار عقائدي يقرِّب بينهم وبين أعضاء المجتمع الاستيطاني ويصلح أساساً للقاء بينهم وبين مجتمع الأغلبية.

وللظاهرة نفسها نتائج متناقضة مع سابقتها. فعلى سبيل المثال، يتحقـق المثـل الصهيوني الأعلى بالهجرة الاستيطانية إلى فلسطين، ولكن جنوب أفريقيا نفسها مجتمع استيطاني يتبدى الانتماء إليه في شكل عدم الهجرة منه. ولذا، فإن الصهيونية هنا تعبير عن ولاء مزدوج حقيقي لوطنيين استيطانيين. وقد اتهمت بعض الأوساط يهودَ جنوب أفريقيا بأنهم يؤثرون مصلحة إسرائيل على مصلحة وطنهم. وربما، لهذا السبب، يمكن أن نقول إن صهيونية يهود جنوب أفريقيا صهيونية توطينية بالدرجة الأولى، تأخذ فقط شكل إرسال مساعدات مالية إلى إسرائيل. وبالفعل، نجد أن يهود جنوب أفريقيا أكثر يهود العالم إسهاماً في المساعدات المالية ولكنهم لا يتباهون كثيراً بأعداد المهاجرين إلى إسرائيل بل يخفونها عن الأنظار.

ومن المشاكل الأخرى، التي يواجهها يهود جنوب أفريقيا، مشكلة موقف إسرائيل من جنوب أفريقيا. فرغم ارتباط المصالح وتزايد العلاقات، قررت إسرائيل في الستينيات تحسين علاقاتها مع الدول الأفريقية كمحاولة لفك الحصار العربي حولها، فكانت تدلي بصوتها في هيئة الأمم ضد جنوب أفريقيا، الأمر الذي خلق توتراً بين الدولة وأعضاء الجماعة. وهذا تعبير عن نمط متكرر، فللدولة الصهيونية مصالحها التي تتجاوز مصالح أعضاء الجماعات اليهودية بل تتناقض معها أحياناً. وحينما تصل الدولة الصهيونية إلى هذه النقطة، فإنها عادةً ما تسقط الحديث عن إنقاذ اليهود أو رعاية مصالحهم في كل أنحاء العالم، بل تتصرف مثل أية دولة بما تمليه عليها مصالحها. وقد يكون هذا على أية حال ترجمة فعلية لمفهوم «مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا»، أي أن أعضاء الجماعات ليسوا سوى أداة في يد الدولة، كما أن الدولة لم تُخلَق من أجلهم وإنما أُنشئت كي يقوموا هم على خدمتها.

ومن المردودات السلبية الأخرى للعلاقة القوية بين يهود جنوب أفريقيا والصهيونية وإسرائيل أن ارتباط اليهود بالجماعة البيضاء يعني أن مصيرهم ارتبط بمصير هذه الجماعة. ويُلاحَظ أن السكان السود، كما هو مُتوقَّع، يربطون بين إسرائيل وجنوب أفريقيا ويوحدون بينهما، وهو ما ينعكس على موقفهم من أعضاء الجماعة. ولذا، نجد أنالقيادات السوداء تتوجه بالنقد إلى أعضاء الجماعة لسكوتهم وحيادهم المزعوم وإسهامهم في سياسة التفرقة اللونية واستفادتهم منها. وقد لاحظنا وجود عدد كبير من أصحاب الأعمال اليهود الذين يستخدمون العمال السود ويطبقون عليهم المعايير السائدة في المجتمع، كما هو مُتوقَّع في مثل هذه الأحوال، وهي معايير عنصرية استغلالية بشكل بشع. كما يُلاحَظ أن أعضاء الجماعة اليهودية، نظراً لثرائهم الشديد وتركُّزهم في التجارة والصناعة، سيتأثرون بشكل عميق لو تغير تركيب المجتمع وسيطرت العناصر السوداء على المجتمع وحققت شيئاً من الحراك أو ما قد يتبع ذلك من تأميم وأفرقة.

ومما يعمق استياء الجماعات السوداء وجود عدد صغير من أعضاء الجماعة اليهودية الذين نشطوا، بوصفهم ضباط بوليس كباراً ومدعين عامين وقضاة، في فرضالقوانين العنصرية، أي أن هذه العناصر اليهودية أداة في يد المؤسسة تستخدمها في قمع السود. ولكن لابد من القول بأنهم مجرد أقلية صغيرة هامشية لا تمثل الجماعة اليهودية تماماً مثل تلك العناصر اليهودية الثورية الرافضة للتفرقة العنصرية.

ويعود تاريخ هذه العناصر الثورية إلى بداية هذا القرن حين حضرت مع المهاجرين عناصر من حزب البوند ومن دعاة القومية اليديشية وغيرهم ممن يحملون أفكاراً ثورية بل وفوضوية. وقد عارض كل هؤلاء الصهيونية والعنصرية. وبعد اندماج اليهود واختفاء اليديشية تقريباً، ظهرت عناصر ثورية متطرفة يهودية. فعلى سبيل المثال، ثمة وجود يهودي ملحوظ بين مؤسسي الحزب الشيوعي وأعضائه وكثير من الجماعات الثورية التي تُوصَف بأنها تخريبية أو إرهابية والتي تضم أعداداً كبيرة من اليهود تصل نسبتهم فيها أحياناً إلى 50%. ويساهم كثير من الشباب اليهودي الثوري في تنظيم حركة نقابات العمال السود، وكذلك كثير من شخصيات المعارضة من اليهود مثل: هيلين سوزمان (النائبة اليهودية التي انفصلت عن الحزب الموحد لتبنِّيه البرنامج العنصري)، وسام كاهن (النائب السابق)، وفرد كارنسون (العضو السابق في مجلس الكيب). ورغم أن أغلبية أعضاء الجماعات اليهودية ومختلف المؤسسات اليهودية تلتزم الصمت الذي تطلق عليه «الحياد»، فإن هذه الأقلية الثورية الصغيرة أقلية نشيطة وتسبِّب كثيراً من الحرج لأعضاء الجماعات اليهودية ولقياداتها إذ يطلب المجتمع منهم ، وهم تجمُّع مبني على فكرة الجماعات العرْقية والهوية الجمعية، أن يكبحوا جماح الثوريين في صفوفهم. وتنتشر في المجتمع صور عنصرية عن «اليهودي الثوري» و«اليهودي الفوضوي» وهو ما يغذي مشاعر معاداة اليهود، تماماً كما تنتشر في صفوف السود صورة «اليهودي الشرطي» و«اليهودي أداة القمع».

وأغلبية يهـود جنوب أفريقيا من الأرثوذكـس، إذ تبلغ نسـبتهم 80%، وهناك 20% أغلبيتهم من الإصلاحيين وأقليتهم من المحافظين. وربما يرجع هذا إلى أن مجتمع جنوب أفريقيا مجتمع محافظ دينياً، تسيطر عليه كنيسة قومية تتمسك بالتقاليد ولا تحيد عنها. ومن ثم، انعكس هذا على السلوك الديني لليهود وعلى اليهودية كنسق ديني. بل نجد أن اليهودية الإصلاحية تأثرت بالجو المتشدد المحيط بها، فهي تتبع أنماطاً أكثر تقليدية، كما أنها ذات توجُّه صهيوني. ولذا، فهي تهتم بالعناصر الفلكلورية الإسرائيلية من رقص وغناء. وقد أُغلق كثير من المعابد اليهودية في القرى والمناطق الزراعية بسبب تزايد تركُّز اليهود في المدن، وتناقص عددهم، وتزايد معدلات العلمنة، ونزوح أعداد منهم إلى إسرائيل وأستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة بطبيعة الحال.

والمنظمات اليهودية في جنوب أفريقيا تشبه مثيلتها في إنجلترا، وهي مجلس المندوبين South African Jewish Board of Deputies. ويوجد مركزه الرئيسي في جوهانسبرج، وله فروع في عدة مدن أخرى. ويضم المجلس كل المنظمات والهيئات اليهودية، وهو معترف به من قبَل الحكومة، ولكن القيادة الفعلية في يد المنظمةالصهيونية التي تحرك النشاطات اليهودية كافة، ولا توجد عناصر يهودية قوية مناوئة للصهيونية.

وتَصدُر في جنوب أفريقيا عدة مجلات وصحف خاصة بالجماعة اليهودية معظمها بالإنجليزية وبعضها باليديشية ولغة الأفريكانز.

كنــــدا

Canada

دولة في أمريكا الشمالية بدأت كتجمع استيطاني للمهاجرين والمغامرين من أوربا، وهي جمهورية فيدرالية مكوَّنة من تسع ولايات. ورغم أن بضعة أفراد يهود استوطنوا كندا إبّان الاستيطان الفرنسي، فإن استيطان اليهود بدأ مع سقوط كندا في قبضة البريطانيين عام 1759. وقد بلغ أعضاء الجماعات اليهودية 1115 يهودياً حتى عام 1871، و2393 عام 1881.

ولكن، مع مرحلة التحديث المتعثر في روسيا والانفجار السكاني بين يهود اليديشية، بدأت تصل أفواج المهاجرين منهم إلى أمريكا الشمالية وتوجهت أغلبيتهم إلى الولايات المتحدة. كما توجهت أعداد منهم إلى كندا، فبلغ عددهم عام 1891 حوالي 6414، وقفز إلى 16.493 مع حلول عام 1901، ثم قفز عام 1911 إلى 75 ألفاً خلال أحد عشر عاماً. وقد زاد عددهم عن طريق الهجرة إلى 156.726 عام 1931، أي 1.51% من عدد السكان. وفي عام 1940، بلغ العدد 167 ألفاً مركزين أساساً في مونتريال حيث يبلغون 63 ألفاً، وفي تورنتو 57 ألفاً.

وقد اندمج المهاجرون في الحياة الثقافية والاقتصادية في كندا بسبب عدم وجود قوانين تميِّز ضدهم أو بنية اقتصادية ترفضهم أورموز لا تشملهم، وبسبب وجود نظام تعليمي علماني قومي جيد. فتجربتهم، في هذا، تشبه تجربة يهود الولايات المتحدة (اليهود الجدد). ولم يلعب اليهود دوراً فريداً في الحياة الاقتصادية الكندية، وإن كان بناؤهم الطبقي والوظيفي تأثر بعض الشيء بميراثهم الاقتصادي الأوربي، ولعل هذا هو سبب تركُّزهم في صناعة الملابس والفراء والتبغ (ومن هنا ظاهرة البائع المتجول اليهودي في السنوات الأولى بعد الهجرة، وهي ظاهرة لا شك في أنها قد اختفت بين أعضاء الجماعة اليهودية وغيرهم من جماعات المهاجرين). وقد حقق أعضاء الجماعة اليهودية حراكاً اجتماعياً مدهشاً. ونشرت مؤخراً دراسة إحصائية عن الدخول المالية لستة وسبعين جماعة إثنية مختلفة في كندا، وبيَّنت الدراسة أن متوسط دخل الذكور اليهود في كندا (47 ألف دولار) وهو أعلى دخل حققه أي عضو في أية جماعة إثنية. وقد هاجمت جماعة أبناء العهد (بناي بريت) هذه الدراسة مبينة أنها لا تؤدي إلا إلى الغيرة والتناحر بين الجماعات الإثنية المختلفة.

ومن الواضح أن معدلات الاندماج والعلمنة آخذة في التزايد بين يهود كندا، ويرجع هذا إلى صغر حجم الجماعة وإلى تزايد هذه المعدلات في المجتمع نفسه. ففي إحصاءعام 1961، جاء أن 254.386 يهودياً اعتبروا أنفسهم يهوداً على أساس ديني، و173.344(أي أقل من 31%) عرفوا أنفسهم يهوداً على أساس إثني، أي أنهم يهود لايؤمنون بالعقيدة اليهودية وإنما يؤمنون بالهوية اليهودية! وبعد عشرة أعوام، تغيَّرت الصورة إذ أصبح المتدينون 267.055 بينما زاد عدد الإثنيين إلى 296.945، أي أناليهود الإثنيين أصبحوا أكثر من 50%، وهي تشبه النسبة في الولايات المتحدة. ونلاحظ أن أغلبية المتدينين من المحافظين والإصلاحيين، تماماً كما هو الوضع في الولايات المتحدة، الأمر الذي يجعل الأرثوذكس أقلية صغيرة. لكن عدد الأرثوذكس آخذ في الزيادة نتيجة هجرة بعض يهود المغرب العربي. كما أن معدلات الزواج المُختلَط ارتفعت للغاية، وفاقت نظيرتها في الولايات المتحدة، وكان لها أعمق الأثر في الجماعة اليهودية نظراً لصغر حجمها.

ويُعدُّ يهود كندا جزءاً من التشكيل الاستيطاني الأنجلو ساكسوني في كندا. ورغم وجود أعداد منهم يتحدثون الفرنسية، فإن الأغلبية العظمى تتحدث الإنجليزية، وضمن ذلك يهود مونتريال التي تضم نحو ثلث اليهود. وقد وَلَّدت الحركة الانفصالية الفرنسية في مونتريال شيئاً من التوتر ليهود كندا، إذ يحاول الانفصاليون، أو دعاة الفرنسة، صبغ المنطقة بالصبغة الفرنسية، وهو الأمر الذي لم يصادف هوىً لدى أعضاء الجماعة اليهودية المصطبغة بالصبغة الأنجلو ساكسونية. ولذا، هاجر من مونتريال في الثمانينيات ما بين 10 و25 ألف يهودي من مجموع 115 ألفاً، حتى أصبحت تورنتو تضم أكبر جماعة يهودية (125 ألفاً). هذا وتجب الإشارة إلى أن يهود كندا المتحدثين بالفرنسية أغلبيتهم من السفارد المهاجرين من المغرب العربي. وربما يؤدي هذا الوضع إلى تعميق الانقسام بين الجماعة إلى سفارد يتحدثون الفرنسية وإشكنازيتحدثون الإنجليزية. وفي عام 1992، بلغ عدد يهود كندا 356 ألف نسمة من مجموع السكان البالغ عددهم 27.755.000 نسمة. وتتركز غالبية أعضاء الجماعة اليهودية في مدينتي تورنتو: 162.605 ومونتريال: 101.210. وصهيونية يهود كندا من النوع التوطيني لا الاستيطاني، ولذا فإن عدد المهاجرين منهم صغير جداً. ويعاني يهود كندا من ظاهرة موت الشعب اليهودي إذ تتزايد بينهم الهجرة (إلى الولايات المتحدة). وقد تناقص عدد المهاجرين إلى كندا وتزايدت معـدلات الاندماج والزواج المخـتلط والإحجام عن الزواج والإنجاب. والجماعة اليهودية في كندا مُسنة فـ 17.3% ممن تجاوزوا الـ 65 (مقابل 10.8% على المستوى القومي) و17.5% بين 35 ـ 44 (مقابل 16.2% على المستوى القومي) والمستوى التعليمي ليهود كندا مرتفع جداً فـ 52.1% من بين اليهود في المرحلة العمرية 25 ـ 44 من خريجي الجامعات (مقابل 16.5% على المستوى القومي).

ومن أهم المنظمات اليهودية في كندا المؤتمر اليهودي الكندي Canadian Jewish Congress. وهي المنظمة المركزية للجماعة اليهودية في كندا والجهة التي تمثلهم لدى المؤتمر اليهودي العالمي، وقد تأسَّست عام 1919 وأُعيد تنظيمها عام 1934. ويضم الاتحاد الصهيوني الكندي مختلف المنظمات والتجمعات الصهيونية المختلفة في كندا.

أســـــتراليا ونيوزيلنـــــدا

Australia and New Zealand

كان اليهود ضمن أوائل المستوطنين في أستراليا. فقد كان ضمن المجرمين الذين أبعدوا إلى أستراليا، عام 1788، ستة يهود (ويقال ثمانية أو ربما أربعة عشر) من بينهم جون هاريس الذي أصبح أول شرطي فيها! وقد أدَّى اكتشاف الذهب، في منتصف القرن التاسع عشر، إلى زيادة هجرة اليهود.

ولم يكن لأعضاء الجماعة اليهودية معابدهم وتنظيماتها الطائفية الخاصة بهم إلا مع قدوم المستوطنين اليهود الأحرار، الذين كان يوجد بينهم بعض أعضاء العائلات اليهودية البريطانية المرموقة مثل عائلتي روتشيلد ومونتيفيوري الذين قدموا خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن التاسع عشر. وقد تركَّز أكثر أعضاء الجماعة اليهودية في المهن التجارية والحرفية وفي صناعة الملابس وامتلاك وإدارة الحوانيت والفنادق الصغيرة.

ومع بداية القرن العشرين، تغيَّر هذا النمط الوظيفي حيث أصبح أعضاء الجماعة، بعد أن حققوا قدراً أكبر من الحراك الاجتماعي والتعليم، مُركَّزين في الوظائف الإدارية والمكتبية والمهن والأعمال الحرة.

وقد جاء 70% من المهاجرين اليهود في الفترة بين عامي 1851 و1880 من ألمانيا، و20% من شرق أوربا. أما في الفترة بين عامي 1880 و1921، فقد جاء 60% من شرق أوربا و30% من ألمانيا. وقد سعى أعضاء الجماعة اليهودية في أستراليا، وخصوصاً الأثرياء منهم، إلى إغلاق أبواب الهجرة أمام اليهود القادمين من شرق أوربا خلال العشرينيات، وذلك خوفاً مما قد تسببه هجرة يهود اليديشية من تهديد لمكانتهم الاجتماعية. ولم يتغيَّر هذا الموقف إلا بعد الحرب العالمية الثانية بعد أن تبنت الحكومة الأسترالية سياسة تسعى نحو زيادة حجم الهجرة القادمة إلى البلاد.

وقد استوطن يهود أستراليا في مجتمع لا يعرف معاداة اليهود، فهو مجتمع جديد علماني استيطاني لا يحارب الدين لأنه لا يكترث به ولا بأية قيمة مطلقة، ويقيِّم الناس بحسب نفعهم ومقدار إنجازهم. ولعل وضع أعضاء الجماعة اليهودية في أستراليا يشبه وضع اليهود الجدد في الولايات المتحدة، فقد طرح المجتمع صورة قومية مركزية كان على اليهود أن يعيدوا صياغة أنفسهم وهويتهم على أساسها، وقد فعلوا ذلك بكفاءة عالية. وساعدهم على ذلك نظام تعليمي كفء للغاية. بل إن عملـة الاندمـاج كانـت أسـهل هنـا لأن عـدد اليهود كان صغيراً. كما أنه لا يوجد أي انقسام بينهم، فقـد كانـت أغلبيتهم من الإشكناز الذين كوَّنوا وحدة واحدة متجانسة.

وقد جرت محاولة لتأسيس مدارس يهودية خاصة بأعضاء الجماعة اليهودية إلا أن هذه المحاولة لم تستمر طويلاً إذ فضَّل أغلب أعضاء الجماعة اليهودية إلحاق أبنائهم بالمدارس البروتستانتية المرموقة التي تتيح أمام أولادهم فرصاً أكبر للحراك الاجتماعي والاندماج داخل المجتمع الاشتراكي. وقد أُعيد تأسيس هذه المدارس في أعقاب تزايد حجم الهجرة اليهودية بعد الحرب العالمية الثانية.

وكان عدد اليهود 1183 نسمة عام 1841، وصل إلى 9125 عام 1881، وزاد العدد إلى 17.287 عام 1911، وإلى 23.553 عام 1933، ووصل إلى 70 ألفاً عام 1968. وعلى أية حال، فإنهم لم يشكلوا أبداً أكثر من 0.6% من إجمالي تعداد السكان. وقد وصل عدد الجماعة اليهودية عام 1991 إلى نحو 90 ألفاً من عدد السكان البالغ 17.843.000 نسمة. ويوجد أغلبية يهود أستراليا في ملبورن.

ومن الواضح أن يهود أستراليا مندمجون تماماً في مجتمعهم، فنسبة الزواج المختلط شديدة الارتفاع بينهم، وكذا معدلات العلمانية. وقد شكَّلت مسألة الزواج المختلط مشكلة أساسية بالنسبة إلى أعضاء الجماعة منذ منتصف القرن التاسع عشر، كما أدَّت إلى عزوف نسبة كبيرة من أعضاء الجماعة عن ممارسة الشعائر الدينية اليهودية. وقد بلغ بهم الاندماج حد أن عدداً كبيراً منهم يرفضون أن يُشار إليهم بأنهم «يهود أستراليون»، أو حتى «أستراليون يهود»، فهم أستراليون وحسب. ويهود أستراليا من الصهاينة التوطينيين الذين يؤيدون الدولة الصهيونية بحماس شديد، ولكن لا تهاجر منهم سوى أعداد ضئيلة جداً. ولا يزيد متوسط الهجرة السنوية على خمسة عشر فرداً. بل يُلاحَظ أن كثيراً من يهود جنوب أفريقيا يؤثرون أستراليا على الدولة الصهيونية باعتبارها مجتمعاً استيطانياً، كما أن بعض الإسرائيليين قد شقوا طريقهم إلى هناك. ومع هذا يعاني يهود أستراليا من ظاهرة موت الشعب اليهودي ويتزايد بينهم عدد المسنين.

والجماعة اليهودية في نيوزيلندا صغيرة الحجم ولا أهمية لها، وقد بلغ عدد اليهود فيها 4500 نسمة عام 1992 من مجموع السكان البالغ عددهم 3.487.000. وهم مندمجون تماماً في المجتمع، كما أن عددهم يتناقص بسبب الزواج المختلط. وقد بلغ عدد يهود أستراليا ونيوزيلندا معاً 8.500 ألف نسمة عام 1992.

ومن أهم المنظمات اليهودية في أستراليا: المجلس التنفيذي ليهود أستراليا The Executive Council of Australian Jewry واختصاره ECAJ. وهي المنظمة المركزية للجماعة اليهودية في أستراليا والجهة التي تمثلهم لدى المؤتمر اليهودي العالمي، ويتبدل مقرها كل عامين بين سيدني وملبورن. ويتركز نشاطها في مجال العلاقات العامة والشئون الخارجية ومحاربة الافتراء.

أما في نيوزيلندا، فإن أهم المنظمات اليهودية هو المجلس اليهودي لنيوزيلندا New Zealand Jewish Council، وهي المنظمة المركزية ليهود نيوزيلندا والجهة التي تمثلهم لدى المؤتمر اليهودي العالمي. والجماعة اليهودية في نيوزيلندا ممثلة أيضاً في مجلس النواب ليهود بريطانيا من خلال نائبين.

الصفحة التالية ß إضغط هنا