المجلد الخامس: اليهودية.. المفاهيم والفرق 5

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

و) السدر السادس: سدر طُهاروت (التطهيرات).

والواقع أن الموضوع المشترك بين أسفار هذا الجزء السادس والجزء الأخير من التلمود يتصل بأحكام الطهارة والنجاسة (أو الرجاسة) لدي الأشياء والأشخاص. وتؤلفهذه الأحكام جزءاً من مجموعة قوانين تتعلق بالطهارة اللاوية. ومما يجدر التنبيه إليه أن قوانين النجاسة هذه لم تكن سارية المفعول خارج فلسطين، فقد بطل معظمها فيفلسطين بعد هدم الهيكل وطويت في عالم النسيان، إلا ذلك القانون المتعلق بأحكام الحيض لدى النساء فما زال ساري المفعول حتى أيامنا هذه. وقد أصبح التشديد محصوراًبالدرجة الأولى في مسألة النجاسة اللاوية وتَعدَّى نطاق العلاقات الزوجية. والمعروف أن أحكام الطهارة هذه تستند إلى عدد من الأوامر والنواهي الواردة في أماكن مختلفةمن الأسفارالخمسة للتوراة، وبشكل خاص في الإصحاحات (11/15) من سفر اللاويين.

1 ـ كلائايم (الأواني والأوعية):

ويتحدث هذا السفر عن قواعد النجاسة في الأواني والأدوات التي تُستخدَم للمنفعة البشرية، فيحاول تبيان الظروف والشروط التي تتحكم في نجاسـتها أو تجـعلها عرضة للتنـجس. والأواني تشمل الأثاث والملابس، وغير ذلك من أدوات الاستعمال.

2 ـ أُهالوت (الخيام):

ويتناول الخيام والمساكن باعتبارها ناقلة للنجاسة والرجس، سواء عن طريق جثة الميت، أو بواسطة الأواني والأوعية التي توجد معها تحت سقف الخيمة أو المسكن، حيثتنتقل منها إلى الأشخاص والأدوات الأخرى.

3 ـ نجاعيم (البَرَص والطواعين والأوبئة):

يبسط القوانين المتعلقة بمعالجة البَرَص في البشر والألبسة والمساكن. كما يتضمن المواصفات الضرورية لتطهير الأبرص وطرد النجاسة من بدنه.

4 ـ باراه (العجلة الحمراء ـ البقرة الصغيرة):

ويتحدث هذا السفر عن الخصائص الواجب توافرها في العجلة الحمراء (باراه أدوما) وصولاً إلى إعداد رمادها للاستخدام في التطهير من النجاسة والرجاسة.

5 ـ طُهاروت (تطهيرات):

ويعالج أحكام النجاسة في الأطعمة والأشربة على اختلاف أنواعها ودرجاتها. كما يبين الشروط التي تتحكم في تنجيسها عن طريق الاحتكاك بمختلف مصادر النجاسةودرجاتها.

6 ـ مقواؤوت (الآبار والخزانات):

ويتضمن هذا السفر مواصفات الآبار والصهاريج والخزانات فيما يتعلق بالمتطلبات التي تجعلها صالحة شعائرياً للتطهير والتغطيس. كما يتناول القواعد الحاكمة في جميع أنواع التغطيس الشعائري والطقسي.

7 ـ نيدّه (الحائض والحيض):

ويفصل القول في أحكام النجاسة الشرعية التي تنشأ لدى النساء بسبب الحيض والنفاس وبعد الولادة.

8 ـ مقشيرين (الاستعدادات):

ويتناول الظروف التي تصبح الأطعمة بموجبها قابلة للنجاسة أو عرضة للتنجس بعد احتكاكها بالسوائل، كما يعدِّد السوائل التي تجعل الأطعمة في تلك الحالة.

9 ـ زافيم (الزاب ـ السيلان):

ويتحدث هذا السفر عن نجاسة الرجال والنساء عند الإصابة بأمراض الزهري والسيلان المنوي وغير ذلك.

10 ـ طِّبول يوم (الغسل اليومي):

ويبحث في طبيعة النجاسة لدى الشخص الذي قام بالغسل الشعائري (المفروض أثناء النهار) لتطهير نفسه، فإن عليه الانتظار حتى غروب الشمس لكي يُعتبر طاهراً ونظيفاً.

11 ـ ياديم (اليدان وتطهيرهما):

ويتناول نجاسة اليدين قبل الغسل وكيفية تطهيرهما بطريقة شعائرية مستمدة من الشريعة الشفوية، والتطهير يتم بالماء. ويتضمن إلى جانب ذلك بحثاً عن بعض أسفار التوراة، كما يسجل شيئاً من المناظرات والخلافات التي دارت بين الصدوقيين والفريسيين.

12 ـ عقصين (سويقات الثمار وقشورها):

ويعرض للظروف والشروط التي تصبح بموجبها سويقات النبات والثمر قابلة لنقل النجاسة إلى الثمار والنباتات المتصلة بها والعكس بالعكس،أي كيف تتنجس هذه الأشياء لدى ملامستها الأشياء النجسة.

الموضوعات الأساسية الكامنة في التلمود

Major Themes in the Talmud

منذ نهاية القرن السابع للميلاد، ومع مطلع القرن الثامن، صار التلمود العامل الجوهري في التجربة الدينية للجماعات اليهــودية، إذ أصبـح المعيـار السـائد المقـبول في كل ما يتعـلق بحيــاة اليهــود وأعمـالهم ونشـاطهم الفكــري. حتى أننـا حينـما نتحدث عن «اليهودية» بعد ذلك التاريخ، فإننا في واقع الأمر نتحدث عن «اليهودية الحاخـامية»،أي «التلمـودية». وقد اسـتُـخدم التلمود حتـى نهــاية القـرن التاسـع عشر أساساً للتربية بين أعضاء الجماعات اليهودية، فكان الدارسون في كثير من الجماعات اليهودية في الغرب يستذكرونه سبع ساعات يومياً طوال سبع سنوات.

والتلمود سجل المحاولات التي بذلها حاخامات اليهود لتفسير العهد القديم بما يتناسب مع وضع اليهود باعتبارهم جماعات منتشرة في العالم وليس باعتبارهم شعباً مستقراً في أرضه له عاصمته وهيكله وديانته المرتبطة بالأرض والعاصمة والهيكل. وهو أيضاً تعبير عن محاولة اليهودية الحاخامية (التلمودية) عزل جماهير اليهود عن بقية الشعوب، وخصوصاً بعد ظهور المسيحية التي اتخذت من العهد القديم كتاباً مقدَّساً، وأكملته وعدلته بالعهد الجديد. والآلية الكبرى لتعميق العزلة هي تغليب الطبقة الحلولية داخل التركيب الجيولوجي اليهودي على غيرها من الطبقات والنزعات بحيث يحل الإله في الشعب ويملؤه قداسةً تعزله عن العالم المدنَّس العادي حوله، وهذه الانعزالية مسألة عادية في معظم المجتمعات الوثنية وفي كثير من المجتمعات التقليدية التي كانت تشجع الفصل بين الطبقات والجماعات الدينية وتسهل عملية إدارة شئونها. بل تُعَدُّ مسألة حيوية وأساسية بالنسبة للجماعات الوظيفية المالية وهو الدور الذي اضطلعت به معظم الجماعات اليهودية في العالم حتى بدايات القرن التاسع عشر. فبدون الانعزالية، لم يكن بإمكان أعضاء الجماعات الوظيفية الاحتفاظ بحيادهم وتعاقديتهم وموضوعيتهم وهي أمور لازمة وأساسية للقيام بالأعمال المالية في المجتمعات التقليدية. ولكن هذه الانعزالية، في حالة الجماعات اليهودية، شأنها في هذا شأن أية جماعة وظيفية أو أقلية تُوجَد في الوضع نفسه، كانت تأخذ في الغالب شكل التعالي على الناس. وقد تعمقت الانعزالية حتى أصبح التعارض بين اليهود وغير اليهود (الأغيار) من المقولات الأساسية في التلمود وفي غيره من الكتابات الفقهية اليهودية.

والحلولية تيار مهم في العهد القديم، ولكنها تضخمت واتسعت في التلمود بحيث يمكننا اعتبار التصور التلمودي للإله يشكل نكسة للفكر التوحيدي وللرؤية التي طرحها الأنبياء في العهد القديم. فالتلمود يخلع العديد من الصفات الإنسانية واليهودية على الإله. والعصمة ليست من صفاته، فهو يكون مشغولاً خلال اثنتى عشرة ساعة يومياً: يقرأ التوراة في الساعات الثلاث الأولى، ويحكم العالم في الثلاث التالية، ويفكر في إفناء العالم، ثم يترك كرسي القضاء إلى كرسي الرحمة، ويجلس في الساعـات الثـلاث التالية يرزق العـالم كلـه من أكبر الحيوانات إلى أصغرها. وفي الثلاث الأخيرة، يلعب مع التنين أو الحوت. والإله، في التلمود، متعصب بشكل كامل لشعبه المختار، ولذا فهو يعبِّر عن ندمه على تركه اليهود في حالة تعاسة وشقاء حتى أنه يلطم ويبكي. ومنذ أن أمر بهدم الهيكل وهو في حالة حزن وندم، توقف عن اللعب مع التنين الذي كان يسليه، وأصبح يُمضي وقتاً طويلاً من الليل يزأر كالأسد. ولكنه في آخر الأيام، بعد إقامة المجتمع اليهودي الأمثل في العصر المشيحاني، في ظل الدولة المستعادة، يجلس على العرش يقهقه لانتصار شعبه، وعبثآً يتوافد الوثنيون طالبين قبولهم. ويتبدَّى التعصب الإلهي في أنه حينما يأتي الماشيَّح سيصبح كل الناس عبيداً لجماعة يسرائيل.

وتظهر الحلولية والانعزالية في تلك القداسة التي تحيط بالتلمود. وهو في الواقع ـ كما أسلفنا ـ مجرد تفسير للعهد القديم وضعه الحاخامات، إلا أنه، مثله مثل كل كتب التفسير اليهودية، يكتسب قداسة خاصة. وقد سيطرت أسطورة الشريعة الشفوية على الوجدان اليهودي سيطرة تامة بعد ظهور المسيحية، فكان يُنظر إلى التلمود في بداية الأمر باعتبار أنه يأتي في المرتبة الثانية بعد التوراة، ولكنه أصبح بعد حين يُلقَّب بالتوراة الشفوية، أي صار مساوياً لتوراة موسى في المرتبة، ولم يَعُد في وسع أي يهودي مخالفته. وأخذت درجة قداسته في الازدياد والاتساع حتى أصبح أكثر قداسة من التوراة نفسها. وقد قال أحد الحاخامات: «يا بني كن حريصاً على مراعاة أقوال الكتبة [أي الحاخامات واضعي التلمود] أكثر من حرصك على أقوال التوراة، لأن أحكام التوراة تحوي الأوامر والنواهي. أما شرائع الكتبة، فإن من ينتهك واحـدة منها يجلب على نفسه عقوبة الإله». وقـد جـاء أيضاً أنه: «لا خلاص لمن ترك التلمود واشتغل بالتوراة لأن أقوال علماء التلمود أفضل مما جاء في شريعة موسى، وهي أفضل من أقوال الأنبياء».

وفي معرض تقديس التلمود والإيمان المطلق بكل ما دوَّنه الحاخامات فيه، ورد في التلمود أن خلافاً ما قد وقع بين الإله وعلماء اليهود حول أمر ما. وبعد أن طال الجدل،تقرَّر إحالة الأمر موضع الخلاف إلى أحد الحاخامات الذي حكم بخطأ الإله الذي اضطر إلى الاعتراف بخطئه. وفي هذا المقام أيضاً، ردد بعض الحاخامات أن الإله يستشير الحاخامات على الأرض إذا صادفته مسألة معضلة يتعذر عليه حلها في السماء. وهكذا اختل التوازن الحلولي، كما هو الحال دائماً، لصالح المخلوقات من الحاخامات على حساب الإله.

ويظهر ارتباط الانعزالية بالحلولية في فكرة الاختيار، فقد جاء في التلمود أن الإله اختار اليهود لأنهم اختاروه، وهي عبارة تفترض المساواة بين الإله والشعب. (كان يرددها بن جوريون برضا شديد، وهي تشكل أساس فلسفة بوبر الحوارية، ونقطة انطلاق لكثير من النزعات الحلولية المعاصرة في اليهودية ولصهيونية جوش إيمونيم الحلولية).

وتساءل كُتَّاب التلمود عن سبب تشبيه اليهود بشجرة الزيتون، وترد الإجابات التالية:

1 ـ لأن شجرة الزيتون لا تفقد أوراقها، كما أن كل اليهود لن يضيعوا في هذا العالم أو العالم الآتي.

2 ـ وكما أن الزيتون لا ينتج زيتاً إلا بعد العصر والضغط عليه، فإن أعضاء جماعة يسرائيل لن يعودوا كذلك إلى جادة الصواب إلا بعد الآلام والعذاب.

3 ـ شُبِّه اليهود بحبة الزيتون لأن زيت الزيتون لا يمكن خلطه مع المواد الأخرى. وكذلك جماعة يسرائيل، لا يمكن أن تختلط مع الشعوب الأخرى. ويدَّعي التلمود أن روح الإله من روح الشعب كما أن الابن جزء من أمه، ولذا فمن يعتدي على يهودي فهو كمن يعتدي على العزة الإلهية، ومن يعادي جماعة يسرائيل أو يكرهها فإنه يعادي الإله ويكرهه، وخصوصاً إذا عرفنا أن الإله كان يقطن بينهم حينما كانوا في أرض الميعاد، وأن الشخيناه (التعبير الأنثوي عن الإله) بقيت معهم حينما نُفوا خارجها إذ أن موسى طلب ذلك من الإله.

وكان الاختيار في بادئ الأمر تلقائياً نابعاً من رحمة الإله وإرادته الإلهية، ولكن اليهود ـ حسب الرؤية التلمودية الحلولية ـ بينوا أنهم جديرون بهذا الاختيار. ولذا، تحوَّل الاختيار من مجرد منحة من الإله إلى حق من حقوقهم مُلزم له وإلى دين عليه أن يؤديه حتى لو ضلوا الطريق. وقد جاء في التلمود على لسان الإله: «لن أعامل جماعةيسرائيل كالأمم الأخرى، حتى وإن لم تعمل حسنات إلا قليلاً تافهاً كروث الدجاج المتناثر في الحظيرة، فسأجمع هذه الحسنات ليكون لها حسنات كثيرة». وهكذا اختلالتوازن الحلولي لصالح اليهود مرة أخرى، وإن كان هناك رأي تلمودي مغاير يرى أن الاختيار تكليف إلهي وعبء مُلقى على كاهل اليهود عليهم أن يضطلعوا به. والتوراة هي ميراث الشعب المختار وحده، ومن يدرسها من الأغيار يستحق الموت (ولكن ثمة رأياً تلمودياً مغايراً يرى أن الوثني الذي يدرس التوراة هو في منزلة الكاهنالأعظم).

هذه النزعة الانعزالية المتعالية توجد في معظم صفحات التلمود المليء بالأحكام الموجهة ضد غير اليهود (وخصوصاً سفر عفوده زاره أو عبادة الأوثان)، فلن يدخل الجنة سوى اليهود. وقد خلق الإله الأغيار على هيئة الإنسان لكي يكونوا لائقين بخدمة اليهود الذين خُـلقت الدنيا من أجلهم، إذ ليس من الملائم أن يقوم حيوان على خدمة الأمير، وهو على صورته الحيوانية. ولا يُعتدُّ بشهادة غير اليهودي أمام المحاكم إلا في حالات قليلة. وإذا وقع أذى بشخص، فمن المهم جداً تحديد هل هذا الشخص يهودي أم لا، بل إن هذا التمييز يسري أيضاً في المعاملات التجارية. وفي مسائل الطهارة، يعتبر الأغيار أنجاساً في حياتهم. ولكن مقابرهم، باعتبار أنها غير مقدَّسة، لا تنجس الكهنة. والعكس صحيح بالنسبة إلى اليهود، فهم طاهرون في حياتهم وقبورهم مصدر نجاسة أساسي للكهنة اليهود.

ويتناسى التلمود الفرق بين الأخيار والأشرار من الأغيار، رغم أنه تمييز أساسي في العقيدة اليهودية نفسها. بل إن التلمود يطلب أحياناً إلى اليهود أن يسـتخدموا مقياسـين أخلاقيين: أحدهما للتعامل مع اليهود، والآخر للتعامل مع غير اليهود (انظر: بابا متسيعا 95 أ، وبابا قما 113 أ). وقد جاء في التلمود أنه لا يصح أن يباع لليهودي الشيء الذي يحتمل فساده إن تُرك، ولكنه من الممكن أن يُباع لغير اليهودي، كما يُحرَّم على الطبيب اليهودي أن يعالج مريضاً غير يهودي (إلا لدرء أذى الأغيار).

ولأن التلمود يرى أن اليهود وحدهم يجسدون روح الإله، لذا نجده لا يرحب بالمتهوِّدين. وقد ورد فيه «إن المتهوِّدين مثل القذى في عين جماعة يسرائيل» وهو موقف لا يزال يسيطر على المؤسسة الأرثوذكسية وريثة التراث التلمودي في إسرائيل. وكان اليهودي يشكر إلهه على أن مكانه «بين أولئك الذين يجلسون في بيت الدراسة والمعبد [أي اليهود] ولم تجعل مكاني بين أولئك الذين يذهبون إلى المسارح والسيرك [أي غير اليهود]». وحتى حينما كان بعض المفسرين ينصحون اليهود بعدم الكذب على الأغيار، فإنهم يصرون على ضرورة عدم الاحتكاك بهم، أو الدخول معهم في علاقة. وقد قال أحد الشارحين في القرن السابع عشر في بولندا إن من الواضح أن التوراة تأمر اليهود بأن يحتفظـوا بالكراهـية بينهـم وبين الأغيـار حتى يبعدوا خطر الزواج المُختلَط. ولذا، فلا يمكن السماح بتلك الأفعال التي قد تقلل الكره بين اليهود والأغيار. وتصل النزعة المتعالية ذروتها في عبارة: «اقتل أفضل الأغيار، اسحق رأس أنبل الأفاعي». وقد اقتبس أحد كتيبات الحاخامية العسكرية الإسرائيلية هذه العبارة التلمودية التي أثارت ضجة داخل إسرائيل وتصدَّى لها بعض القادة الدينيين ووصفوها بأنها تشويه للعقيدة اليهودية.

فالحلولية إذن هي الإطار الفلسفي، والانعزالية والتعالي الإثنيين هما الترجمة العملية لها. ولكن التلمود كتاب جيولوجي ضخم يضم موضوعات شتى وتراكمت فيه رؤى وآراء مختلفة، فكل العقائد اليهودية المعروفة قد دُوِّنت وصُنِّفت فيه، بشكل واضح أحياناً، وبشكل غامض مشوش أحياناً أخرى. كما يضم التلمود أيضاً موضوعات وطرائف لا تنضوي بالضرورة داخل إطار فلسفي واضح، أو رؤية دينية محددة، فهو يتحول أحياناً إلى مجرد وثيقة اجتماعية لا توجه الواقع وإنما تعكسه وحسب. فصفحات التلمود تعكس وضع اليهود الاقتصادي كجماعة وظيفية تعمل بالتجارة. ولذلك، كان على اليهودي، حسب التقاليد التلمودية، أن يتلو ثلاث تسبيحات شكر كل يوم لأن الإله خلقه يهودياً، ولأنه لم يخلقه امرأة ولم يخلقه فلاحاً. وقد جاء أنه «لا يوجد عمل أكثر امتهاناً من فلاحة الأرض». ومع هذا، هناك أقسام طويلة في التلمود عن الزراعة وقوانينها وأفضالها. ومن أهم أنواع التجارة التي مارسها أعضاء الجماعات اليهودية تجارة الرقيق. ولذا، فإننا نجد أن التلمود نظم عملية امتلاك عبد من الأغيار. فهو يُمتلَك بالشراء أو بالصك أو بالخدمة الفعلية. ويوجد في التلمود صيغة لاستمارة يتم ملؤها للحصول على عبد تقول: «هذا العبد تم استعباده بصورة قانونية وليس له أي حق من حقوق الأجراء، وليست له مطالب يقدمها للملك أو الملكة. وليست به أية علامة إنسانية، وهو خال من أية عيوب جسدية ومن أية علامة في الجلد تدل على إصابته بالبرص سواء حديثاً أم في الماضي». وكانت طبقة العبيد مُحتَقرة كما كان يسود الاعتقاد بأنهم كسالى: «هناك عشرة مقاييس من النوم نزلت إلى العالم، فأخذ العبيد تسعة منها وأخذ بقية الناس الواحد المتبقي». ولا يتمتع العبد بثقة كاتبي التلمود، فهو لا يُعَدُّ إنساناً، ولذا فليس بإمكان اليهودي أن يصلي معه أو أن يصلي عليه أو يسير في جنازته.

ولا يقتصر التلمود على حياة اليهود العامة، وإنما يمتد ليشمل أخص خصوصياتهم. فهو يتناول، ضمن ما يتناول، كل دقائق إعداد الطعام وتناوله والعلاقات الخاصة بين الرجل وزوجته والطمث. وينبعث من صفحات التلمود احتقار عميق للمرأة، وقد كتب أحدهم يقول: «هناك أربع خصائص للنساء: فهن شرهات، ومتصنتات وكسولات وغيورات، وهن أيضاً كثيرات الشكوى وثرثارات». وقد أفاض التلمود بشأن الصفة الأخيرة: "نزلت إلى العالم عشرة مقاييس للكلام، أخذت النساء تسعة منها وأخذ الرجال واحداً".

والتلمود كتاب طبي أيضاً. ولذا، فإننا نجد فيه وصفات طبية عديدة، فهو ينصح بضرورة التعرض للماء البارد بعد حمام ساخن. كما نجد في التلمود شرحاً لأسباب الإمساك وطريقة معالجته. وينصح التلمود أيضاً بأن من: «يطيل البقاء في المرحاض، يطيل الرب أيامه وسنيه». وهناك صلاة شكر تُتلى بعد تلبية نداء الطبيعة.

وعلاوة على كل هذا، يمكن اعتبار التلمود كتاب فولكلور يعكس شتى الممارسات والآراء الخرافية التي كانت سائدة في مكان نشأته، سواء في بابل أو في الأماكن الأخرى التي عاش فيها الشارحون. ولأن كُتَّاب التلمود يدورون في نطاق حلولي، فإننا نجدهم يؤمنون بإمكانية التحكم الكامل والتوصل للحل السحري (الغنوصي) وبفاعليةالعلاجات العجائبية والعقاقير الشيطانية والسحر والرقى والتعاويذ. والتلمود أيضا كتاب تنجيم وسحر وتفسير أحلام. ومما يُذكَر فيه أن قارئه الراغب في رؤية العفاريترؤية العين يمكنه ذلك باتباع خطوات تم تحديدها بدقة متناهية، وإن أراد طرد العفاريت فصفحاته تضم تعاويذ تفي بذلك الغرض. وتصل الحلولية إلى ذروتها (أو هوتها) حين يؤكد التلمود أن الحاخامات كانوا قادرين على الخلق، فقد ذكر أن حاخاماً خلق مرة إنساناً بأن نطق اسم الإله الأعظم وأرسله إلى الحاخام زعيرا الذي تحدَّث إليه، ولكنه لم يستطع أن يجيب، فتعجب الحاخام قائلاً: «أنت مخلوق بفعل السحر، ارجع إلى التراب».

وقد أثر التلمود، بما احتوى من نظرة حلولية انعزالية، في كثير من أجزائه، في الفكر الصهيوني، حيث وجد المفكرون الصهاينة ما يدعم اتجاهاتهم. فقد جاء في سفر «عفوده زاره» على سبيل المثال لا الحصـر: «ينبغي ألا تُؤجَّر البيوت لغير اليهود في أرض يسرائيل، ناهيك عن الحقول». وهذه إحدى القواعد الأساسية للصندوقالقومي اليهودي. كما أن الصهاينة يقتبسـون من التلمـود عبارات مثل: «من يقيم خارج أرض يسرائيل هو مثل إنسان بدون إله» (كتوبوت 110ب).

ولكن نظراً لخاصية التلمود الجيولوجية، فإننا نجد أنه يرد فيه عكس هذه الأفكار تماماً، فقد قال الحاخام يهودا: "من يصعد من بابل إلى أرض يسرائيل، فقد انتهك إحدى الوصايا الإلهية". ويستشهد بسفر إرميا (27/22)، ثم يقول: "مثلما أنه ممنوع مغادرة أرض يسرائيل إلى بابل، فمن الممنوع أيضاً مغادرة بابل إلى غيرها من البلدان"، ثم يستطرد قائلاً: "إن من يعيش في بابل كأنه مقيم في أرض يسرائيل" (كتوبوت 111أ). كما توجد في التلمود أيضاً أفكار متناقضة عن العصر المشيحاني، بعضها ذو نكهة صهيونية انعزالية والبعض الآخر معاد لها وله نزعة اندماجية عالمية.

وتجد التوسعية الصهيونية تبريراً لها في الصورة التي يرسمها التلمود لحدود الأرض في المستقبل، فهي سوف تمتد وتصعد في جميع الجهات، ومن المقدر لأبواب القدس أن تصل إلى دمشق، وسوف يأتي المنفيون لينصبوا خيامهم في الوسط. وقد جاء أيضاً: "إن فلسطين تُدعى أرض الظبي، فكما أن جلد الظبي يعجز عن استيعاب لحمه وجسمه، كذلك هي أرض يسرائيل: عندما تكون مأهولة تجد لنفسها متسعاً، لكنها تتقلص متى كانت غير مأهولة". فحدود هذه الأرض متغيرة، وتزداد بازدياد المستوطنين اليهود فيها. ولا يختلف هذا القول كثيراً عن موقف تيودور هرتزل من الحدود حين بيَّن أن ما سيقرر حدود الدولة هو مدى حاجة الصهاينة: "كلما ازداد عدد المهاجرين ازدادت حاجتنا إلى الأرض".

ورغم أن ثمة عناصر صهيونية في التلمود، إلا أنه لا يمكن القول بأنه تسبَّب في ظهور الصهيونية. فالصهيونية حركة سياسية تهدف إلى استعمار فلسطين عن طريق توطين عنصر سكاني غريب فيها، وتعود جذورها أساساً إلى الفكر الألفي الاسترجاعي البروتستانتي وإلى وضع اليهود داخل الحضارة الغربية كجماعة وظيفية وإلى الإمبريالية الغربية. كما أن المؤسسة الحاخامية التلمودية ذات العلاقة الوثيقة بأثرياء اليهود في كل أنحاء العالم، والتي امتزجت مصالحها بمصالحهم بحيث أصبح الفريقان يشكلان النخبة القائدة، كانت تقف ضد فكرة العودة المشيحانية لأن مصالح هذه النخبة (ومصالح الجماعة الوظيفية ككل) كانت مرتبطة تمام الارتباط بمجتمعاتها المختلفة ومتجذرة فيها، ومن هنا كان حرصها على تأسيس حلقات ومدارس تلمودية (أكاديميات ـ يشيفات) تعمل على تخريج حاخامات ملمين بالأوضاع المحلية الخاصة، قادرين على إصدار الفتاوى الملائمة التي تفسر الأوضاع الجديدة وتتكيف معها. وبعد التهجير البابلي، استقلت الحلقات التلمودية في بابل، وحينما ظهرت حضارة الأندلس حرص أثرياء الجماعة اليهودية هناك على استقلال الحلقات فيها. وقد استقل يهود الغرب الإشكناز بحاخاماتهم ومدارسهم التلمودية. ولم يكن من مصلحة هؤلاء الأثرياء العـودة إلى فلسـطين، بل كانت مصلحتهم في البقاء في المنـفى. ومن هنا، يتواتر الحديث في التلمود عن أن "شريعة الدولة هي شريعتنا"، وعن ضرورة انتظار الماشيَّح في صبر وأناة حتى يأذن الإله. ومن هنا أيضاً، وقفت المؤسسة الحاخامية التلمودية ضد النزعات المشيحانية الصهيونية التي كانت أسـاساً نزعـات شـعبية تعبِّر عن بؤس فـقراء اليهود، وعدم إدراكهم للعلاقات الدولية أو لطبيعة البؤس الواقع عليهم. وقد ظلت هذه المؤسسة واقفة بقوة ضد كل المشحاء الدجالين تستعدي عليهم السلطات وتجند فقهاءها لإثبات كذبهم كما فعل الحاخام نحميا مع شبتاي تسفي. كما كانت تُكفِّر كل من كان يفكر في العودة وتُوجِّه إليه تهمة أنه ارتكب جريمة التعجيل بالنهاية (دحيكات هاكتس). ويُلاحَظ أن ظهور الصهيونية الحديثة مرتبط بتآكل المؤسسة الحاخامية التلمودية وبانهيار نفوذ التلمود تماماً. وحينما نشر هرتزل كتيب دولة اليهود، عارضه كبار الحاخـامات جميـعاً، وبالذات الأرثوذكـس (التلموديون). ولذا، فإن التلمود، على مستوى من المستويات، كان مسئولاً إلى حدٍّ ما عن تخفيف حدة النزعة المشيحانية في اليهودية، وبالتالي نجح في صد الصهيونية.

وقد تقصَّى الدكتور أسعد رزوق موقف التلمود من العرب، فوجد أنه (في بعض نواحيه) تعبير عن الانعزالية المتعالية نفسها. وقد جاء في سفر سوكاه (52 ب) أن الإله ندم على خلقه أربعة أشياء: المنفى، والكلدانيين، والإسماعيليين (أي العرب)، ونزعة الشر. وينسب التلمود إلى العرب أعمال السحر، فقد جاء في سفر سنهدرين (67ب) أن عربياً امتشق السيف وقطع به الناقة، ثم قرع جرساً فنهضت دون وجود آثار عليها. والعرب، حسبما جاء في التلمود، خبراء في الطب، وخصوصاً الطب الشعبي. ويرد في التلمود العديد من القصص الطريفة والأعاجيب عن العرب. وهناك قصص ليست في صالح راويها الحاخامي إذ أن بعضها يدل على خبرة العرب وبراعتهم واحترامهم موتى اليهود أكثر من احترام الحاخام إياهم. وأخيراً، فقد جاء في سفر السبت (11 أ) القول التالي: "لا بأس من الخضوع لحكم واحد من أبناء إسماعيل بدلاً من حكم الغريب [أي الأدومي]". وبحسب ما جاء في حاشية الشارح، فإن المقصود بذلك هو تفضيل الحكم العربي على البيزنطي، وهو ما يشكل أساساً تلمودياً للمصالحة مع العرب بل قبولهم حكاماً!

هذه بعض الأفكار والموضوعات الأساسية في التلمود. ويجب أن نقرر مع جيمس باركس، وهو مؤرخ غير يهودي متعاطف مع اليهودية، قوله: «إنه لم يكن من الصعب أن يقتبس أي دارس للتلمود، وبيسر شديد، كثيراً من الآراء والمشاعر التافهة والمضحكة بل الكريهة، وبوسعه أن يفعل ذلك دون أن يخطئ في الاستشهاد أو يزيف السياق، إذ أن مثل هذه النصوص توجد في الأدب الحاخامي [الجيولوجي] الضخم وغير المترابط». ونحن إذا وافقناه على رأيه هذا، فلن نحيد عن طريق الصواب، فهذا أيضاً هو رأي الحاخام جيكوب آجوس أحد أهم مؤرخي اليهودية.

وهذا هو أيضاً رأي المؤلف اليهودي الصهيوني برنارد لازار، الذي وصف التلمود بأنه "كتاب ضد المجتمع". وقد لعب دوراً حاسماً في تحويل اليهود إلى شعب واحد، فهوالذي صنع النفس اليهودية وصاغ خصائصها، وهو "خالق الجنس أو صانع العنصر اليهودي"، و"هو الذي علَّم اليهود الاستعلاء والتفوق المليء بعصبية ضيقة وضارية". ولعل مثل هذه الآراء، التي تفسر سلوك اليهود في إطار بعض ما جاء في التلمود، هي المسئولة عن موقف المعادين لليهود الذين يجعلون كل يهودي في كل زمان ومكان مسئولاً عما ورد فيه من آراء متعصبة. ومثل هذا الرأي ينم عن عدم إدراك لطبيعة التلمود أو طبيعة علاقة اليهودية به. فالتلمود ليس كلاًّ متجانساً، كما أن اليهود ليسوا على معرفة بما جاء فيه ككل، وهو لا يحدِّد سلوك اليهود كافة في كل زمان ومكان. والواقع أن من يحوِّل التلمود إلى نموذج تفسيري لسلوك اليهود أو أعضاء الجماعات اليهودية (كما يفعل كثير من الدارسين)، يكون قد حكم على نفسه بالانفصال عن الواقع والفشل الذريع في التنبؤ.

ســــــمات التلــــــمود الأساســـــية

Essential Characteristics of the Talmud

حينما يتم تناول أي نص أياً كانت قداسته، لابد أن يؤخذ في الاعتبار سياقه التاريخي، فلا يمكن فهم ما جاء في العهدين القديم والجديد إلا بفهم الوضع في فلسطين منذ التسلل العبراني في كنعان حتى ظهور المسيح، ولا يمكن فهم ما يقوله المسيح (رغم أهميته الدينية والأخلاقية المطلقة) إلا بإدراك الأبعاد التاريخية في أقواله. فالمطلق رغم مطلقيته، لابد أن يتبدَّى من خلال النسبي (في لحظات) إذ أن الإنسان الذي يعيش في التاريخ لا يمكنه أن يدرك المطلق إلا من خلال النسبي. ورؤية المطلق في علاقته بالنسبي، والإلهي في علاقته بالتاريخي، لا تعني بالضرورة أن يُردَّ الأول برمته إلى الثاني، وإنما تعني أن الثاني هو المجال الذي يتبدى من خلال الأول. وإذا كان هذا ينطبق على الكتب الدينية (المقدَّسة)، فهو لا شك ينطبق بشكل أكبر على كتب الشروح والتفسير، مهما خلعت على نفسها من قداسة وإطلاق. والتلمود هو، في نهاية الأمر، كتاب تفسير وضعته القيادة الدينية لأقليات متناثرة كانت تعيش في قلق وخوف وإحساس بالخطر المحدق بها (الحقيقي والوهمي) في عصور لم يكن يُعترَف فيها بحقوق أعضاء المجتمع، ناهيك عن حقوق أعضاء الأقليات، تلك الأقليات التي كانت تلعب دور الجماعة الوظيفية المرتبطة بالطبقة الحاكمة، ولكنها كانت غير محبوبة منها، كما كانت قريبة من الطبقات الشعبية ولكنها مكروهة منها. لقد كانت هذه الجماعة تعيش، إذن، في عزلة عن الجميع (وكان التلمود من أهم وسائل هذا العزل). وقد نتج عن هذا الوضع إحساس زائد بالذات، ولذا فَقَد أعضاء الجماعات اليهودية وقياداتهم قدراً كبيراً من علاقتهم بالواقع وانفصل فكرهم عنه، وأصبح التلمود مجالاً للتعويض عما يلاقونه من اضطهاد، فتحوَّل التلمود إلى صياغـات لفظية يمارسـون من خـلالها الانتقام من أعدائهم، عن طريق الحط من شأنهم وإظهار التفوق اليهودي، وخصوصاً في آخر الأيام بعد عودة الماشيَّح حيث يبطشون ويبطش ربهم بكل أعدائهم. وقد كان شراح التلمود ينغمسون في هذه التهويمات اللفظية في الوقت الذي كانوا يعانون فيه صنوف العذاب ويُعامَلون معاملة الحيوان في بعض الأحيان. ومما له دلالته العميقة أن التلمود البابلي أكثر تسامحاً تجاه الأغيار من التلمود الفلسطيني، نظراً لأن وضع أعضاء الجماعة اليهودية في بابل كان أفضل من وضع أعضاء الجماعة في فلسطين، الأمر الذي صعَّد حدة العمليـة الانتقاميـة التعويضية في فلسطين وخفف من حدتها في بابل. والتلمود كان يُكتَب بلغة أو لغات ميتة لا تفهمها الشعوب التي كان اليهود يعيشون بين ظهرانيها، كما أن عدم وجود الطباعة ووسائل النشر ذات الإمكانيات العالية كان يجعل الحصول على نسخة من التلمود مسألة صعبة، فتحوَّل التلمود إلى جيتو لفظي يمارس فيه اليهودي حريته الوهمية كاملة!

وقد بدأت عملية التفسير والتعليق على العهد القديم حين كان اليهود يعيشون في وسط حلولي وثني مشرك، الأمر الذي جعل نبرة الفتاوى والشروح الحاخامية الأولى بشأن الأغيار حادة رافضة، وهي حدة تعود إلى العهد القديم نفسه حين وجد اليهود أنفسهم مكروهين يعيشون بين شعوب وثنية (كنعانيين ثم بابليين وفرس وهيلينيين ورومان) وتحت هيمنتها أحياناً، ويشكل التعامل معهم خطراً على الدين التوحيدي الجديد. ومن هنا جاءت النظرة المتطرفة إلى الأغيار، والتي تُسوِّغ الاستيلاء على أملاك الوثنيين وتستنكر تقديم أيِّ نوع من المساعدة إلى عبدة الأصنام. ورغم أن المجتمعات التي كان يعيش فيها أعضاء الجماعات قد تغيَّرت بعد أن تبنت ديانات سماوية توحيدية، فإننا نجد أن اليهودية وقد تحولت إلى عقيدة أقلية، مهددة، تود الحفاظ على هويتها، وتبنت رؤية حلولية متعالية للذات مقابل الآخر. وحدث الخلط بين عبدة الأوثان والمسيحيين، كما يظهر في إشكالية العكوم، فقد وُجِّه إلى التلمود اتهام بأن كلمة «عكوم» الواردة فيه ليست في حقيقتها اختصاراً للعبارة العبرية «عوفيد كوخانيم أومزالوت»، أي «عابد الكواكب وأبراج النجوم»، وإنما اختصار لعبارة «عبودت كريستوس وميريام»، أي «عبدة المسيح ومريم»، أي «المسيحيين». والمسألة موضع نقاش ونظر ولكنها تبين طبيعة الخلط.

ويتكون التلمود من نص، وشرح، وتعليق، وتعليق على التعليق، وإضافات شتى. وقد استمرت عملية وضعه مئات الأعوام في أزمنة وأمكنة مختلفة، ربما ابتداءً من التهجير إلى بابل حتى تم الانتهاء من تدوينه وإضافة التعليقات في القرن الثاني الميـلادي. واستمرت التعليقات حتى نهاية القرن التاسع عشر، أي أن كتابته استمرت عبر التاريخ واشترك فيها ما يزيد على ألف حاخام. فهو يتكون، إذن، من تراكم مستويات على مستويات أخرى دون أن تتفاعل معها بالضرورة مثل تراكم الطبقات الجيولوجية. ولذا، يمكننا أن نقول إن التلمود ليس الثمرة النهائية للتفكير بقدر ما هو عملية التفكير نفسها، ولكنه على أية حال ليس تفكيراً يتسم بحد أدنى من الوحدة، بل ينبع من حركيات اجتماعية وثقافية واقتصادية مختلفة ويتأثر بها. واستمرت عملية التراكم هذه دون حذف الأفكار الانعزالية الكريهة التي عبر عنها بعض الحاخامات بغير رقابة ذاتية أو خارجية عليها. وقد عمَّق هذا الاتجاه تلك القداسة التي خلعها التلمود على نفسه. وقد أدَّى هذا إلى أن عملية التحرير، والتغيير والتعـديل، أصبحـت أمراً مسـتحيلاً لا يمكـن حتى التفكير فيه، فالنص المقدَّس لا يصح تعديله أو الخوض فيه أو تبديله.

ومع هذا، فقد جرت محاولة لإعادة صياغة التلمود تهدف إلى تضييق المجال الدلالي لبعض الكلمات، بحيث تحل الكلمة المحددة محل الكلمة العامة حتى لا ينطبق ما جاء فيه من آراء وأحكام على كل الناس في كل زمان ومكان، وبحيث يضيق المجال الدلالي لكلمة مثل «الأغيار» وتحل محلها كلمة «الكنعانيين»، أو «البابليين».

ولكل ما تقدَّم، لا يتسم التلمود بالاتساق الداخلي، إذ يحوي داخله العديد من الأفكار والأطر الفلسفية المتناقضة. فثمة تعارض بين العقل والطبقة التوحيدية من جهة والنزعةالحلولية من جهة أخرى، وهناك الاهتمام المفرط بالطقوس مقابل الاهتمام بالتجربة الدينية الداخلية. وهناك من النصوص ما يؤيد هذا الموقف أو ذاك. وقد أشرنا أثناءعرضنا بعض أفكار التلمود الأساسية إلى أفكار مثل الشعب المختار وضرورة العودة إلى أرض الميعاد، بل إلى أفكار أكثر تطرفاً تحمل الضغينة والكراهية نحو الآخرين. وقد أشرنا إلى أن التلمود يضم أيضاً أفكاراً متناقضة جداً تتصل بهذه الأفكار المحورية نفسها. ويقتصر المعادون لليهود عادةً على اقتباس الأفكار السلبية الحلولية الانعزالية والمتعالية وحدها متجاهلين الأفكار الإنسانية. وحتى نبين مدى عمق ذلك التناقض، يمكننا أن نقتبس من التلمود بعض النصوص ذات البعد الإنساني العميق التي تتجاوز الانعزالية والحلولية. وسيُلاحَظ على سبيل المثال أن الاختيار يكتسب أبعاداً دينية عالمية، إذ أن الإله سينزل العقاب باليهود: "إن لم يتحدثوا عن قداسته للعالمين". فقد نُفيت جماعة يسرائيل وشُتِّتَتْ بهدف واحد هو "الدعوة لليهودية وكسب المتهودين" (بساحيم 87ب). وهذه النزعة التبشيرية، التي تحدد اليهودية باعتبارها عقيدة لا باعتبارها ميراثاً عرْقياً وإثنياً، تفترض تساوي البشر وتتجاوز الحلولية التي ترى أن الإله محصور بين اليهود مقصور عليهم، وقد تبنت اليهودية الإصلاحية هذا الموقف من عملية التهويد.

وتصل الإنسانية قمتها في ذلك النص الذي جاء فيه أن الروح القدس تستقر على الجميع، اليهودي وغير اليهودي، الرجل أو المرأة، العبد والجواري، كل امرئ "حسب أفعاله". كما جاء في جطين (616) أن أحـد الحاخـامات أوصى بإطـعام فـقراء الأغيـار مع فـقراء اليهـود، "وبزيارة مرضاهم مثلما نزور مرضانا، وأن يُدفَن موتاهم مع موتانا حتى ندعم سبل السلام".

ومن الأمور الأخرى التي تُعاب على التلمود، باعتباره أحد الكتب الدينية، أنه يتناول من الموضوعات ما قد يرى البعض، استناداً إلى تجربتهم الدينية، أنها لا علاقة له بالدين مثل الطب وطريقة شراء العبيد. ولكن ما هو مقدَّس لا يوجد بمعزل عما هو دنيوي. كما أن كل نمـوذج ديني يُعرِّف ما هـو ديني ومقدَّس وما هـو دنيوي بطريقتـه الخاصة. وقد اتسع نطاق القداسة في اليهودية بسبب الطبقة الحلولية داخلها ليضم كثيراً من مناحي الحياة. فالأوامر والنواهي (متسفوت) والبالغ عـددها 613 تغـطي تقـريباً كل كبيرة وصغيرة في حياة اليهودي. كما أن التلمود ليس كتاباً دينياً وحسب، وإنما هو أيضاً كتاب فلكلور الجماعات اليهودية. والواقع أن تناقضاته الداخلية لا تنصرف إلىموضوعاته ومنطلقاته الدينية والفلسفية وحسب وإنما تنصرف أيضاً إلى نوعه أو جنسه الأدبي، فهو كتاب فقه وقصص وحكم وأمثال. وعلى قارئ التلمود ودارسه أن يفرق بين ما هو ديني وما هو شعبي.

وفي نهاية الأمر، لابد أن نشير إلى أن كثيراً من الأقوال والأحكام التي وردت في التلمود لا علاقة لها بأي واقع محدد، وإنما هي أحكام خاصة بالهيكل بعد تشييده، أو بدلائل آخر الأيام، وما سيحدث فيها فيما بعدها، الأمر الذي يجعل علاقتها واهية بالسلوك السياسي للأفراد والجماعات. كما أن قضية التفسير أساسية حينما نتناول أي نص ديني. ورغم أن التلمود هو نفسه تفسير، فإنه يخضع دائماً لعملية تفسير من قبل الحاخامات (وتنطوي عملية التفسير على انتقاء واختيار واسـتبعاد). ولما كان التلمـود كتاباً ضخـماً متناقضـاً، فهـو بالضـرورة «حمَّال أوجه»، ويمكن أن يُفسَّر بألف طريقة. وفي كثير من المختارات التي تَصدُر في العصر الحديث، يُلاحَظ أن محرريها يستبعدون العبارات الجارحة والأفكار الكريهة والمواقف العنصرية ويفسرون ما قد يرد منها تفسيراً يضفي عليها معاني إنسانية. وقد تهدف عملية الانتقاء والتفسير هذه إلى إخفاء الجوانب السلبية للتلمود، حتى لا تسبب حرجاً لليهود، ولكن الإحساس بالحرج نفسه يدل على الرغبة في الابتعاد عن المضمون الحلولي العنصري المتعالي.

التلمــود وأعضــاء الجماعــات اليهوديـــة

The Talmud and the Jewish Communities

يفترض المعادون لليهود الذين يهاجمون أعضاء الجماعات اليهودية بسبب ما جاء في التلمود، أن كل يهودي قد درس التلمود بعناية فائقة، وأنه يُخْضع كل حركاته وسكناته لما ورد فيه من تعاليم سلبية. لكن هذا تصوُّر ساذج وتبسيط آلي، فما يحدد سلوك فرد ما، يهودي أو غير يهودي، ليس كتبه الدينية ومُثُله العليا وحسب وإنما مركب هائل من الأسباب التاريخية (الاقتصادية والاجتماعية) التي تختلف باختلاف الزمان والمكان. ولا يمكن فهم سلوك العرب المحدثين في ضوء ما جاء في تراثهم الديني، أو في ضوء ميثاق جامعة الدول العربية، رغم أهمية كل ذلك في تحديد هذا السلوك. والواقع أن دراسة التلمود مسألة شاقة للغاية تتطلب معرفة بالقراءة والكتابة باللغتين العبرية والآرامية، وهما لغتان ساميتان يصعب على الإنسان غير المتخصص دراستهما في الوقت الحاضر. ولذا، لم يكن يقرأ التلمود سوى أعضاء النخبة المتعلمة التي كانت في المراكز الدينية. أما جماهير اليهود، فكانت لا تعرف ما جاء فيه لأنها لم تكن تملك المقومات الثقافية لذلك. بل إن صغار الحاخامات أنفسهم الذين وجدوا في القرى المتناثرة، أو أولئك البعيدين عن المدارس التلمودية العليا، لم يكونوا يعرفون ما جاء فيه.

وقد تكون علاقة أعضاء أكبر جماعة يهودية في العالم (أي يهود بولندا) في بدايات العصر الحديث بالتلمود مثلاً جيداً على طبيعة العلاقة بين اليهود وهذا المجلد الضخم (التلمود). فقد انتشر اليهود، في القرن السادس عشر، في الشتتلات التي شيدها النبلاء البولنديون (شلاختا) في أوكرانيا وغيرها، فعاشوا بجوار الفلاحين الأوكرانيين المسيحيين السلاف بعيداً عن مراكز الدراسات التلمودية، واكتسبوا عبر السنوات سمات الفلاحين الذين كانوا يعيشون بينهم ومنها فلكلورهم الشعبي وبعض معتقداتهم الدينية (والواقع أن التمييز بين معتقدات دين ومعتقدات دين آخر مسألة صعبة بعض الشيء على المستوى الشعبي، كما أن الديانات الشعبية تركيبات جيولوجية تتسم في معظمها بالحلولية). ولقد أدَّى هذا الوضع إلى انتشار الحركات المشيحانية والصوفية بين اليهود ابتداءً من القرن السابع عشر، وهي حركات شعبية يهودية كانت موجهة ضد المؤسسة الحاخامية التلمودية الأرستقراطية، وكانت تجد تربة خصبة في الأطراف (وخصوصاً في مقاطعة بودوليا) بعيداً عن سلطة المؤسسة. وفي التربة نفسها، ظهرت الحركة الفرانكية والحركة الحسيدية، وكلتاهما حركتان شعبيتان ترفضان سلطة التلمود. وقد كان الفرانكيون يطلقون على أنفسهم اسم «الزوهاريين» نسبة إلى كتاب الزوهار القبَّالي. وقد انضم إلى هذه الحركات أساساً صغار التجار والحرفيين وصغار الحاخامات الذين لم تكن لهم علاقة كبيرة بالمؤسسة التلمودية الأرستقراطية.

ومع تحديث أغلبية اليهود وعلمنتهم التدريجية داخل الحضارة الغربية، ومع انتقاد اليهودية الإصلاحية للتلمود ورفضها له، ضعفت العلاقة بين اليهود والتلمود حتى اختفت تماماً بالنسبة إلى الأغلبية العظمى. فالأمريكيون اليهود (اليهود الجدد) والإسرائيليون لا يعرفون ما جاء في التلمود، ويُصدَم كثير منهم حينما تُذكَر أمامهم بعض أقواله. ويبدو أن أهم مفكرين دينيين يهوديين في العصر الحديث، مارتن بوبر وفرانز روزنزفايج، لم يدرسا التلمود، وربما لم يقرآه كاملاً. وقد حصل بوبر على أول نسخة منه في عيد ميلاده الستين! وفي استطلاع للرأي أُجري في إسرائيل صرح 84% ممن شملهم الاستطلاع أنهم لم يقرأوا التلمود قط.

لكل ما تقدَّم، يجب ألا تُجرَّد النصوص التلمودية من سياقها، وألا يُجرَّد التلمود نفسه من سياقه التاريخي، بل يجب أن يُنظَر إليه في كليته لا ككتاب ديني وحسب وإنما أيضاً ككتاب أدب شعبي لا يتسم بكثير من التناسق أو التجانس، كما يجب أن يُقرأ باعتباره كتاباً يحوي الفكرة ونقيضها، وباعتباره كتاباً لا يحدد وحده سلوك الفرد اليهودي الذي عادةً ما يجهل ما جاء فيه. والواقع أن استخدام التلمود كنموذج تحليلي ينم عن الكسل الفكري، فهو رفض للتعمق في كلية الظاهرة اليهودية وتركيبيتها وتنوعها بحيث يصبح كل أعضاء الجماعات اليهودية في كل زمان ومكان مجرد يهود، ويصبح المحدد الأساسي لسلوكهم هو التلمود (وهذا ضرب من ضروب الحلولية المعرفية إذ يتم اختزال الواقع بأسره إلى مستوى واحد ويتم القضاء على التعددية وعلى كل الثنائيات). وينجم عن هذا، بطبيعة الحال، فشل كامل في رصد سلوك أعضاء الجماعات اليهودية أوالتنبؤ به.

كتب التفسير (مدراش)

Midrash

«مدراش» من الكلمة العبرية «درش»، أي «استطلع» أو «بحث» أو «درس» أو «فحص» أو «محص». والكلمة تُستخدَم للإشارة إلى ما يلي:

1 ـ منهـج في تفسير العهـد القديم يحاول التعمق في بعض آياته وكلماته، والتوسع في تخريج النصوص والألفاظ، والتوسع في الإضافات والتعليقات، وصولاً إلى المعاني الخفية التي قد تصل إلى سبعين أحياناً. وهناك قواعد مدراشية للوصول إلى هذه المعاني. ومثل هذه المعاني الخفية، تُذكَر دائماً مقابل الـ «بيشات» أي «التفسير الحرفي».

2 ـ ثمرة هذا المنهج من الدراسات والشروح، فالتلمود مثلاً يتضمن دراسات مدراشية عديدة، بمعنى أنها اتبعت المنهج المدراشي. ولكن هناك كتباً لا تتضمن سوى الأحكام والدراسات والتفسيرات المدراشية المختلفة ويُطلَق عليها أيضاً اسم «مدراش».

ويُفترَض أن مثل هذه الكتب المدراشية تعود إلى تواريخ قديمة شأنها في هذا شأن كل فروع الشريعة الشفوية. ويبدو أن العلماء المعروفين باسـم الكتبة (سـوفريم)، بدأوا بعد العـودة من بابل بزعامة عزرا، في دراسة التفسيرات التقليدية للشريعة المكتوبة، وأخذوا يطبقونها على الاحتياجات اليومية للجماعة اليهودية، واستمروا في ذلك حتى بداية ظهور معلمي المشناه (تنائيم).

وقد ازدهر الأدب المدراشي في عصر معلمي المشناه (تنائيم)، لكن البدء في تدوين كتب المدراش لم يحدث إلا بعد عدة قرون من إلقاء المواعظ. وهناك نحو أربع وعشرين مجموعة مدراشية يمكن تقسيمها إلى عدة أقسام حسب المرحلة التاريخية:

1 ـ الكتب المدراشية المبكرة (وتم جمعها في الفترة 400 ـ 600).

2 ـ كتب المرحلة الوسطى (640 ـ 1000).

3 ـ كتب المرحلة المتأخرة (1000 ـ 1200).

وهناك مختارات مدراشية من القرن الثالث عشر، إلى جانب مواعظ مدراشية يمكن أن ترد في مجموعات مدراشية مختلفة أو في الجماراه.

وتنقسم كتب المدراش إلى نوعين:

1- المدراش التشريعي الهالاخي (مشنوي)، وهي كتب المدراش التي تتضمن، أساساً، المبادئ الهادية إلى أحكام الشرع الديني (هالاخاه) - وهي تعليق على النصوص الشرعية، ومن أهمها:

أ) المخيلتا، وهذه كلمة آرامية تعني «المعيار» أو «المكيال» أو «الوعاء»، وتتضمن تسعة أبواب تُعالَج فيها أحكام شرعية موجودة في نص الكتاب المقدَّس (سفر الخروج) وتبدأ بالإصحاح رقم 12، وترجع المخيلتا إلى القرن الرابع أو القرن الخامس الميلادي.

ب) مخيلتا الحاخام شمعون بن يوحاي، وهي أيضاً تدور حول ما جاء في سفر الخروج من أحكام.

جـ) السفرا، أي «الكتابة» أو «الكتاب»، ويُسمَّى أيضاً «توراة الكهنة»، وهو تعليق على سفر اللاويين.

د) السفري (جمع سفرا)، وهو تعليق على سفر العدد، ابتداءً من إصحاحه الخامس، وعلى سفر التثنية بكامله.

هـ) سفر زوتا، وهو عن سفر العدد وحده.

ويختلف المخيلتا والسفري، عن بقية الكتب المدراشية، في المصطلح والمنهج. ويجب هنا أن نذكر ما يُسمَّى «مدراش معلمي المشناه (تنائيم)»، وهو تعليق على سفر التثنية ويتألف من فقرات مدراشية متفرقة وُجدت ضمن مختارات عُثر عليها في اليمن وتُسمَّى «مدراش هاجَّادول» أي «المدراش الأكبر».

ـ المدراش الأجادي، وهي التي كتبها الشراح (أمورائيم) وتتكون من المواعظ التي ألقوها في المعابد،واتبعوا فيها الأسلوب الأجادي أو الشرح القصصي على سبيل الوعظ.ومن أهم كتب المدراش الأجادية «مدراش رابا» (المدراش الكبير) الذي يتضمن أسفار موسى الخمسة، وتُدعى «بريشت (تكوين) راباه» و«شيموت (خروج) راباه» وهكذا في نشيد الأنشاد وراعوث وإستير وغيرها. وهناك مصنفات مدراشية أجادية أخرى مثل مدراش تنحوما ومدراش جالوت.

ويتكون التلمود أساساً، وخصوصاً المشناه، من أحكام مدراشية، ولكنه يتميَّز عن هذه الكتب المدراشية بأنه عبارة عن مناقشات وشروح تدور حول نصوص الأحكام الشرعية الناتجة من التفسير المدراشي بحيث لا يستند الشرح والتفسير إلى نصوص العهد القديم استناداً تاماً. فالمشناه تقدم الشريعة مجردة دون الأصل التوراتي، على عكس المدراش الذي يفسِّر نصاً أو نصوصاً توراتية. والاستخدام الشائع الآن لكلمة «مدراش» هو المدراش بالمعنى الأجادي أو القصصي الوعظي.

ويُقال إن يهود المدينة في عصر البعثة المحمدية كانوا لا يعرفون التلمود وكانوا يتداولون فيما بينهم بعض كتب المدراش.

المشــناه

Mishnah

«مشناه» كلمة عبرية مشتقة من الفعل العبري «شنَّاه» ومعناه «يُثنِّي» أو «يكرر». ولكن، تحت تأثير الفعل الآرامي «تانا»، صار معناها «يدرس». ثم أصبحت الكلمة تشير بشكلٍّ محدد إلى دراسة الشريعة الشفوية، وخصوصاً حفظها وتكرارها وتلخيصها. والمشناه مجموعة موسوعية من الشروح والتفاسير تتناول أسفار العهد القديم، وتتضمن مجموعة من الشرائع اليهودية التي وضعها معلمو المشناه (تنائيم) على مدى ستة أجيال (10ـ 220).

وتُعَدُّ المشناه مصدراً من المصادر الأساسية للشريعة، وتأتي في المقام الثاني بعد العهد القديم الذي يُطلَق عليه لفظ «مقرا» (من «قرأ») باعتبار أن العهد القديم هو الشريعةالمكتوبة التي تُقرأ. أما المشناه، فهي الشريعة الشفوية، أو التثنية الشفوية، التي تتناقلها الألسن، فهي إذن تكرار شفوي لشريعة موسى مع توضيح وتفسير ما التبس منها،ولابد من دراسـته (وتسـمية العهد القديم بالمقرا حدثت في العهد الإسلامي، وهي صدى للتفرقة بين القرآن والسنة، فظهرت التفرقة بين المقرا والمشناه). ولهذا، فإن المشناه تُسمَّى «الشريعة الثانية». وتتضارب الآراء المتصلة بمدلول كلمة «مشناه»، فيذهب البعض إلى أنها تشير إلى الشريعة الشفوية بكاملها (مدراش وهالاخاه وأجاداه). ولكن الرأي الآن مستقر على أن المشناه تعني الهالاخاه فقط، حتى أن كلمتي «مشناه» و«هالاخاه» أصبحتا مترادفتين تقريباً. ومع هذا، فإن هناك فقرات أجادية في نهاية كل قسم من أقسام المشناه. وعلى أية حال، فإن فقرة واحدة تتضمن سنة واحدة في الفقهيات التشريعية يُسمَّى «مشناه» وجمعها «مشنايوت». أما كتاب المشناه ككل فيشار إليه أحياناً بأنه «هالاخاه» وجمعها «هالاخوت».

وقد دوِّنت المشناه نتيجة تراكم فتاوى الحاخامات اليهود (معلمي المشناه) وتفسيراتهم وتضاعفها كمياً بحيث أصبح من المستحيل استظهارها، فبدأ تصنيفها على يد الحاخام هليل (القرن الأول الميلادي)، وبعده الحاخام عقيبا ثم مائير. أما الذي قيدها في وضعها الحالي كتابةً، فهو الحاخام يهودا الناسي (عام 189م) الذي دونها بعد أن زاد عليها إضافات من عنده (ولكن هناك من يقول إنه لم يدونها رغم اقترانها باسـمه، وقد ظـلت الأجيـال تتناقـلها حتى القرن الثامن الميلادي). ويتكون كل من التلمود الفلسطيني والتلمود البابلي من المشناه والجماراه. ووجه الاختلاف بينهما في الجماراه، أما المشناه فهي مشتركة بين التلمودين. والواقع أن لغة المشناه هي تلك اللغة العبرية التي أصبحت تحتوي على كلمات يونانية ولاتينية وعلى صيغ لغوية يظهر فيها تأثر عميق بقواعد الآرامية ومفرداتها، وتُسمَّى عبرية المشناه. ويصل حجم المشناه في الترجمة الإنجليزية إلى 789 صفحة. ولذا، ورغم أنها تعليق على العهد القديم، فإنها أكبر منه حجماً. ويجب التمييز بين المشناه والمدراش، فالمدراش (حتى التشريعي الهالاخي) تعليق على النصوص التوراتية نفسها، أما المشناه فتهدف إلى تقديم المضمون القانوني للشريعة الشفوية بشكل مجرد ودون العودة إلى النصوص التوراتية.

وتنقسم المشناه إلى ستة أقسام )سداريم):

1 ـ سدِّر زراعيم، أي البذر أو الإنتاج الزراعي: ويُعنى بالقوانين الدينية الخاصة بالزراعة والحاصلات الزراعية وبنصيب الحاخام من الثمار والمحصول.

2 ـ سدِّر موعيد، أي العيد: ويُعنى بالأعياد (والسبت)، والأحكام الخاصة بها.

3 ـ سدِّر ناشيم، أي النساء: وفيه النظم والأحكام الخاصة بالزواج والطلاق.

4 ـ سدِّر نزيقين، أي الأضرار: ويتناول الأحكام المتعلقة بالأشياء المفقودة والبيع والمبادلة والربا والغش والاحتيال، كما يُعنى بالحديث عن عصر المسيح ومحاكمته وصلبه. وهذا الكتاب موضع اهتمام الذين حاولوا إرجاع ما يُسمَّى «الأخلاق اليهودية» إلى تعاليم التلمود.

5 ـ كتاب قُدَاشيم، أي المقدَّسات: ويحوي الشرائع الخاصة بالذبح الشرعي، والطقس القرباني وخدمة الهيكل. ويُقال إن واضعي المشناه قد أدركوا أنه (بعد القضاء على ثورة بركوخبا) لم يَعُد هناك احتمال في المستقبل القريب لإعادة بناء الهيكل، ولذا فقد وضعوا القوانين الخاصة بالهيكل على مستوى آخر حيث أصبحت دراسة قوانين الهيكل بديلاً دينياً للطقوس المقدَّسة التي يقوم بها الكهنة في المعبد.

6 ـ كتاب طهاروت أو الطهارة: ويعالج أحكام الطهارة والنجاسة.

وهذه الكتب الستة أو السداريم (جمع سدر)، أصبحت تُسمَّى «شيشا سداريم»، وهي تنقسم بدورها إلى أحكام فرعية أو مباحث تُسمَّى «ماسيختوت»، ومفردها «مسيخت»، وهي من جذر آرامي بمعنى «نسج»، أو «حاك»، ويُقال لها أيضاً «الأسفار» أو «المقالات». ويتناول كل كتاب موضوعاً بعينه في عدة فصول أو براقيم أو مفاصل. ويتألف كل فصل بدوره من فقرات عديدة تُعرف باسم «هالاخوت» (جمع هالاخاه) وهي الأحكام الشرعية.

ويرى واضعو المشناه أنها جزء لا يتجزأ من الوحي الذي تلقاه موسى، فهي التوراة (أو الشريعة الشفوية) لا بمعنى أن بعض أجزائها تلقاه موسى شفاهة في سيناء ثم تم تناقلها شفاهة عبر الأجيال من حاخام إلى آخر، وإنما بمعنى أن تقاليد التوراة الشفوية لا تزال مستمرة حتى وقتنا هذا. بل يرى بعض العلماء اليهود أن المشناه هي المقابل اليهودي للعهد الجديد، فكلاهما إكمال للعهد القديم وشريعة موسى. والمشناه هي، في الواقع، الرد اليهودي على العهد الجديد. بل إن بعض العلماء اليهود يرون أن المشناه، شأنها شأن المسيح، هي تجسيد للعقل الإلهي، أي أنها اللوجوس (الكلمة). وإذا كان المسيح هو اللوجوس، وقد أصبح بشراً، فإن هذا التجسيد يأخذ في المشناه شكل لغة قانونية متزنة تشكل وتنظم مسار الواقع.

وقد ظلت المشناه أهم كتب اليهود المقدَّسة والمصدر الحقيقي للتشريع والأحكام والفتاوى، رغم كل الأبهة الشعائرية التي تحيط بالعهد القديم. ومع هذا، فإن المشناه بدأت تفقد منذ القرن السادس عشر، مثلها مثل باقي أقسام الشريعة الشفوية ككل، شيئاً من أهميتها ومركزيتها، وذلك مع شيوع القبَّالاه وازدياد نفوذ القبَّاليين الذين أخذوا يهاجمونالحاخامات ويُصدرون الفتاوى استناداً إلى الزوهار وأقوال لوريا. وكان القبَّاليون يشيرون إلى المشناه بأنها «مقبرة موسى» ويشيرون إلى الحاخام بلفظ «الحمار المشناوي» (لأنه ينوء تحت طقوس المشناه ويكررها أحياناً دون فهم لمعناها).

الجـماراه

Gemara

«جماراه» كلمة آرامية تعني «التتمة» أو «التكملة» أو «الدراسة». وهي عبارة عن التعليقات والشروح والتفسيرات التي وضعها على المشناه الفقهاء اليهود الذين يسمَّون بالشراح (أمورائيم) في الفترة 220 ـ 500م. وهي تأخذ عادةً شكل أسئلة وأجوبة. وتُعَدُّ الجماراه جزءاً من الشريعة الشفوية. لكن تسميتها بالجماراه، أي «المكملة»، هي من قبيل المجاز، فالشراح لم يكتفوا بالتفسير والتوضيح فحسب، بل قاموا بالتعديل حتى تطابق المشناه ظروف الزمان والمكان، أي أنهم فعلوا بالمشناه ما فعله رواة المشناه بالعهد القديم. وكما أن المشناه أطول من العهد القديم، فإن الجماراه أطول من المشناه. وهناك جماراتان إحداهما فلسطينية والأخرى بابلية. ويبلغ عدد كلمات الأولى نحو ثلث عدد كلمات الثانية.

وفي القرن الرابع، نسقت مدارس فلسطين التلمودية شروحها في الصورة المعروفة بالجماراه الفلسطينية. أما الجماراه البابلية، وهي أطول من المشناه عشر مرات، فقد جُمعت في مائة عام كاملة، وظل الحاخامات المفسرون (صبورائيم) نحو مائة وخمسين سنة أخرى يراجعون هذه الشروح الضخمة ويصقلونها حتى أخذت صورتها التي لدينا.

ووجه الاختلاف بين التلمود البابلي والتلمود الفلسطيني ماثلٌ في الجماراه وليس في المشناه، فالمشناه مشتركة بينهما. ولما كانت الجماراه البابلية أكمل وأشمل من الجماراه الفلسطينية، ويزيد حجمها على حجم الجماراه الفلسطينية، فإن التلمود البابلي هو التلمود المتداول الآن بين اليهـود، وهو الكتاب القيـاسي عندهم. والواقع أن كلمة «التلمود»، في الأوساط العلمية، تشير إلى الجماراه وحسب.

ولغة الجماراتين هي الآرامية (الآرامية الشرقية في حالة التلمود البابلي والآرامية الغربية في حالة التلمود الفلسطيني)، وقد كُتبتا بأسلوب إيضاحي بسيط. وإذا كان معظمالمشناه تشريعياً قانونياً هالاخياً، فإن الجماراه تجمع بين القانون والمواعظ والقصص (أجاداه).

التشريع والشريعة

Halakhah

مصطلح «التشريع» هو المقابل العربي لكلمة «هالاخاه» العبرية. وهذا المصطلح يعني «القانون» أو «التشريع». وكلمة «هالاخاه» من أصل آرامي، ومعناها الحرفي هو «الطريق القويم»، وإن كان يُقال في التفسيرات الحديثة إن معنى الكلمة الأصلي هو «الضريبة» أو «القاعدة الثابتة». وكلمة «هالاخاه» لها معنى ضيق، وقد ورد لأول مرة في كتابات معلمي المشناه (تنائيم) وكانت تعني في بداية الأمر «الحكم الشفهي الذي يصدره الفقهاء» ثم أصبحت تشير إلى «الفقرة الواحدة المُتضمَنة في سنة واحدة في الفقهيات الشرعية». ثم أصبحت الكلمة تشير إلى الجانب التشريعي لليهودية ككل (وضمن ذلك الشريعة الشفوية) بحيث أصبحت تشمل في نطاقها العرف والعادة والقوانين المحلية والمراسيم الشرعية وهي في ذلك مثل كلمة «لو Law» في الإنجليزية أو «قانون» في العربية، فيمكن أن نشير مثلاً إلى «قانون العقوبات»، وإلى «القانون الجنائي» كما يمكن أن نشير إلى «القانون» بشكل عام. وهكذا يُقال: "ما الهالاخاه المتصلة بهذا الموقف؟"، أي "التشريع الخاص بهذا الموقف"، كما يمكن القول "لقد امتلك فلان ناصية الهالاخاه" أي "التشريع بشكل عام". والكلمة تكاد تكون مرادفة لكلمة «توراة» التي تعني أيضاً «الشريعة» و«القانون» بالمعنى العام. ولعل الفرق يكمن في أن كلمة «توراة» تظل ذات دلالة عامة فقط، بينما كلمة «هالاخاه» تكون أحياناً ذات معنى عام أو معنى خاص. وحتى لا نخلط، يمكن القول بأن «هالاخاه» تشير إلى الصياغة القانونية المحددة لتفاصيل الشريعة اليهودية، وذلك في مقابل:

1 ـ المدراش: الدارسة والوعظ الذي يعتمد دائماً على الاستشهاد بالتوراة، وعلى البحث عن المعاني الخفية.

2 ـ الأجاداه: التي تعتمد على الوعظ عن طريق القصص.

ويحتـوي التلمـود على أجزاء هـالاخية تشـريعية، أي قانونية مختلفة، وأخرى أجادية قصصية وعظية. ولكن المشناه تتميز بأنها تحتوي على تشريع أكثر مما تحوي القصص والمواعظ، في حين تتسم الجماراه بأن فيها من الأجاداه (أي من القصص والمواعظ) أكثر مما فيها من الهالاخاه (أي من التشريع). وتُعَدُّ المصادر الأساسية للتشريعات: الشريعة المكتوبة (أي التوراة) والشريعة الشفوية والعرف الساري بين اليهود.

ويرى بعض الحاخامات أن التشريع بكامله مُوحى به من الإله. بل إن بعضهم يدعي أنه، منذ هدم الهيكل، لم يَعُد هناك من شغل شاغل للإله إلا هذا التشريع. ويُلاحَظ أن كلمة «تشريع» أو «هالاخاه» يضيق نطاقها أحياناً لتشير إلى الشعائر بالدرجة الأولى، بحيث إن الحوار بشأن الهالاخاه أصبح حواراً بشأن الشعائر. وهنا يمكننا أن نقول إن نطاق كلمة «هالاخاه» بهذا المعنى هو تعبير عن الطبقة الحلولية داخل اليهودية.بل إن ترادف كلمة «هالاخاه» بمعنى «قانون» و«هالاخاه» بمعنى «شعيرة» هو نفسه تعبير عن النزعة الحلولية حيث تتلاحم كل الدلالات وحيث يقل التجريد والتسامي. ويتبدَّى النسق الحلولي لا في الإيمان بالله الواحد وإنما في ممارسة عدد هائل من الشعائر التي تعبِّر عن قداسة الممارس وعزلته عن الآخرين.

ويُلاحَظ أن الفلاسفة الدينيين اليهود في العالم الإسلامي، مثل سعيد بن يوسف الفيومي وموسى بن ميمون، لم يطبقوا تفكيرهم الفلسفي على التشريع والشعائر مكتفين بالتعامل مع القضايا الفلسفية الكبرى المجردة. فموسى بن ميمون، في كتابه مشنيه توراة، وهو مُصنَّفه التشريعي الضخم، يكتب فصلاً فلسفياً تمهيدياً لا علاقة له بالتشريعات اليهودية التي ترد في الكتاب. بل إنه يشير إلى أن التشريعات اليهودية، مثل تحريم طبخ الجدي في لبن أمه وغير ذلك من الوصايا والنواهي والشعائر، هي بقايا عبادات وثنية اختفت منذ زمن قديم، وأنها طريقة إلهية لمخاطبة عقول البسطاء والبدائيين. وبالنسبة للفلاسفة، لا يوجد أي معنى للتشريعات، وإن وجد معنى ما، فهو معنى فلسفي مجرد يُقلل شأن التشريع نفسه. ولكن القبَّاليين نجحوا فيما فشل فيه الفلاسفة، إذ جعلوا التشريع جزءاً من عالمهم السحري، بحيث أصبح تنفيذه كالتميمة السحرية والوسيلة الأكيدة للتأثير في العالم العلوي ومعنى هذا أنهم وصلوا بالنسق الحلولي إلى نتيجته المنطقية.

وفي إسرائيل، يواجه الناس كثيراً من المشاكل الناجمة عن محاولة تطبيق التشريعات بحذافيرها بعد تفسيرها حرفياً. وقد أنشئ معهد للتكنولوجيا والهالاخاه (التشريع)،الهدف منه حل بعض المشاكل الناجمة عن محاولة إقامة الشعائر التي نص عليها الشرع، فتم تطوير نوع من أنواع النباتات العلفية التي لا تنتشر حتى لا تختلط مع النباتاتالأخرى، الأمر الذي يُعَد تحايلاً على التحريم الخاص بعدم الخلط بين النباتات المختلفة. كما تم تطوير طريقة لزراعة الخضر في الماء حتى يمكن إراحة الأرض في السنةالسبتية. كما تم التوصل كذلك إلى أدوات كهربائية ذات مفاتيح زمنية يتم ضبطها قبل يوم السبت، بحيث تنير من تلقاء نفسها يوم السبت.

والتشريعات المختلفة هي محور الخلاف بين الفرق اليهودية في العصر الحديث. ويرى اليهود الأرثوذكس أنهم ملتزمون بتنفيذ كل ما جاء في التــشريعات، وأن نمـط حياتهم يتبع قواعـدها. أما الإصلاحيون، فيرون أن التشريعات مرتبطة بزمان ومكان محددين، وأن قواعدها غير ملزمة لهم. ويرى اليهود المحافظون أنهم ينفذون روح التشريعات دون حرفيتها. وقد تخلَّى معظم يهود العالم عن تنفيذ التشريعات اليهودية من الناحية الفعلية والنظرية، أي أنهم لا يتبعونها من ناحية المبدأ. كما أن هناك أعداداً كبيرة تخلت عنها من ناحية الممارسة وحسب، دون أن تتخلى عنها من ناحية المبدأ. ولم يبق سوى جماعة صغيرة (تتراوح بين 5% و10%) ترى أن ما جاء في هذه التشريعات مُلزم لها وتحاول وضعها موضع التطبيق.

هالاخــاه

Halakhah

«هالاخاه» كلمة عبرية تعني «التشريع» أو «الشريعة». وعادةً ما يتم الحديث عن «هالاخاه» مقابل «أجاداه» (القصص والمواعظ). ويحتوي التلمود على أجزاء هالاخية وأخرى أجادية، أي على أجزاء تشريعية وأخرى قصصية وعظية.

التفسيرات القصصية الأسطورية (أجاداه)

Agadah

لفظ «أجاداه» أو «هجاداه» آرامي، ويعني «روى» أو «حكى» أو «قص»، كما يعني أيضاً «أسطورة» أو «حدوتة فلكلورية»، وهو مشتق من أصل عبري غير معروف على وجه الدقة، فيُقال إنه من فعل «هَجْيد» بمعنى «قيل» للإشارة إلى القصص الشفوية مقابل القصص المدوَّنة. وإن كان يُقال إنه مشتق من عبارة «هجَّدْتالبنيخا»، أي «تخبر ابناءك» (خروج 13/8). وتستخدم هذه الكلمة للإشارة إلى الفقرات والقطع التلمودية التي تعالج الجوانب الأخلاقية أو القصصية الوعظية أو الأدعية أو الصلوات أو مديح الأرض المقدَّسة أو التعبير عن الأمل في وصول الماشيَّح. كما تشير إلى الأجزاء التي تتناول التاريخ والسير والطب والفلك والتنجيم والسحر والتصوف.

وتُقرَن الأجاداه دائماً بالهالاخاه. وتُعرَف الأجاداه بأنها ذلك الجزء من التعاليم الحاخامية الذي لا يعالج الهالاخاه (أو الجوانب القانونية أو التشريعية). وحتى حينما تتعرض الأجاداه إلى مثل هذه الجوانب، فإنها تقتصر دائماً على الحديث عن الحكمة من إرسال القوانين. ويقول الحاخامات إنه يمكن استخلاص الأجاداه من الهالاخاه، ولكن العكس غير صحيح لأن الهالاخاه هي الأصل والأساس. والأجاداه هي من باب التفسير القصصي، ولذلك فليس لها وزن وثقل الهالاخاه. وتختلط العناصر الأجادية بالعناصر الهالاخية في التلمود. وتتسم المشناه بقلة العنصر الأجادي فيها على عكس الجماراه. وتُطبَع أحياناً المقطوعات الأجادية من التلمود في كتب، ويُطلَق على مثل هذه الكتب أيضاً «أجاداه».

وتتَّسم القصص الأجادية بمبالغاتها الأسطورية ومعانيها الغريبة. وقد حاول الفلاسفة اليهود الدينيون أن يفسروها تفسيراً عقلانياً، ولكنهم لم يهتموا بها كثيراً. وهذا على عكس المفكرين القبَّاليين الذين اهتموا بها وطوروها واستفادوا منها في تفسيراتهم المفتعلة. وقد أثرت الأجاداه تأثيراً عميقاً في الوجدان الديني الشعبي اليهودي، ونبتت في تربتها القبَّالاه. ويمكن القول بأن الأجاداه والقبَّالاه هما اللذان صاغا هذا الوجدان. أما الجوانب التشريعية في التلمود، فقد كانت مقصورة على الأرستقراطية الدينية التي كانت موجودة في المدارس التلمودية العليا (الأكاديميات - اليشيفات) والمراكز الدينية الكبرى بعيداً عن القرى والمدن الصغيرة. وقد ثار كثير من المفكرين الإصلاحيين على الأجاداه، وإن كانت الصهيونية بنزعتها الأسطورية تقدس التلمود، والجوانب الأجادية فيه بشكل خاص.

وتُستخدَم كلمة «هاجاداه» أحياناً للإشارة إلى «أجاداه»، وإن كان معظم العلماء يفضلون استخدام كلمة «أجاداه» على أن يقتصر استخدام كلمة «هاجاداه» على الإشارة إلى صلوات عيد الفصح والكتب التي تضم الأدعية والصلوات الخاصة بهذا العيد.

أجــاداه

Agadah

انظر: «التفسيرات القصصية الأسطورية (أجاداه)».

الفـــتاوى

Responsa

«بسْاقوت» بالعبرية من فعل «بسق» بمعنى «قضى» أو «أفتى» أو «حكم». وللفتاوى أهمية خاصة في اليهودية باعتبار أن الشريعة الشفوية (أي تفاسير الحاخامات) تفوق في أهميتها ومنزلتها الشريعة المكتوبة، أي العهد القديم، ومن ثم فإن الشرح الذي يقدمه الفقهاء أهم من المتن الموحى به. ونظراً لتعدد الأوامر والنواهي في اليهودية،واختلاف الظروف التاريخيـة والجغرافـية التي عاش فيها أعضاء الجماعات اليهودية، يجد اليهودي نفسه مضطراً دائماً إلى العودة للحاخامات لاستفتائهم، وخصوصاً أن اليهودية كتركيب جيولوجي تراكمي تحوي قدراً كبيراً من التناقض وعدم التجانس، ومن هنا تراكمت الفتاوى والتفاسير عبر العصور ويضم التلمود عدداً ضخماً منها.

ولكن المصطلح العبري «شئيلوت أوتشوفوت»، أي «أسئلة وأجوبة»، الذي يُترجَم عادةً بكلمة «فتاوى» بالمعنى الاصطلاحي، يشير إلى الخطابات التي كان يرسلها اليهود إلى أحد الحاخامات، يسألونه رأيه في أحد موضوعات الشريعة وإجابته عليهم. وقد ظهر هذا النوع من الفتاوى، منذ القرن السادس حتى القرن الحادي عشر، في العالم الإسلامي، وقد ارتبط اسم الفقهاء (جاؤنيم) بهذه الفتاوى. ويُلاحَظ أن ترابط العالم الإسلامي، والحركة التجارية النشيطة، ساعدا على تناقل الأفكار، كما أن أسلوب الفتاوى نفسه تأثر بأسلوب الفتاوى الإسلامية المماثلة. وقد لعبت الفتاوى دوراً أساسياً في إشاعة الشريعة الشفوية والتلمود البابلي كمصدرين أساسيين للشريعة. وقد جُمعت بعض هذه الفتاوى في كتيب، ويزيد ما جُمع منها حتى الآن على نصف مليون فتوى.

ولم يتوقف الحاخامات عن إصدار الفتاوى بعد ذلك التاريخ إذ أن وضع أعضاء الجماعات اليهودية دخلت عليه تغييرات كثيرة مع انتهاء العصور الوسطى، ثم مع الثورة الصناعية وعصر الانعتاق، الأمر الذي أدَّى إلى ضرورة التكيف والبحث في التراث الديني عن سوابق تبرر عمليات التحديث (على المستويات الجمالية والعقائدية) التي دخلت اليهودية. ولكن عدم تجانس النسق الديني اليهودي، وتركيبه الجيولوجي التراكمي، هو الذي جعل من اليسير على المفكرين الدينيين اليهود أن يطرحوا آراء عديدة متناقضة (بعضها توحيدي والبعض الآخر حلولي إلحادي) وجدت كلها تسويغاً لها في التراث الديني. ويُعتبَر موقف اليهودية من الصهيونية مثلاً جيداً على ذلك. فحينما نشأت الصهيونية، عارضتها جميع المنظمات الدينية اليهودية، الأرثوذكسية والإصلاحية، وقد استندوا في ذلك إلى التراث الديني. فالتلمود، في بعض أجزائه، يُحرِّم العودة (التعجيل بالنهاية)، وصدرت فتاوى بذلك. ولكن، بالتدريج، تمت عملية صهينة لليهودية تستند هي الأخرى إلى التراث الديني. وصدرت فتاوى أيضاً بذلك، حتى أصبحت الصهيونية واليهودية مترادفتين في ذهن كثير من أعضاء الجماعات اليهودية أنفسهم.

وقد أصدر الحاخامات الصهاينة الكثير من الفتاوى لتسهيل عملية الاستيطان الصهيوني، من أهمها الفتوى الخاصة بأن اليهود يمكنهم الاستيطان في فلسطين تمهيداً لعودة الماشيَّح بدلاً من انتظاره. كما أن ثمة فتاوى تؤكد أن ضم الضفة الغربية وغزة تنفيذ لتعاليم دينية. ومن أطرف الفتاوى، تلك الخاصة ببيع أرض يسرائيل لأحد الأغيار، في السنة السبتية، حتى يتمكن المستوطنون الصهاينة من زراعتها، إذ يتعيَّن على اليهود إراحة الأرض مرة كل ستة أعوام إن كانوا يمتلكونها.

والفتاوى مرتبطة أساساً بالمؤسسة الحاخامية وتستند إلى التوراة والتلمود. ولكن القبَّاليين، ابتداءً من القرن السادس عشر، أصدروا أيضاً فتاواهم مستندين إلى الزوهار، ومعارضين المؤسسة الحاخامية. ولقد جُـمعت فتاواهم في كتب خاصة حتى يمكن الرجوع إليها عند الحاجة.

القواعد التكميلية (تاقانوت)

Takkanot

عبارة «القواعد التكميلية» العربية هي المقابل الاصطلاحي لكلمة «تاقانوت» العبرية، ومفردها «تاقاناه» ومعناها «اجتهاد لإصلاح». وعادةً ما يأتي هذا المصطلح العبري في صيغة الجمع «تاقانوت»، ويشير إلى مجموعة القواعد التي وضعها الحاخامات لسد الفراغات التي تركتها التوراة. وقد تراكمت هذه القواعد التكميلية على مر العصور ومن أهمها: ضرورة قراءة التوراة يوم السبت، وأن تُعقَد المحاكم اليهودية يومي الاثنين والخميس، وضرورة أن تعيِّن الجماعات اليهودية مدرسين للمدارس الابتدائية، وأن على الأب أن يعول أولاده القصر. وقد كانت القواعد التكميلية تنظم حياة الجماعات اليهودية، وأصبحت في غاية الأهمية بعد أن أصبحت الجماعات اليهودية جماعات وظيفية إذ كانت لابد أن تتسم بغاية الانضباط والترابط حتى يمكنها أداء وظيفتها. ومن أهم أمثلة القواعد التكميلية، ما يُسمَّى «قوانين الترف». وقد أصدر مجلس البلاد الأربعة عدداً ضخماً من القواعد التكميلية.

الأعراف (منهاج)

Minhag

«الأعراف» ترجمة لكلمة «منهاج» العبرية ومعناها الحرفي «عادة»، وهو مفهوم في الفقه اليهودي يشير إلى مجموعة من الأعراف التي أصبحت مُـلزمة رغم أنها ليست جزءاً من الشريعة المكتوبة أو الشفوية. وقد تنوعت الأعراف بتنوع البلدان والجماعات، الأمر الذي زاد عدم تجانس اليهودية وخاصيتها الجيولوجية. ومن أهم الأمثلة على ذلك، الخلاف بين السفارد والإشكناز (المنهاج الإشكنازي والمنهاج السفاردي). ولذا، يشير يوسف كارو في الشولحان عاروخ إلى منهاج السفارد، أما موسى إيسيرليز (موشيه يسرائيليتش) فيشير إلى منهاج الإشكنار في مصنفه الذي وضعه تعليقاً على الشولحان عاروخ التي وضعها على المؤلف نفسه. وهناك الخلاف بين منهاج الحسيديين ومنهاج المتنجديم.

وفي التلمود، ذهب بعض الحاخامات إلى أن الأعراف السائدة بين الجماعات اليهودية يمكن أن تَجُّب بعض قوانين الشريعة. وهذا يتفق مع الرؤية الحلولية، ومع فكرة الشريعة الشفوية التي تعطي مرتبة ثانوية للنص المقدَّس المكتوب (الموحى به) قياساً إلى اجتهادات الحاخامات.

القرارات (جزيروت)

Gezerot

«القرارات» ترجمة لكلمة «جزيروت» العبرية التي مفردها «جزيراه» وتعني «قرار» أو «أمر». والقرارت مصطلح يشير إلى عدة مدلولات من بينها الأوامر الإلهية التي لا يُفهَم سببها، و الأوامر التي يصدرها حاكم غير يهودي بمنع ممارسة الشعائر اليهودية والاضطهاد الديني، وأخيراً (وهذا ما يهمنا في هذا المدخل) فإنه يشير إلى قرار تصدره المحاكم الحاخامية بهدف الحفاظ على الشريعة وإحاطتها بسياج (حسبما أوصى رجال المجمع الكبير). ومن أهم هذه القرارات، تلك التي أصدرها تلاميذ هليل وشماي في بداية القرن الأول الميلادي لإقامة حواجز بين اليهود وغير اليهود، وخصوصاً فيما يتعلق بالعلاقات الجنسية. وهذه القرارات الحاخامية مُـلزمة لليهود، وإن حدث وكانت متناقضة مع الشريعة المكتوبة (المُرسَـلة) فإنها تجُب الشريعة.

بيلبول

Pilpul

«بيلبول» كلمة تُستخدَم للإشارة إلى عدة مناهج لدراسة التلمود والشريعة الشفوية في الأكاديميات التلمودية. والكلمة مشتقة من كلمة «بلبل»، (الأصل «فلفَل») ويُقال إنها من كلمة «بلبل» بمعنى «يبحث»، وهي تعني أسلوب التحليل والتركيب الذي يعتمد على المنطق المحض (الذي يتصف بالتحايل والتخريجات) مقابل المعرفة العابرة بالنصوص (وهو ما يُسمَّى «دراش»). ومنهج البيلبول قديم، إذ كان يُفترض في أعضاء السنهدرين أن يمتلكوا ناصيته، وكذا علماء بابل. وقد استُخدم المنهج في المدارس التلمودية في أوربا في العصور الوسطى، كما استفاد منه أصحاب الشروح الإضافية (توسافوت)، واستُخدم في مـدارس إسـبانيا التلمودية العليا (يشــيفا) في القــرن الرابع عشر، ومن ثم فهو من أهم آليات الشريعة في محاولتها الدائبة إحلال الاجتهاد الحاخامي محل الوحي الإلهي.

وقد تجمَّد منهج البيلبول وأصبح مجموعة من القواعد التي تستند إلى الإيمان الحلولي بأن الحكماء القدامى (سواء الذين يرد ذكرهم في التلمود أو أولئك الذين كتبوا الشروحات عليه) معصومون وإن اختلفوا في الرأي، فخلافهم لا يعدو أن يكون خلافاً ظاهرياً، وغاية الطالب هي العثور على وسيلة جدلية تَصلُح لإزالة الفروق وتسوية الخلافات. وقد كان العالم يحاول اكتشاف التناقضات الكامنة في التلمود، وفي التعليقات عليه، ثم يطرح الحلول التي تفسر هذه التناقضات، وبعد أن يتم ذلك تُكتَشفالتناقضات في الحلول نفسها، ثم تُطرَح حلول جديدة. وتستمر هذه العملية إلى أن يتم توضيح الموضوع موضع النقاش وتُزال أية تناقضات ظاهرة كانت أم كامنة. ولكن النقاش الجدلي كان يأخذ أحياناً شكلاً متطرفاً حتى أصبح الهدف منه شحذ القريحة وحسب، وتحوَّل إلى ضَرب من السفسطة. ولذا، كان المنهج يُستخدَم في خلق بنيً ذهنية منطقيـة وفي التوصـل إلى توازنات فكرية ليـس لهـا أساس علمي أو واقعي. وأصبح المنهج، في النهاية، وسيلة في يد طلاب المدارس التلمودية العليا لتحميل النص بأي معنى يريدون، وهو ما أدَّى إلى تحريف المعنى الحقيقي، كما صار سلاحاً يستخدمه طلاب الوظائف الحاخامية المختلفة بحيث أصبح تَملُّك ناصية المنهج أكثر أهمية من معرفة الشريعة المكتوبة أو الشفوية نفسها. ومع بدايات التحديث والعلمنة في أوربا، كان هذا منهج التفكير الأساسي بين الحاخامـات اليهود، وإن كان قد عارضه الحاخام إلياهو زلمان (فقيه فلنا) الذي حاول أن يبعث التقاليد الحاخامية من الداخل.

الكتاب الخارجي (برايتا)

Baraita

«الكتاب الخارجي» يقابلها في الآرامية «بْرَّايتاه»، وتشير الكلمة إلى أقوال معلمي المشناه (تنائيم)، والتي استبعدها يهودا الناسي فجمع أهمها في كتاب التذييل (توسفتا). كما يظهر عدد كبير منها متناثراً في التلمود. وتُعَد هذه الأقوال بمنزلة أبوكريفا المشناه، أو كتُبها غير القانونية أو الخارجية، والأحكام الواردة فيها مُـلزمة إلا إذا تناقضت مع ما جاء في المشناه.

التذييل )توسفتا)

Tosephta

«التذييل» هي المقابل العربي لكلمة «توسفتا» الآرامية وتعني «التذييل» أو «الزيادة» أو «الإضافة». والتوسفتا عمل تشريعي ملحق بالمشناه مكمل لها. وقد ورد في التلمود ذكر لأكثر من تذييل، ولكن لم يبق من ذلك سوى واحد. والتذييل الذي بين أيدينا يتكون من ستة أقسام (سداريم) تحمل عناوين أقسام المشناه نفسها. وتختلف الآراء بشأن التوسفتا، فيذهب أحد علماء التلمود إلى أن التذييل هو في الواقع المشناه الفلسطينية، ويذهب آخر إلى أن واضعي التلمود البابلي لم يكونوا يعرفون هذا التذييل بتاتاً. ويضم التذييل كثيراً من الفقرات الخارجية أو البرانية.

الشولحان عاروخ

Shulhan Arukh

«الشولحان عاروخ» عبارة عبرية تعني «المائدة المنضودة» أو «المائدة المعدة»، والشولحان عاروخ هو مُصنَّف تلمودي فقهي يحتوي على سائر القواعد الدينية التقليدية للسلوك، ويُعَدُّ حتى يومنا هذا، المصنَّف المعوَّل عليه بلا منازع للشريعة والعرف اليهوديين، ويشار إليه باعتباره التلمود الأصغر. أعده جوزيف كارو ونشره عام 1565 مستنداً إلى العهد القديم والتلمود وآراء الحاخامات اليهود وفتاواهم وتفسيراتهم (الشريعة الشفوية). ومما هو جدير بالذكر أن حياة اليهود تكبلها العديد من الشعائر والقيود والتشريعات، الأمر الذي يضطرهم إلى البحث عن مصدر دائم للفتاوى. ولكن التوصل إلى إجابة على أحد التساؤلات الدينية من خلال التلمود مسألة شاقة جداً، إذ يتعيَّن على المتسائل أن يقرأ أربع أو خمس فقرات في مجلدات مختلفة منه ثم يبحث عن التعليقات المختلفة على كل الفقرات وهي تعليقات تحوي كل واحدة منها تفسيرات مختلفـة ومتناقضـة.ولتبسيط هذه العملية، لجأ مؤلف الشولحان عاروخ إلى إسقاط جميع المناقشات الفقهية الطويلة والآراء المختلفة والأحكـام المتـناقضة، فلـم يدوَّن إلا الأحكام الشرعية المستــقرة التي تبيِّن ما هو حلال وما هو حرام، وأوردها في نص واحد.

وينقسم الشولحان عاروخ إلى أربعة أقسام:

1 ـ أورَّح حاييم، أي «سبيل الحياة»: ويتناول قواعد الصلاة والبركات والأعياد.

2 ـ يوريه ديعاه،أي «أستاذ المعرفة»: ويتناول قوانين الطعام الشرعي والطهارة والنجاسة والنذور وقواعد الحزن والحداد وقواعد الصدقات.

3 ـ إيفين هاعوزير، أي «الحجر المعين»: ويتناول أحكام الزواج والطلاق، وكذلك سائر ما يتعلق بالنساء.

4 ـ حوشين مشباط، أي «صندوق القضاء الشامل»: ويتناول القوانين المدنية والجنائية وأصول المحاكمات،كما يحوي أحكام الميراث والوصاية والوصايا والتوكيلات والشهادة واليمين والعقود والتسجيل.

ولأن الكتاب يحتوي على مختلف التعاليم مصنفةً تصنيفاً جيداً، فقد لاقى نجاحاً كبيراً بين الجماهير اليهودية.

ومع أن الحاخامات الإشكناز هاجموا الشولحان عاروخ في بادئ الأمر، فإنه صار الكتاب المُعتمَد لدى اليهود الأرثوذكس، وخصوصاً بعد أن قام موسى إيسيرليز (يسرائيليتش) (1520 ـ 1572) بإضافة الهوامش والملاحق المتعلقة بالمنهاج الإشكنازي. وقد ظهرت هذه الهوامش والإضافات في كل طبعة من طبعات الكتاب وسُمِّىت «ماباه» أي «مفرش المائدة»، وتشير عبارة «شولحان عاروخ» إلى كلٍّ من المائدة والمفرش.

ويحـوي الكتـاب كثيراً من الأحكـام العنـصرية التي وردت في التلمود، فالشولحان عاروخ يُفرِّق بكل حدّة بين اليهودي وغير اليهودي، حتى في الأمور الإنسانية المبدئية، فقتل اليهودي يختلف عن قتل غير اليهودي، وإنقاذ حياة يهودي أو علاجه يختلف عن إنقاذ حياة غير يهودي أو علاجه. وعلى سبيل المثال، يسأل الشولحان عاروخ عما إذا كان ينبغي على اليهودي أن يزيل أنقاض منزل تهدَّم على سكانه يوم السبت؟ والإجابة بالنفي، ولكن إن كان بين السكان يهودي وجب على اليهودي أن يساعد في إزالة الأنقاض. كما ينبغي عليه أن يشترك في عملية الإنقاذ، إذا كان إحجامه عن ذلك قد يلحق الأذى باليهود بوصفهم جماعة لأن الأغيار يتحكمون في اليهود. وبناء على ذلك لا يجوز إنقاذ حياة اليهودي القرائي لأنه لا سلطان له على اليهود الحاخاميين. وكذلك ينبغي على الطبيب اليهودي ألا يعالج غير اليهودي، وإذا اضطر إلى ذلك وجب عليه أن يجعل الهدف الدفاع عن اليهود لا علاج المريض غير اليهودي. ويُحرِّم الشولحان عاروخ سرقة يهودي يهودياً آخر أو غير يهـودي. ومـع هذا، تحـل سرقـة غير اليهودي، إذا كان تحت حكم اليهود. وقد استُخدمت هذه الأحكام لتبرير سرقة الفلسطينيين. وقد جعل المعلقون على الشولحان عاروخ الإيمان بالقبَّالاه إحدى فرائض اليهودية. وقد هاجم دعاة حركة التنوير اليهودي ومفكرو اليهودية الإصلاحية هذا الكتاب باعتباره تجسيداً لكثير من الجوانب المتخلفة في اليهودية، وبسبب تشدُّده وتحجُّره. ولا يزال الكتاب حتى الآن من أهم المصادر التي تستقى منها المؤسسة الأرثوذكسية تفسيرها للشريعة اليهودية في إسرائيل وخارجها.

الباب السابع: الفقهاء (الحاخامات)

الحاخامات (بمعنى «الفقهاء»)

Rabbis

«حاخام» كلمة عبرية معناها «الرجل الحكيم أو العاقل». وكان هذا المصطلح يطلق على جماعة المعلمين الفريسيين «حاخاميم»، ومنها أُخذت كلمة «حاخام» لتدل على المفرد. أما كلمة «راباي»، فهي في عبرية التوراة بمعنى «عظيم»، وهي من الجذر السامي «رب» بمعنى «سيِّد» أو «قيِّم على آخرين» مثلما نقول في العربية «رب البيت»، ولكنها على أية حال لا ترد في التوراة نفسها. وتطوَّر معنى الكلمة في عبرية المشناه، وأصبحت بمعنى «سيد» مقابل «عبد» ولكنها في كتابات مُعلِّمي المشناه (تنائيم) أصبحت لقباً للحكماء. وكلمة «راباي» تعني «سيدي»، وينطقها السفارد «ربي»، وكانت تُطلَق على أعضاء السنهدرين. ولما كان اللقب لا يُخلَع إلا على من تم ترسيمه حاخاماً (ولم يكن هذا يتم إلا في فلسطين)، فلم يكن لفظ «راباي» يُطلَق إلا على علماء فلسطين. أما الشراح (أمورائيم) في العراق، فكانوا يحملون لقب «راف». وقد حلت كلمة «راباي» محل «حاخام» في معظم المناطق. ومع هذا، ظلت كلمة «حاخام» متداولة في بعض المناطق، وخصوصاً في الدولة العثمانية حيث كان الزعيمالملي لليهود يحمل لقب «حاخام باشي»، كما كان عضواً في المجلس الاستشاري للسلطان. ومن الكلمات الأخرى التي تُستخدَم للإشارة إلى الحاخام في اللغة العربية كلمة «حَبْر» وجمعها «أحبار» و«الرباني» وجمعها «الربانيون».

وفي هذه الموسوعة، نستخدم كلمة «حاخام» للإشارة إلى الفقهاء اليهود والأحبار والربيين (جمع ربي)، أو الرابيين (جمع راباي)، الذين فسروا التوراة (الشريعة المكتوبة) وابتدعوا الشريعة الشفوية (التوراة الشفوية أو التلمود) وجعلوها الأساس الذي تستند إليه اليهودية والمحور الذي تدور حوله. وهم الذين طوروا اليهودية المعيارية أو اليهودية الكلاسيكية، التي تُسمَّى أحياناً «اليهودية الربانية»، والتي نُطلق عليها «اليهودية الحاخامية»، ومنهم الكتبة (سوفريم)، ومعلمو المشناه (تنائيم)، والشراح (أمورائيم)، وعلماء التلمود كافة مثل: أصحاب الشروح الإضافية (توسافوت)، وراشي، وموسى بن ميمون، وإلياهو فقيه فلنا، وغيرهم. وكانت الأكاديميات التلمودية (يشيفا) في العراق وغيرها المراكز التي يتجمعون فيها للنقاش والحوار والتعلم. ومن ثم، فإننا نتحدث أيضاً عن التعاليم الحاخامية والمؤسسة الحاخامية حين نشير إلى المؤسسة الفقهية والتعاليم الفقهية التي أخذت تدريجياً تكتسب مركزية بين أعضاء الجماعات اليهودية وفي النسق الديني اليهودي منذ عام 70م إلى أن تبلورت اليهودية الحاخامية وأصبحت هي اليهودية منذ القرن السابع الميلادي وحتى نهاية القرن التاسع عشر.

كما تُستخدَم الكلمة للإشارة إلى القائد الديني للجماعة اليهودية الذي كان يقوم بتفسير التوراة وإصدار الفتاوى تماماً مثل فقهاء اليهود القدامى، إلى جانب قيامه بالإشراف على الصلوات في المعبد اليهودي، وكثيراً ما كان يضطلع بوظائف دنيوية مثل جمع الضرائب والإشراف على تنفيذ تعاليم الحكومة.

الكتبة (سوفريم) (440-100 ق0م)

Sopherim

«الكتبة» هي المقابل العربي لكلمة «سوفريم» وهي صيغة جمع عبرية بنفس المعنى، وهي مصطلح يُطلَق على الكتبة والعلماء اليهود الذين قاموا بتدريس وتعليم وشرح الشريعة من حوالي منتصف القرن الخامس قبل الميلاد إلى حوالي عام 100 ق.م، وقد جُمعت أقوالهم واجتهاداتهم في كتب المدراش. وبهذا المعنى، يكون عزرا أول الكتبة حين وضع أساس الدراسات الحاخامية، والكتبة هم أولئك الذين قاموا بوضع الشريعة الشفوية فعلاً. وتعود أهمية الكتبة إلى أنهم أول من بدأوا الدراسات الحاخامية (وبالتالي، فإن ظهورهم يُعتبَر بداية المرحلة اليهودية، مقابل المرحلة اليسرائيلية أو العبرانية من تواريخ الجماعات اليهودية في العالم). وقد قام الكتبة بتحقيق العهد القديم وتنقيحه وتدوينه، وتنسب إليهم المصادر اليهودية تحقيق المآثر التالية:

1 ـ قراءة نصوص الشريعة في أيام معينة من الأسبوع.

2 ـ تحديد الصلوات اليومية، وإدخال شعائر الشكر بعد تناول الطعام (صلاة المائدة).

3 ـ إدخال الشعائر والطقوس الدينية مثل عادة سكب الماء على الأرض في عيد المظـال والـدوران بمركب حـول المذبح حاملين أغصان الصفصاف.

4 ـ وضع القواعد المتعلقة بإعداد تميمة الصلاة (تفيلين) أو شال الصلاة (طاليت) بجدائله الأربع (تسيت تسيت).

5 ـ تعديل بعض الشرائع التوراتية وتكييفها وفقاً لمتطلبات الحياة، وتخفيف قسوة الشرع الموسوي فيما يختص بشريعة القصاص التوراتية في حالة الاعتداء، والتساهل في تطبيق قوانين السبت خلافاً لبعض الفرق المتشددة في تمسُّكها بحرفية القانون وفي امتناعها عن القيام بأية نشاطات جسدية في يوم الراحة. وكذلك تخفيف صرامة القانون الخاص بإثبات وفاة الزوج بحيث أصبحت شهادة رجل واحد تكفي لكي يحق للزوجة أن تتزوج من جديد، حتى لو كانت هذه الشهادة تستند إلى مجرد الشائعات.

وقد كان ظهور الكتبة تعبيراً عن وضع الجماعات اليهودية كأقلية إثنية ودينية تضطلع في معظم الأحيان بدور الجماعة الوظيفية ومن ثم تتمتع بنوع من الإدارة الذاتية في الأمور الثقافية والقانونية، فأصبح الكتبة فقهاء في القانون يحاولون تطبيق تعاليم التوراة والشريعة الشفوية على الحياة اليومية. وكان الهدف من هذا المشروع بناء سياج أو إطار حول التوراة والجماعات اليهودية، وهو ما يحقق قدراً من العزلة الحقيقية أو الوهمية التي تضمن أداءهم لأدوارهم كجماعة وظيفية. وستظل هذه وظيفة علماء اليهود عبر تواريخ الجماعات اليهودية في العالم، وخصوصاً في الغرب. وبعد الكتبة (سوفريم)، جاء الفريسيون ومعلمو المشناه (تنائيم)، والشراح (أمورائيم) والفقهاء (جاءونيم)، وهؤلاء جميعاً يُعدون استمراراً طبيعياً للكتبة. وحين يشير العهد الجديد إلى الفريسيين والكتبة، فإن الإشارة تنصرف إلى فقهاء الشريعة اليهودية بشكل عام، وهم أولئك الذين أصبح يُطلَق عليهم لفظ «حاخام» فيما بعد.

وقد كان يوجد كتبة في صفوف الفريسيين والصدوقيين، كما أن بعضهم كانوا أعضاء في السنهدرين. وقد تطوَّر معنى الكلمة بحيث أصبحت كلمة «سوفير» تعني «معلم التوراة (للأطفال)»، كما أصبحت تعني «كاتب لفائف التوراة». وفي العبرية الحديثة، تُستعمَل الكلمة بمعنى «كاتب» و«أديب» و «محرر صحفي».

الأزواج (زوجوت) (150-30 ق0م)

Zugot

«الأزواج» يقابلها في العبرية كلمة «زوجوت»، وتُستخدَم اصطلاحاً للإشارة إلى خمسة أجيال من علماء الدين اليهودي أتوا قبل معلمي المشناه (تنائيم) في الفترة 150ق.م ـ 30م. ويمتد الزوجوت عبر خمسة أجيال، وشغل كل زوج منهم المنصبين التاليين: رئيس السنهدرين (أو الأمير) ولقبه «الناسي»، ونائب الرئيس ولقبه «آف بيت دين». ويُعتبَر كلٌّ من هليل وشماي من آخر الأزواج، وهما معاً يُعَدَّان أول معلمي المشناه.

معلمو المشناه (تنائيم) (10ق0م-200م)

Tanaaim

«معلمو المشناه» هي المقابل العربي لكلمة «تنائيم»، و«تنا» كلمة آرامية تعني «يكرر» ومنها «تنائيم». وتُستخدَم الكلمة للإشارة إلى علماء اليهود الذين جاءوا بعد الكتبة (سوفريم) وعاشوا في القرنين الأول والثاني الميلاديين. يبدأ عصرهم بمدرستي هليل وشماي (القرن الأول) وينتهي عند الحاخام يهودا الملقب بالبطريرك أو الناسي. ويحمل معظم معلمي المشناه لقب «رابي» بمعنى «سيدي»، ثم صار لقبهم فيما بعد «راب» أو «رابّانان»، أي «سيدنا». وقد أتى ذكر أسماء مائتين وخمسة وسبعين منمعلمي المشناه، يُقسَّمون إلى أربعة أجيال. وقد شهدت هذه المرحلة سحق التمرد اليهودي الأول والتمرد اليهودي الثاني ضد الرومان، حيث انتهى أولهما بهدم الهيكلوانتهى ثانيهما بهدم القدس وتحريمها على اليهود. وأدَّى سقوط السلطة المركزية الدينية إلى تهديد اليهودية نفسها، ولكن معلمي المشناه نجحوا في تخليص اليهودية منعناصر العبادة القربانية بحيث أصبحت اليهودية ديناً يستند إلى الإيمان ويدور حول المعبد أينما كان بدلاً من الهيكل في أورشليم (القدس)، وهو في الواقع تطوُّر كانالفريسيون قد مهدوا له. كما أن ظهور مركز اليهودية البابلي (ثم السكندري)، وكذلك هيكل أونياس والتجمعات اليهودية المختلفة في مدن البحر الأبيض المتوسط، كان قد قضى على المركزية الدينية بالفعل، ولم يبق سوى الاعتراف بالواقع القائم واستيعابه داخل البناء العقائدي. ويُعَدُّ الحاخام يوحنان بن زكاي (مؤسس حلقة يفنه التلمودية)مهندس عملية الانتقال وقد عارضه في ذلك بقية الكهنة وبعض عناصر الأرستقراطية وعدد من الحاخامات. ولكنه نجح في أن يُدخل التعديلات المطلوبة ويؤكد قيادته ليهودفلسطين، كما نجح في أن تعترف به السلطات الرومانية رئيساً دينياً لليهود (الناسي أو البطريرك). وبعد هدم حلقة يفنه التلمودية، اتبع جماليل السياسة نفسها حينما أسسحلقة أخرى.

وقد قام معلمو المشناه بتفسير العهد القديم وشرحه، وبتجميع وتطوير التقاليد الشفوية الخاصة بالشريعة. وقد أخذ عملهم شكله النهائي في بداية القرن الثالث الميلادي على يد يهودا الناسي الذي جمع القوانين الفقهية وصنفها في المشناه. ويعتقد بعض العلماء أن المشناه دوِّنت في تلك الفترة (ويعتقـد الآخرون أنهـا دوِّنت بعد ثلاثـة أو أربعة قـرون). وقد تبعـهم في عملية تفسـير التوراة وجمعــها الشراح (أمورائيم).

هليل الأول (القرن الأول قبل الميلاد)

Hillel I

من أشهر الحاخامات اليهود في فترة معلمي المشناه (تنائيم) في بابل تَعلَّم فيها ودرس على يد معلمين فريسيين. وهو يُعدُّ من أهم المعلقين اليهود على العهد القديم ومن أهم مفسري التراث الديني اليهودي. وقد ترأَّس هو وشماي السنهدرين ضمن الأزواج (زوجوت). وكان هليل (الأول) يشغل وظيفة الناسي من عام 30 ق.م حتى عام 10 ميلادية، كما كان صاحب مدرسة في التفسير كان يُطلَق عليها «بيت هليل» اتسمت بالمرونة. والآن، يأخذ اليهود بأحكام هذه المدرسة، بينما أصبحت المدرسة المنافسة (بيت شماي) ذات أهمية تاريخية وحسب.

شــــماي (القرن الأول قبل الميلاد)

Shammai

حاخام فريسي من معلمي المشناه (تنائيم)، تَرأَّس هو وهليل السنهدرين. له مدرسة في التفسير أُطلق عليها «بيت شماي»، اشتهرت بتعنتها. وقد عارض شماي «مبدأ النية»، وهو المبدأ القائل بأن موقف الشرع من أفعال المرء يتوقف أيضاً على نواياه. والواقع أن تشدُّده كان نتيجة خوفه على اليهود من الاندماج في الشعوب الأخرى، وخصوصاً أنه كان يعيش في وقت كانت الحضارة الرومانية فيه آخذة في الانتشار بين شعوب الشرق الأوسط. ويُقارَن بيت شماي عادةً ببيت هليل في الأدبيات الدينية اليهودية، وقد كُتبت الغلبة لمدرسة هليل في نهاية الأمر في المدارس الدينية اليهودية إلا أن ذلك لا يمنع من إيراد العلماء رأي مدرسة شماي للمقارنة من حين لآخر.

يوحنـان بـن زكـاي (القرن الأول قبل الميلاد)

Johanah Ben Zakkai

حاخام فريسي من معلمي المشناه (تنائيم) وهو من أتباع مدرسة هليل. وقد عارض يوحنان بن زكاي التمرد اليهودي ضد روما (60 ـ 70م)، فقام تلاميذه بتهريبه من القدس داخل نعش أثناء حصار الرومان لها. ويُقال إنه ذهب إلى فسبسيان وتنبأ له بأنه سيعتلي العرش الإمبراطوري، فسمح له بالاستمرار في تدريس الشريعة لتلاميذه. وقد أقام بن زكاي حلقة تلمودية في مدينة يفنه التي أصبحت مركزاً روحياً لليهود ومركزاً للسنهدرين الذي كان يضم معلمي الشريعة الذين لم تكن لهم أية سلطة دنيوية.

وقد أعاد بن زكاي صياغة توجه اليهودية. فبدلاً من اليهودية المقتصرة على التضحية وتقديم القرابين والحج إلى الهيكل في فلسطين، أصبحت اليهودية تعتمد على الصلاة في المعبد وعلى أعمال التقوى والدراسة، وتحوَّل اليهود إلى جماعة دينية إثنية قادرة على تحقيق أهدافها في أي مكان من خلال الدين وليس من خلال الارتباط بمكان محدد، وأصبحت مكافأة اليهود على إخلاصهم لدينهم ولقيمه هي الخلاص المشيحاني، أي عودة كل المؤسسات المركزية التي عرفها اليهود (الهيكل والملكية) وعودة المنفيين أنفسهم. ولذلك، قام بن زكاي بتسجيل كل الطقوس الخاصة بالهيكل حتى يكون اليهـود مجهزين من الناحـية الدينية والفقـهية في حـالة استرجاعه. والصيغة التي طرحها يوحنان بن زكاي لليهودية هي الصيغة الفريسية التي تُعَدُّ أساس حياة يهودية الجماعات المنتشرة واليهودية الحاخامية التي تدور حول المعبد اليهودي أينما كان، لا حول الهيكل في القدس.

وقد تحوَّل يوحنان إلى رمز لما يُسمَّى «الاستمرار» و«البقاء» اليهوديين فقد أوجد لليهود وطناً ومركزاً روحياً بعد أن فقدوا وطنهم المادي الوحيد، فمهَّد بهذا لتحوُّل اليهود من أمة عادية لها أرض ودولة، إلى أمة الروح التي لا وطن لها إلا التوراة. والواقع أن بن زكاي هو بطل الصهيونية الثقافية وصهيونية الدياسبورا في دفاعهما عن فكرة الأمة الروحية. ولكنه في الوقت نفسه بطل اليهود الاندماجيين الذين يؤمنون بأن اليهود جماعة دينية وحسب وليسوا جماعة قومية أيضاً.

يفنـــه

Jabneh

«يفنه» مدينة فلسطينية قديمة جنوبي يافا واسمها اليوناني «جامينا». اكتسبت يفنه طابعاً هيلينياً أثناء الفترة الهيلينية، وكانت موضع صراع أثناء حكم الحشمونيين، ثمأصبحت بعد ذلك مدينة حرة. وقد أهداها أوغسطس إلى هيرود، ثم أسَّس فيها يوحنان بن زكاي أول حلقة تلمودية بأمر من الرومان. وقد ورثت حلقة يفنه ما تبقى من سلطة دنيوية يتمتع بها السنهدرين. ولذا، فقد أُبقي على بعض الأشكال الخاصة به، مثل: عدد الأعضاء (71)، والنفخ في البوق (شوفار)، وإعلان رؤية القمر. وأصبح رئيس الحلقة هو رئيس اليهود (الناسي أو البطريرك). وأصبحت حلقة يفنه مركزاً لليهودية إلى أن ظهرت حلقات أخرى في بابل وغيرها من البلاد. وقد دُمِّرت يفنه أثناء ثورة بركوخبا، وهرب سكانها إلى الجليل، وانتقلت حلقتها التلمودية إلى هناك.

وقد أخذت اليهودية هناك شكل نسق ديني روحي، وهو نسق كامن في كتب الأنبياء الذين كانوا يهاجمون العبادة القربانية ويؤكدون الجانب الروحي للخلاص. وقد لخص علماء اليهود في يفنه تعاليم مدارس هليل وشماي، وأكملوا تدوين وتقنين الكتب المقدَّسة، وحددوا الصلوات، كما نقلوا إلى المعبد اليهودي والسنهدرين بعض الممارسات والإجراءات الدينية والصلاحيات الخاصة بالهيكل. ومنذ ذلك التاريخ، صار الحاخامات هم الفئة القائدة.

جَمْلائيل الثاني (آخر القرن الأول الميلادي وأوائل القرن الثاني)

Gamaliel II

ويُسمَّى جَمْلائيل الثاني «جَمْلائيل يفنه» أيضاً، وهو رئيس السنهدرين الذي خلف يوحنان بن زكاي في المنصب. وقد استمر جملائيل في اتجاه سلفه، فشرع في تدعيم سلطة حلقة يفنه التلمودية كمركز لليهودية. كما استمر رئيساً لهذه الحلقة يتحدث باسم الجماعة اليهودية أمام السلطات الرومانية، ويحاول إعادة صياغة اليهودية كدين مستقل عن العبادة القربانية. والواقع أن هذا الاتجاه يتجلَّى بوضوح تام في محاولة تحديد الشريعة وشعائرها بشكل واضح ومنظم، وفي صياغة العبادات والصلوات. ويُنسَب إليه تحديد طقوس عيد الفصح والصيغة النهائية للشمونه عسريه (عميدا)، وكذلك إقرار الصلاة فرضاً على كل يهودي فيصلي اليهودي ثلاث مرات في اليوم الواحد. كما يُنسَب إليه أيضاً أحد الأدعية في العميدا، ألا وهو دعاء استبعاد المسيحيين من حظيرة اليهودية. ويُعَدُّ جملائيل من أتباع مدرسة هليل في التفسير والإفتاء.

عقيبـا بــن يوســف (40-135م)

Akiba Ben Yossef

عالم ديني يهودي من معلمي المشناه (تنائيم). أحرز شهرة كبيرة ومكانة عالية بين اليهود، لأنه جمع كل أحكام الشريعة الشفوية وصنفها بحسب الموضوع. وقد قام يهودا الناسي وزملاؤه بتسجيل المشناه على الأسس التي وضعها عقيبا، ولذا فهو يُدعى باسم «أبو المشناه». وترجع أهمية عقيبا في تاريخ الجماعات اليهودية إلى تأييده تمردبركوخبا وقبول ادعاءاته بأنه الماشيَّح رغم معارضة السنهدرين. وقد اشترك عقيبا في الثورة المسلحة ضد الرومان. وحينما حَرَّم الرومان دراسة الشريعة اليهودية أوتدريسها، رفض الانصياع لهذه الأوامر، فقُبض عليه وحُكم عليه بالإعدام.

وعقيبا هو النموذج الصهيوني للحاخام الذي يُعمِّق النزعة الحلولية في اليهودية ويحوِّل الفكر الديني إلى فكر قومي ثم يترجمه إلى عدوانية مسلحة، مازجاً بين السيف والتوراة. ومما هو جدير بالذكر أن بعض منظمات الشباب الصهيوني تُسمَّى باسمه.

يهـــودا الناســي (الأمــــير) (135-200)

Judah Ha-Nasi (The Prince)

ويُعرف أيضاً بلقب «سيدنا القديس» (رابينو هاقادوش)، أو «رابي» دون إضافة، أو «بطريرك». وهو رئيس الجماعة اليهودية في فلسطين (الناسي أو البطريرك) وجامع المشناه. أقام علاقة ودِّية مع السلطات الرومانية في فلسطين، وكان سليل أسرة نبيلة على جانب كبير من الثراء، ملماً بالتراث الديني اليهودي، متمكناً بشكل عام من مضامين الشريعة الشفوية، وهو ما أكسبه سلطة على معاصريه لم يصل إليها أحد غيره من معلمي المشناه (تنائيم). وكان تلاميذ الحاخام عقيبا قد أحرزوا بعض التقدم في جمع الشريعة الشفوية وأحكام الشريعة التي أفتى بها العلماء اليهود في محاولتهم الإجابة عن أسئلة اليهود. ولكنهم كانوا يعملون بشكل فردي، فجمع يهودا كل هذه الفتاوى والأحكام والشرائع ونظمها (واستبعد بعضها). ولذا، يُنسَب إليه جمع مواد المشناه وتصنيفها وتبويبها، كما يُنسَب إليه تقسيم المادة المجموعة إلى ستة أقسام.

إليشع بن أبوياه (النصف الأول من القرن الثاني الميلادي)

Elishah Ben Avuyah

هو أحد معلمي المشناه (تنائيم). كان من أكبر علماء عصره، ولكنه ارتد عن اليهودية. وكان يُشار إليه بأنه «آحير» أي «شخص آخر» (أي كافر)، وُلد قبل عام 70 ميلادية، واستهوته الحضارة الهيلينية تماماً، وربما كان هذا ما أدَّى إلى ارتداده عن اليهودية. وقد كان إليشع يتعمد خرق الشريعة اليهودية، بل يُقال إنه، أثناء حكم هادريان،اشترك في الإخبار عن أولئك اليهود الذين لم ينفذوا تعاليم الإمبراطور.وهناك عدة نظريات لتفسير ارتداده، فهناك نظرية تقول إنه كان من أتباع فيلون،وهنـاك نظرية أخرى ترى أنـه كان غنوصياً، ولعله كان قد اعتنق المسيحية.ولكن من الصعب أن نحدِّد ماذا حدث بالضبط، لأن جميع المصادر التي تتحدث عنه يهودية حاخامية. وعلى أية حال، فإن حياته قد أثَّرت في مفكري حركة التنوير، وهو الشخـصية الأساسـية في عـديد من الروايات التي كُتبت في تلك الفترة. وقد كتب المفكر الصهيوني بيرديشفسكي دراسة عنه، يعتبره ليلينبلوم من أبرز الشخصيات التنويرية في مقابل حاخامات عصره.

الشُرَّاح (أمورائيم) (200-500)

Amoraim

«الشُرَّاح» هي المقابل العربي لكلمة «أمورائيم» وهي صيغة جمع عبرية لكلمة «أمورائي» آرامية الأصل التي تعني «متكلِّم» أو «شارح» أو «مفسر». والأمورائيم، أي «الشراح»، هم علماء الحلقات الفقهية التلمودية في فلسطين (طبرية وقيصرية وصفورية) وفي بابل (سورا وبومبديثا ونهاردعه) في الفترة بين القرنين الثالث والسادسالميلاديين، لكن مكانة علماء فلسطين كانت قد هبطت بعد القرن الرابع. والشراح هم خلفاء معلمي المشناه (تنائيم) الذين كتبوا المشناه، ولا توجد اختلافات حقيقية بينالفريقين. بل تعاون الفريقان في كتابة تفسيرات عديدة للمشناه، وفي التعليق على حواشيها المعتمدة. وتطور الأمر بحيث صارت شروحهم في منزلة المتن نفسه، وقد تم تسجيل أقوالهم في ما يعرف بالجماراه. وقد كتب الشراح شروحهم بلهجات آرامية عديدة، بداخلها بضعة نصوص عبرية.

وهناك، على الأقل، ألف ومائتان وخمسون من الشراح (أربعة أجيال في فلسطين وستة في بابل) معروفون لنا بالاسم. وكان العالم الشارح في فلسطين يحمل لقب «رابي». أما في بابل، فكان يحمل لقب «راف»، أو «مار». وظهور الشراح، ومن بعدهم الفقهاء (جاءونيم)، تنفيذ عملي لفلسفة يوحنان بن زكاي، القائلة بأن اليهودية كدين يمكنها أن تحيا خارج فلسطين.

آشي (333-427)

Ashi

وُلد في بابل ويُعرَف باسم «رابانا» أي «معلمنا»، وهو من الشراح (أمورائيم). وقد كان آشي يُعَدُّ المحرر الأساسي للتلمود البابلي، لكن الرأي السائد الآن أنه بدأ (فقط) هذه العملية التي استمرت بعده حتى انتهت مع بدايات المفسرين (صبورائيم).

المفسـرون (صبورائيم) (500-700)

Saboraim

«المفسرون» تقابل الكلمة العبرية «صبورائيم» التي تعني «الشراح» وهم المتأملون في أقوال السلف أو الأساتذة الشارحون المناطقة، أي «المفسرون». وتشير الكلمة إلى العلماء اليهود الذين اشتركوا في المرحلة الأخيرة في جمع الأقوال والأحكام التي شكلت التلمود. وقد امتد نشاطهم في بابل طيلة القرن السادس حتى القرن الثامن، أي أنهم جاءوا بعد معلمي المشناه (أمورائيم) وقبل الفقهاء (جاءونيم). ولم يُصدر المفسرون (صبورائيم) أية تشريعات جديدة، وإنما قاموا باستخراج تضمينات التشريعات القديمة على التلمود وتنظيم أبوابه وفصوله بالشكل المعروف إلى يومنا هذا. وينسب إليهم بعض العلماء وضع بعض نصوصه وحسب.

الفقهـاء )جاءونيم) (589 حتى القرن الثالث عشر)

Geonim

«الفقهاء» هي المقابل العربي لكلمة «جاءونيم» العبرية ومفردها «جاءون»، وتعـني حرفياً «الأفخم» أو «المعظم»، أو تعني «نيافة» أو «سمو»، وتقابلها في العربية «فقيه» أو «إمام». وكان يُشار إلى الجاءونيم أيضاً باسم «ريش مثيبتاه» أي «رأس المثيبة» (أصلها كلمة «مثيبتا» الآرامية والتي تقابل كلمة «يشيفا». وتُستخدَم الكلمة للإشارة إلى رؤساء الحلقات الفقهية التلمودية الأساسية في بابل (سورا وبومبديثا). وقد كانوا يُعَدُّون، نظرياً على الأقل، الرؤساء الروحيين ليهود العالم، وذلك من أواخر القرن السادس حتى أواخر القرن الثالث عشر وربما حتى القرن الرابع عشر. وفي فلسطين، كان رئيس الحلقة يحمل لقب «جاءون». ويرى اليهود أن الفقهاء (جاءونيم) هم خلفاء أعضاء السنهدرين. وقد كان العلماء يجتمعون فيما كان يُسمَّى «الكالا»، حيث كان يشكل حوالي سبعين من الفقهاء ما يشبه السنهدرين، ويترأسهم جاءون سورا، فيتدارسون القضايا المطروحة ويناقشونها، ويصدرون بشأنها الفتاوى، وقد كان يحضر الاجتماعات فقهاء ليسوا أعضاء في الحلقات التلمودية، وكذا بعض الأفراد من غير رجال الدين.

وكان يتم اختيار الجاءون بالانتخاب، ولكن عادةً ما كان يتم ترشيح أبناء عدد محدود من العائلات. كما أن تصديق رأس الجالوت (المنفى) على الانتخاب كان ضرورياً (وكان الجاءون بدوره يشارك في اختيار رأس الجالوت). وكان الأمر، بطبيعة الحال، خاضعاً لسلطة الخليفة (أمير المؤمـنين) الذي كان يُصدِّق على هـذا الاختيـار ويتلـو قراره قاضي القضاة. وفي أحد هذه القرارات، جاء ما يلي لتحديد مهام الجاءون: «رتبتك زعيماً على أهل ملتك من أهل دينك... لتأخذهم بحدود دينهم وتأمرهم بما أُمروا به في شريعتهم وتنهاهم عما نُهوا عنه في شريعتهم وتفصل بينهم في وقائعهم وخصوماتهم بموجب شريعتهم».

وقد انصب اهتمام الفقهاء (جاءونيم) على تفسير الشريعة. وهم، بهذا، استمرار للكتبة (سوفريم) ومعلمي المشناه (تنائيم) والشراح (أمورائيم). وقد ساهموا في تطوير القانون التلمودي عن طريق إصدار فتاوى يستفيد منها اليهود خارج بابل. وقد تأثروا في تصنيفاتهم الفقهية، وفي فتاواهم، بالفتاوى والتصنيفات الإسلامية. وكانت لغة مؤلفاتهم هي الآرامية والعربية وأحياناً العبرية. وكان ثمة تنافس بين جاءون فلسطين وجاءون العراق في بداية الأمر (وكان هناك في القاهرة، على سبيل المثال، معبدان يتبع أحدهما العراق ويتبع الآخر فلسطين). لكن حلقات العراق الفقهيـة هي التي أحرزت قصـب السـبق في نهاية الأمر، وأصبحت هي المعتَرف بتفوقها. ولكن مكانتها تدهورت هي الأخرى بعد ظهور حلقات فقهية تخدم حاجات الجماعات اليهودية المختلفة في العالم. وكثيراً ما كان أثرياء اليهود يموِّلون الحلقات الفقهية المحلية حتى لا يظل مركز الإفتاء والسلطة في العراق في يد جماعة دينية مستقلة عنهم لا تمثل مصالحهم ورؤيتهم. ولكن السبب الأساسي لتدهور حلقات العراق هو ظهور الحلقات المستقلة في الغرب. ويُعَدُّ عام 1038 تاريخ نهاية المرحلة الجاءونية.

وكان الجاءون (رئيس حلقة سورا) يشارك رأس الجالوت (في بغداد) السلطات، فكان الأول يُعَدُّ الرئيس الديني والثاني الرئيس الدنيوي، وكانت المحاكم الشرعية تابعة للجاءون. وقد كانا، مع هذا، يشتركان في تعيين القضاة الشرعيين. ويبدو أن الرشوة كانت تلعب دوراً أساسياً في هذه العملية. ونظراً لعدم تحديد نطاق سلطة ونفوذ كل منهما، ونظراً لاتساع هذا النفوذ وضيقه من فترة زمنية إلى أخرى، فقد كانت تنشب صراعات حادة وطويلة بين الطرفين. وكان رأس الجالوت يتحالف أحياناً مع جاءون إحدى الحلقات ضد جاءون الحلقة الأخرى، وكان رؤساء الحلقات بدورهم يتحدون رأس الجالوت. ومن أشهر الفقهاء (جاءون) سعيد بن يوسف الفيومي، الذي يُعَدُّ صراعه مع رأس الجالوت داود بن زكاي، لمدة أربع سنوات، من أشهر الخلافات في هذا المجال. وقد قام رأس الجالوت بتطبيق قرار الطرد من حظيرة الدين (حيريم) على سعيد بن يوسف.

ســعيد بـن يوســف الفيــومي (سـعديا جــاءون) (883-943)

Said Ben Joseph al-Fayyumi (Saadiah Gaon)

ويُدعى أيضاً «سعديا جاءون». وُلد في مصر (في قرية أبو صوير بالفيوم)، وتلقى في قريته تعليماً عربياً فتوفر له العديد من المعارف العربية الإسلامية في عصره، كما درس الكتاب المقدَّس والتلمود، ثم توجَّه إلى فلسطين حيث أكمل دراسته. وقد بدأ في وضع مؤلفاته في سن مبكرة، فذاعت شهرته. وحينما ذهب إلى العراق، عُيِّن في حلقة سورا التلمودية.

وتعود أهمية سعيد بن يوسف إلى أنه ظهر في وقت كانت اليهودية الحاخامية تعاني فيه أزمة حقيقية، نتيجة انتشار الإسلام وازدهار الحضارة الإسلامية بكل معارفها بوتيرة سريعة، الأمر الذي أدَّى بالكثير من اليهود إلى اعتناق الدين الجديد، أو الشك في دينهم، أو محاولة إصلاحه، كما يتبدَّى في اليهودية القرّائية التي رفضت التلمود ومفهوم الشريعة الشفوية. ومن مظاهر هذه الأزمة أيضاً إعلان الحاخام هارون بن مائير عام 921 أن التقويم اليهودي الذي تصدره حلقات العراق خاطئ، محاولاً بذلك تأكيده أهمية المركز الفلسطيني مقابل المركز العراقي. ومن هنا، فقد أصدر الحاخام هارون تقويماً فلسطينياً، الأمر الذي أدَّى إلى انقسام الجماعات اليهودية، فكان الاحتفال بالأعياد يتم في أيام مختلفة. وقد تمكَّن سعيد من الرد على قيادة المركز الفلسطيني استناداً إلى معرفته بعلم الفلك.

وقد كانت حياة سعيد عاصفة، فبعد استقراره في العراق عُيِّن رئيساً (جاءون) لحلقة سورا التلمودية، ثم نشبت معركة بينه وبين رأس الجالوت. وقد ألَّف في هذه المرحلة كتاب الأمانات والاعتقادات الذي ألَّفه بالعربية (ثم تُرجم إلى العبرية فيما بعد بعنوان أمونوت وديعوت)، وهو كتاب يهدف إلى الرد على القرّائين، وإلى جعل اليهودية عقيدة مقبولة لليهود المتعلمين من خلال تقديم تفسير عقلاني لها. ويبدو أنه كان يهدف أيضاً إلى تقديم عقائد اليهودية للعالم الإسلامي، فاتبع في مؤلفه هذا أسلوب المتكلمينالإسلاميين ومنهجهم، كما مزج التوراة بالحكمة اليونانية حسب قواعد علم الكلام، وقد كان سعيد بن يوسف يرى أنه لا يوجد أي صراع بين العقل والوحي. كان سعيد بنيوسف جزءاً من الخطاب الحضاري العربي الإسلامي ولذا فلم يكن يجد أي حرج في الإشارة للتوراة باعتبارها «الشريعة» وللعهد القديم باعتباره «قرآناً»، والاتجاه نحو القدس أثناء الصلاة بأنه «قبلة»، أما المرتل «حزان» فكان يشير له بأنه «الإمام».

ويُعَدُّ سعيد أول من وضع فلسفة دينية يهودية متكاملة حول أسس العقيدة اليهودية، فقد كانت هذه العقيدة من قبل مجموعة من الممارسات والفتاوى التي تَصدُر حسب الحاجة. وقد لخص سعيد العقيدة اليهودية في تسعة مبادئ (الإله خلق العالم من العدم ـ الإيمان بوحدة الإله وعدالته ـ حرية الإرادة ـ الثواب والعـقاب ـ خـلود الروح ـ البعث ـ خلاص يسرائيل ـ الخلود في الآخرة ـ صفات الإله مطابقة لذاته ولا يمكن فصلها). وفي هذا، وفي غيره من الأفكار، يتضح تأثير الفـكر الديني الإسـلامي بشكل عـام والمعتزلة بوجه خاص، وبخاصة في قبولهم خمسة مبادئ عُرفت باسم «الأصول»: التوحيد ـ العدل ـ الوعد والوعيد (أي الثواب والعقاب) ـ المنزلة بين المنزلين ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والإله ـ حسب تصوُّر سعيد الفيومي ـ هو وحده مصدر الحق، ولكن الحق الذي يرسل به يتفق مع ما قد يتوصل إليه العقل. وقد أكد سعيد بنيوسف أن الإيمان بعقيدة موسى لا يستند إلى الإيمان بالمعجزات التي أتى بها، وإنما يستند إلى الإيمان بالقيمة الأخلاقية الذاتية لهذه العقيدة. وقسَّم سعيد وصايا اليهود إلى وصايا أخلاقية وأخرى احتفالية امتزجت معاً، الأمر الذي يعطي ـ في تصوُّره ـ مزية تنفرد بها تجربة اليهود الدينية.

وسعيد بن يوسف هو أول من ترجم العهد القديم إلى العربية، كما كتب تفسيراً لمعظم أجزائه، وهو ما جعله متاحاً للجماهير اليهودية التي كانت لا تعرف العبرية. ويُعَدُّ سعيد من أوائل الذين درسوا اللغة العبرية دراسة منهجية. كما أنه نظم بعض الأشعار للصلوات اليهودية وألَّف كتاب صلوات يهودية (سدور).

أصحاب الشروح الإضافية (توسافوت)

Tosaphot

«الشروح الإضافية» أو التذييلات» هي المقابل العربي لمصطلح «توسافوت» وهي كلمة عبرية تعني «إضافة»، وهي ملاحظات على التلمود كتبها بعض حاخاماتألمانيا وفرنسا بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر ويبلغ عددهم ثلاثمائة، من أهمهم الحاخامات إسحق وصمويل ويعقوب أولاد مائير أحفاد راشي. ويُطلَق عليهم «بعليتوسافوت» أي «أصحاب التوسافوت». وقد بدأوا هذا العمل كتعليق نقدي على تعليقات راشي على التلمود. وقد تناولت التوسافوت نصوص التلمود مثلما تناول كتَّاب الجماراه المشناه، فأخذوا يقارنون بين النصوص المختلفة ويصلون إلى تخريجات تشريعية جديدة مختلفة عن تخريجات راشي.

جيرشــوم بـن يهــودا (960-1040)

Gershom Ben Yehuda

هو أحد العلماء التلموديين في فرنسا وألمانيا، ويُعَد أهم المفكرين الدينيين اليهود بلا منازع في عصره. وقد وُصف بأنه «مائور هاجولاه» (نور الشتات أو المنفى). أسَّس جيرشوم بن يهودا مدرسته التلمودية العليا في ماينس (ألمانيا) حيث درس كثير من الطلاب اليهود من فرنسا وإيطاليا والبلاد السلافية، وكان أساتذة راشي من بين تلاميذه. وقد أدَّى ذيوع صيته («الفرنسي في بلاد الألمان» كما كان يُطلَق عليه) إلى انحسار نفوذ المؤسسة الحاخامية في فلسطين والعراق. وقد كتب بن يهودا تفسيراً على بعض أسفار التلمود التي تم ضمها إلى طبعة فلنا، كما أن له العديد من الفتاوى المهمة.

وتعود أهمية جيرشوم بن يهودا إلى نشاطه التشريعي، إذ دعا إلى عقد مجمع يهودي (عام 1000)، وأصدر (أحكام الحاخام جيرشوم) والتي تتناول الحياة الاجتماعية والعائلية، والتي كان يعدها اليهود في منزلة تعاليم سيناء. وكان من بين هذه الأحكام منع تعدُّد الزوجات، وضرورة موافقة الزوجة على الطلاق، وحق اليهودي المظلوم في أن يمتنع عن الصلاة في المعبد إلى أن ينال حقوقه، وتحريم الإساءة إلى اليهود الذين تنصروا ثم عادوا إلى اليهودية. ولم تكن حياة جيرشوم بن يهودا بلا منغصات، فقد تنصر ابنه عام 1012، حينما أصدر هنري الثاني أمراً بطرد اليهود من ماينس. وحتى بعد أن ألغى قرار الطرد، ظل ابنه على دينه الجديد ومات مسيحياً.

راشي (1040-1105)

Rashi

«راشي» اختصار لاسم الحاخام «رابي شلومو بن يتسحاق»، وهو من أشهر المعلقين والمفسرين الإشكناز للتلمود، وكان رئيس إحدى المدارس التلمودية. وقد وُلد راشي في فرنسا حيث اشتغل بتجارة الخمور، وكان ملماً بالمصادر الدينية اليهودية السابقة عليه وإن كان لا يشير إليها، كما كان يعتمد على ترجمة أونكيلوس الآرامي في تفسير أسـفار موسـى الخمسـة. وقد كتب راشي تفسيراً لمعظم كتب العهد القديم، يجمع بين المنهجين المجازي والحرفي بكل يُسر ووضوح. كما كتب تفسيراً للتلمود، وحقق نصه،وعرَّف مصطلحاته، وشرح مفرداته الصعبة، ويُعَدُّ هذا من أهم أعماله. وله أسلوب خاص في رسم الخطوط يُعرَف باسمه استخدمه في كتابة الشروح والحواشي على التوراة وأسفار العهد القديم. ولم يتأثر راشي كثيراً بالأفكار الفلسفية السائدة في عصره، ولم يُعرْها بالاً، كما أن القضايا النقدية الخاصة بالنصوص لم تسـتحوذ على اهتمامـه. ومما يُلاحَظ، تأثره العميـق، في أحكامـه الدينية، بالعلاقات الإقطاعية السائدة في أوربا آنذاك. وقد كان راشي يورد دائماً المرادف الفرنسي للمصطلحات التي يستخدمها بحروف عبرية مضبوطة (لهجة لُعز)، ولذلك فقد أصبحت أعماله مصدراً مهماً لدراسة نطق فرنسية العصور الوسطى. وتُعَدُّ أعمال راشي الأساس الذي استند إليه نحمانيدس وابن عزرا في تفاسيرهما.

ابـن فاقـودة (1050-1120)

Ibn Pakuda

هو باهي يوسف بن فاقودة. مفكر ديني يهودي وُلد في سرقسطة بإسبانيا الإسلامية، وكان قاضياً شرعياً. أهم كتبه الهداية إلى فرائض القلوب والتنبيه إلى لوازم الضمير وهو بالعربية وتُرجم إلى العبرية. وقيل إنه أول كتاب في الفلسفة اليهودية الأخلاقية، وهو صورة من الكتب الأخلاقية الإسلامية يؤكد فيه الكاتب أهمية فرائض القلـوب: الثقة في الإله، والتواضـع، والزهد والشـكر للإله، والتوبة عما يغضبه. وكلها خطوات تؤدي في نهاية الأمر إلى الحب الخالص للإله. وفرائض القلوب عنده لا تقل أهمية عن الشعائر أو الفرائض الجسمانية. وقد تأثَّر في فلسفته بالأفلاطونية الحديثة وبالمتصوفين المسلمين. وقد ذاع الكتاب وترك أثراً عميقاً في المتصوفين والمفكرين الأخلاقيين اليهود.

ابـن داود (1110-1180)

Ibn David

هو إبراهيم بن داود. مفكر ديني يهودي عاش في إسبانيا الإسلامية. أهم مؤلفاته هو العقيدة الرفيعة الذي كتبه بالعربية ثم تُرجم إلى العبرية (وأصله العربي مفقود). ويُعتبَر كتابه هذا أول الكتب اليهودية التي كُتبت داخل إطار الفلسفة الأرسطية والفلسفة العربية الإسلامية، وخصوصاً فلسفة ابن سينا.

يذهب ابن داود إلى أن التوراة كتاب يحوي كل شيء، لكن المعرفة التي يطرحها لم تتيسر لغير اليهود إلا بعد آلاف السنين. ويدافع ابن داود عن حرية الإنسان، ويحاول أن يحل مشاكل الاختيار والجبر فيذهب إلى أن الإله شاء أن يضع حدوداً على إرادته وعلى مقدرته المطلقة حتى يخلق رقعة من الحرية للإنسان. ومن ثم، فإن الخالق لا يعرف نتائج فعل الإنسان، فالممكن عند الخالق يظل ممكناً من غير أن ينتقص ذلك من قدرة الخالق وإرادته.

كذلك ألَّف ابن داود كتاباً بالعبرية بعنوان سفر هاقبَّالاه، أي كتاب التراث، حاول فيه أن يسرد تاريخ علماء التلمود حتى عصره، وكتب فيه أيضاً تاريخاً قصيراً للفترة الهيلينية التي يُطلق عليها أيضاً «فترة الهيكل الثاني».

موســى بــن نحــمان (نحمــانيدس) (1194-1270)

Moses Ben Nahman (Nahmanides)

ويُعرف أيضاً باسمه اللاتيني «نحمانيدس» وباسم «رامبان». وهو أحد كبـار حاخـامات اليهـود، وكان حاخـام جيرونا في أراجون (إسبانيا). وكان يُعَد أكثر علماء اليهود اطلاعاً وثقافة في عصره، وقد كتب تعليقات على التلمود كما كتب دراسة قبَّالية في مراسم الحداد. وعارض موسى ابن نحمان دراسة الفلسفة، ولكنه طالب بعدم تحريم دراسة كتابات موسى بن ميمون. وقد استقر نحمانيدس في فلسطين عام 1267 حيث كتب تعليقاً على العهد القديم يعتمد أساساً على العقل، وإن لم يستبعد القبَّالاه تماماً. وقد كان موسى بن نحمان من أوائل المفكرين القبَّاليين الذين نادوا بتناسخ الأرواح، فأعطى الفكر القبَّالي شرعية، وهو ما ساهم في ذيوعه وهيمنته فيما بعد على الفكر الديني اليهودي.

بــن جرشــون (1288-1344)

Ben Gershon

هو لاوي بن جرشون، ويُعرَف أيضاً باسمه اللاتيني «جيرسونيدس». كان عالماً في الدين اليهودي، كما كان عالماً في الرياضيات والفلك. عاش في بروفانس بفرنسا، وتأثر بكتابات أرسطو من خلال تعليقات ابن رشد. أهم مؤلفاته سفر ملاحم الرب.

ويُعَدُّ بن جرشون من أهم الكُتَّاب الأرسطيين اليهود الذين اتخذوا موقفاً عقلانياً كاملاً. ولذا، فإننا نجد أن الإله في كتاباته مفارق تماماً للعالم منفصل عنه بعيد عن أحداث العالم الجزئية وعن البشر كأفراد. والدليل الوحيد على وجود الخالق هو كمال الطبيعة. ومن هنا، يُقال إن بن جرشون أول مفكر ربوبي.

وصل بن جرشون بكثير من مقولات موسى بن ميمون إلى نهايتها المنطقية. فالخلود مسألة عقلية، ولذا فإن عقل الإنسان هو وحده الذي يُبعَث بعد الموت. والعناية الإلهية تتوقف أيضاً على العقل البشري، فكلما ازداد العقل إحاطة بالمبادئ الكونية شملته العناية الإلهية، والنبوة إن هي إلا مَلَكة عقلية وقدرة على الاتصال بالعقل الكوني. ويرى بن جرشون أن الإنسان يصل إلى النبوة دون إرادة الإله أي من خلال المران العقلي. والإله هو الصلة الأولى والفكرة الأسمى. والعالم مخلوق من مادة قديمة وليـس من العـدم، إلا أن قـدم هذه المادة لا يعني أنها متجاوزة الزمن، وما دامت حدود فعاليتها داخل العالم المخلوق، فإنها تكون قديمة ولكنها خاضعة للزمن. ومع ذلك، إذا كانت المادة قديمة بشكل ما، وكانت الصور وحدها تَصدُر عن الإله، فإن الإله لا يستطيع معرفة المخلوقات العديدة التي تُولَد من اتحاد الصورة مع المادة، بمعنى أن الإله يعرف العام وحده ولا يعرف الجزئي من حيث هو جزئي، ويعني هذا أن هناك قدراً من الحرية للإنسان إذ أن الجزئي يخرج عن نطاق العلم الإلهي. ويقتصر العقل الإلهي عند ابن جرشون على خلق ما يسميه «العقول المفارقة»، وهي مخلوقات لا مـادية تفيـض منها الصـور على العالم المادي، وحالما تُخَلق هذه العقول تتولى حكم العالم، وهي لا تدير نظام الطبيعة العادي فحسب بل هي تصنع أيضاً النبوة والعناية الإلهية وحتى المعجزات. ولكن المعجزات هنا تتبع نمطاً وقانوناً خاصّين، ولكنهما مع هذا يظلان قانوناً ونمطاً للحالات النادرة. ويُلاحَظ الاتجاه الغنوصي في فكر ابن جرشون، كما يُلاحَظ كذلك التقارب الشديد بين فكره وفكر ابن رشد من ناحية وفكر إسبينوزا من ناحية أخرى.

قريشقش (1340-1410)

Crescas

هو حسداي قريشقش («كريسكاس» بالنطق اللاتيني). عالم ديني يهودي كان يعيش في برشلونة حيث عمل تاجراً ورئيساً للجماعة اليهودية، وكان حاخام البلاط في أراجون. اندلعتْ المظاهرات ضد اليهـود في برشـلونة عام 1391، فتنـصرت على أثرهـا أعداد كبيرة منهم، كما قُتل ابنه أثناء المظاهرات، فانتقل إلى سرقسطة وألف في آخر أيامه كتاب نور الله (أور أدوناي). ويهدف الكتاب إلى توضيح عقائد اليهودية ومعارضة ابن ميمون والرد على الفلسفة الدينية اليهودية المتأثرة بأرسطو والفلسفة الإسلامية. ولقد تعرَّض الكتاب للفارابي وابن سينا والغزالي، وكان شديد النقد لابن رشد.

يرفض قريشقش عالم أرسطو المغلق المحدَّد حيث لا يمكن أن يوجد فراغ في المكان، ويطرح بدلاً منه عالماً مفتوحاً يوجد فيه فراغ لا يشغله جسم. وينكر قريشقش أيضاً فكرة أرسطو الخاصة برفض الأعداد اللانهائية، ويذهب إلى أنه حتى لو لم توجد أعداد لا نهائية فإن سلاسل لا نهائية من الأعداد سوف تكون موجودة، وإن كان هذا ممكناً فإن سلسلة السببية يمكن أن تكون هي الأخرى لا نهائية أيضاً. ولذا، يذهب قريشقش إلى أنه، بغض النظر عن كون عدد الأسباب محدوداً، لابد أن يكون هناك سبب ليس بنتيجة، وهذا هو الإله.

ويختلف قريشقش عن الأرسطيين في أنه لا يرى أن العقل هو جوهر الإله والإنسان، ويصرُّ بدلاً من ذلك على أن الخير لا الفكر هو أساس كيان الإله وكل صفاته الأخرى، فهو يفيض بالخير دائماً. كما أن الروح يمكنها أن تنفصل عن الجسد وأن تُنفَى إلى الأبد بغض النظر عما حصل عليه الفرد من معرفة نظرية. كما أن السعادة لا تأتي من العقل وإنما من العاطفة، والفرح ليس مجرد الحصول على المعرفة وإنما ينبع من حب الإنسان للإله. وهنا يعبِّر فرح الإله عن نفسه فيما يفيض عنه من حب لمخلوقاته على عكس الموقف الأرسطي الذي يرى أن العاطفة تقلل من شأن الإله.

وحينما ناقش قريشقش فكرة حرية الإرادة، ذهب إلى أن أفعال الإنسان تحدِّدها الأسباب المحيطة به كما هو الحال مع كل الأشياء، فالإنسان مسيَّر بالأسباب التي تقع خارجه. ومع هذا أصرَّ قريشقش على مسئولية الإنسان عن أفعاله. وناقش قريشقش أصول الدين اليهودي وجعلها ثمانية بدلاً من الثلاثة عشر أصلاً التي خرَّّجها موسى بن ميمون.

جوزيف كـارو (1488-1575)

Joseph Caro

أحد العلماء الدينيين اليهود. وُلد في إسبانيا، وطُرد منها مع من طُرد من اليهود والمسلمين عام 1492، ثم استقر به المقام في البلقان عام 1498، ثم في فلسطين عام 1535 حيث أسس مدرسة تلمودية في صفد. وقد ألَّف، وهو لا يزال في البلقان، كتاب بيت يوسف، وهو تعليق تفصيلي على المشناه. وقد لاحظ كارو التناقض بين الممارسات الدينية ليهود الدولة العثمانية، نظراً لتنوع انتماءاتهم، وتنبه إلى أن ظهـور الطباعـة سيشيع هـذه التناقضات ومن ثم سيزيد الفوضى. ولذا، قرر أن يُعد كتاباً أصغر حجماً من كتابه السابق، لا يضم الآراء المختلفة والأحكام المتناقضة، وإنما يضم الأحكام الملزمة وحسب، حتى يوفر للدارسين والقضاة مرشداً واضحاً وحاسماً للشريعة. وكان ثمرة جهده كتاب الشولحان عاروخ (المائدة المنضودة) وهو المرجع الفقهي والشرعي الأساسي لليهود منذ تاريخ ظهوره عام 1564. وقد قابل الحاخامات الإشكناز هذا المُصنَّف الديني بمعارضة شديدة في بادئ الأمر لاعتماده على التقاليد والآراء السفاردية وحسب، ولكن الشولحان عاروخ فرض نفسه مع هذا وصار الكتاب المعتمد لليهود الأرثوذكس جميعاً، وخصوصاً بعد إضافة حواش إشكنازية إليه. وكان كارو من المهتمين بالقبَّالاه، وكان يدَّعي أن ملاكاً يفضي إليه بالأسرار الدينية.

موسى إيسيرليز (1525-1672)

Moses Isserles

حاخام بولندي وواضع واحد من أهم المصنفات الدينية اليهودية، كان أبوه تاجراً ثرياً وأحد الشخصيات المهمة بين أعضاء الجماعة اليهودية في كراكوف (بولندا). وقدأسَّس إيسيرليز (أويسرائيليتش) مدرسة تلمودية في كراكوف وعُيِّن حاخاماً فيها، وهو منصب ظل يشغله حتى وفاته.

اشتهر بفتاواه، وخصوصاً تلك الفتاوى التي كان يصدرها للتخفيف عن الفقراء، كما كان من الحاخامات الذين أصدروا فتوى بتحريم أعمال موسى بن ميمون.

وقد كتب تعليقـات عديـدة على العهـد القديم وتراث الشريعة الشفوية، ولكن شهرته تعود إلى تعليقاته على ما كتبه معاصره جوزيف كارو. فقد ألف هذا الأخير كتاب بيت يوسف، وهو عمل موسوعي شامل في الشريعة اليهودية من منظور سفاردي، فكتب موسى إيسيرليز تعليقاً ونقداً لهذا الكتاب بعنوان دراخي موشى (طُرُق موسى) أكد فيه المنهاج الإشكنازي. ويبدو أن إيسيرليز يرى أن المنهاج أو العرف السائد يَجُّب الشريعة، وأنه يجْب اتباع العرف حتى لو لم يكن له سند في الشريعة.

وحينما وضع جوزيف كارو ملخصاً لكتابه بعنوان الشولحان عاروخ (أي المائدة المنضودة) وذاعت شهرته، وضع إيسيرليز كتاباً بعنوان ماباه (أي المفرش) يضم الآراء والممارسات الإشكنازية في الموضوع نفسه. وقد ظل الشولحان عاروخ و ماباه، منذ تاريخ نشرهما، العمود الفقري لليهودية الأرثوذكسية.

وقد كتب الحاخام حاييم بتسلنيل نقداً لأعمال إيسيرليز يُعَدُّ نموذجاً جيداً للحوار بين حاخامات اليهود في أوربا في القرن الثامن عشر. وقد عدَّد بيزاليل نقاط اعتراضه فيما يلي:

1 ـ يتبنى إيسيرليز أعراف (منهاج) آراء الحاخامات الأوائل (رشونيم) ويُفضلها على آراء الحاخامات المتأخرين (أحرونيم).

2 ـ يورد إيسيرليز منهاج يهود بولندا، ويهمل منهاج يهود ألمانيا، ثم يسأل: لماذا يجب على يهود ألمانيا أن يتخلوا عن منهاجهم لصالح منهاج يهود بولندا؟

3 ـ قد يؤدي مصنف إيسيرليز إلى إهمال دراسة الأعمال الفقهية الأصلية والتلمود وآراء الحاخامات الأوائل الأمر الذي يؤدي إلى الجهل بأحكام الدين اليهودي.

4 ـ لن يلتفت عامة الناس لآراء الحاخامات لأنهم سيعتمدون على الكتب المنشورة.

5 ـ ولأن إيسيرليز قد عبَّر عن اختلافه مع أحكام كارو، فبإمكان الآخرين أن يعبِّروا هم أيضاً عن اختلافهم معه، الأمر الذي قد يبدأ سلسلة طويلة من الاختلافات معه.

6 ـ لم يحتكم إيسيرليز إلى أحكام الحاخامات الآخرين، واعتمد على أحكامه هو.

7 ـ أظهر إيسيرليز التسامح في مواضع تشددت فيها الشريعة.

8 ـ إن تم تحريم شيء، فإن ذلك كان يبقى عرفاً ومن ثم لا يمكن إلغاؤه، ومع هذا فقد تهاون إيسيرليز في هذا الأمر.

والواقع أن هذه الاعترضات تبيِّن أن الجو الذي ساد الأوساط الحاخامية في شرق أوربا كان خانقاً، وجعل من المستحيل على اليهودي أن يصبح يهودياً وإنساناً في الوقت نفسه على حد قول أحد دعاة الاستنارة. ويبيِّن رد الحاخام بيزاليل مدى الجفاف الروحي والعقم الفكري الذي ساد الدراسات الفقهية كما أدَّى إلى ظهور الحسيدية بنزعتها المعادية تماماً للعقل.

الصفحة التالية ß إضغط هنا