المجلد الثالث: الجماعات اليهودية.. التحديث والثقافة 16

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

إريـك فـروم (1900-1980(Erik Fromm

عالم نفس وفيلسوف أمريكي يهودي وناقد اجتماعي. وُلد في مدينة فرانكفورت في ألمانيا لعائلة يهودية أرثوذكسية، ودرس في المدارس الألمانية العلمانية وحصل على درجة الدكتوراه في علم الاجتماع وعلم النفس من جامعة هايدلبرح، كما تلقى تعليماً دينياً يهودياً حيث درس العهد القديم والتلمود على أيدي كبار الحاخامات.

دَرَّس فروم في معهد التحليل النفسي في برلين وساهم في تأسيس معهد التحليل النفسي في فرانكفورت، ثم انضم عام 1930 إلى معهد البحوث الاجتماعية، واتجه فروم خلال هذه الفترة إلى الاهتمام بالعوامل والظروف الاجتماعية والاقتصادية المؤثرة في نمو الشخصية. وانتقد التحليل النفسي التقليدي لإغفاله الجانب الاجتماعي في حياة الإنسان واعتماده اعتماداً كبيراً على التكوين الغريزي للبشر. وعمل على بناء ما يمكن أن يُطلَق عليه «تحليل نفسي مادي» عن طريق الجمع والتأليف بين مفاهيم فرويد ونظرية ماركس.

ومع وصول النازية إلى الحكم في ألمانيا، هاجر فروم إلى الولايات المتحدة عام 1934 واشتغل بالتدريس في عدد من الجامعات والمعاهد الأمريكية وأصدر عدداً من الأعمال المهمة من بينها الهروب من الحرية (1941) ، و الإنسان لنفسه (1947)، والتحليل النفسي في الدين (1950)، و اللغة النفسية (1952)، والمجتمع الصحينفسياً (1955)، و فن الحب (1956)، وستكونون كالآلهة (1967)، وهو تفسير للرؤية التوراتية للإله من منظور التحليل النفسي.

ويتناول فروم في أعماله معنى الحرية عند الإنسان المعاصر وإحساسه بالوحدة والعزلة لانفصاله عن الطبيعة وعن بقية البشر. ويرى أن القلق والاغتراب هما الثمن الذي دفعه الإنسان مقابل حريته. والاضطراب النفسي أو العصاب عند فروم يكون نتيجة هروب الإنسان من الحرية وإلقاء نفسه في علاقات خضوع وامتثال للغير: السلطة أو الحاكم المستبد. ويعزو فروم هذه الاضطرابات النفسية إلى عوامل ثقافية واجتماعية وإلى مساوئ النظام الرأسمالي والنظام الشمولي اللذين يحولان الإنسان إلى آلة وإلى بشاعة المجتمع الاستهلاكي الاكتنازي المعاصر. أما « الحرية الإيجابية »، فإنها تتحقق في رأي فروم من خلال العمل والمحبة ومن خلال قدرة الإنسان على تحقيق إمكاناته الداخلية واكتسابه شعوراً بذاته باعتبارها ذات قيمة وفعالية، ومن هنا فقد دعا إلى بناء مجتمع يستند إلى احترام الوجود الإنساني.

ويرى فروم أن كل إنسان عنده احتياج عميق للدين، فالدين هو الإجابة المستفيضة عن أسئلة الوجود الإنساني. والوجود الإنساني ـ حسب رأي فروم ـ يستند إلى كل من التفكير العقلي والإيمان الديني، ولذا فلابد من التأليف بينهما ليظهر مجتمع يحقق فيه الإنسان إنسانيته الكاملة. وفروم يُفرِّق بين اتجاهين دينيين: الاتجاه الشمولي حيث يفقد الإنسان إرادته تماماً، والاتجاه الإنساني حيث يؤكد الإنسان ذاته ويمارس إحساسه بالمسئولية، ويرى فروم أن كتب الأنبياء الذين تتَّسم عقائدهم بالإيمان بالإنسانية وبتأكيد الحرية الإنسانية خير مثل على هذا الاتجاه. ويختلف فروم عن فرويد، ففرويد يرى أن الدين تعبير عن كبت وعصاب، أما فروم فيرى أن ثمة فارقاً شاسعاً بين هذا وذاك، فالإنسان المتدين يشارك الآخرين في مشاعره وأحاسيسه بينما الإنسان العصابي يعيش في عزلته، ويرى فروم أن ثمة جوهراً قيمياً أخلاقياً يوجد في الأديان كافة بحث عنه فروم في المسيحية والبوذية واليهودية. وقد تخلى فروم عن اليهودية الأرثوذكسية، ولكنه مع هذا لم يتخل عن عقيدته اليهودية ذاتها وإنما أعاد تفسيرها، فهو يرى أنها ديانة غير لاهوتية تؤكد أهمية التجربة الإنسانية.

ويرى فروم أن العهد القديم كتاب ثوري لأنه يتمحور حول فكرة تحرير الإنسان، وأن الاغتراب (الذي هو جوهر تعاسة الإنسان في المجتمع الحديث) مرادف تماماً لمفهومالوثنية وعبادة الأصنام في العهد القديم، وأن كتب الأنبياء هي التي تعبِّّر عن الرؤية الإنسانية المعادية للوثنية والرافضة لعبادة الأصنام. ومن الواضح أن فروم أجتزأ الطبقة التوحيدية الإنسانية في اليهودية وأسَّس عليها رؤيته لليهودية والدين، ومن هنا يأتي رفضه للحتمية وللتفسيرات المادية الأحادية وللجنس كمحرك وحيد للسلوك الإنساني.

وقد انتقل فروم في سنواته الأخيرة إلى سويسرا عام 1969 حيث استمر في العمل الفكري إلى أن تُوفي عام 1980.

إريك إريكسون (1902-1994)

Erik Erikson

محلل نفسي أمريكي يهودي وُلد في فرانكفورت. تدرب على منهج فرويد في التحليل النفسي وقام بوضع نظرية في نمو وتطور الشخصية تستند في كثير من جوانبها إلى نظرية فرويد، ولكنها تتجاوزها في الوقت نفسه حيث يرى إريكسون أن الشخصية تظل تنمو وتتطور طوال حياة الإنسان، كما يعرف بأهمية البيئة وتأثير الثقافة والتاريخ والمجتمع على تطور الشخصية.

وفي إطار هذه النظرية، بلور إريكسون مفهوم أزمة الهوية، وهو مفهوم يبدو أنه تبلور لدى إريكسون نتيجة عدد من الأزمات الشخصية التي مرَّ بها خلال المراحل الأولى من حياته. وأولى هذه الأزمات تتعلق باسمه حيث ظل لعدد من السنوات يعتقد أن اسمه الحقيقي هو هومبرجر وهو اسم زوج والدته الذي كان يعتقد أيضاً أنه والده. أما أزمته الثانية، فواجهته في مدرسته في ألمانيا، إذ كان يعتبر نفسه ألمانياً ولكنه وجد زملاءه الألمان يرفضون ذلك باعتبار أنه يهودي، كما رفضه زملاؤه اليهود بسبب شعره الأشقر ومظهره الآري. أما أزمته الثالثة، فواجهته بعد تخرُّجه من المدرسة حيث ظل لعدة سنوات هائماً على وجهه في أنحاء أوربا باحثاً عن ذاته وهويته، وعندما بلغ الخامسة والعشرين استقر به المقام في فيينا حيث قام بالتدريس في مدرسة تأسست لتعليم كل أبناء مرضى وأصدقاء فرويد. وفي هذه الفترة، تلقى إريكسون تدريباً في التحليل النفسي على يد ابنة فرويد (آنا فرويد)، وحقق نجاحاً في حياته الشخصية والعملية، ووجد هويته وذاته سواء على المستوى الشخصي أو المهني.

ورغم أن إريكسون لم يكمل تعليمه العالي إلا أنه قام بعد انتقاله إلى الولايات المتحدة عام 1933 بالتدريس في جامعات هارفارد وييل وكاليفورنيا. وقد استقال من جامعة كاليفورنيا في بركلي عام 1950 كأسـتاذ لعلم النفـس، محتجاً على قسـم الوفـاء الذي كان عليه أن يدلي به، إذ وجد هذا القسم غامضاً مخيفاً ويشبه الصيغة السحرية التي تهدف إلى طرد الشر! (وتُعَدُّ هذه أزمة هوية أخرى عنده). وانضم عام 1951 إلى هيئـة مركز أوسـتن ريجز في سـتوكبريدج بولاية ماساشوستس. وفي عام 1960، عُيِّن أستاذاً للتطور الإنساني وعلم النفس في جامعة هارفارد.

وتتمحور نظرية إريكسون في تطور الشخصية حول البحث عن «الأنا» أو الهوية الذاتية، ويُقسِّم إريكسون حياة الإنسان إلى ثماني مراحل من النمو والتطور النفسي الاجتماعي لكل مرحلة أزمة خاصة بها تنشأ من جراء احتكاك الفرد بالبيئة المحيطة به، ومن جراء الضغوط والمتطلبات التي تفرضها البيئة على الفرد. ونتيجة هذاالاحتكاك وهذه الأزمة يحدث تحوُّل في الشخصية حيث يواجه الفرد خيارين: التكيف أو عدم التكيف. ونجاح الإنسان في التعامل مع كل مرحلة، وكذلك حل كل أزمة بشـكل مقبـول، يعطيـه القدرة والقوة على التعامل مع المرحلة اللاحقة.

والمراحل الأربع الأولى في تقسيم إريكسون تشبه مراحل فرويد (الفمية ـ الإستية ـ القضيبية ـ الكمون) ولكن إريكسون يعطي أهمية أكثر للعوامل النفسية الاجتماعية على العوامل البيولوجية. ويضيف إريكسون أربع مراحل أخرى (المراهقة ـ الصبا ـ الشباب ـ النضوج). وتتحدد هوية الإنسان في مرحلة المراهقة (12 ـ 18 عاماً) وتتحدد على أساسها طبيعة المراحل الثلاث الأخيرة. ومن إسهامات إريكسون تأكيده أهمية مرحلة المراهقة هذه.

وقد طوَّر إريكسون مفهومه لدورة الحياة الثمانية إذ اقترح جدولاً للفضائل يقابل المراحل الثمانية للحياة (الأمل ـ الإرادة ـ الهدف ـ المقدرة ـ الإخلاص ـ الحب ـ الرعاية ـالحكمة). وهذه الفضائل كامنة في الإنسان ككائن عضوي وتساعدها البنية الاجتماعية الصالحة على النمو وتجهضها البنية الفاسدة، أي أن الدورة النفسية تقابلها دورةأخلاقية. ولذا، فإن إريكسون يرى أن النمو النفسي وتكوين الشخصية الأخلاقية وجهان لعملة واحدة. ويُعتبر إريكسون، بسبب نظرياته هذه، من أهم المفكرين في علم النفسالتطوري (مع جان بياجيه).

وكان لنظرية إريكسون أهمية في مجال التحليل النفسي، وكذلك في مجال التعليم والعمل الاجتماعي. وقد قدَّم نظرياته في عدد من الأعمال من بينها الطفولة والمجتمع (1950) الذي تضمن نتائج أبحاثه حول بعض قبائل الهنود الحمر. وتناول في هذا الكتاب أيضاً تطوُّر الهوية والشخصية، كما تناول مسألة معاداة اليهود ودور اليهود في ظل بيئة ثقافية متغيِّرة. وفي كتابيه الشاب لوثر (1958)، و حقيقة غاندي بيَّن كيف عاش الرجلان أزمة في حياتهما ونجحا في تجاوزها والخروج منها بإحساس أعمق بالقـوة. وهـو يرى أن هـذا قد حدث لأن كليهما كان على استعداد لأن يخاطر بهويته المهنية وقبلا تعـريف هويتهما بطريقة تتضمن الاعتراف بمواطن الضعف فيها.

وإذا ما بحثنا عن البُعد اليهودي في فكر إريكسون، فإننا سنجابه صعوبة بالغة، فقد رفض تبسيطات فرويد المادية الحلولية ورفض اعتبار الجنس ركيزة نهائية ورفض التفسير المجرد للسلوك الإنساني، وكان يحاول دائماً الوصول إلى نموذج تفسيري مركب للطبيعة البشرية فجمع بين المكوّن النفسي (الحتمي) والمسئولية الفردية الخلقية. وأقرب المفكرين له هو المفكر جان بياجيه (المسيحي). وقد يُقال إن سلسلة أزمات الهوية التي مر بها تعبير عن وضعه كيهودي، وهو قول يُبسِّط الأمور تماماً، فأزمة الهوية هي أزمة يمر بها كل فرد في العصر الحديث بسبب نسبيته ومعدل تغيُّره السريع ويواجهها المفكرون من اليهود وغير اليهود والأفراد العاديون من اليهود وغير اليهود. ولهذا السبب، نجد أن كثيراً من الموسوعات التي تناولت حياة إريكسون لا تذكر على الإطلاق مسألة أصوله أو انتمائه اليهودي.

برونـــو بيتلهــايم (1903-1990(Bruno Bettelheim

عالم نفس أمريكي يهودي. وُلد عام 1903 في فيينا حيث نشأ وتعلَّم وحصل على درجة الدكتوراه. قُبض عليه عام 1938 وأُرسل إلى معسكرات الاعتقال، ثم أُفرج عنه بعد عام فهاجر إلى الولايات المتحدة. تدور معظم دراساته عن الأطفال، وله دراسة داخل معسكرات الاعتقال بيَّن فيها أن الأطفال يصابون بالشيزوفرنيا حينما يرون أن حياتهم تسيطر عليها قوة عشوائية لا معقولة لا يمكنهم التحكم فيها بأي شكل. ولبيتلهايم دراسة عن أطفال الكيبوتس؛ أطفال الحلم (1967)، وله أيضاً فوائد السحر ـ معنى وأهمية الحكاية الخرافية (1976). كما أن له دراسة في كتب المطالعة بعنوان تعلُّم القراءة: انبهار الطفل بالمعنى (1982)، حيث يعقد مقارنة بين كتب المطالعة الحديثة التي تحد آفاق الخيال والقصص التقليدية والحكايات الخرافية التي تعبِّر عن المخاوف العميقة عند الأطفال أو تعبِّر عن أحلامهم وآمالهم. ولعل يهوديته تنحصر في تناوله بعض الموضوعات اليهودية وفي بعض الحالات التي يدرسها، أما منهج التناول فتحدده عناصر مركبة كثيرة لا تختلف عن تلك العناصر التي تحدد منهج أي عالم نفس آخر.

الباب الخامس عشر: التربية والتعليم عند الجماعات اليهودية حتى العصر الحديث

تربيـة يهوديــة وتربويــون يهــود

Jewish Education and Educators

« تربية يهودية» مُصطلَح يفترض وجود شعب يهودي ذي تاريخ مشـترك ومصير مشـترك، ومن ثم يصـبح له نوع خاص ومتميِّز من التربية. إلا أن هذا الافتراض لا تدعمه الحقائق التاريخية، ومن ثم فمقدرته التفسيرية والتصنيفية منخفضة للغاية. فمن المعروف أن أعضاء الجماعات اليهودية لم يكونوا شعباً واحداً باستثاء فترة قصيرة من تاريخهم، أي منذ استقرارهم في كنعان (فلسطين) في حوالي القرن الثاني عشر قبل الميلاد وحتى تهجيرهم إلى بابل في حوالي القرن السادس قبل الميلاد. وخلال هذه الفترة، كوَّن العبرانيون شعباً أو قوماً له سمات إثنية محدَّدة وديانة مرتبطة بالمكان (فلسطين) ويجمعه إطار ثقافي واحد ويتحدث لغة مشتركة. ورغم أن العبرانيين احتفظوا ببعض السمات الإثنية بعد العودة إلى فلسطين، إلا أننا نجد أن انتشارهم في البلدان المختلفة بدأ أيضاً خلال هذه الفترة، وظهرت تجمعات يهودية كبيرة في كل من بابل والإسكندرية لها ظروفها الثقافية المحددة وحركياتها المختلفة عن حركيات العبرانيين في فلسطين، ومن ثم لها مؤسساتها التربوية التي تلبي احتياجاتها باعتبارها أقلية لها أوضاعها الثقافية والحضارية المتعينة. ولهذا، فيمكننا أن نتحدث عن «التربية العبرانية» أو عن «التربية عند العبرانيين». وقد قسمنا هذه المرحلة إلى فترتين: قبل التهجير إلى بابل، وبعد العودة من بابل، ذلك أنه رغم وجود وحدة ثقافية تسم التشكيل الحضاري العبراني إلا أن ثمة تحولاً جوهرياً حدث للعبرانيين عند تهجيرهم إلى بابل، وهو تحول انعكس على مؤسساتهم التربوية المدرسية وغير المدرسية. فقد أوجد العبرانيون اليهود منذ عودتهم من بابل، وتحت تأثير تجربة التهجير والمعيشة في إطار الحضارة البابلية، وحتى سقوط الهيكل عام 70م، المؤسسات التربوية الثلاث اللازمة لتطوير ونقل ونشر الديانة اليهودية، وهي: تنظيم الكتبة والحلقات التلمودية، والمعبد اليهودي، ثم أخيراً المدرسة الأولية التي ظهرت تحت التأثير الهيليني وكرد فعل له. وخلال هذه الفترة، حاول سيمون بن شيتا (75 ق.م) نشر التعليم بين الشباب، ثم جاء يوشع بن جمالا (65 ق.م) بقرار جعل التعليم إجبارياً وعممه مجاناً.

ومع سقوط الهيكل عام 70م على يد تيتوس، أصبح من المستحيل التحدث عن «الشعب العبراني» أو عن «الثقافة العبرانية»، ومن ثم أصبح من المستحيل الحديث عن «التربية العبرانية». ونظراً لتنوع أحوال وتجارب واحتياجات الجماعات اليهودية، لا يمكن الحديث عن «تربية يهودية» باعتبارها كياناً فكرياً واحداً أو عن «مدرسة يهودية» باعتبارها نمطاً مؤسسياً متكرراً، وإنما يمكن الحديث عن «تربية وتعليم أعضاء الجماعات اليهودية في العصر الهيليني» أو «تربية وتعليم أعضاء الجماعات اليهودية في العصور الوسطى في الغرب»... وهكذا، أي بنسبة الجماعة اليهودية إلى مكان وزمان محدَّدين. وبذلك نكون قد نحتنا مُصطلَحات وصُغنا مقولات تحليلية لها مقدرة تفسيرية وتصنيفية عالية.

ولتوضيح هذه النقطة يمكن أن نشير على سبيل المثال إلى يهود الإسكندرية في العصر الهيليني الذين تأغرقوا بشكل سريع وانضم أطفالهم وشبابهم إلى المدارس الهيلينية، بل وأقاموا صلواتهم وتعلموا مبادئ دينهم باللغة اليونانية من خلال الترجمة السبعينية. أما أعضاء الجماعات اليهودية في بابل، فتبعت تربيتهم نمطاً مختلفاً نتيجة تكوُّن التشكيلات الإمبراطورية المختلفة في هذه المنطقة، فأرسل أعضاء الجماعات اليهودية أطفالهم إلى مؤسسات تعليمية خاصة بهم، كما قدمت الحلقات التلمودية في بابل فيما بعد إسهامات في تطوير التراث الديني اليهودي المتمثل في التلمود البابلي.

وبمجيء العصور الوسطى في الغرب والتشكيل الإسلامي في الشرق، أصبحت الحضارات التي يعيش اليهود بين ظهرانيها أساساً حضارات دينية توحيدية حيث ساد الإسلام الشرق العربي والمناطق المجاورة والأندلس وسادت المسيحية أوربا. وقد مثل الدين وعلومه المختلفة محوراً أساسياً للدراسة في المؤسسات التعليمية لشعوب هذه البلدان. ولم يختلف الوضع بالنسبة إلى الجماعات اليهودية التي عاشت في هذه المناطق، فكوَّنت العقيدة اليهودية وكتبها المقدَّسة المادة الأساسية التعليمية للجماعات اليهودية. ومع هذا، نجد أن مناهج التعليم وأساليب التدريس اختلفت من جماعة يهودية إلى جماعة يهودية أخرى طبقاً للأوضاع الثقافية والحضارية للشعوب التي عاشتبينها وطبقاً لوضع الجماعة نفسها. ففي أوربا حيث تدنت الأوضاع الثقافية للبلدان الأوربية، ودعمت نظم الإدارة الذاتية عزلة الجماعات اليهودية الثقافية، تدنى مستواهم الثقافي وتخلف مستواهم التعليمي، واقتصرت مؤسساتهم التعليمية على تدريس الكتب الدينية، بل على تأكيد التوافه من أمور دينهم واستخدام أسلوب من الجدل العقيم في التدريس، كما تخلفوا عن تحصيل العلوم والمعارف التي بدأت تأخذ طريقها إلى الحضارة الأوربية منذ عصر النهضة. أما في بلدان العالم الإسلامي، فقد ازدهرت ثقافةالجماعات اليهودية تحت تأثير الحضارة الإسلامية وشارك أعضاؤها في النهضة الثقافية والعلمية. ولكونهم أهل ذمة، سُمح لهم بكثير من الحريات وأُحْسنَت معاملتهماجتماعياً وثقافياً، ومن ثم فإن عزلتهم لم تكن على نحو ما كانت عليه عزلة الجماعات اليهودية في بلدان أوربا. وبطبيعة الحال، أثرت هذه الأوضاع في ثقافة الجماعاتاليهودية ومؤسساتهم التعليمية. ورغم أن الدراسات الدينية احتلت مركزاً مرموقاً فيها، إلا أن المنهج التعليمي لم يقتصر عليها بل اتسع ليشمل كثيراً من المعارف والعلوم، فاحتوى على اللغة العربية والقواعد والشعر والمنطق والبلاغة والرياضيات والفلك والعلوم الطبيعية والميتافيزيقا. كما ظهر بين الجماعات اليهودية في العالم الإسلامي أدب مكتوب عن التربية والتعليم أخذ شكل فصول من كتب أو وصايا أو تعليقات. وكان من أهم المفكرين الذين كتبوا عن التربية يوسف بن عكنين (شمال أفريقيا)، ويهودابن عباس في الأندلس. ولم تختلف مناهج الدراسة كثيراً بين الجماعات اليهودية في كل من إيطاليا وجنوب فرنسا.

وإذا كان التعليم الديني قد شكَّل محوراً رئيسياً وعنصراً مشتركاً بين مؤسسات التعليم للجماعات اليهودية خلال العصور الوسطى في الغـرب وفي العصـر الإسـلامي الأولوالثاني في العـالم الإسلامي، فإن هذا العنصر يختفي تدريجياً ويزداد التنوع وعدم التجانس في تربية وتعليم أعضاء الجماعات اليهودية منذ أواخر القرن الثامن عشر حيث بدأت المجتمعات الأوربية تدخل مرحلة تصاعدت فيها تدريجياً وتيرة التصنيع والتحديث، الأمر الذي أدَّى إلى ظهور الدولة القومية العلمانية المركزية التي طالبت أعضاء الجماعات اليهودية بأن يندمجوا في المجتمعات التي يعيشون فيها وأن يدينوا لها وحدها بالولاء. وأدرك حكام أوربا المستنيرون أن تحديث وعلمنة تربية وتعليم أعضاء الجماعات اليهودية هو أنجح الوسائل لتحقيق هذا الهدف. ففتحت أمام أعضاء الجماعات اليهودية أبواب التعليم الحكومي العلماني، كما سُمح لهم بتأسيس مدارس علمانية خاصة بهم، الأمر الذي دفع المثقفين اليهود من دعاة حركة التنوير (هسكلاه) إلى تحديث التعليم اليهودي التقليدي، فقاموا بتأسيس عدد من المدارس اليهودية التي جمعت مناهجها بين المواد العلمانية والمواد الدينية، كما شجعوا أعضاء الجماعات اليهودية على إرسال أولادهم إلى المدارس الحكومية، وكان أهم دعاة هذا الاتجاه موسى مندلسون ونفتالي هرتز فيسلي وغيرهما. ومنذ ذلك الوقت، تزايد إقبال أعضاء الجماعات اليهودية على التعليم الحكومي العلماني، وكذلك إقبالهم على المدارس الخاصة بهم، كما تم تهميش التعليم الديني والاقتصار على المدارس التكميلية التي كان يحضرها التلاميذ بعد حضورهم المدارس الحكومية. وحتى المدارس التلمودية العليا (يشيفا) نفسها (التي تُخرِّج الحاخامات والمتخصصين في مجال الدين)، هبت عليها هي الأخرى رياح التطوير والتحديث. ومع هذا، يُلاحَظ أنه، داخل التشكيل الحضاري الأوربي، اتخذت عملية تحديث تربية وتعليم أعضاء الجماعات اليهودية أشكالاً مختلفة. ففي أوربا الغربية، تمت عملية التحديث دون مقاومة. أما في شرق أوربا وفي روسيا القيصرية، فإن عملية تحديث التعليم حققت نجاحاً في بدايتها، إلا أن تعثُّر عملية التحديث (في المجتمع ككل) في نهايات القرن التاسع عشر أدَّى إلى تزايد اغتراب أعضاء الجماعات اليهودية وتزايد انخراطهم في الحركات الثورية والعمالية اليهودية والصهيونية التي أشرفت على إقامة سلسلة من المؤسسات التعليمية الخاصة بها والتي اتسمت بتوجهها العلماني الإثني ـ اليديشي أو الصهيوني. غير أن قيام الثورة البلشفية وبناء الدولة السوفيتية أنهى هذا الوضع في روسيا. أما في بولندا وسائر بلدان أوربا الشرقية، فقد تزايدت هجرة أعضاء الجماعات اليهودية إلى الأمريكتين.

وإذا نظرنا إلى الجماعات اليهودية في العالم الإسلامي، وجدنا أن تطوُّر مؤسساتهم التعليمية اتبع نمطاً مغايراً عن مثيلاتها في مجتمعات أوربا حيث تمت عملية تحديثها في مرحلة متأخرة (وبعد وصول القوات الغربية الإمبريالية)، ونجم عن ذلك تحويل أعضاء الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية وإلى مادة استيطانية تابعة للغرب. وقد اتبع تحديث المؤسسات التعليمية اليهودية في الهند النمط نفسه الذي اتبعه في العالم الإسلامي. أما الجماعات اليهودية في إثيوبيا فقد اتبعت نمطاً مخالفاً للأنماط السالفة الذكر.

وفي المجتمعات الاستيطانية، تأثرت تربية وتعليم الجماعات اليهودية بطبيعة المجتمع الاستيطاني نفسه. ففي الولايات المتحدة، التي اتسمت باقتصادها الحر المفتوح وتربيتها العلمانية ونظامها التعليمي الحكومي المجاني، تمت عملية تحديث تربية وتعليم أعضاء الجماعات اليهودية بسهولة كما تم إكسابهم الهوية الأمريكية. أما في بلاد أمريكا اللاتينية فقد اتبع تطوير تربية وتعليم الجماعات اليهودية شكلاً مخالفاً. إذ اتجهت كل جماعة يهودية إلى إقامة مؤسساتها التعليمية الخاصة بها، فكثُر عدد مدارس اليوم الكامل اليهودية التي يتلقى فيها الأطفال تعليماً يهودياً بعيداً عن تأثير المدارس العامة ذات التعليم الكاثوليكي. واتسمت هذه المدارس بتوجهها الإثني الصهيوني. ولم يختلف نمط تربية وتعليم الجماعات اليهودية في كندا وجنوب أفريقيا كثيراً عن نمط أمريكا اللاتينية.

ومن الملاحظ أن الجماعات اليهودية المختلفة لم تُقدِّم فلاسفة أو مفكرين تربويين لهم ثقلهم الفكري العالمي في مجال التربية، وذلك رغم إنجازات بعض أعضاء الجماعات اليهودية في المجالات الأخرى. فمعظم المفكرين اليهود الذين كتبوا عن التربية اتبعوا النظريات والاتجاهات الفكرية التربوية أو عالجوا المشكلات التربوية التي تمس الأوضاع التربوية القائمة في المجتمعات التي ينتمون إليها، ومن الصعب وصف إنجازاتهم الفكرية بأنها ذات مضمون يهودي. فجيكوب بريير تربوي فرنسي، وهو أول من اهتم بتعليم الصم البكم، وجوزيف فيرتيمر تربوي نمساوي اتبع الاهتمام الفكري السائد في أوربا آنذاك بطفل ما قبل المدرسة وأسس دور حضانة في النمسا، بينما نجد يانوس كورساك البولندي أبدى اهتماماً بالأطفال الأيتام وأنشأ لهم ملجأً وكتب عن كيفية فهم الطفل ومعاملته. وفي الولايات المتحدة، أبدى أبراهام فلكسنر اهتماماً بتعليم الطب وقدَّم تقييماً لكليات الطب في الأمريكتين وكندا ثم في أوربا. ويُعَدُّ كل من لورانس كرين وإسحق بركسون من أتباع التربية التقدمية. أما إسرائيل شيفلر، فهو رائد من رواد مدرسة التحليل الفلسفي في التربية.

التربيــة والتعليـم عــند العــبرانيين قبــل التهــجير إلى بابــل

Education of the Hebrews Before the Transfer to Babylonia

كانت التربية الدينية والتربية القومية عند العبرانيين تشبهان تمام الشبه مثيلتيهما في المجتمعات القديمة التي كانت تسودها عقائد ذات طابع حلولي وثني واضح حيث يتحد فيه الإله القومي بأرضه وشعبه. وتَصدُر العقيدة اليهودية عن عدد من المفاهيم المحورية ربطت بين الإله والشعب، مثل: مفهوم الإله القومي، ومفهوم الشعب المختار، ومفهوم العهد بين الإله والشعب. ويمكن تقسيم هذه المرحلة من تاريخ التربية عند العبرانيين إلى فترتين أساسيتين:

أ) فترة ما قبل التهجير إلى بابل، وهي أيضاً الفترة التي استقر فيها العبرانيون في كنعان وأسسوا مملكتهم العبرانية (1150 ـ 586 ق.م).

ب) فترة ما بعد التهجير (من 586 ـ حتى القرن الثاني قبل الميلاد).

وسنتناول في هذا المدخل الفترة الأولى وحسب، على أن نتناول الفترة الثانية (بعد التهجير) في مدخل خاص.

اتَّسمت فترة ما قبل التهجير بتغيرات اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية صاحبت انتقال العبرانيين من حياة البداوة والترحال إلى حياة الاستقرار. فعلى الصعيدالاقتصادي، تحول العبرانيون من قبائل تعيش على الرعي أساساً إلى شعب مستقر يعمل بالزراعة وبعض الحرف، ويعيش داخل مدن محصَّنة، ونمت التجارة وزاد ثراء بعض أعضاء المجتمع، الأمر الذي أدَّى إلى ظهور طبقة جديدة من الأغنياء وظهور هوة سحيقة بينهم وبين الفقراء. أما على الصعيد السياسي، فقد تحول العبرانيون من النظام القبلي إلى النظام الملكي إذ أسَّسوا الدولة العبرانية المتحدة التي يحكمها ملك يساعده عدد من الموظفين مثل:كاتب الملك والحاجب وعامل الخراج وقائد الجيش،كما كان الكهنة يُعتبَرون موظفين تابعين لبلاط الملك. أما على الصعيد الديني،فقد قام الكهنة واللاويون بالحفاظ على شريعة يهوه خلال الفترة المذكورة،كما ظهر الأنبياء في عصر الملوك.

وجاءت حركة الأنبياء لتكبح وتوقف عملية الاندماج التدريجي في العبادات الكنعانية، ولتهيب بالمؤمنين أن يعودوا إلى التقاليد الدينية القديمة لتكفل بذلك استمرار دين يهوه وتثبت دعائمه. وخلال هذه الفترة، كانت التربية عند العبرانيين شبيهة بالتربية السائدة في المجتمعات البسيطة. وليست هناك أدلة على أن العبرانيين عرفوا المدارس كمؤسسات تربوية مستقلة، إذ كانت التربية عند معظم الناس مرادفة للحياة نفسها. ومع هذا، وُجد نوع من التعليم النظامي لدى بعض فئات المجتمع التي احتاجت إعداداً خاصاً.

وشهدت هذه الفترة ظهور مؤسستين مهمتين لعبتا دوراً مهماً في نقل التراث الثقافي وتشكيل العبرانيين دينياً وقومياً، وكان لهما دور تربوي محدَّد، وهما: الأسرة والمؤسسة الدينية.

1 ـ الأسرة:

كانت الأسرة، ضمن القبيلة، المؤسسة الاجتماعية الأساسية المسئولة عن نقل تراث الجماعة وخبراتها إلى النشء. ويبدو أن الروابط الأسرية بين القبائل العبرانية كانت من القوة بحيث احتوت يهوه نفسه، الذي كان العبرانيون ينظرون إليه باعتباره أبو الشعب، حيث كانوا يعتبرون أنفسهم أولاده فيدينون له بالولاء والطاعة.

وكان يُنظَر إلى الأب العبراني باعتباره الملك المطلق في رئاسة العائلة. فالتوراة كانت تعطيه حق بيع زوجته وأولاده بيع العبيد، كما أن سفر التثنية يعطي الوالدين حقمعاقبة الابن بالرجم أمام مجلس من الكبار إذا فشل العقاب في إصلاحه.

وتمت عملية نقل التراث الثقافي عن طريق مشاركة الصغار في مناشط الحياة اليومية والطقوس الدينية. ومن الصعب، خلال هذه الفترة، التفرقة بين التربية الدينية وبين التدريب على مناشط الحياة الأخرى. فلم يوجد وجه واحد من أوجه الحياة ولا نشاط من أنشطتها إلا وكانت الشعائر الدينية جزءاً منه. فالرقص والغناء مثلاً كانا جزءاً من الشعائر الدينية وطريقة للاحتفال. كذلك كانت مناشط الحياة المختلفة مثل اجتمـاع الأسـرة أو القبـيلة، وجـز صوف الخرفان، وجمع المحاصيل، ومولد الطفل، والذهاب إلى الحرب، وتغيُّر الفصول، مناسبات دينية. ومن خلال ملاحظة الطفل لهذه المناسبات، والمساعدة والمشاركة فيها، والاستماع إلى الشرح الذي يصاحبها، تلقَّى الطفل تدريبه على كثير من شعائر الدين.

وحدَّدت ظروف البيئة الاجتماعية والاقتصادية نوعية التربية التي يتلقاها الصغار. ففي بيئة رعوية، تعلم الصغار كيف يصبحون رعاة. وبعد أن استقر العبرانيون في كنعان وتحولوا إلى حياة الاستقرار والزراعة، أصبح من الضروري تعليم الصغار كيف يصبحون مزارعين، ومن ثم تم تدريبهم على الزراعة وتربية المواشي والصيدوالتعدين والبناء والنجارة وصنع الأدوات الخشبية والمعدنية والغزل والنسيج وعمل الخيام وصناعة الفخار. كما تم تدريب البنات في شئون المنزل على أيدي أمهاتهن.

وحتى قيام المملكة العبرانية المتحدة وتأسيس جيش منظم في عهد الملك داود، كان على الأسرة أن تُعلِّم الصغار كيفية استخدام الأدوات الحربية المعروفة آنذاك. فالحرب بين العبرانين والجماعات الأخرى، أثناء تجوالهم واستقرارهم في فلسطين، جعلت تدريب النشء على القتال ضرورة حيوية. وقد تخصَّصت بعض القبائل في استخدام أدوات حربية معيَّنة، فقبيلة بنيامين مثلاً عُرفت بمهارتها في استخدام السيف والمقلاع، بينما عُرفت قبيلة يهودا باستخدام الرمح. ومن المحتمل أن الملك داود استعان بقدرات هذه القبائل في تكوين جيشه النظامي. كما يبدو أن الألعاب الرياضية والجري والرماية كوَّنت جزءاً مهماً من تربية الصغار. كذلك قامت بعض الأسر بتدريب صغارها على الرقص والغناء واللعب على الناي بوصفها جزءاً من الاحتفالات الدينية.

وقُدِّر للأسرة العبرانية أن تلعب دوراً رئيسياً في نقل مبادئ الدين والتقاليد القومية. فالتوراة تجعل تعليم الشريعة أمراً واجباً دينياً على الأب، وفي المقابل يُؤمَر الأطفال بإجلال واحترام آبائهم. كما لعبت الاحتفالات الدينية داخل الأسرة دوراً مهماً في تلقين النشء التراث الديني. كذلك استُخدم سرد التاريخ كوسيلة لتلقين الجيل الجديد تاريخ العبرانيين والاستقرار في كنعان. فالتقاليد والأساطير والأغاني والأقاصيص نُقلت شفهياً من جيل إلى جيل قبل أن تُدوَّن. وقام كبار القبيلة (أو الأب) بهذه المهمة، ومن المحتمل أيضاً أن من قام بهذه المهمة منشدون متجولون. وربما قام الطفل أيضاً بزيارة مقامات يهوه التي كانت منتشرة في كنعان خلال هذه الفترة، والتي كان يقوم على خدمتها الكهنة، ومارس هناك الكثير من الطقوس والشعائر الدينية. وبعد بناء الهيكل، قام الطفل العبراني بزيارة الهيكل.

أما القيم والفضائل التي حاول العبرانيون إكسابها لأطفالهم، فقد حددتها ظروفهم في الحياة وكذلك إطارهم العقائدي. ومن أهم هذه الفضائل الشجاعة والإخلاص لكلٍّ من يهوه والعشيرة والشعب، والطاعة الكاملة لمن هم في السلطة ولقوانين القبيلة والأسرة والشعب، والتعامل بالحسنى مع الأقرباء وبلا شفقة أو رحمة مع الأعداء.

2 ـ المؤسسة الدينية:

قامت المؤسسة الدينية، بكهنتها وأنبيائها، بنشر عبادة يهوه وتوراته، حيث قاموا بتلقين العبرانيين مبادئ دينهم وإكسابهم الهوية القومية. ويُعتبَر الكهنة واللاويون المربين الأوائل للشعب العبراني. ومن خلال إنجاز المهام الموكلة إليهم بصفتهم وكلاء وممثلين ليهوه ومحافظين على مقاماته التي انتشرت في فلسطين، قام هؤلاء بنشر ديانة يهوه وبتوجيه حياة العبرانيين الدينية والأخلاقية. ومن هنا، أوجدوا محتوى لهذه الديانة، كما أوجدوا الأشكال التي تم من خلالها التعبير عن عقائد ومبادئ الدين. وقام الكهنة بتنظيم وتوجيه الاحتفالات العامة التي لم تكن أكثر من دروس في تاريخ العبرانيين. كذلك علموا الأفراد والجماعات مبادئ وعقائد هذا الدين، ونقلوا الشريعة والطقوس والشعائر والأساطير المرتبطة بالدين شفاهة في بادئ الأمر، ثم قاموا بتدوينها وحفظ أجزاء كبيرة منها بشكل يَسهُل فهمه وتذكُّره بالنسبة لعامة الناس.

كما قام الكهنة بقراءة التوراة أو الوصايا العشر على القبائل العبرانية (ويبدو أن هذه كانت عادة متبعة في المعاهدات التي كانت تُعقَد بين الدول المنتصرة والدول التابعة، حيث كان أحد بنود المعاهدة ينص على عرضها في مكان عام أو وضعها في معبد وقراءتها مرة كل سبع سنوات على الملك التابع وشعبه حتى يعوا نصوصها تماماً). كما ساهم توزيع اللاويين على القبائل العبرانية في نشر التوراة بين العبرانيين. ولعل أهم دور لعبه الكهنة، في تربية الشعب العبراني ونشر التوراة، كان من خلال علاقتهم بالقانون. فالقانون المدني والممارسات الاجتماعية كانت مجرد استنتاجات من القانون الإلهي، ولذا قام الكهنة بتقديم النصيحة للناس بشأن الممارسات الاجتماعية، وإصدار الأحكام الشرعية في الحالات التي تُعرَض عليهم.

وبازدياد القوانين الشرعية، زادت تطبيقات التوراة وزاد تأثيرها على حياة الناس. وبمرور الوقت، ارتبطت فاعلية الكهنة بالهيكل وطقوسه، وظهر الأنبياء كمربين للشعب العبراني وكناشرين لعبادة يهوه وشريعته في وقت كادت تُستوعَب فيه ديانة العبرانيين، ضمن الديانة الكنعانية. فكان الأنبياء واعظين متجولين، وأينما سنحت لهم الفرصة لنشر دعوتهم اغتنموها، سواء في السوق أم في بلاط الملوك والأمراء. ولكن، في أغلب الأحيان، كان فناء الهيكل المكان الأثير لديهم، فكانوا يؤكدون في إصرار علىالوحدانية الخالصة والإخلاص للعهد المعقود مع يهوه، ويرفضون كل نوع من التساهل مع العبادات الأجنبية، كما كانوا يدعون إلى صـلاح الأخـلاق ونقـاء القلب واسـتقامةالسلوك. وهم في دعوتهم هذه، لم يكونوا يغفلون عن التنبؤ بالعقاب الذي سيحيق بالعبرانيين إن لم يقتدوا بما يقولونه لهم.

3 ـ التعليم النظامي:

ورغم أن كلمة «مدرسة» لم يرد لها ذكر في العهد القديم، إلا أن الدلائل تشير إلى أن الكتابة كانت معروفة عند العبرانيين منذ عصر القضاة، وأن العبرانيين استخدموا الحروف الفينيقية التي كانت مُستخدَمة في كنعان في ذلك الوقت. وخلال عصر الملوك، كان ثمة مسجلون رسميون وكتبة للجيش وللملوك والأفراد. كما توجد إشارات إلىما يُسمَّى «عائـلات الكـتبة»، وهـو ما يدل على أن مهنة الكتابة كانت وراثية. كذلك، استخدم الأنبياء الأوائل الكتابة، فقد قام عاموس وميخا بتدوين نبوءاتهما، كما أن بعض فئات وأعضاء المجتمع احتاجت إعداداً وتدريباً خاصين. ومن ثم، يمكن القول بأن نوعاً من التعليم النظامي وُجد خلال هذه الفترة وإن ظل مقصوراً على بعض الفئات التيتحتاجها للقيام بمهامها. ومن أهم هذه الفئات:

أ) الكهنة:

كانت جماعة الكهنة أولى الجماعات التي أعطت تعليماً وتدريباً منظماً لأعضائها. ورغم عدم وجود أية سجلات تفيد ذلك، إلا أنه يمكننا أن نقول، دون أن نحيد كثيراً عن جادة الصواب، أنه لابد أن الكهنة حصلوا على تعليم وتدريب خاصين، وأن عملية التدريب هذه تمت في نطاق الهيكل كما كان الحال في بلاد الشرق الأوسط. وعلى أية حال، فقد ظل هذا النوع من التعليم مقصوراً على أسر معينة، حيث كانت وظيفة الكاهن وراثية ومقصورة على عائلات معينة.

ب) الأنبياء:

عاش بعض الأنبياء مع أتباعهم داخل جماعات، حيث قاموا بإلقاء دروسهم على أتباعهم واستخدموا إنتاجهم المدون والشفوي لتعليم أتباعهم. ومن ثم، يمكن القول بأن جماعات الأنبياء تلقوا نوعاً من التعليم النظامي شَمل القراءة والكتابة والخطابة والشعر.

جـ) الكتبة:

كوَّن الكتبة جماعة خاصة، وكانت ممارسة مهنتهم مقصورة على بعض العائلات كما كان الحال في الشرق الأدنى القديم. ويبدو أن عائلة شافان كانت على قمة هرم البيروقراطية المرتبطة بالقصر. كما وُجد كتبة آخرون عملوا كإداريين للحكومة المركزية ولمجالس المدن، وكموظفين في الهيكل. وقامت هذه المؤسسات بتعليمهم وتدريبهم على مهام وظائفهم، حيث دُرِّب الكهنة على كتابة الرسائل والصيغ الإدارية وعلى كتابة العقود (مثل عقود الزواج والطلاق). ويبدو أن كتبة القصر كان عليهم أن يُلموا بالسياسة وببعض العلوم واللغة الآرامية (لغة المعاملات الدولية آنذاك)، كما يبدو أن هذه الفترة شهدت نمو أدب مرتبط بأخلاقيات الكتبة.

دراسة التوراة (تلمود تورا(

Talmud Tora

«دراسة التوراة» عبارة تقابلها في العبرية عبارة «تلمود تورا»، وتُستخدَم للإشارة إلى مفهوم تربوي أساسي يستند إليه الفكر التربوي بين أعضاء الجماعات اليهودية حتى القرن الثامن عشر الميلادي. ويستمد موضوع دراسة التوراة أهميته من عدة أشياء أساسية في العقيدة اليهودية منها أهمية التوراة ذاتها باعتبارها الكتاب المقدَّس الذي يحوي كلام الإله، ومنها أن إرسالها لليهود هو علامة على اختيارهم. ولكن، لعل أهم الأسباب هو مفهوم الشريعة الشفوية الذي يجعل تفسير الحاخامات للتوراة (كلمة الإله)، ودراستهم لها، أكثر أهمية من النص المقدَّس ذاته. ولكل هذا، كان الفعل الأسمى لدى أعضاء الجماعات اليهودية هو التفرغ لدراسة التوراة.

ويمكن القول بأن المؤسسات التربوية بين أعضاء الجماعات اليهـودية هي بالدرجـة الأولى أشـكال مـن التعبير عن هذا المفهوم وتحوراته، وأنها مع هذا خضعت لتغيرات الزمان والمكان. فالحلقات التلمـودية، والمدارس التلمـودية العليــا، والمدارس الأولية الخاصة والخيرية، كانت كلها تدور حول دراسة التوراة.

ولعل ما عمَّق هذا الاتجاه، هو تحوُّل اليهود إلى جماعة وظيفية تود الحفاظ على هويتها وانعزاليتها، والتمركز حول التوراة (كتاب اليهود المقدَّس) هو أسرع السبل لإنجازهذا. ولكن، مع تبنِّي المسيحية التوراة كتاباً مقدَّساً، أكدت اليهودية الحاخامية ( التلمودية) أهمية التلمود على حساب التوراة، ومن ثم أصبحت عبارة «دراسة التوراة» تعني في واقع الأمر «دراسة التلمود».

ويجب التنبيه إلى أن دراسة التوراة لم تكن دائماً نشاطاً مدرسياً أو حتى شبه مدرسي، وإنما كانت في كثير من الأحيان واجباً دينياً يأخذ شكلاً تربوياً ـ تماماً مثل حلقات الدرس في المساجد حيث يجلس المسلمون بعد الصلاة يتفقهون في أمور دينهم ويسألون شيخهم فيما يواجهونه من مشاكل.

ودراسة التوراة وتفسيرها كانت دائماً وظيفة تضطلع بها النخبة الدينية القائدة، كما أن الصراع بين الصدوقيين والفريسيين كان صراعاً على تفسـير التـوراة. ثم ظهرت بعد ذلك أجيال الفقهاء، وتم جمع التلمود، ثم هيمن التلمود باعتباره التفسير الحاخامي للتوراة. وظل هذا الوضع إلى أن قامت الحركة الحسيدية في شرق أوربا في القرن الثامن عشر وتحدته ووضعت الصلاة في مرتبة أعلى من دراسة التلمود. ثم جاءت حركة التنوير في الغرب وقلَّلت من شأن هذه الدراسات الدينية، ثم جاء القرن التاسع عشر، باهتماماته العلمانية والمادية، ووضع نهاية لهذه الدراسات بالنسبة إلى معظم الجماعات اليهودية في بلدان العالم الغربي.

بيت الدراسة (بيت هامدراش(Beit Hamedrash

«بيت الدراسة» مُصطلَح تقابله في العبرية عبارة «بيت هامدراش»، و«بيت الدراسة» أحد الأشكال الأولى للحلقات التلمودية، وهو مركز للدراسات الدينية غالباً ما كان يُلحَق بالمعبد اليهودي وأحياناً كان يوجد داخله. كما تُستخدَم العبارة أحياناً للإشارة إلى المعبد اليهودي من حيث هو مكان للدراسـة. وقد اسـتُخدم «بيت الدراسة» أساسـاً لدراسـة الشريعة، كما استخدمه الدارسون للصلاة. إلا أن نشاط هذه البيوت الأساسي كان دراسة التلمود، أما الصلاة، فكانت نشاطاً ثانوياً. وقد استُخدمت عبارة «بيت الدراسة» في العصور القديمة للإشارة إلى مجالس علماء التلمود حيث كان الدارسون يجتمعون داخله لسماع محاضرات علماء التلمود.

انتشرت بيوت الدراسة في العصور الوسطى في الغرب بين الجماعات اليهودية في البلدان المختلفة حتى أصبحت مظهراً ثابتاً في كل مدينة. وكانت هذه البيوت تُلحَقبالمعابد اليهودية لدى بعض الجماعات كما كانت تبقى مستقلة لدى البعض الآخر. وفي فرنسا وألمانيا، كانت بيوت الدراسة بمنزلة مراكز للمدارس التلمودية العليا. وقدأشرفت المؤسسات الإدارية للجماعة اليهودية على بيوت الدراسة وموَّلتها في معظم التجمعات إلى أن قام بعض أغنياء اليهود في ألمانيا بإقامة بيوت لدراسة التلمود وأنفقوا عليها الأموال. وقد عُرف «بيت الدراسة» في ألمانيا باسم «كلاووس». والمقابل الحسيدي له هو «شتبيل»، أي حجرة صغيرة، حيث كان الحسيديون يجتمعون للصلاة والعبادة. وفي البلاد العربية، أُطلق عليه اسم «هامدراش» (مدرسة). وفي العصور الحديثة، ومع زيادة علمنة أعضاء الجماعات اليهودية وتهميش الحداثة للدراسات الدينية، اختفى «بيت الدراسة» التقليدي وحلّ محله معاهد الدراسات الدينية، كما أن بعض المعابد اليهودية يوجد بها أماكن للدراسات الدينية تفتحها لمدة ساعات محدَّدة كل يوم.

المدرسة الأولية (بيت سيفر(

Beit Sefer

«المدرسة الأولية» هي المقابل العربي للعبارة العبرية «بيت سيفر»، وهي عبارة تعني حرفياً «بيت الكتاب». ويُطلَق المُصطلَح على المدارس الأولية الإجبارية التي وُجدت في فلسطين منذ القرن الأول الميلادي، وفي بابل فيما بعد. وغالباً ما كانت توجد هذه المدرسة داخل المعبد أو في حجرة ملحقة به. وكان الهدف من هذه المدرسة إعداد الطفل اليهودي للمشاركة في شعائر المعبد. وكانت الدراسة فيها تقتصر على القراءة وبعض أجزاء من أسفار موسى الخمسة وكتب الأنبياء، وكذلك كتب الحكمة والأمثال.

التربيــة والتعليـــم عنــد العـبرانيين بعـد العـودة مـن بابـل

Education of the Hebrews after the Return from Babylonia

تمتد هذه الفترة من تاريخ عودة العبرانيين من بابل (586 ق.م) حتى وصول القوات الهيلينية إلى فلسطين والشرق الأدنى القديم عام 333 ق.م. وتستمر حتى القرن الثاني الميلادي. وكانت الشريعة في هذه الفترة الأساس في تنظيم حياة العبرانيين. وقد وجه الكتبة والكهنة جهودهم واهتمامهم إلى جمع الشريعة وتدوينها ودراستها دراسة منظمة، فجُمعت المصادر التقليدية لتاريخ العبرانيين ودينهم وأقوال حكمائهم وأنبيائهم ورُتبت في ثلاثة أقسام: التوراة والأنبياء والكتابات. وبتدوين الشريعة،أصبح سكان يهودا (فلسطين) أهل كتاب.وكرَّس كثير من العبرانيين وقتهم لدراسة الكتاب المدوَّن، فظهرت فئة الكتبة التي نافست الكهنة على قيادة الحياة الدينية. وقُدِّر للكتبة الانتصار في النهاية بتحطيم الهيكل، مركز العبادة القربانية. وبانتصار الكتبة وهدم الهيكل، ظهرت اليهودية الحاخامية وأصبحت الشريعة مركز الحياة (وبالتالي التربية) العبرانية ثماليهودية. وأصبح طموح كثير من الشباب اليهودي أن يصبح «ابن الشريعة». وظل هذا النمط السائد حتى نهاية القرن الثامن عشر، حين ظهرت حركة التنوير اليهودية التي تحدَّت هذه المؤسسات الدينية.

وخلال هذه الفترة، تميَّزت التربية والتعليم لدى العبرانيين بظهور ثلاث مؤسسات تربوية مهمة قُدِّر لها أن تلعب دوراً مهماً في تربية وتعليم اليهود إلى العصر الحديث:

1 ـ تنظيم الكتبة، ومجالس الفقه والدراسة.

2 ـ المعبد اليهودي.

3 ـ المدرسة الأولية.

1 ـ تنظيم الكتبة، ومجالس الفقه والدراسة:

أ) تنظيم الكتبة:

بتبنِّي الشريعة دستوراً للحياة، ظهرت الحاجة إلى نشر التوراة بين العبرانيين، وتطلبت هذه العملية فئة من المعلمين قادرة على قراءة التوراة باللغة العبرية (لغة التوراة) وترجمتها وتفسيرها بالآرامية (لغة جماهير العبرانيين آنذاك). وكنتيجة لهذه الأوضاع، اكتسب لفظ «كاتب» دلالة خاصة واستُخدم للإشارة إلى مجموعة المعلمين الذين قاموا بقراءة وترجمة وتفسير الشريعة خلال فترة الهيكل الثاني (539 ق.م ـ 70م).

وكوَّن هؤلاء الكتبة تنظيماً خاصاً بهم، إلا أن تنظيمهم كان مفتوحاً للعامة كتنظيم الأنبياء. ومن هنا، فإن مهنة الكتبة لم تكن مقصورة على أحد، ووُجد بين صفوف الكتبةكهنة وأفراد من عامة الشعب. وكان هؤلاء الكتبة أول فئة احترفت التعليم. ومنذ القرن الأول، أصبح اسم «حاخاميم» يُطلَق على معلمي الشريعة المشهورين وهي كلمة عبرية تعني «الفقهاء» أو «الحكماء»، بينما بقى استخدام لفظ «كاتب» للإشارة إلى أي معلم للشريعة.

نظر هؤلاء الكتبة إلى عملهم باعتباره مقدَّساً، وقد أُوكلت مهمة نقل شريعة يهوه إليهم فقاموا بترجمة وتفسير التوراة للجماهير، كما قاموا بعمل نسخ منها لتُستخدَم ككتب دراسية. وأسَّسوا مدارس عليا لتدريس التراث الديني لعدد منتقى من الطلاب، محاولين بذلك إيجاد أكبر عدد ممكن من دارسي ومفسري الشريعة، كما قاموا بتعليم الكبار والصغار. وفي داخل مدارسهم، ظهر التراث الشفوي الذي كوَّن فيما بعد التلمود.

كان هؤلاء الكتبة، في بداية الأمر، منفتحين في تطبيقاتهم للشريعة فأدخلوا التفسيرات والتعليقات المختلفة الملائمة لظروف الحياة المتغيرة. واعتمد المفسرون في شروحهم هذه على مفهوم الشريعة الشفهية، التي يُفترَض أنها أُعطيَت لموسى مع الشريعة المكتوبة، كما يُفترَض أن حَمَلَة هذه الشريعة الشفهية هم الحاخامات (بمعنى الفقهاء). ولكن داخل الإطار الحلولي، يُلاحَظ دائماً أن التفسيرات البشرية تكتسب أهمية تفوق أهمية النص المقدَّس، وهو ما حدث مع الكنيسة، فبمرور الوقت ازدادت تفسيراتهم وشروحهم جموداً وأصبحت أكثر تفصيلاً، وأكثروا من فرض الطقوس والشعائر والأوامر والنواهي التي تتحكم في السلوك الخارجي للإنسان وتُوجه كثيراً من أفعاله التي قد لا تكون ذات علاقة بالقيم الروحية ولا بالدين.

وبسقوط الهيكل عام 70 ميلادية، أصبح يُطلَق على كلٍّ من هؤلاء الكتبة لقب «حاخام»، وأصبح هؤلاء الحاخامات هم المسئولين ليس فقط عن توجيه الحياة الدينية لليهود بل أصبحوا أيضاً ممثلين للسلطة الحاكمة وقاموا بحكم الجماعة اليهودية في فلسطين وفي غيرها من البلدان.

ب) مجالس الفقه والدراسة:

وقعت مهمتان أساسيتان على عاتق هؤلاء الكتبة، أولاهما: تفسير الشريعة المكتوبة واستخراج التفسيرات والتطبيقات الكامنة والظاهرة فيها، وثانيتهما: تعليم الشباب الذين سيتولون هذه المهمة من بعدهم. وقد جمع كل كاتب متميِّز حوله عدداً من التلاميذ الذين يودون دراسة الشريعة والتراث الشفهي في شكل حلقات دراسية، كما كوَّن كل حكيم مشهور مجموعة التلاميذ المريدين الخاصين به. وترك بعض هؤلاء الحكماء بصمـتهم الواضحة على طلابهم وكذلك تفسـيرهم الخاص للشريعة، وكان أشهرهم هليل وشماي.

في البداية، استُخدمت أروقة الهيكل والمعابد للتدريس، وربما استخدم بعض الحكماء بيوتهم لتدريس الشريعة. ومنذ القرن الأول قبل الميلاد، أُسِّس أول مبنى خُصِّص للتدريس أُطلق عليه «بيت الدراسة (بيت هامدراش)»، وتم بناؤه بجانب الهيكل.

كان موضوع الدراسة أساساً هو الشريعة والتفسيرات المختلفة، وكانت الدراسة في معظمها شفهية. ومن أجل مساعدة الطالب على التذكر، كان المعلمون يلقون دروسهم في شكل أمثال وحكم ووصايا. وقد افترضت الدراسة على هذا المستوى نوعاً من التعليم الأولي، إلا أن هذا النوع من التعليم ظل خاصاً حتى القرن الأول قبل الميلاد. وكان المعلم يشرح الكتاب المقدَّس ويعرض التفسيرات والشروح المختلفة لكل جزء منه وتفسيره هو لها، وذلك من أجل إيضاح النقاط الصعبة أو الغامضة أو غير المتفق عليها بهدف الوصول إلى قرار فيها، فإذا اتفق الدارسون عليها تحولت إلى جزء من التراث الشفوي. وقد اتُبعت قواعد معيَّنة في استخراج التفسيرات والقوانين المختلفة من الشريعة المكتوبة، ذكر هليل منها سبع قواعد، ثم أُضيفت قواعد أخرى فيما بعد. ومع مرور الوقت، اكتسبت هذه الشريعة الشفهية المكوَّنة من قرارات وتفسيرات الكتبة الحكماء شكلاً ثابتاً وقداسة معينة.

وفي أحيان أخرى، كان المُعلم أو الدارس يُثير سؤالاً ذا طبيعة عملية حول مشكلة معينة تتطلب إجابة محدَّدة. وللتوصل للإجابة، كانت هذه المشكلة تُحلَّل إلى عناصرها الأولية، ويعود الدارسون إلى التراث الشفوي، فإن وجدوا الإجابة المرجوة انتهت المشكلة. وإن لم يجدوا، رجع المعلم والدارسون إلى الكتاب المقدَّس متبعين القواعد الموضوعة في تفسيره، واستخرجوا الإجابة أو الحل أو التفسير، فإذا وافقت الأغلبية عليه تحول إلى جزء من التراث الشفوي واكتسب قدسية خاصة، شأنه في ذلك شأن كل أجزاء الشريعة الشفوية. واعُتبرَت دراسة الشريعة وتدريسها واجباً مقدَّساً لا يجب أن يحصل منه الفرد على أيِّ عائد مادي، ومن ثم كان دارسو الشريعة ومدرسوها إما من المتيسرين مالياً أو ممن احترفوا حرفة أخرى لكسب معاشهم.

وبسقوط الهيكل، أُطلق على مجالس دراسة الشريعة اسم «الحلقات التلمودية» (بالعبرية: يشيفاه، وباليونانية: أكاديمية). وكان مجلس يفنه أول الحلقات التلمودية، وقد أسَّسه يوحانان بن زاكاي في الجليل. ولم تختلف أهداف الدراسة وطرقها عما كان سائداً قبل سقوط الهيكل، إلا أن أهمية هذا المجلس ترجع إلى العدد الكبير من الحاخامات الذين تتلمذوا على يد يوحانان بن زاكاي ثم ساهموا في تراكم التراث الشفوي وفي نشر معرفة الشريعة.

ولم يتم ترسيم كل العلماء الذين عاشوا وقاموا بالتعليم في يفنه كحاخامات، ولذا كانوا لا يحملون لقب «حاخام»، ونُظر إليهم باعتبارهم دارسين وحسب، ولم يُعيَنوا في المناصب الإدارية والدينية. وتنقَّل هؤلاء العلماء من مدينة إلى أخرى وأقاموا بيوتاً للدراسة في بعض المدن الصغيرة وفي الأرياف، فظهرت بيوت للدراسة في اللد وفي قيصرية وفي غيرهما من المدن.

2 ـ المعبد اليهودي:

ظهر المعبد، أثناء إقامة العبرانيين في بابل، كمكان للاجتماع والعبادة ودراسة التوراة. وازدادت أهمية المعبد بعد عودة العبرانيين من بابل رغم استعادة العبادة القربانيةوإعادة بناء الهيكل وتحوُّله إلى مركز للعقيدة اليهودية. ومنذ القرن الرابع قبل الميلاد، وجدت معابد في المدن كافة. وابتداءً من القرن الثاني قبل الميلاد، وُجدت أيضاً معابد في الريف. وبسقوط الهيكل عام 70 ميلادية، أصبح المعبد المكان الوحيد والأساسي للعبادة.

كان المعبد المكان الذي تعلَّمت فيه عامة الشعب الشريعة اليهودية، فقد تكونت مراسم المعبد من جزءين: جزء شعائري، وجزء تعليمي خاص بقراءة جزء من التوراة، فكان الكاهن أو الكاتب يقوم بقراءة الجزء المُقرَّر بالعبرية (لغة الكتاب المقدَّس والتي لم يَعُد يفهمها أحد) ثم يشرح النص بعد ذلك باللغة الآرامية (اللغة المستخدمة بين العبرانيين). وأحياناً كان يُسمَح للكبار القادرين بقراءة الكتاب المقدَّس. وقُسِّمت أسفار موسى الخمسة بشكل يسمح للمتعبدين قراءتها بأكملها مرة كل ثلاث سنوات، كما قُرئت بعض الأجزاء من كتب الأنبياء. وبذلك تم نشر معرفة الكتاب المقدَّس بين الكبار.

3 ـ المدرسة الأولية:

وجَّه الكتبة جهودهم لتعليم الشريعة للكبار، فقرأوا الشريعة وفسروها في المعابد كما قاموا بتعليمها لعدد محدود من الطلبة النابهين، ولكن تعليم الشريعة للصغار ظل أمراًمتروكاً للأسرة. ويحيط الغموض بنشأة المدرسة كمؤسسة تربوية مستقلة عن تربية الأسرة، إلا أنه يُرجَّح أنها ظهرت في القرن الأول قبل الميلاد تحت التأثير الهيليني واتخذت من المعبد أو من حجرة ملحقة به ساحة لها.

ومرَّت المدرسة اليهودية في نموها بثلاث مراحل قبل أن تظهر كمؤسسة تربوية مستقلة. ففي البداية، كان الأطفال يندسُّون بين الكبار في المعبد لممارسة الشعائر الدينية وسماع قراءة الشريعة وتفسيرها. إلا أن هذا الإجراء لم يكن كافياً لتعليمهم الشريعة، ومن ثم أُنشئت مدارس في القدس لتعليم الصبية. لكن هذه المدارس لم تكن كافية لتعليم الشريعة لكل الأطفال، فاستُبعد الفقراء والأيتام من دراسة الشريعة إما بسبب عجزهم المادي أو بسبب إهمال المسئولين لهم.

في عام 75 ق.م، أصدر سيمون بن شيتا قراراً بتعيين معلمين في كل الأحياء، إلا أن هذا القرار شمل الشباب بين سن السادسة عشرة والسابعة عشرة ولم يشمل الأطفال. ويبدو أن هذا القرار لم يحقق كثيراً من النجاح حيث إن النقلة من التربية الأسرية إلى التربية المدرسية كانت مفاجئة بالنسبة للشباب. ومن ثم، كان كثير من الشباب يتركون المدرسة إن غضب منهم معلمهم أو فرض عليهم العقاب.

وظلت ظروف تعليم الشريعة بين الأطفال والشباب على هذا الوضع إلى أن أصدر يهوشا بن جمالا (الكاهن الأعظم) قراراً عام 64 ميلادية بأن تُقام مدارس للأطفال الذين في سنّ السادسة والسابعة في كل مقاطعة، وأن يُجبَر الأطفال على الذهاب إليها. وبذا، ظهرت المدارس الأولية الإجبارية. كما نص هذا القرار على تعيين معلم لكل 25 طفلاً. أما إذا زاد عدد الأطفال على 25 وكان أقل من الخمسين، فإنه يكون من الضروري تعيين مساعد للمعلم، وفي حالة زيادة عدد الأطفال على الخمسين كان يُعيَّن معلمان.

ونظراً لأن هذه المدارس كانت إجبارية، فإنه يبدو أن الجماعة قامت بتمويلها عن طريق ضريبة فُرضت على المقتدرين. ورغم قرار تعميم التعليم، إلا أن هذه المدارس لم تنشأ حتى منتصف القرن الثالث الميلادي، وقد أُطلق على هذه المدارس اسم «بيت الكتاب» (بيت سفر)، وكان الأطفال يلتحقون بها في سن السادسة أو السابعة، ويدرسونفيها حتى سـن الثالثة عشـرة. وقـام معلمون (كتبة) بالتدريس في هذه المدارس، كما كان خادم المعبد (حزان) يقوم بمساعدة المعلم. وكان هؤلاء المعلمون الكتبة يقومونبالتدريس دون مقابل في بادئ الأمر، نظراً لأن التوراة تُحرِّم تدريس الشريعة مقابل أجر، إلا أنه تم التوصل إلى تخريجات قانونية شرعية فيما بعد تحت مُسمَّى واجباتإشرافية تؤدي إلى ضياع الوقت، وبالتالي فقدان القدرة على الكسب. ومن هنا، أصبح من الممكن وضع أجر للمعلم، مقابل الجهد الذي يبذله، دون الإخلال بالشريعة.

واقتصر منهج المدارس الأولية على تعليم قراءة أسفار موسى الخمسة والترانيم الدينية وربما سفري الأمثال والجامعة أيضاً، إلا أن التركيز كان بالأساس على تعليم أسفار موسى الخمسة. كان الطفل يتعلم الحروف العبرية الهجائية ثم ينتقل إلى التعرف على كل منها على حدة، ثم ينتقل إلى تعلُّم الكلمات ثم ينتقل إلى أسفار موسى الخمسة. أما فيما يتصل بالكتابة، فثمة اختلاف بين المؤرخين، فبينما يؤكد البعض أن الطفل كان يتعلم الكتابة بل والحساب أيضاً، يذهب البعض الآخر إلى تأكيد أن الدراسة داخل هذهالمدارس لم تتعد معرفة وحفظ أسفار موسى الخمسة وبعض الترانيم التي يحتاجها الطفل لإقامة الصلاة في المعبد (وأغلب الظن أن هذه المدارس كانت شبيهة بكتاتيب تعليمالقرآن التي وُجدت في صدر الدولة الإسلامية). وكان الحفظ والتكرار هما الوسيلتان اللتان استخدمتا داخل هذه المدارس. ونُظر إلى التربية باعتبارها عملية تهذيب وضبطلطبيعة الطفل الطائشة، ومن ثم كان العقاب البدني وسيلة تربوية أساسية لإصلاح أي اعوجاج في الطفل ولدفعه لحفظ دروسه. وكان منهج التعليم كالتالي: يدرس الطفل منالسادسة إلى العاشرة القراءة وأسفار موسى الخمسة، وربما أيضاً الكتابة والحساب. ومن العاشرة إلى الخامسة عشرة، كان يدرس المشناه والجماراه.

أما البنات، فلم يكن ينلن أيَّ تعليم في المدرسة الأولية الإجبارية، فالتوراة تُحرِّم أن تتعلم الفتاة الشريعة. ومن ثم، يمكن القول بأن تعليمهن انحصر في حدود مشاركتهن في الطقوس والشعائر الدينية اليومية والاحتفالات المرتبطة بالأعياد الدينية.

سـيمون بـن شـيتاه (القرن الأول قبل الميلاد(

Simon ben Shetah

من أهم علماء الفريسيين الذين عاشوا وأصدروا فتاواهم في القرن الأول قبل الميلاد. وقاموا بنقل تراث الفريسيين وتقاليدهم، وهو أيضاً شقيق سالومي ألكسندرا زوجة الملك ألكسندر يانايوس. وقد مكنته قرابته هذه من أن يحتل مكاناً بارزاً في السنهدرين في وقت سيطر فيه الصدوقيون عليه. ومن الصعب تحديد إسهاماته في مجال التفسير والفتاوى الدينية وأعماله الأخرى نظراً لأن نشاطه في هذا المجال كثيراً ما تتداخل مع بعض الأساطير التي كانت تُروَى عن حياته.

ويُقال إنه بعد التصادم الذي حدث بين الملك الحشموني ألكسندر يانايوس والفريسيين، نقل ولاءه إلى الصدوقيين وقام باضطهاد الفريسيين، فاضطر كثير من قياداتهم ومن بينهم سيمون بن شيتاه إلى الهرب إلى مصر.

وبوفاة ألكسندر يانايوس وتعيين سالومي ألكسندرا وصياً على العرش،رجع سيمون إلى فلسطين وأعاد السلطة إلى الفريسيين بشكل لا رجعة فيه. ومنذ ذلك الوقت،أصبح الفريسيون القادة الروحيين للعبرانيين والجماعات اليهودية المنتشرة في الشرق الأدنى القديم.

وكان سيمون بن شيتاه مسئولاً عن كثير من الفتاوى والقرارات التي نظمت حياة اليهود. إلا أن ثمة قرارين مهمين يرجعان إليه أحدهما بشأن عقد الزواج (كتوباه) وآخر يؤكد ضرورة حضور ومواظبة الشباب على المدارس (وقد كان تعليم الأبناء مسئولية تقع على عاتق الآباء حتى صدور هذا القرار). ومن ثم يُعَدُّ قراره بداية تأسيس نظام تعليمي خاص بالعبرانيين، إلا أن القرار شمل الشباب بين السادسة عشرة والسابعة عشرة ولم يشمل الأطفال، كما اقتصر على القدس وضواحيها. كذلك يبدو أن الذين استفادوا منه كانوا من الشباب القادرين وحسب.

يوشـــع بـن جمـالاه (القرن الأول بعد الميلاد(

Joshua ben Gamala

عاش يوشع بن جمالاه في القرن الأول الميلادي، وحصل على ثروة لا بأس بها بعد زواجه من امرأة ثرية من القدس. وأدَّى هذا إلى تعيينه كاهناً أعظم، كما كان متبعاً في ذلك الوقت. ورغم أن التلمود يُقلِّل من شأن معظم الكهنة إلا أنه يثني على يوشع بن جمالا لتأسيسه نظاماً تعليمياً عاماً للصبية بعد أن فشلت كل المحاولات السابقة. فقد أصدر قراراً بتعيين مدرسين في كل مقاطعة وفي كل مدينة صغيرة أو قرية، وأمر بأن يُرسَل الأطفال الذكور بين سن السادسة والسابعة إلى هذه المدارس. كما تضمَّن هذا القرار تعيين مدرس لكل 25 تلميذاً أو أقل، أما إذا زاد عدد التلاميذ عن 25 وقل عن خمسين، فكان يُعيِّن للمدرس مساعد ليساعده في التدريس، وفي حالة وصول عدد التلاميذ إلى خمسـين، فإنهم كانوا يُقـسَّمون إلى مجموعتين ويُعيَّن مدرس لكل مجموعة.

التربية والتعليـم عنـد يهود الإسكندرية في العصـــر الهيليني

Education of the Jews of Alexandria in the Hellenistic Age

في العصر الهيليني، انتشر التعليم اليوناني بين أعضاء الجماعات اليهودية. وكان ذلك من أهم الأسباب التي ساعدت على أغرقة أعضاء الجماعات، وإكسابهم اللغة والثقافة اليونانية، ودمجهم في محيطهم الهيليني. وانتشرت المؤسسات التعليمية اليونانية، ومن أهمها الجيمنازيوم، في المدن اليونانية العديدة. ورغم أن نمط التعليم في هذه المدن كان يُجسِّد الروح الهيلينية ويتم في إطار ديني وثني، فإن ذلك لم يمنع اليهود (بخاصة الأثرياء منهم) من إلحاق أبنائهم بها، خصوصاً أن التعليم اليوناني كان يُعزِّز مكانتهم الاجتماعية ويفتح أمامهم فرص الانضمام إلى النخبة والطبقات الحاكمة. وأشار فيلون في كتاباته إلى التحاق أبناء اليهود بالجيمنازيوم باعتباره أمراً مسلَّماً به، كما تحدث يوسيفوس عن تلقي اليهود في أنطاكية السلوقية تعليمهم في الجيمنازيوم.

وفي مصر، سُمح لأثرياء اليهود (والفرس أيضاً)، خصوصاً الذين جاءوا من بين صفوف المستوطنين العسكريين من المرتزقة، بالانضمام إلى المدارس اليونانية (بينما كان ذلك ممنوعاً تماماً على المصريين إلا في بعض الحالات النادرة). وفي فلسطين، بدأ تغلغل التعليم اليوناني بين العبرانيين اليهود منذ النصف الثاني من القرن الثالث قبل الميلاد، حيث كان أبناء أثرياء اليهود يتلقون قدراً من التعليم اليوناني على أيدي معلمين يونان. وفي عام 175 ق.م، أسس الكاهن الأعظم ياسون، وهو من أهم دعاة الهيلينية بين اليهود، مؤسسات تعليمية يونانية وجيمنازيوم في القدس لتدريب العبرانيين اليهود على أن يصبحوا مواطنين يونانيين، فحل الجيمنازيوم محل الهيكل كمركز للحياة اليهودية الاجتماعية وانضم إليه كثير من الكهنة. وأصبح التعليم اليوناني بالنسبة إلى أثرياء اليهود في عهده إجبارياً، حيث كان أنطيوخوس الرابع وأثرياء اليهود يُخططون لتحويل القدس إلى مدينة (بوليس) يونانية تُسمَّى «أنطاكية» لتعزيز وضعها الاقتصادي والأمني.

وكان التعليم اليوناني يشمل المرحلة الابتدائية حتى سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، تليها مرحلة الدراسة في الجيمنازيوم والتي كانت تشمل التدريب على الألعاب الرياضية والفنون العسكرية وتعليم اللغة اليونانية ودراسة الموسيقى والأعمال الأدبية اليونانية خصوصاً أعمال هومير. وكان الطلبة يقومون بالألعاب الرياضية والمصارعة وهم عرايا (وهو ما كان غير محبَّب في اليهودية)، كما كان الجيمنازيوم يخضع لحماية الإلهين هرمز وهرقل. وكان الطلاب يقومون أيضاً بدور مهم في الاحتفالات الخاصة بتكريم آلهة المدن اليونانية. ورغم ذلك، حرصت الأرستقراطية اليهودية على إلحاق أبنائها بهذه المدارس، بل اشتد هذا الحرص بين يهود الإسكندرية في عهد الرومان حيث كانوا يسعون للحصول على المواطنة اليونانية حتى يتم إعفاؤهم من الضريبة الثقيلة التي فرضها أوغسطس عام 24/23 ق.م على سكان مصر (باستثناء أهل الإسكندرية من اليونان) علماً بأن الانتماء الكامل إلى المدينة اليونانية كان يعني الاشتراك في عبادة آلهتها.

وكان للتعليم اليوناني أثره في تزايد معدلات التأغرق بين أعضاء الجماعة اليهودية حيث بدأوا يتحدثون اليونانية وبدأوا يؤغرقون أسماءهم ويتبنون أسماء يونانية كاملة. ثم نسوا الآرامية تماماً، وأصبحت اليونانية اللغة السائدة في المعابد اليهودية في مصر وتُرجم إليها العهد القديم. وتحوَّلت الإسكندرية في عهد البطالمة إلى أهم مركز ثقافي وعلمي في العالم الهيليني، وانعكس ذلك على النخبة الثقافية اليهودية المتأغرقة التي ظهر عمق أثر الحضارة اليونانية في كتاباتها. كما ظهر أدب هيليني يهودي اعتذاري، كان من أبرز كُتَّابه فيلون ويوسيفوس، يهدف إلى التقريب بين اليهودية والهيلينية والتأكيد على الجوانب المشتركة بينهما والدفاع عن اليهودية أمام هجمات الهيلينية.

ورغم ذلك، لم تتغلغل الهيلينية في كل قطاعات الجماعات اليهودية، فقد ظل الريف في فلسطين سامياً آرامياً، كما ظلت ضواحي الإسكندرية مصرية حيث تأثر اليهود فيها بالطابع المصري.

وظلت هذه القطاعات مرتبطة بالعقيدة اليهودية ورافضة للنزعة الهيلينية. وعبَّر عن ذلك حزب الأتقياء (الذي كان يُعرَف باسم «الحسيديين») وحزب الفريسيين اللذين ضما إلى صفوفهما كثيراً من الكتبة شراح الشريعة الذين دافعوا عن الشريعة الشفوية، وكان من بينهم فقراء الكهنة ومتوسطو الحال. وحرص الكتبة الحسيديون ثم الفريسيون على ضرورة نشر تعاليم التوراة والشريعة اليهودية بين الجماهير اليهودية بعد أن كان ذلك مقصوراً على طبقة الكهنة والكتبة، فبدأت تظهر المدارس الابتدائية اليهودية بشكل تدريجي كنتيجة مباشرة لذلك التوجه منذ نهاية القرن الثاني ق.م، وتشكَّلت على غرار المدارس اليونانية. ولكنها كانت تُسمَّى «بيت الكتاب (بيت سيفر)» حيث كان محور الدراسة بها قراءة ودراسة العهد القديم. وساعد انتشار هذه المدارس على اتساع الحركة الفريسية، كما ساعد على تطور المعبد اليهودي أو «السيناجوج»، والذي كان انتشاره يتطلب وجود قاعدة واسعة من الناس على دراية بالتوراة والشريعة.

ورغم أن هذا الاتجاه كان رافضاً للنزعة الهيلينية، إلا أنه تضمن بعض المفاهيم والتقاليد الهيلينية في التعليم. فبعض المعلمين اليهود البارزين، مثل شيمايا وأبتاليون، كانوايتلقون أتعاباً من تلاميذهم، مثلهم مثل المعلمين اليونان. ولكن هذا التقليد لم يستمر طويلاً. ومن ناحية أخرى، فإن علاقة المعلم بالتلميذ في اليهودية الحاخامية نشأت على أساس من التقاليد الهيلينية، والدراسة الجدلية المعتمدة على سلسلة من الأسئلة والإجابات، التي سادت مدارس البلاغة اليونانية.

التربية والتعليم عند يهود بابل قبل وبعد انتشار الإسلام

Education of Babylonian Jewry before and after the Spread of Islam

منذ منتصف القرن الثاني الميلادي، كانت الجماعة اليهودية في بابل أكثر الجماعات اليهودية أمناً وازدهاراً. وقد قُدِّر لهذه الجماعة أن تلعب دوراً مهماً في تطور العقيدة اليهودية، وفي توجيه الحياة الثقافية والتربوية لليهود. ومما ساهم في زيادة الأثر الثقافي والديني ليهود بابل على التجمعات اليهودية المنتشرة في حوض البحر الأبيض المتوسط، دخول معظم هذه الأرجاء تحت الحكم الإسلامي منذ القرن السابع الميلادي. وقد ساهم وجود اللغة والإطار السياسي والإداري المشترك في زيادة الاتصال بين الجماعات اليهودية وإيجاد أسلوب حياة بينهم متشـابه إلى حد كبير (بين القرنين السـابع والحادي عشر الميلاديين).

وعاشت الجماعات اليهودية في بابل كأقلية تدير أمورها ذاتياً، شأنها في ذلك شأن الأقليات الأخرى كافة. وترأس الجماعة اليهودية رأس الجالوت (المنفى). وانتشر اليهود على هيئة جماعات صغيرة يشرف على شئونها المدنية والدينية رئيس يُعيِّنه رأس الجالوت، ومجلس محلي مكوَّن من سبعة أعضاء. وكان من وظائف هذا المجلس الإشراف على المؤسسات الدينية والتربوية. وفي المدن التي وُجدت بها حلقات تلمودية، كان على المجلس أن يقيم بيتاً للدراسة.

تقبَّل يهود بابل تقاليد الفريسيين التي رأت أن الشريعة اليهودية طريقة حياة كاملة تشكل وتؤثر على كل أوجه الحياة الدينية والمدنية للفرد. فكانت التوراة (كما فسَّرها الحاخامات) والمشناه العملين الأساسيين اللذين وجَّها الحياة الدينية لليهود وكذلك وجها تربيتهم. ومنذ القرن الثاني الميلادي، أصبح للجماعة اليهودية الحلقات التلمودية الخاصة بهـا والتي قامت بالتفسـير والإفتـاء وإصـدار القوانين والتشريعات. وبدأ في هذه المرحلة تحوُّل بعض قطاعات من أعضاء الجماعة اليهودية إلى جماعات وظيفية وسيطة تضطلع بوظائف التجارة والربا وجمع الضرائب، وإن ظل العدد الأعظم من أعضاء الجماعة اليهودية يعملون بالزراعة.

واستهدفت التربية بين يهود بابل تعريف أعضاء الجماعة بالشريعة وبتطبيقاتها على أوجه الحياة المختلفة. وكما هو الحال في المجتمعات التقليدية، كانت مكانة الفرد تتحدد بمدى معرفته بالشريعة نظراً لما تعطيه من سلطة دينية ومدنية.

ولعبت الأسرة دوراً أساسياً في تربية وتعليم النشء، فبدأت تربية الطفل مبكراً في المنزل حيث لاحظ الطفل كثيراً من الشعائر والطقوس ومارسها وبدأ في تعلُّم الصلوات. كما ساهم المعبد، مع الأسرة، في عملية تعليم الطفل كثيراً من شعائر الدين وبالذات شعائر السبت والأعياد. وكان في استطاعة قلة من الآباء الاستمرار في تعليم أبنائهم الشريعة، ومن ثم نجد أن الأغلبية العظمى من الأطفال الذكور كان عليهم أن يذهبوا إلى مدرسة أولية لتعلُّم مبادئ الدين وشرائعه.

وتكوَّن النظام التربوي من ثلاث مراحل: مرحلة أولى لتربية الأطفال والصبية، ومرحلة متوسطة، ثم مرحلة عليا في الحلقات التلمودية.

تمت المرحلة الأولى من التعليم في مدرسة أولية أُطلق عليها «بيت الكتاب (بيت سيفر)»، وكانت موجودة في المعبد نفسه، أو في مبنى مُلحَق به، وكان يُشار إلى الأطفال الذين يدرسون في بيت الكتاب باسم «أطفال المعـبد». وكانت الجماعة تُشرف على هذه المدرسة وتقوم بتمويلها، كما كان بعض الآباء يفضل إحضار معلم خاص إلى منزلهليتولى تعليم أبنائه.

كان الهدف من التعليم في هذه المدرسة إعداد الطفل للمشاركة في شعائر المعبد. ولذا، تعلم الطفل القراءة عن طريق نقل الحروف على البرشمان (ورق نفيس شبيه بالرقوق) أو ألواح أردوازية، حيث كان المعلم يرسم محيط الحروف ثم يقوم الطفل بملئها، كذلك حفظ الأطفال الصلوات وأجزاء من أسفار موسى الخمسة مبتدئين بسفر اللاويين. وقد اتبع الأطفال في دراستهم نظام المقاطع أو «السيدرا» (وهي كلمة عبرية بمعنى «مقطع من التوراة»)، فكانوا يحفظون طوال الأسبوع الأجزاء التي ستُقرأ في المعبد يوم السبت، ثم يحفظون بعض أجزاء من كتب الأنبياء وكتب الحكمة والأمثال. ولكن، في مرحلة متأخرة، أُهملت دراسة العهد القديم، فلم يُدرَّس منه سوى أسفار موسى الخمسة، وتم التركيز على التلمود. كما وُجدت بعض المدارس التي تدرس لغة البلد وبعض مبادئ الحساب. أما الوضع الاقتصادي والاجتماعي لمعلمي المرحلة الأولى فكان متردياً، وكان الكثير منهم يضطر إلى أخذ الهدايا من أولياء أمور الأطفال.

والشيء المهم هنا هو أن هذه المرحلة كانت تقود إلى مرحلة أكثر تعمقاً من الدراسات الدينية، فكان معظم الأطفال ينهون دراستهم عند هذه المرحلة، باستثناء قلة كانت تستمر في مرحلة متوسطة ذات مستويين: مستوى أول كانت تُدرَس فيه المشناه ثم الجماراه تحت إشراف معلم، ثم مرحلة عليا كان الطالب يدرس فيها التلمود بمفرده، وأخيراً ظهرت الحلقات التلمودية في أواخر القرن الثاني الميلادي. غير أن حلقات بابل لم تزدهر إلا في القرن الثالث الميلادي. وكان من أهم الحلقات التلمودية حلقة نهاردعه التي لا يُعرَف تاريخ تأسيسها على وجه الدقة، ثم انتقلت عام 259 ميلادية إلى بومبديثا، ومنها إلى بغداد في القرن التاسع الميلادي. كذلك وُجدت حلقة في سورا، وأخرى في ماهوزا، إلا أن حلقة بومبديثا وحلقة سورا كانتا أهم حلقتين.

ولم تكن الحلقـات التلمودية مؤسسات تعليمية بالمعنى المتعارف عليه، إذ لم تكن للطلبة وإنما كانت حلقات دينية لتجمعات رجال الدين يتدارسون فيها النصوص والتراث الديني اليهودي ذا الطبيعة المزدوجة علماً وشريعة، كما كانوا يجيبون عن الأسئلة الدينية والفقهية ويُصدرون الفتاوى ويقضون بين الناس. وكان لكل حلقة علماؤها ومريدوها. ومنذ وقت مبكر، كان بعض الطلاب يحضرون إلى هذه الحلقات للدراسة تحت إشراف رؤسائها، ومن ثم أصبح لهذه الحلقات وظيفة تعليمية.

كان لكل حلقة رئيس أُطلق عليه بالعبرية «روش هايشيفاه» أي «رأس اليشيفاه» يختاره العلماء، إلا أن تعيينه لم يكن يتم إلا بعد موافقة رأس الجالوت. ومنذ القرن السابع الميلادي، أصبح يطلق على رئيس الحلقة «الفقيه» (بالعبرية: «جاؤون»). ورغم أن علماء الحلقة هم الذين كانوا ينتخبون رئيسها من الناحية النظرية، إلا أن وظيفة الفقيه كانت وراثية وظلت محصورة بين ست عائلات. وكان بإمكان أي طالب الالتحاق بالحلقة، فلم يكن هناك شرط للالتحاق ولم يُحدَّد له أيُّ سن. وكان بوسع الطالب أن يمضي عمره داخل الحلقة إذا كان في مقدوره أن يفعل ذلك، كما كان بوسعه أن يتركها في أي وقت يشاء. ولم تكن الامتحانات تُعقَد إلا حين يصل الطالب إلى مستوى معلم شريعةيعتدُّ به. ولكن، لمجرد متابعة النقاش الدائر، كان على الطالب أن يكون ملماً بكلٍّ من أسفار موسى الخمسة والمشناه وأقوال الحاخامات السابقين التي تتعلق بالشريعة. وكان هناك عدد كبير بين الطلاب من أولاد الحاخامات وعلماء الحلقة حيث كان الأب يترك مركزه لابنه أو لأحد أقاربه ممن يعتقد في كفاءتهم.

وكانت المشناه النص الأساسي الذي يتم تدارسه في الحلقة، كما أن الدراسة كانت شفهية بالأساس. وعلى أية حال، لم تكن المشناه الموضوع الوحيد. وكان رئيس الحلقة يبدأ محاضرته باقتباس من المشناه، ثم يذكر آراء الشراح (أمورائيم)، ويتبع ذلك محاولة تطبيق النص موضوع الدراسة على مجموعة المواقف التي قد تُقابل اليهودي في حياته اليومية. وفي بعض الأحيان، كان العلماء لا يتفقون مع التفسيرات المسجلة في المشناه أو مع طريقة تطبيقها. وكانت هذه الاختلافات في الآراء والتفسيرات تؤدي أحياناً إلى مناقشات حامية الوطيس. كذلك كان للدراسة جانب أكثر بساطة وأقل جدية، فمن حين لآخر كان أحد العلماء يقوم باقتباس قصص أو مُثُل أخلاقية ليوضح موضوعاً ما أو ليشرح نصاً توراتياً.

وبتدوين الجماراه البابلية، أصبحت الجماراه موضوع الدراسة الرئيسي داخل الحلقات، وتصاعَد النشاط الديني التربوي الذي كان له أكبر الأثر في ذيوع صيت حلقات بابل. وتمثل هذا النشاط في اجتماعات الكالاه. و«كالاه» كلمة عبرية تعني «كلّ» وهو ما يعني أن هذه الاجتماعات كانت بالغة الأهمية يتم فيها حسم كل الأمور. وهذا التفسير لأصل الكلمة ليس بعيداً عن رأي آخر يذهب إلى أنها مُشتَقة من كلمة عبرية معناها «عروس» أو من كلمة «إكليل» الآرامية، فهذا يعني أن حلقات الكالاه تتويج للدراسات التي تتم في كل المؤسسات الدينية والتربوية الأخرى، وهو ما يعود بها إلى المعنى الأول. وكانت اجتماعات الكالاه تُعقَد في شهري أغسطس/سبتمبر، وفبراير/مارس حين تفتح الحلقات أبوابها للعامة والخاصة لدراسة الشريعة وتطبيقاتها المختلفة. ولم تكن هذه الاجتماعات مقصورة على سكان بابل وحدهم، بل كان يحضرها دارسون من شمال أفريقيا وإيطاليا أو غيرها من البلاد التي وُجدت فيها جماعات يهودية.

وكانت دورة الكالاه تضم علماء الحلقة الذين كانوا يشكلون «بيت دين»، أي محكمة دينية لها صلاحية الإفتاء (ويُقال إنها كانت تضم مثل السنهدرين 70 عضواً) ويتبعها سنهدرين أصغر لتلخيص أقوال الحاخامات وفتاواهم وإجاباتهم على الأسئلة التي يطرحها الحاضرون أو على تلك الأسئلة التي تصلهم من الجماعات اليهودية المنتشرة في البلدان المختلفة.

وكانت حلقة الكالاه تستغرق ثلاثة أسابيع من الشهر، أما الأسبوع الرابع فكان يُخصَّص لاختبار الطلاب. كما كان الفقهاء يقومون بشرح الأجزاء الصعبة أو الغامضة من التلمود. كذلك كان من أهم أنشطة الكالاه تصحيح النسخ غير الواضحة من التلمود، أو تلك التي تكون قد حُرِّفت أثناء عملية النسخ. ومارس علماء بابل تأثيرهم على الجماعات اليهودية المختلفة من خلال علمائهم الذين كانوا يأتون لحضور الاجتماعات ويرجعون بإجابة الفقهاء على الأسئلة المرسلة منهم.

التربية والتعليم عند الجماعات اليهودية حتى نهاية القرن الثامن عشر: مقدمة

Education of Jewish Communities to the End of the Eighteenth Century:Introduction

من الصعب فهم الأوضاع التربوية والتعليمية للجماعات اليهودية في العصور الوسطى في الغرب إلا في إطار نظام الإدارة الذاتية الذي عاشت في ظله الجماعات اليهودية كجماعات وظيفية (مالية) تضطلع بوظيفـة محدَّدة وتدخـل في عـلاقة موضوعية تعاقدية مع المجتمع المضيف. وكان للجماعات اليهودية تنظيمها الإداري المستقل (كما كان مُتَّبعاً في المجتمع الغربي الوسيط) الذي قام بإدارة كل المؤسسات الاجتماعية للجماعة اليهودية، ومن بينها النظام التربوي بما في ذلك تعليم الأطفال والكبار والتعليم العالي للأفراد الراغبين فيه والذين تحتاج إليهم الجماعة لإدارة شئونها. وكانت اليهودية الحاخامية (التلمودية) المكوِّن الأساسي والموجِّه الرئيسي لحياة الفرد والجماعة. ومن ثم، فإنها كانت تشكل أساس النظام التربوي. ورغم أن كل جماعة يهودية في أوربا شـكلت جماعة إثنية دينية مسـتقلة عن المجتمع الذي تعيـش في كنفه، إلا أن ثقافة كل جماعة تأثرت وتشكلت بالأوضاع الثقافية في كل مجتمع على حدة. ففي شمال أوربا وشرقها، حيث كانت الأوضاع الحضارية متدنية، سيطر تحالف من رجال الدين ورجال المال على الجماعة اليهودية، فانغلقت على نفسها وتكلست. وساهم هذا الوضع بدوره في زيادة انعزالهم عما يجري حولهم في المجتمع المحيط. وأدَّى هذا الوضع إلى ضيق أفق مناهج الدراسة وعقم طرقها.

أما إيطاليا (في جنوب أوربا) وإسبانيا (في غرب أوربا)، فكانتا خاضعتين لتأثير الحضارة العربية الإسلامية المزدهرة آنذاك. لذا، فكانت أوضاعهما الحضارية والثقافية أكثر تقدماً وانفتاحاً، ومن ثم كانت الجماعات اليهودية في هذين البلدين أكثر انفتاحاً وتفاعلاً مع البيئة الثقافية المحيطة، كما كانت المؤسسات التربوية والتعليمية داخل هذه التجمعات أكثر اتصالاً بالتيارات الثقافية السائدة، فاتسعت مناهج الدارسة لتشمل مواد غير دينية مثل الفلسفة والمنطق والشعر والرياضيات والفلك.

وفي إطار ما سبق، يمكننا الآن أن نعرض للأوضاع التربوية للجماعات اليهودية المختلفة في المجتمعات الأوربية حتى نهاية القرن الثامن عشر.

التربية والتعليم عند الجماعات اليهودية في فرنسا وألمانيا وإيطاليا حتى نهاية القرن الثامن عشر

Education of the Jewish Communities in France, Germany, and Italy to the End of the Eighteenth Century

1 ـ فرنسا:

كان هناك مركزان ثقافيان أساسيان للجماعات اليهودية في فرنسا في العصور الوسطى: أحدهما في شمال فرنسا الشرقي )في شمبين)، والآخر في الجنوب (في بروفانس ولانجودوك). كما كان هناك مركز ثالث في الإمارات البابوية في أفنيون، ولكنه كان يتبع التشكيل الحضاري الإيطالي.

وقد سيطر الحاخامات على المؤسسات الثقافية والتربوية في شمال فرنسا، فسادت دراسة التوراة والتلمود. ولم تمثل دراسة الفلسفة أو العلوم الطبيعية أي إغراء للدارسين مثلما فعلت مع يهود إسبانيا أو إيطاليا، فكانت مهمة المعلم النقل وليس التأمل، أما العالم فقد وجه جُلَّ جهده لتوضيح وتفسير الأجزاء الصعبة أو الغامضة من الشريعة. ويمثل تفسير راشي للتوراة والتلمود هذا التيار الفكري، كما يُعتبَر أهم الأعمال التي ظهرت خلال العصور الوسطى ونالت شهرة واسعة. وساعد تفسيره الصغار والكبار على فهم الشريعة، وتحت تأثيره نما الاهتمام بدراسة التلمود فأصبحت اليهودية الحاخامية عنصراً مؤثراً في حياة الجماعة اليهودية وتربيتهم.

وكانت التربية الدينية للطفل تبدأ في الأسرة حيث كان يتم تدريب الطفل على طقوس الدين وشعائره من خلال مشاركته في صلوات المعبد والاحتفالات الدينية المختلفة المرتبطة بالأعياد اليهودية. وكانت سن الخامسة بداية مرحلة الدراسة بالنسبة إلى الطفل اليهودي ، فكان يُرسَل إلى مدرسة أولية أُطلق عليها اسم المدرسة الصغيرة أو الأولية (بالعبرية: مدراش قطان) وهي كلمة مأخوذة من المُصطلَح الفرنسي «بتي إيكول petit ecole» الفرنسية، أي «المدرسة الصغيرة أو الأولية». وكانت بداية ذهاب الطفل إلى المدرسة مناسبة يُحتَفل بها.

كان الطفل يبدأ بتعلُّم الحروف الهجائية ثم يتعلم تكوين الكلمات، وبعد ذلك كان يدرس سفر اللاويين الذي كان يتبع نظام المقاطع في تدريسه. وكان الجزء الذي ستتم قراءته في المعبد يوم السبت يُقرأ في وقت سابق بالعبرية، ثم يقوم المعلم بترجمته إلى الفرنسية. وبعد ذلك، كان الطفل يدرس الترجوم، وهو الترجمة الآرامية لأسفار موسى الخمسة، بالطريقة نفسها. وفي سن العاشرة، كان الطفل ينتقل إلى دراسة بعض الموضوعات من التلمود (المشناه والجماراه). وكانت المرحلة الأولى من التعليم تنتهي مع سن الثالثة عشرة، وكان قلة من التلاميذ يستمرون في دراستهم بعد هذه المرحلة في المدرسة الكبرى أو العليا (بالعبرية: مدراش جادول) وهي كلمة مأخوذة من المُصطلَح الفرنسي «جراند إيكول grande ecole»، أي المدرسة الكبرى أو العليا. وكانت الدراسة في هذه المدارس تستمر لمدة سبع سنوات تُخصَّص لدراسة التلمود، كما كانت ساعات الدراسة طويلة، ولم يكن الطالب يُعطَى أية إجازات إلا في يوم السبت والأعياد.

وكان كثير من الدارسين يرتحلون لطلب العلم بين الجماعات اليهودية في فرنسا أو غيرها من البلدان الأوربية، فكان الطلبة المتميزون الذين يودون التعمق في معرفة الشريعة يرحلون من بلد إلى آخر لنيل العلم على يد أحد العلماء المشهورين في التلمود، وترأس المدارس التلمودية في شمال فرنسا دارسون من سلالة راشي.

في البداية، كانت المدارس التلمودية في فرنسا مؤسسات شخصية تتبع مؤسسيها، فكان في مقدور أي حاخام أن يؤسس مدرسة ويتولى تمويلها ورئاستها، وقد قام الطلاب الأغنياء بتمويل أنفسهم بينما تم تمويل الطلبة الفقراء من الأموال الخيرية للجماعة اليهودية.

وخلال القرن الثالث عشر، بدأت الجماعة في تنظيم شئون التعليم والإشراف عليه وتمويله، بما في ذلك أجور المعلمين. هذا فيما يتصل بشمال فرنسا (شامبين)، أما جنوب فرنسا (بروفانس) فخضع لتأثير التيارات الثقافية السائدة بين يهود إسبانيا. فلم يقتصر العلم والمعرفة على الدراسات الدينية، وبالذات التلمود، بل نالت دراسة الطب والفلك والفلسفة قدراً أكبر من الاهتمام. وضمت فرنسا الألزاس واللورين، وهما مقاطعتان كانتا تضمان معظم يهود فرنسا عند قيام الثورة الفرنسية. وكانت حياتهم مماثلة تماماً لحياة يهود ألمانيا وشرق أوربا، فقد كانوا من يهود اليديشية. وساد النظام التعليمي التقليدي بين يهود الألزاس واللورين.

2 ـ ألمانيا:

لم تختلف الأوضاع الثقافية والتربوية التي سادت بين الجماعات اليهودية في ألمانيا في العصور الوسطى عن تلك الأوضاع التي سادت في شمال فرنسا. فكان التلمود وكذلك الدراسات المرتبطة به محور النشاط الثقافي والتربوي، وأُهملت دراسة العهد القديم. فكان الطفل يُرسَل إلى المدرسة الأولية الخاصة (حيدر)، ويظل بها إلى سن الثالثة عشرة. وفي هذه السن، كانت المرحلة التعليمية تنتهي بالنسبة إلى الغالبية العظمى من الأطفال. وبعد هذه المرحلة، كانت الدراسة تقتصر على قلة من التلاميذ الذين يودون التعمق في دراسة التلمود على يد أحد معلمي التلمود. أما منهج التعليم، فكان عبارة عن قراءة الصلوات والعهد القديم الذي تُرجم إلى اللغة اليديشية، وكذلك بعض أجزاء من التلمود (المشناه والجماراه). أما في المرحلة العليا، فكان الطلاب يدرسون التلمود فقط.

وخضع التعليم بين الجماعات اليهودية في ألمانيا لإشراف الجماعة التي حدَّدت عدد التلاميذ بالنسبة إلى المعلم ومكافأته والمنهج الذي يقوم بتدريسه. وظل هذا الوضع قائماً حتى نهاية القرن الثامن عشر، حيث شهدت الأراضي الألمانية تغيرات وتطورات أدَّت إلى ظهور طبقة من المموِّلين والتجار ويهود البلاط الذين تطلَّب عملهم المعرفة باللغات الأوربية والثقافة الحديثة. ومن ثم، فقد قل اهتمامهم بدراسة التلمود والمواد اليهودية التقليدية ولم تتعد معرفتهم قراءة آلية لبعض أجزاء من أسفار موسى الخمسة.

3 ـ إيطاليا:

يُلاحَظ ـ كما أسلفنا ـ أن الجماعتين اليهوديتين في إيطاليا وإسبانيا المسيحية كانتا تتَّسمان بالانفتاح النسبي، فلم ينحصر اهتمام أعضائهما في العلوم الدينية والتلمودية وإنما أبدى كثير من المتعلمين اليهود اهتماماً بالدراسات العلمانية واللغوية. ولذا، لم تقتصر مناهج المدارس، منذ عصر النهضة في الغرب بل وقبله، على العلوم الدينية (كما كان الحال في شمال أوربا)، بل تضمنت هذه المناهج مادة الحساب وقواعد العبرية واللغة الإيطالية وقواعدها والحروف واللغة اللاتينية والرقص، وذلك علاوة على الدراسات الدينية التقليدية مثل العهد القديم والتلمود.

أما فيما يتصل بالتعليم العالي، فكانت تُوجَد مدارس تلمودية عليا كما هو الحال في معظم الجماعات اليهودية. ولكن، إلى جانب ذلك التحق كثير من الطلبة اليهود بالجامعات غير اليهودية. كذلك لوحظ، في إيطاليا، تزايد عدد الطلبة من أعضاء الجماعات اليهودية في كليات الطب. وقد طرح ديفيد بروفنسال عام 1564 فكرة إنشاء جامعة يهودية في إيطاليا يتضمن منهجها كلاًّ من المواد الدينية التقليدية والمواد الدنيوية. وفي القرن الثامن عشر، نجد أن دراسة التلمود أصبحت مجرد مادة واحدة تُدرَّس ضمن المواد الأخرى في المدارس اليهودية العليا.

التربية والتعليم عند الجماعات اليهودية في بولندا حتى نهاية القرن الثامن عشر

Education of the Jewish Communities in Poland to the End of the Eighteenth Century

كانت الجماعة اليهودية في بولندا وليتوانيا جماعة وظيفية مالية يتسم أعضاؤها بقدر من التميُّز النسبي، الإثني والديني، رغم تأثرهم العميق بالمجتمع المضيف. وكما هو الحال مع الجماعات الوظيفية، كانت هناك مجموعة من مؤسسات الإدارة الذاتية المتكاملة التي أدارت شئون الجماعة: الدينية والاجتماعية والتربوية، والتي انتظمتها مؤسسة القهال التي سيطر عليها تحالف من الحاخامات وكبار المموِّلين.

وخضع التعليم داخل الجماعات اليهودية لإشراف مجلس القهال الذي وضع منهج التعليم للمدرسة الأولية الخاصة (حيدر) بشكل مُفصَّل لدرجة أنه حدد التفاسير التي تُستخدَم في تدريس العهد القديم، ومؤهلات المعلمين، وعدد تلاميذ المعلم الواحد، ونوعية العلاقة التي تسود بين المعلمين مع بعضهم بعضاً، وبينهم وبين أولياء أمور التلاميذ. كما كان من وظيفة مجالس القهال إقامة مدارس أولية خيرية (تلمود تورا) لتعليم الأطفال الأيتام وإيجاد نوع من التدريب الحرفي للأطفال غير القادرين على مواصلة الدراسة. كذلك أشرف القهال على المدارس التلمودية العليا وحدَّد ساعات التدريس بها واختار رئيسها.

وقبل أن نتعرض لقضية التعليم بين يهود اليديشية، لابد أن نشير إلى أن كثيراً من المراجع اليهودية تعطي الانطباع العام (والخاطئ في تصورنا) بأن اليهود (كل اليهود) كانوا يقضون سحابة يومهم إما في التعبد أو في دراسة التوراة والتلمود أو في صد هجمات الأغيار عليهم. ولكن مثل هذه الصورة تطمس معالم الواقع الحي والمركبلأعضاء الجماعات اليهودية. فمن المعروف أن ما لا يزيد على 8% من أعضاء الجماعة اليهودية كانوا يعملون إما في وظائف دينية إدارية تابعة لبيروقراطية الإدارةالذاتية (القهال) أو في حرف تلبي حاجات اليهود الدينية مثل الذبح الشرعي. أما بقية اليهود، فكانوا يعملون في حرف ليس لها مضمون يهودي أو علاقة باليهودية، مثل الصياغة والصيرفة والتجارة وجمع الضرائب وتقطير الكحوليات. أي أن حوالي 90% من أعضاء الجماعة اليهودية كانوا يكتسبون المهارات الحرفية الخاصة التي يتعيشون منها عن طريق نظام الصبينة، وهو نظام للتدريب واكتساب الخبرة مرتبط بحركيات ومقاييس مجتمع الأغلبية، هذا على الرغم من أن من يقوم بعملية التدريب كان من اليهود، ورغم أن الحرفة نفسها كانت مقصورة ـ في أغلب الأحيان ـ على أعضاء الجماعة اليهودية. ولذا، يجب أن نميِّز بين نوعين من التربية: تربية وتعليم الصبية في المدارس الأولية الخاصة (حيدر) أو الخيرية (تلمود تورا)، وكانت في واقع الأمر شكلاً من أشكال التطبيع الاجتماعي أكثر من كونها تعليماً نظامياً. وكان اليهودي يتعلم من خلاله شعائر دينه ويكتسب هويته الدينية والإثنية. ولذا كان التعليم في هذه المرحلة شعبياً وعلى نطاق واسع. ولكن، بعد هذه المرحلة، لم يكن ينخرط في المدارس التلمودية العليا التي كانت تقوم بتعليم أعضاء النخبة الدينية وتزويدهم بالمعرفة الدينية المتخصصة اللازمة لإنجاز مهامهم سوى قلة صغيرة من اليهود. وبعد إبداء هذا التحفظ المبدئي، يمكننا الآن أن نتناول موضوع التعليم بين يهود اليديشية.

كان التعليم الذي ساد بين يهود اليديشية يهدف إلى إعداد الفرد للعيش داخل الجماعة، وإلى تدريب القيادات التي تتولى إدارة وتنظيم شئونها. ومن ثم، فقد كان مثل هذا التعليم تعليماً دينياً صرفاً، وكان منهجه يدور حول كتب اليهود المقدَّسة والتفاسير المرتبطة بها. وانقسم النظام التعليمي خلال هذه الفترة إلى مرحلتين:

ـ المرحلة الأولية: وتضم المدرسة الأولية الخاصة (حيدر) والمدرسة الأولية الخيرية (تلمود تورا)، كما كان يوجد نوع من التعليم المنزلي الخاص.

ـ المرحلة العالية: وتضم المدارس التلمودية العليا (يشيفا).

1 ـ المرحلة الأولية:

كان التعليم في هذه المرحلة إجبارياً، ويستمر من سن الإلزام المدرسي (بين الخامسة والسادسة) حتى سن الثالثة عشرة. واستهدف التعليم في هذه المرحلة ترسيخ مبادئ الدين وتعاليمه وشعائره في نفس الطفل اليهودي، أي أنه كان ضرباً من التطبيع الاجتماعي. وانتظم التعليم في هذه المرحلة في ثلاثة أنواع من المدارس.

- المدرسة الأولية الخاصة (حيدر(

اُعتبر هذا النوع من المدارس أكثر أنواع المدارس انتشاراً بين الجماعات اليهودية في شرق أوربا، فقد كانت هناك مدارس خاصة يمكن أن يؤسسها أي شخص ملمبالشريعة بعد أن يحصل على موافقة الحاخام. ورغم أنها كانت مدارس خاصة، كما بينا، إلا أنها خضعت لإشراف الجماعة اليهودية. وكانت الدراسة في هذه المدارس تتم في منزل المعلم (بالعبرية: ميلاميد) الذي كان يدفع الآباء له أجراً نظير تعليم أطفالهم. ولم تكن هذه المدارس تمنح أي شهادات، كما أن تقييم التلاميذ لم يكن يتم طبقاً لمعاييرموضوعية. وكانت الدراسة تستمر في هذه المدارس من الصباح إلى المساء ودون أن يُمنَح التلاميذ عطلات إلا في أيام السبت وفي أيام الأعياد.

وكان منهج الدراسة في هذا المستوى يشمل القراءة، وكتاب الصلوات، وأسفار موسى الخمسة التي استخدموا في تدريسها الترجمة اليديشية، فكان المعلم يترجم النص العبري كلمة بكلمة إلى اليديشية. وبانتشار الطباعة، ظهرت كتب مدرسية مكتوبة باليديشية لأسفار موسى الخمسة ولتفسيراتها. واتُبعت طريقة في التدريس عُرفت بطريقة «السيدرا»، وهي كلمة عبرية معناها الحرفي «ترتيب»، وقد أصبحت تشير إلى جزء من أسفار موسى الخمسة يُقرَأ في المعبد يوم السبت. ويقوم هذا المنهج في الدراسة على أن يحفظ الطفل طوال الأسبوع ذلك الجزء من أسفار موسى الخمسة. وفي معظم الأحيان، لم يكن الجزء المقـرر يُدرَّس كاملاً وإنما كان يُدرَّس ما يسـتطيع الطفل استيعابه وحسب، وفي الأسبوع التالي كان الطفل ينتقل إلى الجزء الجديد المحدد للدراسة دون أن يكمل الجزء الذي تركه في الأسبوع السابق، وهكذا. وفي سن العاشرة، كان الطفل ينتقل إلى دراسة التلمود حيث كان الاهتمام بتدريس الجماراه عظيماً بين يهود اليديشية لدرجة أن الطفل كان، في كثير من الأحيان، يبدأ في دراستها في سن السابعة أو الثامنة. وقد اُتبعت في دراستها الطريقة نفسها التي اتُبعت في دراسة أسفار موسى الخمسة. فكان المعلم يقوم بترجمة النص التلمودي من اللغـة الآرامية، كلمة بكلمة، إلى اللغة اليديشـية حتى يفهـم التلاميذ النص، كما كان المعلم أحياناً يقرأ الجزء الذي ستتم دراسته خلال الأسبوع ويترك التلاميذ للدراسة بمفردهم. وعلى هذا، فقد تطلَّبت دراسة التلمود، في هذا المستوى، قدرة غير عادية على متابعتها، ولم يُتمها إلا الطلبة النابهون أو أبناء الأثرياء الذين استطاع آباؤهم دفع أجر أحسن للمعلمين. وعند سن الثالثة عشرة، تنتهي الدراسة في هذه المرحلة بالنسبة للغالبية العظمى من التلاميذ، أما القلة منهم فهي التي كانت تنتقل إلى المدرسة الدينية العليا.

ونظراً لأن المدرسة الأولية الخاصة (حيدر) كان يؤسسها أي شخص ملم بالشريعة وحاصل على تصريح من الحاخام، فإن مستواها ارتبط تماماً بمستوى معلمها وشخصيته. ولذا، فقد تفاوتت مستويات المعلمين بشكل واضح من مدرسة إلى أخرى، لكن المعلم، مع هذا، كان يخضع لإشراف القهال حينما يكون القهال قوياً، فكان يُحدِّد له المنهج وساعات التدريس، وحتى المكافأة التي يحصل عليها من أولياء أمور التلاميذ. وبتدهور القهال وكل أشكال الإدارة الذاتية في بولندا، أصبح المعلم (الذي كان مدرساً خاصاً يقوم بمشروع تجاري خاص) مسئولاً أمام أولياء الأمور مباشرة. ومن هنا، تدهور مستوى المعلم وساءت نوعيته وظهر كثير من المعلمين غير المؤهلين للتدريس. وكثيراً ما فشل معلم الصغار بسبب عجزه عن التعامل مع الأطفال أو بسبب جهله، كما كان الكثيرون من معلمي المدارس الأولية يتخذون من التدريس مهنة بسبب فشلهم في أن يصبحوا تجاراً أو حاخامات. وبما أن دخل معلم المدرسة الأولية كان منخفضاً، فقد وجد نفسه مضطراً إلى أن يعمل بمهنة إضافية يتكسب منها جزءاً من معاشه إلى جانب مهنة التعليم. وكان الآباء يميلون أحياناً إلى تغيير المعلم عند منتصف العام، وهو ما أدَّى إلى عدم ظهور مجموعة من المعلمين المدربين ذوي الخبرة. وكثيراً ما كـان الطالب يُنقل من صف إلى آخر دون أن يصـل إلى المسـتوى المطلوب، وذلك حتى لا يلتحق بمدرسة أخرى. وكان التعليم يتم أحياناً في منزل المعلم الذي لم يكن بالضرورة بيئة مناسبة للعملية التربوية.

ورغم أن منهج المدرسة الأولية كان موجهاً أساساً لدراسة الدين، إلا أنه لم ينجح في تحقيق هذا الهدف. فطريقة المقاطع الأسبوعية التي اتُبعت في تدريس أسفار موسى الخمسة، أدَّت إلى حصول الطفل على معرفة غير كاملة بهذه الأسفار. كما أن الاهتمام بدراسة التلمود جعل المدرسة الأولية تهمل تماماً دراسة كتب الأنبياء وكتب الحكمة والأمثال والمشناه.

ولابد أن نشير إلى أن المدرسة الأولية لم تدرِّس أياً من المواد غير الدينية، كما لم تدرِّس أيَّ لغات أجنبية حتى لغة البلد الذي كان أعضاء الجماعة اليهودية يعيشون في كنفه.

- المدرسة الأولية الخيرية (تلمود تورا)

وهي المدرسة المموَّلة من قبل الجماعة اليهودية والتي يشرف عليها القهال مباشرة ويدخلها أطفال الفقراء والأيتام وغيرهم ممن لا يستطيعون دفع أجر المعلم. وكان منهاج وأهداف هذه المدرسة يماثل تماماً منهاج وأهداف المدرسة الأولية الخاصة. ونال هذا النوع من التعليم الرعاية الكافية حينما كانت مؤسسة القهال قوية وفعالة، كما أنه تدهور تماماً بتدهورها.

- التعليم المنزلي:

وظهر، خلال تلك الفترة، ضرب من التعليم انتشر على نطاق واسع في مدن وقرى شرق أوربا ويمكن أن نسميه «التعليم المنزلي». ففي المدن، كان بعض الأثرياء من اليهود يُحضرون معلمين خصوصيين لأطفالهم، وكان هذا النظام أكثر انتشاراً في القرى الصغيرة نظراً لعدم وجود عدد كاف من الأطفال يسمح بقيام المدرسة. ولسد هذا النقص، كان المعلم يقيم إقامة كاملة مع إحدى العائلات لتعليم أطفالهم، ثم يحصل على دخله من أطفال العائلات الأخرى التي تُرسل أطفالها للدراسة. وكان المستوى العلمي للمعلمين منخفضاً للغاية، لأنهم فقدوا علاقتهم بالثقافة التلمودية وتأثروا بثقافة الفلاحين السلاف المتخلفة والمشبعة بالخرافات البسيطة. ولذا، فإنهم لم ينجحوا في نقل الثقافة التلمودية بل سـاهموا في تهـيئة الجماهـير اليهـودية لتقبُّل الفكر الحسيدي.

- تعليم البنات:

ولم تكن البنات يتلقين أيَّ تعليم ديني إلا ما كنَّ يحصلن عليه داخل المنزل، حيث كان المنزل كافياً لتعليمهن العادات والطقوس الدينية المهمة. ومع هذا، فقد قامت بعض العائلات الميسورة بإحضار معلمات خصوصيات لتعليم بناتهن تلاوة الأدعية والابتهـالات ومقاطـع من أسـفار موسى الخمسـة في ترجمتها اليديشية. ويعود تدنِّي مستوى المرأة التعليمي إلى أن العقيدة اليهودية تُعفي المرأة من إقامة كثير من الشعائر الدينية ومن بينها الصلاة، ولذا لم تكن هناك ضرورة لتعليمها.

2 ـ المرحلة العالية:

كانت الدراسة تتم في هذه المرحلة في المدارس التلمودية العليا (يشيفا). وكان هدف الدراسة في هذه المدارس إعطاء معرفة متخصِّصة بالتلمود والتفسيرات المرتبطة به والفتاوى التي أعطاها الحاخامات، والقوانين التشريعية المختلفة. انتشرت هذه المدارس في شرق أوربا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، فكانت كل جماعة يهودية كبيرة العدد تقيم مدرسة عالية وتدفع لرئيسها راتباً كبيراً حتى يكرس نفسه لدراسة التلمود. وعلاوة على ذلك، قامت الجماعة بإعالـة طلاب المدارس العليا الفقراء وإعطائهم منحة مالية أسبوعية، علاوة على أن طلبة المدارس العليا كانوا يتناولون طعامهم من المطبخ العام أو يتناولون وجبات تُموَّل من الأموال المخصصة للأعمال الخيرية. وكان معظم الطلاب يأتون من مدن أخرى، ومن ثم كانوا يقيمون في المدرسة وينامون على المقاعد الخشبية، وعادةً ما كانت المدرسة العليا عبارة عن حجرة واسعة أو عدد من الحجرات بكل منها مناضد طويلة اعتاد الطلاب على الجلوس حولها، يتأرجحون إلى الأمام والخلف وهم ينغمون الـدروس بطريقـة معينة من أجـل حفظها عن ظهر قلب.

وكان الطلاب يُقسَّمون إلى طائفتين: الطلاب المبتدئون، والطلاب المتقدمون. وكان مما يتعيَّن على الطلاب المتقدمين، الذين يستطيعون الدراسة بمفردهم، أن يقوموا بتعليم اثنين من الطلاب المبتدئين وإلا حُرموا من تمويل الجماعة. لكن الوصول إلى هذا المستوى في سن صغيرة كان من نصيب القلة. وكان العام الدراسي مُقسَّماً إلى فصلين: الفصل الشتوي، وكان يمتد من أكتوبر إلى يناير. والفصل الصيفي، وكان يمتد من أبريل إلى يوليه. وخلال هذين الفصلين، كان على الطلاب أن يتواجدوا في المدرسة الدينية العليا ليدرسوا تحت إشراف رئيسها، وكان رئيس المدرسة يحدد الجزء الذي يجب إعداده، وفي اليوم التالي كان ينادي على أحد الطلاب للتسميع. أما الطالب، فكان عليه أن يُظهر مدى استيعابه وتمكُّنه من شكل ومحتوى التلمود، وحينذاك كان رئيس المدرسة الدينية العليا ينتهز الفرصة ليعلق على بعض الأجزاء ويصحح بعض الأخطاء في التفسيرات.

واشتهرت المدارس العليا في شرق أوربا بطريقة في التدريس عُرفت باسم «بلبول». وكانت هذه الطريقة قائمة علي محاولة اكتشاف التناقضات الكامنة في التلمود دون التعليق عليه، ثم تُطرَح الحلول التي تفسر هذه التناقضات، وبعد أن يتم ذلك تُكتَشَف التناقضات في الحلول نفسها، ومن ثم تُطرَح حلول جديدة. وتستمر هذه العملية إلى أن يتم توضيح الموضوع (محور المناقشة) تماماً. وتحوَّلت هذه الطريقة إلى ضرب من السفسطة وإلى محاولة لإيجاد توازنات فكرية لا علاقة لها لا بالزيف ولا بالواقع، كما أن محاولة الوصول إلى تفسيرات جديدة أدَّت في كثير من الأحيان إلى تحريف المعنى الأساسي. وأدَّى التعليم الذي ساد بين يهود اليديشية، في مرحلتيه الأولية والعالية، إلى تدعيم عزلة الجماعات اليهودية حضارياً وثقافياً. ومن ثم، فقد حافظ التعليم على هوية اليهود الدينية وثقافتهم اليديشية التي كانت تشكل قلعة حصينة من التقاليد عملت على استمرار عزلة الجماعات اليهودية عن المجتمعات الأوربية التي عاشوا فيها، وعن التطورات الثقافية والحضارية التي حدثت في هذه المجتمعات.

وحين تدهورت حياة الجماعات اليهودية في بولندا نتيجة الأوضاع السياسية والاقتصادية بعد انتفاضة القوزاق بقيادة شميلنكي (1648)، وتآكلت أُطُر الإدارة الذاتية، لم تَعُد مجالس القهال قادرة على الاضطلاع بوظائفها الاجتماعية والتشريعية والاقتصادية، وتدهورت الأوضاع الثقافية والتعليمية للجماهير اليهودية نتيجة ذلك. كما ازداد بؤس الجماهير وفقرهم ولم تَعُد الثقافة التلمودية، بشكليتها وتعاليمها الجافة، قادرة على الوفاء باحتياجاتهم الروحية، فظهرت الحركة الحسيدية كرد فعل لسيطرة اليهودية الحاخامية المتعالية على جماهير الشعب وكنتيجة لانفصال الدراسات التلمودية الجافة عن الحياة والواقع. ومع تقسيم بولندا للمرة الثالثة عام 1795، انتقل معظم يهود اليديشية إلى الحكم الروسي.

التربية والتعليم عند الجماعات اليهودية في إسبانيا الإسلامية والمسيحية والدولة العثمانية

Education of Jewish Communities in Moslem and Christian Spain and in the Ottoman Empire

1 ـ إسبانيا (الإسلامية والمسيحية):

لم يختلف نمط التعليم اليهودي الديني في إسبانيا الإسلامية، في القرنين الثامن والتاسع، عن النمط الذي كان سائداً في بابل، حيث كان الأطفال اليهود يتلقون تعليمهم في المدارس الابتدائية التي كان هدفها الأسـاسي تأهيل الأطفـال اليهـود للمشاركة في الشعائر الدينية في المعبد. وبالتالي، كانت المدارس تركز على تعليم القراءة والصلوات وعلى دراسة التوراة والتلمود. ومع الوقت، تأسَّست شبكة واسعة من المدارس الابتدائية، كما تأسَّست معاهد للدراسات العليا المهمة. ومع أن برنامج التعليم اليهودي الابتدائي لم يتغير كثيراً عما كان عليه في بابل، إلا أن كتباً جديدة تم إدخالها على هذا المستوى التعليمي من بينها تعليقات راشي. كما أصبح هناك اتجاه للحد من البلبول مقابل التركيز على أعمال إسحق الفاسي وابن ميمون.

ومن التجديدات الأخرى، إدخال دراسة اللغة العبرية ونحوها في المناهج، والتركيز بشكل أكثر جدية على دراسة كتب الأنبياء وكتب الحكمة والأمثال والشعر العبري. كما اتسعت المناهج، خصوصاً بين أعضاء الطبقات العليا من اليهود، لتضم مواد عامة غير دينية، ولا سيما اللغة العربية التي كانت معرفتها تشكل عنصراً مهماً من عناصر التقدم المهني والمادي. وظهرت، في تلك الفترة، بعض الأدبيات اليهودية حول التعليم والتي تُبرز لنا مدى اتساع المناهج الدراسية في المدارس اليهودية. ونجد في أعمال يوسف بن عكنين ويهودا بن عباس وغيرهما عرضاً لأهم ما يجب أن تقدمه المدارس اليهودية من مناهج وبرامج. فهذه المدارس، من وجهة نظرهم، لابد أن تضم، إلى جانب دراسة التوراة والتلمود، دراسة النحو والشعر والمنطق والرياضة والهندسة وعلم الفلك والموسيقى والعلوم الطبيعية والطب والخطابة والميتافيزيقا.

وكانت هناك اتجاهات تُعارض بشدة اتساع المناهج بهذا الشكل الذي يضم عدداً كبيراً من المواد غير الدينية واللاتينية (وذلك في المدارس اليهودية في المناطق التي استرجعها المسيحيون)، حيث كان هناك تَخوُّف من تأثير هذه المواد على هوية اليهود الدينية. وبالفعل، وجد يهود إسبانيا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وبخاصة المثقفون، أن عقيدتهم الدينية تآكلت وأن ثقافتهم أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الثقافة الغربية السائدة، وأنهم متأثرون بالفلسفة اليونانية التي تعرفوا عليها من خلال الترجمات العربية. وبالتالي، برز جدل عنيف وانقسام حاد بين معارضي ومؤيدي المناهج الموسَّعة. وقد اتجه سولومون إبراهيم أدرت (حاخام برشلونة وزعيم يهود إسبانيا البارز) إلى منع أية دراسات خارجية أو غير دينية لمن هم أقل من 25 عاماً على أن يُعاقَب من يخالف ذلك بالطرد من حظـيرة الـدين. وفي القـرن الرابع عشر، اكتسب موقف المعارضين قوة بوصول أشر جهيل من ألمانيا إلى إسبانيا (عام 1304) حيث تولَّى منصب الحاخام وعمل على أن يقتصر التعليم اليهودي على دراسة التوراة والتلمود. وبالتالي، غيَّر أشر جهيل مجرى التعليم اليهودي الذي كان سائداً في إسبانيا طوال مدة قرنين أو ثلاثة، لكن الدراسات غير الدينية ظلت سائدة بين أعضاء الطبقات العليا من اليهود.

2 ـ الدولة العثمانية:

اتَّسمت الدولة العثمانية بتنوع وتعدد الجماعات الدينية والإثنية المقيمة داخل حدودها، والتي تمتعت في ظل الحكم العثماني بحرية العبادة وبحرية تكوين مؤسساتها الدينية والإدارية الخاصة بها. وانعكس هذا التعدد وذلك التنوع واللامركزية على الجماعات اليهودية نفسها والتي اتَّسمت كغيرها بالتنوع وعدم التجانس. وقد انقسمت هذه الجماعات اليهودية إلى جماعات يونانية وإشكنازية وإيطالية وإسبانية وبرتغالية، وكان لكل جماعة مؤسساتها الدينية والإدارية الخاصة بها ومن بينها المدارس. وكانت القسطنطينية وأزمير وسالونيكا وصفد والقدس تضم مدارس ابتدائية ومدارس دينية عليا مهمة. وكانت الجماعة اليهودية في سالونيكا تُعَدُّ أهم وأكبر الجماعات في الدولة العثمانية، الأمر الذي ساعد على تحول سالونيكا إلى مركز للتعليم اليهودي بفضل انتشار المدارس والمؤسسات التعليمية اليهودية بها. وساعد على انتعاش المؤسسات التعليمية اليهودية تدفُّق اللاجئين والمهاجرين اليهود الذين فرّوا من إسبانيا إلى الدولة العثمانية واستقروا بها.

وقد بدأ تحديث مدارس أعضاء الجماعات اليهودية مع نهاية القرن التاسع عشر حين بدأت الدولة العثمانية في تحديث مؤسساتها، ومنها المؤسسات التربوية.

المدرسة الأولية الخاصة (حيدر(

Heder

«حيدر» كلمة عبرية معناها «حجرة»، تُستخدَم للإشارة إلى المدرسة الأولية الخاصة التي ظهرت منذ القرن الثالث عشر الميلادي. وكانت هذه المدارس مدارس خاصة يمكن أن يقيمها أي شخص ملم بالشريعة بعد الحصول على موافقة الحاخام. وكان معلِّمها (ميلاميد) يحصل على أجره من أولياء أمور التلاميذ، وكانت هذه المدرسة تقع غالباً في منزل المعلم. وكان الأطفال يلتحقون بها بين سن السادسة والثالثة عشرة كما كان التعليم فيها إجبارياً. وكان منهجها يتكون أساساً من قراءة كتب الصلوات، وأسفار موسى الخمسة بتفسير راشي، وأجزاء من التلمود. ولم تكن هذه المدارس تُدرِّس أيَّ مواد غير دينية. وبوصول التلاميذ إلى سن الثالثة عشرة، كانت الدراسة في هذه المدرسة تنتهي بالنسبة للغالبية العظمى من التلاميذ.

وقد هاجم دعاة التنوير اليهود هذه المدرسة بسبب عقم منهجها وسوء طرق التدريس فيها. وقامت الحكومة القيصرية بمحاولات في منتصف القرن التاسع عشر لتحديث هذه المدرسة، إلا أنها لم تحقق النجاح الكافي لكونها مؤسسة خاصة. ومع نهاية القرن التاسع عشر، أنشأ الصهاينة مدارس الحيدر المطوَّرة (بالعبرية: حيدر متوكان)، حيث جمعت مناهجها بين المواد العلمانية والمواد الدينية، إلا أن الدراسات الدينية فيها توجهت توجهاً قومياً.

الحيدر

Heder

(انظر»: المدرسة الأولية الخاصة حيدر( «.

المدرسة الأولية الخيرية تلمود تورا

Talmud Tora

استُخدمت عبارة «تلمود تورا» التي تعني «دراسة التوراة» للإشارة إلى المدرسة التي تُدرِّس التوراة والشعائر وأجزاء محدودة من التلمود لإعداد التلميذ للالتحاق بالمدرسة التلمودية العليا (يشيفا)، ثم استُخدمت هذه الكلمة فيما بعد للإشارة إلى المدرسة الأولية التي تخضع لإشراف وتمويل الجماعة اليهودية لتمييزها عن المدرسة الأولية التي كان يديرها المعلم. ولذا، تُسمَّى مدرسة الحيدر «المدرسة الأولية الخاصة»، أما مدرسة التلمود تورا فكانت تُسمَّى «المدرسة الأولية الخيرية».

وقد اختلفت نوعية تلاميذ هذه المدارس من تجمُّع يهودي إلى آخر. ففي تجمُّعات اليهود في أمستردام والمدن الإيطالية المختلفة، كان يدرس في هذه المدارس التلاميذ الميسورون مادياً والفقراء جنباً إلى جنب. وكان مستوى التعليم في هذه المدارس مرتفعاً. أما في تجمعات يهود شرق أوربا، فكان يحضرها أولاد الفقراء فقط، كما كان التعليم فيها أقل من المستوى، وبالذات بعد تآكل أطر الإدارة الذاتية للجماعات اليهودية.

ظلت هذه المدارس، في تجمعات يهود غرب أوربا، محتفظة بطابعها التقليدي حتى النصف الثاني من القرن الثامن عشر. أما مدارس تجمُّعات يهود شرق أوربا حتى النصف الأول من القرن التاسع عشر،حينما بدأت الدولة القومية تحديثها وتغيير مناهجها، فقد أدخلت بعض الدراسات غير الدينية والإعداد المهني في برامجها.

وفي الوقت الحالي، تُعتبَر المدارس الأولية الخيرية إما مدارس طائفية تُدرِّس كل المواد (دينية وغير دينية) أو مدارس تكميلية تعطي دروساً في التوراة والتلمود بعد أن يلتحق التلاميذ بالمدارس العادية.

تلمــود تــورا

Talmud Tora

«تلمود تورا» عبارة عبرية تعني حرفياً «دراسة التوراة» وتُستخدَم للإشارة لشيئين مختلفين:

1 ـ تُستخدَم العبارة للإشارة إلى دراسة التوراة التي تشكل حجر الزاوية في النظام التربوي اليهودي الديني.

2 ـ تشير العبارة أيضاً إلى المدرسة الأولية الخيرية.

الميلاميــد

Melammed

«ميلاميد» كلمة عبرية تعني «معلِّم»، وكانت تُطلَق على معلم المرحلة الأولية.

الحلقة التلمودية (يشيفا – أكاديمية(

Yeshiva; Academy

«الحلقة التلمودية» مؤسسة فقهية وتربوية يهودية يشار إليها في العبرية بكلمة «يشيفا»، كما تُستخدَم أحياناً كلمة «أكاديمية» ذات الأصل اليوناني أو كلمة «مثبتاه» ذات الأصل الآرامي، وقد وصفناها هنا بأنها «حلقة». ولم تكن الحلقات التلمودية مؤسسات تعليمية بالمعنى المتعارف عليه، إذ لم تكن مؤسسات تُلقَى فيها دروس على الطلبة وإنما كانت تجمعات للمثقفين والمتفقهين في الدين ممن يتدارسون النصوص والتراث الديني اليهودي ذا الطبيعة المزدوجة علماً وشريعة، ويجيبون عن الأسئلة ويصدرون الفتاوى، ويقضون بين الناس. وفضلاً عن هذا، كان هناك بعض الطلبة الذين يتلقون الدروس. ويظهر عدم تحدُّد وظيفتها في التسميات العديدة للحلقة حيث تشير كل تسمية إلى وظيفة واحدة دون الأخرى. فقد كانت تُسمَّى «يشيفا»، أي «بيت الاجتماع» و«بيت هامدراش» أي «بيت الـدرس»، كما كانت تُسـمَّى «السـنهدرين» و«بيت دين»، أي «بيت القضاء».

ويعود تاريخ الحلقات إلى ما بعد مرسوم قورش (538 ق.م) وعودة بعض اليهود من بابل. ولكن أهميتها زادت بعد انتشار اليهود ثم هدم الهيكل (70م) لأنها أصبحت مركز الحياة اليهودية داخل كل التجمعات، سواء في فلسطين أو في خارجها. ومن أهم الحلقات حلقة يفنه التي أسسها يوحنان بن زكاي عام 70 ميلادية، وقد قام بعض مريدي هذه الحلقة بتأسيس حلقات أخرى في مدن مختلفة في فلسطين مثل طبرية وصفد. وقامت هذه الحلقات بجمع وكتابة التلمود ومن هنا تسميتنا لها بـ «الحلقةالتلمودية». أما في بابل، فيعود وجود الحلقات إلى القرن الثالث الميلادي، وتوجد أهم حلقتين في سورا ونهاردعه، التي انتقلت إلى بومبديثا في القرن الثالث الميلادي. وقدفقدت هذه الحلقات أهميتها بعد القرن الحادي عشر الميلادي، وإن كانت قد استمرت في الوجود حتى القرن الثالث عشر.

وقد نشب صراع على السلطة بين الفقهاء (جاؤنيم) من رؤساء الحلقات ورأس الجالوت (المنفى)، فكان رؤساء الحلقات يتولون أحياناً جمع الضرائب، وهو ما كان يمثل تحدياً لسلطته. واستمر الصراع عدة قرون. ولكن مع حلول القرن العاشر الميلادي، وبعد انتشار الإسلام، نُقلت الحلقات إلى بغداد. وحُسم الصراع بين حلقتي سورا وبومبديثا في نهاية الأمر لصالح الثانية.

وقد وثَّق رؤساء الحلقات علاقتهم مع التجار والصيارفة اليهود الذين كانت لهم علاقات خاصة مع الحاكم. وأصبحت القوى التجارية نخبة قائدة، وأصبحت القيادة الدينية تابعة لها (ويشبه هذا الوضع إلى حدٍّ ما الوضع في الولايات المتحدة). ومما دعم هذا الاتجاه أن رؤساء الحلقات أنفسهم كانوا من العناصر التجارية. وقد لعبت هذه النخبةدوراً أساسياً بوصفهم صيارفة بلاط (أو حكومة) ذوي نفوذ، وهو ما مكن سعيد بن يوسف الفيومي من أن يظل رئيساً لحلقة سورا مدة عامين، حتى بعد أن طرده رأس الجالوت. ويُلاحَظ أنه في الصراع الدائر بين الحلقات، كانت طبقة التجار تتحد مع الفقهاء باعتبارهم نخبة تستند إلى المال والثقافة المكتسبَين، على عكس رأس الجالوت الذي كان يستند منصبه إلى الميراث (وهذا صدى للصراع الدائر في الحضارة الإسلامية بين العرب والموالي، فالعرب كانوا نخبة تستند إلى الميراث، أما الموالي فكانوا يحققون مكانتهم من خلال الثروة والثقافة). وفي نهاية الأمر، زاد نفوذ التجار حتى أن رأس الجالوت نفسه خضع لهم، فكانوا يعينونه، ثم أصبحح لقباً شرفياً، ثم اندمج منصب رأس الجالوت مع منصب رئيس الحلقة. ومما يجدر ذكره أنه، بسبب التحام العناصر التجارية والثقافية، كانت الحلقات نفسها قنوات لانتقال رأس المال والخدمات المصرفية.

مثبتــــاه

Methbeta

«مثبتاه» كلمة آرامية تُستخدَم للإشارة إلى مجالس الفقه والدراسة والتي كان يُشار إليها أيضاً باسم «يشيفا» و«أكاديمية». وكان يُطلَق على رأس الجالوت اسم «رأس المثبتاه»، نسبة إلى كلمة «مثبتاه».

المدرسة التلمودية العليا (يشيفا(

Yeshiva

«المدرسة التلمودية العليا» ترجمة للكلمة العبرية «يشيفا» وجمعها «يشيفوت»، وهي مؤسسة تعليمية للدراسات التلمودية المتقدمة يلتحق بها الطالب بعد إتمامه الدراسة في المرحلة الأولية. وقد اقتصر منهجها على دراسة التلمود والتفسيرات والتعليقات (الهوامش) المرتبطة به. وغالباً ما كان يحصل الحاخامات على تعليمهم داخلها، إلا أنها لم تكن مدارس لتخريج الحاخامات.

ومنذ القرن الثامن الميلادي، وُجدت مدارس تلمودية في مدينة القيروان وفاس وتلمسان في الجزائر، وفي مدينة الفسطاط في مصر، وفي إسبانيا، وُجدت مدارس تلمودية عليا في عدد من مدنها، وكانت أهمها تلك التي أسسها موسى بن حانوخ في القرن العاشر الميلادي. كما وُجدت مدارس تلمودية عليا في لوسينا وبرشلونة.

وأُسِّست مدارس تلمودية إشكنازية عليا في بلدان أوربا، كان أهمهـا في فرنسـا وألمانيـا منذ القـرن العـاشر الميلادي. وكان من أهـم العلمـاء التلمـوديين الذين تخرجوا في هذه المدارس في العصور الوسطى جرشوم بن يهودا والفقهاء المعروفون باسم «توسافوت».

وقد قامت الدراسة في هذه المدارس حول أحد العلماء المتعمقين في التلمود والشريعة الشفهية بشكل عام، فيكون رئيسها والمعلم الوحيد فيها. ولم تعرف هذه المدارس الفصول الدراسية، فكان الجميع يدرسون نفس النص التلمودي. كما أن ساعات الدراسة كانت طويلة، ولم يكن الدارسون يُعطَون إجازات إلا نادراً. وكان العام الدراسي ينقسم إلى فصلين دراسيين تفصل بينهما عطلة. وعُرف نظام منح الدرجات الجامعية في المدارس العليا في شمال فرنسا، فكان لقب «الزميل» (بالعبرية: حابير) هو بمنزلة اعتراف بإنجاز الطالب ويعادل درجة الليسانس. أما لقب «معلمنا» (بالعبرية: مورينو) فيعادل درجة الدكتوراه، وكان يشير إلى أن الدارس أصبح عالماً بالتلمود معلماً له، ومن المسموح له فتح مدرسته إن أراد.

وكان رئيس المدرسة التلمودية العليا مسئولاً عن تمويلها بمساعدة الجماعة، إلا أن الطلبة الميسورين كانوا يدفعون نفقات تعليمهم. ومنذ منتصف القرن السادس عشر، ظهر نوع جديد من المدارس التلمودية العليا الخاضعة لإشراف التنظيمات الإدارية للجماعات اليهودية، وقامت مؤسسة القهال بإصدار القواعد التنظيمية للمدارس وحدَّدت المؤهلات الواجب توافرها في رئيس المدرسة وشروط قبول الطلاب والمنهج والكتب المستخدمة، كما قامت باتخاذ الإجراءات الخاصة بتوزيع الطلاب الفقراء على الأسر اليهودية في المنطقة بالتناوب حتى يمكن تزويدهم بالوجبات اليومية. ووُجد في إيطاليا وألمانيا نظام عُرف باسم «كلاووس» وهي كلمة ألمانية تعني حرفياً «بيت الدراسة»، حيث كان عدد من العلماء التلموديين وعدد قليل من الطلاب يدرسون معاً في المعابد الصغيرة، واقتصرت الدراسة فيه على الحوار والجدل، ومن ثم تركزت على تفسيرات وشروح التلمود.

ومنذ القرن الخامس عشر وحتى القرن الثامن عشر، أصبحت بولندا وليتوانيا أهم مركز للدراسات التلمودية في العالم، ومن ثم وُجدت فيها أهم المدارس التلمودية العليا مثل مدرسة لوبلين وكراكوف وبراج وبرست ليتوفسك ومنسك. واستُخدمت داخل هذه المدارس طريقة للحوار عُرفت باسم «بلبول» تقوم أساساً على محاولة اكتشاف التناقضات الحقيقية واللفظية الكامنة في أي نص والفروق الدقيقة بين الكلمات، ثم يُطرَح حل لهذا التناقض، وتُعاد الكرَّة مرةً أخرى إن كان الحل نفسه ينطوي على تناقض فيُنظَر فيه من جديد. وقد تدهورت المدارس التلمودية في شرق أوربا منذ النصف الثاني من القرن السابع عشر نتيجة انتفاضة شميلنكي (1648) التي قضت على عدد من التجمعات اليهودية، بسبب الصعوبات المادية التي كان يعاني منها أعضاء الجماعات اليهودية. كما أن انتشار الحسيدية، التي أخذت موقفاً معادياً من الدراسات التلمودية، لم يساعد على عملية إحياء هذه المدارس.

وفي بداية القرن التاسع عشر، قامت محاولات لتحديث هذه المدارس وتطوير مناهجها، فنبذت هذه المدارس التلمودية طريقة النقاش العقيمة. وحينما زاد عدد تلاميذها أنشئ مبنى خاص بها، ولحل مشكلة التمويل أُرسل مبعوثون لجمع التبرعات في أنحاء روسيا والولايات المتحدة، كما ظهرت بعض المدارس التلمودية العليا التي تتبع حركة الموزار حيث كرَّسـت هـذه المـدارس بعض الوقت لدراسـة نصوص أخلاقية. وقد اعتُبر هذا ثورة فكرية آنذاك في وقت كرَّست فيه معظم المدارس الأخرى جُلَّ وقتها لدراسة التلمود.

ولكن، مع تزايد معدلات العلمنة بين أعضاء الجماعات اليهودية، ومع تراجع اهتمامهم بالدراسات التلمودية، ومع انتشار مُثُل حركة التنوير، تناقص عدد المدارس التلمودية العليا. أما ما كان قائماً منها، فقد أخذ شكلاً مغايراً تماماً للشكل التقليدي. فعلى سبيل المثال، لم تَعُد الدراسة في المدارس التلمودية العليا مقصورة على الدراسات التلمودية الفقهية إذ أصبح من أهدافها إعداد الحاخامات للاضطلاع بمهامهم، بما في ذلك تزويدهم بقدر من الثقافة العامة، وتضمنت مقررات كثير من المدارس بعض المواد غير الدينية. وتحوَّلت هذه المدارس، فيما بعد، إلى معاهد وكليات للدراسات الدينية. ونظراً لتغيُّر نوعية تعليم الطلاب الذين انضموا إلى هذه المعاهد، والذين لم يتلقوا إعداداً كافياً في الدراسات الدينية، أُنشئت مدارس تلمودية متوسطة انضم إليها الطلاب من سن الثالثة عشرة إلى الثامنة عشرة لإعدادهم للدراسة في المدارس التلمودية العليا.

وحتى قيام الحرب العالمية الثانية، لم تكن تُوجَد في أمريكا الشمالية مدارس تلمودية عليا. ولكن، بعد هذا التاريخ، أُسِّست بعض المدارس مثل معهد الدراسات العليا الذي أسسه آرون كوستلر في مدينة ليك وود بولاية نيوجرسي، ونير إسرائيل في بلتيمور. ويجمع طلاب هذه المدارس بين الدراسات الدينية المتخصصة في هذه المدارس والدراسة العامة في الجامعات الأخرى.

وقد بدأ تأسيس المدارس التلمودية العليا في فلسطين منذ القرن السادس عشر وكانت سفاردية. وفي عام 1840، أُسِّست أول مدرسة تلمودية إشكنازية. ثم زاد عدد المدارس التلمودية العليا في إسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية نتيجة هجرة اليهود إليها. وتُعتبَر إسرائيل أهم مركز للدرسات الدينية العليا حالياً. ونظراً لأن دولة إسرائيل تؤجل تجنيد الطلبة في هذه المدارس، فقد زاد عدد الطلبة الذين سجلوا للدراسة فيها. وطبقاً للإحصاءات الحكومية، كان عدد هؤلاء الطلاب 18 ألف طالب في أواخر الثمانينيات.

ومن أهم القضايا التي تُثار في إسرائيل، في الوقت الحالي، الإعفاء من التجنيد الذي يتمتع به طلبه المدارس التلمودية العليا. وتُعتبَر هذه نقطة احتكاك وتوتر بين القطاعات الدينية والقطاعات اللادينية في الدولة الصهيونية.

اليشـيفا

Yeshiva

«يشيفا» كلمة عبرية تعني حرفياً «الجلوس»، ويرجع استخدامها إلى نظام جلوس علماء الشريعة وتلاميذهم الذين كانوا يشاركون في تفسير ومناقشة الشريعة واستخراج التشريعات المختلفة، كما تشير الكلمة إلى مؤسسات تعليمية وُجدت بين التجمعات اليهودية في أزمنة وأماكن مختلفة. فهي تُستخدَم للإشارة إلى:

1 ـ مجالس الفقه والدراسة التي ظهرت في كلٍّ من فلسطين وبابل، والتي يُطلَق عليها في اليونانية والإنجليزية «الأكاديميات» وفي الآرامية «المثبتاه»، وهي المؤسسة التي تم من خلالها جَمْع التلمود الفلسطيني والتلمود البابلي.

2 ـ المدارس التلمودية العليا التي وُجدت بعد القرن الحادي عشر في معظم التجمعات اليهودية، وكان الطالب يلتحق بها بعد إتمامه الدراسة في المرحلة الأولية لدراسة التلمود والتفاسير المرتبطة به.

أي أن كلمة «يشيفا» تشير إلى مدلولين مختلفين ينتميان إلى أماكن وأزمنة مختلفة ويضطلع كل واحد منهما بوظائف مختلفة: الحلقة التلمودية والمدرسة التلمودية. فبينما تُعنَى الحلقة التلمودية بدراسة الفقه والإفتاء والقضاء مضافاً إليها الدراسة، فإن المدرسة التلمودية العليا مؤسسة تعليمية وتربوية. ولذا، فقد قمنا باستخدام مُصطلَحين مختلفين بدلاً من كلمة واحدة (أي «يشيفا») لنميز بين الظاهرتين. إلا أننا احتفظنا برابطة بينهما وهي كلمة «تلمودية». ومن ثم، فإننا نرى شكلاً من أشكال الاستمرار داخل إطار من التنوع والاختلاف. فالحلقات التلمودية هي الحلقات التي أصدرت الفتاوى والتفاسير التي تراكمت ثم جُمعت لتصبح المشناه فالجماراه وكلاهما عنصران يكوِّنان التلمود. فالحلقة «تلمودية» باعتبار أن أصول التلمود وتكوينه يعودان إليها. أما المدرسة التلمودية العليا، فهي «تلمودية» باعتبار أن التلمود يشكل جوهر الدراسة فيها.

الأكاديمية

Academy

«أكاديمية» كلمة من أصل يوناني وتعني «مدرسة عليا» أو «حلقة نقاش»، وتُستخدَم الكلمة في الدراسات العبرية واليهودية باعتبارها مرادفة لكلمة «يشيفا» العبرية. وتشير الكلمتان إلى مؤسستين تربويتين مختلفتين تمـام الاختلاف وينتميان إلى فترات زمنية مختلفة:

1 ـ مجالس الفقه والدراسة التي ظهرت في كلٍّ من فلسطين وبابل، حيث جُمع التلمود الفلسطيني والتلمود البابلي.

2 ـ المدارس الدينية العليا التي أُسِّست بعد القرن الحادي عشر في معظم التجمعات اليهودية، وإن كان هذا المدلول غير شائع.

الباب السادس عشر: التربية والتعليم عند الجماعات اليهودية في العصر الحديث

التربية والتعليـم عند الجماعـات اليهوديــة من القرن الثامن عشر إلى الحرب العالمية الأولى

Education of the Jewish Communities from the Eighteenth Century to the First World War

استمر التعليم التقليدي سائداً بين الجماعات اليهودية في أوربا إلى نهاية القرن الثامن عشر في غربها والتاسع عشر في شرقها. إلا أنه مع تزايد وتيرة التحديث والتصنيع ونشأة الدولة القومية العلمانية الحديثة بسلطاتها المركزية ونُظُم تعليمها العامة، بدأت المؤسسات التربوية اليهودية التقليدية تتساقط لتحل محلها المؤسسات التربوية الحديثة العامة التي أصبحت من أهم أدوات علمنة ودمج أعضاء الجماعات اليهودية.

وساعد في عملية تحديث وعلمنة تربية وتعليم الجماعات اليهودية ظهور شرائح من الجماعات اليهودية مثل يهود البلاط وأثرياء اليهود وبعض المثقفين المرتبطين بهم الذين تأثروا بحركة الاستنارة الغربية وأصبحوا من دعاة حركة التنوير اليهودية. ورأى دعاة التنوير من اليهود في التعليم الحديث وسيلة من أنجح الوسائل لتحديث ثقافة الجماعات اليهودية ودمجهم في المجتمعات التي يعيشون بينها. وقد اتخذت جهودهم في تحديث تعليم الجماعات اليهودية اتجاهين: اتجاه استهدف تحديث منهج التعليم اليهودي وطرق التدريس المتبعة فيه، واتجاه ثان قام على تشجيع أعضاء الجماعات اليهودية على الالتحاق بالتعليم الحكومي العلماني. ووجد دعاة التنوير سنداً وحليفاً في الملوك المطلقين المستنيرين وحكوماتهم التي رأت في التعليم العلماني وسيلة لدمج الأقليات المختلفة وتكوين الدولة القومية وتحديث المجتمع.

اختلف هذا التطور من تشكيل سياسي أوربي إلى آخر. وكذلك باختلاف معدلات التحديث والعلمنة داخل التشكيلات الأوربية المختلفة، وطبيعة النظم التربوية المحلية في كل مجتمع، بالإضافة إلى التراث والأوضاع التاريخية غير المتجانسة الخاصة بالجماعات اليهودية، انعكس على وضع المؤسسات التربوية اليهودية المختلفة وعلىتطورها وعلى مدى اضمحلالها وسقوطها أو استمرارها وازدهارها، وانعكس بالتالي على معدلات علمنة ودمج أعضاء الجماعات اليهودية في المجتمعات التي يعيشون في كنفها.

الصفحة التالية ß إضغط هنا