المجلد السادس: الصهيــونيــــة 12

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

اللــوبي اليهــودي والصهيــوني : الأطروحـة الشائعة

Jewish and Zionist Lobby: The Dominant Hypothesis

يُعَدُّ اللوبي اليهودي والصهيوني (بالمعنى الشائع) أداة ضغط فعالة في يد من يمثلون مصالح الدولة الإسرائيلية. ولا يستطيع أي دارس أن ينكر قوة اللوبي الذاتية التي يمكن تلخيص مصادرها فيما يلي:

1 ـ يستند اللوبي اليهودي والصهيوني إلى قاعدة واسعة من الناخبين من أعضاء الجماعة اليهودية.

2 ـ توجد بين هؤلاء الناخبين نسبة عالية من الأثرياء يُقدَّر أنهم يتبرعون بأكثر من نصف مجموع الهبات الكبرى للحملة الانتخابية للحزب الديموقراطي، إضافة إلى مبالغ ضخمة لحملات الحزب الجمهوري (انظر: «الصوت اليهودي»)

3 ـ ازدادت أهمية هؤلاء الناخبين بعد الزيادة الهائلة في كلفة الحملات الانتخابية.

4 ـ من أسباب قوة اللوبي اليهودي والصهيوني ارتفاع المستوى التعليمي لأعضاء الجماعات اليهودية.

5 ـ يوجد عدد كبير من المثقفين الأمريكيين اليهود الذين أصبحوا جزءاً عضوياً من النخبة الحاكمة، فهم أبناء حقيقيون للمجتمع الأمريكي لا يعيشون على هامشه أو "في مسامه" وإنما في صلبه، وهو ما يجعلهم قادرين على ممارسة الضغط والتأثير بشكل مباشر.

6 ـ الجماعة اليهودية جماعة منظمة لدرجة كبيرة، وهذا يجعلها قادرة على مضاعفـة قوتـها وزيادة نفوذها لدرجة لا تتناسب مع أعداد أعضائها.

7 ـ ساعد نظام الانتخابات في الولايات المتحدة على أن يلعب اليهود دوراً ملحوظاً في الانتخابات بسبب تركُّزهم في بعض أهم الولايات التي تقرر مصير الانتخابات الأمريكية (نيويورك ـ كاليفورنيا ـ فلوريدا).

8 ـ لا يهتم الناخب الأمريكي كثيراً بقضايا السياسة الخارجية ولا يفهمها كثيراً، ولذا فإن أقلية مثل الجماعة اليهودية عندها هذا الاهتمام بإسرائيل وسياسة الولايات المتحدة تجاهها يمكنها أن تمارس نفوذاً قوياً في تحديد السياسة الخارجية الأمريكية.

والافتراض الكامن في كثير من الأدبيات العربية أن اللوبي اليهودي الصهيوني (بالمعنى الشائع) هو الذي يؤثر في صناع القرار الأمريكي، بل يرى البعض أنه يسيطرسيطرة تامة على مراكز صنع السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، وأنه يدفع هذه السياسة في اتجاه التناقض مع المصالح القومية الأمريكية الحقيقية بما يخدم مصلحةالدولة الصهيونية (وينسب البعض للوبي مقدرات بروتوكولية رهيبة). وهذا يعني بطبيعة الحال أن اللوبي الصهيوني هو لوبي يهودي وأن اليهود يشكلون قوة سياسية وكتلة اقتصادية موحدة خاضعة بشكل شبه كامل للسيطرة الصهيونية ويتحركون وفق توجيهاتها، وأن بإمكان أقلية قوامها 4.2% من السكان أن تتحكم في سياسة إمبراطورية عظمى مثل الولايات المتحدة.

كما يفترض المفهوم أن العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة علاقة عارضة متغيرة وليست إستراتيجية مستقرة، وأن تأييد الولايات المتحدة لإسرائيل ناجم عن عملية ضغط عليها "من الخارج" تقوم به قوة مستقلة لها آلياتها المستقلة وحركياتها الذاتية ومصلحتها الخاصة، وليس نابعاً من مصالح الولايات المتحدة أو من إدراكها لهذه المصالح.

ويستند إدراك كثير من المنادين بمقولة قوة اللوبي الصهيوني إلى مجموعة من المقدمات المنطقية المعقولة التي تكاد تكون بدهية، ومن وجهة نظرهم. فنحن إذا حكَّمنا العقل ودرسنا الواقع بشكل موضوعي لتوصلنا إلى أنه ليس من صالح الولايات المتحدة الأمريكية أن تدخل في معركة مع الشعب العربي، بل من صالحها أن تتعاون معه في كل المجالات الممكنة، لأن مثل هذا التعاون سيؤدي إلى استقرار المنطقة العربية وسيعود على الولايات المتحدة بالفائدة. فالعالم العربي يشغل موقعاً إستراتيجياً مهماً، فهو يقع في وسط أفريقيا وآسيا، وله امتداد حضاري وسكاني في كليهما، وهو شريك أوربا في حوض البحر الأبيض المتوسط، ويشكل نواة العالم الإسلامي. ولذا فمن صالحالولايات المتحدة أن تكون علاقاتها جيدة مع شعب يشغل مثل هذا الموقع الإستراتيجي، وألا يزاحمها أحد في مثل هذه المكانة. علاوة على هذا، يضم العالم العربي نسبة ضخمة من بترول العالم ومن مخزونه الإستراتيجي المعروف، وهذا البترول ـ كما هو معروف ـ أمر حيوي بالنسبة للمنظومة الصناعية في الغرب. كما أن الأسواق العربية من أهم الأسواق من منظور تسويق السلع وكذلك استثمار رأس المال. والعلاقة الطيبة بين الدول العربية والولايات المتحدة ستؤدي حتماً إلى تحسين صورتها لا في العالم العربي وحسب بل في العالم الثالث بأسره.

ولكن الولايات المتحدة، هذا البلد العقلاني الذي تحكمه معايير عملية عقلانية مادية باردة، لا تسـلك حسـب هـذه المعايير المعقولة البديهية، فهي تتمادى في تأييد إسرائيل وتقف وراءها بكل قوة وتستجلب على نفسها عداء العرب. مثل هذا الوضع شاذ وغير عقلاني لا يمكن تفسيره إلا بافتراض وجود قوة خارجية، ذات مقدرة ضخمة، قادرة على أن تضغط على الولايات المتحدة بحيث تتصرف، لا بحسب ما تمليه عليها مصالحها الموضوعية، وإنما حسبما تمليه عليها مصالح هذه القوة، أي المصالح اليهودية والصهيونية والإسرائيلية التي يمثلها اللوبي اليهودي والصهيوني (بالمعنى الشائع(

ولكن ما لم يطرأ لمثل هؤلاء على بال هو أن من المحتمل أن الولايات المتحدة لا تدرك "مصالحها" بهذه الطريقة التي يتصورون أنها عقلانية بل لعلها ترى أن "عدم الاستقرار أو عدم الاستقرار المحكوم" (بالإنجليزية: كونترولد إنستابيليتي Controlled instability) أفضل وضع بالنسبة لها، وأن وضع التجزئة العربية هو ما يخدم "مصالحها"، وأن إسرائيل هي أداتها في خلق حالة عدم الاستقرار المحكوم هذه، والخادم الحقيقي "لمصالحها".

اللوبي اليهودي والصهيوني: تلاقي المصالح الإستراتيجية بين العالم الغربي والدولة الصهيونية

Jewish and Zionist Lobby: The Convergence of the Strategic Interests of the Western World and the Zionist State

مفهوم «المصلحة الإستراتيجية» ليس مفهوماً بسيطاً أو عقلانياً. ومما لا شك فيه أن عملية اتخاذ القرار السياسي في العالم الغربي مركبة لأقصى حد، فهي تتم من خـلال مؤسسات يديرها علماء متخصصون (تكنوقراط) بطريقة "رشيدة"، بمعنى أنها تتبع إجراءات معروفة ومحددة لا تخضع للأهواء الشخصية، ولذا لا يُتخذ القرار إلا بعد توفير المعلومات اللازمة وإشراك المستشارين والمتخصصين. ثم بعد ذلك تتم عملية موازنات صعبة ودقيقة بشأن حساب المكسب والخسارة وجدوى القرار وقوة العدو ونقط ضعفه. وعلى سبيل المثال، حينما قرَّر كيسنجر التخلص من حكم الليندي في تشيلي الذي كان قد وصل إلى سدة الحكم من خلال انتخابات نزيهة، وأحل محله حكماً عسكرياً شرساً. وحينما قررت الولايات المتحدة دعم الكونترا وهو ما يعني التدخل في الشئون الداخلية لنيكاراجوا وإثارة حفيظة دول أمريكا اللاتينية التي كانت تعلم تماماً أن نظام الساندنيستا ليس نظاماً شيوعياً كما تزعم الولايات المتحدة وإنما نظام وطني ينحو منحى يسارياً. نقول، حينما قررت الولايات المتحدة أن تفعل ذلك، فإنها كانت مدركة تماماً أن ثمة خسارة ما ولكن حساب المكسب والخسارة كان واضحاً، فالعائد السياسي (القضاء على نظم قومية تحاول أن تحرز نمواً اقتصادياً خارج نطاق المنظومة الرأسمالية والهيمنة الأمريكية والغربية) كان أعلى كثيراً من العادم (تدعيم صورة اليانكي القبيح المستغل وترسيخها في الوجدان اللاتيني). والشيء نفسه ينطبق على قرار غزو بنما والقضاء على عميل مهم للولايات المتحدة، فنروييجا كان مخلوق أمريكا القبيح. وحينما أرسلت الولايات المتحدة قوتها للقيام بعملية الغزو فإنها كانت مدركة أن العائد الاجتماعي السياسي (القضاء على واحد من أهم مصادر المخدرات، وبالتالي حل مشكلة المخدرات التي تهدد نسيج المجتمع الأمريكي وأمنه القومي ودعم صورة المؤسسة الحاكمة أمام جماهيرها، على أنها مؤسسة جادة في عملية محاربة المخدرات) كان أعلى كثيراً في تصوُّرها من العادم (تدخُّل قوة عظمى في شئون دولة صغيرة والقضاء على عميل نافع مفيد)

ولكن، إذا كان التكنوقراط يتخذون القرار حسب إجراءات موضوعية ومعايير محسوبة تضمن توظيف الوسائل على أحسن وجه في خدمة الأهداف، فإن الأهداف الإستراتيجية نفسها لا تحددها اللجان التكنوقراطية، فهذه العملية تتم على أعلى المستوىات وتصبح جزءاً من العقد الاجتماعي الذي يستند إليه المجتمع ككل، كما أن تغيير هذه الأهداف لا يتم إلا بثورة اجتماعية شاملة. وحساب المكسب والخسارة والعائد والعادم يتم في إطار ما يُسمَّى «مصلحة الدولة العليا». وهذه المصلحة ليست قضية بسـيطة يمكن تحديدهـا موضوعياً ورياضياً وبشكل إجرائي غير شخصي، فرؤية أعضاء النخبة الحاكمة لمصالحهم، والمصالح الفعلية التي يحاولون الحفاظ عليها، والإطار الرمزي الذي يدركون من خلاله هذه المصالح، والعقيدة السياسية والدينية التي تستند إليها شرعية النخبة، تساهم كلها، بشكل أو بآخر، في تحديد «مصلحة الدولة العليا»، فما يرى أعضاء النخبة أنه مصلحة الدولة العليا قد يكون مصلحتهم هم كجماعة أو طبقة ولا يمثل بالضرورة صالح الدولة ككل أو صالح أغلبية أعضاء المجتمع. وما قد يكون رشيداً من وجهة نظر إنسانية عامة قد لا يكون رشيداً من وجهة نظر أصحاب القرار.

وما نود تأكيده هنا أن سلوك دولة عظمى مثل الولايات المتحدة ليس مسألة تتم حسب قواعد رشيدة بسيطة، وإنما هو نتيجة عملية مركبة تدخل فيها عناصر "ذاتية" وعقائدية ومادية وغير مادية، قد لا تنضوي بالضرورة داخل إطار الرشد كما نتخيله (وهنا يأتي دور الصور الذهنية وعالم الرموز والتراث المسيحي اليهودي والذاكرة التاريخية... إلخ). وإن لم يكن الأمر على هذا النحو، فكيف نفسِّر دخول الولايات المتحدة حرباً ضروساً في فيتنام (بعد هزيمة فرنسا فيها)، وتورطها في هذه الحرب لعشرات السنين، وإنفاقها بلايين الدولارات وإهدارها دماء عشرات الألوف من الأمريكيين والفيتناميين، في حرب كان يعرف الجميع أنها خاسرة، واعترف بذلك ـ فيما بعد ـ مهندس الحرب الحقيقي روبرت ماكنمارا؟ ولماذا لم تخرج هذه الدولة العقلانية من الحرب إلا بعد تصاعُد المظاهرات في الولايات المتحدة لما يزيد عن عشرة أعوام؟

وأعتقد أن الغرب قد عرَّف مصلحته الإستراتيجية منذ بداية القرن التاسع عشر بطريقة تجعله ينظر للمنطقة العربية باعتبارها مصدراً هائلاً للمواد الخام (الرخيصة) ومجالاً خصباً للاستثمارات الهائلة (التي تعود عليه وحده بالربح) وسوقاً عظيمة لسلعه (التي ينتجها ويصرفها فيزداد هو ثراءً)، أو قاعدة إستراتيجية شديدة الخطورةوالأهمية (بالنسبة لأمنه هو) إن لم يتحكم فيها قامت قوى معادية (مثل الاتحاد السوفيتي في الماضي) باستخدامها ضده، ويعبِّر هذا الموقف عن نفسه في مصطلح مثل «الفراغ» الذي كثيراً ما يُستخدَم للإشارة إلى شرقنا العربي وكأن وطننا رقعة أرض أو مساحة لا يقطنها شعب عريق له امتداده الحضاري، وكأن أوطاننا هي وجود جغرافي رحب مجرد من التاريخ، أي أننا في الإدراك الغربي مجرد شيء قد يصلح للاستخدام أو الاستعمال.

وحتى حينما نتحول إلى أكثر من مجرد مساحة، فإن الإدراك الغربي للمنطقة (وهو إدراك تحدده مصلحته كما يراها هو أو كما تراها نخبته الحاكمة ومؤسسات صنع القرار فيه) يرى وطننا العربي على أنه منطقة مأهولة بشعوب وقبائل وأقليات معظمها يتحدث العربية وتدين بديانات مختلفة لا يربطها رابط حضاري أو اجتماعي واحد لكلٍّ مصلحته الاقتصادية ومستقبله السياسي المستقل (وتفتُّتها يُسهِّل عملية تحويلها إلى مادة استعمالية) وتكمن مصلحة الغرب (كتشكيل حضاري نهم يود استغلال الشرق والاستثمار فيه بما يعود عليه هو بالربح وبتوجيهه لما يخدم أمنه) في الحفاظ على عدم الترابط الحضاري أو الاجتماعي في عالمنا العربي. وهذه هي مصلحة الغرب كمايدركهـا أهله، وهذا هـو الإطـار الذي يتم اتخـاذ القـرار من خلاله.

والمفهوم الصهيوني لعالمنا العربي يتفق تمام الاتفاق مع المفهوم الغـربي، فالصـهاينة يشـيرون إلى فلسطين باعتبارها «أرضاً بلا شعب»، وإلى الضفة الغربية باعتبارها «يهودا والسامرة»، وهي مصطلحات تلغي التاريخ العربي تماماً. وهم يشيرون إلى الشرق الأوسط على أنه «المنطقة» وهو اصطلاح يشبه في كثير من الوجوه اصطلاح «الفراغ»، فكلاهما يؤكـد فكرة أن عالمنا العربي مكـان بلا زمان، وجغرافيا بلا تاريخ، أو مساحة تسكنها شعوب عديدة متفرقة متناثرة، والصهيونية في نهاية الأمر وليدة التراث الفكري الاستعماري الغربي في القرنين التاسع عشر والعشرين، وهي أداته في المنطقة، وقد بدأ الاهتمام الغربي بالصهيونية كفكرة منذ القرن السابع عشر، ولكنالاهتمام الفكري تحوَّل إلى فكر سياسي ثم إلى خطاب سياسي ثم إلى مُخطَّط استعماري ثابت بعد ظهور محمد علي الذي كان يهدد المصالح الغربية لأنه كان قادراً على ملء «الفراغ» في المنطقة إما عن طريق طرح نفسه على أنه القوة الجديدة، أو عن طريق إدخال العافية على رجل أوربا المريض. ومن هنا كانت فكرة الدولة الصهيونيةالتي وُلدت داخل الخطاب السياسي الغربي، ومن هنا الدعم الغربي الحاسم للمشروع الصهيوني، أداة الغرب في خَلْق الفراغ والحفاظ عليه كوسيلة للدفاع عن أمـن الغرب لا عن أهل المنطقة، وعن مصـالح الغرب لا مصـالح العرب. ولا يمكن إنكار دور الصهاينة في ترسيخ هذا الإدراك الغربي للشرق الأوسط، ولكن تظل العلاقة بينالصهيونية والتشكيل الاستعماري الغربي تدور في إطار المصالح الإستراتيجية الثابتة التي تشكلت داخل الحضارة الغربية قبل ظهور الجماعات اليهودية كقوة سياسية فاعلة في الغرب.

هذا هو السر الحقيقي للنجاح الصهيوني في الغرب، فهو لا يعود إلى سيطرة اليهود على الإعلام، أو لباقة المتحدثين الصهاينة، أو إلى مقدرتهم العالية على الإقناع والإتيان بالحجج والبراهين، أو إلى ثراء اليهود وسيطرتهم المزعومة على التجارة والصناعة، وإنما يعود إلى أن صهيون الجديدة جزء من التشكيل الاستعماري الغربي، وإلى أنه لا يمكن الحديث عن مصالح يهودية وصهيونية مقابل مصالح غربية، وإلى أن الإعلام واللوبي الصهيونيين يمثلان أداة الغرب الرخيصة: دولة وظيفية عميلة للولايات المتحدة تؤدي كل ما يوكل إليها من مهام بنجاح وتنصاع تماماً للأوامر، ولا توجد سوى مناطق اختلاف صغيرة بينها وبين الولايات المتحدة (لا تختلف كثيراً عن الاختلافات التي تنشأ بين الدولة الإمبريالية الأم والجيوب الاستيطانية التابعة لها، كما حدث بين فرنسا والمستوطنين الفرنسيين في الجزائر، وبين إنجلترا من جهة والمستوطنين الإنجليز في روديسـيا والمسـتوطنين الصهاينة في فلسطين من جهة أخرى). وتنصرف هذه الاختلافات أساساً إلى الأسلوب والإجراءات لا إلى الأهداف النهائية، اختلافات يمكن حسمها عن طريق الإقناع والضغط كما يحدث عندما تطلب السعودية صفقة أسلحة ولا ترضى إسرائيل عن ذلك، أو عندما تريد إسرائيل توسيع رقعة استقلالها قليلاً عن طريق إنتاج سلاح مثل طائرة اللافي ولا ترضى المؤسـسة العسـكرية الصناعيـة الأمريكيـة عن ذلك. فالاختلاف ينصرف إلى التفاصيل لا إلى "المصلحة" وإدراكها، ومن هنا يمكن إدارة الحوار حسب قوانين اللعبة المتعارف عليها وتتم ممارسة الضغط داخل إطار من التفاهم بشأن المبادئ الأساسية ومن داخلالنسق لا من خارجه. ويجب ألا يثير هذا الوضع دهشتنا فتاريخ الحركة الصهيونية ليس جزءاً من «تاريخ يهودي عالمي وهمي» ولا هو جزء من التوراة والتلمود (رغم استخدام الديباجات التوراتية والتلمودية) وإنما هو جزء من تاريخ الإمبريالية الغربية. ولذا فالصهيونية لم تظهر بين يهود اليمن أو الهند أو المغرب وإنما ظهرت بين يهود العالم الغربي، وهي لم تظهر في العصور الوسطى ، على سبيل المثال، وإنما في أواخر القرن السابع عشر مع ظهور التشكيل الاستعماري الغربي وبدايات استيطان الإنسان الغربي في العالم الجديد وفي بعض المدن الساحلية في أفريقيا وآسيا.

ويدرك الساسة الإسرائيليون هذه الحقائق إدراكاً كاملاً، ولذا فهم لا يكفون عن الحديث عن أهمية إسرائيل كقاعدة عسكرية وحـضارية وأمنيـة للغرب، وأنها، علاوة على ذلك، قاعدة رخيصة، أرخص بكثير من 10 حاملات طائرات تبلغ تكاليفها 50 بليون دولار، كانت الولايات المتحدة ستضطر لبنائها وإرسالها للبـحر الأبيض المتوسـط وللبحـر الأحـمر لحـماية "المصالح" الأمريكية. إن إسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة "كنز إستراتيجي" (أو دولة وظيفية في مصطلحنا)، وهذا ما يؤكده المتحدثون الإسرائيليون في واشنطن، قبل الدخول في أية مفاوضات. وقد جاء في إحدى إعلانات النيويورك تايمز (الذي مولته إحدى الهيئات الصهيونية) أنه إذا ما تهددت مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط فإن وضع قوة لها شأنها هناك يحتاج إلى "أشهر، أما مع إسرائيل كحليف فإنه لا يحتاج إلا بضعة أيام". إن هذه العبارة تتحدث عن إجراءات القمع والتأديب ضد العالم العربي وتبين مدى كفاءة الدولة الوظيفية في إنجاز مهمتها، ولا تتحدث عن نقطة الانطلاق ولا عن الأسباب الداعية للقمع والتأديبوهي أن مصلحة الغرب تتطلب مثل هذا القمع لأنها مسألة مستقرة مفروغ منها في الفكر الإستراتيجي الغربي.

اللوبي اليهـودي والصهيوني: أوربــا الغربيـة

Jewish and Zionist Lobby: Western Europe

نذهب إذن إلى أن "سر" نجاح اللوبي اليهودي والصهيوني هو أنه يدور في إطار المصالح الإستراتيجية الغربية وأنه يعرض دولته الصهيونية باعتبارها أداة، أي أنمصدر نجاحه لا يعود لقوته الذاتية أو لعناصر كامنة فيه، وإنما بسبب اتفاق مصلحته مع مصلحة الغرب الإستراتيجية. والنموذج السائد في الخطاب التحليلي العربي (الرسمي والشعبي) هو عكس هذا، فهو يفترض أن نجاح الصهاينة يعود لقوتهم الذاتية ومن ثم يُفسِّر تزايُد الدعم الغربي لإسرائيل على أساس تعـاظُم النفـوذ اليهـوديوالصهـيوني، فإن زاد الثاني زاد الأول. ولاختبار هذه الأطروحة الشائعة، ولتوضيح ضعف مقدرتها التفسيرية، سنورد بعض الشواهد والقرائن التاريخية والحديثة:

1 ـ أول من دعا لإنشاء دولة يهودية في فلسطين في العصر الحديث هو نابليون بونابرت، وهو أيضاً أول غاز غربي للشرق العربي في العصر الحديث. ومما يجدر ذكره أن نابليون كان معادياً لليهود، كما يدل على ذلك سجله في فرنسا. ولا يمكن الحديث عن وجود لوبي يهودي أو صهيوني قوي أو ضعيف حين أطلق نابليون دعوته، فقد كانت نابعة من إدراكه لمصالح فرنسا الإستراتيجية.

2 ـ هناك حشد من الساسة البريطانيين (بالمرستون ـ شافتسبري ـ أوليفانت ـ لويد جورج ـ بلفور) دعوا لإقامة دولة يهودية في فلسطين، إما قبل ظهور الحركة الصهيونيةبين اليهود أو في غياب لوبي يهودي أو صهيوني. ومما يجدر ذكره أن كل هؤلاء الساسة كانوا ممن يكرهون اليهود، وبخاصة بلفور، الذي كان وراء استصدار قانون الغرباء عام 1950 لمنع اليهود من دخول إنجلترا، والذي اعترف بعدائه للسامية، والذي كان يرى أن اليهود يشكلون عبئاً على الحضارة الغربية ولكنهم جميعاً وجدوا أن ثمة فائدة إستراتيجية تعود على إنجلترا لو أسست دولة صهيونية.

3 ـ لا شك في أن صدور وعد بلفور هو أهم حدث في تاريخ الصهيونية ودراسة الظروف المحيطة بصدوره. ولذا فهو يزودنا بلحظة نادرة لاختبار نموذج الضغط اليهودي والصهيوني. ولإنجاز هذا سنعقد مقارنة بين "قوة" الجماعتين اليهوديتين في ألمانيا وإنجلترا من منظور مقدرتهما على الضغط:

أ ) فمن المعروف أن الوجود اليهودي في ألمانيا قبل الحرب العالمية الأولى كان قوياً جداً، وكان اليهود يشغلون مناصب حكومية مهمة، ويوجدون في مواقع اقتصادية ذات طبيعة إستراتيجية، فكان أهـم ثلاثة بنوك يملكـها بعض أعضـاء الجماعــة اليهودية في ألمانيا، كما كانوا متغلغـلين في الإعــلام وقيادات الأحـزاب السياسية، وكان منهم كثير من المؤلفين والفنانين. وقد حققوا معدلات عالية للغاية من الاندماج، وهو ما يسَّر لهم عملية التحرك داخل المجتمع الألماني، كما أن اليهود الألمان اشتركوا بأعداد كبيرة في الحرب تفوق نسبتهم القومية. والحركة الصهيونية حتى ذلك الوقت كانت حركة ألمانية في توجهها الثقافي، فكانت لغة المؤتمرات الصهيونية هي الألمانية، كما كانت برلين مقر المنظمة الصهيونية العالمية. وكان الصهاينة على أتم استعداد لأن يجعلوا مشروعهم الصهيوني جزءاً من المشروع الألماني الاستعماري.

ب) مقابل هذا كانت توجد في إنجلترا جماعة يهودية صغيرة للغاية ليست لها القوة المالية أو الثقافية للجماعة اليهودية في ألمانيا، وكانت جماعة مندمجة تماماً ومعادية للصهيونية (كان وايزمان والقيادات الصهيونية من شرق أوربا)

مع هذا نجح الصهاينة في إنجلترا في استصدار وعد بلفور، رغم ضعفهم وعزلتهم، بينما فشل صهاينة ألمانيا في ذلك رغم قوتهم وارتباطهم بالمجتمع. ولا يمكن العودة إلى الصورة الإعلامية أو اللوبي الصهيوني وما شابه من نماذج تفسيرية. وإنما علينا أن نعود إلى المصالح الإستراتيجية الإمبريالية الإنجليزية مقابل المصالح الإستراتيجية الإمبريالية الألمانية. أما الإمبريالية الألمانية فكانت متحالفة مع الدولة العثمانية، ولذا لم يكن هناك مجال لإعطاء أي وعود للصهاينة على حساب هذه الدولة. لكن الوضع كان مختلفاً بالنسبة للإمبريالية الإنجليزية فقد ظل التحالف قائماً بينها وبين الدولة العثمانية حتى اندلاع الحرب، ولذا حينما صدر أول وعد بلفوري إنجليزي وهو الخاص بمشـروع شـرق أفريقيا فقد كان وعداً بقطعـة أرض خارج الدولة العثمانية. ولكن بعد أن قررت الإمبريالية الإنجليزية تقسيم الدولة العثمانية أصبح من الممكن إصدار وعد بلفور لمجموعة من الصهاينة ليسوا من الإنجليز. وكان على الموجودين في إنجلترا أن يقطعوا علاقتهم مع المنظمة الخاضعة لنفوذ ألمانيا آنذاك، وكان الوعد هذه المرة وعداً بقطعة أرض داخل الدولة العثمانية. إن وعد بلفور والدعم البريطاني للمشروع الصهيوني لا علاقة لهما بأي لوبي يهودي أو صهيوني قوي أو ضعيف.

4 ـ إذا نظرنا إلى سياسة كل من إنجلترا وفرنسا في الوقت الحالي تجاه الشرق الأوسط لوجدنا أنها تتفق مع السياسة الأمريكية والتوجه الإستراتيجي الغربي بشكل عام مع اختلافات طفيفة. ويستطيع الباحث المدقق أن يجد أن سياسة إنجلترا أكثر اقتراباً من السياسة الأمريكية وأكثر دعماً لإسرائيل، وأن السياسة الفرنسية أكثر ابتعاداً وربما اعتدالاً (من وجهة نظر غربية). ولو حاول تفسير هذا الاختلاف على أساس النفوذ الصهيوني لباءت محاولته بالفشل:

أ ) فالجماعـة اليهـودية في إنجلترا ضعيفة لأقصى حد من الناحية الكمية، أما من الناحية الكيفية فهي من أكثر الجماعات اندماجاً وهي آخذة في التناقص (إن لم يكن أيضاً الاختفاء). وعند وقوع مذبحة صبرا وشاتيلا لم يجد التليفزيون البريطاني مفكراً بريطانياً يهودياً واحداً يدافع عن الموقف الصهيوني، فاضطروا إلى إحضار نورمان بودوريتس رئيس مجلة كومنتاري من الولايات المتحدة لتقديم وجهة النظر الصهيونية.

ب) أما في فرنسا فتوجد جماعة يهودية يبلغ تعدادها 700 ألف، وهي جماعة اكتـسبت لوناً يهودياً قوياً نوعاً ما بعـد هـجرة يهـود المغرب العربي، وهي جماعة ذات نفوذ قوي في الإعلام وغيره.

وأعتقد أنه لتفسير موقف كلا البلدين يجب ألا نعود إلى قوة أو ضعف الجماعة اليهودية في كلٍّ منهما وإنما إلى موقف كليهما من التحالف الغربي وإلى رؤية كل منهما له. فإنجلترا أكثر ارتباطاً بالولايات المتحدة من فرنسا داخل هذا التحالف، بينما تحاول فرنسا أن تحافظ على مساحة من الاستقلال الأوربي لا تهتم بها إنجلترا بالدرجة نفسها، ولعل هذا هو مصـدر اختلاف سـياسة البلدين تجـاه قضية الشرق الأوسـط.

5 ـ وإذا نظرنا إلى دول مثل هولندا وبلجيكا فلا يمكن تفسير تأييدها لإسرائيل استناداً إلى مقولة اللوبي اليهودي الصهيوني، فالوجود اليهودي في كثير من هذه البلدان يكاد يكون منعدماً.

اللوبي اليهودي والصهيوني: الاتحـاد السوفيتي

Jewish and Zionist Lobby: The Soviet Union

تُثار قضية اللوبي اليهودي والصهيوني (بالمعنى العام) في الاتحاد السـوفيتي إذ يذهــب البعض أن "اليهود" سـيطروا على الاتحاد السوفيتي، فالثورة البلشفية حسبتصوُّرهم هي "الثورة اليهودية" والشيوعية العالمية والصهيونية العالمية حليفان.

وكما هو الحال دائماً مع النماذج الاختزالية ثمة عناصر في الواقع يمكنها تأييد مثل هذا المفهوم. فمن المعروف أن أعضاء الجماعة اليهودية في الاتحاد السوفيتي كانوا من أكثر الجماعات وجوداً في مؤسسات الحزب الشيوعي بالقياس إلى نسبتهم القومية ومهندس الجيش الأحمر هو تروتسكي "اليهودي". كما يمكن أن نشير إلى وجود أعداد كثيرة من اليهود في الإعلام السوفيتي وفي بعض المؤسسات المهمة مثل اتحاد الكتاب وفي الجامعات والمؤسسات البحثية. ولكن هذا الوضع يعادله عدة عناصر من أهمها:

1 ـ أن النسبة العددية لأعضاء الجماعة اليهودية في الاتحاد السوفيتي كانت صغيرة جداً وآخذة في التناقص.

2 ـ لم يشكل أعضاء الجماعة كتلة متماسكة لها مصالح واحدة. فيهود جورجيا لا تربطهم رابطة كبيرة بيهود أوكرانيا، بل إن ثمة نقاط اختلاف دينية وحضارية عميقة بينهم.

3 ـ كان يهود الاتحاد السوفيتي يتمتعون بدرجة عالية من الاندماج يجد تَجلِّىه في الزواج المُختلَط وفي اختفاء اللغة والثقافة اليديشية.

4 ـ اتجه اليهود السوفييت (من خلال عناصر داخلية سوفيتية مثل تركُّزهم في قطاعات اقتصادية مشبوهة، وخارجية مثل تدخل الحركة الصهيونية) إلى الخروج من الاتحاد السوفيتي وليس البقاء داخله. وقد أدَّى هذا إلى ضعف نفوذهم كجماعة ضغط داخل النظام السوفيتي.

5 ـ من الأمور التي كانت تعوق اليهود السوفييت عن التأثير في القرار السياسي السوفيتي، من داخل النظام أو من خارجه، أن ثمة رفضاً عميقاً لليهودي داخل التشكيل الحضاري الروسي باعتبار أن اليهودي هو الغريب، وهو رفض يدعمه تركُّز نسبة كبيرة من أعضاء الجماعة في وظائف هامشية وفي السوق السوداء.

6 ـ من العناصر بالغة الأهمية أنه ليس كل اليهود السوفييت مؤيدين لإسرائيل، فهناك اليهود المتدينون الذين لا ينظرون إلى الدولة الصهـيونية بعين الرضا. كما أن هناك إحسـاساً، بين يهود شرق أوربا، بأنهم يُشكِّلون أقلية قومية شرق أوربية يديشية، وهي التقاليد التي صاغها دبنوف وحزب البوند.

7 ـ وفي نهاية الأمر كانت هناك السياسات السوفيتية الرامية إلى تفكيك اليهود (وكل الجماعات الدينية والإثنية) كجزء من النزوع الأممي وتركيز السلطة في يد السوفييتوحكومتهم المركزية وطليعتهم الحزبية!

ودراسة موقف الاتحاد السوفيتي من الجماعات اليهودية والدولة الصهيونية تبين أن المصالح الإستراتيجية للدولة السوفيتية كانت دائماً العنصر الأساسي في تحديد موقفها (انظر: «البلاشفة والجماعات اليهودية» ـ «البلاشفة والصهيونية»)

ويمكن دراسة قضية حيوية مثل الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفيتي (سابقاً) في السبعينيات باعتبارها مثلاً مصغراً لتوجهات السياسة السوفيتية، وهل تتحدد هذه السياسة نتيجة ضغط يهودي صهيوني أم نابعة من المصالح السوفيتية؟ ومن المعروف أن قضية اليهود السوفييت "وحقهم" في الهجرة لم تُثر في بداية السبعينيات بضغط من الإعلام أو اللوبي الصهيوني وإنما تم بضغط من الولايات المتحدة (بمساعدة أعضاء الجماعة اليهودية فيها). وقد سمح السوفييت في نهاية الأمر بهجرة أعداد كبيرة من اليهود بسبب ضغوط بنيوية داخلية: التخلص من عناصر متمردة ساخطة وعناصر تجارية إن لجأ للعنف في ضربها أثار الرأي العام الغربي عليه. كما أن الضغوط الغربية لعبت دوراً حاسماً إذ ربط الغرب بين التسهيلات التجارية والائتمانية الممنوحة للاتحاد السوفيتي من جهة والموقف السوفيتي من الهجرة اليهودية من جهة أخرى. ولكن مع تراجع هذه السياسات توقفت الهجرة لتفتح أبوابها مرة أخرى في أواخر الثمانينيات مع الانفتاح السوفيتي على الغرب ومع رغبته العارمة في الحصول على مساعدات مالية وتكنولوجيا متقدمة، فالقرار قرار سوفيتي اتُخذ استجابة لحاجات سوفيتية داخلية ومطالب غربية، ولا يشكل اليهود في هذه الصفقة سوى المادة التي سيتم نقلها. ومما لا شك فيه أن الإعلام الذي تنشط فيه العناصر اليهودية أو الصهيونية سواء في الاتحاد السوفيتي أو الولايات المتحدة لعب دوراً ملحوظاً، ولكن لا يمكن تفسير سلوك الاتحاد السوفيتي وسماحه بهجرة اليهود السوفييت في السبعينيات ثم وقفه الهجرة في منتصف الثمانينيات ثم فتحه باب الهجرة مرة أخرى في أواخر الثمانينيات إلا في إطار مصالح الاتحاد السوفيتي المتشابكة والضغوط الأمريكية عليه.

ومع هذا، يُلاحَظ أن أعضاء الجماعة بدأوا يتمتعون بحرية أكبر في الحركة والتعبير عن آرائهم. ولكن هذا لا يعود إلى قوتهم الذاتية وإنما إلى تغيُّر مبدئي وبنيوي في سياسة الدولة السوفيتية جعلها تجد أن من صالحها السـماح لليهـود بالهجرة والسـماح للحركة الصهيونية بالتحرك. وبطبيعة الحال، فإنه مع تزايد هجرة اليهود من روسيا وأوكرانيا، ومع انحلال الاتحاد السوفيتي وانقسامه إلى عدة دول ذات سياسات مختلفة، فمن المتوقع أن تزداد قدرة الجماعات اليهودية على الضغط.

اللـوبي اليهــودي والصهـيوني: الولايات المتحدة الأمريكيـة

Jewish and Zionist Lobby: The United States of America

يمكن القول بأن كل الأمثلة التي وردت في المدخل السابق مستمدة من تاريخ إنجلترا أو فرنسا أو الاتحاد السوفيتي وأن الولايات المتحدة حالة مختلفة تماماً وأن النفوذ الصهيوني مُسيطر عليها بشكل لم يحدث من قبل أو بعد. ولذا فلنحاول اختبار نموذجنا التفسيري الأساسي: إن المصالح الإستراتيجية/الغربية (الأمريكية في هذه الحالة) هي التي تحدد القرار الأمريكي، وأن الضغوط الصهيونية ـ من خلال اللوبي أو الإعلام ـ ذات أهمية ثانوية، فهي قد تُؤخر القرار قليلاً، وقد تُعدل شكله ولكنها لا تُحدِّده أو تُعدِّل اتجاهه الأساسي. ويمكننا أن نذكر الأحداث المهمة التالية للبرهنة على مقولتنا:

1 ـ هناك عدد كبير من رؤساء الجمهورية في الولايات المتحدة ممن دعوا لإنشاء دولة يهودية في فلسطين، حتى قبل أن توجد جماعة يهودية ذات وزن من الناحية العددية والنوعية في أمريكا الشمالية. ويمكن أن نذكر ـ في هذا المضمار ـ الرئيس جاكسون (الذي كان قد لعب دوراً أساسياً في عملية الإجهاز على البقية الباقية من السكان الأصليين في الولايات المتحدة الأمريكية)

2 ـ المؤسِّس الحقيقي للوبي الصهيوني في الولايات المتحدة (بالمعنى العام غير الشائع الذي نطرحه) هو وليام بلاكستون (1841 ـ 1935) الصهيوني غير اليهودي، الذي أرسل عام 1891 التماساً إلى الرئيس الأمريكي هاريسون يحثه فيه على "إعادة" فلسطين لليهود. وقد وقَّع على هذا الالتماس عدد من الشخصيات المسيحية واليهودية. ولكن كان هناك معارضة يهودية قوية لمثل هذه الاتجاهات الصهيونية، إما من منظور ديني أو منظور اندماجي. وقد تصاعدت هذه الاتجاهات بين أعضاء النخبة الحاكمة الأمريكية (البروتستانتية) مع تزايُد اهتمام الولايات المتحدة بالشرق الأوسط. فأيَّدت الولايات المتحدة وعد بلفور، وحنث الرئيس ولسون بوعوده الخاصة بحق تقرير المصير، لا خضوعاً لأي ضغط صهيوني أو يهودي وإنما لأنه رأى أن مصير الشرق الأوسط لا يمكن أن يُصاغ دون أن يكون للولايات المتحدة دخل فيه، ووجد أن تأييده لوعد بلفور هو وسيلته لذلك. (وقد فعل ذلك رغم احتجاج عدد كبير من أعضاء الجماعة اليهودية)

3 ـ كانت الأقلية اليهودية في الولايات المتحدة في منتصف القرن التاسع عشر أقلية تؤمن باليهودية الإصلاحية التي تشجع الاندماج. وهذه الأقلية كانت تشكل نخبة ثرية مندمجة من أصل ألماني ولذا لم تكن متحمسة لهجرة يهود شرق أوربا الأرثوذكس السلاف «المتخلفين» المتحدثين باليديشية. ومع هذا اتُخذ القرار الأمريكي بفتح أبواب الولايات المتحدة لجميع المهاجرين لأن هذا ما كانت تتطلبه المصالح الأمريكية، وبالفعل هاجر الملايين من يهود شرق أوربا حتى أصبحوا يُشكِّلون غالبية يهود أمريكا.

4 ـ في عام 1924 قررت الولايات المتحدة أن تحد من عدد المهاجرين بسبب الأزمة الاقتصادية فأصدرت قانون النصاب عام 1923، ثم قانون جونسون عام 1924، فانخفض عدد المهاجرين اليهود انخفاضاً ملحوظاً (من 119 ألفاً عام 1921، و49 ألفاً عام 1924 إلى 10 آلاف عام 1925، و2.755عام 1932). وبعد أن كانت الولايات المتحدة تستوعب 85% من المهاجرين اليهود أصبحت تستوعب ما يقل عن 25% وأحياناً عن 10%. ويجب أن نُذكِّر أنفسنا بأن القرارات الخاصة بالهجرة في الولايات المتحدة هي قرارات ذات طابع إستراتيجي، فالولايات المتحدة دولة استيطانية، وكانت حينذاك لا تزال في طور التشكيل، وتشكل المادة الاستيطانية الإنتاجية القتالية بالنسبة لها عنصراً إستراتيجياً، وبالتالي فالقرارات كانت تُتخذ في ضوء المصالح الأمريكية وحدها، وسواء سعد اليهود بهذا القرار أم ابتأسوا له فهذه مسألة ثانوية تماماً.

5 ـ أثناء ما يمكن تسميته بالمرحلة النازية (1933 ـ 1948) رفضت الولايات المتحدة ومعظم بلاد أوربا فتح أبوابها للمهاجرين اليهود (رغم كل التباكي في الوقت الحالي على ضحايا الإبادة). ويُفسَّر هذا الوضع على أساس حالة الاقتصاد الأمريكي المتردية والخوف من تَسلُّل الجواسيس الألمان، بل إن القوات الأمريكية بقيادة إيزنهاور رفضت ضرب قضبان السكك الحديدية المؤدية لمعسكرات الإبادة لوقف عملية نقل اليهود إليها. ويُقال في تفسير هذا إن أيزنهاور قائد القوات الأمريكية كان لا يريد تبديد طاقته العسكرية في هذا العمل الجانبي. ومهما كانت التفسيرات التي تُساق فإن القرار كان أمريكياً والمصالح كانت أمريكية.

6 ـ حينما أُعلنت دولة إسرائيل عام 1948 اعترفت الولايات المتحدة بها فوراً، ولم يكن اللوبي الصهيوني قوياً أخطبوطياً بعد، حتى باعتراف أولئك الذين يروجون لأسطورة قوته وأخطبوطيته. كما أن اللوبي اليهودي المعادي للصهيونية كان لا يزال قوياً إذ كان يضم عدداً كبيراً من أثرياء اليهود المندمجين، وهو ما يعني أن مسارعة الولايات المتحدة بالاعتراف لا يمكن تفسيرها إلا على أساس المصالح الأمريكية وليس لها علاقة بالضغوط اليهودية أو الحملات الإعلامية.

7 ـ حينما تحالفت إسرائيل مع إنجلترا وفرنسا عام 1956 وشنت العدوان الثلاثي على مصر، دون موافقة الولايات المتحدة، عوقبت أشد العقاب، إذ أن الإستراتيجية الأمريكية حينذاك كانت أنْ تلعب الإمبريالية الأمريكية دوراً نشيطاً في الشرق الأوسط وتحل محل الاستعمار التقليدي (الإنجليزي والفرنسي) وتملأ هي "الفراغ" الناجم عن انسحابهما منه. والدولة الصهيونية باشتراكها في هذه المغامرة وقفت ضـد المخطـط الأمـريكي ولذا كان من الضروري تأديبهـا، ومن هنا مـوقف أيزنهـاور "النزيه" و"العـادل" و"المحايد".

8 ـ لم تشن إسرائيل حرب عام 1967 إلا بموافقة صريحة من الولايات المتحدة التي وجدت أن من صالحها تصفية حكم عبد الناصر آنذاك، وعلى كلٍّ ليس بإمكان إسرائيل أن تشن أي حرب أو تدخل أية مغامرة عسكرية إلا بموافقة الولايات المتحدة التي تمدها بالسلاح والدعم والمظلة الأمنية.

9 ـ شاهدت الفترة من 1967 ـ 1974 تنامي العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة وذلك قبل أن يُعاد تنظيم إيباك، وفي فترة حكم نيكسون الذي كان لا يكن حباً خاصاً لليهود.

10 ـ حينما حاولت إسرائيل أن تؤكد استقلالها النسبي في الآونة الأخيرة جاءتها الرسالة واضحة من واشنطن ألا تتجاوز حدودها.

أ ) وأولى المحاولات الإسرائيلية لتأكيد شيء من الاستقلال كان في حادثة جوناثان بولارد وهو موظف أمريكي يهودي تجسَّس على الولايات المتحدة لحساب إسرائيل، وكان رد المؤسسة الأمريكية الحاكمة حاسماً، إذ قُبض على بولارد وأُدخل السجن لمدة عشرين عاماً وأُجري تحقيق في إسرائيل لتحديد المسئولية، كما أن الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة ثارت ثائرتها ضد الدولة الصهيونية. وصرح جيكوب نيوزنر، أهم عالم تلمودي في العالم ومن زعماء يهود الولايات المتحدة، أن يهود أمريكا يؤمنون بأرض ميعاد واحدة هي الولايات المتحدة وأن عاصمتهم هي واشنطن وحسب. بل إن موظفاً مدنياً يهودياً يعمل في وزارة الخارجية الأمريكية منذ 25 عاماً سُحب منه تصريحه الأمني (الذي يمكن بمقتضاه أن يطَّلع على وثائق سرية) لأن ثلاثة من أولاده يعيشون في إسرائيل بعد حادثة بولارد وزيادة الاحتياطات الأمنية (جيرو ساليم بوست 11 فبراير 1989)، ولو حدث شيء مماثل في أي بلد آخر لاتُهم هذا البلد على الفور بأنه معاد لليهود. ولكن الإعلام الصهيوني لزم الصـمت لأن الجمـيع يعرف أن هذا هو الخـط الذي لا يسـتطيع أحد عبوره، فهو خط إستراتيجي أحمر راسخ واضح. وقد حاول اللوبي الصهيوني أن يستفيد من قرار بوش بالعفو عن المتهمين في قضية إيران ـ كونترا عند انتهاء مدة رئاسته وحاولوا استصدار عفو عن بولارد ولكن الطلب رُفض. وقد رفض كلينتون أيضاً العفو عن بولارد.

ب) أما الواقعة الثانية فهي إلغاء مشروع طائرة اللافي. فالمؤسسة الحاكمة الصهيونية كانت حريصة كل الحرص على إنتاج هذه الطائرة محلياً في إسرائيل (بعون أمريكي) لأسباب عديدة من بينها تحقيق شيء من الاستقلال الإسرائيلي وتحسين صورة إسرائيل القومية أمام المستوطنين الصهاينة الذين يشعرون باعتماد دولتهم المذل على الولايات المتحدة. كما أن الطائرة لافي كانت تعني أيضاً إنشاء صناعة طائرات محلية تخلق عشرات الوظائف للمهندسين والفنيين الإسرائيليين بأمل أن يحد ذلك بعض الشيء من ظاهرة هجرة العقول من إسرائيل ونزوح عناصر النخبة الفنية منها. ولكن المؤسسة الصناعية العسكرية في الولايات المتحدة وجدت أنه ليس من صالحها السماح لإسرائيل بإنتاج اللافي فأُلغي المشروع رغم المحاولات اليائسة والمريرة لمدة عامين، ولم ينجح اللوبي الصهيوني أو غيره في أن يؤثر على القرار الأمريكي. وقد تزايد عدد النازحين بالفعل عن الدولة الصهيونية، كما أنه قلل مقدرة إسرائيل الاسـتيعابية للمهـاجرين الجدد، وبخاصـة من ذوي المؤهلات العالية، وهو الأمر الذي شـكَّل مشـكلة خطيرة مع هجرة اليهـود السـوفييت.

11 ـ لوحظ أن بعض الإسرائيليين واليهود السوفييت المقيمين في الولايات المتحدة قد أسسوا عصابات تمارس الجريمة المنظمة (المافيا) ولها نشاط في عالم المخدرات والجنس وتزييف النقود. ولم يتردد الكونجرس الأمريكي في إجراء تحقيق في الموضوع ونشر نتائج التحقيق، وهو ما أساء لصورة اليهود الإعلامية (جيروساليم بوست 19 أبريل 1988) ولكنه فعل ذلك دون تردُّد لأن الجريمة تهدد أمن الولايات المتحدة القومي، ولم يخش أحد من سطوة الإعلام الصهيوني.

12 ـ ثم جاءت حرب الخليج فأثبتت بما لا يقبل أي شك أن الدولة الصهيونية تتحرك داخل إطار المصالح الإستراتيجية الغربية وليس داخل إطار المصالح اليهودية أوالصهيونية الوهمية، فالدولة الصهيونية قد أُعدت عبر تاريخها للاضطلاع بدور الأداة العسكرية الكفء، وقد موَّلها الغرب لهذا السبب، وهذا السبب وحده. ولكن تبيَّن للغرب أن اشتراكها في القتال سيُسبِّب خسارة للمصالح الغربية، فاسم إسرائيل لا يزال كريهاً لدى الجماهير العربية التي تدرك بفطرتها السليمة طبيعة هذه الدولةالاستعمارية، ووقوف أي دولة عربية في القتال جنباً إلى جنب مع إسرائيل (حتى ولو كان ضد العراق) كان سيؤدي إلى غضب هذه الجماهير وثورتها، ولذا طلبت الولايات المتحدة من الدولة الصهيونية أن تتنحى عن دورها التقليدي وأن تلزم القوات الإسرائيلية ثكناتها وأن تتلقى الصواريخ العراقية دون أن تحرك ساكناً. وقد امتثلت الدولة الصهيونية لهذه الأوامر، وسُمِّي هذا «ضبط النفس». وسلوك الدولة الصهيونية ـ مرة أخرى ـ يبيِّن مدى ذكاء أهل الحكم فيها ومعرفتهم تماماً بقوانين اللعبة.

ولعل التنازل الوحيد الذي قدمه الأمريكيون للإسرائيليين في هذه الحالة هو اختيار كولونيل يهودي ليترأس طاقم صواريخ باتريوت الذي أُرسل لحماية الدولة الصعهيونية من الصواريخ العراقية، وكان ضمن الطاقم عشرون يهودياً! وهو تنازل له طابع رمزي وحسب ولا يمتد بأية حال للأهداف النهائية.

13 ـ أثناء المعركة الانتخابية الأخيرة للرئاسة الأمريكية ادعى مدير إيباك في مكالمة تليفونية مع أحد المليونيرات اليهود أن كلينتون يقوم باستشارته بشأن المرشحين لمنصب وزير الخارجية (وذلك بهدف تضخيم دور اللوبي). ولكن المليونير كان قد قام بتسجيل المكالمة وسربها للصحف التي قامت بنشرها، ويُعدُّ مثل هذا التصريح خرقاً للعقد الاجتماعي الأمريكي الذي يسمح لأعضاء الأقليات بالتعبير عن هويتهم الإثنية بشرط ألا يتناقض هذا مع الصالح الأمريكي العام وأن يأتي الولاء للولايات المتحدة في المقام الأول. وقد اعتذر مدير إيباك عما بدر منه وأكد أن ما قاله في المكالمة التليفونية بشأن تعيين وزير الخارجية لم يكن إلا من قبيل الدعاية للإيباك لحث المليونير اليهودي على أن يجزل العطاء للإيباك، وقدَّم المدير استقالته بعد ذلك.

إلى جانب هذه الوقائع التاريخية التي تثبت أن المرجعية النهائية هي المصلحة الإستراتيجية الغربية، يمكننا أن نكتشف بعض جوانب آليات الضغط اليهودي الصهيوني لنرى مدى علاقتها بالمصالح اليهودية والصهيونية المستقلة:

1 ـ يمكن أن نطرح سؤلاً بشأن مدى تأثير الصوت اليهودي في سياسـات الولايات المتحـدة وانحـيازها لإسرائيل. وتبعاً للأطروحة الشائعة، لابد أن يزيد الانحياز مع تزايُد قوة هذا الصوت، والعكس صحيح. ولنا أن نلاحظ أن العلاقة بين الدولة الصهيونية والولايات المتحدة أثناء حكم الرؤساء الجمهوريين (نيكسون ـ ريجان ـ بوش) قد توثقت عراها بشكل مذهل، رغم أن ما بين 70 ـ 80 %من مجمل الأصوات اليهودية ذهبت للديموقراطيين. وقد لوحظ في انتخابات الكونجرس لعام 1994 تقلُّص في عدد الممثلين اليهود إذ انخفض عدد الشيوخ من 10 إلى 9 وعدد النواب من 41 إلى 33، وهو ما يعني تراجع المقدرة الصهيونية المزعومة على الضغط. ومع هذا لم يتوقع أحد أن تتغيَّر سياسة الولايات المتحدة تجاه إسرائيل، بل زادت درجة الانحياز كما زاد عدد أعضاء الجماعة اليهودية في مؤسسات صنع القرار. (انظر: «الصوت اليهودي»).

2 ـ ويمكن أن نثير قضية سيطرة رأس المال اليهودي وهيمنته. ولنا أن نشير هنا إلى أن حجم رأس المال الذي يتحكم فيه بعض أعضاء الجماعات اليهودية يشكل نسبة ضئيلة للغاية بالنسبة لرأس المال الكلي للولايات المتحدة. والمنظومة الرأسمالية ـ كما هو معروف ـ منظومة متكاملة متداخلة، لها قوانينها وآلياتها التي تتجاوز إلى حدٍّ كبير إرادة الأفراد وأهواءهم. ويمكن أن نضيف هنا أنه على الرغم من ثراء يهود الولايات المتحدة (يوجد 140 يهودي بين أكثر من 400 شخص يُعَدون الأكثر ثراء) فإنه لا يوجد رأس مال يهودي في الصناعات الأساسية (الحديد ـ الصلب ـ السيارات)، كما أن المصارف الأساسية لا تزال في أيدي الواسب (البروتستانت). وعلى المنادين بأطروحة السيطرة اليهودية أن يبينوا أن ثمة علاقة طردية بين تزايد رأس المـال المتـوافر في أيدي اليهود والانحياز الأمريكي لإسرائيل.

3 ـ وقل الشيء نفسه عن الإعلام وسيطرة اليهود عليه. فثمة وجود يهودي ملحوظ في قطاع الإعلام. ولكن هل تزايد هذا النفوذ أو تراجع في الأعوام العشرين الماضية؟وهل زادت نسبة ملكية اليهود لوسائل الإعلام أو قلت؟ وهل هناك علاقة واضحة بين تزايد الهيمنة اليهودية على الإعلام ومنحنى الانحياز؟ كل المؤشرات تدل على أن العناصر غير اليهودية التي دخلت مجال الإعلام الأمريكي أعلى بكثير من العناصر اليهودية، ومع هذا لم يتغيَّر منحنى الانحياز المتزايد.

4 ـ ويمكن أن نثير قضية أن أعضاء الجماعة اليهودية يلعبون دوراً متميِّزاً داخل المؤسسات الأمريكية لصنع القرار. وفي تقرير كُتب في السبعينيات، أُشير إلى أن 20.9% من كل أعضاء هيئات التدريس في الجـامعات و25.8% من مجـموع العـاملين في الإعـلام من اليهود، وأن هناك بين 545 شخصية قيادية حوالي 11.4% من اليهود. وقد تزايد عدد اليهود في إدارة كلينتون الأخيرة (1996) وبخاصة في المراكز الحساسة مثل وزير الخارجية ووزير الدفاع وعضوية مجلس الأمن القومي. ويشار إلى كل هذا باعتباره دليلاً على مدى سيطرة اليهود. ولكن عملية صنع القرار في الولايات المتحدة ـ كما أسلفنا ـ عملية مؤسسية في غاية التركيب، ولا تستطيع أية أقلية واحدة التحكم فيها. كما أن اليهود لا يشكلون الأقلية الوحيدة داخل مؤسسات صنع القرار، إذ توجد أقليات وجماعات ضغط أخرى كبيرة ومهمة مثل جماعة الضغط الكاثوليكية.

ويمكن تشبيه اليهودي داخل مؤسسات صنع القرار الأمريكية بالموظف الحركي النشيط في إحدى الشركات الكبرى الأمريكية. فهذا الموظف إن أبدى ذكاءً غير عادي في فهم أهداف المؤسسة التي يعمل فيها وأخذ بزمام المبادرة وتحرك نحو تنفيذها، فلابد أنه سيترقى ويتحرك نحو القمة، ولكن حركته الصاعدة تظل في نهاية الأمر محكومة بالهدف المؤسسي الذي يتم تحديده بشكل مؤسسي، كما أن من الصعب على فرد أو مجموعة أفراد تغييره.

ويمكننا أيضاً أن نستخدم تشبيهاً مستمداً من تجربة أهم الجماعات اليهودية في التاريخ (من منظور تاريخ الصهيونية)، أي يهود الأرندا، وهم كبار المموِّلين من أعضاء الجماعة اليهودية الذين لعبوا دور الوكلاء الماليين (أرنداتور) للنبلاء الإقطاعيين البولنديين (شلاختا) في أوكرانيا، فكانوا أداتهم في استغلال الفلاحين الأوكرانيين. وقد كان للأرندانور سلطة مطلقة داخل المزرعة التي يقوم بإدارتها. وكان النبيل الإقطاعي الغائب في بولندا يستمع لمشورته ويأخذ بنصيحته. ولكن القرار النهائي كان في يد النبيل الإقطاعي، كما أن الأرنداتور كان يستمد قوته وسطوته لا من ذاته وإنما من النبيل الإقطاعي، ولذا رغم هذه القوة والسطوة، كان استمراره، بل وجوده، يستند إلى رضا النبيل الإقطاعي.

5 ـ ونحب أن نثير قضـية مبدئية وهي قضـية مصـطلح «يهـودي» نفسه، ومدى "صهيونية" هؤلاء اليهود؟ وهل يَصدُر يهود الولايات المتحدة عن رؤية يهودية وصهيونيةلأنفسهم، أم يَصدُرون عن رؤية أمريكية؟. تدل كل المؤشرات على أن يهود الولايات المتحدة قد اندمجوا إلى حدٍّ كبير في المجتمع الأمريكي (رغم كل الثرثرة عن الشخصية اليهودية والجيتو اليهودي) . وحسب دراسات علم الاجتماع الأمريكي تُعَد الأقلية اليهودية من أكثر الأقليات اندماجاً وقبولاً للعقد الاجتماعي الأمريكي وقيم هذاالمجتمع البرجماتية. ومنذ أمد طويل عرَّف أحد الزعماء الصهاينة في الولايات المتحدة البرنامج الصهيوني بأنه تداخل صهيونية اليهودي مع أمريكيته، حتى لا ينفصل الواحد عن الآخر.

ومن المعروف أن عدد اليهود في كليات إدارة الأعمال في الجامعات الأساسية في أمريكا (هارفارد ـ برنستون) حتى منتصف الستينيات كان صغيراً للغاية، إذ أنه لم يكن بإمكان اليهودي أن يصبح مديراً في الشركات الكبرى (التي تحكم أمريكا)، كما أن المناصب الوزارية المهمة التي كانوا يتقلدونها كانت دائماً هامشية. ولكن في عام 1974 حدث تغيُّر جوهري إذ شـهد هـذا العام تعيين كيسـنجر وزيراً للخارجية الأمريكية، وعُيِّن شابيرو مديراً لشركة دي بونت للكيماويات. ويبدو أن النخبة الحاكمة في أمريكا قد وجدت أن يهود أمريكا أصبحوا أمريكيين لهم مصالح أمريكية، أي ليسوا مجرد يهود لهم مصالح يهودية، وأنه تم دمجهم وأمركتهم تماماً، بحيث أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الأمريكي خاضعين لحركيات المجتمع الأمريكي (الذي لا يمانع في الحفاظ على بعض معالم الهوية الإثنية، طالما أنها لا تؤثر في ولاء الشخص وفي سلوكه في رقعة الحياة العامة).

وقد أثبت يهود أمريكا صدق حدس النخبة الحاكمة. فرغم الهستريا الواضحة في تأييد الدولة الصهيونية (الذي لا يختلف في واقع الأمر عن تأييد المواطن الأمريكي العادي لها إلا في النبرة) فثمة انصراف واضح عن المنظمة الصهيونية وعن التبرع لها وعن حضور مؤتمراتها وانتخاباتها. وقد ظهر ولاء يهود الولايات المتحدة بشكل واضح لا مراء فيه ـ كما أسلفنا ـ في حادثة جوناثان بولارد (حيث جنَّدت المخابرات الإسرائيلية مواطناً أمريكياً يهودياً للتجسس على الولايات المتحدة) إذ ثارت ثائرة المتحدثين باسم يهود أمريكا ضد إسرائيل لأنها تُعرِّض وضعهم داخل مجتمعهم للخطر.

6 ـ بل يمكن القول بأن هناك عناصر تسبب بعض التوتر بين يهود الولايات المتحدة والدولة الصهيونية، فالصورة الإعلامية للدولة الصهيونية ليست صورة رائعة طيلة الوقت (حرب لبنان ـ الانتفاضة ـ التشدد الصهيوني ـ بناء المستوطنات). وكثيراً ما يجد يهود أمريكا، الذين يعيشون في مجتمع ليبرالي يدَّعي الدفاع عن حقوق الإنسان، أنه ليس من صالحهم أن يُوحَّد فيما بينهم وبين الكيان الصهيوني، ولذا تتخذ قيادات الأمريكيين اليهود أحياناً موقفاً مستقلاًّ عن الدولة الصهيونية وناقداً له. ويُلاحَظ كذلك أن سقوط الإجماع القومي في إسرائيل حول المستوطنات انعكس على الأمريكيين اليهود، إذ أن ذلك أعطاهم حرية حركة لم تكن متاحة لهم من قبل. فنجد أن حركة السلام الآن لها فروع في الولايات المتحدة بل لها صندوق جباية مستقل عن الصندوق القومي اليهودي. كما أن الصراع بين الدينيين الأرثوذكس واللادينيين يجد صداه بين الأمريكيين اليهود ويقلل التفافهم حول الدولة الصهيونية التي تتحكم فيها المؤسسة الأرثوذكسية التي لا تعترف بهم كيهود.

إذن ثمة عناصر، داخل المجتمع الأمريكي، بعضها يزيد من اقتراب الأمريكيين اليهود من الفكرة الصهيونية، والبعض الآخر يبعدهم عنها. ولكن، مهما كانت الصورة مركبة، فإن العنصر الأساسي في تحديد سلوك اليهود السياسي، سلباً أو إيجاباً، اقتراباً أو ابتعاداً من الصهيونية، هو كونهم مواطنين أمريكيين لهم مصالحهم الخاصة والمباشرة التي تفوق ولاءهم العقائدي للصهيونية. بل إن تأييد الأمريكيين اليهود لسياسة بلادهم في الشرق الأوسط لا تختلف كثيراً عن تأييد الأمريكيين البروتستانت لها لا في النسبة ولا في الحدة. ولعل يهودية الأمريكي اليهودي تفسر علو النبرة فقط. ومما يجدر ذكره أن بعض المحللين السياسيين يرون أن التظاهر السياسي لصالح إسرائيل، وارتفاع النبرة، هو شكل من أشكال التملُّص اليهودي من الصهيونية. فالأمريكي اليهودي يدفع الأموال للدولة الصهيونية ويمارس الضغط السياسي من أجلها خوفاً منها وليس حباً فيها (حتى يرضي ضميره) فهو يرفض الهجرة الاستيطانية تماماً.

كما أن هناك من المحللين من يذهب إلى أن نفوذ الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة يستند إلى قوة إسرائيل وليس العكس. فاعتماد الولايات المتحدة على إسرائيل في كثير من الأمور الأمنية وحاجتها إليها كقاعدة عسكرية وحاملة طائرات، يجعلها توسِّع رقعة حركة المنظمات الصهيونية حتى تقوم بعملية تعبئة الرأي العام الأمريكي (بما في ذلك الرأي العام الأمريكي اليهودي) ليساند الولايات المتحدة في دعمها الدائم والمستمر للكيان الصهيوني بما يتضمنه ذلك من دعم مالي قد يبدو باهظاً من منظور الإنسان العادي ولكنه استثمار إستراتيجي جيد من منظور المؤسسة الحاكمة، الأمر الذي يتطلب عملية قومية سياسية تقوم بها المنظمـات الصهيونية على أكمل وجه. كما أن المنظمات الصهيونية تسـاهم، عن طريق عمليات جمع التبرعات، في دفع الفاتورة. والنفوذ الصهيوني، من هذا المنظور، ليس سبباً لسياسات الولايات المتحدة وإنما هونتيجة لهما. ولاستيعاب هذه النقطة، يمكن مقارنة النفوذ الصهيوني ومدى نجاحه بفشل الجماعات الأيرلندية في جمع الدعم والأسلحة لجيش التحرير الأيرلندي رغم قوة الجماعة الأيرلندية، النوعية والعددية، ورغم أن أحد رؤساء الولايات المتحدة (كنيدي) كان من أصل أيرلندي!

اللوبــي اليهـودي والصهيــوني: لم ازدهـرت الأسـطورة؟

Jewish and Zionist Lobby: Why has the Myth Prospered?

يمكننا القول بأن تضخيم قوة اللوبي والإعلام الصهيوني وجعلهما مسئولين عن كل ما يحدث في الغرب هي أسطورة قد يكون لها علاقة ما بالواقع، ولكنها ذات مقدرة تفسيرية ضعيفة لعدم إحاطتها بهذا الواقع ولعجزها عن التمييز بين ما هو جوهري وما هو فرعي فيه. بل يمكن القول بأن هذه الأطروحة الشائعة في أشكالها المتطرفة، هي امتداد للرؤية التآمرية الاختزالية البروتوكولية (نسبة إلى بروتوكولات حكماء صهيون)، التي تجعل اليهود مسئولين عن كل شيء وتجعل الغرب ضحية للتلاعب اليهـودي الصهيوني. وهذا تبسـيط للأمـور يعـمي الأبصار، فهل يمكن أن يتصور أحد أن التشكيل الاستعماري الغربي الذي حوَّل العالم بأسره إلى ساحة لنشاطه من خلال جيوشه ومخابراته (والآن من خلال عملائه ومخابراته) والذي أسس تشكيلاً حضارياً وبنية اجتماعية ونظاماً سياسياً يهدف إلى استغلال المصادر البشرية والطبيعية للكون بأسره وتوظيفها لصالحه، نقول هل يمكن أن تُحدَّد سياسات هذا الكيان نتيجة تدخُّل قوة سياسية مثل اللوبي اليهودي الصهيوني، هل لو أن اليهود اختفوا تماماً ولم يَعُد لهم من أثر، ولو أن إسرائيل اختفت من على خريطة العالم، هل ستتغير سياسة الولايات المتحدة وتصبح قوة مسالمة تتصالح مع القوى القومية والداعية للسلام والبناء، أو أنها كانت ستبحث عن عملاء آخرين وعن أشكال أخرى من التدخل؟ هذا هو السؤال الذي وجهته مرة للسناتور الأمريكي السابق جيمس أبو رزق (من أصل عربي) وكان رده أنه لا يمكن تخيُّل العالم بدون يهود أو الشرق الأوسط بدون إسرائيل! والإجابة لا تدل على عجز السـناتور أبو رزق عن التخـيل بقدر ما تدل على كفاءته النادرة في المراوغة.

ورغم ضعف المقدرة التفسيرية لأسطورة نفوذ اللوبي الصهـيوني إلا أنهـا تزدهر وتترعرع لعـدة أسـباب نورد بعضها فيما يلي:

1 ـ يروِّج الصهاينة أنفسهم لأسطورة اللوبي ويرسخونها في الأذهان. فكان وايزمان يتصور أن وعد بلفور قد مُنح لليهود بسبب اكتشاف الأسيتون، وكان اليهود يتصورن أن أول مندوب سامي بريطاني في فلسطين بعد فرض الانتداب، سير هربرت صمويل، هو أول ملك يهودي لفلسطين بعد هدم الهيكل! وقد ألقى أحد الحاخامات في معبد يهودي في واشنطن مؤخراً موعظة بدأها بالعبارة التالية: "الولايات المتحدة لم تَعُد حكومة للأغيار (أي غير اليهود) بل هي إدارة يشـارك فيهـا اليهود بشـكل كامل على كل المستويات". ولا شك في أن الصهاينة يستفيدون من مثل هذه الشائعات والأساطير، فهي تضفي عليهم أهمية لا يستحقونها، وتنسب لهم قوة تزيد وزنهم وهو ما يُحسِّن وضعهم التفاوضي. وقد عششت أسطورة اللوبي اليهودي والصهيوني في رؤوس بعض أعضاء النخب الحاكمة العربية، حتى أنهم يُحدِّدون سياساتهم انطلاقاً منها وتأسيساً عليها.

2 ـ نجحت الدولة الصهيونية الوظيفية في إنجاز مهمتها باعتبارها قاعدة عسـكرية رخيصة وحارساً للمنطقـة العربية، وقد دعَّم هذا من رواج أسطورة اللوبي. ويمكن القول بأن ثمة علاقة طردية بين قوة اللوبي الصهيوني وضعف العرب، فكلما ازداد العرب ضعفاً وغياباً ازداد اللوبي الصهيوني قوة وحضوراً وزاد تلاحم المصالح الغربية والمصالح الصهيونية. ولكن لو زادت تكلفة إسرائيل (من خـلال المقـاومة والمقاطعة والجهاد) لأعادت الولايات المتحدة حساباتها، ولأصبحت هذه الحسابات أكثر رشداً ( من وجهة نظرنا) ولما استمرت الولايات المتحدة في انحيازها، ولما ازداد منحنى التحيز انحناءً لصالح إسرائيل.

3 ـ تروِّج الحكومة الأمريكية ذاتها لمثل هذه المزاعم البروتوكولية عن اللوبي الصهيوني للإيحاء بأنها ترغب في اتخاذ مواقف أكثر اعتدالاً تجـاه القضـايا العـربية ولكنهالا تسـتطيع ذلك بسـبب اللوبي الصهيوني، وبذا يصبح الدعم الأمريكي السخي والمستمر لإسرائيل أمراً يتم رغم إرادة الولايات المتحدة وضد رغبتها، وتصبح هذه القوة العظمى الباطشة مجرد ضحية للنفـوذ اليهـودي وألعوبة في يد القوة الصهـيونية التي لا تُقهَر. وهو يُحــسِّن صورتها أمـام زبائنها من العرب.

4 ـ تستفيد النظم العربية من أسطورة اللوبي اليهودي والصهيوني. فهي تبرر الهزيمة العربية إذ تجعلها شيئاً متوقَّعاً ومفهوماً، كما أن ساحة القتال تنتقل من فلسطين إلى غرف الكونجرس وشوارع واشنطن وباريس حتى يتسنى لهذه الأنظمة العربية ممارسة ضغط يشبه الضغط اليهودي!

إن توافق المصالح، وتوافق الإدراك الغربي والصهيوني، هو سر نجاح إسرائيل الإعلامي ومصدر قوة اللوبي الصهيوني وليس العكس، وهي العوامل التي تحدد في نهاية الأمر السلوك الغربي. فالإعلام واللوبي الصهيوني لا يستمدان قوتهما من كفاءة الصهاينة وإنما من أن إسرائيل وجدت لنفسها مكاناً داخل الإستراتيجية الغربية، ولأنها جعلت نفسها أداة طيعة رخيصة كفئاً لتحقيق هذه الإستراتيجية. وتحديد القضية على هذا النحو يعني أننا لا نقلِّل من أهمية اللوبي الصهيوني أو من مقدرته على تعبئة الرأي العام الأمريكي لصالح إسرائيل أو من فعاليته في التأثير على صانع القرار الأمريكي (وبخاصة في أمور الشرق الأوسط والصراع العربي ـ الإسرائيلي). ولكـننا مع هـذا لا نفـسر كل سـلوك الغرب على أساسه، إذ تظل الأولويات الإستراتيجية التي حددها صانع القرار الغربي هي التي تفسر سلوكه. وإدراكنا لهذه الحقيقة سيُعمِّق إدراكنا للواقع وحركياته ويزيد مقدرتنا على التنبؤ والتصدي. إن النموذج التفسيري الذي نطرحه ليس مجرد تمرين أكاديمي، وإنما هو أمر أساسي في تحديد إستراتيجية التصديلإسرائيل، وفي تحديد الأولويات.

وقد ركز الإعلام العربي أثناء إحدى انتخابات الرئاسة الأمريكية على مسألة أن كيتي دوكاكيس زوجة المرشح الديموقراطي آنذاك يهودية، وأن هذا سيؤدي إلى تزايد نفوذ اللوبي الصهيوني. ولابد أن هذا الموقف شارك فيه بعض صانعي القرار العربي. ويقف هذا على الطرف النقيض من الموقف التركي، فحين سُئل المتحدث الرسمي التركي عن رأيه في مسألة ترشيح دوكاكيس للرئاسة، وهو من أصل يوناني، ومدى تأثير ذلك في الموقف الأمريكي من تركيا إن تم انتخابه، قال ببساطة إن الولايات المتحدة لها مصالح إستراتيجية ثابتة سيتمسك بها الرئيس المنتخب أياً كان أصله. فهذه المصالح الثابتة هي السبب الحقيقي الكامن وراء دعم الولايات المتحدة لتركيا وهي أيضاً وراء تأييد الولايات المتحدة للدولة الصهيونية، ولا يمكن تصوُّر أن كيتي دوكاكيس ستؤثر في ذلك الموقف بشكل جوهري! وهذه مقولة غير مريحة بالنسبة لمن استناموا لمقولة أخطبوطية اللوبي الصهيوني، إذ أنها تعني أن عدونا ليس الأفعى اليهودية الخيالية الميتافيزيقية التي لا يمكن الإمساك بها لأنها خفية رغم أنها في كل مكان (وهذه دعوة مقنعة للاستسلام) وإنما هو العالم الغربي الذي يدافع عن مصالحه الإستراتيجية التي يمكن تعريفها والتصدي لها ومحاربتها في كل مكان.

الصوت اليهودي في الولايات المتحدة

The Jewish Vote in the U. S. A

«الصوت اليهودي» مصطلح يفترض أن هناك عدداً من الأصوات يدلي بها أصحابها من اليهود في الانتخابات الأمريكية (أو غيرها من البلاد الغربية) سواء القومية لانتخاب رئيس الجمهورية، أو على مستوى الولاية لانتخاب حاكمها، أو على مستوى المدينة لانتخاب العمدة أو غيره من القادة. كما يفترض المصطلح أن الناخبين اليهود يتبعون نمطاً واحداً تقريباً في التصويت، وأنهم دائماً يقفون إلى جانب إسرائيل ويؤيدون الموقف الصهيوني، وهم بذلك يشكلون أداة ضغط في يد اللوبي الصهيوني. كما يفترض المصطلح أنه كلما ازداد عدد الناخبين اليهود ازداد «الصوت اليهودي» قوة. ومما زاد هذا المفهوم شيوعاً أن بعض الساسة الغربيين أنفسهم يستخدمونه لتفسير سلوكهم الممالئ لإسرائيل وللسياسات الصهيونية إذ يدَّعون أن سلوكهم إنما هو استجابة عملية لضغوط الصوت اليهودي والمصالح الصهيونية ولا يعبِّر عن موقفإستراتيجي مبدئي تمليه عليهم مصالحهم الأمريكية أو الغربية أو على الأقل رؤيتهم لها. وقد دأبت الدعاية الصهيونية على ترويج هذه المقولة وكأنها حقيقة مسلم بها، وتلوح بها ضد معارضي الصهيونية.

و«الصوت اليهودي» أسطورة لها أساس في الواقع. ومما لا شك فيه أن أعضاء الجماعات اليهودية (أينما وُجدوا) سيكون لهم أثر ما على صنع القرار السياسي،وخصوصاً في الدول الديموقراطية الغربية. ولكن، بعد تقرير هذه الحقيقة، يظل هناك كثير من القضايا الأساسية مثل: ما حجم هذا الأثر؟ هل هو من القوة بحيث يجب أخذه في الاعتبار، أو هو من التفاهة بحيث يمكن تجاهله تماماً؟ وإذا كان التأثير قوياً فما مصادر أو أسباب قوته؟ هل «الصوت اليهودي» قوي بسبب اتفاق مصالح الدولة الغربية مع الدولة الصهيونية؟ وهل قوة هذا الصوت اليهودي تعود إلى القوة الاقتصادية للجماعة اليهودية أو تعود إلى أسباب أخرى؟ ونظراً لاختلاف وضع الجماعات اليهودية من بلد إلى آخر، فسنتناول في هذا المدخل أهم الجماعات اليهودية وهي الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة (ونتناول أوربا الغربية وجنوب أفريقيا وأمريكا اللاتينية في مدخل مستقل).

يُشار إلى الديموقراطية الأمريكية باعتبارها ديموقراطية جماعات الضغط، أي أنها ليست مجرد ديموقراطية حزبية على النمط الأوربي حيث يطرح كل حزب برنامجه السياسي وينضم إليه الناخبون ويعبِّرون عن إرادتهم من خلال هذا الإطار الحزبي، وإنما هي ديموقراطية يعبِّر فيها الناخبون عن آرائهم من خلال كل من الأحزابوجماعات الضغط التي ينتمون إليها، وهي قد تكون جماعات ذات طابع إثني تضم المواطنين الذين ينتمون إثنياً إلى أصل واحد، مثل الأمـريكيين من أصل إسـباني والأمريكيين من أصـل إيطـالي... إلخ. وقد تكون جماعات مصالح مثل المعوَّقين والمتقدمين في السن والمحاربين القدامى والعاملين في صناعة السلاح. وتحاول هذه الجماعات حماية مصالح أعضائها وتحسين صورتهم في المجتمع عن طريق الضغط على السلطة إما عن طريق التظاهر أو عن طريق غيره من الوسائل، وإن كانت أهم أشكال الضغط هي الانتخابات ورشوة أعضاء الكونجرس (ولكن استكشاف هذا الجانب الأخير يقع خارج نطاق هذا المدخل)

ورغم أن اليهود لا يشكلون سوى 2.4% من مجموع الناخبين الأمريكيين، وهو ما يجعلهم كتلة انتخابية صغيرة نسبياً قياساً بالكتل الأخـرى مثل الناخـبين من أصـل إسباني أو أيرلندي أو الناخبين السود، فإن ثمة عوامل تجعل قوتهم الانتخابية وتأثيراتهم تفوق بكثير عددهم الفعلي:

1 ـ فاليهود من أكثر الأقليات تركيزاً في المدن، فهم يوجدون بأعداد كبيرة في بعض المدن، مثل نيويورك وشيكاغو وميامي (فلوريدا)، وهو ما يجعل لهم ثقلاً غير عادي. وعلى سبيل المثال، يشكل اليهود 19% من كل سـكان مانهاتن وبروكلين (وهمـا أهم قسمين إداريين في مدينة نيويورك). وهم يشكلون 16% من كل سكان نيويورك و3% من كل سكانها البيض. وبالتالي، فإن أي مرشح يتوجه للصوت الأبيض (مقابل الصوت الأسود والإسباني) عليه أن يضع الصوت اليهودي في الاعتبار.

2 ـ يتركز اليهود في بعض الولايات التي تلعب دوراً حاسماً في انتخابات الرئاسة، وهذا ما يجعل أهميتهم كجماعة ضغط تتزايد فهم يشكلون 10.6% من جملة الناخبين في ولاية نيويورك و5.9% في نيوجيرسي و4.8% في واشنطن (العاصمة) و4.7% في ولاية فلوريدا ونسبة كبيرة في ولاية كاليفورنيا. كما يوجدون بأعداد كبيرة في ولاية بنسلفانيا وإلينوي.

3 ـ يُلاحَظ أن أعضاء الجماعة اليهودية يتمتعون بأعلى مستوى تعليمي في الولايات المتحدة، وهو ما يؤثر على سلوكهم الانتخابي إذ أنهم يدلون بأصواتهم بنسبة تفوق بمراحل النسبة القومية. وتبلغ هذه النسبة بين اليهود 92% (وهي أعلى نسبة على الإطلاق بين أي أقلية في المجتمع الأمريكي) مقابل 54% وهي النسبة بين الأمريكيينعلى وجه العموم، وهذا يعني تزايد قوتهم الانتخابية. وعلى سبيل المثال، ذكرنا أن 10.6% من جملة الناخبين البيض الذين لهم حق الانتخاب في ولاية نيويورك من اليهود. ولكن، نظراً لحرص الناخبين اليهود على الإدلاء بأصواتهم، نجد أن نسبتهم الفعلية، وهي النسبة التي يضعها المرشحون في اعتبارهم، تصل إلى ما بين 16% و20%.

4 ـ وتضاعف هذه النسبة فيما يتعلق بانتخابات مؤتمرات الولايات التي يتم عن طريقها اختيار المرشحين لرئاسة الجمهورية. ففي انتخابات مؤتمر الحزب الديموقراطي فينيويورك (انتخابات عام 1984)، بلغت نسبة عدد اليهود نحو 30%. وكان 41% من الأصوات التي أعطيت لمونديل من أصوات اليهود. أما في انتخابات عمدة نيويورك، فإن أصوات اليهود كانت تشكل 50% من الأصوات التي حصل عليها. (ومع هذا لوحظ مؤخراً انصراف الشباب اليهودي في الولايات المتحدة عن الإدلاء بأصواتهم. وقد بينت إحدى الإحصائيات أن عدد الممتنعين عن الاشتراك في الانتخابات قد وصل إلى ما يزيد على مليون عام 1991 وهو ما يضعف قوة الصوت اليهودي، وخصوصاً مع زيادة عدد أعضاء الأقليات الأخرى وتزايد إقبالهم على الانتخابات).

5 ـ وإلى جانب كل هذا، يُلاحَظ أن أعضاء الجماعة اليهودية نشطاء سياسياً ويشتركون في معظم الحركات السياسية، وخصوصاً الليبرالية واليسارية، ويؤثِّرون فيها بشكل يفوق عددهم.

6 ـ تضم الجماعة اليهودية عدداً كبيراً من كبار المثقفين والفنانين ورجال السـياسة، الأمـر الذي يزيد من ثـقل وأهمية الصوت اليهودي.

7 ـ تُعدُّ الجماعة اليهودية من أكثر الأقليات ثراء في العالم إن لم تكن أكثرها ثراء بالفعل. ونظراَ لنشاطهم السياسي، فهم يتبرعون للحملات الانتخابية بمبالغ كبيرة يحسب المرشحون حسابها. وربما كانت الجماعة اليهودية، كجماعة ضغط، تنفرد بهذه الخاصية إذ أن أعضاء جماعات الضغط الأخرى قد يفوقون اليهود عدداً ولكنهم لا يقتربون بأية حال من إمكاناتهم المالية.

إذن، لا شك في أن الجماعات اليهودية تمثل قوة ضغط مهمة داخل النظام السياسي الأمريكي. وثمة صوت يهودي تماماً كما أن هناك صوتاً أسود أو صوتاً إسبانياً (وبدايات صوت عربي). وهذا الصوت اليهودي متعاطف مع إسرائيل والصهيونية. ولكن هذا الصوت اليهودي يظل خاضعاً لحركيات النظام السياسي الأمريكي وللتناقضات التي تتفاعل داخل المجتمع. وما يحدد اتجاهه، ليس الولاء العقائدي المجرد للصهيونية وإنما استجابة اليهود، كأمريكيين أو كأمريكيين يهود، لما يواجههم في مجتمعهم الأمريكي. فأعضاء الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة هم أمريكيون يهود أو أمريكيون يؤمنون بالعقيدة اليهودية أو بالهوية اليهودية، وليسوا يهوداً أمريكيين. وهم، في هذا، لايختلفون عن كل المواطنين في الولايات المتحدة، فلا يوجد أمريكي خالص سوى فئة الواسب WASP وهي اختصار لعبارة وايت أنجلو ساكسون بروتستانت White Anglo-Saxon Protestant، أي البروتستانت من أصل أنجلو ساكسوني (وحتى هؤلاء يحمل اسمهم أصلهم العرْقي). أما بقية الأمريكيين، فهم أمريكيون إيطاليون أو أمريكيون أيرلنديون أو أمريكيون عرب، ويشار إليهم بالإنجليزية بتعبير «هايفنيتيد أميريكانز hyphenated Americans» أي «أمريكيون بشرطة» (إذ يشار إليهم باعتبارهم «أمريكيين/ يهود ـ أمريكيين/عرب» وهكذا)

وهذا يعود إلى طبيعة تكوين المجتمع الأمريكي، فهو مجتمع استيطاني مُكوَّن أساساً من مهاجرين ولا توجد فيه تقاليد حضارية ثابتة أو عقائد دينية مستقرة. وكان على المهاجر أن يسقط معظم ثقافته القديمة ويندمج في المجتمع ليصبح أمريكياً، وإن ظل به ولع لثقافته القديمة فإنه يستطيع أن يعبِّر عن هذا الجانب من شخصيته من خلال بعـض جـوانب حياته غير المهـمة مثل الطـعام والاحتفال ببعض الأعياد. لكن هويته الأوربية (القديمة)، أو ما تبقَّى منها، يجب أن تظل خاضغة لانتمائه الأمريكي. ومن المعروف أن أعضاء الجماعة اليهــودية من المهاجرين كانوا من أكثر المهاجرين تقبلاً للمُثل الأمريكية، وأكثر تخلياً عن ثقافتهم القديمة الأوربية، بمعدلات تفوق المهاجرين الآخرين. وهذا يعود إلى عدم تجذُّر اليهود في الثقافة الأوربية في شرق أوربا، ولذا فهم (على عكس كثير من المهاجرين) لم يأتوا إلى الولايات المتحدة ليجربوا حظهم وإنما ليستقروا ويقيموا. ومن ثم، فقد كانت نسبة العائدين إلى أوربا من بين المهاجرين اليهود هي أقل نسبة بين مختلف جماعات المهاجرين (ربما باستثناء الأيرلنديين). وبعد أن استقر يهود شرق أوربا، وضعوا أنفسهم داخل الإطار الأمريكي وأصبحوا أمريكيين بشرطة (أمريكيين/يهوداً) بحيث أصبحت إسرائيل بالنسبة إليهم مثل أيرلندا بالنســبة للأمـريكيين من أصـل أيرلندي. ويجب ملاحظـة أن إسرائيل، بذلك، أـصبحت البلد الأصلي، أي البلد الذي يهاجر منه الإنسان لا إليه، لكن فكرة أن إسرائيل هي البلد الأصلي هي فكرة مناقضة للفكرة الصهيونية.

وفي الوقت الحاضر، يُلاحَظ أن أعضاء الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة، على عكس ما هو شائع، من أكثر الأقليات اندماجاً وتأمركاً حيث يتبدَّى هذا في تزايد معدلات العلمنة. فقد لوحظ أن عدد اليهود الذين يمارسون شعائر عقيدتهم لا يزيد عن 50%، ووصلت معدلات الزواج المُختلَط في بعض الولايات إلى ما يزيد على 50%. ولذا، فنحن نسميهم «اليهود الجدد»، فهم مختلفون بشكل جوهري عن يهود أوربا ويهود عصر ما قبل الاستنارة في أواخر القرن الثامن عشر. ولفهم سلوكهم الانتخابي والسياسي الحقيقي، لابد أن نضعهم داخل سياقهم الأمريكي خارج الأساطير الصهيونية التي يرددها بعض العرب.

على سبيل المثال، يُلاحَظ أن العلاقة بين الدولة الصهيونية والولايات المتحدة ازدادات عمقاً أثناء حكم الرئيسين الجمهوريين نيكسون وريجان، وخصوصاً الأخير. ويُلاحَظ كذلك أن سياسات الحزب الجمهوري، التي تتبنى سياسة المواجهة مع الاتحاد السوفيتي وتصعيد الحرب الباردة، تلقى صدى في صفوف الصهاينة والدولة الصهيونيةالمستفيدة من حالة التوتر الدولي والاستقطاب. ويُلاحَظ كذلك أن برنامج الحزب الجمهوري عام 1988 يتسم بالتحيز الشديد لإسرائيل من مطالبة بتقوية الأواصر الإستراتيجية معها وتعميق العلاقة الخاصة بها والوقوف ضد إنشـاء دولة فلسـطين وتأييد إلغاء قرار مسـاواة الصهيونية بالعنصرية. كما أن الحزب الجمهوري لا يضـم في صفوفه شـخصية مثل جيسـي جاكسون الذي نجح هو وأتباعه، ولأول مرة في تاريخ مؤتمرات الأحزاب الأمريكية، في وضع فكرة الدولة الفلسطينية موضع المناقشة. فإن صدقت مقولة «الصوت اليهودي» كأداة ضغط في يد الصهاينة، فإن من المتوقع أن يصوِّت اليهود لصالح الجمهوريين بأعداد متزايدة. ومع هذا، فقد أدلى معظم اليهود بأصواتهم لصالح الحزب الديموقراطي، بنسبة 70% ـ 80% من مجمل الأصوات كما حدد بعض المحللين. وفي محاولة تفسير هذا الوضع نجد أن المحللين يسقطون «الولاء الصهيوني» كعنصر محرك ويتوجهون لعلاقة هؤلاء الأمريكيين اليهود بمجتمعهم الأمريكي. فيُلاحَظ أن الحزب الديموقراطي كان دائماً حزب المهاجرين والأقليات وسكان المدن وهو أيضاً الحزب الذي يمثل مصالحهم ويحاول التعبير عن هذه المصالح. ومنذ عام 1932، حصل مختلف الرؤساء الأمريكيين من الحزب الديموقراطي على ما يزيد على 70% من الأصوات اليهودية. وبحسب كثير من المحللين، لا تزال هذه النسبة هي النسبة القائمة، ففي انتخابات عام 1984 لم يحـصلريجـان إلا على 30% ـ 40% من الصـوت اليهودي، وقد حصل بوش على نسبة أقل. ويُقال إن كلينتون قد حصل على حوالي 85% من الصوت اليهودي. فالحزب الجمهوري هو حزب البيض (الواسب) بالدرجة الأولى (من بين المندوبين لمؤتمر الحزب الجمهوري لاختيار مرشح الرئاسة عام 1988، كان هناك 2% من اليهود مقابل 6% في مؤتمر الحزب الديموقراطي، وكان هناك 3% من السود مقابل 20% في مؤتمر الحزب الديموقراطي). ورغم أن برنامج الحزب الجمهوري مؤيد للصهيونية وإسرائيل، فإن البرنامج نفسه يقف ضد إباحة الإجهاض ويطالب بإدخال الصلوات في المدارس ويؤكد ضرورة ترديد يمين الولاء في المدارس. كما أن البرنامج يطالب بإعطاء خصم ضريبي لأولياء الأمور الذي يلحقون أولادهم بمدارس خاصة حتى لو كانت دينية. وهي سياسات محافظة لا تروق للناخبين اليهود واستجابتهم لها هي التي تحدد سلوكهم الانتخابي.

وقد تبدو كل هذه الأمور بالنسبة إلى المراقب الخارجي وكأنها أمور تافهة، وهي حقاً كذلك من منظور السياسة الخارجية، ولكنها ليست كذلك من منظور الحركيات الداخلية للمجتمع الأمريكي ونمط التصويت الذي يتبعه أعضاء الجماعة. فمنذ بداية الستينيات والمعركة مستمرة بين دعاة العلمانية وفصل الدين عن الدولة بشكل كامل ومطلق، بقيادة الجماعة اليهودية من جهة، وبعض الجماعات الأخرى ذات التوجه الديني من جهة أخرى. ويرى معظم أعضاء الجماعة اليهودية أن مصلحتهم تكمن في تزايد معـدلات العلمنة، وأن هذا هو الضمـان الوحيد لحريتهم بل وجودهم. وقد اكتسح هذا التيار المجتمع الأمريكي في الستينيات، ووصلت عملية الفصل بين الدين والدولة مراحل هستيرية حتى أن ذكر كلمة «الإله» في الكتب المدرسية مُنع، ومُنعت الصلوات كما مُنعت نشاطات الجمعيات الدينية في المدارس حتى لو أرادت تسجيل نفسها على أنها من جماعات الهوايات أو كرة القدم!

ولكن، مع بداية السبعينيات، بدأ رد فعل ضد هذا الاتجاه وبدأت حركة بعث ديني ذات طابع أصولي. والطريف أن هذه الحركة ذات توجه صهيوني بمعنى أن أتباع هذا الاتجاه يرون عدم إمكان أن يتم الخلاص المسيحي إلا بعد عودة اليهود إلى صهيون (فلسطين)

وقد استفادت الدولة الصهيونية من هذا الوضع، وهي تعتبر هذه الجماعات جماعات ضغط لصالحها، بل إن بعض المعلقين السياسيين الإسرائيليين يرون أنها أكثر أهمية من جماعة اليهود كجماعة ضغط باعتبار أن اليهود أقلية توجد خارج المجتمع الأمريكي (المسيحي) حتى ولو كانت مندمجة فيه. أما الجماعات المسيحية الأصولية، فهيليست مندمجة فيه وإنما هي جزء عضوي منه تعمل من داخله. ولكن رؤية الأمريكيين اليهود لهذا الموضوع مختلفة عن رؤية الدولة الصهيونية له. فهذه الجماعات الأصولية، برغم صهيونيتها، تهدد حرية أعضاء الجماعة وكل ما حققته من مكانة اجتماعية وحراك اجتماعي. ويُقال إن كثيراً من اليهود صوتوا لصالح مونديل عام 1984 بسبب اجتماع الإفطار الذي أقيمت أثناءه الصلاة المسيحية وحضره ريجان وذلك إبان انعقاد مؤتمر الحزب الجمهوري في دالاس. وقد حاول الجمهوريون تصحيح خطئهم هذه المرة (عام 1988)، فعقدوا اجتماع إفطار صلاة تعددياً حضره بروتستانت وكاثوليك ويهود. ولكن دونالد هودل وزير الداخلية (وهو مسيحي أصولي) ألقى موعظة في هذا الاجتماع طلب فيها من مستمعيه، بما في ذلك اليهود، أن يدخلوا المسيح في حياتهم الشخصية، فزاد الطين بلة! ويحاول بوش أن يخفف حدة برنامج الحزب الجمهوري الخاص بإدخال الصلوات ويدعو إلى أن تأخذ الصلاة شكل «لحظة صمت» يستطيع الطلبة فيها أن يصلوا أو أن يجلسوا أثناءها في صمت دون صلاة إن شاءوا. ولكن، مهما حاول الحزب الجمهوري، فسوف يظل موقفه باهتاً بالقياس إلى موقف الحزب الديموقراطي حيث طالب دوكاكيس بكل حدة بفصل الدين عن الدولة. وربما كان أكبر دليل على ليبراليته وعلمانيته أن زوجته يهودية. ثم يأتي كلنتون ليعبِّر عن تزايد معدلات العلمنة ويبدأ فترة رئاسته بإباحة الإجهاض ومحاولة إدخال الشواذ جنسياً القوات المسلحة الأمريكية. ونضيف إلى هذا أن سياسات الحزب الجمهوري الداخلية بشأن الإنفاق على مشاريع الرخاء الاجتماعي والتعليم هي سياسات محافظة في حين أن سـياسـة الحزب الديموقراطي في هـذا المضمار ليبرالية. وكما أسـلفنا، يتبنى معظم اليهود مواقف الحزب الديموقراطي الليبرالية.

لكل هذا، يصوِّت معظم يهود أمريكا للحزب الديموقراطي وليس للحزب الجمهوري، تعبيراً عن وضعهم كمواطنين أمريكيين لهم حركياتهم الأمريكية الخاصة وليس بوصفهم أعضاء في الحركة الصهيونية أو متعاطفين معها.

ومع هذا، يجب الإشارة إلى بعض العناصر المهمة التي قد تغيِّر سلوك الناخبين اليهود في المستقبل:

1 ـ يُلاحَظ، في الآونة الأخيرة، تزايد تحوُّل اليهود عن الليبرالية واليسار وتبنيهم مواقف محافظة. وربما يعود هذا إلى تزايد اندماجهم وحراكهم الاجتماعي حتى أصبحوا من أعضاء الطبقات الثرية الأمـريكية بعـد أن فَقَـدوا ميراثهم الاقتـصادي والحضاري المتميِّز. ويُلاحَظ هذا في مجلة مثل كومنتاري التابعة للجنة اليهودية الأمريكية، فقد كانت من أكثر المجلات ليبرالية، ولكنها أصبحت مجلة محافظة تدافع عن التسلح والحرب الباردة. وهناك بالفعل جماعة تُسمَّى «المحافظون الجدد» من بينهم إرفنج كريستول، ونورمان بودورتز (رئيس تحرير كومنتاري) ينادون بتحالف سياسي جديد. وربما يعبِّر هذا التغيير في الوضع الطبقي، والتحول في التوجه السياسي العام، عن مزيد من تعاطف اليهود مع فلسفة الحزب الجمهوري الاجتماعية واستعدادهم للتصويت لصالحه.

2 ـ يُلاحَظ أن الحزب الديموقراطي هو حزب السود، فظهور شخصية مثل جيسي جاكسون هو تعبير عن تزايد نفوذهم. والعلاقات بين اليهود والسود تتسم بالتوتر ابتداءً من منتصف الستينيات. ومع تزايد نفوذ السود داخل الحزب الديموقراطي، يمكن أن نتوقع تزايداً في انكماش عدد اليهود وفي انصرافهم عن الحزب ليبحثوا عن بدائل أخرى، أي الحزب الجمهوري.

3 ـ يُلاحَظ أن البعث الديني في الولايات المتحدة يجد صداه أيضاً في صفوف اليهود الأرثوذكس والمحافظين. ولذا، لا يساير هؤلاء المحاولات التي يقوم بها اليهود الليبراليون لزيادة معدلات العلمنة داخل المجتمع الأمريكي، بل يطالبون بأن تقوم الدولة بتمويل التعليم الديني. وربما يكون لهذا أثره أيضاً في السلوك السياسي والانتخابي لهذه القطاعات من الصوت اليهودي. وهذا الفريق يرى أن زوجة دوكاكيس اليهودية نقطة سلبية محسوبة عليه لا له، وذلك باعتبار أنها تعبير عن تزايد العلمنة بزواجها المختلط من مسيحي، وباعتبار أنها ستكون قدوة ومثلاً أعلى للمرأة اليهودية.

كل هذه الاتجاهات داخل الجماعة اليهودية قد تجعل الناخبين اليهود يصوتون للحزب الجمهوري بأعداد متزايدة. ويُلاحَظ مثل هذا الاتجاه بالفعل، ففي انتخابات 1968 صوَّت نحو 38% لصالح الديموقراطي هيوبرت همفري، أي أن 17% وحسب صوَّتوا لنيكسون، في حين صـوَّت 35% لصالحه في انتخابات 1972. وفي انتخـابات 1976، صوت لكارتر 54% من اليهود وحسـب، وصوت 45% لصالح فورد، لكن هناك إحصاءً آخر يرى أن العدد كان 33% لفورد والباقي لكارتر، وهو ما يبيِّن أن الإحصاءات غير دقيقة بسبب طبيعة الموضوع. ومع هذا تشير كل الدلائل إلى أن النمط القديم (المتمثل في أن اليهود أقلية ليبرالية تقطن المدن وتصوت للحزب الديموقراطي) قد يطرأ عليه بعض التغيُّر الطفيف ولكنه سيظل النمط السائد.

إن كل العناصر السابقة تجعل من المستحيل الحديث عن «صوت يهودي» توظفه الحركة الصهيونية ببساطة لصالحها، فالمسألة أكثر تركيباً، فالصوت اليهودي قادر على التأثير دون شك، ولكنه لا يتصرف في إطار صهيوني وإنما في إطار أمريكي.

الصــوت اليهــودي في أوربــا الغــربية وأمريكـا اللاتينيـة

The Jewish Vote in Western Europe, and Latin America

لا يشذ الصوت اليهودي في دول أوربا الغربية عن هذه القاعدة العامة فهي دول تؤيد إسرائيل من الناحية الإستراتيجية، وتضم جماعات يهودية تدين بالولاء لأوطانها، ومن ثم فهي قد تؤيد الدولة الصهيونية وتضغط لصالحها ولكن داخل إطار انتماء أعضائها لأوطانهم وقبولهم للعقد الاجتماعي السائد فيها. ولا يمكن تفسير سياسات الحكومة من منظور مدى تزايد أو تناقص النفوذ الصهيوني أو الصوت اليهودي. ففرنسا، على سبيل المثال، حين اتخذت موقفاً معادياً نوعاً ما تجاه إسرائيل أيام الجنرال ديجول وفرضت حظراً على تصدير السلاح لها، لم يكن هذا بسبب ضعف نفوذ اليهود فيها وإنما بسبب سياسة ديجول التي كانت ترمي إلى إيجاد شخصية مستقلة لأوربا بين الدولتين العظميين. وحينما رفعت فرنسا هذا الحظر، فلا يمكن تفسير ذلك بتعاظم الصوت أو النفوذ اليهودي. وعلى كلٍّ، يُلاحَظ أن أعضاء الجماعة اليهودية في فرنسا يُشكِّلون أقل من 1% من مجموع السكان (700 ألفاً من نحو 54 مليوناً). كما أن الجماعة اليهودية لا تتسم بالتماسك الشديد إذ أنها مُقسَّمة إلى يهود سفارد شرقيين من جهة ويهود غرييين من جهة أخرى. كما أن يهود فرنسا مركزون أساساً في باريس وبضع مدن أخرى، وهو ما يجعلهم قريبين من مؤسسات صنع القرار، ولكنهم غائبون في الوقت نفســه عن معظـم فرنســا. وهـذا لا يعني أن الفرنسيين اليهود غــير مؤثـرين على الإطـلاق، فهم ولا شـك ذوو أثــر عمـيق، وخصوصاً في الإعلام، ولكن أثرهم ينبع من كونهم فرنسيين.

ويمكن أن نضرب مثلاً آخر بسياسة إنجلترا التي تلتزم بتأييد إسرائيل، وتؤيد المواقف الأمريكية بشكل شبه كامل. ولو نظرنا إلى الصوت اليهودي لوجدنا أن اليهود لا يشكلون كتلة بشرية كبيرة، فعددهم لا يتجاوز 0.6% من مجموع السكان، وهم ليسوا أقوياء من ناحية النفوذ الاقتصادي، كما أن أصواتهم موزعة بين عدة دوائر (ولذا لا يمكن الحديث عن دوائر يهودية). ومع هذا، بلغ عدد الأعضاء اليهود في البرلمان الإنجليزي عام 1983 ثمانية وعشرين عضواً من أصل ستمائة وخمسين، وهي نسبةتفوق نسبة اليهود إلى عدد السكان. ولكن هؤلاء النواب كانوا يمثلون دوائر لا يُلاحَظ فيها وجود يهودي غير عادي، أي أنهم انتخبوا باعتبارهم بريطانيين وأعضاء في أحزاب بريطانية. وكان عدد النواب اليهود ستة وأربعين عضواً عام 1974، أي أنه حدث انخفاض كبيرفي عددهم. ولكن لا يمكن تفسير هذا الانخفاض في إطار حركيات يهودية، وإنما لابد من العودة إلى حركيات المجتمع البريطاني والجماعة اليهودية فيه. ولذا، فإن هذا الانخفاض لا يصلح مؤشراً على تراجع النفوذ الصهيوني، تماماً كما لا يصلح الحكم على وجود خمسة وزراء يهود في إحدى وزارات تاتشر في عام 1986 (وهو أكبر عدد شهدته أية حكومة بريطانية) على أساس تزايد هذا النفوذ. فالموقف البريطاني من إسرائيل موقف إستراتيجي مبدئي لن يتغيَّر بتراجع النفوذ اليهودي، بل لن يتغيَّر باختفائهم الكامل (وهو الأمر الذي يتوقعه بعض المراقبين)

يبقى بعد ذلك الصوت اليهودي في أمريكا اللاتينية. ويجب أن نشير ابتداءً إلى أن عدد أعضاء الجماعة اليهودية ضئيل للغاية في كل دول أمريكا اللاتينية. وربما يكون الاستثناء الوحيد هي الأرجنتين حيث يوجد معظم يهود أمريكا اللاتينية فيها، وهم مركزون أساساً في بوينس أيرس. ومن الملاحَظ عدم وجود دور فعال لهم في تحديد سياسية الأرجنتين الخارجية. فالحكومة العسكرية كانت تؤيد إسرائيل وتشتري منها السلاح وتضطهد أعضاء الجماعة. كما تم انتخاب رئيس جمهورية من أصل عربي (!). هذا إلى جانب أن الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية تتسم بعدم التجانس، ومن ثم بعدم التماسك وتوزُّع الصوت اليهودي. كما يُلاحَظ أن النظام السياسي في أمريكا اللاتينية تسـوده الرمـوز الكاثوليكية واللاتينية وهو ما يضعف فعالية النفوذ اليهودي. ولكن ضعف العملية الديموقراطية نفسها في أمريكا اللاتينية قد يجعل الانتخابات السياسية أمراً لا يتمتع بالأهمية نفسها التي يتمتع بها في الولايات المتحدة، وعلى كلٍّ تتكفل الانقلابات المتكررة بجعل الانتخابات مسألة محدودة الأهمية.

الباب الثالث: الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة

الصهيونية في الولايات المتحدة

Zionism in the United States

تُطلق الحركة الصهيونية على نفسها اسم «الصهيونية العالمية» و«المنظمة الصهيونية العالمية». و«الصهيونية ـ كما أشرنا ـ ظاهرة غربية بالدرجة الأولى، إذ لا يعرفها شعوب آسيا وأفريقيا لسبب بسيط هو أنها لا توجد فيها جماعات يهودية. وقد أصبحت الصهيونية ظاهرة أمريكية بالدرجة الأولى لسببين: أن الولايات المتحدة تضم أكبر وأقوى جماعة يهودية في العالم، وأن الولايات المتحدة نفسها هي الراعي الإمبريالي للجيب الصهيوني. وفي هذا الباب سنتناول المنظمات الصهيونية المختلفة في الولايات المتحدة.

الاتحــاد الصهـيوني الأمريكـي

American Zionist Federation

«الاتحاد الصهيوني الأمريكي» هو المظلة التنظيمية التي تضم كل المنظمات الصهيونية في الولايات المتحدة، وقد تم تأسيسه عام 1970 بناءً على قرار صادر عن المؤتمر الصهيوني السابع والعشرين (1968) يدعو إلى تقوية الحركة الصهيونية من خلال إنشاء منظمات أو اتحادات صهيونية قطرية في جميع بلاد العالم. وتعود جذور الاتحاد إلى لجنة الطوارئ للشئون الصهيونية التي تأسَّست عام 1939 لتوحيد جهود المنظمات الصهيونية للضغط على الحكومة الأمريكية لصالح المشروع الصهيوني في فلسطين. وقد أُعيد تنظيمها عام 1943 تحت اسم «مجلس الطوارئ الصهيوني» الأمريكي تحت قيادة أبا هليل سيلفر، ثم تحولت إلى المجلس الصهيوني الأمريكي عام 1949 لتكون الجهة المنسقة للمنظمات الصهيونية الأمريكية.

ويساند الاتحاد الصهيوني الأمريكي المجهودات الصهيونية في ميادين الشئون الطائفية والعامة والتعليم والشباب والهجرة إلى إسرائيل ويعمل على تنمية الاهتمام بما يُسمَّى «الثقافة اليهودية» بين أعضاء الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة وعلى تعزيز التزامهم بالأهداف الصهيونية كما جاءت في برنامج القدس. كما يعمل الاتحاد على التوجه إلى المجتمع الأمريكي غير اليهودي للدعاية لإسرائيل، وتأكيد تطابق المصالح الأمريكية والإسرائيلية، والرد بشكل فعال على النقد الموجه إليها. وأخيراً، توجيهأعضائه من خلال الحملات الإعلامية فيما يتعلق بالقضايا التي تمس إسرائيل أو الصهيونية.

ويرعى الاتحاد برامج تهدف إلى ربط الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة بإسرائيل. وتشمل هذه البرامج تبادل زيارات رجال الجامعات والتعليم والصحافيين ورجال الأعمال ورجال الدين وغيرهم من فئات المجتمع. كما أن الاتحاد يقيم المؤتمرات والأسواق والمعارض لتشجيع الهجرة إلى إسرائيل. ويهتم الاتحاد بالقطاع الأكاديمي، فقد أسس مجلساً أكاديمياً صهيونياً هدفه محاولة تجنيد أساتذة الجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة لحساب إسرائيل والصهيونية.

ويعـاني الاتحاد، مثلـه مثل غيره من التنظيمات الصهيونية الأمريكية، من تدهور أهميته وفعاليته بشكل عام. فلم يَعُد هناك أيُّ تمييز حقيقي بين المنظمات الصهيونية وغيرالصهيونية في الولايات المتحدة. بل إن الأخيرة تتمتع بخبرة تنظيمية أكبر وقاعدة جماهيرية أوسع، ولذا أصبحت هي التي تقوم بالدعاية لإسرائيل والدفاع عنها وجمع المال لها والضغط من أجلها، ذلك إلى جانب تآكل شرعية الصهاينة التوطينيين بسبب عدم هجرتهم إلى إسرائيل وما يدور حول ماهية الصهيونية وتآكل الفكر الصهيوني بوجه عام.

والاتحاد الصهيوني الأمريكي منظمة معفاة من الضرائب وتضم 61 منظمة صهيونية في الولايات المتحدة والحركات الشبابية المنبثقة عنها. وعضوية الاتحاد الصهيوني مفتوحة أيضاً للمنظمات والمؤسسات اليهودية غير الصهيونية. والواقع أن هذه تدخل ضمن مجموعتين إضافيتين من الأعضاء: أولاً، المنظمات المنتسبة التي تقبل برنامجالقدس مع أن أعضاءها ليسوا بالضرورة من الصهاينة. ثانياً، المنظمات ذات الصلة بالاتحاد، وهي مؤسسات قومية تعنى برعاية صهيونية، وقد كانت دائماً تربطها علاقةفعلية بالحركة الصهيونية. وفي عام 1983، قدَّر الاتحاد حجم عضويته بأكثر من مليون عضو.

والمنظمات الست عشرة الأعضاء في الاتحاد الصهيوني هي: مجلس الشباب الصهيوني الأمريكي، والعصبة الأمريكية اليهودية من أجل إسرائيل، ونساء عميت في أمريكا (نساء مزراحي سابقاً)، وأمريكيون من أجل إسرائيل تقدمية، وبن تسيون، ونساء إيموناه، وهاداساه، وحركة تأكيد الصهيونية المحافظة (مركاز)، والحلف الصهيوني العمالي، وحركة الهجـرة في أمريكا الشـمالية، والنسـاء الرائدات (نعمات)، واتحاد الصهاينة الإصلاحيين في أمريكا، والصهيونيون المتدينون في أمريكا، وحيروت، والمنظمة الصهيونية في أمريكا، والحركة الطلابية الصهيونية.

وهناك ثلاث منظمات منتسبة للاتحاد، هي: الاتحاد السفاردي الأمريكي، ورابطة آباء الإسرائيليين الأمريكيين، وعصبة النساء من أجل إسرائيل.

وهناك منظمتان تربطهما صلة بالاتحاد، هما: المؤسسة الصهيونية الأمريكية للشباب، والصندوق القومي اليهودي. وفي فبراير 1993، قرَّر الاتحاد أن يُغيِّر اسمه إلى «الحركة الصهيونية الأمريكية».

الحركة الصـهيونية الأمريكيـة

American Zionist Mevement

»الحركة الصهيونية الأمريكية» هو الاسم الجديد للاتحاد الصهيوني الأمريكي (منذ فبراير 1993). وهذا الاسم لن يؤدي إلا إلى المزيد من الغموض والتعمية، لأن كلمة «حركة» في كل الأدبيات السياسية لا تشير إلى تنظيم إقليمي بعينه.

المنظمــة الصهيونيـــة الأمريكيـة

Zionist Organization of America

منظمة صهيونية أمريكية تأسَّست عام 1898 باسم اتحاد الصهاينة الأمريكيين، وذلك في أعقاب انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول (1897). وقد انتُخب ريتشارد جوتهيل والحاخام ستيفن وايز سكرتيراً شرفياً. وقد وُلدت المنظمة ضعيفة وهزيلة ووجدت صعوبة في فرض سلطتها المركزية على المجموعات الصهيونية المنتمية لها، وذلك نتيجة الخلافات التي نشأت بين القيادة المنتمية إلى البورجوازية اليهودية المتأمركة ذات الأصول الألمانية والقاعدة التي تألفت من المهاجـرين اليهـود الفقراء القادمين من شرق أوربا ذوي الثقافة اليديشية. وقد اتجهت المنظمة إلى العمل الدعائي الصهيوني وأصدرت عام 1901 أول مجلة صهيونية أمريكية رسمية باللغة الإنجـليزية ثم جريدة يديشية عام 1909، كما أنشأت معاهد صهيونية. وقد اهتمت بالشباب وبتعليم اللغة العبرية، ونشـطت لصـالح الصنـدوق القومي اليهـودي والاتحاد اليهودي الاستعماري، كما تصدت للعناصر اليهودية الأمريكية المناهضة للصهيونية والمُمثَّلة بشكل أساسي في الحركة الإصلاحية اليهودية.

ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، انتقل مركز النشاط الصهيوني إلى الولايات المتحدة وتم تأسيس اللجنة التنفيذية العامة المؤقتة للشئون الصهيونية عام 1914 تحت رئاسة لويس برانديز التي تولَّت الجانب الأكبر من النشاط الصهيوني في الولايات المتحدة خلال فترة الحرب وأسَّست صندوقاً لدعم التجمُّع الاستيطاني اليهودي في فلسطين ولغوث ضحايا الحرب من اليهود في أوربا، كما كانت صاحبة اقتراح تأسيس المؤتمر اليهودي الأمريكي. ومع انتهاء الحرب، تقرَّر دَمْج هذه اللجنة مع اتحاد الصهاينة الأمريكيين لتأسيس المنظمة الصهيونية الأمريكية تحت رئاسة لويس برانديز الشرفية لتكون منظمة مركزية يهيمن عليها مكتب قومي وتعتمد على العضوية الفردية. وقد رأى برانديز أن الدور الأساسي للمنظمة هو جَمْع المال من خلال جذب رؤوس الأموال الخاصة لتمويل مشاريع معيَّنة في فلسطين، كما تشكَّك في مدى فعالية إنشاء الصندوق التأسيسي اليهودي الذي كانت القيادات الصهيونية الأوربية وعلى رأسهم حاييم وايزمان يفضلونه. وقد أدَّى هذا الخلاف، إلى جانب خلافه الفكري مع وايزمان حول مفهوم الصهيونية، إلى انسحاب برانديز ومناصريه من المنظمة خلال مؤتمر المنظمة عام 1921. وقد ركَّزت المنظمة اهتمامها بعد ذلك في جَمْع المال وإن لم تحرز نجاحاً ملحوظاً في تلك المهمة، كما عارضت نشاط حملات منظمات الإغاثة اليهودية الأمريكية التي كانت تعمل على توطين اليهود الروس في مناطق القرم وأوكرانيا في الاتحاد السوفيتي. ومن ثم، شاركت المنظمة في توحيد جهود عمليات الجباية الصهيونية تحت مظلة واحدة هي النداء الفلسطيني الموحَّد عام 1924. ومع ذلك، ظلت جاذبية المنظمة ضعيفة وهبط عدد أعضائها من 149 ألفاً عام 1918، أي بعد وعد بلفور بعام، إلى 18 ألفاً عام 1929. وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، شاركت المنظمة في توحيد جهود المنظمات الصهيونية الرئيسية من أجل تأسيس كومنولث يهودي في فلسطين، ثم في تأسيس صندوق برنامج بلتيمور عام 1942، كمااشتركت في تأسيس لجنة الطوارئ للشئون الصهيونية عام 1939 التي أصبحت لجنة الطوارئ الصهيونية الأمريكية عام 1943ثم المجلس الصهيوني الأمريكي عام 1949) لتكون هيئة منظمة ومنسقة لكبرى المنظمات الصهيونية في الولايات المتحدة. وقد زاد نشاط المنظمة وزادت عضويتها تحت رئاسة أبا هليل سيلفر (1945 ـ 1947) وإيمانويل نيومان (1947 ـ 1949)للذين كانا أعضاء أيضاً في القسـم الأمريكي من الوكـالة اليهودية خلال عامي 1947 و1948، كما كانا يعملان على حث الحكومة الأمريكية لإصدار موافقتها على قرار تقسيم فلسطين عام 1947.

وقد تضاءلت أهمية دور المنظمة الصهيونية الأمريكية بعد تأسيس الكيان الصهيوني، وخصوصاً أن إعلان الدولة نتج عنه تفجُّر التناقض الكامن بين الصهاينة الاستيطانيين والصهاينة التوطينيين، وأثار الجدل حول دور ومهام كل منهما. ومن أجل تبرير استمراريتها التاريخية، أعطت المنظمة نفسها لقب «الحد القاطع ليهود أمريكا»، كما أكدت أنها ساعدت في تأسيس دولة إسرائيل. ويتحدد دورها الآن في الدفاع عن إسرائيل. وتتبنَّى هذه المنظمة سياسات تحالف الليكود الإسرائيلي وتتمسك بالسياسة الإسرائيلية الرسمية، ويتركز نشاطها الآن في جباية الأموال لإسرائيل والدعاية لها والضغط من أجلها في الولايات المتحدة. وهي ترصد نشاطات الكونجرس الأمريكي والبيت الأبيض والمكاتب الحكومية الأمريكية وتوزع المذكرات المتعلقة بإسرائيل على موظفي الدولة ووسائل الإعلام. كذلك تهتم المنظمة بالتعليم الصهيوني وما يُسمَّى «الثقافة العبرية»، ولها حركة شبابية تابعة لها تنشط داخل المدارس والجامعات الأمريكية وتنظم زيارة الشباب اليهودي الأمريكي إلى إسرائيل. وللمنظمة نشاط في إسرائيل أيضاً حيث أسَّست بيت المنظمة عام 1953 ومجمع كفار سيلفر للمدارس في عسقلان عام 1955 وهما يقدِّمان خدمات ثقافية وتعليمية.

وتعاني المنظمة الصهيونية الأمريكية، مثلها مثل غيرها من التنظيمات الصهيونية، من تآكل أهميتها وفعاليتها، فمنذ عام 1967 لم يَعُد هناك ما يُميِّز المنظمات الصهيونيةعن المنظمات غير الصهيونية من حيث العمل من أجل إسرائيل والدعاية لها وجباية الأموال والضغط من أجلها. بل إن المنظمات غير الصهيونية، التي تتمتع بخبرة تنظيمية أكبر وقاعدة جماهيرية أوسع، تقوم بهذا الدور بقدر أكبر من الكفاءة والفعالية.

والمنظمة الصهيونية الأمريكية منظمة معفاة من الضرائب، ويقدَّر حجم عضويتها حالياً بنحو 45 ألف عضو بعد أن كان 165 ألفاً عام 1950. وهي تُصدر مجلة فصلية ونشرة أسبوعية إعلامية.

والمنظمة الصهيونية الأمريكية إحدى التنظيمات الصهيونية، وهي عضو في الكونفدرالية العالمية للصهاينة المتحدين العموميين (وهي خلاف الفرع الأمريكي للمنظمةالصهيونية العالمية)، كما تختلف عن الاتحاد الصهيوني الأمريكي.

هاداســاه

Hadassah

»هاداساه» كلمة عبرية تعني «شجرة الآس» أو «شجرة الريحـان»، وتُسـتخدَم الكلـمة للإشـارة إلى اسم الملكة التوراتية إستير. وهاداساه منظمة نسائية صهيونية أمريكيةأسَّستها هنريتا زولد عام 1912 حين قرَّرت هي ومجموعة من السيدات من أعضاء حلقات بنات صهيون الدراسية أن تتوسع لتصبح منظمة قومية. وهي تعتبر الآن أكبر منظمة نسائية صهيونية في العالم إذ يقدَّر عدد أعضائها بنحو 370 ألف عضو. وعند تأسيسها، حددت منظمة الهاداساه أهدافها بتنمية التعليم اليهودي والصهيوني في الولايات المتحدة من جانب، وتحسين الأوضاع الصحية للتجمُّع الاستيطاني اليهودي في فلسطين من جانب آخر. وقد بدأت هاداساه، في سبيل ذلك، بالتمريض وتدريب الممرضات في فلسطين. وقد بدأت نشاطها في فلسطين على نطاق ضيق عام 1913، ولم يتسع نشاطها إلا عام 1918 عندما اشتركت مع المنظمة الصهيونية الأمريكية واللجنة اليهودية الأمريكية للتوزيع المشترك في إرسال الوحدة الطبية الصهيونية الأمريكية إلى فلسطين والتي أصبحت تُسمَّى فيما بعد «منظمة هاداساه الطبية». ومنذ ذلك الحين، ساهمت الهاداساه في إنشاء المراكز الصحية والمستشفيات والوحدات العلاجية ومراكز رعاية الطفل، كما قامت بافتتاح مركز الهاداساه الطبي بالجامعة العبرية عام 1936. وكذلك وضعت هاداساه البرامج التعليمية وافتتحت المدارس والمراكز للتعليم المهني ولتدريب الممرضات، كما تعاونت بشكل وثيق مع الصندوق القومي اليهودي حيث تعهدت منذ عام 1926 برعاية عشرين مشروعاً خاصاً للصندوق كل ثلاث سنوات. وساهمت هاداساه، بالفعل، في استصلاح وزراعة مئات الآلاف من الدونمات وفي زراعة ملايين الأشجار. وقد وصفت الهاداسـاه نفسها بأنها "شـريك أساسـي للصندوق القـومي اليهودي"، كما أنها تعتبر نفســها "أكبر مساهم فرد [فيه] في العالم".

وتُعَدُّ هاداساه، بين المنظمات الصهيونية في العالم، أكبر مساهم في مجال تهجير الشباب. وقد أنفقت منذ عام 1935 وحتى عام 1970 نحو 60 مليون دولار في هذا المجال وعملت على توطين واستقرار 135 ألف شخص في فلسطين. وهي تُعَدُّ المنظمة الصهيونية الرئيسية (في الولايات المتحدة) العاملة في مجال تهجير الشباب وتوفر نحو 40% من الميزانية اللازمة لذلك سنوياً.

وفي الولايات المتحدة، يتركز نشاط منظمة الهاداساه في المجال التعليمي والتثقيفي حيث تقوم بوضع برامج لتعليم ما يُسمَّى «التراث والتاريخ اليهوديان» وكذلك تعليم اللغة العبرية، كما تقوم بتزويد الجمهور الأمريكي بالمعلومات عن إسرائيل وتطوُّرها وأمنها. وكان أعضاء الهاداساه يقومون، قبل تأسيس الدولة الصهيونية، بجولات دعائية في الولايات المتحدة في محاولة لتهيئة الأذهان لتقبُّل الفكرة الصهيونية وإقناع الناس بالأسباب التي تكمن وراء اهتمام يهود العالم بأرض فلسطين بالذات. أما الآن، فإنهم يقومون بالدعاية لإسرائيل وجمع المال لبرامج المنظمة ومشاريعها في الدولة الصهيونية. وتقوم هاداساه برعاية برنامج الشئون الصهيونية الذي يعمل على تنمية المصالحالصهيونية من خلال التعليم والدعاية والتنسيق مع المنظمات اليهودية والصهيونية الأخرى التي تنتمي إليها الهاداساه. وتهتم الهاداساه بشكل خاص بالشباب، ولها حركة شبابية تابعة لها هي هشاحر (الفجر) تقدم من خلالها برامج متنوعة عن الهوية اليهودية في إطار صهيوني داخل مخيماتها الصيفية ونواديها المفتوحة طوال السنة. وتنظم هاداساه حلقات التدريب على القيادة، كما تنظم برامج إسرائيلية ورحلات صيفية للشباب إلى إسرائيل. وتقوم هاداساه بتدريب الشباب اليهودي في الجامعات الأمريكية على تكوين مراكز صهيونية داخل حرم الجامعات والتصدي للجماعات المناهضة لإسرائيل والصهيونية والمتعاطفة مع القضية الفلسطينية.

والهاداساه مسجلة كمنظمة دينية (رغم أنها لا علاقة لها بالدين)، وهو ما يعفيها من تقديم تقرير سنوي علني، وهي أيضاً معفاة من الضرائب. ويُعَد المجلس القومي الهيئة العليا في الهاداساه ويجتمع مرتين في السنة للنظر في القرارات السياسية الكبرى، أما القرارات السياسية الثانوية فيتخذها المجلس التنفيذي. ولحماية وضع الإعفاء من الضرائب، تقوم هيئة موازية لهاداساه ومتحدة معها هي رابطة هاداساه للإغاثة الطبية بتوجيه الأموال إلى المشاريع الإسرائيلية، وذلك في حين أن منظمة هاداساه تتولَّى النشاط داخل الولايات المتحدة. ومنظمة هاداساه عضو في الاتحاد الصهيوني الأمريكي ومرتبطة بالمنظمة الصهيونية العالمية عبر الاتحاد الكونفدرالي العالمي غير الحزبي للصهيونيين المتحدين، كما أنها عضو في مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية الكبرى ولها صفة منظمة غير حكومية في هيئة الأمم المتحدة وصفة مراقب في البعثة الأمريكية للأمم المتحدة.

وقد قرَّرت منظمة هاداساه عام 1983 أن تصبح منظمة دولية بعد أن ظلت حتى ذلك التاريخ منظمة أمريكية، الأمر الذي يسمح لها بإنشاء مجموعات خارج الولايات المتحدة يتم ربطها برابطة هاداساه للإغاثة الطبية لتوجيه الأموال عبرها إلى إسرائيل. وقد وصل حجم ما تنفقه الهاداساه من أموال عام 1982/1983 إلى نحو 49 مليون دولار.

رابطة الصهاينة الإصلاحيين في الولايات المتحدة

Association of Reform Zionists of America

»رابطة الصهاينة الإصلاحيين في الولايات المتحدة» منظمة صهـــيونية أمريكـية تأسَّسـت عام 1977 واختصـارها «أرتسا ARTZA»، من عبارة عبرية معناها: إلىالوطن. ويُعَدُّ ظهورها في الولايات المتحدة من أهم التطورات على الإطلاق في تاريخ المنظمة الصهيونية إذ تمثل اليهود الإصلاحيين الذين كانوا من المعادين للصهيونية منذ ظهور الاتجاه الإصلاحي (وهو موقف أخذ يتآكل بعد تأسيس الدولة الصهيونية). ومنذ عام 1973، أصبح إثراء وتقوية دولة إسرائيل (بوصفها المثل الأعلى النابض للقيم اليهودية الأزلية) أحد أهداف اليهودية الإصلاحية في الولايات المتحدة.

وفي عام 1973، انضم الاتحاد العالمي لليهودية التقدمية (الذراع الدولي للحركة الإصلاحية) إلى المنظمة الصهيونية العالمية كهيئة يهودية دولية (غير حزبية) أي أنها لا تتمتع بجميع الحقوق والامتيازات. وعندئذ فكرت القيادات الإصلاحية في تكوين منظمة صهيونية يحق لها العضوية الكاملة لتمثل اهتمامات الحركة الإصلاحية داخل المؤسسة الصهيونية. ومن ثم، تأسَّست رابطة الصهاينة الإصلاحيين عام 1977 وأصبح لها عضوية كاملة في المنظمة، أي أن الرابطة أصبحت اتحاداً صهيونياً دولياً حزبياً، وقد تم إرسال تسعة مندوبين عنها لهم حق التصويت إلى المؤتمر الصهيوني التاسع والعشرين (1978). وتتوجَّه هذه المنظمة توجُّهاً صهيونياً غربياً توطينياً كاملاً، ومن بين أهدافها الدفاع عن أمن إسرائيل ومساعدة من يود الهجرة من الأمريكيين كأفراد وجماعات صغيرة، وتشـجيع السـياحة إلى دولة إسـرائيل، وتحسين نمط الحياة في إسرائيل، وكذلك تشـجيع تطـوُّر اليهودية الإصلاحية الإسرائيلية.

وتحرص رابطة الصهاينة الإصلاحيين على أن يكون لها اتصال دائم بالبيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية والكونجرس، وذلك لكي تؤمن الالتزام الأمريكي قبَل إسرائيل، كما تقوم بالدعاية لصالح الحكومة الإسرائيلية.

وتنتمي رابطة الصهاينة الإصلاحيين إلى اتحاد الجماعات الدينية العبرية الأمريكية، وهي المنظمة الأم لليهودية الإصلاحية، كما أنها عضو في الاتحاد الصهيونيالأمريكي ومُمثَّلة في لجنته التنفيذية، وهي كذلك عضو في مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية الكبرى، وفي القسم الأمريكي الشمالي من المؤتمر اليهودي العالمي. وقد زادت عضويتها من 9500 عام 1977 إلى 70 ألف عضو في منتصف الثمانينيات.

وقد انضمت رابطة الصهاينة الإصلاحيين إلى الروابط الصهيونية الإصلاحية المماثلة، والتي تأسَّست في كلٍّ من كندا وبريطانيا وجنوب أفريقيا وأستراليا وهولندا، لتكوِّن عام 1980 الرابطة الدولية للمنظمات الصهيونية الإصلاحية واختصارها «أرتسينو Artzeinu» ومعناها بالعبرية «أرضنا». وقد اعترفت المنظمة الصهيونية بها رسمياً.

أرتسينــــــــــو

ARZENU; World Reform Zionists

انظر: «رابطة الصهاينة الإصلاحيين في الولايات المتحدة».

مجلــس الاتحـــادات اليهوديــة وصــناديق الرفـــاه

Council of Jewish Federations and Welfare Funds

منظمة مظلية أمريكية تعمل كهيئة مركزية تنسق جَمْع الأموال والتخطيط لأكثر من مائتي اتحاد يهودي وصندوق رفاه تخدم 800 تجمُّع يهودي يضم أكثر من 95% من أعضاء الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة وكندا. وقد بلغ مجموع ما جمعه مجلس الاتحادات عام 1978 نحو 474 مليون دولار أمريكي، زادت إلى 581 مليون عام 1981، ووصلت إلى 720 مليون دولار عام 1987.

تأسَّس مجلس الاتحادات عام 1932 لتنسيق عمليات جَمْع الأموال التي تقوم بها الاتحادات اليهودية المحلية المختلفة وتخصيصها للاحتياجات المحلية للجماعة وكذلك لاحتياجات الجماعات اليهودية المنكوبة في الخارج (وإن ظل العمل الداخلي هو الأساس). وقد تطوَّر المجلس خلال الأربعينيات والخمسينيات إلى وكالة تخطيط مركزيةللاتحادات تشرف على الميزانية وعلى تخصيص الأموال والتفتيش. وهي تقدِّم للاتحادات القيادة والنصح والتمثيل، وتُعتبَر منبراً لتبادل الخبرات ووضع الخطط للأهدافالعامة للاتحادات واحتياجاتها وبرامجها. ومن الخدمات المهمة التي يقدمها مجلس الاتحادات، مؤتمر الميزانية للمدن الكبرى الذي يضم 29 من أكبر الاتحادات اليهوديةوالذي يقوم بتقديم الأموال لأغلبية المنظمات اليهودية الأمريكية المحلية والقومية (مثل اللجنة اليهودية الأمريكية وعصبة مناهضة الافتراء)، وذلك بعد تحليل ودراسةبرامجها وميزانياتها لتقديم المخصَّصات لكل منظمة.

وقد حرص مجلس الاتحادات اليهودية، منذ البداية، على تخصيص جزء من موارد الاتحادات إلى التجمع الاستيطاني اليهودي في فلسـطين ثم إلى إسـرائيل بعد عام 1948. وقد بدأ مجلس الاتحادات، منذ الأربعينيات، في تنسيق ثم توحيد حملات الجباية مع النداء اليهودي الموحد الذي أصبح يتلقَّى وحده ما بين 50% و60% من أموال حملات الجباية الموحدة ويذهب أغلبها إلى إسرائيل عبر النداء الإسرائيلي الموحَّد ثم الوكالة اليهودية، ويخصَّص بعضها أيضاً لدول أخرى عبر لجنة التوزيع المشتركة. ويخصَّص نحو 30% من أموال الجباية للاحتياجات الداخلية للجماعات اليهودية في الولايات المتحدة وعلى رأسها التعليم والصحة. ونظراً لدور مجلس الاتحادات اليهودية في جَمْع مبالغ ضخمة من الأموال وصلت إلى نحو 720 مليون دولار عام 1987، فإنه يُعتبَر في واقع الأمر شريكاً للوكالة اليهودية، وهذه حقيقة تكرَّست منذ إعادة تنظيم الوكالة عام 1971 وتخصيص 50% من المواقع في أجهزتها القيادية لمنظمات الجباية اليهودية غير الصهيونية.

وإلى جانب أن مجلس الاتحادات يُعَد أحد أهم مصادر الدعم المالي لإسرائيل، فإنه يعمل أيضاً على تكريس الدعم الأمريكي لإسرائيل والتأكيد على أنها الحليف الوحيد المعتمد لأمريكا في المنطقة. وينسق مجلس الاتحادات نشاطه في هذا المجال بالدرجة الأولى مع المجلس الاستشاري لعلاقات الجماعة اليهودية القومية. كذلك يقوم مجلس الاتحادات اليهودية بعقد اجتماعات مع الإدارة الأمريكية وأعضاء الكونجرس يحضرها رؤساء اتحادات المدن الكبرى لبحث القضايا الخاصة بإسرائيل وغيرها من الشئونالخارجية.

وتُعتبَر الجمعية العامة لمجلس الاتحادات "أكبر تجمُّع سنوي للحياة اليهودية المنظمة في أمريكا" يشترك فيه أكثر من ألفين من التجمعات اليهودية والمجموعات الصهيونيةالكبرى في الولايات المتحدة، وهو منبر مهم للنشاط السياسي الموالي لإسرائيل تُعقَد خلاله الحلقات الدراسية وتقدَّم الأبحاث الخاصة بإسرائيل والشرق الأوسـط واللوبي العـربي في الولايات المتحدة وغير ذلك من المواضيع. ومما يدل على أهمية هذا الحدث وثقل مجلس الاتحادات داخل الجماعة اليهودية، حرص الزعماء السياسيين (الإسرائيليين والأمريكيين) على حضور جمعيته العامة والاتصال بالقيادات اليهودية.

ويواجه مجلس الاتحادات اليهودية، مثله مثل غيره من المنظمات اليهودية ومنظمات جباية الأموال، مشكلة نضوب مصادر الموارد المالية، وربما كان هذا أحد الأسباب الأساسية وراء قيام مجلس الاتحادات اليهودية بالضغط من أجل أن يكون لممثلي الجماعات اليهودية ومنظمات الجباية في الوكالة اليهودية دور أكبر في وضع سياستها والرقابة عليها. وقد انتقد مجلس الاتحادات أداء الوكالة بشدة وأصدر قراراً عام 1986 يدعو إلى اختيار رؤساء الدوائر في الوكالة على أساس الكفاءة والتخصص دون اعتبار للانتماءات السياسية أو الحزبية وترشيد أدائها والحد من تسييسها. وكان المجلس قد أسَّس قبل ذلك بعدة سنوات لجنة الوكالة اليهودية لتكون منبراً لزعماء الاتحادات اليهودية الأمريكية خاصاً بمناقشة وتقييم نشاط الوكالة اليهودية.

المجلــس الاســتشاري القومي للعــلاقات الطـائفية اليهـودية

National Jewish Community Relations Advisory Council

منظمة يهودية أمريكية تأسَّست عام 1944 كمجلس تطوعي لوَضْع سياسات وأعمال الوكالات والمنظمات في مجال الدفاع عن اليهود وتنسيق علاقات الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة. وكانت الفترة الواقعة قبل هذا العام قد شهدت تكاثراً في المنظمات اليهودية لمواجهة النشاط المنظم المعادي لليهود في الولايات المتحدة. ومع تَزايُد التنافس وازدواجية المهام فيما بينها، أصبح من اللازم إيجاد هيئة منظمة ومنسقة لنشاطها، وتم تأسيس المجلس الاستشاري لهذا الغرض. ولكن لم يتم إضافة كلمة «يهودية» إلى اسم المجلس إلا عام 1968. ويضم المجلس 11 منظـمة يهودية قومية و111 منظمة محلية مُمثَّلة فيه، من بينها: اللجنة اليهودية الأمريكية، والمؤتمر اليهودي الأمريكي، والبناي بريت، وهاداساه. وقد وجد المجلس صعوبة في تنفيذ مهامه، وفي مَنْع ازدواج المهمات، نظراً لقوة المنظمات القومية المُمثَّلة فيه والتي ترفض التخلي عن حريتها في العمل المنفرد. وقد سبق أن انسحب من المجلس كلٌّ من اللجنة اليهودية الأمريكية والبناي بريت عام 1952 احتجاجاً على قرار المجلس بوقف قيامهما بالنشاط القانوني والتشريعي وإسناد ذلك إلى المؤتمر اليهودي الأمريكي دون سواه، وقد عادتا عام 1965 إلى المجلس بعد أن تم تأكيد استقلالية المنظمات المُمثَّلة في المجلس. ومع ذلك، يلعب المجلس دوراً بالغ الأهمية كمستشار للسياسة وكواضع لها. وتضم الوثيقة السنوية الكبرى للمجلس الاستشاري خطة البرنامج المشترك لعلاقات الجماعة اليهودية، كما تضم جميع الموضوعات التي تُدرج في برنامج أعمال وكالات علاقات الجماعة اليهودية ومن بينها القضايا الاجتماعية والسياسية والعلاقات بين المجموعات والعداء لليهود. وتعطي الخطة أفضلية متزايدة للموضوعات والبرامج المتصلة بإسرائيل. ويتبنى المجلس سياسات الحكومة الإسرائيلية وينتقد أيَّ تحالف أمريكي مع الدول العربية أو بيع أسلحة أمريكية لها، كما أنه يؤكد توافق المصالح الأمريكية والإسرائيلية ويعمل على ترسيخ هذا المفهوم وبناء الرأي العام الأمريكي على أساسه، وكذلك يعمل على التصدي للأصوات المناصرة للعرب وللقضية الفلسطينية، وخصوصاً داخل الجامعات.

وبعد حرب عام 1973، أقام مجلس الاتحادات اليهودية، ومعه اللجنة اليهودية الأمريكية والمؤتمر اليهودي الأمريكي وعصبة مناهضة الافتراء، قوة عمل تابعة للمجلس الاستشاري لدعم البرامـج الخـاصة بإســرائيل لدى وكـالات علاقات الجماعات اليهودية، وخصوصاً البرامج المتصلة بوسائل الإعلام.

ويحذر المجلس من خطورة الإفصاح بشكل علني عن الاختلاف في الرأي بشأن السياسات الإسرائيلية لأن ذلك يشكل عامل خـطر يهـدد القدرة على التأثير بصورة فعالة في السياسة الرسمية، ويدعو إلى حصر هذه الخلافات داخل منبر المجلس الاستشاري.

ويعـقد المجلـس الاستشاري مؤتمرات لإعداد خطط البرامج المشتركة، وتُعتبَر هذه المؤتمرات منبراً للسياسيين الإسرائيليين والأمريكيين.

والمنظمات اليهودية القومية الإحدى عشرة الأعضاء في المجلس الاستشاري القومي لعلاقات الجماعة اليهودية هي: اللجنة اليهودية الأمريكية ـ والمؤتمر اليهودي الأمريكي ـ وعصبة مناهضة الافتراء ـ وهاداساه ـ ولجنة العمال اليهودية ـ وقدامى المحاربين اليهود ـ والمجلس القومي للنساء اليهوديات ـ واتحاد الجماعات الدينية العبرية الأمريكية ـ واتحاد الجماعات الدينية اليهودية الأرثوذكسية ـ والمعابد اليهودية المتحدة في أمريكا ـ والعصبة النسائية القومية لليهودية المحافظـة ـ ومنظمـة النسـاء الأمريكيـات لإعـادة التأهيل من خلال التدريب.

اللجنــة اليهوديــة الأمريكيـة

American Jewish Committee

من أقدم المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة. تأسَّست عام 1906 بغرض الدفاع عن الحقوق المدنية والدينية للجماعة اليهودية في الولايات المتحدة، والعمل على تحسين أوضاعهم والمطالبة بمساواتهم اجتماعياً واقتصادياً وتعليمياً مع احتفاظهم بشخصيتهم اليهـودية، ومـواجهة مخـتلف أشـكال معـاداة اليهود أو التمييز الديني. كما اهتمت اللجنة بالدفاع عن الحقوق المدنية والدينية للجماعات اليهودية خارج الولايات المتحدة وبالمساهمة في إغاثة ضحايا الكوارث والاضطرابات العرْقية والطائفية والحروب من اليهود في العالم.

وقد أسَّس اللجنة اليهودية الأمريكية نخبة من البورجوازية اليهودية الأمريكية المندمجة ذات الأصول الألمانية أمثال لويس مارشال وجاكوب شيف وأوسكار ستراوس ومايير سولزبرجر وجوليوس روزنفالد. وقد انصب اهتمامهم في السنوات الأولى على مساعدة مئات الألوف من يهود شرق أوربا الفـقراء الذين تدفَّـقوا على الولايـات المتحدة والعمل على سرعة استيعابهم داخل المجتمع الأمريكي وتعليمهم وصَبْغهم بالصبغة الأمريكية. كما شاركت اللجنة في عمليات غوث الجماعات اليهودية في شرق أوربا ودول البلقان، وساهمت عام 1914 في تأسيس لجنة المعونة اليهودية الأمريكية التي كوَّنت صندوقاً لغوث ضحايا الحرب من اليهود. وقد كانت اللجنة أيضاً أهم عضو في لجنة التوزيع المشتركة، كما قادت الاتجاه الذي أدَّى إلى إلغاء اتفاقية التجارة الروسية الأمريكية عام 1911 احتجاجاً على قيام روسيا بالتمييز ضد اليهود الأمريكيين الراغبين في دخولها. وفي عام 1916، انضمت المنظمة إلى المؤتمر اليهودي الأمريكي بعد أن اشترطت أن يكون تشكيل هذا المؤتمر بصفة مؤقتة ولغرض محدَّد هـو تمثـيل يهـود الولايات المتحدة في مؤتمر فرساي للسلام، وذلك على أن يتم حله بعد ذلك حيث كانت اللجنة تخشى أن يتحول المؤتمر اليهودي الأمريكي إلى منظمة دائمة ومنافسة لها وهو ما حدث بالفعل. وفي مؤتمر السلام، ساهم ممثلو اللجنة بشكل فعال في ضمان حقوق الجماعات اليهودية وغيرها من الأقليات في اتفاقيات السلام. وخلال العشرينيات، ساهمت اللجنة في الحملة الناجحة ضد جريدة هنري فورد ديربورن إنديبندنت بعد أن قامت هذه الجريدة بنشر بروتوكولات حكماء صهيون وروجت لفكرة المؤامرة اليهودية الشيوعية ضد الولايات المتحدة (ونجحـت الحمـلة في انتزاع اعتـذار عـلني من هنري فورد عام 1927)

ولابد لنا أن نشير هنا إلى أن نشاط اللجنة اليهودية الأمريكية في المجالات السابق ذكرها لم يكن بدافع إنساني فحسب بل كان نتيجة القلق المتزايد من قبَل اليهود الأمريكيين من أعضاء البورجوازية من آثار هجرة يهود اليديشية على مكانتهم الاجتماعية وأوضاعهم الطبقية حيث كانت المدن الأمريكية تكتظ بالمهاجرين الجدد وكانت معدلات الجريمة تزداد بها بالإضافة إلى ما جلبه المهاجرون الجدد من أفكار اشتراكية وراديكالية أدَّت إلى إثارة قلق البورجوازية الأمريكية (كما أثارت اتهامات هنري فورد)، وذلك بالإضافة إلى اختلاف الميراث الديني والثقافي اليديشي للمهاجرين عن ميراث البورجوازية اليهودية المتأمركة ذات الأصول الألمانية. ومن هنا، كان حرصهم على سرعة استيعاب المهاجرين في المجتمع الأمريكي من ناحية، ومن ناحية أخرى تحسين أوضاعهم في أوطانهم الأصلية.

وقد حكمت هذه الاعتبارات موقف اللجنة اليهودية الأمريكية من الصهيونية والمشروع الاستيطاني اليهودي في فلسطين. وحتى عام 1946، ظلت اللجنة تُعرَف بأنها أبرز منظمة يهودية أمريكية غير صهيونية وتؤكد أن الهوية اليهودية هي هوية دينية أو هوية ثقافية على أكثر تقدير وترفض مقولة «القومية اليهودية» أو «الشعب اليهودي» أو فكرة إقامة دولة يهودية، فقد كانت ترى أن مثل هذه المقولات تثير مسألة ازدواج الولاء بالنسبة لليهود الأمريكيين وتشكِّك في انتمائهم الأمريكي. ومع ذلك، أيَّدت اللجنة الاستيطان اليهودي في فلسطين باعتباره يمثل حلاًّ للمسألة اليهودية ويساعد على تحويل جزء من هجرة يهود اليديشية بعيداً عن الولايات المتحدة. ومن هذا المنطلق، وافقت اللجنة اليهودية الأمريكية على وعد بلفور مع تأكيد ما نص عليه الوعد من أن إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين لن يهدد الحريات التي يتمتع بها اليهود في الدول الأخرى. كما لعب قادة اللجنة، وخصوصاً لويس مارشال، دوراً مهماً في تأسيس الوكالة اليهودية الموسعة. واشتركت اللجنة في إرسال المساعدات إلى المستوطنين الصهاينة في فلسطين من خلال لجنة المعونة اليهودية، أهم أعضاء لجنة التوزيع المشتركة وعضو النداء اليهودي الموحَّد التي كانت تتعاون في العمل تحت إشراف المنظمة الصهيونية العالمية. كما عارضت اللجنة الكتاب الأبيض البريطاني عام 1939. وفي الوقت نفسه، اتخذت اللجنة اليهودية الأمريكية موقفاً معارضاً لمفهوم قومية الدياسبورا المتضمن في كلٍّ من برامج المؤتمر اليهـودي الأمريكي والمؤتمر اليهـودي العـالمي الذي عارضت اللجنة تأسيسه. كما رفضت برنامج بلتيمور عام 1942، وانسحبت عام 1943 من المؤتمر اليهودي الأمريكي الذي انعقد لمناقشة الأزمة في أوربا بعد أن صوَّتت ضد إقامة كومنولث يهودي في فلسطين، وأعربت عن أملها في تأمين مستقبل الجماعات اليهودية عن طريق الاعتراف العالمي من خلال الأمم المتحدة، بحقوق الإنسان وحمايتها.

وقد وجدت اللجنة أن نفوذها يتقلص داخل الجماعة اليهودية خلال الأربعينيات نتيجة مواقفها وكذلك نتيجة انتهاجها أسلوب العمل الهادئ البعيد عن الإثارة والضجة في مواجهة مصير الجماعات اليهودية في ألمانيا وأوربا في ظل السيطرة النازية. وعلى عكس المؤتمر اليهودي الأمريكي، رفضت اللجنة القيام بحملة مناهضة للنازية واسعة النطاق داخل الولايات المتحدة كما رفضت عقب صعود النازية إلى ألمانيا تنظيم حظر تجاري ضد ألمانيا بدعوى أن ذلك قد يهدد وضع يهود ألمانيا.

ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية، غيرت اللجنة اليهودية الأمريكية موقفها من التعاون مع الصهيونية إلى تأييدها تماماً والعمل من أجلها بشكل علني. فمن ناحية، رأت أن المسألة اليهودية لن تُحل إلا عن طريق إقامة الدولة الصهيونية، ومن ناحية أخرى أصبح إقامة كيان صهيوني يمثل قاعدة للمصالح الرأسمالية والإمبريالية الغربية في تلك المنطقة الحيوية من المشرق العربي يحظى بتأييد الولايات المتحدة مركز الثقل الإمبريالي الجديد بعد الحرب، أي أن تأييد اللجنة للمشروع الصهيوني وإسرائيل كان من منطلق الانتماء الأمريكي بالدرجة الأولى وهو يندرج تحت ما نصفه بالصهيونية التوطينية. ولذلك، وبرغم تأييد اللجنة قرار التقسيم عام 1947، وتشجيعها الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ومساندتها عمليات الدعاية الصهيونية، وعملها منذ عام 1948 على كَسْب الدعم المادي والدبلوماسي الأمريكي لإسرائيل، إلا أنها رفضت دعوى بن جوريون بضرورة هجرة الشباب اليهودي الأمريكي إلى إسرائيل. وقد أكدت اللجنة التمييز بين مصالح إسرائيل ومصالح الجماعات اليهودية في العالم، وأصرت على ضرورة وضع أُسس للعلاقة بين الطرفين. ومن هنا، صَدَر عام 1950 التصريح المشترك لبن جوريون والصناعي الأمريكي جاكوب بلاو ستاين رئيس اللجنة اليهودية الأمريكية (1949 ـ 1954) والذي أكد أن إسرائيل تمثل مواطنيها فقط وتنطق باسمهم وحدهم. كما انسحبت اللجنة عام 1952 مع عصبة مناهضة الافتراء من الصندوقاليهودي الموحَّد بسبب معارضتها تخصيص قدر كبير من المساعدة لإسرائيل. أما بعد حرب 1967، فقد زاد نشاط التيار المناصر لإسرائيل بشكل حاد داخل اللجنة اليهودية الأمريكية، وهو تحوُّل طرأ على أغلب المنظمات اليهودية الأمريكية. ورغم أن اللجنة ليست جماعة ضغط (لوبي) مسجلة رسمياً إلا أنها تقوم بالضغط لصالح إسرائيل عن طريق العمل الهادئ والاتصال الفعال بالشخصيات البارزة والمجموعات المهمة في المجتمع الأمريكي. وتعتمد في فعالية أساليبها على ثقل ونفوذ أعضائها، فرغم أن اللجنة تُعَد منظمة صغيرة نسبياً (50 ألف عضو) إلا أنها لا تزال منظمة «نخبة» كما أنها قريبة من دهاليز القوة بحكم ارتباطات قيادتها ووضعها الطبقي. ومن هنا، فهي تركِّز مجال نشاطها داخل الذراع التنفيذي للدولة، وخصوصاً البيت الأبيض ووزارة الخارجية، في حين تترك الكونجرس للجنة الإسرائيلية الأمريكية للشئون العامة (إيباك) فيما يُعَدُّ تقسيماً غير رسمي للعمل بين المنظمتين. ويُعَد هذا أحد الأسباب التي حالت دون انضمام اللجنة إلى مؤتمر رؤساء كبرى المنظمات اليهودية الأمريكية حيث بقيت في وضع مراقب فقط حتى لا تتخلى عن حرية العمل التي منحتها لها علاقتها بالفرع التنفيذي.

ويتبين بأس اللجنة اليهودية الأمريكية من خلال اجتماعاتها السنوية التي تحضرها شخصيات أمريكية ويهودية وإسرائيلية بارزة، من بينهم رؤساء أمريكيون سابقونووزراء وأعضاء في الكونجرس. وتحدد اللجنة خلال هذا الاجتماع برامجها وقراراتها السياسية التي توزعها على رجال السياسة ووسائل الإعلام والمنظمات الأخرى.

وتُعتبَر اللجنة خزاناً فكرياً (بوتقة تفكير) للنشاط المناصر لإسرائيل حيث تقوم بإعداد الدراسات وإجراء استطلاعات الرأي العام بشأن عديد من الموضوعات وخصوصاًمعاداة اليهود، وكذلك لتبيُّن اتجاهات الرأي العام الأمريكي خلال الأزمات أو القضايا الخلافية التي تمس إسرائيل مثل حرب لبنان والانتفاضة وبيع الأسلحة لدول عربية. وللجمعية شبكة واسعة من المجلات والمنشورات والمذكرات من أهمها مجلة كومنتري Commentary (تعليق) وهي أشهر دورياتها و برزنت تنس Present Tense (الزمن المضارع) وهي مجلة تُصدر كتاباً سنوياً يُسمَّى أمريكان جويش يير بوك American Jewish Year Book (الكتاب السنوي اليهودي الأمريكي) يُعتبَر مرجعاً جامعاً عن حياة الجماعة اليهودية في أمريكا الشمالية. ذلك بالإضافة إلى المنشورات والمذكرات المرتبطة بمناسبات محدَّدة التي تُصدرها دوائر اللجنة وأقسامها المختلفة والتي تقدم موقف اللجنة إزاء الأحداث والقضايا الجارية ويتم توزيع بعضها على وسائل الإعلام وعلى السياسيين والمنظمات التي تمثل الأقليات والمجموعات النسائية وعلى نقابات العمال والكنائس وأعضاء ومناصري اللجنة اليهودية الأمريكي.

ويتبيَّن من مجلات ومطبوعات اللجنة مواقفها المتشددة إزاء قضايا الشرق الأوسط. فمجلة كومنتري التي كانت أميل إلى الليبرالية، وتُعَد الآن منبراً للمحافظة الجديدة في الولايات المتحدة، تدعو على صفحاتها إلى ضرورة التدخل العسكري الأمريكي في الخليج كحل لأزمة الطاقة وإلى ضرورة استناد الإستراتيجية الإسرائيلية إلى أسلحة نووية. كما أنها تهاجم الأفراد والمنظمات اليهـودية التي تنتقـد إسـرائيل مـثل بريرا والأصدقاء الأمريكيين للسلام. وأيَّدت اللجنة بحماس الاجتياح الإسرائيلي للبنان. كما تهاجم اللجنة المقاطعة العربية وتُنبِّه إلى خطورتها الاقتصادية، وتهاجم كذلك صفقات السلاح مع الدول العربية، مثل صفقة طائرات الأواكس إلى السعودية (1981). وتُقدِّم كثير من منشورات ومذكرات اللجنة المواقف الرسمية للحكومة الإسرائيلية تجاه القضايا الخاصة بالشرق الأوسط.

إلا أن ذلك لا يعني غياب التوتر والخلاف بين اللجنة اليهودية الأمريكية وغيرها من المنظمات اليهودية من جانب، وإسرائيل من جانب آخر، وخصوصاً خلال حكم الليكود حيث تسببت بعض سياسات الحكومة الإسرائيلية في إحراج أعضاء الجماعة اليهودية وفي إثارة استيائهم، مثل: مذابح صبرا وشتيلا خلال حرب لبنان، وقضية الجاسوس بولارد التي أثارت مسألة ازدواج ولاء اليهود الأمريكيين، وتورُّط إسرائيل في فضيحة إيران كونترا وأسلوب معالجتها للانتفاضة الفلسطينية وقضايا السلاح. وكانت اللجنة قد أصدرت عام 1980 وثيقة تنتقد سياسة الاستيطان الإسرائيلية في الضـفة الغـربية وغـزة وتحذِّر من آثار تلك السياسة على صورة إسرائيل.

كذلك قامت اللجنة اليهودية (التي تتبع المؤسسة القومية للعلاقات الإنسانية) برعاية دراسات علمية واجتماعية مهمة خارج البرامج الخاصة بإسرائيل، كما تشارك فيالحوارات بين الأديان. كذلك ساهـمت في تأسـيس عــدد من المعـاهد ومراكــز الأبحــاث والدراسـات. واللجنة اليهودية الأمريكية منظمة معفاة من الضرائب ولها مكاتب في كلٍّ من إسرائيل وفرنسا والبرازيل والمكسيك.

المؤتمـر اليهــودي الأمريكـي

American Jewish Congress

منظمة يهودية أمريكية انبثقت عن المؤتمر اليهودي الأمريكي الأول الذي انعقد في فلادلفيا عام 1918 بهدف حماية الحقوق الدينية والمـدنية للجـماعات اليهـودية داخل الولايات المتحدة وخارجها، ومحاربة كل أشكال التمييز ضدهم، وكذلك مساندة إقامة وطن قومي يهودي في فلسطين. وتعود فكرة تأسيس المؤتمر إلى عام 1915 حينما تزعَّم لويس برانديز وستيفن وايز وغيرهما من اليهود الأمريكيين الصهاينة أو المتعاطفين مع الصهيونية الدعوة إلى تشكيل مؤتمر يهودي أمريكي ليكون هيئة مظلِّية ذات طابع ديموقراطي وقومي تتألف من المنظمات اليهودية القائمة وليكون بديلاً عن اللجنة اليهودية الأمريكية التي كانت موضع انتقاد بسبب هيكلها وسياستها النخبوية المناهضة للديموقراطية وكذلك بسبب رفضها للصهيونية. وقد أيَّد المؤتمر فكرة أن يقوم المؤتمر اليهودي الأمريكي بتأسيس المنظمات الصهيونية الأمريكية واليهودية المتعاطفة معها والتي كانت تمثل جماهير المهاجرين اليهود القادمين من شرق أوربا والمتأثرين بالصهيونية وبالمقولات الخاصة بالشعب اليهودي والقومية اليهودية، وذلك في حين عارضت هذه الفكرة مجموعة أخرى من المنظمات اليهودية وعلى رأسها اللجنة اليهودية الأمريكية التي كانت تمثل البورجوازية اليهودية الأمريكية المندمجة ذات الأصول الألمانية. ولم يتم تشكيل المؤتمر إلا بعد أن تم الاتفاق على أن يكون ذلك بصفة مؤقتة ولهدف محدد هو إرسال وفد إلى مؤتمر فرساي للسلام يعمل على ضمان حقوق الجماعات اليهودية وحقوق غيرهم من الأقليات في معاهدات السلام، وكذلك المطالبة بالاعتراف بتطلعات الشعب اليهـودي وبمطــالبه التاريخية (فيما يختص بفلسطين) طبقاً لوعد بلفور، وتأكيد تحويل فلسطين إلى كومنولث يهودي، على أن يتم حل المؤتمر بعد ذلك. ولكن أنصار المؤتمر اليهودي الأمريكي نجحوا في تحويله إلى منظمة دائمة عام 1922 تحت زعامة الحاخام ستيفن وايز، ولكنها لم تتحوَّل قط إلى مظلة واسعة القاعدة بديلة عن اللجنة اليهودية الأمريكية كما كان يتطلع مؤسسوها.

وقد اكتسب المؤتمر اليهودي الأمريكي شعبية واسعة بين الجماهير اليهودية خلال الثلاثينيات والأربعينيات، حيث تزعَّم الحملات والتظاهرات المناهضة للنازية وشارك في تنظيم الحظر التجاري ضد البضائع والخدمات الألمانية. وقد هاجم المؤتمر الكتاب الأبيض البريطاني عام 1939، ولعب دوراً مهماً في تنظيم المؤتمر اليهودي الأمريكي عام 1943 الذي أقر مبدأ الكومنولث اليهودي في فلسطين كما تزعَّم الجهود الرامية إلى تأسيس المؤتمر اليهودي العالمي عام 1936 وعمل حتى عام 1948 على فرض القضية الصهيونية على الساحة الأمريكية. ولابد من الإشارة إلى الدور الذي لعبه ستيفن وايز في إفشال المقاطعة اليهودية المنظمة والتلقائية للبضائع الألمانية حتى يتم توقيع معاهدة الهعفراه بين الصهاينة الاستيطانيين والنظام النازي.

أما بعد الحرب العالمية الثانية وإقامة الدولة الصهيونية، فقد وجَّه المؤتمر اليهودي الأمريكي جُـل اهتمامه إلى قضايا الحقوق والحريات المدنية في الولايات المتحدة وأصبح أكثر انشغالاً بمشاكل فقراء اليهود السود وغير ذلك من القضايا الاجتماعية والسياسية التي تهم التيار الليبرالي الأمريكي. واستمر المؤتمر اليهودي الأمريكي في دفاعه عن إسرائيل وإن تضاءل هذا الالتزام مع انشغاله بالقضايا الطائفية والأهلية الأخرى. وينص برنامج المؤتمر لعام 1983 على ضرورة تنمية دَعْم الولايات المتحدة لاحتياجات إسرائيل الأمنية، والتصدي للدعاية العربية، وإظهار العرب باعتبارهم العقبة أمام السلام، وعلى ضرورة محاربة المقاطعة العربية ومحاربة معاداة اليهود، والعمل من أجل هجرة اليهود السوفييت. ويقوم المؤتمر اليهودي الأمريكي بالدعاية لإسرائيل في الأوساط السياسية والإعلامية، كما يؤكد أهمية إسرائيل بالنسبة إلى المصالح الأمريكيةالإستراتيجية الحيوية. وللمؤتمر برامج لتشجيع السياحة في إسرائيل وترتيب سفر مسئولين أمريكيين إليها. كما أن من برامجه عَقْد ندوات حوار بين اليهود الأمريكيينوالإسرائيليين تضم شخصيات سياسية وثقافية مهمة من كلا الطرفين. ويعمل المؤتمر اليهودي الأمريكي عن كثب مع مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية الكـبرى في إعـداد كـثير من مذكـرات الشرق الأوسط والبيانات العامة. كما يهاجم المؤتمر الأفراد والمجموعات اليهودية وغير اليهودية المتعاطفة مع القضية الفلسـطينية، مثل: مجلـس الكنائـس القومي، وناعوم تشومسكي، ولجنة الأصدقاء الأمريكيين للخدمات. كما يعمل على ترويج فكرة التهديد العربي وسيطرة النفط العربي على الولايات المتحدة، ويتعاون مع عصبة مناهضة الافتراء واللجنة اليهودية الأمريكية من أجل دَفْع الكونجرس للموافقة على التشريع المناهض للمقاطعة العربية. ومع ذلك، فإن المؤتمر اليهودي الأمريكي يُعَدُّ من المنظمات اليهودية الأمريكية الأقل ميلاً إلى تكييف مواقفها مع المصالح الإسرائيلية إذا ما تعارض ذلك مع مبادئها وسياستها الليبرالية. وقد رفض المؤتمر، مثلاً، التحالف مع اليمين المسيحي (الإنجيلي) الجديد في الولايات المتحدة الذي يؤيد إسرائيل ويدعمها وهو ما أقدمت عليه منظمات يهودية أخرى.

والمؤتمر اليهودي الأمريكي مسجل كمنظمة دينية معفاة من الضرائب، وهذا يعفيه من تقديم تقرير سنوي علني. وتصل عضويته إلى ما بين 40 و50 ألف عضو. وقد تحوَّل المؤتمر عام 1938 من عضوية المنظمات إلى العضوية الفردية. وهو من مؤسسي المجلس الاستشاري القومي لعلاقات الجماعة اليهودية وعضو فيه، ويعقـد مـؤتمراً كل عامين تحضره شخصيات إسرائيلية وأمريكية مرموقة. وتشمل منشوراته جودايزم Judaism (اليهودية) وهي مجلة فصلية تركز على الأبحاث العلمية اليهودية، و كونجرس منثلي Congress Monthly وهي المجلة الشهرية للمؤتمر التي تنشر مقالات عامة مع الاهتمام بالموضوعات الخاصة بإسرائيل ونشاط الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة.

بنــاي بريـت

B'nai B'rith

»بناي بريت» عبارة عبرية معناها «أبناء العهد». وبناي بريت واحدة من أقدم وأكبر المنظمات اليهودية، تأسَّست عام 1843 كهيئة يهودية أخوية على غرار الجمعيات الماسونية بهدف "توحيد الإسرائيليين للعمل من أجل تنمية مصالحهم العليا ومصالح الإنسانية"، وكان شعارها "المعاملة الطيبة والحب الأخوي والتوافق بين اليهود". وقد نمت بناي بريت نمواً كبيراً حتى أصبح لها فروع في 45 دولة تضم نحو 500 ألف عضو.

وقد اهتمت بناي بريت منذ تأسيسها بتقديم الخدمات الاجتماعية والإنسانية إلى الجماعات اليهودية داخل الولايات المتحدة وخارجها فأسَّست المستشفيات وملاجئ للأطفال والعجزة. كذلك عملت المنظمة على الدفاع عن حقوق الجماعات اليهودية في روسيا وشرق أوربا وعلى غوث ضحايا الكوارث والاضطرابات الطائفية والعرْقية من اليهود في هذه البلاد، كما قامت منذ عام 1868 بدعم نشاط الأليانس إسرائيليت يونيفرسل.

كذلك شاركت البناي بريت في عمليات استيعاب يهود شرق أوربا الذين تدفقوا على الولايات المتحدة ابتداءً من عام 1881 فوضعت برامج للغوث وأنشأت المدارس التجارية والحرفية كما أنشأت فصولاً لصبغ القادمين الجدد بالصبغة الأمريكية. انضمت بناي بريت إلى صندوق البارون دي هيرش في جهوده الرامية لإعادة توزيع المهاجرين الجدد على مختلف أنحاء الولايات المتحدة وتوطينهم في المستعمرات الزراعية، وذلك بعد أن اكتظت بهم المدن الأمريكية الرئيسية. كذلك نشطت بناي بريت فيمجال محاربة معاداة اليهود. وفي سبيل ذلك، أسَّست عام 1913 عصبة مناهضة الافتراء التي عملت على محاربة أشكال التمييز الديني والعنصري كافة.

كما اهـتمت المنظمـة بتنظيم النسـاء والشـباب، فأسَّست نسـاء بناي بريت عام 1897 ومنظمة شباب بناي بريت عام 1924. وفي عام 1923، أنشأت المنظمة مؤسسة هليل للبناي بريت لتقديم خدمة دينية وثقافية واجتماعية للشباب اليهودي داخل الجامعات والكليات الأمريكية؛ كما أسَّست قسماً للتعليم اليهودي للكبار (عام 1948) يضم برامج لدراسة اليهودية وتعليم العبرية ويُصدر مجلة فصلية بعنوان جويش هيريتيج Jewish Heritage (التراث اليهودي)

ومع نمو المنظمة، تأسَّست لها فروع خارج الولايات المتحدة كان أولها في برلين عام 1882، ثم لحقتها فروع أخرى في أوربا وجنوب أفريقيا وأستراليا وغيرها. وفي عام 1888، تأسَّس أول محفل للبناي بريت في فلسطين كان أول سكرتير له إليعازر بن يهودا الذي ترجم دستور وطقوس بناي بريت إلى العبرية. وبعد تواجدها فيفلسطين، بدأت بناي بريت في المساهمة في النشاط الاستيطاني اليهودي في البلاد، فأنشأت رياض الأطفال والمكتبات والمستشفيات وأقامت مستوطنة بالقرب من القدس وبيت ضيافة لاستقبال المهاجرين الجدد. وبعد إعلان وعد بلفور، بدأت المنظمة تتحرك من الناحية العملية (رغم عدم الارتباط الرسمي) باتجاه الأهداف الصهيونية، فشاركت في المؤتمر القومي حول فلسطين الذي دعت إليه المنظمة الصهيونية الأمريكية عام 1935. وفي عام 1943، كانت بناي بريت وراء قرار المؤتمر الأمريكياليهودي الذي طالب بكومنولث يهودي في فلسطين. كما تعاونت مع المنظمة الصهيونية لتعبئة الرأي العام الأمريكي ضد الكتاب الأبيض البريطاني عام 1939 وضد فرض قيود على الهجرة اليهودية إلى فلسطين. كما قامت المنظمة بمعاونة الصندوق القومي اليهودي بشراء الأراضي وإقامة المستوطنات في فلسطين، وبدعم معهد التخنيون في حيفا. وفي عام 1947، طالبت بناي بريت الرئيس الأمريكي ترومان بتأييد توصية لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين بشأن التقسيم. أما بعد إعلان قيامإسرائيل، فقد ساعدتها المنظمة منذ السنوات الأولى وذلك بتقديم إمدادات طبية وملابس ومعدات والمساهمة في إنشاء المكتبات وتشجير الغابات وكذلك تشجيع السياحة لها، كما قامت بتجنيد العمال الفنيين من الولايات المتحدة وكندا لإسرائيل. ومنذ إصدار سندات إسرائيل وهي تساهم بنشاط بارز في توزيعها. وتقوم المنظمة بالضغط على صناع القرار في الولايات المتحدة لصالح إسرائيل. كما أنها تلعب دوراً أساسياً وخاصاً من خلال عصبة مناهضة الافتراء في خنق أية اتجاهات معادية للصهيونية عن طريق اتهامها بأنها معادية لليهود.

وأقام أحد كبار العاملين السابقين في البناي بريت دعوى ضد المنظمة عام 1968 متهماً إياها بأنها تقوم بأنشطة سياسة وشبه سياسية لصالح دولة أجنبية هي إسرائيل فيما يُعَد انتهاكاً للقوانين الفيدرالية الأمريكية الخاصة بالمؤسسات الخيرية المعفاة من الضرائب وبالقوانين الخاصة بالوكالة الأجنبية.

وقد لعبت بناي بريت دوراً أساسياً في تأسيس مؤتمر رؤساء كبرى المنظمات اليهودية الأمريكية عام 1954، كما كانت من مؤسسي المؤتمر العالمي للمنظمات اليهودية.

عصبة مناهضـة الافتراء التابعة لبناي بريت

Anti-Defamation League of B'nai B'rith

منظمة يهودية أمريكية تأسَّست عام 1913 لتكون ذراع بناي بريت في محاربة معاداة اليهود ومحاربة التمييز الديني والعنصري في الولايات المتحدة. وقد بذلت المنظمة جهودها منذ تأسيسها في إصدار التـشريعات التي تحـمي اليهـود من التمييز أو الإساءة إلى حقوقهم المدنية، سواء في مجالات التعليم أو العمل أو السكن، وعملت أيضاً على محاربة السخرية مما يُسمَّى «الشخصية اليهودية» في المسارح ووسائل الإعلام، وكذلك محاربة التنظيمات والحركات العنصرية في الولايات المتحدة. واهتمت المنظمة أيضاً بتنمية العلاقات اليهودية ـ المسيحية وتنمية العلاقات بين اليهود والسود، كما ساهمت في إصدار قانون الحقوق المدنية الأمريكي عام 1964.

وقد تبنَّت العصبة موقفاً مؤيداً للدولة الصهيونية منذ تأسيسها عام 1948 وأكدت ضرورة تعزيز موقف الولايات المتحدة المناصر لها وضرورة إبراز جوانب التماثل في القيم والنشأة بين البلدين. ومع ذلك، لم تتبن العصبة مفهوم الشعب اليهودي الذي هو جوهر العقيدة الصهيونية، كما لم تؤكد مركزية إسرائيل أو وجود رابطة عضوية بين اليهود الأمريكيين وإسرائيل، وظل دعمها لإسرائيل يتم في إطار التمييز بين الإسرائيليين والجماعة اليهودية في الولايات المتحدة مع تركيز أولويات العمل على محاربة العداء لليهود والتمييز وعلى ضمان المساواة للجميع في الولايات المتحدة. وفي عام 1952، انسحبت العصبة (مع اللجنة اليهودية الأمريكية) من الصندوق اليهودي الموحَّد، وذلك بسبب معارضتها تخصيص قدر كبير من المساعدة لإسرائيل. وقد تآكل هذا الموقف تدريجياً باتجاه الدفاع عن إسرائيل إلى أن أصبح هذا محور أعمالها ولب برامجها بعد حرب 1967، حتى أنه غلب على دورها الأصلي وهو محاربة العداء لليهود في الولايات المتحدة، بل أصبح التركيز الحالي هو الافتراض بأن العداء للصهيونية يعادل العداء لليهود، ومن ثم فإن أيَّ انتقاد لإسرائيل يُعَد نوعاً من العداء لليهود. ويتبين لنا هذا التحول من خلال مقارنة برنامج وأهداف العصبة عام 1966 وعام 1980 حيث لا يرد ذكر لإسرائيل في الأهداف المطروحة عام 1966 إلا في عبارة تتعلق بالمقاطعة العربية جاءت في الباب السادس "تأمين سلامة اليهود في الخارج". أما في أهداف عام 1980، فلإسرائيل باب منفصل يحتل المكان الثاني في سلسلة الأهداف بعد "محاربة العداء للسامية (اليهود).

ولا تكتفي العصبة بإلصاق تهمة معاداة اليهود بالعناصر والجماعات المناهضة لإسرائيل والصهيونية بل تلصقها أيضاً بالعناصر المؤيدة للعرب أو المتعاطفة مع الفلسطينيين. بل ذهبت العصبة إلى أبعد من ذلك خلال السبعينيات حينما وصفت عدم المبالاة بالقضايا والمشاكل التي تهم اليهود، وعدم التعاطف معها، "بصفة العداء الجديد للسامية [لليهود[".

ورغم أن أقصى اليمين الأمريكي هو العدو التقليدي للعصبة، إلا أنها أصبحت تهاجم اليسار الأمريكي أيضاً بسبب انتقاده لإسرائيل وتعاطفه مع القضية الفلسطينية، كما أصبحت تتهمه بالاشتراك مع أقصى اليمين في معاداة اليهود وإسرائيل وفي العداء ضد مصالح الغرب والولايات المتحدة وضد الأفكار والنظام الديموقراطي. كما اتجهت العصبة في الوقت نفسه إلى تأييد اليمين البروتستانتي (الإنجيلي) الجديد بسبب موقفه المدافع عن إسرائيل، وذلك برغم أن هذا الموقف يتناقض مع ارتباطها التقليدي بالتيار الليبرالي في حين أنها تتجه إلى مهاجمة قطاعات مهمة من مؤسسة الكنيسـة البروتـستانتية الأكـثر ليبرالية، مثل المجـلس القـومي للكنائس، لدفاعه عن الحقوق الفلسطينية. كذلك تهاجم العصبة المجموعات السياسية أو المنظمات الإنسانية أو مؤسسات الأبحاث والدراسات التي تناصر العرب أو تلك التي تؤيد سياسات لصالح دول عربية، مثلصفقات السلاح الأمريكية لبعض الدول العربية. وقد ذهب ناثان بيرلميوتر (المدير القومي للعصبة) إلى اعتبار بيع طائرات الأواكس للسعودية في الثمانينيات انعكاساًلمعاداة اليهود في الولايات المتحدة.

وتوجِّه العصبة هجومها أيضاً إلى المنظمات والأفراد اليهود من رافضي الصهيونية أو منتقدي إسرائيل وسياستها. ففي عام 1970 مثلاً، اتخذت العصبة موقفاً مناهضاً من الصحفي الإسرائيلي يوري أفنيري عند زيارته الولايات المتحدة بسبب موقفه المعارض للمفاهيم التقليدية للصهيونية واليهودية، كما حذَّرت المنظمات اليهودية والمجموعات الطلابية اليهودية في الجامعات من التعامل معه أو دعم نشاطه خلال وجوده في البلاد. كما تعمل العصبة على التصدي للمواد الإعلامية أو الأعمال الفنية السـينمائية التي قد تُسـيء إلى إسرائيل. ففي عام 1983، على سبيل المثال، هاجمت العصبة فيلم كوستا جافراس «حنه ك.» الذي يعالج القضية الفلسطينية، كما هاجمت الفيلم الوثائقي «نساء محاصرات» الذي يتناول حياة نساء فلسطينيات في مخيمات اللاجئين. بل إنها، في بعض الأحيان، تهاجم بعض الأفلام الأمريكية (مثل «اختيار صوفي») لأنه يحيد عما تتصور أنه الصورة الدقيقة لليهود.

وتعمل العصبة على تبرير وتوضيح السياسات الإسرائيلية التي قد تثير الجدل بين الرأي العام الأمريكي مثل حرب لبنان (1982) وإبراز أن هذه السياسات لا تخدم صالح إسرائيل وحسب وإنما تخدم أيضاً المصالح الأمريكية في نهاية الأمر. ومع هذا، تقوم الرابطة أحياناً بتوجيه النقد إلى الدولة الصهيونية حينما تسبب الحرج للجماعة اليهودية في الولايات المتحدة. وفي عام 1977 مثلاً، انتقـدت الرابطـة سـياسة الاستيطان الإسرائيلية حيث قال رئيسها آنذاك: "إن إعلان حكومة الليكود عن إقامة مستوطنات جديدة يمكن أن يبعد الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة عن الجماهير، وبذلك يضعها في وضع يلحق الضرر بقدرتها على التأثير في الإدارة الأمريكية".

ولتحقيق أغراضها، تقوم العصبة بمراقبة ورَصْد الأفراد والجمـاعات والمنظـمات المعـادية لليهود والمعادية لإسرائيل والصهيونية، كما تقوم بجَمْع البيانات والمعلومات عنهم ومراقبة جميع النشاطات المتصلة بإسرائيل والشرق الأوسط في الولايات المتحدة من خلال مكاتبها المنتشرة في جميع أنحاء البلاد. وتقوم بتزويد جهاز الاستخبارات الإسرائيلية بنتائج عمليات المراقبة عن طريق المستشارين والسفارة الإسرائيلية، وكذلك الاستخبارات الأمريكية عن طريق مكتب التحقيقيات الفدرالية (اف. بي. آي).

ومنظمة عصبة مناهضة الافتراء مسجلة كمنظمة دينية، وهذا يعفيها من تقـديم تقارير سـنوية علنية كما ينـص القانون الأمريكي. وهي، كذلك، معفاة من الضرائب. وتعيِّن بناي بريت أغلب أعضاء الأجهزة القيادية بها، كما تعيِّن أعضاء مكاتبها المنتشرة في جـميع أنحـاء الولايات المتحدة، ولها فرع في كلٍّ من القدس وباريس.

نوادي هليل للطلبة (مؤسسات هليل(

Hillel Foundutions

تضم منظمة هليل التابعة لجمعية البناي بريت (أبناء العهد) المراكز والنـوادي الطـلابية التي توجـد في معظم جامعات الولايات المتحدة. وعادةً ما يدير هذه النوادي مدير يتقاضى راتباً ويساعده بعض الطلبة. وفكرة نوادي هليل هي أساساً تقليد لفكرة مماثلة توصَّل إليها واعظ بروتستانتي رأى ضرورة الوصول إلى الشباب المسيحي فكوَّن هذه النوادي. ثم رأى الدكتور تشوتسي بولدوين (وهو أستاذ دراسات إنجيلية مسيحي) أن الشباب اليهودي هو الآخر منصرف عن عقيدته، فبدأ بالاتصال بالمؤسسة الحاخامية وحثها على ضرورة تأسيس نوادي هليل. وتنظم نوادي هليل برامج ثقافية واجتماعية ودينية وحواراً دينياً. ومثل معظم المنظمات اليهودية، أصبحت نوادي هليل واجهات يهودية للمنظمة الصهيونية، ولذا نجد أنها تركز على تذكير الرأي العام الأمريكي بالإبادة النازية لليهود وعلى تشجيع الهجرة والدفاع عن وجهة النظر الإسرائيلية.

الصفحة التالية ß إضغط هنا