المجلد الثالث: الجماعات اليهودية.. التحديث والثقافة 9

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

ويذهب البعض إلى اعتبار كل فيلم معاد للنازية فيلماً صهيونياً أو فيلماً يخدم الصهيونية، وهـو خـطـأٌ فادح يخدم الصهيونية في واقع الأمر. وتبدو هذه الحركة كأنها حركةمعادية للنازية، بينما هي في واقع الأمر حركة لا تختلف في جوهرها عن النازية، ولذا تعاونت معها. وقد تعاظم دور السينما الصهيونية بعد إنشاء إسرائيل عام 1948، خصوصاً في الولايات المتحدة. ومن أهم الأفلام الصهيونية الأمريكية: فيلم «الحاوي» إخراج إدوارد ديمتريك عام 1953، و«الخروج» إخراج أوتو بريمنجر عام 1960، و«يهوديت» إخراج دانييل مان عام 1964، و«الظل العملاق» إخراج ملفيل شافلسون عام 1966، و«راشيل... راشيل» إخراج بول نيومان عام 1967.

ومن الأفلام الأوربية الصهيونية: الفيلم الإيطالي «معركة سيناء» إخراج مورتيز ولوتشيدي عام 1968، والفيلم البريطاني «إنها أرضه» إخراج جيمس كوللر عام 1969، والفيلم الفرنسي «حائط القدس» إخراج فرانسوا رايشنباخ عام 1969، وأيضاً الفيلم السويسري «المواجهة» إخراج رولف ليوسي عام 1975.

والسينما التي نستطيع أن نُطلق عليها، أكثر من غيرها، تعبير «السينما اليهودية»، إن كان ثمة سينما يهودية، هي تلك السينما الناطقة باليديشية، فهي سينما لا تعبِّر عن ثقافة اليهود بشكل عام وإنما تعبِّر عن ثقافة يهود شرق أوربا وعما يمكن تسميته «القومية اليديشية».

وقد بدأت السينما اليديشية، في الولايات المتحدة، في أواخر عصر السينما الصامتة حيث كان الحوار يُطبَع على الأفلام في كادرات منفصلة، وأهم أفلام هذه الفترة هي: «مازل طوف» عام 1924، و«القلوب المحطمة» عام 1925، و«الجانب الشرقي لساري» عام 1929، وكلها من إخراج سيدني جولدوين. ومع بداية ظهور الأفلام الناطقة في عام 1927، بدأ عصر ازدهار السينما اليديشية الذي وصل إلى ذروته في النصف الثاني من الثلاثينيات، حيث بلغ عدد الأفلام الناطقة باليديشية حوالي مائة فيلم أغلبها أمريكي، وبعضها بولندي أو من بلاد أوربية أخرى، إلى جانب 35 فيلماً تسجيلياً قصيراً.

ومن أهم الأفلام الأمريكية اليديشية: «الأب أبراهام صوت إسرائيل» إخراج جوزيف سيدني عام 1931، و«قوة الحياة» إخراج هنري لين عام 1938، و«يوسف في مصر» عام 1932، و«اليهودي التائه» عام 1932 إخراج جوزيف رولاند، و«أضواء القمة» إخراج إدجار أولمير عام 1939. أما في بولندا، فكان جوزيف جرين أهم مخرجي الأفلام اليديشية، ومن أفلامه: «مهرج عيد النصيب» عام 1937، و«خطاب إلى أم» عام1938.

وانخفض عدد الأفلام اليديشية في الأربعينيات مع تآكُل الثقافة واللغة اليديشيتين، ثم كاد الإنتاج السينمائي أن يندثر بعد ذلك حيث لا يُعرف منه إلا فيلمان طـوال الخمسـينيات، وهما: «الإله والإنسـان والشيطان»، و«مونتشيللو هنا جئنا» إخراج جوزيف سيدني عام 1950، وفيلم واحد طويل في الستينيات، وهو «الشقيقات الثلاث» إخراج جوزيف سيدني أيضاً عام 1961. وترجع جذور السينما اليديشية إلى المسرح اليديشي. وهي، شأنها شأن المسرح اليديشي، يرجع معظمها إلى تراث يهود اليديشية في شرق أوربا. ورغم أن الحركة الصهيونية سعت إلى إحياء اللغة العبرية، وقاومت اليديشية، إلا أن أغلب الأفلام اليديشية هي أفلام صهيونية.

الإخـوة ماركـس

Marx Brothers

أربعة من أهم الممثلين اليهود الأمريكيين في السينما الأمريكية الكوميدية وهم جروشو (جوليوس) (1895 ـ 1977) وهاربو (أدولف) (1893 ـ 1964) وشيكو (ليونارد) (1891 ـ 1691) وزيبو (هربرت) (1901 ـ 1979). بدأوا حياتهم الفنية كفرقة للفودفيل مع أخيهم الخامس جومو (ميلتون) (1894 ـ 1977) وأبيهم ميني. وقد اكتشفهم الفرنسي روبير فلوري المقيم في هوليود حينما كانوا يعملون بنجاح في مسرحية كوميدية موسيقية لإرفنج برلين، حيث قام بإعدادها للشاشة لتكون أول أفلامهم «ثمرة الكاكاو» (1929). ومن أهم أفلامهم «عملة القرد» (1932) و«ليلة في الأوبرا» (1935) و«يوم في ميدان السباق» (1936) و«ذعر في الفندق» (1938). وقد انفصل عنهم زيبو بعد تصويرهم فيلم «ريشة الجواد» (1932) ليصبح منتجاً ومموِّلاً سينمائياً.

وارتبط ظهور الإخوة ماركس بدخول الصوت إلى السينما، وقد استغلوا الإمكانيات الجديدة لتقديم خاصية مميِّزة لهم هي تحوير ألفاظ اللغة لتتفق مع أغراضهم. وفي الحقيقة، فإن جذور هذه الفكرة تعود إلى شخصية المهرج في السيرك ومقدِّم الفقرات الخفيفة في الملاهي الليلية أو ما يُسمَّى «وان لانرone liner» أي الشخص الذي يطلق النكات فيما بين الفقرات أو داخل الفقرة. وكانت أفلامهم نوعاً من كوميديا اللامعقول والسريالية، وكان كل فرد في المجموعة له الشخصية المميزة التي يكررها في كل الأفلام. وتنبع الكوميديا عندهم أساساً من الموقف الذي تتجمع فيه تلك الشخصيات حول محور خارجي هو شخصية أمريكية « سوية » لتقوم تلك الشخصية مقام عامل التفجير الخارجي الذي يُظهر التناقضات الكامنة، وفي نفس الوقت يلعب دور مركز الاهتمام الذي تنصب عليه سخريتهم. وكان جروشو يمثل التشاؤم الذي يميِّز رجل الأعمال الأمريكي الفاشل ويحاول دائماً أن يقوم بدور زير النساء شديد المراس مع أنه يفشل باستمرار. وكان شيكو يلعب دور الرجل البارد الذي لا تهزه الأزمات متقمصاً شخصية المهاجر الإيطالي القادم لبلاد العم سام وفي ذهنه هدف محدد هو تكوين ثروة، يدعمه في ذلك تراثه الذي يجعله يحسن التصرف في الأزمات. أما هاربو فكان يؤدي وظيفة المراقب الخارجي ذلك الخيالي المتفائل الذي يبدو أنه أبله أو خائب لا يتكلم أبداً ولكنه موسيقي موهوب ومرهف الحس.

والشخصيات الثلاث تتكامل فيما بينها لتقدم صورة ما يمكن تسميته «الفشل المضحك»، تلك الصورة التي تمثل أحد آليات النجاح التجاري السينمائي إبّان فترة الكساد العظيم في الثلاثينيات والتي تفسر هذا النجاح المنقطع الذي أحرزه الإخوة ماركس عند ظهورهم. إذ قدموا التوليفة السحرية التي يحتاج إليها الناس للعودة إلى التوازن، فالفشل يصيب الجميع ولا داعي إذن للحزن واليأس، فها هو الموهوب الذكي أبله وخائب، وها هو رجل الأعمال زير النساء فاشل ومحبط، أما المهاجر فيمكن أن يجد في موروثه الثقافي ذخيرة لتسلُّق السلم في مجتمع البحث عن الثروة وتحقيق الحلم الأمريكي.

وإذا كانت الكوميديا وسيلة لاسترجاع الثقة بالنفس للمُحبَطين والفاشلين، فقد كانت أيضاً وسيلة الجيل الأول من الفنانين من أبناء المهاجرين من يهود اليديشية لدخول المجتمع المضيف، عن طريق أداء دور المهرج والبهلوان الذي يسخر من نفسه ليُضحك الآخرين في الوقت الذي يضحك هو عليهم فيه ويأخذ أموالهم. وتمثل آلية تحطيم اللغة وسيلة سحرية لتحقيق هذا الهدف فهي تكشف كم الزيف الذي تحمله الحياة الاجتماعية، ولكنها في الوقت نفسه الوسيلة الممكنة لتحقيق الذات في هذه الحياة المزيفة. وهذه الآلية تمثل أيضاً الموروث الثقافي للمهاجر الذي يجيد لغته الأصلية (اليديشية) ويتملك ناصية لغة الوطن الجديد ويظل مع هذا خارجها، فهي لغة برانية (الإنجليزية). فثمة لغة جوانية تموت ولغة برانية تُكتَسب من خلال التقليد الجيد، ويقف المهاجر في منطقة رمادية، ولذا فهو يملك مقدرة فائقة على تحوير اللغة الجديدة البرانية بحيث تصبح وسيلة لتحقيق الذات وكشف الآخر، أو تحقيق الذات عن طريق كشف الآخر.

وبعد أن استعاد المجتمع الأمريكي توازنه المفقود على حساب أوربا بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد أن حقق أعضاء الجماعات اليهودية توازناً كبيراً وحراكاً اجتماعياً داخل المجتمع الأمريكي، وبعد أن ظهرت موجات تحطيم اللغة فيما سُمي «مسرح العبث»، كان من الطبيعي أن يتفرق الإخوة ماركس بعد أن استُنفدت أغراضهم. وقد انتهوا سينمائياً عام 1941 وتفرقوا نهائياً عام 1950. ولهذا أيضاً، لم يتكرر نموذج الإخوة ماركس ولكن تكررت الأنماط المأخوذة عنهم مع عودة أزمة المجتمع في نهايات الستينيات وأوائل السبعينيات.

تشـارلي تشـابلين (1889-1977(

Charlie Chaplain

وُلد (سير) تشارلي تشابلن عام 1889 لأسرة إنجليزية ويُقال إن أمه كانت تعمل ممثلة في مسرح متجول وإنها من أصل يهودي. ولكنها مسألة ليست أكيدة. وصرح تشارلي تشابلين نفسه مرة قائلاً: « ليتني كنت يهودياً » (وهي عبارة لا معنى لها فلو كان المقصود «يهودي» بالمعنى الديني فلم يكن هناك ما يمنعه من التهود. ولو كان المقصود «يهودي» بالمعنى الإثني فهي رغبة مستحيلة إذ من الصعب أن يُغيِّر الإنسان جلده أو ماضيه! ولكن المهم في هذا السياق أن هذه العبارة تدل على أنه لم يكن «يهودياً» لا بالمعنى الديني ولا بالمعنى الإثني).

ظهر تشارلي الصغير على المسرح ليلعب دوراً قصيراً لإضحاك الجمهور عندما مرضت أمه. ودخل إلى عالم السينما عام 1914 وابتكر شخصية الصعلوك التي اشتُهر بها بعدئذ. ثم اقتحم عالم الإنتاج والإخراج السينمائي وأسَّس شركة «الفنانون المتحدون» (يونايتيد آرتستس). ومثَّل تشارلي تشابلن في كل أفلامه التي أخرجها عدا فيلمي «امرأة من باريس» عام 1923 و«كونتيسة من هونج كونج» عام 1967.

وتميَّزت أفلامه الكوميدية بمسحة إنسانية عميقة وإحساس عال بمتاعب الإنسان في المجتمع الرأسمالي بدءاً من أفلامه الأولى مثل «الصعلوك» و«الشارع السهل» و«الشقاء والمهاجر» و«حياة كلب» وغيرها، مروراً بفيلم «البحث عن الذهب» (1925) و«السيرك» (1928) و«أضواء المدينة» (1931) و«الأزمنة الحديثة» (1936)، وانتهاءً بفيلمه «ملك في نيويورك» (1957) الذي مُنع من العرض في الولايات المتحدة.

ويعتبر البعض أن فيلمه «الديكتاتور العظيم» (1940) دعاية يهودية حيث لعب فيه دور الحلاق اليهودي المضطهَد كما لعب دور هينكل الديكتاتور المجنون، وكان أول فيلم يسخر صراحة من ألمانيا الهتلرية في الوقت الذي لم تكن الولايات المتحدة قد حددت بعد مع مَنْ سـتدخل الحرب!

وكانت شخصية الصعلوك الذي يواجه السلطة بكل أشكالها بدءاً من صاحب العمل والملاحظ، مروراً بالشرطي، وانتهاءً بالسياسيين المرتشين ورجال الأعمال الفاسدين، تعبيراً عن رفض البنية الاجتماعية الهرمية ورغبة في الارتباط بالإنسان الضعيف المسحوق. وامتازت الشخصية التي قدمها بالبساطة والتلقائية الأمر الذي قربها كثيراً إلى الجماهير في أنحاء العالم كافة حتى أصبحنا نجد «تشابلن» في كل مكان. وحتى صارت الشخصية في ذاتها رمزاً مرتبطاً بكوميديا الحركة والمواقف الساخرة.

وأدَّت آراء تشابلن الجذرية ورؤيته الإنسانية الرافضة للبناء الاجتماعي الاسـتهلاكي إلى وضعه في القائمـة السـوداء واتهامه بالشيوعية، حتى أنه هاجر من الولايات المتحدة في الفترة التي سادت فيها المكارثية ولجنة مكافحة الشيوعية. وقد اعتبر هذا من علامات يهودية تشابلن حيث إن معظم الفنانين الذين اُضطهدوا في هذه الفترة كانوا من اليهود. ومرةً أخرى، لم يحاول البعض أن يربط بين آرائه الثورية الرافضة للنموذج الاستهلاكي العلماني وبين رفض البنية الهرمية له، بل اتجهوا للحل الاختزالي الأسهل وهو تفسير موقفه على أساس يهوديته.

كلـــود لانزمـــان (1925-)

Claude Lanzman

كاتب فرنسي ومنتج سينمائي، وُلد في باريس لعائلة من البورجوازية الصغيرة. درس الفلسفة في جامعة السوربون، ثم عمل محاضراً في جامعة برلين. وانجذب نحو الأنشطة الصهيونية، ثم تأثر فيما بعد بفكر جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار الوجودي، وأصبح منذ عام 1952 من المقربين لهما حيث تعاون معهما في أعمالهما الفكرية وأنشطتهما العامة، كما اهتم بقضايا عديدة داخل فرنسا وخارجها. وقد أسس معهما مجلة الأزمنة الحديثة وكان من أصغر المساهمين والمحررين بها. ومنذ الستينيات، تزايد اهتمام لانزمان بالقضايا اليهودية، وخصوصاً مسألة الهولوكوست أو الإبادة النازية. وترك الصحافة عام 1970 واتجه نحو الإنتاج السينمائي حيث أنتج فيلماً بعنوان «لماذا إسرائيل» عُرض عام 1973 وقيل عنه إنه من أفضل الأفلام التي أُنتجت عن إسرائيل على الإطلاق، وهو في الواقع لا يعدو أن يكون دعاية صهيونيـة عادية وُظّفـت في خدمتها إمكانيـات فنيـة ضخمة. وفي عام 1985، عُرض له فيلمه الضخم «شواه» أي «الهولوكوست» الذي ظل يُعدُّ له لمدة عشرة أعوام. ويتناول الفيلم موضوع الإبادة من خلال تسع ساعات من الحوارات واللقاءات مع شخصيات يهودية وبولندية ونازية. ولا يُلقي هذا الفيلم أيضاً أي ضوء جديد على الظاهرة النازية أو ظاهرة الإبادة ويكرر الخط الغربي الذي يحول اليهود (على وجه العموم، وليس يهود أوربا على وجه التحديد) إلى ضحايا ومن سواهم إلى جزارين. وقد نال لانزمان عن هذا الفيلم أهم الجوائز التي تقدمها الجماعة اليهودية في فرنسا وهي جائزة المؤسسة اليهودية الفرنسية. ويقيم لانزمان حالياً في باريس ويعمل مديراً لمجلة الأزمنة الحديثة.

مـيل بروكـس (1926-)

Mel Brooks

واحد من أهم مخرجي الكوميديا في عقدي السبعينيات والثمانينيات في السينما الأمريكية. ويمثل، مع مجموعة تشمل مارتن فلدمان وجين وايلدر ووودي ألين (في أفلامه الأولى)، مدرسة خاصة في الكوميديا. وهو يُعرِّف نفسه قائلاً: « لا أحب أن أكون ما يظن الناس أنه أنا، لكن المشكلة أنني لا أدري حقاً من أنا ».

وُلد في نيويورك عام 1926 لأسرة من يهود اليديشية، ونشأ في حي اليهود ببروكلين حيث لم تكن حياة الفقراء سهلة،وكانت أسرته فقيرة.كان اسمه الأصلي هو ملفين كانسكي ولكنه غيَّره عام 1940 إلى ميل بروكس (أي أنه تبنَّى اسماً غير يهودي).وعمل كمهرج في مجموعة فنادق «البورش»،وهي فنادق كان يرتادها يهود أوربا الوسطى،وبدأ بها كل من جيري لويس وداني كاي وليني بروس.

تعود علاقة بروكس بالسينما إلى أيام طفولته. إذ كانت السينما تمثل، لهذا الصبي اليهودي الفقير المُجبَر على العمل، ملاذاً وملجأ من عالم قاس لا يرحم في مجتمع الأغيار الغني الذي لا يهدأ. وتضافرت عوامل متعددة لتكوين الأسلوب البروكسي في الكوميديا، بيد أنها جميعاً ترجع إلى خصيصة واحدة ألا وهي الرعب؛ الرعب من مجتمعالأغيار الذي يرفض اليهود، والرعب من مجتمع الأغيار الذي يرفض الفقراء، والرعب من المجتمع الصاخب الذي لا يهدأ ويرفض من لا عمل له. وتأكَّد هذا الرعب عندما بدأ بروكس في العمل في مجال السينما والتليفزيون. ويتخذ أشكالاً ثلاثة في أفلامه، وهي: البذاءة، والعبثية المرة، والمرجعية السينمائية (أي أن تصبح الأفلام الأخرى هي المرجعية الوحيدة والركيزة النهائية للفيلم). وهي تمثل آلياته الدفاعية لدخول مجتمع الأغيار ونقده في الوقت نفسه، إنها آليات إرضاء الآخر بالسخرية من الذات، ومن خلال ذلك إرضاء الذات بالسخرية من الآخر وفَضْحه. ويحمل فيلمه «تاريخ العالم» (1981) وجهة نظره كاملةً، كما يمثل أسلوبه المتميِّز في أجلى ملامحه. ومن أهم أفلامه الأخرى، «منتهى التوتر» (1977) و«نكون أو لا نكون» (1985).

وودي أليــــن (1935-)

Woody Allen

مخرج سينمائي وممثل وكاتب سينمائي أمريكي يهودي اسمه الأصلي هو ألان ستيورات كونيجسبرج، وُلد في بروكلين (وهو حي يتركز فيه عدد كبير من يهود الولايات المتحدة في نيويورك) لأب كان يعمل جرسوناً في مطعم وفي قطع الجواهر. التحق بجامعة نيويورك، ولكنه لم يحصل على شهادة جامعية. فاختار اسم وودي ألين اسماً فنياً وبدأ حياتـه المهنيـة ككاتب نكات يقـدمها للصحف أو لمقدمي البرامج التليفزيونية.وفي هذه الفترة، ابتكر ملامح الشخصية الأساسية التي تظهر في معظم أفلامه؛ شخصية البطل المضاد والمعادي للبطولة، أو البطل المهزوم الذي يخسر دائماً ويفشل.

وثمة موضوعان أساسيان في أفلام وودي ألين، وهما مترابطان تمام الترابط؛ أما الأول فهو وجود البشر في الزمان حيث يحصدهم الموت بمنجله، أما الموضوع الثاني فهو الجنس. والجنس هو وسيلة للمتعة ولكنه أيضاً طريقة للتواصل والتضامن ومعرفة النفس البشرية. ولكن الزمان يؤدي إلى التغيُّر فتصبح كل الأمور نسبية، ومن ثم يصبح العالم خالياً تماماً من أية مطلقات معرفية أو أخلاقية، ومن أي معنى أو هدف، وتصبح الحركة آلية رتيبة مكرَّرة، ويُفرَّغ الجنس من المعنى تماماً ويصبح مجرد مسألة جسمانية لا تحل مشكلة المعنى. ويحاول البطل المهزوم أن يتجاوز كل هذا عن طريق الإيمان الديني. ولكنه يرتد دائماً على عقبيه فاشلاً، إذ يدرك استحالة بحثه، فيظل قابعاً رغم أنفه في عالمه العلماني يبيِّن حدوده ومأساته، ولكنه لا يتجاوزه قط. ولكنه لا يقنع بهذا أيضاً، إذ نجده يبين حدود الإيمان الديني كذلك، ومن ثم فهو في تصوُّرنا واحد من أهم نقاد المجتمع العلماني الذي يراه بوضوح ويرى الكارثة المعرفية والأخلاقية الناجمة عن النسبية، ولكنه يظل داخل حدود نسقه، يجلس على عتبات الإيمان الديني يُطلق نكاته المظلمة المنيرة.

وعادةً يتناول وودي ألين هذه الموضوعات من خلال حشد كبير من الشخصيات بعضهم له ملامح إثنية واضحة مُستمَدة من حياة مهاجري يهود اليديشية في الولايات المتحدة (هم وأبناؤهم الذين حققوا قدراً من التأمرك ولكنهم لم يندمجوا تماماً، وهو ما يجعلهم غير مستقرين لا في القالب اليهودي اليديشي ولا داخل قالب الواسب، أي الأمريكيون البيض البروتستانت). وهم، في هذا، يشبهون الإنسان الغربي الحديث الذي فقد عالمه التقليدي ولكنه لم يجد نفسه إلا غريباً في عالمه الحديث.

ومن أفلام وودي ألين الأولى، التي تستخدم نمط البطل المهزوم، فيلم «فلتأخذ النقود وتهرب» (1969)، وهو محاكاة ساخرة للأفلام الوثائقية، التي يكون بطلها عادةً شخصية ذات أبعاد بطولية. ولكن بطل هذا الفيلم هو مجرم لا يتَّسم بأية كفاءة، فهو في واقع الأمر إنسان عادي. ولذا، فهو دائم الفشل، يبدأ وينتهي في السجن ولا يضيء حياته سوى قصة حب قصيرة.

وتدور أحداث فيلم «العبها مرة أخرى ياسام» (1972) حول ناقد سينمائي مُستوعَب تماماً في أفلام همفري بوجارت، وفي شخصيته التي تتسـم بالذكـورة الفائقـة. ولذا، بدلاً من أن يصـبح هذا الناقد مبدعاً، تتبدد طاقته في الحلم بالقيام بغزوات تشبه غزوات بوجارت، فتهجره زوجته ويبحث هو عن حب حقيقي أو علاقة غرامية أو جنسية ذات معنى.

أما فيلم «النيام» (1973)، فيتناول الحياة في عالم المستقبل الذي يشبه الكابوس. فبطل الفيلم لا يمكنه التأقلم مع هذا العالم المنظَّم بشكل هندسي، وهو ما يجعل تجربته تشبهتجربة اليهودي في الحضارة الأمريكية الحديثة، وتجربة الإنسان بشكل عام في المجتمع الصناعي الحديث.

وفيلم «كل ما كنت دائماً تود معرفته عن الجنس وتخشى السؤال عنـه» (1972) هو محاكاة كومـيدية لعـدة أنواع ومواضـيع أدبية وسينمائية: رواية الخيال العلمي، وقصة فرانكنشتاين، وأفلام الإباحية والشره الجنسي ومشكلة الشذوذ الجنسي في المجتمع الحديث. والفيلم يتضمن نقداً عميقاً للعقلية المادية الحديثة التي تحاول الوصول إلى الحد الأقصى في كل شيء: التمتع بالجنس والتحكم في الواقع واستكشاف المجهول. والصوت الروائي في الفيلم ينظر إلى كل هذا بشيء من عدم التصديق وبكثير من السخرية.

ويُعتبَر «الحب والموت» (1975) من أهم أفلام وودي ألين، وتدور أحداثه في روسيا القيصرية أثناء غزو نابليون لها. وبطل الفيلم هو بطل وودي ألين المعتاد، الإنسان الصغير الذي يفشل دائماً، ولكنه يجد نفسـه في هـذه المرة بطلاً رغم أنفه. وتدور حبكة الفيلم حول الحب والموت، ومحاولة البطل أن يصل إلى الحب وأن يفهم الموت، وهو يحقق شيئاً من النجاح في محاولته الأولى إذ يتزوج ابنة عمه سونيا بعد سنوات طويلة من الحب المرفوض، لكن زواجه هذا يتم عن طريق الصدفة. أما الموت، فيظل الشيء البعيد الذي لا يُفهَم: يحاول البطل أن يغتال نابليون فيُقبَض عليه ويُحكَم عليه بالإعدام، وفي الليلة المحددة لتنفيذ الحكم يأتيه في سجنه ملاك يبشره بالنجاة والخلاص فيتقدم البطل إلى الموت دون خوف، ثم يظهر أن الملاك كان يكذب عليه وينتهي الفيلم بإعدام البطل!

ويُعتبَر فيلم «آني هول» (1977) نقطة تحوُّل في تاريخ وودي ألين السينمائي. والفيلم يتناول كثيراً من الموضوعات الأمريكية اليهودية، علاقة اليهودي بالشيكسا (أنثى الأغيار الشقراء)، وموقف اليهودي المُبهَم من حضارة الواسب، إذ هو يحبها ويكرهها في آن واحد، يود دخول عالمها والاندماج فيه ولكنه يخشى أن يفعل ذلك. وهناك أيضاً موضوع كره اليهودي لنفسه وعشرات الموضوعات الأمريكية الأخرى مثل البارانويا والتحليل النفسي. وتزداد قضية المعنى أهمية في هذا الفيلم، بل وتشغل المركز.

ويُعَدُّ فيلم «الداخل» (1978) من أفلام وودي ألين القليلة المأساوية والتي لا يمثل دوراً فيها. ويتناول قصـة حيـاة امرأة تفقـد علاقتها بالحياة، إذ تُستوعَب تماماً في القيم الفنية، خصوصاً قيمة التناسق، إلى درجة أنها تحاول أن تفرضها على الواقع. وحينما ينفصل عنها زوجها ثم يطلقها، لا تتحمل هذه الصدمة وتنتحر. ويتزوج الرجل بعد ذلك امرأة سوقية بعض الشيء ولكنها مليئة بالحيوية، وهي رغم كره بقية أعضاء الأسرة لها تأتي لهم بالحياة. ورغم أن الفيلم لا يستخدم الأنماط الإثنية المحددة، إلا أن من الواضح أن الزوجة الأولى تنتمي إلى حضارة الواسب الجميلة المتسقة. أما الثانية، بردائها الأحمر، فترمز إلى المهاجرين اليهود والذين قد يتسمون بالسوقية ولكنهم مليئون بالحياة .

ومن أهم أفلام وودي ألين فيلم «مانهاتن» (1979)، ومانهاتن هي أهم أحياء نيويورك ومركز المال والتجارة، وهو الحي الذي يعيش فيه وودي ألين نفسه. وهو في هذا الفيلم، يتناول الفوضى الأخلاقية والعاطفية الناجمة عن النسبية، واختفاء المعنى والقيمة، وتحوُّل كل شيء إلى جزء من الحياة العامة. فزوجته، على سبيل المثال، تتركه لتعيش مع امرأة أخرى (فهي مُساحقة)، وتؤلف كتاباً عن حياتهما الشخصية تتعرض فيه لأدق وقائعها. ولكن، وسط كل هذا، تُوجَد فتاة صغيرة تحب البطل وترتبط به. ورغم محاولته الهرب منها، فإنها تظل تؤكد حتى النهاية ضرورة أن يثق البشر، الواحد بالآخر.

ويتناول فيلم «زيليج» (1983) قصة حياة رجل يتلون كالحرباء تبعاً للوسط الذي يعيش فيه حتى يفقد هويته تماماً. ولعل زيليج تعبير عن مأساة الإنسان الحديث الذييفشل تماماً في تحقيق الانتماء، لأية عقيـدة ولأي مجتمـع، ولذا يظل دائماً غريباً لا مأوى له. والإنسان الحديث، في هذا، يشبه المهاجر اليهودي (أو غيره من المهاجرين) حيث يبذل قصارى جهده لكي يصبح جزءاً من مجتمعه ويحاول في الوقت نفسه ألا يفقد هويته، ولكن المحاولة تبوء عادةً بالفشل إذ أن ما يحدث هو أن المهاجر يفقد يهوديته، ولكنه في الوقت نفسه لا يصبح من الواسب. ولذا، فإن محاولته الاندماج تصبح حالة مرضية مثل حالة زيليج.

وفي فيلم «برودواي داني روز» (1984) نجد البطل الصغير المهزوم في عالم تسوده قيم التنافس والقوة، وهو في هذه المرة وكيل أعمال فنانين ينبذونه حينما يحققون النجاح، أما هو فيستمر في جمع المهزومين والفاشلين والعاطلين عن المواهب من حوله، هؤلاء الذين لا يمكنهم تحقيق البقاء في مجتمع التنافس الدارويني.

ومن أهم أفلام وودي ألين «وردة القاهرة القرمزية» (1985) وهو فيلم لا يظهر فيه هو نفسه، والفيلم يقف ما بين الكوميديا والمأساة، بطلته امرأة متواضعة الحال تعيش حياة بائسة، حياة لا يوجد فيها نبل أو تجاوز أو تعال، وزوجها عاطل عن العمل بسبب الكساد الاقتصادي في الثلاثينيات، ولا تجد ملجأ من كل هذا الكابوس إلا في عالم الأحلام الوردية، عالم السـينما. تذهب إلى السـينما كل يوم وتشـاهد نفس الفيلم، المرة تلو الأخرى، فعالم السـينما هو عـالم غير حقـيقي ولكنه جمـيل ويعـلو على واقعها الرديء. والفيلم الذي تشاهده هو فيلم من الثلاثينيات يُسمَّى «وردة القاهرة القرمزية»: فيلم هروبي، أبطاله أثرياء يتنقلون من القاهرة إلى شرفات شققهم الفاخرة في شيكاغو وإلى المطاعم التي تغنى فيها أشهر المغنيات. وتُستوعَب البطلة تماماً في الفيلم الذي تشاهده إلى أن يزول الخط الفاصل بين الواقع والخيال، ويقع بطل الفيلم في غرامها ويترك الشاشة ويهرب معها لتعيش البطلة الحالمة معه حياة مليئة بالمغامرات، ثم يأخذها البطل ويدخل معها عالم الفيلم ذاته حيث تختلط بالنجوم وتحيا حياة المتعة والثراء. ولكن الفيلم ينتهي حين يأتي ممثل الفيلم ويخبرها بأن عليها أن تختار بينه (هو الممثل الحقيقي) وبطل الفيلم الوهمي، فتختاره هو بطبيعة الحال. ولكن يظهر أنه خدعها، إذ يعود إلى هوليود وتعود هي إلى حياتها العادية الرتيبة لتشاهد مزيداً من الأفلام وتعيش مرة أخرى في عالم البؤس تتطلع إلى عالم الأحلام الوردية!

وتظهر في «حنا وأخواتها» (1986) قضية المعنى بكل حدة، فبطله كاتب تليفزيوني أمريكي يهودي لم يَعُد يؤمن باليهودية، ويبدأ رحلة البحث فيعتنق المسيحية الكاثوليكية بضعة أيام ولكنه يتركها، ثم يجد العزاء والمعنى في الحب والسينما. وبعد هذا، ظهر فيلم «قصص نيويورك» (1988)، وهو فيلم يتكوَّن من ثلاثة أجزاء، أخرج وودي ألين ثالثها بعنوان «أطلال الملك أوديب» (لعب على لفظ «ركس rex» اللاتينية التي تعني «ملك» وكلمة «ركس wrecks» الإنجليزية وتعني «يحطِّم» أو «يهدم»). وفي هذا الفيلم، يعود ألين إلى الموضوع اليهودي ويتناوله بشكل مباشر كما فعل في «آني هول»، فالفيلم يتناول حياة شاب أمريكي يهودي يحاول أن يندمج في المجتمع، فيغيِّر اسمه ويتصرف تماماً مثل الواسب ويحب شيكسا. ولكن أمه اليهودية ذات الشخصية المتسلطة والهوية اليديشية الواضحة الفاضحة ترفض هذا الوضع تماماً. وفي يوممن الأيام، تختفي الأم ولكنها تظهر في سماء نيويورك على هيئة صورة ضخمة تتحدث معه ومع المارة حيث تستمر في مطاردة ابنها إلى أن يرضخ في نهاية الأمر ويحب أنثى يهودية تشبه أمه تماماً. ولا يتسم هذا الفيلم بكثير من التركيب ربما بسبب قصره.

أما فيلم «جرائم وجنح» (1989) فتتبلور فيه كثير من الموضوعات وتصل إلى منتهاها، فقضية المعنى ومصدر القيمة الأخلاقية المطلقة في المجتمع العلماني تصبح هنا قضية مركزية. وبطل الفيلم مخرج سينمائي (متخصص في الأفلام الوثائقية) يؤمن بفنه وتشاركه هذا الإيمان فتاة يعتقد أنها تحبه. ويُوجَد في الفيلم كذلك طبيب عيون يهودي أمريكي ناجح، مندمج في مجتمعه، يُقدِّم خدمات عديدة للمجتمع، أحد مرضاه حاخام أعمى. وينتهي الفيلم حين يجد البطل أن صديقته تتركه لتتزوج رجلاً سوقياً متخصصاً في العلاقات العامة ويقوم طبيب العيون باستئجار قاتل ليقتل عشيقته التي تهدده بالفضيحة، فكأن العام والبراني ينتصر تماماً على الخاـص والجـواني، ويختفي اليقـين المعرفي والمطلقية الأخلاقية. وعلى كلٍّ، فإن الحاخام أعمى منذ البداية، أما الطبيب الذي يحاول أن يرجع النور لعيونه فهو مجرم!

وظهر عام 1990 فيلم «أليس»، ويتناول حياة أنثى أمريكية ثرية تعيش حياة رتيبة تماماً لا يوجد لها هدف أو معنى. بدأت تشعر بالفجوة العاطفية التي تفصل بينها وبين زوجها، وبالمسافة التي تفصلها عن أطفالها بسبب اعتمادها على مربية في تنشئتهم وعلى آلاف الأشياء الأخرى (مثل اللعب والهدايا التي لا تنتهي)، وتقرر تغيير حياتها فتستشير طبيباً صينياً يعرف بعض الوصفات السحرية، من بينها دواء إن أعطته لشخص فإنه يقع في غرامها على التو. وبعد أن تجربه ترفض هذا الحل السحري، كما ترفض أن تذهب للاستقرار في الهند بحثاً عن تجربة دينية وإنما تترك زوجها وتأخذ أطفالها وتتفرغ لتربيتهم متخطية المسافة التي تفصل بينها وبينهم.

وأفلام وودي ألين الأخيرة تتناول الموضوعات نفسها بشكل أكثر عمقاً وظلمة. ففيلم «رصاص فوق برودواي» (1994) يطرح السؤال التالي: هل من حق الفنان (هل من حق أي إنسان) أن يكون له عالمه الأخلاقي المستقل، أي أن يحكم على العالم بقيمه هو، دون مرجعية إنسانية مشتركة؟ ويدور الفيلم في عالمين: عالم المسرح وعالم المافيا وتربط بينهما شخصية عضو المافيا الذي يؤمن إيماناً مطلقاً بالفن يَجُبُّ أي التزام آخر (بما في ذلك الالتزام الخلقي تجاه البشر) والذي يعرف خبايا فن المسرح ويُقدِّره حق قدره. هذا المجرم، الفنان يقوم بحراسة ممثلة من الدرجة الرابعة، تعمل في ملهى ليلي ولكنها تتطلع للشهرة. وتنجح في الحصول على دور ثانوي في مسرحية يقوم عشيقها زعيم المافيا بتمويلها إرضاءً لها حتى يوفر لها دوراً فيها. ويتدخل الحارس الفنان تدريجياً أثناء البروفات فيُعيد صياغة حدث هنا وعبارة هناك في النـص المـسرحي، إلى أن يصـبح عملاً جيداً. ولكنه يدرك تماماً أن الممثلة، عشيقة زعيم المافيا، ستُفسد العرض، وتدمر العمل الفني. وانطلاقاً من ولائه المطلق للقيم الجمالية يقوم بإطلاق الرصاص عليها. وهنا يُدرك الكاتب الأصلي للمسرحية التضمينات اللا إنسانية لهذا الالتزام النيتشوي بالفن، فيرفضه ويعود لصديقته ليحيا حياةً إنسانية سوية بعد أن كان قد هجرها لينطلق في عالم الفن.

وتدور أحداث فيلم «أفروديت العظمى» في نيويورك (حيث تدور معظم أحداث أفلام وودي ألين) حول مشاكل الطبقة المتوسطة الأمريكية. ومع هذا حاول وودي ألين أن يتناولها في إطار يمنحها شيئاً من العظمة والبطولة، ويبدأ الفيلم لا في نيويورك وإنما في اليونان القديمة إذ نرى مشاهد من مأساة بطل الفيلم الذي يحاول أن يعرف من هي الأم الحقيقية لابنه بالتبني. وحينما يكتشف أنها تعمل بالبغاء يُصدَم ويقرر أن يصلحها، حتى لا يُصدَم ابنه حينما يكبر ويقرر أن يكتشف أمه الحقيقية. ورغم تعثُّر محاولاته، إلا أن كل الأمور تسـتقر وينتـهي الفيلم " نهاية سعيدة ".

ويمكننا الآن أن نتناول «يهودية» وودي ألين. وكما أسلفنا، هناك بُعد يهودي قوي في أفلامه. فثمة إشارات واضحة أو كامنة، إلا أن أبطاله يهود (في العادة). ففي «آني هول» و«أطلال الملك أوديب» و«جرائم وجُنح»، نجد أن يهودية البطل في مجتمع الواسب هي الموضوع الأساسي.أما في فيلم «مانهاتن»،فإن يهوديته يشار إليها وحسب ولا تشكل موضوع الفيلم. وفي فيلم «الحب والموت»، يُعرَّف البطل في البداية باعتباره يهودياً ولكنه يصبح مسيحياً في النصف الثاني من الرواية.وفي «حنا وأخواتها»،نجد أن الأسرة يهودية،ولكنها أسرة أمريكية يهودية يواجه أعضاؤها مشاكل المجتمع العلماني الأمريكي من تفكُّك وصراع ومحاولة تجاوز كل ذلك من خلال شكل من أشكال التضامن.ولكن شخصياته،سواء كانت يهودية أو كانت غير يهودية،فإنها تتجاوز وضعها الخاص لتصبح جزءاً من نمط إنساني عالمي يمكن للجميع المشاركة فيه والإحساس به. ولهذا، فإن يهودية وودي ألين (حينما تظهر) ليست استبعادية، وإنما هي رمز لمعاناة الإنسان في مجتمع فقد المعنى والقيمة، ذلك هو الموضوع المباشر البارز في العمل،بينما الموضوع غير المباشر والكامن موضوع ذو طابع إنساني عام. وهذا يثير، بلا شك، إشكالية يهودية وودي ألين، إذ أن تناوله الموضوع اليهودي قد لا يختلف كثيراً عن تناول أي مخرج آخر، إلا إذا أخذنا في الاعتبار أن ألين ينظر إلى الموضوع من الداخل باعتبار أن الموضوع اليهودي يخصه بشكل شخصي ومباشر، فأبطاله على علاقة وثيقة بسيرته الشخصية.

وألين لا يختلف كثيراً عن فنانين يهود آخرين، مثل مارك شاجال وإسحق بابل، حيث لا يشكل العنصر اليهودي سوى تلك المادة الخام التي يتناولونها في أعمالهم بشكل إنساني عام. وهذا يجعل بوسعنا التعاطف مع الضحايا من اليهود، والوقوف إلى صفهم، والتمتع بما في مثل هذه الأعمال الفنية من جمال وإدراك لحالة الإنسان في العصر الحديث.

ومما يجدر ذكره أن وودي ألين كتب مقالاً شديد الأهمية عن الانتفاضة، مستخدماً فيه نفس الصوت الروائي الذي يستخدمه في أفلامه، أي صوت البطل الفاشل الذي يحاول أن يأتي بأعمال بطولية ويخفق ولكنه يصر مع هذا على أن يتمسك بموقفه المبدئي. وهو، في هذا المقال،يهاجم الدولة التي تدع جنودها يضربون الناس ليكونوا عبرة للآخرين، وتُكسِّر أيادي الرجال والنساء حتى لا يلقوا بالحجارة، وتَجر المدنيين من بيوتهم بشكل عشوائي لتحطمهم ضرباً في محاولة لإرهاب بقية السكان وإرغامهم على الهدوء.

وحينما احتجت المؤسسة الصهيونية، كتب وودي ألين مقالاً آخر يُعلن فيه تمسُّكه بموقفه، ودهشته ممن يطالبونه بعدم الهجوم على الدولة الصهيونية لأنه يهودي. وموقف وودي ألين من الانتفاضة هو استمرار لموقفه في أفلامه وبحثه عن المعنى والقيمة المطلقة رغم إدراكه أن قوى الشر والنسبية مسيطرة تماماً بل ومهيمنة.

وقد تزوج وودي ألين ثلاث مرات وعاش مع الممثلة ميا فارو (التي لعـبت دور البطولة في معـظم أفلامه الأخيرة) وأنجـبت منه طفلاً (ساتشيل). وانتهت هذه العلاقة شبه الزوجية بانفصال عاصف حين اتهمت ميا فارو وودي ألين بأنه يتحرش جنسياً بأطفالها، وأنه أغوى ابنتها الكبرى بالتبني (وهي من أصل آسيوي). وقد دافع وودي ألين عن نفسه بأنها ليست ابنته وأنه لم يعتبرها كذلك في أية لحظة من حياته. وقد برأه القضاء، وهو يعيش الآن مع الابنة الكبري المشار إليها.

دســتن هـوفمـان (1937-)

Dustin Hoffman

ممثل أمريكي يهودي ونجم من نجوم السينما الأمريكية. تميَّز بأداء عدد من الأدوار المهمة والصعبة التي نال عن اثنين منها جائزة الأوسكار ورُشح عن ثلاثة منها للجائزة نفسها، وهو يُعَدُّ واحداً من أهم الممثلين الأمريكيين على الإطلاق.

لمع نجمه بعد أول فيلم له وهو فيلم «الخريج» (1967) حيث لعب دور خريج الجامعة الذي يدخل في علاقة مع امرأة أكبر منه ويحب في الوقت نفسه ابنتها. ورُشح عندوره في هذا الفيلم لجائزة أوسكار أحسن ممثل. وتكرَّر ترشيحه بعدئذ عن فيلم «راعي بقر منتصف الليل» حيث لعب دور المُقعَد الذي يقوم بإغواء شاب قوي قادم من الريف الأمريكي ويبيعه للمُخنَّثين.وكذلك رُشح لثالث مرة عن فيلم «ليني» حيث لعب دور أحد أشهر الكوميديانات اليهود في أمريكا والذي كان يُعتبَر أيضاً أكبر المتمردين على اللغة. ثم نال جائزة الأوسكار عن فيلم «كريمر ضد كريمر» الذي مثل فيه دور المُطلَّق الذي يرعى ابنه بمفرده فيكون له بمنزلة الأب والأم معاً. وبعدئذ نالها ثانية عن دوره في فيلم «رجل المطر» حيث قام بدور الشقيق المتخلِّف عقلياً لأخ انتهازي ولكنه رغم تخلُّفه العقلي إنسان ذو عبقرية رياضية.

ومن أدواره المهمة الأخرى، دوره في فيلم «الفراشة» وهو دور المتهم النصاب المسجون في أكبر قضية تزييف في فرنسا. وبعد أن يتم نفيه إلى جزيرة الشيطان، يحاول أن يؤقلم نفسه فيرشو الحراس ويخلق لنفسه عالماً خاصاً. أما في فيلم «ذئاب من قش»، فقد لعب دور الأستاذ المسالم الذي تتعرض زوجته للاغتصاب فيتحول لوحش مفترس. ثم لعب دوراً مشابهاً لهذا في فيلم «رجل الماراثون» حيث يموت أخوه، رجل المخابرات الإسرائيلية، أمامه ويطارده النازيون، فيقاتلهم بضراوة. ومن أهم أدواره الكوميدية، دوره في فيلم «توتسي» حيث يلعب دور الممثل الذي لا يجد عملاً رغم تميُّزه الشديد، وربما بسبب تميُّزه هذا، فيضطر إلى التنكر في شخصية امرأة ويقوم بدور امرأة في مسلسل تليفزيوني ويحيا هذه الحياة المزدوجة للذكر/الأنثى. أما في فيلم « البطل » فهو يلعب دور الرجل الفاشل الذي يقوم بفعل بطولي حين يُنقذ ركاب طائرة ولكن فعله هذا يُنسب لغيره.

ويُعَدُّ هوفمان نموذجاً بارزاً لجيل الستينيات من الممثلين من أعضاء الجماعات اليهودية في السينما الأمريكية الذين يتميَّزون بأداء جميع الأدوار ولا يقتصرون على الكوميديا فقط كما كان الحال مع الجيل الأول. وكان أعضاء الجماعة اليهودية قد حققوا حينذاك حراكاً اجتماعياً وانصهاراً في المجتمع الأمريكي واحتلوا مكانة مستقرة ضمن الشرائح العليا من الطبقة الوسطى، ولم يَعُد لزاماً على الممثل اليهودي أن يستخدم آلية السخرية من الذات من خلال الأدوار الكوميدية التي تميَّز فيها اليهود في نهاية العشرينيات والثلاثينيات لتحقيق القبول الاجتماعي وتحقيق نوع من الاندماج. وبالإضافة إلى ذلك، تطوَّرت مكانة السينما في المجتمع الأمريكي بحيث أصبحت بعد أكثر من خمسين عاماً صناعة استثمارية ضخمة وبالتالي منطقة جذب للناجحين من أبناء الطبقة الوسطى، اليهود غير اليهود، ومجالاً لتحقيق مزيد من النجاح المادي والثراء من خلال آليات صناعة الخيال ونشر الحلم.

ويُلاحَظ أيضاً أن هوفمان يلعب دوراً يكاد يكون مشابهاً لشخصية غير السوي في مجتمع الأسوياء أو الشخصية الازدواجية السوي/غير السوي. فهناك قدر من الغربة في كل أدواره المركَّبة التي اشتُهر بأدائها،فهـو خريج الجامعـة الذي يحـب المرأة (التي هي في مقـام أمه) وبنتها،المتخلف عقلياً/حاد الذكاء،المزيِّف الذي يقبل الأمر الواقع في المنفى، المسالم/الوحش، ثم الرجل/المرأة (وظيفياً) في كريمر ضد كريمر، والرجل/المرأة (فيزيقياً) في «توتسي»، وهذا الدور المتكرر يتضح تماماً في ضوء وضع ومكانة أعضاء الجماعة اليهودية في المجتمع الأمريكي فهم في أواسط السلم الاجتماعي دائماً، أي تجسيد لفكرة ازدواجية السواء/اللا سواء في آن واحد.

سـتيفن سـبيلبرج (1950-)

Steven Spielberg

أحد أهم مخرجي السينما الأمريكية اليوم، ولا نغالي إذا قلنا إنه من أهم العاملين في قطاع الترويح والترفيه في عالم اليوم. حصل فيلمه «قائمة شندلر» الذي أخرجه وأنتجه عام 1993 على سبع جوائز أوسكار منها جائزة أفضل فيلم وأفضل مخرج. وحصل فيلمه «الحديقة الجوراسية» على ثلاثة جوائز أوسكار في نفس العام، أي أنه حصد عام 1994 عدد عشرة جوائز أوسكار (في التصوير والصوت والمونتاج والمؤثرات الخاصة والموسيقى وغيرها). وحققت الأفلام التي أنتجها أعلى أرقام في التوزيع وفي شباك التذاكر.

وتمثل أفلام سبيلبرج للمواطن الأمريكي أجـمل حل لكل مشكلاته، فهي تمجِّد الفرد في مواجهة آلة ضخمة غير محدَّدة الهوية، وهي تضع العالم في إطار من الثنائية الصلبة، حيث قوى الخير تحارب بشراسة ضد قوى الشر الغيبية التي لا نفهم أبداً من أين أتت. ففي «المبارزة» (1972) تطارد سيارة نقل ضخمة شرسة، أسرة أمريكية تركب سـيارة صغـيرة على طول طرق الولايات المتحـدة الواسـعة والمتعرجة، أي عالم المواطن الأمريكي الذي يمتطي سيارته صباحاً ويقطع بها مئات الأميال ليؤدي عمله الروتيني. ولكنه يريد المغامرة والاقتحام والمتعة فيوفرها له سبيلبرج.

ثم يأتي فيلم «فكوك» (1975) حيث نجد وحشاً هائلاً جباراً من وحوش عالم أعماق البحار الغامض هو تلك السمكة الجبارة من نوع القرش المفترس، يهاجم مجموعات البشر الأسوياء الأبرياء على الشواطئ، ويقتحم لحظات مرحهم ولهوهم (أقدس اللحظات عند المواطن الأمريكي). ثم لا ينجح سوى شريف المدينة أو رمز المواطن الخيِّر الفرد راعي البقر الجديد الذي ينتصر على المساحات الشاسعة ويهزم هذا الشر الغيبي الكامن في المجهول تماماً.

وسنجد أن هذه المعادلة التبسيطية الثنائية الصلبة خير/شر ـ مقدَّس/مدنَّس ـ ذات/موضوع تتكرر في كل أفلامه ويتخذ صوراً متعددة تتماهى مع الوضع السياسي أو الاجتماعي القائم وقتها وهو ما يزيد من جاذبيته لدى المواطن الأمريكي.

فمثلاً تُظهر سلسلة « أنديانا جونز »، عالم الآثار السوبرمان، أثناء فترة احتدام الحرب الباردة في أوائل الثمانينيات، ومع ارتفاع الشعارات الريجانية حول « إمبراطورية الشر » و« الشر الذي يتهدد العالم »... وغيرها. ونجد أن «مغتصبو التابوت المفقود» يُقدّم هذه الشعارات في التوليفة السبيلبرجية المعهودة، أسطورة السوبرمان الفرد الذي يتحدى كل شيء ويُحطم كل المؤامرات التي يحيكها الأشرار. إن «أنديانا جونز» هو التجسيد الأمثل للبطل السوبرمان في السينما الأمريكية، أو البطل الملحمي الضد الذي يسير إلى قدره المحتوم، ولا يبالي بشيء ولا يهمه شيء، فالغاية تبرر كل الوسائل.

وهذه خلطة سحرية ومزيج أسطوري بسيط في إطار تقني معقد يصل مباشرةً إلى المواطن الأمريكي المستهدَف كجمهور مستهلك. ويخاطب فيه نزعاته الاستهلاكية وتمركزه حول الذات ومفاهيمه التبسيطية ويُقدِّم له الصورة التي يريد أن يراها في الخيال بديلاً عن ذاته المقهورة المستلبة المتحوسلة في إطار عمله الروتيني اليومي المتكرر. ونرى في أفلام سبيلبرج بعدئذ تكراراً لموضوعات أساسية أسطورية عديدة، بل إن هناك موضوعات قديمة (مثل «مغتصبو التابوت المفقود» أو «عبدة الشر في المعبد الملعون» وهي تنويعات على موضوع إمبراطورية الشر، حيث هؤلاء الهنود الشرقيون يريدون غزو العالم ويُقدِّمون ضحايا من البيض). وهناك موضوعات حديثة مثل «القادمون من السماء في لقاءات قريبة من النوع الثالث» أو «E.T.» أي الكائن غير الأرضي الذي يُعيد التوازن للعالم، وهي تنويعة على أسطورة الجولم أو الكائن اليهودي المخلوق على يد البشر. وهناك موضوعات ما بعد حداثية مثل إعادة الخلق واستخدام الهندسة الوراثية كما في « الحديقة الجوراسية ». تلك الموضوعات الأسطورية مهمة جداً عند الجمهور المُستهدَف لأنها تمثل الجانب الغيبي والخرافي الضروري لاستكمال معادلة الحلول في الذات. إنها بمثابة الديانة السحرية الخرافية البسيطة التي تحل محل الدين المركَّب (أي أن موقف سـبيلبرج يقف على طرف النقيـض من موقف وودي ألين في فيلم « أليس » حيث يرفض الحل السحري تماماً(.

ومن أهم أفلام سبيلبرج فيلم « الحديقة الجوراسية » أو حديقة الديناصورات. وهو تعبير عن اتجاه في السينما الأمريكية يكشف عن مراجعة الفكر الغربي في مرحلة ما بعد الحداثة. ففي عصر التحديث لا يؤمن الإنسان الغربي إلا بالعلم ومقدرته على التحكم في الواقع وترشيده بحيث يمكنه التحكم في العالم وحوسلته. أما في عصر ما بعد الحداثة فثمة خوف عميق من مواجهة التاريخ إذ أن عملية البرمجة لا يمكن أن تكون كاملة وبالتالي تخرج الأمور عما هو مقرَّر لها. يدور فيلم « الحديقة الجوراسية » حول محاولة الرأسمالي الأمريكي جون هاموند أن يقيم حديقة للديناصورات، هي الوحيدة من نوعها في العالم،مستخدماً أرقى وآخر أنواع التكنولوجيا:من هندسة وراثية إلى عالم كمبيوتر،مُطبِّقاً كل هذا على الحفريات. ورغم أن هاموند يمتلك عالم الطبيعة تماماً (محميات للحيوانات في كينيا ـ مناجم في جمهورية الدومينـكان في أمريكـا اللاتينية)،إلا أنه يريد امتـلاك الماضـي والمستقبل،ومن ثَم يحـاول أن يخرجه من الكتـب ليحـوِّله إلى واقع يتم بيعه لمن يستطيع الدفع، فكل شيء قابل للبيع والشراء.ولكي يمرِّر هاموند مشروعه يستعين باثنين من علماء الحفريات (جرانف واستايلر)،وعالم رياضيات (مالكوم).يدخل الجميع عالم الديناصورات المُحاصَر بالأسوار المُكهربة والمُراقَب بواسطة الكمبيوتر،وينبهر الجميع،فقد أصبح الماضي حقيقة، فالديناصورات تتحرك أمامهم.ولكن الجنة المثالية تنقلب إلى جحيم حقيقي حين يفقد الإنسان السيطرة على الديناصورات (بسبب خيانة أحد علماء الكمبيوتر ومحاولته تهريب أجنـة الدينـاصورات خـارج الجزيرة(.

وعبر تركيبة السينما الأمريكية التقليدية تدور أحداث هروب جرانت وحفيدي هاموند من الوحوش،ويطرح الفيلم قضية الحد الذي يمكن أن يصل إليه الإنسان في محاولته التحكم في واقعه من خلال مقدراته العقلية وأن يسيطر عليه من خلال العلم.والفيلم يعلن أن ثمة حـدوداً.فالطبيعـة تتحايل على العلم.فالديناصورات تتعلم بسرعة وتتكيف مع الواقع الجديد وتتوالد رغم محاولة منعها من التناسل. وينتهي الفيلم بالإنسان وقد وقع صريعاً أمام قوة الماضي،متمثلة في الديناصورات،وقوة المستقبل متمثلة في التكنولوجيا.

وأم سبيلبرج يهودية إثنية لا تكترث بالشعائر الدينية وهو متزوج من امرأة غير يهودية. وهو يتناول أحياناً موضوعات يهودية في أفلامه («مغتصبو تابوت العهد» و«اللون القرمزي» و«قائمة شندلر»). لكن المؤكد هو أن أفلامه التي يصفها هو نفسه بأنها « لا تهدف إلا إلى الإمتاع الخالص واللذة فقط » هي التجسيد الأمثل للرؤية المعرفية الإمبريالية العلمانية الشاملة والحلولية الكمونية الكاملة حيث يصبح الإنسان مكتفياً بذاته، هو العبد والمعبود والمعبد، يُشبع رغباته ونزواته في عالم كل شيء فيه محكوم ومُتحكَّم فيه لخدمته ولا أهمية لشيء إلا ذاته.

قائمـــة شـندلــر

Schindler's List

«قائمة شندلر» واحد من أهم أفلام المخرج الأمريكي ستيفن سبيلبرج. والفيلم يستند إلى قصة روائية ومع هذا يأخذ الفيلم شكل الفيلم الوثائقي من أجل صبغ الفيلم بصبغة حقيقية، ولذا يستخدم المخرج أحياناً بعض المشاهد المألوفة لدى الناس من خلال صور الهولوكوست الكثيرة التي نُشرت أكثر من مرة. وبطل الفيلم هو شندلر، وهو صناعي ألماني سوديتي (من الألمان الذين طُردوا بعد الحرب العالمية الثانية من منطقة السوديت في غربي تشيكوسلوفاكيا). وهو إنسان غير مكترث بالسياسة متمركز حول ذاته مهتم بجمع المال وإنفاقه. ذهب إلى بولندا في بداية الحرب كي يُحقق الربح ويُمتع نفسه. وفي هذا الإطار يعقد صفقة مع النازيين يتم بمقتضاها تزويده ببعضالعمال اليهود من معسكرات الاعتقال والإبادة لتشغيل مصنعه الذي ينتج أواني تساعد ألمانيا في جهودها العسكرية. ورغم أن أهداف شندلر المبدئية نفعية مادية دنيئة، خالية تماماً من المثاليات، إلا أن إنسانيته تهزمه تدريجياً ويبدأ في التعاون مع اليهود ويُضحي بثروته من أجلهم إذ يقوم بتقديم الرشاوي لكبار الضباط النازيين كي يضمن بقاء اليهود الذي يعملون في مصنعه. وهكذا تتحول الصفقة المادية المبرمة بين شندلر والنازيين إلى آلية لإنقاذ بضع مئات من اليهود الذين يظهرون على «قائمة شندلر».

ولفَهْم فيلم «قائمة شندلر» حق الفهم لابد أن نضعه في سياقه الحقيقي، وأهم عناصر هذا السياق أن مخرج الفيلم سبيلبرج هو أمريكي يهودي (وليس يهودياً أمريكياً) مندمج تماماً، أي أنه من «اليهود الجدد»، تمييزاً لهم عن يهود أوربا، فتجربتهم الحضارية مختلفة عن تجارب يهود أوربا، فهم لم يعرفوا الجيتو ولا التخصص المهني أو الوظيفي. فقد نشأ سبيلبرج في منزل لم يحافظ على الطقوس الدينية، ولم يُطبِّق قوانين الطعام الشرعية وتزوج من غير يهودية. وكل هذا يعني أن علاقته بهويته اليهودية علاقة واهية للغاية فهي ليست هوية متماسكة متكاملة وإنما هي في واقع الأمر بقايا مجموعة من الرموز وشتات من الذكريات. وتجربة سبيلبرج في المجتمع الأمريكي تجربة إيجابية للغاية فقد حقَّق نجاحاً مذهلاً، وأصبح من أهم رموزه، بل أصبح يشارك في تطوير رموز هذا المجتمع ووجدانه من خلال أفلامه. فكيف يمكنه أن يتقبلالثنائية الصهيونية البسيطة: يهود ضد أغيار؟ وكيف يمكن أن يقبل الطرح الصهيوني لفكرة المركز الإسرائيلي مقابل الهامش اليهودي؟ ومن هنا كان لابد أن يكون بطلهشخصاً قادراً على أن يتحرك بكفاءة بين العالمين: عالم اليهود وعالم الأغيار، فهذا أقرب لتجربة سبيلبرج مع المجتمع الأمريكي من الأنماط الإدراكية الساذجة والثنائياتالصلبة التي تُوجَد في الأدبيات الصهيونية حيث يقف اليهودي وحيداً أمام ذئاب الأغيار.

ولكن هناك بُعْداً آخر أعمق في «قائمة شندلر». والأطروحة الأساسية في الفيلم هي أن النازيين لم يكونوا يقتلون اليهود كُرهاً فيهم أو حقداً عليهم، وإنما لأنهم كانوا غير نافعين. ولذا لم يكن يُباد النافع منهم، أي كل من يمكن توظيفه أو تسخيره في خدمة الاقتصاد الألماني. كان هناك من النازيين من يُكِّن كراهية خاصة لليهود، ولكن القيمة الحاكمة الكبرى لم تكن الكراهية وإنما المنفعة. وأدرك شندلر هذا وتحرك في إطاره وتمكن من إنقاذ مجموعة من اليهود من أفران الغاز عن طريق توضيح نفعهم. ولعل أهم اللحظات في الفيلم من هذا المنظور اللحظة التي يقوم أحد الحراس النازيين فيها بتصنيف بعض الأطفال اليهود المرحَّلين إلى مصنع شندلر باعتبار أنهم لا نفع لهم، فهم مجرد أطفال لا يمكن أن يعملوا في المصنع. ولكن شندلر يُبيِّن لهم، في لهجة غاضبة، أن أيدي الأطفال الصغيرة ضرورية لأنها هي وحدها القادرة على الوصول إلى داخل بعض الأواني التي تخصَّص مصنع شندلر في صنعها. المسألة كلها مسألة نفعية عملية لا تعرف الحب أو الكره، خاضعة للحسابات الصارمة، ومن هنا اسم الفيلم: «قائمة شندلر»، وكأن البشر أرقام ووحدات ليست ذات قيمة في ذاتها، تُدرَج في قوائم! بل إن سبيلبرج يتشجع ويتناول قضية المجالس اليهودية، وهي المجالس التي نصبهاالنازيون والتي تعاون أعضاؤها من اليهود مع السلطات النازية في عمليات الإبادة.

ولكن رغم أن أطروحة الفيلم الفكرية تقول إن اليهود لم يُقتلوا كيهود وإن ثنائية يهودي/أغيار الصهيونية ليست حقيقية، إلا أنه على المستوى المرئي الفني أرسل رسالة صهيونية كاملة تتنافى مع مضمون الفيلم الفكري. تتضح الرسالة الصهيونية بشكل متبلور في نهاية الفيلم الملونة ولكنها تتغلغل أيضاً في بنية الفيلم وفي شخصياته، فلا يظهر أمامنا غير شندلر ممثلاً للأغيار، أما بقية ممثلي الجنس البشري فهم يدورون داخل الأُطُر الإدراكية الاختزالية التي ركز عليها الفيلم بشكل سوقي.

أما الضحايا، فنحن نعرف أن الدولة النازية طبقت مبدأ المنفعة المادية لا على اليهود وحسب، وإنما على كل البشر بدون تمييز. ولو فعل سبيلبرج هذا وربط واقعة المحرقةبالنمط التاريخي المتكرر لاتضح النموذج الأكبر وراء الهولوكوست، وهو نموذج غربي نفعي مادي بدأ في أمريكا الشمالية واستمر في أفريقيا وفلسطين ووصل لحظة التبلور النماذجية في اللحظة النازية. ولعل الفارق الوحيد بين عمليات الإبادة الغربية الأخرى وعملية الإبادة النازية، أن عمليات الإبادة الأخرى كانت تتم دائماً ضد السودأو المسلمين أو الآسيويين، هناك وفي بلاد بعيدة، وعلى يد جنود مهمتهم القتل والقتال. أما الإبادة النازية فقد حدثت هنا، على أرض أوربية، وبشكل منهجي مخطط، وعلى يد مجتمع حديث متحضِّر يستمع لموتزارت وبيتهوفن ويُناقش الفلسفة وهو يشم رائحة اللحم الإنساني المحترق (في إحدى مناظر فيلم «قائمة شندلر» يتناقش جنديان نازيانحول الموسيقى وهما يقومان بالهجوم على بعض الضحايا اليهود).

ولكن البشر لا يمكنهم أن يواجهوا حقيقة وجودهم ببساطة، وكذلك الحضارة الغربية لا يمكنها أن تواجه التضمينات الفلسفية الأساسية للرؤية العقلانية النفعية المادية (العقل الأداتي - على حد قول مفكري مدرسة فرانكفورت) التي حوَّلت العالم بأسره إلى مادة استعمالية، ولذا لابد من تحاشي المواجهة، وحيث إن تغيير الحقائق أمر مستحيل في عصر المعلومات، إذن، لنتلاعب بمستويات التعميم والتخصيص، وبدلاً من رؤية الجريمة النازية باعتبارها جريمة حضارة نفعية مادية ضد البشر، فإنها تعمَّم للغاية أو تخصَّص للغاية فتصبح بالنسبة للحضارة الغربية جريمة الألمان وحدهم ضد اليهود وحدهم، أما بالنسبة لليهود فتصبح جريمة الأغيار كلهم ضد اليهود كلهم، فيحتكر اليهود دور الضحية أما الجزار فهو إما الألمان الأشرار وحدهم (شيء خاص للغاية، مجرد حادثة عرضية) أو الجنس البشري بأسره (شيء عام للغاية ولذا فالجميع مسئول)، وفي كلتا الحالتين تتم تبرئة الحضارة الغربية الحديثة. وهكذا تضيع الحقيقة وتميد الأرض وتُوظَّف الحقائق لا للرؤية وإنما للتعمية. ومن ثم يمكن الاستمرار في الإبادة في فيتنام وفلسطين والبوسنة والهرسك مع الثرثرة المستمرة عن ضحايا النازية، وضرورة إيقاف المذابح.

الباب السابع: الأدب اليهودي والصهيوني

الأدب اليهودى

Jewish Literature

«الأدب اليهودي» عبارة تُستخدَم لتصنيف بعض الأعمال الأدبية، إما من منظور مضمونها أو من منظور الانتماء الإثني أو الديني (الحقيقي أو الوهمي) لكاتبها إذ تُصنَّف الأعمال الأدبية التي تتناول موضوعاً يهودياً أو مُستمَّداً من حياة أعضاء الجماعات اليهودية (بغض النظر عن لغة العمل أو التقاليد الفكرية أو الحضارية التي يدور في إطارها) باعتبارها «أدباً يهودياً». ويمكن تصنيف الأعمال الأدبية من منظور انتماء كاتبها، فإن كان يهودياً صُنِّف ما كتبه على أنه «أدب يهودي». وهذا التعريف الأخير يستبعد الأدباء غير اليهود الذين تناولوا موضوعات يهودية في أدبهم. والمقدرة التفسيرية والتصنيفية لهذا المصطلح محدودة للغاية لعدة أسباب:

1 ـ إن أخذنا بالتصنيف الذي يستند إلى مضمون العمل الأدبي، فنحن بذلك نكون قد تجاهلنا لغة الأدب والتقاليد الحضارية والأدبية والشكلية التي يَصدُر عنها وصرنا نختزله تماماً في بُعْد واحد. فالأعمال الأدبية التي كتبها أدباء مثل برنارد مالامود وسول بيلو وفيليب روث هي أدب يهودي (بالمعنى الإثني لا بالمعنى الديني، فهم لا يؤمنون باليهودية) إذ يتناولون فيها موضوعات وشخصيات يهودية في أدبهم. ولا شك في أن تصنيفنا لأدبهم على هذا النحو سيحد من توقعاتنا، وسييسر علينا فهم أعمالهم الأدبية اليهودية وتفسيرها. ولكن هذا التصنيف رغم فائدته قاصر عن أن يحيط بأدبهم بكل تركيبيته، فهو أدب مكتوب بالإنجليزية وينتمي إلى التقاليد الأدبية الأمريكية. والموضوعات والشخصيات التي يتناولونها ليست يهودية بشكل عام ومجرد، وإنما هي أمريكية يهودية تحددت هويتها داخل التشكيل الحضاري الأمريكي، بل إن البُعْد الأمريكي في نهاية الأمر أكثر أهمية من البُعد الإثني اليهودي.

2 ـ يربط مصطلح «الأدب اليهودي» بين أعمال أدبية كُتبت داخل تقاليد أدبية مختلفة باعتبار أنها جميعاً «أدب يهودي»، وكأن ثمة موضوعات متواترة وأنماطاً متكررة تبرر تصنيف هذه الأعمال الأدبية داخل إطار واحد. فقصيدة كتبها شاعر روسي يهودي عن اليهود باللغة الروسية، ورواية كتبها مؤلف فرنسي يهودي عن اليهود باللغـة الفرنسية، وقصة قصيرة كتبها كاتب أمريكي يهودي عن اليهـود باللغـة الإنجليزية، ومقال أدبي كتبه أديب من ليتوانيا باليديشية، ودراسة نقدية كتبها أديب إسرائيلي بالعبرية، تُصنَّف كلها باعتبارها «أدب يهودي». أي أنه مصطلح يفترض وجود أطر ثقافية وفكرية يهودية عالميـة. ومثل هذا الافتراض لا يسانده الكثير في واقع أعضاء الجماعات اليهودية، وهو يؤكد الوحدة والتجانس والعمومية على حساب التنوع وعدم التجانس والخصوصية، وفيه تأكيد للمضمون اليهودي للعمل الأدبي على حساب أبعادهالفكرية والشكلية الأخرى، أي أنه مصطلح يُفقد الأدب ما يُميِّزه كأدب.

ويمكن أن يُقال إن هناك موضوعات مثل الإحساس بالغربة أو انتظار الماشيَّح تربط بين هذه الآداب. ولكن سيُلاحَظ أن هذه الموضوعات من العمومية بحيث نجد أن مايربط بينها هنا ليست يهودية المؤلف، وإنما أحاسيسه الإنسانية، أي أن المرجعية النهائية هي إنسانيتنا المشتركة، أو البُعْد الإنساني في تجربة عضو الأقلية في مجتمع الأغلبية، بكل ما يحيق بهذه التجربة من مخاطر.

3 ـ إن أخذنا بالتصنيف الذي يستند إلى خلفية الكاتب اليهودية، نكون قد أخذنا بأساس تصنيفي ليس له مقدرة تفسيرية عالية. فكثير من الأعمال الأدبية التي يكتبها مؤلفون يهود (مثل الناقد الأمريكي ليونيل تريلنج) ليس لها مضمون يهودي.

ونحن نرى ضرورة عدم استخدام هذا المصطلح بسبب قصوره عن الإحاطة بشكل ومضمون الأعمال الأدبية التي كتبها مؤلفون يهود عن موضوعات يهودية، فالبُعْد اليهودي ليس هو المحدِّد الأساسي للعمل الأدبي، كما أنه لا يوجد بُعْد يهودي عالمي واحد.

وبطبيعة الحال، يثير مصطلح «أدب يهودي» مشكلة بشأن أديب مثل هايني الذي تمرَّد على يهوديته ليدخل الحضارة الغربية، فتنصَّر. ولكنه بعد تنصره بدأ يحن ليهوديته! أو أديب مثل نيثان وينشتاين الذي رفض انتماءه اليهودي تماماً وغيَّر اسمه إلى «ناثانيل وست» وكَتَب أدباً عدمياً يهاجم فيه المسيحية واليهودية ومختلف العقائد الدينية.

ونحن في هذه الموسوعة نرفض التعميمات التصنيفية الكاسحة مثل «أديب يهودي» ونُصنِّف كل أديب حسب الأبعاد الحقيقية لأعماله الأدبية، ولهذا نستخدم مصطلحات مثل « الأدباء من أعضاء الجماعات اليهودية»، و«الأدب الصهيوني»، و«الآداب المكتوبة بالعبرية»، و«الأدب اليديشي». ولتصنيف أي كاتب من أعضاء الجماعات اليهودية لابد من استخدام مصطلح مُركَّب. فمثل هذا الأديب لا يعيش خارج التاريخ، حتى ولو توهَّم هو نفسه ذلك، بل يعيش داخل حضارة معينة ويكتب أدباً بلغة معيَّنة. لكل هذا، يُستحسَن وصف تشرنحوفسكي، على سبيل المثال، بأنه شاعر روسي يهودي يكتب بالعبرية. ورغم أنه يَصدُر عن التقاليد الأدبية الروسية والغربية، فهو صهيوني النزعة في معظم قصائده، ولذا فهو يكتب أدباً يمكن أن يُسمَّى «أدباً صهيونياً». أما سول بيلو فهو كاتب أمريكي يهودي يكتب أدباً ذا طابع أمريكي باللغة الإنجليزيـة، ويتعرض أحياناً للموضوعات اليهـودية وأحيـاناً أخرى يهملها، وأعماله الأدبية لا تنم عن نزعة صهيونية، وإن كانت إحدى أعماله الصحفية تعبِّر عن هذه النزعة. وبهذا نكون قد وصفنا الانتماء الحقيقي للأديب قومياً وحضارياً وأدبياً (وهذا هو الإطار العام)، ثم ذكرنا الأداة اللغوية والتقاليد الأدبية التي يدور في إطارها (أي انتقلنا إلى الخاص وحددنا الأداة التي يستخدمها)، ثم ذكرنا موقفه السياسي بعد انتمائه الحضاري واللغوي.

الأدب الصهـــيوني

Zionist Literature

«الأدب الصهيوني» عبارة يمكن استخدامها للإشارة لبعض الأعمال الأدبية ذات المضمون الصهيوني الواضح، بغض النظر عن الانتماء القومي أو الديني أو الحضاري أو اللغوي للمؤلف. فرواية دانيال دروندا، التي ألَّفتها الكاتبة المسيحية جورج إليوت بالإنجليزية، تنتمي إلى هذا الأدب الصهيوني، بينما نجد أن بعض الروايات التي كتبها يهود عن الحياة اليهودية لا تنتمي إلى الصهيونية من قريب أو بعيـد، بل إن بعضـها يتبنى رؤية معادية للصهيـونية بـل ولليهودية. وما يُسمَّى «الأدب الصهيوني» هو عادةً أدب من الدرجة الثالثة (أو كما نقول «أدب صحفي»، أي أنه كُتب ليُنشَر في الصحافة كما أنه ذو توجُّه دعائي واضح. ومن أهم أعمال الأدب الصهيوني رواية الخروج للكاتب الأمريكي اليهودي ليون أوريس وأعمال الكاتب الأمريكي اليهودي مائير لفين). والأعمال الأدبية المكتوبة بالعبرية أو اليديشية أو التي كتبها أدباء يهود في مختلف أرجاء العالم نجد أن منها ما هو صهيوني - وهو القليل - ومنها ما هو معاد للصهيونية، وغالبيتها غير مكترثة بها.

ولا يصف مصطلح «الأدب الصهيوني» شكل الأدب ولا محتواه ولا حتى لغته، وإنما يصف اتجاهه العقائدي العام، تماماً مثل عبارة «الأدب الرأسمالي» أو «الأدبالاشتراكي». ولذلك، فهو مصطلح عام ومجرد مقدرته التفسيرية والتصنيفية ضعيفة للغاية ولا يُعَدُّ تصنيفاً أدبياً، شأنه في هذا شأن مصطلح «الأدب اليهودي».

الأدبـــاء مـن أعضــاء الجماعــات اليهوديـة

Men of Letters from Jewish Communities

«الأدباء من أعضاء الجماعات اليهودية» مصطلح نستخدمه بدلاً من مصطلحات مثل «الأدب اليهودي» أو حتى «الأدباء اليهود» (انظر: «الأدب اليهودي» ـ «الأدب الصهيوني»). وقد أشرنا في المداخل الخاصة بهؤلاء الأدباء إشكالية البُعْد اليهودي في أدبهم، فبعضهم تنصَّر والبعض الآخر وُلد مسيحياً وبعضهم هاجم اليهودية بعنف والبعض الآخر لم يكترث بها، وهناك من تناول يهوديته باعتبارها موضوعاً إنسانياً (وحسب)، أما خصوصيته اليهودية فهي مسألة عرضية تشكل جزءاً من الكل الإنساني. وكل أديب من هؤلاء ينتمي إلى التشكيل الحضاري الذي يعيش في كنفه بشكل شبه كامل، ومن ثم أمكنه أن يبدع من خلاله.

هاينريش هـايني (1797-1856(

Heinrich Heine

واحد من أشهر شعراء ألمانيا الرومانسيين، وُلد لأب يهودي ثري يعمل بالتجارة. تلقَّى هايني تعليماً بروتستانتياً ثم التحق بمدرسة ابتدائية يهودية ثم بمدرسة ثانوية كاثوليكية. كما أن المدينة التي وُلد فيها (دوسلدورف) تغيَّر انتماؤها بحيث أن هايني غير جنسيته ست مرات دون أن يغيِّر مكان إقامته. وربما ساهم هذا في إضعاف هويته وتقـوية عـدم انتمائه إلى وطـنه ألمانيا وحماسـه لفرنسا وللثقافة الفرنسية. كان هايني ينوي الالتحاق بخدمة نابليون ولكن هزيمة الجنرال الفرنسي قضت على هذه الآمال، فاشتغل بعض الوقت في أمور المال والتجارة ولكن لم يحالفه النجاح. ثم درس القانون وتأثر بفلسفة هيجل. وقد تنصَّر، وهو أمر كان شائعاً بين يهود ألمانيا، وعلى وجه الخصوص بين دارسي القانون، إذ أن الوظائف في السلك القانوني كانت مقصورة على المسيحيين. ولكن لم تكن الاعتبارات العملية وحدها هي السبب في تنصُّره، فكما أشرنا لم يكن هناك انتماء محدَّد لهايني.

ويمكن القول بأن هايني أدرك تماماً أن الحلولية (الكمونية) هي المدخل الحقيقي لفهم الفلسفة الغربية. فالحلولية بالنسبة له هي تقديس (تأليه) الطبيعة وهي أيضاً تأليه الإنسان وهو تَناقُض أساسي: إذ كيف يمكن لإله أن يُقدِّس الأشياء المتألهة، وأيهما يسبق الآخر: الإنسان المتأله، أم الطبيعة المتألهة؟

ويرى هايني أن إسبينوزا هو نبي الحلولية، وأن الفلسفة الألمانية المثالية هي الوريث الحقيقي لهذه الحلولية، ولذا فهي فلسفة «هدَّامة» ولكن ديباجاتها أكاديمية ضبابية تُخبِّئ معناها الإلحادي العميق، بل وأحياناً تظهرها بمظهر إيماني. وقد قام كانط - حسب تصوُّر هايني ـ باستكمال ما بدأه إسبينوزا فأسقط فكرة الألوهية في ألمانيا (تماماً كما أسقط الثوار النظام القديم في فرنسا). بل إن كانط في تصوُّر هايني أكثر إرهابية من روبسبير، فالثورة الفرنسية لم تقتل سوى ملك، أما كانط (وتلاميذه) فقتلوا إلهاً. ودفاع شلنج عن فلسفة الطبيعة هو ذاته حلولية إسبينوزا. أما في حالة جوته فإن القشرة الرياضية الصلبة التي تحيط بفلسفة إسبينوزا قد سقطت، وظهرت روح إسبينوزا الحقيقية ترفرف في شعره في فاوست وآلام فرتر.

وهيجل هو أيضاً وريث إسبينوزا. وإذا كان إسبينوزا قد ساوى بين الطبيعة والتاريخ أو بين الطبيعة والإنسان وجعل للطبيعة تاريخاً دون أن يجعل منه روحاً، فإن هيجل أعلى من شأن التاريخ وجعل منه روحاً. ويقف هايني مع إسبينوزا في إلغاء أية ثنائية وفي الإصرار على المساواة الكاملة بين الطبيعة والتاريخ وبين المادة والروح. هذه الحلولية تعبِّر عن نفسها في شعر هايني العميق، فهو شاعر نيتشوي (قبل ظهور نيتشه) يحتفي بالحياة، حياة تخبئ نفسَها بنفسها. وكما يقول في إحدى قصـائده « الحيـاة الحمراء تنبـض في عروقـي، وتحت قدمي تذعن الدنيا، وفي توهُّج الحب أعانق الأشجار والتماثيل، وتعيش هي في عناقي ». وهذا عالم عضوي يشير إلى ذاته؛ مات فيه الإله، ولذا فالإنسان هو سيد نفسه، خالق قيمه وعالمه.

وفي قصيدة « ألمانيا: قصة شتاء » يصل هايني إلى ألمانيا ليسمع فتاة صغيرة (رمز ألمانيا):

كانت تغني عن الحب وأحزان المحبين

عن التضحية، حتى نلتقي

في يوم آخر في عالم أفضل

لا يعرف الألم أو الأحزان.

غنت في وادي الدموع الدنيوي هذا

عن الحب الذي لا يُمسك به إنسان

عن العالم الآخر العظيم حيث تعيش الأرواح في غبطة

وقد تحوَّلت إلى نشوة أزلية.

ويدرك هايني أن هذا إن هو إلا الأفيون الديني الذي يُعطَى للجماهير (هذا العملاق الأحمق)، فيغني للفتاة أغنية أخرى:

أغنية جديدة، أغنية أفضل

يجب أن نلدها الآن يا رفاقي،

ولنبدأ على التو في بناء

مملكة السماء على الأرض،

فالتربة تعطينا خبزاً يكفي

لإطعام بني الإنسان كلهم،

وتعطيهم الزهرة والآس، والجمال والفرح،

كما تعطيهم البازلاء الخضراء.

ثم يضيف قائلاً:

بوسعنا أن نترك السماء بلا تردُّد للملائكة والطيور.

والنزعة الحلولية المشيحانية واضحة في هذه الأبيات. فالأرض هي مصدر كل القيم المادية والمعنوية، وثمة نزوع نحو الفردوس الأرضي ونهاية التاريخ. وتتضح نفس الحلولية في أفكار هايني السياسية. فقد كان ثورياً وارتبط اسمه بعض الوقت بالسان سيمونية (التي أسماها «المسيحية الجديدة»). ورحَّب بثورة 1830 في فرنسا (واستقر في باريس). ومن هنا عداوته للمسيحيين، بل لكل الأديان بما في ذلك اليهودية، فقد كان يكرهها بعمق. وقد كتب مرة يقول إنه يوجد أمراض ثلاثة شريرة: الفقر والألم واليهودية. بل كان يعتبر اليهودية قوة معادية للإنسانية، فهي « مصيبة وليست ديناً»، على حـد قوله. ورغـم احتقـاره لليهودية الحاخامية، أي الأرثوذكسية، فإنه كان يحتقر أيضاً اليهودية الإصلاحية التي ستقضي على اليهود.

وفي عام 1847 أصيب هايني بمرض في عموده الفقري بسبب أحد الأمراض السرية، وهو ما أقعده في الفراش. وهكذا أصبح شاعر المادة يعيش في « مقبرة المادة » على حد قوله. ولا ندري هل هذا هو الذي أدَّى به إلى إعادة النظر في حلوليته الإلحادية؟ إذ بدأ يُعبِّر عن مخاوفه من أن الشعب قد يتحوَّل إلى غوغاء يعبد المادة. وواكبت ذلك مراجعة لموقفه من كانط، إذ اكتشف أن كانط تَرك مسألة الإله دون اتخاذ قرار، أي أنه لم يَعُد كانط الملحد الذي بشَّر به هايني من قبل. وعبَّر هايني عن احتقاره لفلسفةهيجل التي أشار إليها بأنها " جدلية برلين العنكبوتية " التي لا يمكنها أن تقتل قطاً أو إلهاً. أما البروتستانتية التي كان يراها في الماضي بداية الإلحاد فقد أصبحت حينئذ بداية الإيمان، وأعلن تراجُعه عن عملية التسوية الحلولية بين الإنسان والطبيعة، وبدأ يحن إلى اليهودية كجزء من حنينه الديني العام. كما كان يوقع خطاباته برسم نجمة داود السداسية. وقد ازداد صيت هايني ذيوعاً بعد موته، ولحَّن شوبرت وشوبان وبرامز قصائده.

والحديث عن البُعْد اليهودي في شعر هايني سيكون حديثاً عن أمور هامشية ليس لها مقدرة تفسيرية. إذ أن القضية الكبرى في حياته هي نفسها القضية الكبرى التي شغلت المفكرين في عصره وهي قضية الحلولية. ولذا فمحاولة فهم رؤية هايني وأشعاره في إطار يهودي لن تفيد كثيراً، فمثل هذا الإطار قد يُفسِّر لنا تطرفه الحلولي المشيحاني وعلمانيته الشرسـة في المرحلـة الأولى، ولكنه لن يُفسِّر لنا جوهر الإشكالية، ولذا سيكون الإطار الألماني الغربي هو الأجدى والأكثر تفسيرية.

إمــــا لازاروس (1849-1887(

Emma Lazarus

شاعرة أمريكية يهودية، وُلدت في نيويورك لأبوين ثريين من يهود السفارد المندمجين. ولم تكن لازاروس ذات موهبة أدبية كبيرة. وهي تتناول في أعمالها موضوعات يهودية. قامت لازاروس بترجمة بعض قصائد ابن جبرول ويهودا هاليفي إلى الإنجليزية (عن الألمانية لأنها لم تكن تعرف العبرية(.

وفي عام 1883، كتبت لازاروس قصيدة «التمثال الضخم الجديد» من أجل جمع التبرعات لإقامة قاعدة لتمثال الحرية، وألهبت بقصيدتها هذه حماس الكثيرين. وحُفرت القصيدة على لوحة برونزية ووُضعت على مدخل التمثال عام 1903. والقصيدة من طراز السونت وتتحدث عن المثل الأعلى الأمريكي، ويتذكرها معظم الأمريكيين باعتبارها قصيدة وطنية أمريكية تُعبِّر عن رؤيتهم لأنفسهم. وبعد موتها، رفضت اختها أن تضم أعمالها الكاملة «أي شيء يهودي » (على حد قولها(.

مارسيل بروست (1871-1922(

Marcel Proust

روائي فرنسي، وُلد في باريس لأب كاثوليكي وأم يهودية، نشأ نشأة كاثوليكية ليبرالية وإن اختلط من خلال أمه بأعضاء الطبقة الوسطى من اليهود وغير اليهود. تخرَّج في إحدى مدارس الليسيه الفرنسية المرموقة كما درس في السوربون، وعاش حياة اجتماعية واسعة مختلطاً بالطبقة الراقية التي شكلت مادة خصبة لكتاباته الروائية. صدرت أول أعماله عام 1896 تحت عنوان الملذات والأيام. أما أهم أعماله على الإطلاق فهي رواية البحث عن الزمن المفقود التي صدرت في 15 جزءاً و7 مجلدات في الفترة ما بين عامي 1913 و1927، وهي تُعتبَر واحدة من أهم الأعمال الروائية المعاصرة. وهذه الرواية، وإن لم تكن سيرة ذاتية، إلا أنها تستمد كثيراً من شخصياتها وأحداثها من تجارب بروست وذكرياته الشخصية ويتخللها عدد من الأفكار المحورية التي تتكرر في أشكال مختلفة عبر جميع الأجزاء، مثل الإغراء الدائم للأرستقراطية الفرنسية، والشذوذ الجنسي (بروست نفسه كان شاذاً جنسياً)، وفكرة الحب التي اعتبرها بروست نوعاً من المرض أو الوهم، ثم موضوع الزمن الذي اعتبره بروست السيد النهائي للإنسان والكون. فالحياة في مجراها ليست إلا زمناً مفقوداً وأوهاماً زائلة، والذاكرة والفن هما السبيل الوحيد لاستعادة هذا الزمن المفقود وتحويل الأوهام إلى أشكال ملموسة من الجمال الأبدي.

ويتميَّز أسلوب بروست الأدبي بانتمائه إلى التراث الأدبي الفرنسي الكلاسيكي، فقد تأثر بفلوبير وسان سيمون كما تأثر بالأدب الإنجليزي، وخصوصاً أدب ديكنز وجورج إليوت وراسكين، ويُقال أيضاً إنه تأثر بوردزورث ومفهوم الذاكرة عنده.

ورغم أن بروست كان كاثوليكي النشأة فرنسي الثقافة لا يرتبط عقائدياً أو وجدانياً باليهودية، فإن كثيراً من الأدبيات والمراجع اليهودية تُصنِّفه باعتباره يهودياً، بل حاول البعض التلميح بوجود مسحة من اليهودية التلمودية في أسلوبه الروائي الغريب الذي هو في الواقع أسلوب ينتمي إلى التراث الأدبي الفرنسي. بل ويشيرون إلى تأثره البالغ بقضية دريفوس والتي تناولها في بعض رواياته، وأنه كان أول من أقنع أناتول فرانس بالتدخل في هذه القضية. ومن ناحية أخرى، فإن تناول بروست للشخصية اليهودية في روايته البحث عن الزمن المفقود دفعت البعض لوصفه بمعاداة اليهود. فروايته تضم ثلاث شخصيات يهودية رئيسية، إحداها شخصية عدوانية متفردة تُجسِّد أسوأ الصفات الاجتماعية، أما الشخصية الثانية، فقد تناولها بروست بشكل أفضل وهي ليهودي مندمج يعيش في الأوساط الراقية ويكتشف هويته عقب حادثة دريفوس وينفصل عن حياة البرجوازية. وقد اعتبر البعض أن هذه الشخصية تجسيد لبروست نفسه. وتتميَّز شخصياته اليهودية بالتَكبُّر الشديد ولكنه تكبُّر يخفي وراءه شعوراً عميقاً بعدمالأمان، فاليهود في نظر بروست أقلية مضطهدة يتملكها جنون الإحساس بالاضطهاد والارتياب الشديد في الآخرين، وهم « جنس ملعون » أشبه بالشواذ جنسياً، على حد قوله. وهذا الربط بين اليهود واللبيدو أو الطاقة الجنسية أو الانحراف أو قوى الظلام هو موقف متجذِّر في الحضارة الغربية يعود إلى الرؤية المسيحية للكون، حيث يلعب اليهودي دور قاتل الرب وحيث لا يمكن خلاص العالم بدون تنصيره.

فرانــز كافكـا (1883-1924(

Franz Kafka

روائي ألماني يهودي، وُلد ونشأ في تشيكوسلوفاكيا لأسرة يهودية مندمجة. درس القانون وعمل في أحد مكاتب المحاماة، ثم في شركة تأمين تابعة للحكومة، ولذلك فإنه لم يكن يكتب إلا في أوقات فراغه. كان أبوه شخصية متسلطة تركت أثراً عميقاً فيه. وكان كافكا يعاني طيلة حياته من الصداع النصفي والأرق. وتم تشخيص مرضه في عام 1917 على أنه السل، فقضى بقية حياته في مصحة. وكان كافكا قد عهد بمخطوطاته لصديقه وكاتب سيرته ماكس برود، ولكنه أوصى وهو على فراش الموت بأن تُحرَق أعماله بعد وفاته، ولكن برود لم يُنفِّذ رغبته.

وكثيراً ما تُطرَح قضية يهودية كافكا: فهناك من يرى أنه كان يهودياً بل وصهيونياً حتى النخاع، وهناك من يذهب إلى أنه كان غير مكترث بيهوديته بل معادياً للصهيونية، ويورد كل فريق من الشواهد ما يدل على صدق رؤيته. كما أن هناك تناقُضاً عميقاً بين مذكراته من ناحية ورواياته من ناحية أخرى. ففي المذكرات اهتمام شديد بالموضوع اليهودي، على عكس رواياته التي يلتزم فيها الصمت حياله. وهناك، في المذكرات، إشارات إلى المدينة اليهودية القديمة والجيتو والمشروع الاستيطاني الصهيوني (بل قيل إن كافكا حضر أحد المؤتمرات الصهيونية). أما رواياته فلا تكاد تشير إلى الموضوع اليهودي، ففي رواية أمريكا (1927) توجد شخصيات من كل الجنسيات (ألمان ومجريون وأيرلنديون وفرنسيون وروس وسلاف وإيطاليون) ولا يوجد سوى يهودي واحد. ونعرف أنه يهودي من اسمه، إذ لا تحمل شخصيته أية سمات من تلك التي تُسمَّى «يهـودية». ومع هـذا، فإننا لا نعـدم من يُقدِّم قـراءة صهيونية لأعماله. ففي دراسة للكاتب العربي كاظم سعد الدين بعنوان «حل رموز كافكا الصهيونية»، يذهب الكاتب إلى أن رواية المحاكمة (1925) تسعى إلى كشف فساد دار الحاخامية، سليلة السنهدرين، أي المجمع الديني الأعلى. ورواية المسخ أو التحول (1927) إنما تشير إلى التاجر اليهودي المتجول. والقلعة (1926) هي حصن صهيون، وترمز وظيفة المسَّاح إلى الحياة الدنيا لليهود، كما تشير إلى ضرورة معرفة قوانينها وعاداتها وإيجاد نوع من العلاقة الجيدة بينها وبين القلعة التي ترمز إلى السلطة الدينية اليهودية العليا. ويرى كاظم سعد الدين أن كافكا أسقط رمز سور الصين علىحدود الدولة المُرتقَبة، وأراد أن يقول إن سور الصين سيُشكِّل لأول مرة في تاريخ العالم أساساً راسخاً لبرج بابل جديد!! وأن بدو الشمال هم الشعب العربي، وأن أبوابالهند هي أبواب فلسطين، وسيف الملك هو سيف داود!

ويشير الكاتب أيضاً إلى أن كافكا عارض اندماج اليهود في الشعوب الأخرى ذاهباً إلى أن المدينة اليهودية القديمة غير الصحية، أي الجيتو، حقيقة أكثر رسوخاً بالنسبة إلى اليهود من الشوارع العريضة للمدينة المبنية حديثاً!! ويشير أيضاً إلى أن كافكا ذكر أن أرض كنعان هي أرض الأمل الوحيد.

وأوضحت الدكتورة بديعة أمين في كتابها هل ينبغي إحراق كافكا؟ أن هذين الاقتباسين الأخيرين قد نُزعا من سياقهما، إذ يتبع الاقتباس الأول الخاص بالجيتو عبارة « إننا لسنا سوى شبح زال، أما أرض كنعان فهي ليست بأرض على الإطلاق، وإنما حلم وحسب». ووصفت الدكتورة بديعة تفسيرات الأستاذ كاظم سعد الدين بأنه استنبطها من الكتب الدينية والتاريخية، ثم اعتبرها معادلات موضوعية مادية حسيَّة للرمز الكافكاوي استناداً إلى بعض العوامل الخارجة عن كتابات كافكا. ثم أضافت الدكتورة تحليلها لرؤية كافكا مبيِّنة استحالة أن يتبنى مثل هذا الكاتب رؤية صهيونية، فموضوعات أدبه هي الإحساس العميق بالغربة والعزلة الروحية حتى وسط الأهل والأصدقاء، والوعي بالذات وما يؤدي إليه هذا الوعي، وعلاقة الإنسان بالسلطة وبيروقراطيتها القاتلة، والانسحاب والانسلاخ الاجتماعيان، واختفاء الهدف والإحساس بالهزيمة. وقد عبَّر كافكا عن هذه الموضوعات بأسلوب غامض مغلق لا يسمح بتسرب قطرة ضوء. والواقع أن أدباً يتناول مثل هذه الموضوعات بمثل هذا الأسلوب لا يمكن أن يكون صهيونياً، لأن الأدب الصهيوني أداة أيديولوجية ووسيلة إلى هدف واضح بطريقة واضحة، ولذا فإن مثل هذا الأدب لابد أن يتسم بالوضوح والإيجابية. كما أن الأدب الصهيونييهدف إلى الدفاع عما يُسمَّى حقوق الشعب اليهودي الذي يحمل خصائص عرْقية وإثنية خاصة ثابتة عبر الزمان والمكان، بل ويُركِّز على تقديس هذا الشعب. وغني عن القول أن رؤية كافكا للطبيعة البشرية مختلفة تماماً، فهي بالنسبة له طبيعة متقلِّبة كالغبار غير مستقرة ولا تحتمل أية قيود. كما أن اليهودي بالنسبة له شخصية هامشية تقف بين عوالم مختلفة ولا تنتمي إلى أي منها. أما كافكا ذاته، فهو يؤكد عدم انتمائه إلى أي عالم، وهو لا يخلع القداسة على أحد، يهودياً كان أو غير يهودي، فعالمه عالم حداثيتماماً، خال من أية مطلقات أو مرجعيات أو مقدَّسات.

هذا فيما يتصل بموقف كافكا من الصهيونية. ولكن ماذا عن المضمون اليهودي في أدبه؟ إن مثل هذه المسألة يمكن أن تُحسَم إن قبلنا التحليل السياسـي والمباشـر للمضمـون ثم أضفنا إليه مستويات أكثر عمقاً، ولعلنا لو قبلنا صيغة تفسيرية مُركَّبة تقبل المستويات المتناقضة المختلفة، لفهمنا كافكا حق الفهم.

ولنبدأ بكافكا الإنسان والكاتب. كان كافكا يهودياً مندمجاً، ولذا فإنه لم يكن في البداية مدركاً للكتابات الدينية اليهودية أو كتابات المؤلفين اليهود، ولكنه بالتدريج بدأ يهتم بهاوبالموضوع اليهودي. وهو أمر طرحته عليه عدة عناصر من أهمها أنه رغم الرغبة الصادقة لقطاعات كبيرة من يهود وسط أوربا في الاندماج، بل والانصهار في الحضارة الغربية، ورغم محاولة كثير من المجتمعات قبولهم ودمجهم وصهرهم، إلا أن عملية مثل هذه لم يكن من الممكن أن تتم في جيل واحد أو جيلين، فقد كان الجيل الأول والثاني من اليهود المندمجين يشعر أنه فقــد الجيتو والأمن الذي كان اليهودي يشعر به داخله، بل ووجد نفسه في عالم معاد له. ولا شـك في أن حركات معاداة اليهـود التي تصاعد نفوذها وازدادت شعبـيتها عمَّقت هذا الإحساس لدى كثير من المثقفين اليهود. كما أن هجرة يهود اليديشية (أي يهود شرق أوربا)، الذين كان يتزايد عددهم داخل الإمبراطورية النمساوية المجرية، ساهم في خلخلة وضع اليهود المندمجين، وهو الوضـع الذي فُــرضَ على يهودي مندمج مثل هرتــزل أن يبحث عن حل للمسألة اليهودية، أي مــسألة يهود شرق أوربا، وأن يصوغ الحل الصهيوني. ويعني هذا أن الموضـوع اليهودي قد فُرضَ على كافكا فرضاً. فبدأ يقرأ في الكتابات الدينية اليهودية وفي كتابات المؤلفين اليهود العلمانيين. قرأ في كُتب القبَّالاه والحسيدية، ودرس العبرية، وقرأ كتابات صهيونية أو شبه صهيونية (بل يُقال إنه كتب دراسات يُفهم منها تأييده للمشروع الاستيطاني الصهيوني).

وعلى أية حال، فإن المصادر الغربية لفكره كانت أكثر تنوعاً وعمقاً وشمولاً، فقد تأثر بكلٍّ من كيركجارد ودوستويفسكي وفلوبير وتومـاس مان وهيـس وجـوركي، وبالفكر الاشتراكي والفوضوي في عصره. ويبدو أنه كان معادياً للرأسمالية ولاقتصاديات السوق التي تحوِّل الإنسان إلى شيء.

وهذه الازدواجية (اليهودي/غير اليهودي) تُعبِّر عن نفسها في مختلف المستويات. ولنأخذ موقفه من الدين؛ من الواضح أن كافكا كان رافضاً للدين كحل لمشكلة المعنى، ومن هنا كانت حداثة رواياته وإحساسه بالضياع الشامل. وهو في هذا، يُعبِّر عن موقف كثير من يهود عصره، حيث كانت اليهودية الحاخامية تعاني من أزمتها العميقة، إذ أخذت تحل محلها العقائد العلمانية المختلفة، مثل الصهيونية والداروينية والماركسية والنازية. ولكن موقف كافكا في هذا كان لا يختلف كثيراً عن موقف كثير من المثقفين الغربيين الذين ابتعدوا عن عقيدتهم وعن مجتمعهم بسبب تَصاعُد معدلات العلمنة وبسبب تآكل المجتمع التقليدي. لقد اندفعوا نحو المجتمع الجديد، ولكنهم لم يجدوا فيه المعنى، ولم تتحقق لهم الطمأنينة. بل إن أزمة اليهودية الحاخامية، لم تكن إلا جزءاً من أزمة العقيدة الدينية في الحضارة الغربية، كما أن كلتا الأزمتين نتاج حركيات واحدة: الانتقال من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث، ولكنه انتقال لا يأتي بالسعادة، وإنما يؤدي إلى عدم الاستقرار والغربة. ومعنى هذا أن الظاهرة نفسها يمكن أن تُفسَّر على أساس يهودي خاص، وعلى أساس غربي عام، ثم نكتشف أن كلاًّ من الأساسين اليهودي الخاص والغربي العام هما شيء واحد.

ولكن موقف كافكا الديني يتجاوز مجرد الرفض، ذلك أن كافكا كان يمارس إيماناً دينياً عميقاً من نوع خاص. فكان يرى أن فعل الكينونة لا يعني الوجود المادي وحسب، وإنما يعني أيضاً الانتماء إلى الإله، فالإله كامن في أعماق الذات البشرية. وهذا الجزء في الإنسان هو الجزء غير القابل للدمار، وهو ذاته عالم المُطلَق والكمال، المتجرد من الخطيئة والنقص، وهو العالم الذي يُسمِّيه المؤمن «الإله». ولكن قُرْب الإنسان من الإله يعني أن يعيش حياة صحيحة، وهذا الموقف يَنتُج عنه رفض العالم المحسوس (عالم السببية والمادة). وإذا كان الموقف السابق الرافض للدين يعبِّر عن أزمة اليهودية الحاخامية الخاصة وأزمة المعنى في المجتمع الغربي ككل، فإن هذا النوع من الإيمان الديني يعبِّر هو الآخر عن رؤيتين متشابهتين: إحداهما يهودية (القبَّالاه)، والأخرى غربية عامة (الغنوصية). وكلتا الرؤيتين تطرح فكرة الإله الخفي (الديوس ابسكونديتويس في الغنوصية، والإين سوف في القبَّالاه) الذي تبعثرت شراراته، فاختلطت الشرارات بالمادة بحيث أصبح الإله موجوداً داخل البشر، مع أنه بعيد عنهم تماماً. ويحاول الإنسان جاهداً عبر حياته أن يتجه نحو الالتحام به والعودة إليه، ولكنها عودة أصبحت مستحيلة (ولذا يستحيل فهم «المحاكمة»، كما يستحيل دخول «القلعة»). والتراث القبَّالي والغنوصي تراث منتشر في الحضارة الغربية بين اليهود وغير اليهود. فهناك قبَّالاة يهودية، وهناك قبَّالاة مسيحية (من أصل يهودي)، وهناك غنوصية يهودية وأخرى مسيحية. ومن ثم، فإن من الممكن تفسير هذا الجانب أيضاً على أساس يهودي خاص وأساس غير يهودي أو غربي عام.

وسنُلاحظ نفس الشيء في أهم جوانب روايات كافكا،أي شخصياتها الأساسية.فأبطال كافكا رجال بلا تاريخ، رجال يعيشون خارج الزمان والمكان في فراغ لا اسم له، وفي زمان لا يمرُّ به تاريخ، يوجدون في كل الأوطان ولا وطن لهم، شخصيات تبحث عن شيء ما لا تعرف هويته، ويسقطون ضحايا شر لا يفهمون كنهه.

وتبدأ رواياته عادةً خارج نطاق التجربة اليومية. فافتتاحية المحاكمة تقدم لنا البطل جوزيف ك. وقد قُدِّم للمحاكمة بسبب جريمة لا يعرف ما هي، كما أنه لا يعرف شيئاً عن طبيعة هيئة المحكمة التي تقرر إعدامه، وتنتهي المحاكمة نهاية عبثية. وفي الروايات الأخرى لكافكا، لا توجد نهاية على الإطلاق، ففي القلعة مثلاً لا يصل البطل إلى أي هدف. ويمكن تفسير هذه العزلة من منظور يهودي خاص، فشخصيات كافكا ليسوا بعيدين عن تجربته كيهودي مندمج، فهم أيضاً تركوا حيِّز الشتتل والزمان الشعائري اليهودي ودخلوا في وجود بلا زمان ولا مكان، وهي حالة الدياسبورا بلا خلاص، أو المصير اليهودي الذي يُلحق باليهود الأذى دون ذنب اقترفوه، فكأن حالة النفي والعزلة هي مصير دائم بالنسبة إليهم.

ولكن يمكن القول بأن مأساة أبطال كافكا هي أيضاً مأساة كل الشخصيات في الأدب الغربي الحديث التي تشعر بحالة النفي والغربة، فهي شخصيات فقدت الإيمان، إذ وجدت نفسها في مجتمع متناثر ذري لا يربط أجزاءه رابط، مجتمع تعاقدي، الإنسان فيه منفيٌّ دائماً، مجتمع ازدادت فيه معدلات الترشيد حتى أصبح كل شيء آلياً أو شيئاً شبه آليّ تم التحكم فيه، ولكنه ترشيد إجرائي لا هدف له. ومن ثم، ورغم تزايد تحكم الإنسان، إلا أنه يشعر بإحساس عميق بالاختناق وبأنه لا حول له ولا قوة.

ويمكننا القول بأن الموضوعات الأساسية في أدب كافكا هي موضوعات أساسية متواترة في الأدب الغربي الحديث بصفة عامة، وبالتالي فإن أصولها غربية، ولا يمكن فهمها إلا على مستوى الحضارة الغربية ككل. ولكننا في حالة كاتب من أصل يهودي فَقَدَ يهوديته مثل كافكا، نجد أن وضعه هذا يخلق عنده قابلية غير عادية لاكتشاف هذه الموضوعات وتطويرها، فهي تكتسب حدة خاصة في أدبه، وبعبارة أخرى، فإن يهودية كافكا ليست مصدر الرؤية العبثية عنده (فهي رؤية تضرب بجذورها في حضارته الغربية) والأدب الغربي. ومع هذا فانتماؤه اليهودي يُعمِّق هذه العبثية ويزيد من حدَّتها.

وقد ترك كافكا أثراً عميقاً للغاية في الأدب الغربي الحديث (مسرح العبث). ويُستخدَم مصطلح «كافكاوي» أو «كافكوي» لوصف الإحساس بالضياع والسقوط في شبكة متداخلة من الأحداث العبثية. ولعل عمق أثره على الحضارة الغربية يُبيِّن مدى تجذُّره في التشكيل الحضاري الغربي، كما يُبيِّن مدى هامشية خصوصيته اليهودية، اللهم إلا إذا كانت هذه اليهودية نفسها تعبيراً عن شيء جوهري في الحضارة الغربية.

سـارة ميـلين (1889-1967(

Sarah Millin

مؤلفة وروائية يهودية من جنوب أفريقيا، وُلدت في ليتوانيا ولكنها استقرت وهي بعد طفلة مع أهلها في جنوب أفريقيا، وتزوجت من القاضي فيليب ميلين، وهو قاض في المحكمة العليا في جنوب أفريقيا. نشرت عدة أعمال روائية وغير روائية، ولكنها حققت قدراً من الشهرة مع نشر روايتها أطفال الله (1924) وهي رواية عن الملونين في جنوب أفريقيا.

نشرت ميلين سيرة حياة سيسل رودس (1933) وقد حُوّل الكتاب إلى فيلم عام 1936. كما نشرت سيرة حياة الجنرال سمتس (من جزأين) عام 1936، وهو تاريخ لجنوب أفريقيا ولدور اليهـود فيها. ونشـرت سـيرتها الذاتية بعنوان طويل هو الليل (1941). وتعود شهرتها إلى هذه الأعمال أكثر من أعمالها الروائية. وكانت مواقفها السياسية والأخلاقية بشأن المستوطنين السود في جنوب أفريقيا لا تخرج عن سياسة التفرقة اللونية (الأبارتهايد). وكما هو متوقع من كاتبة مثل هذه، نجد أنها تدافع بشدة عن الدولة الصهيونية. وقد كرَّست سارة معظم كتابتها بعد الحرب العالمية الثانية للدفاع عن إسرائيل وجنوب أفريقيا. وحررت عام 1966 كتاباً بعنوان الأفريقيون البيض هم أيضاً بشر وساهمت فيه بدراسة، وهو كتاب يدافع عن روديسيا وجنوب أفريقيا. ولا يمكن القول بأن ميلين تؤيد إسرائيل بسبب يهوديتها (فهي لم تهاجر إلى الدولةالصهيونية)، بل ينبع تأييدها للدولة الصهيونية من انتمائها للجيب العنصري في جنوب أفريقيا وللتشكيل الاستعماري الاستيطاني الغربي.

بوريـس باسترناك (1890-1960)

Boris Pasternak

شاعر وروائي روسي، وُلد في موسكو ابناً للرسام الروسي ليونيد باسترناك. تنصَّر باسترناك في طفولته، وتعكس أعماله الشعرية التي تُعتبَر من أهم الأعمال الشعرية الروسية في القرن العشرين الروح المسيحية الأرثوذكسية. درس الفلسفة في جامعة موسكو ثم في ماربورج في ألمانيا، وأصدر أول أعماله الشعرية عام 1914. ولم تتناول أعماله أية مواضيع يهودية بشكل خاص فيما عدا روايته الشهيرة دكتور زيفاجو التي كتبها عام 1958، وتتناول هذه الرواية المسألة اليهودية. وتتخلل أعمال باسترناك بعض أفكاره الأساسية التي تعكس رؤية المثقف الليبرالي للقضايا السياسية، ولفكرة الثورة وقضايا الفن. فتتكرر في أعماله مسألة عدم جدوى الأيديولوجيات، وغياب أي نوع من العلاقة بين السياسة والسعادة الإنسانية، كما تتكرر حيرة المثقف إبان الثورات بين تأييده للتغيير ورفضه للعنف المصاحب للثورات.

وقد انعكس كره باسترناك للعنف، واتجاهه نحو الفرار من الواقع السياسي في سبيل السعادة الفردية، في روايته دكتور زيفاجو. وعكست هذه الرواية أيضاً انفصال باسترناك عن اليهودية تماماً، كما عكست اعتزازه وإيمانه بتفوق المسيحية، واعتقاده بأن الاندماج هو السبيل الوحيد أمام اليهود للتخلص من المآسي التي تلحق بهم. وقد نالت هذه الرواية جائزة نوبل عام 1958، وأثار حصوله على الجائزة زوبعة سياسية نظراً لما كانت تحتويه الرواية من نقد للنظام السوفيتي وأيديولوجيته ولما كان يتخللها من مسحة دينية مسيحية. واضطر باسترناك إلى رفض الجائزة تحت ضغط من السلطات السوفيتية. ومن الجدير بالذكر أن باسترناك ظل في نظر السلطات السوفيتية، منذ الثلاثينيات، فناناً منعزلاً محباً للجمال متميِّزاً بحرفية فائقة، كما اعتُبر من بقايا مثقفي فترة ما قبل الثورة المنفصلين عن واقعهم الجديد. وقد مُنعت روايته من التداول في الاتحاد السوفيتي. وبعد وفاته، رُدَّ إليه اعتباره بشكل جزئي. وفي عهد البريسترويكا، تم نشر دكتور زيفاجو في الاتحاد السوفيتي، وأُعيد نشر أعماله الأخرى.

وتُصنِّف بعض الموسوعات اليهودية باسترناك باعتباره «يهودياً»، وهو تصنيف يفتقر إلى أية قيمة تفسيرية أو تصنيفية. فإذا كان باسترناك قد وُلد يهودياً، فإن علاقته باليهودية انتهت بعد بضع سنوات من مولده، ولا يمكن تفسير أدبه إلا بالعودة لاهتماماته الدينية المسيحية ولموقفه المبهم من الثورة البلشفية.

فرانــز فرفــل (1890-1945(

Franz Werfel

روائي نمساوي يهودي وكاتب مسرحي وشاعر. وُلد في براغ لعائلة يهودية ثرية ودرس في جامعات براغ وليبزيج، واشتغل محرراً في دار نشر، وصادق ماكس برود وفرانز كافكا. استهل فرفل حياته الأدبية بكتابة الشعر وصدرت له مجموعة أشعار عام 1911 تحت عنوان صديق العالم والتي دعَّمت مركزه الأدبي ووضعته ضمن أهم الشعراء التعبيريين في عصره. وتميَّز هذا العمل بطابع ديني مشيحاني وتمحور حول فكرة الحب والصداقة والأخوة الكونية العميقة. خدم فرفل خلال الحرب العالمية الأولى في صفوف الجيش النمساوي، وصدرت له عقب الحرب مجموعة أشعار بعنوان يوم القيامة (1919)، جسَّدت انطباعاته عن الحرب وتناولت الموت والهلاك والبعث والخلاص، وأكد فيها فرفل أن المحبة والأخوة بين البشر هما المفتاحان الوحيدان لإحياء شباب العالم الذي أصبح ملطخاً بالدماء.

وفي عام 1923، أصدر مجموعة أخرى من الأشعار تحت عنوان إهابة سحرية دعا فيها إلى أخوة ديونيسية جديدة (نسبة إلى ديونيسوس إله الخمر عند اليونان) تجمع بين جميع المخلوقات: الإنسان والحيوان والجماد، ومن ثم فهي وحدة حلولية عضوية ذات توجه نيتشوي واضح.

واتجه فرفل بعد الحرب إلى الكتابة المسرحية وكتب عدداً من المسرحيات الناجحة مثل ثلاثية إنسان المرآة (1921) التي تناول فيها فكرة سقوط الإنسان وخلاصه، وهي الفكرة نفسها التي تناولها في مسرحيته الدينية بولس بين اليهود (1926). وفي مسرحية الصمت (1922)، تحدث عن خطر النازية واعتبرها تُمثِّل ثورة الإنسان البدائيضد الإنسان المُتحضِّر. وبعد صعود هتلر إلى السلطة في ألمانيا،كتب المسرحية التاريخية الدينية الطريق الأبدي (1936) والتي عُرضت بنجاح كبير على مسارحنيويورك،تناول فيها قضية يهود العصور الوسطى الذين عاشوا حياة نفي مستمرة نتيجة تمسكهم بعقيدتهم،كما عبَّر فيها عن حيرته الروحية وعدم وضوح انتمائه الديني.

ومع انحسار التعبيرية وانبعاث الواقعية، انتقل فرفل إلى عالم القصة والرواية وحقق من خلالها شهرته العالمية. وتميَّزت رواياته بطابع صوفي تبشيري وتبنَّت قضايا المطحونين والمهزومين والصراع بين قوى الخير وقوى الشر، ومن أهم مؤلفاته الروائية الأربعون يوماً لموسى داغ (1933) والتي أبرز فيها مقدار الظلم الذي يمكن أن تفرضه الأغلبية ضد الأقلية من خلال تناوله صراع الأرمن ضد الأتراك. وفي روايته القلب النقي (1931) يؤكد أهمية السمو الروحي والديني والأخلاقي الذي يعلو عن مستوى الواقع الفج والنشاط السياسي غير النزيه.

وقد هرب فرفل من النمسا عام 1938 بعد استيلاء النازي عليها،واستقر في فرنسا،ثم هرب مرة ثانية بعد عام 1940.وأثناء وجوده في فرنسا،ألهمته زيارته لمزار ديني في لودز كتابة رواية أغنية برناديت التي صدرت في الولايات المتحدة عام 1941 وحققت نجاحاً كبيراً وحُوِّلت إلى فيلم سينمائي.وتجسد هذه الرواية الصراع بين قوى الظلام وقوى النور وتُمجِّد المسيحية الكاثوليكية التي ظل فرفل منجذباً إليها طوال حياته.وكان فرفل قد كتب مقالاً عام 1917 بعنوان « الرسالة المسيحية » يوحي بأنه كان على وشك اعتناق الكاثوليكية،إلا أنه لم يُقدم على ذلك أبداً.وقد أكَّد عام 1943 أن تكوينه الفكري والثقافي تم في ظل التأثير الروحي للمسيحية والكنيسة الكاثوليكية كما يتبين بشكل واضح من خلال أعماله الأدبية. ومما يُذكَر أن فرفل تزوج عام 1929 من أرملة الموسيقار اليهودي جوستاف ماهلر التي كانت رافضة لليهودية، واقترحت قبل زواجهما أن يتخلى فرفل عن يهوديته ويتنصَّر، ولكنهما اتفقا في النهاية على أن يتم تعميده بعد وفاته.

وفي سنواته الأخيرة عكف فرفل على كتابة عمله الملحمي الضخم نجم الذين لم يولدوا بعد والذي صدر بعد وفاته عام 1946، واستعرض فيه القضايا والأسئلة الأزلية التي تظل دائماً دون إجابة نهائية والتي أرَّقته طوال حياته،وتُوفي فرفل في الولايات المتحدة ودُفن في فيينا.

ويظهر اسـم فرفل في كثير من الموسـوعات اليهـودية كمؤلف يهودي، وهو أمر يثير الحيرة لأن رؤيته في جوهرها مسيحية.

إيليـا إهرنبـورج (1891-1967(

Ilya Ehrenburg

كاتب روسي يهودي، وُلد في كييف لأسرة مندمجة في المجتمع الروسي، وكان أبوه يمتلك مصنعاً لتقطير الخمور. انضم إهرنبورج للحركة الاشتراكية واضطر إلى اللجوء إلى باريس. وقد تحوَّل إلى الكاثوليكية عام 1911. كتب إهرنبورج في هذه المرحلة أشعاراً ذات طابع صوفي مسيحي، وتتحدث كتاباته النثرية (منذ عام 1920) عن معاناة اليهـود باعتبار أن ذلك جـزء من المخطـط الإلهي للقضـاء على الشر، وهذه فكرة قبَّالية. ولكنه عاد ورفض الإيمان الديني وقرر التعاون مع « حركة التاريخ ». واضطر للهجرة من روسيا عام 1921، ولم يَعُد إليها إلا في صيف 1941. تتناول بعض مؤلفاته موضوعات يهودية من أهمها رواية حياة لازيك رويتشفانتس العاصفة (1928) بطلها ترزي بسيط سيئ الحظ يبعث على الرثاء ولا علاقة له بالسياسة، ولكنه دائماً محط شك كل النظم، فبعد أن تم تحرير المنطقة التي يعيش فيها على يد القوات البلشفية ينظر إليه ممثلو النظام الجديد باعتباره ممثلاً للحرفيين البورجوازيين ذوي النزعة الفردية. وحينما يفرّ إلى الغرب، يظن الجميع أنه عميل سري شيوعي. وحينما يفرّ إلى فلسطين، لا يكون حظه أحسن حالاً. والبطل يشبه من بعض الوجوه أبطال شالوم عليخم (الكاتب اليديشي(.

وأثناء الحرب، لعب إهرنبورج دوراً نشيطاً في اللجنة السوفيتية اليهودية المعادية للفاشية، وحرر هو وفاسيلس جروسمان الكتاب الأسود الذي ضم أقوال شهود عيان لجرائم النازيين، ولم تنشر السلطات السوفيتية الكتاب. وحينما أُعلنت دولة إسرائيل واعترف بها الاتحاد السوفيتي، ذكَّر إهرنبورج يهود بلاده بأن الاتحاد السوفيتي هو وطنهم.

وبعد سقوط ستالين، كتب إهرنبورج رواية ذوبان الثلوج (1954)، وهي تتناول شخصية مدير مصنع ديكتاتوري إبّان المرحلة الستالينية. ومن شخصيات الرواية طبيب يهودي يُتَّهم بالاشتراك في مؤامرة الأطباء. وظهرت بين عامي 1960 و1965 مذكرات إهرنبورج (الناس والحياة 1962، ومذكرات 1964)، وهي تصف كثيراً من معاصري إهرنبورج، مثـل: مارك شـاجال وأيزاك بابل وسـولومون ميخولز.

أوسـيب ماندلستام (1891-1938)

Osip Mandelstam

شاعر روسي يهودي، وُلد في روسيا لأسرة متدينة. ولكنه تلقى تعليماً علمانياً ثم سافر إلى فرنسا وإنجلترا وألمانيا وإيطاليا، وانضم للحركة الشعرية المسماة «الأكميزم Acmeism» (نسبة إلى «أكمي Acme» أي «القمة» أو «الذروة») والتي تُعَدُّ ثورة على المدرسة الرمزية، إذ طالب دعاة هذه المدرسـة بقدر أكبر من الوضـوح والمباشـرة والتركيز على الشكل. وقد كتب ماندلستام بعض الوثائق الأساسية لهذه الحركة.

نشر ماندلستام مجموعة شعرية عام 1913 بعنوان حجر، ولكن المجموعة التي نشرها عام 1922 بعنوان تريستيا هي التي حققت له الذيوع. وموضوعات شعره ذات طابع تاريخي ومُستَقَاة من التاريخ اليوناني والروماني. ويتَّسم شعره بصُوَره الأصيلة وحرفيتها العالية واستخدامه المتميِّز للغة الروسية. وقد تزوج ماندلستام من امرأة روسية غير يهودية.

قابل ماندلستام الثورة البلشفية بكثير من الترحاب، ولكن الفجوة بدأت تتسع بينه وبين الثورة وانتهى الأمر بأن قُبض عليه عام 1934، ونُفي إلى سييبريا حيث مات فيها عام 1938 (وربما عام 1937). وقد رفض ماندلستام اليهودية الحاخامية، ووُصف موقفه بأنه هروب من الفوضى اليهودية.

ويُعتبَر ماندلستام مثلاً لليهودي الذي يكره نفسه (مثل تروتسكي). ويظهر هذا بشكل واضح في مجموعة مقالاته المسماة ضوضاء الزمان حيث يسخر من اليهود الذين يصفهم بأنهم يستخدمون اللغة الروسية بدقة مبالغ فيها وبتصنع شديد حتى أنهم يزهقون روحها. ويُعبِّر ماندلستام عن كرهه للرطانة التي يتحدث بها يهود شرق أوربا (اليديشية) ولأبجديتهم (العبرية) وللخطوط السوداء والصفراء على شال الصلاة (طاليت)، بل ولرائحتهم الكريهة. ويرى ماندلستام أن المسيحية تُشكِّل الإطار الحقيقي لشعره. وقد نشرت أرملته عام 1971 كتاباً عن حياتها مع ماندلستام يعده بعض النقاد من عيون الأدب الروسي.

وقد ضم دليل بلاكويل للثقافة اليهودية مدخلاً عن ماندلستام باعتباره « مثقفاً يهودياً » في الوقت الذي استبعدت فيه هذه الموسوعة الكُتَّاب اليهود من أصل شرقي أو سفاردي، وهو أمر أقل ما يُوصَف به أنه مشكوك فيه، فأين تكمن يهودية مثل هذا الكاتب؟

نيللي ساكس (1891-1970(

Nelly Sachs

شاعرة ألمانية يهودية حاصلة على جائزة نوبل، وُلدت لعائلة يهودية مندمجة في برلين وكان والدها رجل صناعة ثرياً. بدأت في كتابة أشعارها الأولى بالألمانية في سنالسابعة عشرة وظهر أول أعمالها عام 1921. تميَّزت أشعارها بمضمونها المسيحي وطابعها الصوفي ولغتها الرومانسية. وظلت ساكس متباعدة عن أصلها اليهودي وغير مكترثة له إلى أن جاء النازي إلى الحكم في ألمانيا وهو ما اضطرها إلى الفرار إلى السويد عام 1940. وقد تناولت في أشعارها اللاحقة مواضيع خاصة باليهود وبفترة الإبادة النازية، فأصدرت عام 1946 ديوان في مساكن الموت الذي أهدته إلى «إخوتها وأخواتها الموتى »، ومن أشهر قصائد هذا الديوان قصيدة «المداخن». أما ديوانها الصادر عام 1949، فيضم أشعاراً تعبِّر عن إيمانها اللامتناهي بقدرة « شعب إسرائيل » على البقاء وأهمية رسالته في الحياة. وتنتمي أشعار ساكس إلى الموروث الأوربي الرومانسي لألمانيا، ويبدو أنها تأثرت بالصوفية: تأثرت بدايةً بصوفية جيكوب بومه، ثم تأثرت بالقبَّالاه، خصوصاً كتاب الزوهار أهم كتب التراث القبَّالي، كما تأثرت بكتابات مارتن بوبر الحسيدية. وتتمحور أغلب أعمالها حول موضوعات الملاحقة والمطاردة والخوف والوحدة والاستشهاد والمعاناة. وهي تستخدم خلفية كونية في كتاباتها.

كذلك كتبت ساكس عدداً من المسرحيات، من أشهرها مسرحية أسرار حول معاناة إسرائيل التي صدرت عام 1943 وتتناول فيها موضوع الإبادة النازية.

ورغم تبايُن آراء النقاد واختلاف تصنيفهم لأعمال ساكس وانتقاد الكثيرين لها باعتبار أن أسلوبها الأوربي الرومانسي الألماني لا يتفق مع محتوى أشعارها، وأنها تفتقر إلى عذوبة ودقة اللفظ الذي يتيح للقارئ مشاركتها إحساسها وإدراكها الديني. ورغم أن عدداً كبيراً من النقاد يجد أن أعمالها ليست متميِّزة لا من الناحية الأدبية ولا من الناحية الفكرية، إلا أنها مُنحت عام 1965 جائزة الناشرين الألمان للسلام، ثم جائزة نوبل في الأدب عام 1966 (مناصفة مع الأديب الإسرائيلي شموئيل عجنون). وقد قالت عند تسلُّمها الجائزة « إن عجنون يمثل دولة إسرائيل وأنا أمثل مأساة الشعب اليهودي ».

ورغم تأكيد يهودية أدبها، فيجب ملاحظة أن مصادر ساكس الأدبية ألمانية، غير يهودية على الإطلاق، وكذلك مصادرها الفكرية والدينية. إذ تأثرت بأعمال المتصوف الألماني المسيحي جيكوب بومه، كما تأثرت بمارتن بوبر الذي تأثر بدوره بالفكر الديني المسيحي كليةً. أما تأثرها بالحسيدية، فلعله تأثر بالجوانب التي يمكن أن نسميها «مسيحية». وهذا الموروث يظهر في تراثها الأدبي بكل وضوح، وقد وُصفت أعمالها الشعرية الأولى بأنها مسيحية. وفي عام 1940، نجد أنها تستخدم في قصيدتها الشهيرة «المداخن» صورة مجازية مسيحية، إذ تصف الدخان المنبعث من معسكرات الإبادة النازية بأنه يضم جسد إسرائيل، أما المسرحية التي كتبتها فهي ما يُسمَّى «مسرحية أسرار»، وهي نوع أدبي ذو جذور مسيحية واضحة تتناول اغتيال صبي بولندي على يد جندي ألماني (وفي هذا صدى لقصة صلب المسيح)، كما يتردد فيالمسرحية صدى أساطير حسيدية عن القديسين (تساديك) الذين يساهمون في استمرار العالم بفضل طهارتهم ويساهمون في إصلاح الخلل الكوني (تيقون). وقد بيَّنا المضمون المسيحي لهذا المفهوم في موضع آخر (انظر: «تنصير اليهودية»).

وقد وُصِّفت أعمالها بأنها مزج جيد بين المفردات الحسيدية والمفردات المسيحية، وعادةً لا يمكن مزج عنصرين إلا إذا كانت هناك رقعة مشتركة بينهما. وبالفعل، فإننا نجد أن المفردات الحسيدية التي اختارتهـا هي تلك المفردات التي تعبِّر عن الجانب المســيحي في الحسيدية، والتي استوعبها الحسيديون من تربتهم السلافية الأرثوذكسية. وهنا يمكن طرح السؤال التالي: هل أعطت أوربا الجائزة لساكس بسبب تعبيرها عن هويتها اليهودية أم أعطتها لها بسبب تخليها عنها؟

جوليان تـوويم (1894-1953(

Julian Tuwim

شـاعر بولندي يهـودي، يُعتبَر من أهـم المجددين في الأدب البولندي، وُلد لأب وأم يهوديين، ولكن الأم كانت ذات اتجاه اندماجي قوي فبثت فيه روح الانتماء لبولندا وللقومية البولندية. ولا شك في أنها روح اكتسبت قوة من خلال تلقيه تعليمه في جامعات بولندا في فترة كانت الروح القومية فيها متأججة. وتعبِّر دواوين توويم الشعرية الأولى، في انتظار الإله (1918)، و سقراط الراقص (1920)، و الخريف السابع (1922)، عن إيمانه العميق بالقومية البولندية وتمسكه بها. أسس توويم، هو ومجموعة من الأدباء البولنديين، مجلة أدبية أطلق عليها سكامندر، كما أُطلق الاسم ذاته على حركة أدبية كان يرأسها توويم، وهي تُعَدُّ أهم حركة أدبية في بولندا حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية. وقد أصبح توويم من أهم شعراء بولندا بلا منازع، ومُنح جوائز أدبية عديدة وذاع صيته في أوربا باعتباره «بوشكين البولندي». ورغم إيمانه العميق بقوميته، إلا أنه نحا في شعره منحىً اجتماعياً ثورياً، فهاجم الأثرياء والمستغلين والطبقة العسكرية والرأسمالية في بولندا في ديوانيه إنجيل الفجر (1933)، وحفلة الأوبرا (1936). ولكنه رغم تعاطفه الواضح مع العمال، بقي بمنأى عن الحركات العمالية الثورية، إذ ظل انتماؤه القومي هو الأساس.

ولا يظهر الموضوع اليهودي في كتابات توويم إلا نادراً. وهو لم يحاول إخفاء أصوله اليهودية، إذ كان يرى أنها لا تتناقض مع انتمائه البولندي. وانطلاقاً من هذا، كان توويم يهاجم المعادين لليهودية الذين ينكرون عليه انتماءه القومي البولندي ويتهمونه بأنه يفسد اللغة البولندية، كما كان يهاجم الصهاينة وكل دعاة العزلة اليهودية. ولذا، اتهمته بعض الدراسات بأنه ينتمي لنمط اليهودي الذي يكره نفسه.

ساهم توويم في حركة المقاومة ضد النازي، وكتب ملحمة أزهار بولندا (1940 - 1944) الذي أصبح أحد أجزائها ( «صلاة ») نشيد حركة المقاومة البولندية. كما كتب في هذه المرحلة كتاباً بعنوان نحن اليهود البولنديون يدافع فيه عن انتمائه البولندي واليهودي. وقام توويم بترجمة كثير من الأعمال الأدبية إلى البولندية خصوصاً من الروسية، كما ترجم أعمال رامبو. وكتب دراسات في مواضيع متنوعة مثل السحر ولهجات السكارى، ونشر ثلاثة من كتب تضم أغاني للأطفال. وقد عاد إلى بولندا بعد استيلاء الشيوعيين على الحكم واستقر فيها حتى موته.

ويظهر اسم توويم في كثير من الموسوعات اليهودية باعتباره أديباً يهودياً، الأمر الذي يثير السؤال التالي: من هو الأديب اليهودي؟ فهذا أديب نشأ يتحدث البولندية في بيئة بولندية وتلقى تعليمه في مؤسسات تعليمية بولندية، وينتمي إلى التراث الأدبي والشعبي البولندي، ويؤمن بالمشروع القومي البولندي (وقد كان البولنديون يتغنون بقصائده ويحولونها إلى أناشيد قومية لهم)، وهو يعود إلى بلده بعد تحريرها (وبعد إنشاء الدولة الصهيونية في فلسطين) ليقضي فيها بقية أيامه ثم يُدفَن فيها، ومن ثم لا يمكن فهم حياته أو أدبه إلا في إطار انتمائه إلى بولندا. أما يهوديته، فقد فهمها حق الفهم، أي باعتبارها بُعداً هامشياً في شـخصيته (وهو الأمر الذي فشـل الصهاينة والمعادون لليهود في فهمه).

إسـحق بابـل (1894-1941)

Isaac Babel

كاتب قصة قصيرة ومسرحي سوفيتي يهودي، وُلد في مدينة أوديسا ونشأ فيها. وكانت أوديسا مركزاً كوزموبوليتانياً، إذ كانت تعيش فيها جماعات ذات خلفيات ثقافية وإثنية مختلفة (ولذا كانت المسارح تعرض المسرحية الواحدة بثلاث أو أربع لغات مختلفة)، كما كانت مركزاً لنشاط تجاري دولي واسع النطاق. وإلى جوار هذا كانت أوديسا مركزاً للدراسات العبرية واليديشية ومركزاً لحركة التنـوير اليهـودية والحـركة الصهيـونية والحركات الاشتراكية اليهودية.

وُلد بابل لعائلة مندمجة تتحدث اليديشية التي تُعَدُّ لغته الأولى، وتلقى تعليماً خاصاً في منزله حتى سن السادسة عشرة، حيث تعلم مواد دينية ودنيوية عديدة منها العبرية والعهد القديم والتلمود، ثم التحق بمدرسة تجارية في أوديسا. وبعد عام 1915، ذهب بابل إلى بتروجراد (سان بطرسبرج فيما قبل ولينينجراد فيما بعد) متخفياً، حيث كان محظوراً على أعضاء الجماعة اليهودية التواجد فيها دون تصريح، لأنها كانت تقع خارج منطقة الاستيطان على عكس أوديسا.

وقد نُشرت أول أعماله الأدبية في بتروجراد، قبل الثورة، في مجلة أدبية كان يرأس تحريرها ماكسيم جوركي. وبعد اندلاع الثورة البلشفية، انضم بابل لقواتها. فعمل في قوات الأمن، وفي قوميسارية التعليم، وفي مهمات التموين، أي في مصادرة المحاصيل في الريف، وفي الجيش البلشفي ضد القوات الروسية البيضاء المعادية للثورة. كما خدم في فرقة الفرسان الأولى التي كانت تضم المحاربين القوزاق وكانت تحارب على الجبهة البولندية. وهذه واحدة من مفارقات عديدة في حياة بابل، فالقوزاق هم أعداء الجماعة اليهودية التقليديون، ومن صفوفهم جاء شميلنكي الذي قاد ثورة شعبية أوكرانية ضد الإقطاع الاستيطاني البولندي وممثليه من يهود الأرندا. كما كانت الدولة القيصرية تجند القوزاق في قوات الأمن الداخلي لقمع المتظاهرين ولفرض الهيمنة الروسية على الشعوب والأقليات التي كانت تضمها الإمبراطورية القيصرية ومن بينهم الجماعات اليهودية. ورغم كل هذا، انضم بابل اليهودي إلى القوزاق أعداء اليهود، وهم فرسان محاربون شرسون من أصل قَبَلي يحملون سيوفهم وأسلحتهم، وهو مثقف من المدينة يرتدي نظارة ويحمل كتبه ولا يجيد ركوب الخيل. وتستمر المفارقات في حياة بابل، فقد نشأ نشأة دينية أرثوذكسية جامدة، ثم تبنَّى عقيدة علمانية لا تقل عنها جموداً. وقد دافع بابل عن النظام السوفيتي، وسقط ضحية هذا النظام في نهاية الأمر.

كتب بابل في هذه الفترة الفرسان الحمر (1926) وهو كتاب يتناول تجربته مع المحاربين القوزاق من الفرقة الأولى الحمراء. واتهمه قائد الفرقة الأولى بأنه شوَّه الحقائق وأساء إلى صورة الفرقة. وفي عام 1931، كتب بابل رواية أو مجموعة من القصص عن عملية فرض الصيغة الجماعية على الإنتاج الزراعي، وظهر فصل منها ثم توقفت لأنها كانت متناقضة مع خط الحزب.

سُمح له عام 1928 بزيارة زوجته وابنته اللتين كانتا قد هاجرتا إلى باريس. ثم بدأت فترة الإرهاب الستالينية بعد ذلك، فأصبح بابل، حسب قول أحد النقاد، « سيد الصمت ». وبموت ماكسيم جوركي (1936)، فَقَد بابل أحد أهم أصدقائه، إذ كان يزوده بالحماية. وبالفعل، قُبض عليه عام 1939 واختفى على الفور. ولا تُعرَف الأسباب التي أدَّت إلى القبض عليه، ولكن ثمة نظرية تذهب إلى أنها لم تكن سياسية، وأنه أُلقي القبض عليه بسبب علاقة غرامية بينه وبين زوجة رئيس البوليس السري.

ويُعَدُّ بابل من أهم الكُتَّاب الروس، فرغم أن لغته الأولى كما أسلفنا هي اليديشية، ورغم أنه كتب أولى رواياته بالفرنسية، إلا أنه امتلك ناصية اللغة الروسية وأصبح من أحسن كتابها. ورغم اختياره الروسية لغة للتعبير، فقد ظل الموضوع اليهودي موضوعاً أساسياً ظاهراً وكامناً في أعماله. ولم يكن بابل منشغلاً بأن يحدِّد موقفاً مع اليهود أو ضدهم، فقد أدرك أن يهوديته (أو بقاياها) هي مُعطى أو ميراث يحدِّد سلوكه كمواطن في عصر الثورة وهو ما يخلق التناقضات والمفارقات العديدة في حياته.

ولعل هذا هو سر عظمة أعماله وسر إنسانيتها، فاليهودية هنا ليست نسقاً مغلقاً مكتفياً بذاته يُقسِّم العالم إلى يهود وأغيار ثم يستبعد الأغيار باعتبارهم الأشرار، وإنما هي بُعْد أساسي في بنية إنسانية مأساوية كوميدية ذات دلالة إنسانية عامة. ومأساة اليهودي في رواياته ليست مأساة يهودية خاصة، وإنما هي مأساة إنسان يسقط صريع عمليتي الثورة والتحديث رغم إيمانه بهما وتحمسه لهما وانضمامه لصفوفهما. وهذا نمط إنساني عام يتجاوز يهودية اليهودي وكل الانتماءات الإثنية، ويُعبِّر عن الصراع القائم بين الجديد والقديم وبين المجتمع التقليدي والحديث، فالمرجعية النهائية هنا هي إنسانية البشر المشتركة، وكذلك أفراحهم وأتراحهم.

ولم يكن بابل كاتباً غزير الإنتاج، فسمعته الأدبية تستند إلى مجموعتين أدبيتين: الفرسان الحمر (1926)، و روايات أوديسا (1927). وقد تأثر أسلوبه الروائي بفلوبير وموباسان، فهو يجيد رواية الحكايات، حيث تنكشف الشخصيات المتنوعة من خلال الحبكة نفسها. وعادةً ما يكون الراوي في القصة هو الشخصية الأساسية يحكي روايته بلغته سواء كانت لهجة فلاحية أو رطانة جنود أو لغة مواطن يهودي من أوديسا يتحدث الروسية بلكنة يديشية.

والموضوع الأساسي في روايات بابل هو صدى لواحد من أهم الموضوعات في الأدب الغربي الحديث: تمجيد الإنسان الطبيعي أو النبيل المتوحش. ولكن الموضوع يأخذ شكلاً خاصاً في أدب بابل، بل يكتسب أبعاداً نيتشوية واضحة، وهو في هذا لا يختلف كثيراً عن كثير من الأدباء اليهود في عصره حيث اكتسحتهم النيتشوية، مثل آحاد هعام فيلسوف أوديسا وحاخامها اللاأدري. فاليهودي التقليدي في أدب بابل هو ممثل أخلاق الضعفاء، المثقل بعبء التاريخ وميراثه، يود أن يتحرر من كل هذا ويصبح مثل الوثنيين ممثلي أخلاق الأقوياء الذين يتسمون بالقوة الجسدية الخارقة وبغياب الحس الخلقي والمقدرة على الحياة في عالم الحس المباشر. ولعل أحسن مثل على ذلك، حسب رؤية بابل، المحاربون القوزاق. ومما يَحسُن ذكره أن لهذا الموضوع صدى في الأدب الصهيوني، فالصابرا أو العبراني الجديد هو هذا الوثني النيتشوي غير المُثقَل بعبء التاريخ، والوثني الجديد قادر على القيام بأفظع الأفعال وأبسطها؛ قتل الآخرين. وفي إحدى قصص بابل، لا يقوى بطلها على أن يُجهز على أحد الرفاق الجرحى، ويصلِّي للإله ليمنحه المقدرة على القتال. وفي قصة أخرى، يحاول البطل أن ينضم إلى جماعة القوزاق، ولذا كان عليه أن يقتل إوزَّة بطريقة شرسة وينجح في ذلك، ولكنه حينما يأوي إلى فراشه يبدأ ضميره (اليهودي) في تأنيبه على فعلته هذه.

وإلى جانب ممثلي أخلاق الضعفاء، يوجد يهود آخرون يعيشون في عالم الحس خارج نطاق قيم الخير والشر، أبطال لا علاقة لهم باليهود المساكين الذين صوَّرهم الأدب اليديشي، ولا بالحالمين المثاليين في الأدب ذي التوجه الصهيوني. أما أبطال بابل فهم، على حد قول أحد النقاد، مثل الخمرة الحمراء الرديئة المليئة بالفقاقيع، فمنهم امرأة يهودية ضخمة تدير بؤرة للصوص وماخوراً للدعارة، ومنهم شحاذون ذوو ذقون مدببة يحرسون مقابر اليهود ويتحدثون عن عبث الوجود الإنساني، ومنهم رؤساء عصابات يُدخلون الرعب على قلوب تجار أوديسا وشرطييها، ومنهم ذابحون شرعيون وحسيديون بولنديون. هذا الجانـب من أدب بابل يُعبِّر عن وعيه بالجانب الحسـي لعـالم يهود اليديشية، ولكنه عالم آخذ في الاختفاء بسبب تصاعُد معدلات العلمنة والتحديث، خصوصاً بعد الثورة. ومن هنا يتحوَّل أدب بابل إلى مرثية اختفاء هذا العالم، ولكنها مرثية كوميدية. وهذه النغمة هي التي تنقذه إلى حدٍّ ما من العدمية التي تسم كثيراً من الأعمال الحداثية وتُحل محلها شكلاً بدائياً مباشراً من تأكيد الحياة. فعلى سبيلالمثال، هناك بيت للعجزة اليهود يحاول أن يضمن لنفسه الاستمرار بأن يتحوَّل إلى تعاونية اشتراكية للدفن، ولكنه لا يمكنه البقاء إلا بالحفاظ على الجثمان الوحيد لديه وعدم دفنه. ومن ثم، فإن أول جنازة حقيقية ستقوم بها هذه المؤسسة الاشتراكية تعني، في واقع الأمر، نهايتها. وهناك قصة أخرى عن حياة طفل يُسميه أبواه الشيوعيان الملحدان «كارل»، ولكن جديه يختنانه سراً، ومن ثم يُسمَّى الطفل «كارل ـ يانكل» (كارل ـ يعقوب). وفي قصة ثالثة، ينضم ابن أحد الحاخامات للحزب الشيوعي (رمز الجديد) ولكنه يستمر في الحياة مع أبويه لأنه لا يريد أن يترك أمه (رمز القديم). وفي قصة رابعة، يموت ابن الحاخام الشيوعي في معركة ولكنهم (بعد موته) يجدون في أوراقه صورة للينين وأخرى لموسى بن ميمون وقرارات للحزب الشيوعي كُتبت في هوامشها أبيات شعرية بالعبرية ونص من نشيد الأنشاد مع بعض الطلقات الفارغة.

ولعل من أهم القصص التي تبيِّن هذا الصراع قصة جيدالي. وبطل القصة يهودي عجوز (صاحب محل تحف)، وقد اعترته الدهشة والحيرة بسبب عمليات السرقة والنهب في مدينته والتي يقوم بها الجانبان الشيوعي والمعادي للشيوعية. ولذا، فهو يسأل: كيف يستطيع المرء إذن أن يفرِّق بين الثورة والثورة المضادة؟ وهو ممن لا يقبلون الرأي الحديث القائل بأن الغاية تبرر الوسيلة، ويعيش في ألم لأن الثورة تطالب الناس بأن ينبذوا كل القـيم القـديمة: الجيـد منهـا والرديء. « سنقول نعم للثورة، ولكن هل يمكن أن نقول لا لشعائر السبت؟ » ثم تنتهي القصة باقتراح يقدمه بطل القصة لزائره الشيوعي: إن ما تحتاجه الدنيا ليس مزيداً من السياسة، وإنما منظمة دولية للأخيار، يعيش كل الناس فيها في سلام ووئام.

وقد رُدَّ اعتبار بابل في الاتحاد السوفيتي في فترة ما بعد ستالين ونُشرت أعماله في الستينيات. ويمكن هنا أن نثير قضية تصنيف بابل الذي ورد اسمه في دليل بلاكويل للثقافة اليهودية باعتباره أديباً يهودياً. ورغم أن بابل يكتب باللغة الروسية داخل إطار الثقافة الروسية وتقاليد الرواية الروسية، ولا يمكن فهم أعماله إلا بالعودة إلى هذه التقاليد. وهو يتناول موضوعات يهودية، ولكنها في واقع الأمر موضوعات روسية يهودية، أي أنها موضوعات تخص حياة يهود اليديشية في روسيا بعد الثورة، وهي موضوعات لا تُفهَم هي الأخرى إلا بالعودة إلى المجتمع السوفيتي الجديد ومشاكل الشعوب والأقليات فيه. ويتسم تناول بابل لموضوعاته بالرحابة الإنسانية، ومن ثم فإن أعماله ترقى إلى مستوى العالمية. كل هذا يجعل تصنيفه كروائي يهودي مستحيلاً، فمثل هذا التصنيف لا يُفسِّر إلا جوانب محدودة للغاية من أدبه.

بـن هكـت (1894-1964(

Ben Hecht

صحفي أمريكي يهودي وروائي وكاتب مسرحي، وكاتب سيناريو. وُلد في نيويورك، وانتقل عام 1910 إلى شيكاغو حيث بدأ حياته في مهنة الصحافة التي حقق فيها مكانة بارزة. أرسلته جريدة ديلي نيوز عام 1918 إلى برلين حيث ظل حتى عام 1920، وهناك تدعمت اهتماماته الأدبية. وفي عام 1921، أصدر روايته الأولى أريك دورن والتي عكست تجاربه في برلين. وفي شيكاغو، انضم بن هكت إلى مدرسة شيكاغو التي ضمت كُتّاباً مثل شروود أندرسن وماكسويل بودنهايم. وانتقل هكت بعد ذلك إلى نيويورك، حيث بدأ عمله في المجال المسرحي في برودواي، واشترك في كتابة بعض المسرحيات التي حققت شهرة واسعة. إلا أن هكت حقَّق شهرته الحقيقية من خلال عمله ككاتب سيناريو لعديد من الأفلام السينمائية الشهيرة والتي نال عنها جائزتي أوسكار.

وكتب هكت عام 1931 روايته اليهودي المحب التي اعتبرتها الأوساط اليهودية مثالاً لكره اليهودي لنفسه، وذلك لما اتسمت به شخصياتها اليهودية من مكر وتآمر ورغبة في الاندماج. ولكنه، مع نهاية الثلاثينيات، ومع صعود النازية والفاشية في أوربا، بدأ في الاهتمام بالقضايا اليهودية، وأدان النازية، وأيَّد الوجود الصهيوني في فلسطين بشدة.وقد ظل بن هكت حائراً بين رفض النازية من ناحية ورفض السياسة البريطانية في فلسطين من ناحية أخرى، وكتب عام 1944 دليل المرتبكين تعبيراً عن هذه الحيرة.أما بعد الحرب،فقد هاجم بن هكت سياسة بريطانيا،وقدم الدعم المالي لمنظمة إرجون الصهيونية الإرهابية في فلسطين.ولكنه بعد قيام إسرائيل،أصيب بخيبة أمل تجاه إرجون وتجاه سياسات بن جوريون.

وفي عام 1961، تضمَّن عمله الأدبي خيانة هجوماً لاذعاً وحاداً على الصهيونية، إذ تناول موضوع رودولف كاستنر (وهو الزعيم الصهيوني المجري الذي تعاون مع النازيين وأيخمان، فقام بخداع يهود المجر وأفهمهم أنهم ذاهبون لمعسكرات العمل، فضمن سكوتهم وعدم مقاومتهم نظير السماح لمجموعة من الشباب اليهودي القوي بالاستيطان في فلسطين). وألَّف بن هكت مسرحية مستقاة من كتابه هذا فشنَّت المؤسسة الصهيونية عليه حرباً شعواء.

ناثـانيـل وســت (1903-1940(

Nathaneal West

روائي أمريكي يهودي اسمه الحقيقي نيثان وينشتاين. وُلد ونشأ في نيويورك لأبوين مهاجرين من يهود اليديشية كانا يرفضان التحدث باليديشية في المنزل، وشجَّعا ابنهما على الاندماج. ولم يحصل وست على شهادة الثانوية العامة، فالتحق بالجامعات بوثائق مزيفة. ولم يُسمَح له بالانضمام لإحدى الروابط الجامعية لأنه يهودي، فكتب قصة رمزية عن ذبابة وُلدت تحت إبط المسيح وتعيش على جسده وتموت لحظة موته. ولعل الذبابة رمز للشعب اليهودي الذي يعيش على هامش العالم المسيحي، منبوذاً منه، عالة عليه، يحيا بحياته ويموت بموته.

وفي عام 1927، قبل أن يذهب إلى باريس، غيَّر نيثان اسمه وتبنى الاسم الذي عُرف به بقية حياته، وكتب رواية سيريالية تجريبية بعنوان حياة بالسوسنيل الواهمة (1931) هاجم فيها المسيحية واليهودية، وموضوع الرواية الأساسي هو بحث البطل بشكل عبثي عن شيء ثابت يمكنه الارتباط به. واتهمه بعض النقاد اليهود بأنه معاد لليهود واليهودية، وبأنه يهودي كاره لنفسه، الأمر الذي يثير قضية التصنيف: هل يمكن الاستمرار في تصنيف وست باعتباره «كاتباً أمريكياً يهودياً » أم أن من الأفضل تصنيفه باعتباره « كاتباً أمريكياً من أصل يهودي » أم مجرد « كاتب أمريكي علماني » (فقط) يهاجم مختلف العقائد الدينية؟

وروايات وست عنيفة ساخرة ومُستخفة بالقيم الإنسانية، تحاول أن تُظهر أن الحب الإنساني إن هو إلا وهم لا علاقة له بالواقع الخارجي القاسي الصلب. كما أن روايته المليون البارد (1934) هجوم على الحلم الأمريكي. وتجمع روايته يوم الجراد (1939) التي تدور أحداثها في هوليود بين اللاأخلاقية والأحلام الرؤياوية (الأبوكاليبسية(.

ويذهب بعض النقاد إلى أن عدمية وست تعبير عن رفضه مجتمعاً صنَّفه يهودياً في وقت لم تَعُد له فيه علاقة باليهودية، ولعل هجومه الشرس على كلٍّ من اليهودية والمسيحية هو تعبير عن هذا الوضع الشاذ والفريد.

ليـونيـل ترلنـج (1905-1975(

Lionel Trilling

ناقد أدبي وروائي أمريكي يهودي، وُلد لأبوين مهاجرين وقضى معظم حياته أستاذاً للأدب الإنجليزي بجامعة كولومبيا (حيث تعرَّف إليه مؤلف هذه الموسوعة). من أهم مؤلفاته ماثيو أرنوُلد (1939)، و إي.ام.فورستر (1943). أما روايته وسط الرحلة (1947)، فتتناول جاذبية الماركسية بالنسبة للمثقفين. ومن أهم أعماله النقدية الوجدان الليبرالي (1950) الذي يحاول فيه أن يؤكد أهمية التركيب في الفكر (مقابل التسطيح والتبسيط) وعلاقة الأدب بالحضارة. وقد نشر أيضاً كتاباً عنوانه الذات المعارضة (1955) يضم مقالاً بعنوان «وردزورث والحاخامات»، وهو من المقالات النادرة التي يتناول فيها الكاتب موضوعاً يهودياً. ويعقد ترلنج في هذا المقال مقارنة بينوردزورث وحبه وتقبُّله الطبيعة ورفضه فكرة الغزو بموضوع مماثل في كتابات الحاخامات. كما أن له مقالاً عن الكاتب الروسي اليهودي إسحق بابل يُبيِّن فيه أن بابل كان يدرك تماماً جدلية الجسد والروح، والمجتمع والذات، وأن يهوديته ليست أساس هذا الإحساس رغم أنها قد عمَّقته.

وترلنج غير متعاطف مع تجربة الدولة الصهيونية، فهي تقف على طرف النقيض من الوجدان الليبرالي بتركيبيته وتعدديته. وقد نَشَر ترلنج رأيه هذا في مجلة كومنتاري. ومن هنا، فإن من الصعب إلى حدٍّ كبير استخدام مصطلح «كاتب أمريكي يهودي» للإشارة إلى ترلنج. فالموضوع اليهودي لا يظهر إلا لماماً في كتاباته، وإن ظهرت موضوعات يهودية فهي تظهر باعتبارها موضوعات إنسانية تُوضَع في سياق إنساني عالمي. وقد قال ترلنج إن الاهتمام بما يُقال له «الهوية اليهودية» هو أمر لا علاقة له بمن يود أن يصبح مثقفاً أو فناناً أمريكياً.

ومن مؤلفاته الأخرى ما وراء الحضارة (1965). ومن كتبه الأخيرة الإخلاص والأصالة (1974)، وهو هجوم على حركات الستينيات العدمية المعادية للإنسان والحضارة. وقد استفاد ترلنج من علم النفس وتاريخ الحضارة في دراسته.

مـائيـر لفــين (1905-1981(

Meyer Levin

روائي أمريكي يهودي وصهيوني لا يُصنَّف ضمن كُتَّاب الدرجة الأولى. وُلد في شيكاغو لأبوين مهاجرين. ورغم أن رواياته الأولى تجاهلت تماماً الموضوع اليهودي، إلا أنه بدأ علاقة طويلة مع الصهيونية ابتداءً من الثلاثينيات حيث كتب رواية يهودا، وهي أول رواية عن الحياة في الكيبوتس. وبعد هذا التاريخ، أصبحت كل رواياته لا تتناول سوى موضوعات يهودية، ومن وجهة نظر يقال لها «قومية» أي صهيونية.

وفي عام 1932، نشر لفين مجموعة من القصص الحسيدية بعنوان الجبل الذهبي (أُعيد نشرها عام 1975 تحت عنوان روايات كلاسيكية حسيدية). وقد نُشر عام 1937 أحد أهم أعماله العصبة القديمة، وهو كتاب ذو طابع صحفي تقريري وصفي عن الشبان اليهود في شيكاغو إبان فترة الكساد الكبير. وقد مدحته النيويورك تايمز، ولكن أحد النقاد اليهود وصف أعماله بأنها تعبير عن كره اليهودي لنفسه.

عمل لفين مراسلاً لعدد من الصحف في فلسطين وإسبانيا، وساهم بعد الحرب في الهجرة اليهودية غير الشرعية. وفي عام 1947، نشر كتاباً بعنوان بيت أبي، وهو تأملات في مصير اليهود في ألمانيا النازية وفلسطين. كما كتب قصصاً وسيناريوهات لعدة أفلام ذات طابع صهيوني واضح.

ونشر لفين عام 1952 مسرحية مُستَقَاة من حياة آن فرانك، كما كتب رواية بعنوان الإرغام عن جريمة شهيرة لا دافع لها اشترك فيها شابان يهوديان ثريان من شيكاغو مسقط رأسه.

استوطن لفين في إسرائيل منذ عام 1958. وأصبح أدبه، بعد ذلك، صهيونياً غارقاً في العنصرية بشكل فاقع، يُضفي غلالة رومانسية على اليهود ويصوِّر العرب في أقبح الصور من خلال أنماط إدراكية استقاها من أدب معاداة اليهود، بحيث أصبح العربي في أدبه يقابل اليهودي في أدبيات معاداة اليهود. ونشر لفين سلسلة من الروايات عنالإبادة النازية لليهود، وآخر أعماله روايتان عن التجربة الصهيونية: المستوطنون (1972)، و الحصاد (1978(.

وكما أسلفنا، لا تحظى كتابات لفين بإعجاب معظم النقاد حيث لا يعدُّونه من كبار الكُتَّاب الذين يستحقون أن يُقرأوا قراءة جادة. وقد فسَّر لفين هذا الواقع بأن كتبه تتناول الموضوع اليهودي «ولا يمكن لكتاب عن اليهود أن يُعتبَر ضمن التيار الأساسي للأدب الأمريكي »، أي أنه يرى أن يهوديته (لا رداءة أدبه) هي السبب في أنه لا يحظى بالاهتمام الذي يستحقه. وادعاؤه هذا لا أساس له من الصحة، إذ تُترجَم أعمال كثير من الكُتَّاب الإسرائيليين للإنجليزية ويقرِّظها النقاد الأمريكيون، كما يعبِّر كثير من النقاد الأمريكيين عن إعجابهم بأعمال الكاتب الأمريكي اليهودي برنارد مالامود، وهي أعمال أدبية والبُعْد اليهودي فيها واضح. وقد هاجم لفين كبار الكُتَّاب الأمريكيين اليهود، مثل فيليب روث وسول بيلو، واتهمهم بعدم الاكتراث باليهود، بل وبأنهم يعادونهم ويكرهون أنفسهم كيهود. ويمكن أن يُعَدُّ أدب لفين نموذجاً جيداً للأدب الصهيوني.

رومـــان براندســتايتر (1906-)

Roman Brandstaetter

شاعر وكاتب مسرحي بولندي من أصل يهودي، وهو ابن المؤلف البولندي ديفيد براندستايتر الذي دأب على تأليف كتبه بالعبرية. بدأ حياته الأدبية بنشر عدة دواوين شعرية في مواضيع عامة، ثم أخذ ينحو منحى صهيونياً واضحاً تبدَّى في نشاطه الأدبي، حيث حرَّر بعض الحوليَّات الصهيونية وكتب قصائد عن العودة إلى صهيون وصدر له ديوانان يدلّ عنوانهما على اتجاههما الصهيوني: مملكة الهيكل الثالث (1934) وأورشليم في النور والغسق (1935). ثم اسـتوطَن في فلسـطين عام 1940 حيث أُقيمـت عروض لإحـدى مسرحياته.

لكن براندستايتر ترك فلسطين بعد الحرب العالمية الثانية، واستقر في روما حيث تزوج من امرأة مسيحية كاثوليكية وتكثلك هو نفسه، ثم عاد إلى بولنـدا عام 1948 حيث انضـم إلى مجمـوعة من الكتـاب الكاثوليك، وأصبحت أعماله الأدبية تدور حول موضوعات مشتقة من التاريخ البولندي مثل عودة الابن الضال (1948) ورواية يسوع الناصره: زمن الصمت (1967).

ويثير براندستايتر مشكلة من هو الأديب اليهودي بحدة غير عادية، وذلك ربما بسبب تحوُّله الجذري. فبعد أن كان يهودياً صهيونياً يتغنى بصهيون ويستوطن في فلسطين، أصبح كاثوليكياً ينزح عن فلسطين ولا يدين بالولاء إلا لبولندا!

ألبــرتو مورافيــا (1907-1990(

Alberto Moravia

روائي إيطالي وكاتب مقال وصحفي، وُلد في روما لأب يهودي وأم سلافية كاثوليكية قامت بتعميده وهو طفل (أي أنه مسيحي تماماً من منظور الشريعة اليهودية). وظل متباعداً تماماً طوال حياته سواء عن اليهودية أو المسيحية.

بدأ حياته الأدبية في سن مبكرة حيث كَتَب أولى رواياته له في سن الثامنة عشرة وصدرت عام 1929 بعنوان اللامبالون. وفي هذه الرواية هاجم الطبقة الوسطى الإيطالية بشدة وانتقد أنانيتها وقبولها السلبي للحكم الفاشي في البلاد. وقد ظل عداؤه للبرجوازية، وتحليله النفسي القاسي لأبطاله وشخصياته الروائية، من السمات الأساسية في أغلب أعماله. وتبيَّن ذلك بشكل واضح لأول مرة في رواية عجلة الحظ (1938).

عمل مورافيا في الثلاثينيات مراسلاً صحفياً واستمر في عمله هذا خلال الحرب العالمية الثانية في ألمانيا ثم في الشرق الأقصى. وقد أثارت مقالاته المعادية للفاشية خلافات عديدة مع نظام موسوليني، كما حاول الجستابو الألماني إلقاء القبض عليه عام 1943 وهو ما اضطره إلى الاختباء في إحدى القرى الإيطالية لمدة تسعة أشهر. أما بعد الحرب، فقد أصبح مورافيا واحداً من أبرز الكتاب الأوربيين، وتدفَّق إنتاجه الأدبي. ومن أشهر رواياته امرأة من روما التي كتبها عام 1947 وتناول فيها حياة امرأة دفعتها خيانة الرجال إلى حياة البغاء. وقد كان الجنس والبغاء من المواضيع المحورية في روايات مورافيا. وأثار ذلك انتقادات بعض النقاد الذين أخذوا عليه أيضاً عدم إقدامه على إدانة لا أخلاقية أبطاله.

وقد رأي البعض الآخر أن تأكيد مورافيا على الجنس والبغاء ما هو إلا رمز للفساد الأوسع الذي أراد مورافيا انتقاده ومهاجمته، خصوصاً عبادة الطبقة الوسطى للمادة والمال. وقد تناول مورافيا أيضاً حياة الفقراء والمطحونين وذلك في رواية حكايات من روما. ومن أهم رواياته أيضاً امرأتان، وهي دراسة عميقة لشخصيتين مختلفتينيكشف من خلالهما التباين بين العقل والشهوة الحسية.

وقد كان مورافيا قريباً للشيوعية، وانتُخب عام 1983 عضواً في البرلمان الأوربي كيساري مستقل، حيث دافع عن قضايا البيئة وعن حقوق الشعب الفلسطيني. وقد أكمل مورافيا سيرته الذاتية قبل وفاته بقليل، وكتب فيها أن الأدب يجب أن يعتبر نفسه قادراً على أن يحل محل كل شيء حتى الدين.

ويظهر اسم مورافيا في بعض الدراسات والموسوعات اليهودية كمؤلف يهودي. وقد ينم هذا عن خلل في الأساس التصنيفي، فمورافيا وُلد لأم كاثوليكية عمَّدته وهو طفل، أي أنه ليس يهودياً من منظور الشريعة اليهودية، وهو كاثوليكي من منظور العقيدة الكاثوليكية. وقد ابتعد عن كل الأديان، كما أن أدبه لا يعبِّر إلا عن رؤية يسارية تنبع من التقاليد الثورية العلمانية الغربية.

أبراهـام كلايـن (1909-1972)

Abraham Klein

شاعر ومؤلف كندي يهودي، وُلد في مونتريال لعائلة من المهاجرين الروس اليهود. اشتغل بالمحاماة ولكن اهتماماته اتجهت نحو الشعر ليصبح واحداً من أهم المساهمين في الحياة الأدبية في كندا. كان كلاين مطلعاً على الآداب المكتوبة بالإنجليزية والفرنسية والعبرية واليديشية، وظهرت أول أعماله الشعرية في مجموعة مختارة من الأشعار بعنوان مناطق جديدة (1936). وهذا الديوان يدل على ارتباطه الوثيق بالتيارات والاتجاهات الأدبية الكندية آنذاك. وقد عمل كلاين محاضراً زائراً في جامعة ماكجيل بين أعوام 1945 ـ 1948، كما قام بتحرير الجريدة الأسبوعية كنديان جويش كرونيكل في الفترة 1939 ـ 1953 والتي نَشَر فيها كثيراً من المقالات وعدداً من الأشعار التي قام بترجمتها إلى الإنجليزية من العبرية واليديشية. كما كان لكلاين نشاط سياسي، حيث رشَّح نفسه في الانتخابات البرلمانية عام 1949 عن أحد الأحزاب الاشتراكية الكندية.

لجأ كلاين في كتابة أشعاره إلى استخدام كثير من شخصيات وقصص العهد القديم. كما تتخلل أشعاره عبارات اليديشية وكلمات العبرية، وتتناول بعضها قضايا تخص باليهود كما في ديوانه أليس لليهودي؟ (1940). أما في ديوانه الهستيريا (1944)، وهي مجموعة من الأشعار كُتبت أثناء فترة الإبادة النازية، فيتناول قضية الاندماج ومعاداة اليهود. كما يتناول في بعض أشعاره الأخرى المشروع الصهيوني في فلسطين، فيخاطب الشعراء اليهود قائلاً: « إن زمن البكاء على معاناة اليهود في «الشتات» قد ولَّى، وأصبح من الضروري الآن التركيز على قضية إعادة الميلاد القـومي اليهـودي في أرض الأجـداد ».

أما روايته الوحيدة اللفائف الأخرى (1951)، فهي رواية رمزية تأخذ شخصية اليهودي التائه لتتناول من خلالها الأحداث الرئيسية فيما يُسمَّى «التاريخ اليهودي»، خصوصاً الإبادة النازية وإقامة دولة إسرائيل. وعنوان الرواية مأخوذ عن لفائف الشريعة أو أسفار موسى الخمسة، والرواية مُقسَّمة إلى خمسة أجزاء يحمل كلٌّ منها عنوان أحد الأسفار.

لكن استخدام كلاين للكلمات العبرية أو اليديشية في أعماله، أو تناوله لقضايا تخص الجماعات اليهودية، لا يضفي صفة اليهودية على أعماله أو على شعره أو أدبه. كما أنهذه القضايا والموضوعات يمكن أن يتناولها شعراء أو أدباء من غير اليهود. وبالإضافة إلى ذلك، يتخلل جميع أعماله اهتمام عميق بقضايا المجتمع الكندي بثقافتيه الفرنسيةوالإنجليزية وبتعدُّد جماعات المهاجرين فيه وبمشاكله الاجتماعية والسياسية، وهو ما يتناوله بشكل خاص في ديوانه المعنون الكرسي الهزاز.

بـرنــارد مالامــود (1914-1986(

Bernard Malamud

روائي أمريكي يهودي، وُلد في بروكلين في نيويورك، وتلقى تعليمه في نيويورك ونشر أربع روايات: الطبيعي (1952)، والمساعد (1957)، و البرميل السحري (1958)، و حياة جديدة (1961).

ومن رواياته المقامر (1966)، والتي نال عنها الجائزة القومية (الأمريكية) للكُتَّاب وأخرج من قصتها فيلماً سينمائياً، وهي تتناول تهمة الدم التي وجهت ظلماً لمندل بيليس في روسيا. كما نشر مالامود رواية حياة دوبين (1979)، و رحمة الله (1982). وحقَّق مالامود ذيوعاً كبيراً في الستينيات، ولكن شهرته تراجعت بالتدريج.

ورغم أن رواياته تتناول موضوعات يهودية، مثل حياة المهاجرين، ومأساة اليهودي باعتبارها مأساة الإنسان الحديث، والعلاقة بين اليهود وغير اليهود وبين اليهود والسود في المجتمع الأمريكي، إلا أنه رفض أن يُصنَّف ككاتب يهودي، وأصرَّ على أنه مجرد كاتب قصص. وسوف تظل « الحدوتة »، في رأيه، موجودة ما وُجد الإنسان. أما عبارته الشهيرة « كل البشر يهود » التي تُقتبَس لتُبيِّن توجهه اليهودي، فهي تتحمل تفسيراً مغايراً تماماً. وقد قال هو نفسه إنه يكتب لكل البشر وأن رواياته تتجاوز الحدود المباشرة للموضوع اليهودي. ومن ثم، فالعبارة تعني أن الموضوع اليهودي إن هو إلا المادة الخام التي يكتشف من خلالها الموضوعات الإنسانية العامة فيؤكد ما هو مشترك بين البشر، فمرجعيته النهائية هي الإنسانية المشتركة. وهو يفعل ذلك مستخدماً اللغة الإنجليزية واللهجة الأمريكية، مستفيداً من معرفته بإيقاع الحياة في مدينة نيويورك، ومتبعاً التقاليد الأدبية الغربية الأمريكية.

ســول بيــلّو (1915-)

Saul Bellow

روائي أمريكي يهودي حائز على جائزة نوبل وعلى جوائز أخرى مثل الجائزة القومية (الأمريكية) للكُتَّاب. وهو يُعَدُّ من أهم الروائيين الأمريكيين المحدَثين. وُلد بيلّو في مونتريال في كندا، ونُشِّئ تنشـئة دينية، كما تعلَّم اليديشية والفرنسية والعبرية. كانت أمه تودّ أن يصبح حاخاماً، ولكنه التحق بجامعة شيكاغو حيث درس الاجتماع وعلم الإنسان، وذلك قبل أن يقرر أن يصبح كاتباً.

صدرت له رواية أوجي مارش (1953)، ثم نشر أمسك اليوم (1956)، وأبطال هاتين الروايتين شخصيات ضعيفة محببة للنفس، تدخل أحياناً في مغامرات برغبتهاوأحياناً أخرى رغم أنفها، ولكنها عادةً تلقى الهزيمة. ثم نشر بيلّو رواية هندرسون ملك المطر (1959). ولكن أهم رواياته هي هرزوج (1964)، وهي قصة أستاذ جامعي يهودي يُصاب بالشلل الجسدي والعقلي ويقضي وقته في كتابة خطابات وهمية، وحينما ينجح في التحرر من حياته الوهمية يرفض كل الاتجاهات الفكرية (مثل الوجودية) باعتبارها تقاليع، ويبدأ حياة مستقرة من الناحية العاطفية والفكرية. وتتناول رواية كوكب ساملر (1970) حياة يهودي بولندي عاش خلال فترة الإبادة النازية. وقد نشر بيلّو روايتين أخريين: ديسمبر شهر العميد (1982)، و عدد أكبر يموت من تحطُّم القلب (1987).

ويمكن هنا أن نثير قضية الهوية اليهودية عند بيلو، إذ أنه كاتب أمريكي لا يمكن فهمه إلا في إطار الثقافة الأدبية الأمريكية، ولذا، فإن رواياته، سواء أكانت مادتها الخام يهودية أم كانت غير ذلك، تنبع من رؤية أمريكية للواقع، وطريقة السرد فيها أمريكية والصوت الروائي أمريكي. ففي رواية هندرسون ملك المطر يقوم البطل، وهوأمريكي غير يهودي، برحلة إلى أفريقيا كي يفهم ذاته ويكتشفها ثم يعود إلى وطنه مسلحاً بالحكمة الجديدة، وهذا هو النمط المتكرر في كثير من الروايات الأمريكية (موبي ديك لملفيل، و مغامرات هكلبري فين لمارك توين). أما هرزوج الذي سُمِّيت الرواية باسمه فهو يهودي، ولكن الانتماء اليهودي أو غيابه أمر ثانوي. وقد هاجم بيلو المفهوم الصهيوني الذي يطالب بتصفية الدياسبورا (أي الجماعات اليهودية في العالم) والذي يذهب إلى أن وجود اليهود خارج فلسطين هو حالة مَرَضيّة، كما هاجم فكرة أن يهود أمريكا شخصيات ممزقة منقسمة على نفسها، وبأن اليهودي الحقيقي هو من يعيش في إسرائيل. ووصف بيلو نفسه بأنه أمريكي مخلص لتجربته وحضارته الأمريكية « يتحدث اللغة الإنجليزية الأمريكية، ويعيش في الولايات المتحدة، ولا يمكنه أن يرفض ستين عاماً من حياته هناك». ومن ثم، فهو يرى أن مصطلح «كاتب يهودي» مصطلح مبتذل من الناحية الفكرية، وهو مصطلح ضيق الأفق، بل ولا قيمة له إطلاقاً.

ومع هذا، فقد كتب بيلّو، علاوة على رواياته وأقواله، كتاباً صهيونياً مغرَقاً في العنصرية عن رحلته إلى إسرائيل إلى القدس والعودة (1976). ولعل هذا الكتاب ذاته دليل على أن يهود الدياسبورا يروجون عن أنفسهم صورة تريحهم نفسياً هي أنهم صهاينة يؤيدون إسرائيل، بينما تؤكد حياتهم المتعينة غير ذلك. وحينما يكتب بيلو رواياته، فإنه يدع خياله الخلاَّق يَفصح عن رؤيته المركَّبة. أما في كتابه الدعائي المُشَار إليه، فهو يتبنَّى موقفاً أكثر عملية ودعائية. ولعل طموح بيلو للحصول على جائزة نوبل كان لهأثره الكبير على الآراء السياسية التي أفصح عنها في كتابه. وقد حصل بيلّو بالفعل على الجائزة بعد صدور الكتاب.

بريمو ليفـي (1919-1987(

Primo Levi

كاتب إيطالي وكيميائي، وُلد في تورين لعائلة إيطالية يهودية مندمجة في تورين حيث درس الكيمياء في جامعتها وتخرج عام 1941، واشتغل في ميلانو. ومع سيطرةالفاشيين على السلطة، انضم إلى المقاومة الإيطالية، ولكنه وقع في الأسر ورُحِّل إلى معسكر الاعتقال النازي في أوشفيتس. ونظراً لخبرته الكيميائية، اُختير ليفي للعمل فيمعمل لإنتاج المطاط الصناعي لصالح المجهود الحربي الألماني. ومع انتهاء الحرب، عاد إلى تورين بعد رحلة شاقة، ليشتغل في تخصصه، ولكنه اتجه في الوقت نفسه إلى الكتابة حيث أراد تسجيل تجربته في معسكر أوشفيتس باعتباره شاهداً على ما حدث هناك، وكذلك باعتبار أن عملية التسجيل وسيلة لتفريغ مشاعره. وقد كانت ثمرة مجهوده كتابه الأول لو كان هذا رجلاً (1945) والذي وصف فيه تجربة معسكر الاعتقال بأسلوب مشابه لأسلوب دانتي في الجحيم، وقد سعى فيه إلى تفسير عملية التجرد من الإنسانية التي جرت في أوشفيتس من جهة، وقدرة البشر من جهة أخرى على الحفاظ على إنسانيتهم بفضل العقلانية والوعي بالذات. وفي كتابه الثاني الهدنة (1965)، روى رحلة عودته عبر أوربا إلى تورين بعد الحرب. وفي عام 1975، كتب ليفي سيرته الذاتية تحت عنوان الجدول الدوري استخدم فيه أساس العناصر الكيميائية في الجدول الدوري ليرمز بذلك إلى الأحداث المختلفة التي جرت في حياته والشخصيات الكثيرة التي عرفها ومن بينها العَالم الألماني الذي عمل في معمله خلال فترة اعتقاله في أوشفيتس، والذي ظل على علاقة عمل به بعد الحرب. وتناول ليفي أحداث معسكرات الاعتقال النازية مرة أخرى في كتاب الغرقى والناجون (1986) والذي ضم مجموعة مقالات تناولت مواضيع مثل الشعور بالذنب لدى الناجين من المعسكرات وظاهرة المتعاونين مع الألمان.

وفي عام 1982، أصدر ليفي رواية بعنوان إن لم يكن الآن فمتى؟ تناول فيها قصة يهودي روسي من أفراد المقاومة خلال الحرب وهو يشق طريقه عبر أوربا إلى إيطاليا بهدف الإبحار إلى فلسطين.

وقد ابتعد ليفي عن اليهودية بشكل خاص وعن الدين بشكل عام وأصبح لا أدرياً، ولكنه كان من المؤمنين بقيمة الصدق كقيمة مطلقة ودعا إلى التمسك بها على المستوىالشخصي، ومن ثم قاوم إغراء الصلاة أمام احتمالات الموت أثناء وجوده في معسكر الاعتقال، باعتبار أن دوافع الصلاة في مثل هذه الظروف دوافع عملية، ولذا فهي لاتعبِّر عن التقوى، بل هي شكل من أشكال الهرطقة والتجديف. مات ليفي منتحراً عام 1987 حيث كان يعاني من حالة اكتئاب حاد أدَّى به على ما يبدو إلى الإقدام على الانتحار.

ورؤية ليفي للعالم متشائمة عدمية، ويتجلَّى هذا في تناوله لموضوع الإبادة النازية ليهود أوربا، إذ يرى أن الضحايا قد تعاونوا تماماً مع من ذبحهم، ومن ثم فإن الإبادة كانت عملاً مشتركاً بينهما ولا يمكن تجريم النازيين وحدهم. وغني عن القول أن هذا الموقف قد أدَّى إلى هجوم الكثيرين عليه.

أولجا كيرش (1924-)

Olga Kirsh

شاعرة يهودية من جنوب أفريقيا تكتب بالأفريكانز، لغة المستوطنين الهولنديين المعروفين باسم «أفريكانر». والأفريكانز هي لغة متفرعة عن اللغة الهولندية.

وُلدت كيرش في جنوب أفريقيا لأبوين يهوديين، وكانت الأم تتحدث الإنجليزية. أما الأب، فكان من أصل ليتواني، وكان يفهم الإنجليزية ويفضل الحديث باليديشية. درست كيرش الأفريكانز والهولندية في الجامعة. ورغم أنها كانت تجيد كلاًّ من الإنجليزية والأفريكانز إلا أنها لم تتمكن من التعبير عن تجربتها الشعرية إلا بالأفريكانز وحدها. وأول دواوين شـعرها هـو ضوء كشَّاف (1944)، ثم حوائط القلب (1948). وقد ذاعت شهرتها لأنها اليهودية الوحيدة التي تكتب بلغة الأفريكانز. وقد عبَّرت كيرش عن موقف المستوطنين الهولنديين من السود وعن إحساسهم بالضيق من النخبة الحاكمة الإنجليزية.

هاجرت كيرش إلى إسرائيل عام 1948، ولكنها لم تتمكن من كتابة الشعر بالإنجليزية أو العبرية. ثم عادت ونشرت عام 1972 ديوان شعر ثالثاً بالأفريكانز بعنوان تسع عشرة قصيدة. وقد زارت جنوب أفريقيا عام 1974 للاشتراك في مهرجان لغة الأفريكانز، ومن وحى هذه الزيارة كتبت ديوانها الأخير الأرض الثرية والبيات الشتوي في بلاد غريبة.

وتثير سيرتها الأدبية قضية الانتماء اليهودي، فهي أديبة لا تكتب إلا بالأفريكانز (لغة المستوطنين البيض من أصل هولندي في جنوب أفريقيا). وقد فشلت في الكتابة عن أي موضوع يهودي أو إسرائيلي أو صهيوني، فظلت منابع وحيها وكذلك الوعاء اللغوي الذي تصب فيه إبداعها لا يتغيَّر رغم انتقالها من موطنها الأصلي إلى إسرائيل وبقائها فيها معظم حياتها. بل إنها حينما استوطنت في إسرائيل دخلت في فترة من الصمت الطويل دامت زهاء ثلاثين عاماً انحسرت بعودتها لوطنها الحقيقي. ولذا، فإن تصنيفها باعتبارها يهودية لا يفيد كثيراً.

إيلـي فايـزل (1928-)

Elie Wiesel

روائي وصحفي فرنسي يهودي، وُلد في رومانيا في بيئة أرثوذكسية حسيدية، اعتقله النازيون حيث وُضع في معسكرات الاعتقال ولكنه لم يلق حتفه (على عكس بقية أعضاء أسرته). قضى بعض الوقت في باريس بعد الحرب العالمية الثانية، ثم انتقل إلى نيويورك وأصبح مواطناً أمريكياً عام 1963، ولم يهاجر إلى فلسطين. ولكنه، مع هذا، عمل مراسلاً لجريدة يديعوت أحرنوت عام 1949، وعمل أستاذاً للدراسات الإنسانية في جامعة بوسطن عام 1976.

تتناول كُتبه تجربته في معسكرات الاعتقال النازية. وهو يُركِّز على تجربة اليهود وحدهم لا ضحايا الإبادة النازية الآخرين، وينظر إلى هذه التجربة من خلال التراث التلمودي والقبَّالي والحسيدي دون أبعاد إنسانية شاملة.

ومن أهم رواياته وكتبه الليل (1961)، وبوابات الغابة (1964)، و أساطير زماننا (1968)، وكتاب يهود الصمت (1966) عن يهود الاتحاد السوفيتي، ورواية شحاذ القدس (1968) عن تجربة حرب الأيام الستة، حيث يبعث كل الشخصيات السابقة ورواياته وأساطيره ليقابلها أمام حائط المبكى. ومن أعماله الأخرى، الابن الخامس (1983). ومعظم أعماله كتبها بالفرنسية، ولكنه نشر أيضاً بعض الأعمال الأدبية بالإنجليزية، من بينها: أرواح مشتعلة (1973)، و القَسَم (1972)، ويهودي اليوم (1979). وينتمي فايزل إلى ما يُسمَّى «لاهوت موت الإله» وهو يَصدُر عن رؤية دينية ذات جذور تلمودية حسيدية قبَّالية يمكن وصفها بأنها حلولية متطرفة تُركِّز على ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي»، وأهم أحداث هذا التاريخ هو الإبادة النازية لليهود. والإبادة من منظور فايزل ليس لها مضمون إنساني عام، فهي ليست ظاهرة تاريخية اجتماعية (جريمة ارتكبتها الحضارة الغربية ككل ضد عدد من الأقليات والشعوب الغربية)، وإنما هي جريمة نازية وحسب (بل جريمة كل الأغيار) ضد اليهود وحدهم. بل إنها تجربة فريدة لا يدركها إلا من جرَّبها، ولذا فهي تستبعد الأغيار وتضع حاجزاً بين اليهود وغير اليهود. بل إن حادثة الإبادة حادثة ميتافيزيقية تستعصي على الفَهْم والتفسير، ولذا فيجب أن تُقبل كما هي. وإذا كان ثمة دلالة للإبادة، فهي إثبات أنه لا يمكن للإنسان أن يثق في الإله، وهو ما يعني أن الإله قد مات. فما العمل إزاء هذا الغياب وانعدام المركز واختفاء الثقة؟ ما العمل إزاء هذا العالم ما بعد الحداثي؟ ليس ثمة شيء سوى الشعب اليهودي، فهو المركز الوحيد الممكن. ولذا، فإننا نجد أن الموضوع الأساسي الكامن في كتابات فايزل هي التذكُّر، بل إن التذكُّر عنده يحل محل الصلوات. والتذكُّر هنا هو الالتفاف حول الذات اليهودية، وهو أمر لا معنى له، فهو مجرد إعادة شعائرية تشبه الاجترار والتكرار وتهدف إلى تأكيد بقاء الشعب اليهودي.

وأكبر تعبير عن إرادة البقاء، حسب رأي فايزل، هو ظهور دولة إسرائيل، فهي المطلق السياسي الذي يُجسِّد إرادة الشعب اليهودي المطلق ويعبِّر عن سيادته التي حلت مشكلة اليهود التاريخية. فبدلاً من كونهم شعباً شاهداً، أصبحوا شعباً شهيداً، ومن الاستشهاد أصبحوا شعباً مشاركاً في صنع التاريخ، ومن ثم فإن الحفاظ على الدولة الصهيونية أمر غير خاضع للحوار أو النقاش، وأفعالها مهما كانت لا أخلاقية لا يمكن التساؤل بشأنها. ولذا، يرفض فايزل أن يدين الوسائل الإرهابية التي اتبعتها الحكومة الإسرائيلية لقمع الانتفاضة، بما في ذلك قتل الأطفال وكسر العظام. وروايات فايزل ليست ذات قيمة إنسانية كبيرة، كما أنها ليست على مستوى فني رفيع. ومع هذا، فقد مُنح جائزة نوبل عام 1986.

الصفحة التالية ß إضغط هنا