واعتلى أخاب بن عمري العرش (871 - 852 ق.م)، فأدخلت زوجته إيزابيل عبادة بعل في المملكة الشمالية، وهو ما أدَّى إلى قيام صراع شديد بين البيت الملكي والأنبياء بقيادة النبي إلياهو. وبعد أن قام أخاب بعدة معارك ضد آرام دمشق، تحالف مع ملكها بن هدد ضد الآشوريين الذين كانوا قد أصبحوا خطراً حقيقياً يتهدد الجميع بعد حملة آشور ناصر بال في عام 870 ق.م، ونجحوا في صدهم مؤقتاً في معركة قرقار، وإن كان يُقال إن نتيجة المعركة لم تكن حاسمة لأي من الطرفين. ثم تحالف أخاب، بعد ذلك، مع يهوشافاط ملك المملكة الجنوبية وحاربا ضد مملكة آرام دمشق، ولكنهما هُزما وقُتل أخاب في المعركة. وأخاب أول ملك عبراني يُذكَر اسمه في أحد الأنصاب الآشورية باعتباره أحد الملوك الذين هزمتهم آشور.
وخلف أخاب ابنه آحازيا (852 ـ 851 ق.م) الذي هاجمه إلياهو باعتباره مشركاً وثنياً، وقد حاول آحازيا أن يكون جزءاً من المشاريع البحرية للمملكة الجنوبية ولكن طلبه رُفض، وهو ما أدَّى إلى توتر العلاقة بين المملكتين. ثم اعتلى يورام (851 ـ 842 ق.م) العرش من بعده، وألحق المؤابيون به الهزيمة وحصلوا على استقلالهم، كما هاجم الآراميون مملكته، وجُرح وهو أثناء معركة خاضها ضدهم لاسترداد إحدى المدن. وأدَّت هزائمه العسكرية المتكررة إلى ضعضعة سلطته، ثم اغتيل آحازيا على يد ياهو (842 ـ 814 ق.م) زعيم الانقلاب العسكري الذي أطاح بأسرة أخاب وقتل أعضاءها كما قتل كهنة بعل. وقد قطع ياهو علاقات مملكته مع حلفائها السابقين (الدول/المدنالفينيقية والمملكة الجنوبية) وهو ما جعلها عرضة للغزو الأجنبي، فقامت قوات الآراميين بغزوها وألحقت الهزيمة به، فاضطر إلى دفع الجزية لشلمانصر الثالث لكي يحميه من الآراميين، وهذا ما خفف من الضغط الآرامي بعض الوقت. ويظهر هذا الملك على المسلة السوداء التي أقامها الملك الآشوري وهو يُقبِّل الأرض عند قدمي هذا الأخيرويُقدِّم الجزية. ولكن، بعد أن مني شلمانصر بالفشل في إخضاع عاصمة آرام، هاجمت الجيوش الآرامية المملكة الشمالية مرة أخرى وضمت الأراضي التابعة لها شرقي الأردن. وفي أواخر حكمه، اخترقت الجيوش الآرامية مملكته ووصلت إلى حدودها مع المملكة الجنوبية، ثم دخلت مملكته مرحلة التدهور.
وخلال حكم يوآحاز (814 ـ 800 ق.م)، كانت المملكة الشمالية مجرد مملكة تابعة لآرام التي تحكمت في أجزاء كبيرة من أراضيها وحدَّت من قوتها العسكرية، فانكمشت المملكة لتصبح دويلة. وقد انحسر المد الآرامي بعض الشيء بوصول حملة تأديبية آشورية بقيادة أدادنيراري الثالث الذي تشير إليه المصادر التوراتية باعتباره المخلِّص (ملوك ثاني13/5). ويبدو أن يوآحاز دفع الجزية، مثل يهو، للملك الآشوري. وانتهز يوآش (800 ـ 784 ق.م) فرصة ضعف آرام بعد هزيمتها على يد الآشوريين، واستعاد بعض المدن التي كان قد فقدها. وحينما حاول ملك المملكة الجنوبية أن يتخلص من الهيمنة الشمالية، استولى يوآش على القدس، ونهب الهيكل والكنوز الملكية، وحوَّل المملكة الجنوبية مرة أخرى إلى مملكة تابعة. وقد أتى ذكر يوآش، في أحد النقوش الآشورية، باعتبار أنه كان يدفع الجزية لملك آشور. ووصلت المملكة إلى قمة ازدهارها الاقتصادي والعسكري والسياسي أثناء حكم يُربْعام الثاني (784 - 748 ق.م) إذ تمتعت بشيء من الاستقلال نظراً لضعف الآشوريين النسبي. وانتهز يُربْعام الثاني فرصة هزيمة آرام على يد الآشوريين، فاستعاد كل الأراضي التي استولت عليها آرام من قبل بل ضم بعض المدن الآرامية، فاتسعت رقعة مملكته. كما أقام يُربْعام الثاني مستعمرات في شرق الأردن، وأقطع ضباطه وأتباعه رقعاً كبيرة من الأرض، وقام بحركة بناء واسعة النطـاق. وقد أدَّى كل ذلك إلى نشـوء طبقـة ذات نفـوذ كبير من الملاك الأثرياء. وتميَّز حكمه بالفساد الداخلي والانحلال الخلقي، وهو ما دفع النبيين عاموس وهوشع إلى الهجوم عليه واستنكار أفعاله. وسادت فترة من الاضطرابات اتَّسمت بالصراع الطبقي ولعب فيها ملاك الأراضي في شرق الأردن دوراً كبيراً. وقد اُغتيل ابنه زكريا عام 748 ق.م بعد ستة أشهر من اعتلائه العرش، وانتهى بذلك حكم أسرة ياهو.
وفي عام 748 ق.م، حكم شلوم رئيس الانقلاب (وكان من شرق الأردن) شهراً واحداً دون أن يعتلي العرش إذ قتله مناحم (747 - 737 ق.م) الذي كان هو الآخر من شرق الأردن. وقد حاول مناحم أن يوسِّع حدود مملكته ويؤسِّس حكماً ثابت الدعائم، ولكن يد آشور الحديدية منعته. وحينما هاجم تيجلات بلاسر سوريا ثم المملكة الشمالية، دفع له مناحم جزية كبيرة. وحكم فقحيا بن مناحم (737 ـ 735 ق.م) عاماً واحداً، ولكن قائد جيشه فاقح (أحد نبلاء جلعاد) قام بانقلاب ضده وقتله واستولى على العرش (735 ـ 733 ق.م). ويبدو أن سبب المؤامرة هو عدم رضا أثرياء شرق الأردن عن الهيمنة الآشورية، إذ كانت لهم علاقات قوية بآرام. وكان فاقح زعيم الحزب المعاديللآشوريين، فتحالف مع رزين ملك آرام دمشق، حيث هاجما معاً المملكة الجنوبية ليرغما يوثام ثم ابنه آحاز على دخول الحلف. وقد لجآ إلى تشجيع الاضطرابات في أدوم وفلستيا وجردا حملة على القدس لإرغام المملكة الجنوبية على الانضمام إليهما. ولكن آحاز استغاث بالآشوريين، فقامت القوات الآشورية بالهجوم على أعضاء التحالف وقضت على آرام دمشق كدولة. واستولت القوات الآشورية كذلك على أراضي الجليل وجلعاد، وأخذت منها أسرى إلى آشور. وقد قُتل فاقح على يد هوشع (730 ـ 724 ق.م) آخر ملوك المملكة الشمالية. وتقول المصادر الآشورية إن هوشع اعتلى العرش بمساعدة آشور، وأن مملكته قامت حول جبل إفرايم. وبعد موت تيجلات بلاسر الثالث، نشبت الثورات في سوريا وانضمت المملكة الشمالية بتشجيع من مصر للثورة، فجرَّد شلمانصر الخامس حملة وحاصر السامرة ثلاث سنوات إلى أن سقطت في يد خلفه سرجون الثاني (721 ق.م)، فهجَّر عدداً كبيراً من رجالها وأصبحت المملكة الشمالية مقاطعة آشورية.
يُربْعام الأول (928-907 ق.م)
Jeroboam I
«يُربعام» اسم عبري معناه «يكثر أو يربو الشعب». ويُربعام الأول أول ملوك المملكة الشمالية بعد انقسام المملكة المتحدة. كان يُربْعام يعمل عند سليمان ناظراً للعمال من قبيلة إفرايم المسخَّرين للعمل. وبدأت العناصر الساخطة تتجه إليه ليكون زعيماً للتمرد على هيمنة سليمان والجنوب. ولما عرف سليمان بالمؤامرة طلب قتله، فهرب إلى مصر عند الفرعون شيشنق، وبقي هناك إلى ما بعد موت سليمان. وقاد يُربعام الوفد الذي طلب من رُحبعام الإصلاح. وحينما رفض الأخير، ثار الشماليون وأسسوا مملكتهم وخاضوا حرباً مع المملكة الجنوبية اسـتمرت اثنين وعشـرين عـاماً. وقد اتخذ يُربعام من شكيم عاصمة لدولته. وخشية أن يذهب العبرانيون إلى القدس للأعياد ويجددوا ولاءهم القديم لبيت داود، نصب يُربْعام عجلين من ذهب ربما بتأثير العبادة المصرية التي عرفها أثناء فترة نفيه؛ أحدهما في بيت إيل والآخر في دان ـ أي في طرفي مملكـته ـ ونادى بوجـوب عبادتهما. وإلى جانب العجل، مجَّد يُربْعام آلهة أخرى منها عشتاروت الإلهة الفينيقية وكموش إله المؤابيين. وقد أيَّد جميع الملوك الذين تعاقبوا على المملكة الشمالية هذه العبادة (ما عدا يوشيا). وغيَّر يُربعام تاريخ عيد الحصاد بحيث أصبح في الخامس عشر من الشهر الثامن في المملكة الشمالية، وقد كان يقع في اليوم الخامس عشر من الشهر السابع. وقد طرد يُربعام اللاويين الذين كانوا يشكلون الجهاز الإداري للملكة العبرانية المتحدة، ونقل عاصمته من شكيم إلى بنوئيل لتَعذُّر تحصين الأولى. ثم انتقلت العاصمة إلى ترصـه إلى أن اسـتقرت في نهاية الأمر في السـامرة.
رُحْبعـــام ( 928-911 ق.م)
Rehoboam
«رُحبعام» اسم عبري معناه «اتسع الشعب». ورُحبعام هو ابن سليمان من نعمة العمونية. طلب منه ممثلو القبائل العبرانية الشمالية، تحت قيادة يُربْعام، أن يخفِّف من النير الذي حمَّلهم إياه أبوه، فرفض طلبهم وهدَّدهم بمزيد من الضرائب، فانشقت القبائل الشمالية عن المملكة العبرانية المتحدة وأسست مملكة مستقلة هي المملكة الشمالية. وقامت الحرب بين رُحْبعام ويُربْعام واستمرت طيلة حكمه، كما انتشرت العبادة الوثنية في مملكته. وأثناء حكمه أيضاً، غزا شيشنق مملكته واستولى على بعض المدن لبعض الوقت، ومنها القدس نفسها، ونهب الهيكل والقصر الملكي.
آسا (908-767ق.م)
Asa
«آسا» اسم عبري معناه «الآسي» أي «الطبيب». ولعل الاسم اختصار لعبارة «يهوه آسا» أي «الرب داوى وشفى». وقد تحالف آسا، وهو أحد ملوك المملكة الجنوبية، مع بن هدد ملك آرام دمشق، لكي يوقف الغزو الذي قامت به المملكة الشمالية، وقام بتحصين الحدود بين المملكتين، وهو ما يعني أن الأمل الذي كان يراود حكام المملكة الجنوبية باستعادة المملكة الشمالية قد انتهى.
وقد عُرفت العبادات الوثنية في عهده. ولكنه، مع هذا، قام بإصلاح ديني يهدف إلى تحطيم التماثيل وهدم المذابح والمرتفعات، وهي أماكن مقدَّسة مرتبطة بالعبادة الوثنية. ومع هذا، لم يسايره الشعب في جميع إصلاحاته، فبقيت المرتفعات على حالها.
عمري (882-871 ق.م)
Omri
«عمري» اسم عبري ربما كان معناه «مفلح». وهو اسم أحد ملوك المملكة الشمالية. كان عمري قائداً للجيش. وأثناء محاصرته لإحدى المدن الفلستية وصله نبأ استيلاء زمري على العرش وأن الجيش بايعه ملكاً، فقاد عمري قواته إلى مدينة ترصه وفتحها فانتحر زمري. ثم قامت بينه وبين تبني بن جينه حرب أهلية استمرت خمسة أعوامانتصر في نهايتها عمري وأسس أسرة ملكية حاكمة تُعرَف باسمه، وجعل السامرة عاصمة مملكته. وقد سمَّى الآشوريون المملكة الشمالية «بيت خمري» أي «بيت عمري».
وقد ازدهرت التجارة في عصره نظراً لأنه خضع للضغوط الآرامية وسمح للمدن/الدول الآرامية بأن تفتح وكالات تجارية تابعة تتمتع بامتيازات خاصة.ولمعادلة هذا الموقف،قوى عمري علاقاته مع الفينيقيين،فزوَّج ابنه أخاب من إيزابيل ابنة ملك صيدا.وقد انعكست علاقاته السياسية والتجارية المتشابكة على الاتجاهات الدينية فيعصره إذ دخلت عناصر من عبادات صيدا الوثنية على العبادات اليهودية في المملكة الشمالية. ولقد نجح عمري في فرض هيمنته على المؤابيين.
أخـاب (871-852 ق.م)
Ahab
«أخاب» اسم عبري معناه «أخو الأب»، وهو ابن عمري أحد ملوك المملكة الشمالية. وقد بدأ حكمه نحو عام 871 ق.م. أثرت فيه زوجته إيزابيل ابنة ملك صيدا (وكانت امرأة وثنية) فانقاد لها وأدخل عبادة بعل، وهو ما أدَّى إلى احتدام الصراع بينه وبين الأنبياء. وتحالف أخاب مع الفينيقيين والمملكة الجنوبية ليقف ضد آشور، ونجح هذا التحالف في صد الآشوريين بشكل مؤقت (في معركة قرقار) وإن لم تكن نتيجة المعركة حاسمة. ثم تحالف مع يهوشافاط ملك المملكة الجنوبية، فحاربا معاً ضد آرام دمشق ولكنهما هُزما. وخر أخاب صريعاً في المعركة وسال دمه من مركبته فلحسته الكلاب، كما تنبأ النبي إلياهو.
إيـزابيـل (؟ -843 ق.م)
Jezebel
«إيزابيل» اسم عبري يعني «غير مرتفع». وإيزابيل زوجة أخاب أحد ملوك المملكة الشمالية (871 ـ 852 ق.م)، وابنة إثبعل ملك صور وصيدا وكاهن عشتروت، وقد عقد عمري الزواج بين أخاب وإيزابيل لتقوية العلاقة بين المملكة الشمالية والمدن/الدول الفينيقية. ومن هنا قويت عبادة بعل، وقد تنبأ لها إلياهو بأن الكلاب ستأكلها. وقد قُتلت إيزابيل أثناء انقلاب ياهو (843 ق.م) والذي تم بتشجيع من إلياشع صديق إلياهو.
يهـوشــافـاط (867-846 ق.م)
Jehoshaphat
«يهوشافاط» اسم عبري معناه «يهوه قضى». ويهوشافاط اسم رابع ملوك المملكة الجنوبية وابن الملك آسا. عقد تحالفاً مع أخاب ملك المملكة الشمالية وحارب معه ضدالآراميين، ولكنه هُزم في الحرب (كما قُتل حليفه أخاب). وفيما بعد، تحالف مع يورام وقام بحملة ضد مؤاب وأحكم سيطرته على أدوم. وأسس يهوشافاط أسطولاً بحرياًتجارياً في البحر الأحمر في عصيون جابر (إيلات)، ولكن عاصفة هبَّت عليه أغرقته قبل أن يبحر.
أحـزيــا (852-851 ق.م)
Ahaziah
«أحزيا» اسم عبري معناه «الرب أمسك». وقد سُمِّي بهذا الاسم كل من:
1 ـ ثامن ملوك المملكة الشمالية وهو ابن أخاب وإيزابيل. وقد تخلَّى هذا الملك عن عبادة يهوه واتبع العبادة الوثنية.
2 ـ سادس ملوك المملكة الجنوبية (843 - 842 ق.م) وأمه عثـليا ابنة أخاب. خاض معركة ضد ملك سوريا الآرامي، وقتله ياهو أثناء زيارته ليورام ملك المملكة الشمالية.
ياهو (842-814 ق.م)
Jehu
«ياهو» اسم عبري معناه «هو يهوه». وقد كان ياهو زعيم الانقلاب العسكري في المملكة الشمالية الذي أطاح بأسرة أخاب وقتل أعضاءها، كما قتل أحزيا ملك المملكةالجنوبية الذي كان في زيارة يورام وإيزابيل. حاول القضاء على عبادة بعل عن طريق اغتيال كهنتها ولكنه لم يُوفَّق. قام هو نفسه بعبادة العجول الذهبية فيما بعد، ودفعالجزية لشلمانصر الثالث. ويظهر هذا الملك على المسلة السوداء التي أقامها الملك الآشوري وهو يُقبِّل الأرض ويُقدِّم الجزية.
يــوآش (836-798 ق.م)
Joash
«يوآش» اسم عبري معناه «يهوه قوَّاه» أي منحه القوة، وهو اختصار للاسم «يهوآش». وقد سُمِّي بهذا الاسم ثامن ملوك المملكة الجنوبية (836 ـ 798 ق.م) الذي أعاد عبادة الهيكل لبعض الوقت ولكنه عاد وارتد إلى العبادة الوثنية ودفع الجزية لـملك آرام ثم اغتيل بعد حكم دام نحو أربعين عاماً.
يـوآش (800-784 ق.م)
Joash
«يوآش» اسم عبري معناه «يهوه منحه القوة»، وهو اختصار للاسم «يهوآش». وقد سُمِّي بهذا الاسم الملك الثاني عشر من ملوك المملكة الشمالية (800 ـ 784 ق.م) وهو الثالث في سلالة ياهو. عبد العجل الذهبي واسترجع المدن التي كان الآراميون قد أخذوها بعد هزيمتهم على يد الآشوريين، وهزم أيضاً ملك المملكة الجنوبية ونهب الهيكل والكنوز الملكية.
يُربْعام الثاني (784-748 ق.م)
Jeroboam II
«يُربْعام» اسم عبري معناه «يكثر أو يربو الشعب». ويُربْعام الثاني هو الملك الثالث عشر بين ملوك المملكة الشمالية. اتَّسم حكمه بالازدهار واستتباب الأمن. وفي عهده، وصلت المملكة إلى قمة ازدهارها الاقتصـادي والعسكري والسياسي بسبب ضعف الآشوريين النسـبي وانهـزامهم. وأقام يُربْعــام الثاني مســتعمرات في شرق الأردن،ومنح ضباطه وأتباعه رقعاً كبيرة من الأراضي، فنشأت طبقة من كبار الملاك الأثرياء. وقد انتشرت في عهده عبادة الأوثان، وفي عصره، حذَّر النبيان عاموس وهوشع من مغبَّة الانحلال.
عُزيَّــا (769-733 ق.م)
Uzziah
«عُزِّيا» اسم عبري معناه «مجد الرب». وعُزِّيا أحد ملوك المملكة الجنوبية الذي يُسمَّى أيضاً «عزريا»، وهو ابن إمصيا. وفي عهده تحرَّرت مملكته من هيمنة المملكةالشمالية، فنظَّم الجيش وحصَّن القدس وغزا المدن الفلستية. ترأس حلفاً من ملوك الدويلات التي كانت تعارض آشور حتى أصبحت مملكته الجنوبية أكثر أهمية من المملكةالشمالية.
هوشــع (750-722 ق.م)
Hoshea
«هوشع» اسم عبري معناه «الخلاص». وهوشع آخر ملوك المملكة الشمالية. كان صنيع الآشوريين. ولكنه عاد وتحالف مع المصريين، فهاجمه الآشوريون وفرضوا عليه دفع الجزية، ولكنه امتنع عن دفعها بتشجيع من المصريين. وحين أتى شلمانصر واحتل السامرة، أخذ هوشع أسيراً، وأتم سرجون الفتح وأكمل تهجير (سبي) القبائل الشمالية.
آحــاز (743-727 ق.م)
Ahaz
«آحاز» اسم عبري معناه «هو أمسك»، أي «الرب أمسك». وآحاز هو الملك الحادي عشر من ملوك المملكة الجنوبية. وقد ورد اسمه بصيغة «أحاز».
هاجمت كلٌّ من آرام دمشق والمملكة الشمالية مملكته لترغماه على الانضمام للحلف المعادي لآشور، فطلب آحاز العون من آشور، فهبَّ تيجلات بلاسر الآشوري لنجدتهوقضى على المملكة الشمالية. وقد نتج عن ذلك تبعية دينية للآشوريين إذ شيَّد آحاز مذبحاً في القدس لآلهة آشور كما أدخل كثيراً من العبادات الوثنية الأخرى. وقد اقتحمالفلستيون مدن السواحل وجنوبي مملكته، كما هاجمه الأدوميون.
حزقيــــا (727-698 ق.م)
Hezekiah
«حزقيا» اسم عبري معناه «الرب قد قوى» أو «الرب قوة». وحزقيا هو ابن آحاز ملك المملكة الجنوبية. كان تابعاً لآشور ولكنه حاول أن يستقل عنها، فقام بإصلاح ديني وتحالف مع مصر، ولكن إرميا حذره من مغبَّة ذلك. وقد حاصر سناخريب القدس في عهده وأخضعه واضطره إلى دفع الجزية.
منَسَّــــى (698-642 ق.م)
Manasseh
«منَسَّى» اسم عبري معناه «من ينسى» ويُنطَق أيضاً «منشَّى». ومنَسَّى أحد ملوك المملكة الجنوبية. تبوَّأ العرش بعد حزقيا وحكم يهودا مدة أطول من أي ملك آخر (698 ـ 642 ق.م). ويعتبره كاتب سفر الملوك أسوأ الملوك طراً (ملوك ثاني 21/1 ـ 18). ولكن سفر الأخبار الثاني يقدم صورة أكثر تعاطفاً معه (أخبار ثاني 33/1ـ 20). وقد عاشت المملكة الجنوبية في عصره في سلام إذ أنه دفع الجزية لآشور، وهو ما كان يعني أن الآلهة الأجنبية مثل بعل وآشور كانت تُعبَد في الهيكل.
يوشــيا (639-609 ق.م)
Josiah
«يوشيا» اسم عبري معناه «يهوه يواسي». وقد اعتلى يوشيا عرش المملكة الجنوبية وهو بعد في الثامنة. وكان يرشده في حداثته حلقيا (الكاهن الأعظم) الذي أدار شئون المملكة باسمه. وحين أخذت الدولة الآشورية في الضعف، وتحركت مصر لمساعدة آشور ضد بابل، ساعد هذا على توسيع رقعة استقلال المملكة الجنوبية، الأمر الذي انعكس على الدين والمؤسسة الدينية. وعندما بلغ يوشيا الثامنة عشرة من عمره، عثر شافان (الكاتب) على كتاب سفر الشريعة (نواة السفر المعروف بسفر التثنية) وعلى مجموعة من المواد التشريعية أثناء دفعه أجور العمال الذين كانوا يقومون بأعمال الترميم في الهيكل. وأَخبَر شافان بذلك الكاهن الأعظم حلقيا الذي قرأ السفر على يوشيا.
ومن هنا بدأت الحركة الإصلاحية الدينية الجذرية الاستقلالية المعروفة باسم «الإصلاح التثنوي». وقُرئ السفر على أفراد الشعب، فعاهدوا أنفسهم على عبادة يهـوه دون سـواه، وهـدموا مذابح البعل وأزالوا المرتفعات وحطموا التماثيل. وقـد قُتل يوشيا أثناء محاولته وقف الفرعون نخاو في مجـدو عــام 609 ق.م.
يهــوياقـيم (608-598 ق.م)
Jehoiakim
«يهوياقيم» اسم عبري معناه «يهوه يقيم». ويهوياقيم هو الثامن عشر بين ملوك المملكة الجنوبية. وضعه المصريون على العرش بعد أن هزموا أباه يوشيا وقتلوه عام 608 ق.م. وبعد أن هزم البابليون المصريين عام 605 ق.م، في معركة قرقميـش، نقل يهـوياقيم ولاءه إليهم، ولكنه عاد وانضم إلى الحزب الممالئ لمصر ضد نصيحة إرميا وتحدى نبوختنصر، فعـادت الجـيوش البابلية وحـاصرت القدس. ومات يهوياقيم أثناء الحصار.
يهــوياكــين (598-598 ق.م)
Jehoiachin
«يهوياكين» اسم عبري معناه «يهوه يُثبِّت». ويهوياكين الملك التاسع عشر بين ملوك المملكة الجنوبية وابن يهوياقيم، حكم ثلاثة أشهر بعد موت أبيه. وقد سقطت القدسفي عهده في يد البابليين، فنُفي هو وأسرته إلى بابل، وخلفه عمه صدقياهو.
صــدقيـاه (597-586 ق.م)
Zedekiah
«صدقياه» اسم عبري معناه «يهوه عدل» أو «عدل يهوه». و«صدقياه» هو آخر ملوك المملكة الجنوبية، واسمه الأصلي متنيا بن يوشيا. أجلسه البابليون على العرش بدلاً من يهوياقيم، ولكن صدقياه تمرَّد بتشجيع من مصر على الرغم من نصيحة إرميا. فهاجم نبوختنصر القدس، ووقع صدقياه في الأسر وقُتل أولاده أمامه، وسُملت عيناه وسيق إلى بابل وسُجن حتى وافته المنية.
الباب الخامس عشر: التهجير الآشوري والبابلى
التهجــــير الآشـــــوري والبابلــــي للعبرانيــــين
Assyrian and Babylonian Transfer of the Hebrews
يُشار إلى تهجير العبرانيين على يد الآشوريين أو البابليين بأنه «السبي» أو «النفي» الآشوري أو البابلي. وهي ترجمة شائعة للمصطلح التوراتي وجدت طريقها إلى الكتابات التاريخية التي تتناول تاريخ العبرانيين وتاريخ الشرق الأدنى القديم. لكن هذا المصطلح لا يُستخدَم إلا للإشارة إلى العبرانيين وحدهم دون الأقوام والجماعات الأخرى التي تم سبيها أو تهجيرها في الحقبة التاريخية نفسها وتحت الظروف نفسها وعلى يد القوى نفسها.
وكمحاولة لتحييد المصطلح،نعبِّر عن هذا المفهوم بكلمة «تهجير»،فمن مزايا كلمة «تهجير» أنها تشير إلى حدث التهجير في ذاته بشكل وصفي دون تقييم،كما أنها لا تشير إلى حالة المهجَّرين العقلية ولا إلى موقفهم من الاستقرار في بابل.بينما كلمة «سبي» أو «نفي» تشير إلى حَدَث التهجير وإلى حالة المهجَّرين العقلية، فكلمة «سبي» أو «نفي» تعني أن المهجَّرين كانوا رافضين للاستقرار في بابل، وأنهم مكثوا فيها لأنهم كانوا لا يملكون من أمرهم شيئاً، وهو الأمر الذي لا تسانده الحقائق التاريخية،فكثير منهم رفضوا العودة إلى مقاطعة يهودا الفارسية بعد مرسوم قورش،وهو ما يُسقط عنهم صفة المنفيين المعذَّبين!
وكان التهجير القسري للنخبة الحاكمة والحرفيين وبعض العناصر البشرية ذات الأهمية الخاصة أمراً شائعاً في العصور القديمة. لكن كنعان (فلسطين) كانت عرضة لهذا أكثر من أي بلد آخر نظراً لموقعها الجغرافي والسياسي في المنطقة وسط القوى العظمى في العالم القديم ـ مصر وآشور وبابل (العراق) والحيثيين ـ وهو ما جعلهم يرغبون في تحويلها إلى منطقة محايدة أو منزوعة السلاح أو تحويلها إلى دويلة يقطنها عنصر سكاني موال للإمبراطورية المهيمنة، حتى تصبح خط دفاع أول لتَلقِّي غزوات وهجمات الدول الكبرى المجاورة، مصر من وجهة نظر آشور وآشور من وجهة نظر مصر. ومن هنا، فقد كان تهجير العبرانيين إلى آشور أو بابل ضمن من هُجِّر من شعوب كنعان وقبائلها.
ويبدو أن بعض الإمبراطوريات القديمة في الشرق الأدنى القديم كانت تلجأ إلى التهجير بدلاً من الاحتلال والهيمنة العسكرية المباشرة إذ لم يكن لديها الفائض البشري الذي يسـمح بقيام جيـش نظامي دائم وقـوة احتلال مستمرة وجهاز إداري يدير الأراضي المحتلة، فكانت الإمبراطورية تُهجِّر النخبة وتطلب من المهزومين أن يدفعوا الجزية وأن يديروا شئونهم ذاتياً عن طريق نخبة محلية موالية للإمبراطورية الحاكمة تدين لها بالولاء وتعمل تحت رقابتها وتقوم بدور الجماعة الوظيفية (وهو أمر لم يكن مضموناً دائماً، ومن هنا كان استمرار الثورات وتعددها).
وقد بدأ أول تهجير من المملكة الشمالية بعد أن قاد ملك آرام دمشق تمرُّداً ضد آشور وانضم إليه فاقح، فجرَّد تيجلات بلاسر الثالث حملة ضد سوريا وفلسطين (734 ـ 732 ق.م). وغزا الآشوريون جلعاد وهجَّروا رؤساء القبائل القاطنين شرقي الأردن. وتذكر إحدى وثائق تيجلات بلاسر أنه قام بتهجير عدة آلاف من الأسرى الذكور من ثماني مدن مختلفة.
وعندما سقطت المملكة الشمالية تماماً في يد الآشوريين عام 724 ق.م وتحوَّلت إلى مقاطعة آشورية، تم تهجير رؤساء القبائل والعشائر العبرانية وبعض الفلاحين والحرفيين، ويصل عددهم حسب الرواية الآشورية (المبالغ فيها بوجه عام) إلى 27.290، وتم توطين عناصر سامية وآرامية من بلاد الرافدين وغيرها من الشعوب المساعدة للآشوريين بدلاً منهم، وهذا ما نطلق عليه «التهجير الآشوري» أو ما يُطلَق عليه «السبي الآشوري» في المصطلح الديني اليهودي (721 ق.م). وقد تم توطين المهاجرين أساساً بالمناطق الآشورية في أعالي بلاد الرافدين (آرام نهرايم) على ضفاف نهر الخابور، كما تم توطين البعض في مدن ميديا.
ورغم أن عدد المهجرين على يد الآشوريين كان كبيراً نسبياً ويفوق عدد من هُجِّر على يد البابليين، فقد كانوا عشر قبائل مقابل قبيلتين اثنتين هجرهما البابليون، فإنهم اختفوا تماماً. ويُقال إنهم اندمجوا في محيطهم السكاني وتبنوا العبادات الوثنية ثم اعتنقوا المسيحية. ويبدو أن هذه العملية تمت بسرعة إذ لم يأت لهم ذكر في المدونات الدينية اليهودية أو غيرها من المدونات. ولعل بقايا هؤلاء المهجرين هم سكان إمارة حدياب في الإمبراطورية الفرثية التي اعتنق أهلها المسيحية ثم الإسلام. وهناك من الدلائل ما يشير إلى أن المهجرين لم يتحولوا إلى عبيد وإنما أصبحوا مؤاجرين زراعيين تابعين للملك، في حين عمل الحرفيون منهم في مشروعات الدولة. وقد أحرز بعضهم مكانة متميزة ووصل إلى وظائف حكومية عالية، وسُمح لهم بممارسة عاداتهم وشعائرهم الدينية، كما تَملَّكوا الأرض فضربوا جذوراً في الأرض الجديدة واستُوعبوا تماماً في بيئتهم الجديدة.
وبعد ذلك، سقطت المملكة الجنوبية في يد البابليين الذين هجَّروا بدورهم زعماءها، وسمحوا لعناصر أخرى (أدومية ونبطية وعمونية) بالاستيطان، وهذا ما يمكن تسميته «التهجير البابلي» ويُسمَّى في المصطلح الديني اليهودي «السبي البابلي» (587 ق.م). وقد حمل البابليون، فيما حملوا من غنائم، أواني الهيكل التي كانت تشبه رموز الدولة أو رمز الشرعية السياسية الدينية. وظلت هذه الجماعة العبرانية في بابل إلى أن هزم قورش الإمبراطورية البابلية وسمح لهم بالعودة عام 538 ق.م للأسباب السياسية نفسها التي نُفوا من أجلها، أي ضرورة توطين عنصر سكاني موالٍ له في فلسطين (وهي نفس السياسة التي اتبعها الاستعمار الغربي في أواخر القرن التاسع عشر حينما تَبَنَّى الحل الصهيوني).
وقد استمرت فترة التهجير البابلي حوالى خمسين عاماً، وإن كان هناك رأي يذهب إلى أنها حوالي سبعين عاماً. ونحن لا نعرف عدد المهجَّرين على وجه الدقة. ويُقال إن عددهم كان عشرة آلاف أو عشرين ألفاً، أو أربعين ألفاً في تقدير آخر. وكان مركزهم الأساسي تل أبيب (في العراق). وكان ضمن المنفيين النبيان إرميا وحزقيال. ويجدر هنا إبراز عدة أمور:
أولها: أن التهجير قد شمل عناصر بشرية أخرى كثيرة من أرض كنعان وآرام من غير العبرانيين.
ثانيها: أنه لا التهجير الآشوري ولا التهجير البابلي ترك أراضي فلسطين خراباً، فقد بقي سكان يُعدُّون بمئات الألوف من السكان الأصليين (العبرانيين أوغيرهم)، وخصوصاً أن الريف بشكل عام لم يكد يُمَس.
ثالثها: هذا التهجير أو السبي لم يكن رهيباً على نحو ما تصوِّره بعض الكتابات اليهودية حتى بالقياس إلى ظروف تلك الأيام.
ويذكر إرميا نفسه (53/31 ـ 34) أن نبوختنصر أفرج عن يهوياقين ملك المملكة الجنوبية السابق وقرَّبه إليه، وأن قادة العبرانيين احتفظوا بقدر من السلطان. وقد استمر الأنبياء، مثل إرميا وحزقيال، في نشاطهم، كما ظهر بينهم حجاي وزكريا وأشعياء الثاني. وتم توطين المهجَّرين في مزارع جديدة بالقرب من بابل، مثل تل أبيب وتل ملاح (وتشير كلمة «تل» إلى أماكن كانت مزروعة في الماضي ولكنها خربت وينتظر تعميرها مرة أخرى). وكانت الأراضي التي خُصّصت لهؤلاء المهجَّرين أكثر خصوبة من أراضي فلسطين، وسُمح لهم بالاحتفاظ بعاداتهم وتقاليدهم. وقد ازدهر حال المهجَّرين في بابل، فاتخذوا منها وطناً ثانياً هاجر إليه طوعاً كثير من بني جلدتهم.
وقد انقسمت الجماعة العبرانية المهجَّرة إلى طبقات: فامتلك الأثرياء المزارع الكبيرة، وهاجر الفقراء إلى المدينة واشتغلوا بالتجارة. كما ظهرت بيوت تجارية يهودية كبيرة مثل بيت موراشو، حيث تدل على ذلك نصوص موارشو. وقد أحرزت هذه العائلة شهرة خاصة بصفتها أحـد بيوت المال الكبيرة في عهـد الملك أرتحشـتا الثاني (404 ـ 359 ق.م)، إذ كانت تمتلك الأراضي الزراعية وقطعاناً كبيرة من الأغنام، كما اشتغلت بالربا. ويجب هنا أن نتذكر ازدهار التجارة في الإمبراطورية البابلية.
كما كان هذا البيت التجاري يضطلع بشئون البلاط البابلي المالية، أي أن بيت موراشو كان يشكل جماعة وظيفية وسيطة تشبه يهود البلاط. واشتغل أعضاء الأسرة أيضاً ملتزمي ضرائب، فكانت الشركة تقوم بجباية الضرائب عما تنتجه الأرض من محصولات زراعية، كما كانت تستوفي بنفسها الضرائب المفروضة على الطرق العامة وقنوات الري مقابل الانتفاع منها، أي كانت تقوم بكل أنشطة الجماعة الوظيفية الوسيطة التي اضطلعت بها الجماعات اليهودية عبر التاريخ، وخصوصاً في الغرب.
وقد رفض كثير من اليهود، وخصوصاً الأثرياء، العودة إلى فلسطين بعد مرسوم قورش، واكتفوا بدفع مساعدات مالية للعائدين. ويُقال إن قسماً كبيراً من اليهود العائدين كانوا من أحفاد الأسر الأرستقراطية والكهنوتية ذات المواقع الطبقية والمكانة المتميزة المرتبطة بالهيكل والعبادة القربانية، وهؤلاء استرجعوا بعودتهم بعضاً مما فقدوه من مواقع ومزايا طبقية واجتماعية، وكانوا يعرفون أنهم سيكونون نخبة حاكمة جديدة أو جماعة وظيفية موالية للفرس تدير شئون فلسطين وأهلها لصالح الدولة الحاكمة.
ولم يعد من بابل سوى أقلية قليلة، بسبب معدلات الاندماج العالية التي حقَّقها المهجَّرون. ولعل أكبر دليل على هذا الاندماج ورود أسماء عبرانية، بصورة متكررة، في الوثائق التجارية لذلك العهد. وكان بعض هذه الأسماء مركباً من أسماء آلهة بابلية فاسم «شيشبصر» مثلاً يعني «يا إله الشمس احفظ السيد أو الابن»، كما كان «حجاي» يعني «وُلد يوم عيد» أو «وُلد يوم إجازة»، و«سبتاي» معناه «وُلد يوم سبت»، وكذا اسم «زروبابل» معناه «زرع بابل» أو «المولود في بابل»، وكلها أسماء بابلية. وكان النبي إرميا من أكبر مشـجعي العبرانيين على الاندماج، إذ قـال: « واطلبوا سلام المدينة التي سبيتكم إليها وصلُّوا لأجلها إلى الرب لأن سلامها يكون لكم بسلام » (إرميا 29/7).
وقد انفصل المهجَّرون إلى بابل بالتدريج عن فلسطين، فلقد وجدوا في بابل الرعاية من الفرس بصفة عامة (ومن المسلمين فيما بعد) كما كانوا بعيدين عن اضطهاد الإمبراطورية الرومانية الشرقية. ولذا، فقد كانت بابل وجهة اليهود الذين يُلاقون الاضطهاد في أماكن أخرى من العالم، حتى أن تعدادهم بها زاد نحو المليون عند سقوط القدس في أيدي الرومان وتخريب الهيكل عام 70م. وغدت بابل قلعة لليهودية، وأنشئت بها الحلقتان التلموديتان سورا وبومباديثا اللتان استمرتا قروناً حيث جرى فيهما تأليف أو وضع التلمود البابلي. وفي القرن السابع الميلادي، أصبحت العراق مركز الحياة اليهودية والعلم اليهودي، كما أصبحت ترسل من علمائها رؤساء للحلقات التلمودية في طبرية بفلسطين التي كانت قد غدت (منذ القرن الرابع الميلادي) مدينة مقدَّسة. ولم تنته زعامة بابل لليهودية إلا في القرن العاشر الميلادي، وإن استمر اليهود يعيشون فيها قروناً بعد ذلك.
ويرى أساتذة تاريخ اليهودية أن تَبلور اليهودية على شكل بنية فكر ديني واضح المعالم قد بدأ في بابل ونضج خلال القرن الأول من إقامتهم فيها. ومن المتعذر تعداد جوانب تأثير بابل في اليهودية، ولذلك نكتفي بذكر ما يلي:
1 ـ طوَّر فقهاء اليهود في بابل البنية الدينية لليهودية، وحرَّروها من الارتباط بأرض ومقام معيَّنين، وكرسوا المعبد اليهودي كبؤرة دينية اجتماعية سياسية يلتقي حولها اليهود أينما كانوا، الأمر الذي ساعد اليهودية بعد ذلك على التطور بحيث أصبحت نسقاً دينياً متكاملاً مستقلاً عن مكان بعينه.
2 ـ بلغ الفكر الديني اليهودي في بابل أقصى ازدهار له، وتراكم منه الجزء الأكبر والأهم في التراث اليهودي الذي سيطر على الحياة والفكر اليهوديين حتى اليوم. ويكفي أن التلمود البابلي هو مرجع الحياة اليهودية الذي يحتوي التوراة نفسها ويتجاوزها.
3 ـ اقتبست اليهودية الكثير من تراث بابل ونظمها وأساطيرها وعقـائدها مثل عقـيدة الماشيَّح المخلِّص وفكرة الطـوفان والاحتفال بالسبت.
4 ـ ويبدو أن العبادة البابلية قد دخلت في ذلك التاريخ مرحلة من التوحيد الكامن، أي أن الأرباب المتعددة كانت قد بدأت تمتزج وتتحول إلى إله واحد، وقد أصبح مردوخ رب الأرباب يرعاها كما يرعى الراعي أغنامه، أي أن الأرباب الأخرى تحوَّلت إلى مجرد تجليات للرب الواحد. وقد جاء في أحد النصوص البابلية ما يلي: «نينيب: مردوخ القوة ـ إيرجال: مردوخ الحرب ـ ييل: مردوخ الحكم ـ نابو: مردوخ التجارة ـ سين: مردوخ الذي يضيء الليل ـ ساماسي: مردوخ العدالة ـ آدو: مردوخ المطر». ومعنى ذلك أنه برغم التعدد الظاهر للآلهة، فإن ثمة إيماناً بوحدة كبرى تتجاوز التعددية. وفي إحدى المُدوَّنات البابلية التي يعود تاريخها إلى ما قبل سقوط بابل على يد الفرس، ثمة إشارة إلى رب القمر باعتباره يلعب دوراً مشابهاً لدور آتون في عبادة إخناتون التوحيدية. ويبدو أن هذه التوحيدية البابلية لعبت دوراً في مساعدة العبرانيين على التخلُّص من الحلولية الوثنية والتعددية التي سقطوا فيها بعد خروجهم من مصر. وقد بذل محررو العهد القديم جهداً غير عادي لتنقية النص المقدَّس عند تدوينه أيام عزرا ونحميا، ولكن عناصر الشرك ظلت واضحة فيه مع هذا.
5 ـ تأثر النظام الصوتي في اللغة العبرية بكثير من مفردات وأنظمة اللغة الأكادية وبخاصة الحروف اللينة.
ومن كل هذا، نَخلُص إلى أن التهجير (أو السبي) البابلي لم يكن سبباً في تدهور اليهودية وانحلالها وإنما كان مصدراً لعديد من الأفكار اليهودية الدينية والثقافية. ولذا، فإن كثيراً من المفكرين اليهود يرون أن اليهودية بدأت كدين، بالمعنى الكامل للكلمة، في المهجر البابلي.
الســـــبي الآشـــــوري والبــــابلي (مفهــــوم دينـــي)
(Assyrian and Babylonian Captivity (Religious Concept
«السبي الآشوري والبابلي» مصطلح ديني يهودي مرادف لمصطلح «النفي البابلي»، وهو مصطلح يصف عملية تهجير النخبة الحاكمة العبرانية من أبناء المملكـة الشـمالية والمملكـة الجنوبيـة. وكان بعض الأنبياء، مثل إرميا وحزقيال، يرون أن النفي أو السبي تعبير عن غضب الإله على الشعب نظراً لعصيانه وانحرافه عن عبادته، وأن آشور وبابل ليستا سوى أداة غضب وعذاب. وقد أثارت قصة السبي مشكلة عدالة الإله وكيف تَخلَّى عن شعبه. وقد حل حزقيال المشكلة بحديثه عن يسرائيل الجديدة التي سيتم تشييدها والتي ستكون مفعمة بروح الإله إن عاد الشعب إلى طريقه.
ويتواتر في الكتب الدينية الحديث عن العودة وعن الحنين إلى صهيون وعن البكاء من أجلها. ومع هذا، طالب إرميا المنفيين بأن يبنوا بيوتهم ويزرعوا حدائقهم ويستقروا في وطنهم الجديد، ففي سلامته سلامتهم (إرميا 29/7 وما بعده).
وبعد أن هزم قورش الأخميني بابل، سمح لليهود بالعودة (538 ق.م)، ولذا تحوَّل قورش في الوجدان الديني اليهودي إلى المخلِّص بل والماشيَّح. وبشَّر كلٌّ من أشعياء الثاني وحجاي بالعودة، وقد عاد الاثنان بالفعل واشتركا في عملية إعادة تشييد الهيكل بناءً على أمر قورش.
وقد أصبح السبي أو النفي إلى بابل ثم الخروج منها والعودة إلى فلسطين، مثله مثل العبودية في مصر ثم الخروج منها والتسلل إلى كنعان والاستيلاء عليها، نمطاً متكرراً يعيد نفسه في التاريخ المقدَّس. ويحاول الصهاينة أن يُطبّقوا ذلك على التاريخ غير الديني. وداخل هذا النمط، يرى الصهاينة أن النفي من القدس، بعد تحطيم الهيكل في عام 70م، شكل من أشكال العبودية يتبعه خروج من الشتات ثم دخول إلى فلسطين، أي أن الاستيطان الصهيوني الذي يُشار إليه بأنه الهيكل الثالث جزء من نمط متكرر.
ولكن كلمة «بابل» أصبحت تحمل إيحاءات أخرى، ذلك أن كثيراً من المنفيين رفضوا العودة واستعذبوا الحياة في بابل. ومن ثم، فإن الأدبيات الصهيونية تشير إلى الولايات المتحدة باعتبارها بابل (أو قدور اللحم الشهية)، كما يُشار إلى اليهود الذين يؤثرون الحياة خارج فلسطين على الاستيطان فيها بأنهم سكان بابل.
النــــــفي الآشـــــوري والبابــــلي
Assyrian and Babylonian Captivity
انظر: «السبي الآشوري والبابلي (مفهوم ديني)» - «التهجير الآشوري والبابلي للعبرانيين».
يهوديت
Judith
«يهوديت» اسم عبري يعني «يهودية»، وتشبه قصة صاحبته قصة إستير في كثير من الوجوه، كما أن لها علاقة بقصة شمشون. وقد جاء في هذه القصة أن نبوختنصر هاجم العبرانيين واستولى على المنابع التي تمدُّهم بالماء وأوشك أن يقضي عليهم، فاتصلت يهوديت بقائد نبوختنصر هولوفرنيس وفتنته بجمالها، فأعجب بها وأخذ يلتقي بها. وفي إحدى الليالي، قطعت رأسه بعد أن لعبت به الخمر وأنقذت العبرانيين. ولا يُوجَد أي سند تاريخي لهذه الواقعة.
ويبدو أن سفر يهوديت كُتب أثناء التمرد الحشموني، كما يبدو أنه كُتب لبّث روح الشجاعة في قلوب اليهود. ولكن هناك رأياً مخالفاً يعود بتاريخ الكتاب إلى أيام الفرس. وقد كُتب هذا المؤلَّف أساساً بالعبرية، ولكن لم يَعُد باقياً سوى ترجمته اليونانية. وهو من الكتب الخفية (أبوكريفا) عند اليهود وتعتبره الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية منالأسفار القانونية الثانوية.
قبائل يسرائيل العشر المفقودة
Ten Lost Tribes of Israel
هناك بعض الأساطير الخاصة بمصير القبائل العشر من سكان المملكة الشمالية. ومن المعروف تاريخياً أنه بعد انقسام المملكة العبرانية المتحدة إلى مملكتين متنازعتين (المملكة الشمالية والمملكة الجنوبية)، انقسمت القبائل العبرانية الاثنتا عشرة إلى قسمين: عشر قبائل منها في المملكة الشمالية، وقبيلتا يهودا وبنيامين في المملكة الجنوبية. وحينما سقطت المملكة الشمالية في أيدي الآشوريين عام 721 ق.م، هجَّر الآشوريون أعداداً من القيادات الشمالية وغيرهم من العناصر البشرية المهمة إلى آشور حيث اندمجوا في المجتمع وانصهروا فيه بالانخراط في سلك الديانات الوثنية العديدة، وقد تمت هذه العملية بسرعة غير عادية. ولهذا، فإن يهود بابل الذين هجَّرهم البابليون عام 587 ق.م إلى مناطق قريبة من مناطق التهجير الآشوري لا يشيرون إلى ذلك التهجير الآشوري مع أنه لم يكن قد مر سوى نحو مائة وثلاثين عاماً فقط. ولعل سرعة ذوبان المهجَّرين يعود إلى أن المملكة الشمالية كانت، إلى حدٍّ ما، مملكة كوزموبوليتانية، عقدت تحالفات كثيرة فدخلت على العبادة اليهودية فيها عناصر وثنية من الديانات المجاورة. وهناك نظرية ترى أن انصهار الشماليين لم يتم بهذه السرعة، وتذهب إلى أن عناصر يهودية بقيت وشكلت جماهير إمارة حدياب. لكن الرأي الأرجح أن إمارة حدياب اليهودية قد أصبحت يهودية لا بسبب كثافة بشرية يهودية، وإنما بسبب تَهوُّد النخبة الحاكمة. وعلى كل حال، فقد تم انصهار العناصر اليهودية المشار إليها عن طريق التنصر. ويلاحظ أن أسماء أساقفة إربيل (عاصمة حدياب) كانت أسماء عبرانية مثل شمشون وإسحق وأبراهام. أما الشماليون الذين مكثوا في فلسطين، فقد امتزجوا بالمستوطنين الجدد وكونوا فرقة يهودية جديدة تُعرَف باسم السامريين.
ولكن كثيراً من اليهود لم يتقبلوا اختفاء القبائل العشر باعتباره حقيقة نهائية، بل فضلوا اعتبارهم من المفقودين وحسب. ولذا، فإننا نجد أن التراث الديني اليهودي، وأدبيات هذا التراث، يزخران بتصورات عديدة عن محل إقامتهم المحتمل ووجودهم، كما يزخران بنبوءات عن عودتهم إلى وطنهم ليتحدوا مع بقية اليهود. وقد ربطت هذه النبوءات بين العودة وزمن الخلاص، وأصبح البحث الحرفي والفعلي عن القبائل العشر الضائعة محطَّ اهتمام كثير من الرحالة الأوربيين من اليهود والمسيحيين المتأثرينبمثل هذه الكتابات والذين تأثروا بجو التوسع الاستعماري. وحينما اكتُشفت القارتان الأمريكيتان، قيل آنئذ إن سكانها هم القبائل العشر. أما في العصر الحديث، فقد أعلنالرحالة الذين عثروا على قبائل الفلاشاه اليهودية في إثيوبيا أنهم عثروا على القبائل العشر المفقودة، وقد أفتى حاخام إسرائيل الأكبر (السفاردي) بأن الفلاشاه من نسل قبيلة دان.
والمهم في هذه الأسطورة أنها، في بنيتها، لا تختلف كثيراً عن أسطورة الماشيَّح في تفسيرها الحرفي، إذ تُلغي الواقع التاريخي وحقائقه وتجعل المؤمن بها في حالة انتظار أزلي لتحقُّق تصورات أسطورية، الأمر الذي يجعل عيون الإنسان معلقة بالبدايات والنهايات دون أن يُلاحظ ما حوله. هذا بالإضافة إلى أن أسطورة القبائل العشر المفقودة تستند إلى تَصوُّر استحالة الاندماج والانصهار بالنسبة إلى اليهود.
جداليـــا ( ؟ -585 ق.م)
Gedaliah
«جداليا» اسم عبري معناه «يهوه عظيم». وجداليا اسم قائد يهودي من أسرة أرستقراطية عُيِّن حاكماً لمقاطعة يهودا البابلية بعد سقوطها في يد البابليين في عام 586 ق.م. وقد حاول أن يعالج الأمور بحكمة. ونقل العاصمة إلى مصبه (المصفاة). ولكن مجموعة من المتمردين قتلته، كما يُقال، بتحريض من مصر أو من العمونيين (وقد فرَّ المتمردون إلى مصر). وفي الواقع، فلا يُعرَف الكثير عن دوافعهم، ولكن من المعروف بشكل عام أنهم كانوا يعارضون مصادرة أملاك اليهود المنفيين وتوزيعها علىفقراء القدس الذين يشكِّلون معظم السكان المتبقين بعد عملية التهجير. كما أن اغتياله يُعَدُّ تعبيراً عن رفض الهيمنة البابلية الجديدة.
ويصوم اليهود صيام جداليا بعد عيد رأس السنة اليهودية إحياءً لذكرى اغتياله، إذ قُضي بمقتله على أي أمل في الإبقاء على الجماعة اليهودية في فلسطين.
الجزء الثاني: تواريخ الجماعات اليهودية في العالم الإسلامي
الباب الأول: الشرق الأدنى القديم قبل وبعد انتشار الإسـلام
الشـــرق العـــربي قــبل وبعــد انتشـــار الإســــلام
The Arab East before and after the Spread of Islam
من غير المعروف متى استقر اليهود في شبه الجزيرة العربية. ويُقال إن بعض جماعات من اليهود لجأت إلى شمال شبه الجزيرة عندما هزمت آشور وبابل المملكتين اليهوديتين (المملكة الشمالية والمملكة الجنوبية). ويذهب رأي إلى أن الاستقرار بدأ بعد أن أخمد الرومان التمردات اليهودية المختلفة. ولم تتم الهجرة إلى شبه الجزيرة العربية دفعة واحدة وإنما أخذت على الأرجح شكل جماعات مختلفة استوطنت في تيماء وخيبر ووادي القرى ويثرب. كما كان هناك أعداد من اليهود في اليمن. وقد ازدادت أعداد يهود شبه الجزيرة واليمن عن طريق التجارة والتبشير حيث أدَّى ذلك إلى تهود بعض القبائل. ويذهب اليعقوبي إلى أن يهود شبه الجزيرة العربية من أصول عربية، أي أنهم عرب تهودوا، ولكن لا يميل بعض الباحثين إلى الأخذ بهذا الرأي. وثمة رأي يذهب إلى أن اليهودية كانت دين ملوك حمير في اليمن في القرن الخامس الميلادي، ولكن هذا الادعاء يفتقر إلى التوثيق. ومن المعروف أن الصراع على طرق التجارة بين البيزنطيين وحلفائهم الأحباش من جهة، ومن جهة أخرى الحميريين ممن كانوا قد سيطروا على الممالك العربية في جنوب شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام، كان قد أخذ طابعاً دينياً. وقد تهود الملوك الحميريون وربما بعض أعضاء النخبة الحاكمة وبعض أفراد الشعب، لكن تهودهم كان شكلاً من أشكال الرفض السياسي والرغبة في تبنِّي عقيدة دينية مستقلة تضمن لهم شيئاً من الهيبة والاستقلال، كما فعلت النخبة الحاكمة في دولة الخزر الوثنية. فاعتناقهم اليهودية آنذاك كان يعني التصدي لمحاولات التسلط من قبل الإمبراطورية الرومانية الشرقية على أطراف شبه الجزيرة العربية عن طريق المبشرين الذين جرى بثهم بين أهل الحضر وأهل البادية دون أن يخشوا على أنفسهم من أية تبعية سياسية إذ لم يكن لليهود آنذاك دولة.
ويُقال إن تبان أسعد أبو كرب (378 ـ 415) اهتدى إلى اليهودية عند اجتيازه يثرب وهو عائد إلى اليمن على يد حبرين (أي حاخامين) من بني قريظة. ويُقال أيضاً إن اليهودية ظلت ديناً رسمياً لبلاد العرب الجنوبية طيلة حكم السبئيين المتأخرين من سنة 400 حتى 525، وأن آخر ملوكهم هو ذو النـواس (517 ـ 525) الذي شن حملة نكَّل فيها بالمسيحيين، فهاجم نجران (أكبر مركز للمسيحية) وخيَّر أهلها بين الارتداد عن دينهم واعتناق اليهودية أو الموت حرقاً. فآثر بعضهم الموت فحفر لهم أخاديد أحرقهم فيها وأحرق إنجيلهم، ولقد وردت هذه الحادثة في القرآن الكريم (سورة البروج). وأثارت هذه الواقعة غضب قيصر الإمبراطورية الرومانية الشرقية، فاتصلبنجاشي الحبشة الذي جرَّد حملة للانتقام، فخرج ذو النواس لهم وانهزم هزيمة نكراء، وانتهى بذلك ملك الحميريين في اليمن. وقد اندمج يهود شبه الجزيرة واليمن فيالسكان العرب وتزاوجوا معهم، وأصبح طابعهم عربياً صرفاً، فانتظموا في قبائل وبطون وأفخاذ مثل العرب ودخلوا في التحالفات القَبَلية بما يتضمنه ذلك من مسئولياتقَبَلية مشتركة وصراعات شبه دائمة.
ويرد ذكر عشائر يهودية كثيرة، مثل بني عكرمة وبني زعورا وبني زيد وبني ثعلبة، ولكن أكبر التجمعات اليهودية كانت في يثرب حيث كانوا أصحابها، وكانت يثرب واحة خضراء وتُتعبَر إحدى المحطات التجارية المهمة في طريق التجارة الرئيسي آنذاك الممتد بين مكة والشام، والمبتدئ داخل شبه الجزيرة العربية بعدن في الجنوب، وبعد انهدام سد مأرب (447 - 450) وفد إلى يثرب قبائل الأوس والخزرج، فجاوروا القبائل اليهودية في بداية الأمر ثم تزايدت أعدادهم بمرور الوقت فراحوا ينافسون اليهود في تملُّك الأراضي الزراعية فازدادت قوتهم وهو ما دفع عدداً من البطون اليهودية، الأقل شأناً، أن تدخل في حماهم وتنتسب إليهم، في الوقت الذي دب فيه العداء بين جماعات اليهود الكبرى. وبالتدريج أصبحت الغلبة والسيادة في يثرب للأوس والخزرج فسيطروا على يثرب وقسَّموها فيما بينهم، ولم يبق لليهود منذئذ سلطان عليها. وكان التجمع اليهودي في يثرب يضم ثلاث قبائل، اثنتان منها يُقال لهما بنو هارون لكونهما من الكهنة وهما بنو النضير وبنو قريظة، وكان أعضاء هاتين القبيلتين يعملون بالزراعة. أما القبيلة الثالثة فهي قبيلة بني قينقاع، وكان أعضاؤها يحترفون بعض المهـن كالحـدادة والصباغة وصناعة السـيوف ويمارسـون المبادلات التجارية. وكانأعضاء هذه القبائل الثلاث يعيشون في أحياء خاصة بهم ويقيمون الحصون للاحتماء بها.
ولم يكن عدد اليهود كبيراً، فقد كان عدد المقاتلين في كل قبيلة لا يتجاوز بضع مئات من الرجال. فمقاتلو بني قينقاع كانوا نحو سبعمائة شخص، ومقاتلو بني النضير نحو أربعمائة وخمسين شخصاً، أما بنو قريظة فكان عدد مقاتليهم يتراوح بين ستمائة وسبعمائة شخص، أي أن مجموع مقاتلي القبائل اليهودية الثلاث في المدينة لم يكن يتجاوز في عصر الرسالة ألفي رجل. ويمكننا أن نخمِّن العدد الكلي ليهود المدينة استناداً إلى هذا الرقم.
وكان يوجد تجمُّع يهودي آخر في خيبر وهي واحة تقع على الطريق بين المدينة والشام على مسافة مائة ميل إلى الشمال من يثرب. ويبدو أن معظم سكان خيبر، إن لم يكن جميعهم، كانوا من اليهود. ولم تصل إلينا معلومات واضحة عن تركيبهم القَبَلي، وهل كانوا ينتمون إلى قبيلة واحدة أم كانوا ينتمون إلى عدة قبائل. ولكن يُستنتَج من دراسة علاقتهـم بيهـود المدينة أنهم كانت تربطهـم علاقـة وثيقـة بقبيلـة بني النضير. لذا، فقد لجأت هذه القبيلة إلى خيبر بعد أن أجلاها الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن المدينة، وأخذ زعماؤها يلعبون دوراً قيادياً في سياسـة مدينة خيبر ودفعهـا باتجاه محاربة الرسـول (صلى الله عليه وسلم)، كما حدث في غزوة الخندق.
وكان يهود خيبر يعيشون بصورة أساسية على الزراعة بسبب خصوبة أراضي خيبر وكثرة مياهها. وكانت أهم مزروعاتها النخيل والحبوب وبعض الخضراوات. كمااشتغل يهود خيبر بتربية بعض أنواع الحيوانات كالماشية والدجاج وغيرها.
وقد فرضت طبيعة الحياة الزراعية على يهود خيبر أن يسكنوا جماعات متفرقة قرب العيون وجداول المياه، وهو ما جعل خيبر أقرب ما تكون إلى مجموعة قرى متناثرة في الأودية. وعمدت كل مجموعة من يهود خيبر إلى بناء حصن خاص بها لتحتمي به في أوقات الحروب. ولقد ذكر المؤرخون أنها سبعة حصون أساسية. وقد يدل تعدُّد الحصون في خيبر على انقسام أهلها إلى سبع كتل متفرقة بحيث لجأت كل كتلة إلى بناء حصـن خـاص بها للدفاع عن نفسـها كما فعلت القبائل اليهودية في يثرب. ولم تقدم لنا المصادر التاريخية معلومات محددة عن عدد سكان أو مقاتلي خيبر، ولكن يبدو أنه كان صغيراً وربما مقارباً لعدد المقاتلين في جيش الرسول صلى الله عليه وسلم، أي في حدود ألف وأربعمائة رجل على أكبر تقدير.
أما بقية المناطق التي سكن فيها اليهود، مثل فدك وتيماء ووادي القرى، فقد كانت واحات صغيرة تقطنها مجاميع يهودية محدودة العدد إلى جانب بعض السكان العرب. ولكن لم تصل إلينا معلومات واضحة عن أعدادهم أو طرق معيشتهم أو أوضاعهم السياسية والثقافية. ولكن يظهر من الإشارات التي أوردتها بعض المصادر التاريخية أن حالتهم لم تكن تختلف كثيراً عن يهود يثرب وخيبر إذ كان معظمهم يشتغلون بالزراعة ويرتبطون بعلاقات تحالف مع القبائل العربية المجاورة لهم حمايةً لأنفسهم في مواجهة المخاطر. وكانت هناك قبائل يهودية أخرى تسكن اليمن ونجران في جنوب الجزيرة العربية.
وكان اليهود يخضعون في نظامهم السياسي والاجتماعي لرؤسائهم وساداتهم أصحاب الآكام والحصون والأرض، يدفعون لهم ما هو مفروض عليهم أداؤه كل عام. وكان يتولى الأحبار أو الربانيون (أي الحاخامات) الأمور الدينية، فيقيمون الصلاة وينظرون في شكاوى الناس ويعلمون الأولاد.
ولم يكن اليهود كتلة واحدة متماسكة من الناحية السياسية، فقد اتحد بنو النضير وبنو قريظة مع الأوس ضد بني قينقاع الذين انضموا إلى الخزرج. وانعكست الصراعات بين الأوس والخزرج على قبائل اليهود. وحين دخلت قبائل يثرب وبطونها معركة ضارية في يوم بعاث، حارب بعض قبائل اليهود ضد البعض الآخر، وبالغ بنو النضير وبنو قريظة في قتل أفراد بني قينقاع. ويظهر عدم التماسك أيضاً في اشتراك يهودي يدعى مخيريق إلى جانب المسلمين في معركة أُحُد حيث قال: إن أُصبت فـ [إن] مالي لمحمد يصنع فيه ما يشاء، ثم غدا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقاتل معه حتى قُتل فقال الرسول (صلى الله عليهم وسلم): «مخيريق من خير اليهود».
وقد وصل اندماجهم الاجتماعي إلى درجة أن أصبحت العربية لغتهم الوحيدة وإن شابتها رطانة عبرية أو آرامية حتى عدها بعض العرب لهجة خاصة بهم. وقد ظهر بينهم من شعراء العربية: السموءال بن عادياء من بني قريظة، وكعب بن الأشرف من بني النضير (وكان ابن الأشرف ينتسب إلى أب عربي من قبيلة طيء وأم يهودية). ويضاف إليهما شعراء آخرون، مثل: الربيع ابن أبي الحقيق (الذي كانت له مساجلات شعرية مع النابغة الذبياني)، وسعيه بن غريض، وشريح بن عمران. كما ظهرتبينهم شاعرة تدعى سارة القرظية. وهؤلاء الشعراء كانوا يلتزمون القواعد والأساليب نفسها التي يلتزمها شعراء العربية في شعرهم. ويُلاحَظ أنه لا يوجد في شعرهم أي أثر للتوراة أو لفكر ديني يهودي مستقل. وقد سادت بين اليهود القيم العربية مثل الفخر بالشجاعة وإكرام الضيف والمروءة والعصبية القبلية والثأر وأخذ الدية والتحالف. ومن أسمائهم يبدو تعرُّبهم واضحاً ولا تُوجَد أسماء تحمل نكهة عبرية سوى قلة مثل بني زعورا.
ولا يرد ذكر يهود الجزيرة العربية في المراجع اليهودية أو غير اليهودية قبل بعث الرسول (صلى الله عليه وسلم) نظراً لانقطاع علاقتهم ببقية يهود العالم. وكانت علاقتهم بيهود فلسطين، الذين كانوا يتحدثون الآرامية، علاقـة تجاريـة لا تختلف عن علاقـة القبائل العربيـة الأخرى بهم. بل إن هناك من القرائن ما يدل على أن يهود دمشق وحلب لم يكونوا (في القرن الثامن الميلادي) يعتبرون يهود الجزيرة العربية يهوداً على الإطلاق نظراً لأنهم لم يكونوا يعرفون التلمود وإن عرفوه لم يخضعوا لقوانينه. ويبدو أن يهوديتهم كانت تتلخص في الإيمان بعقيدة التوحيد والعهد القديم. وكان حاخاماتهم يقرأون العهد القديم بالعبرية ثم يشـرحونه بالعربيـة لمسـتمعيهم. وكان اليهـود يعرفون بعض كتب المدراش. ويُقال إن اليهودية التي اعتنقها عرب الجزيرة كانت أشبه بحزب قَبَلي أكثر من كونها ديناً له أصول وأبعاد كدين يهود فلسطين، إذ كان مجرد اعتناق أحد رؤساء القبائل أو البطون أو الأفخاذ للديانة اليهودية يؤدي تلقائياً إلى تهوُّد أتباعه. ومع هذا، لا يمكن استبعاد وجود طبقة حلولية قوية في عقائد يهود الجزيرة العربية. ويعود هذا ولا شك للوثنية العربية المحيطة بهم. وتظهر الحلولية وبقوة في فكر عبد الله بن سبأ (أو السبئية إن أخذنا بالرأي الذي يذهب إلى أنه شخصية غير تاريخية).
وجاء الإسلام لينظر باحترام إلى تعاليم التوراة الأصلية. وكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يتوقع ترحيب اليهودية ومساعدتهم للمسلمين لأنهم أهل كتاب، فعاملهم بانفتاح ووضع كتاباً بين الجماعة الإسلامية وبينهم في المدينة ينظم الشئون المشتركة ويوجب التساند في وجه الخطر الخارجي على وجه الخصوص ويجعلهم أمةً واحدة. ولكنهم سـرعان ما وقفوا منه موقفاً اتسـم بالسـلبية ثم تدرَّج إلى المقاومـة والتأليب، وأخذت المواجهة في البداية شكل الحرب الفكرية والدعاية المضادة. فقد تحدوا الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالمناقشات وطالبوه بالمعجزات، وأظهر أحبـارهم التعنت في الجدل والأسـئلة ثم تدرَّج الحال إلى الخصومة. بل لقد بلغ الأمر حد أن اليهود (وهم أصحاب عقيدة توحيد) أخبروا قريشاً أن عقيدتهم الوثنية أفضل من دين محمد، وهو تزييف واع للحقائق. وجاء التنزيل يلوم اليهود ويعنفهم ويتهمهم بتحريف الكلام عن مواضعه وتحوير التوراة والإضافة إليها. وحاول اليهود إثارة الشكوك في نفوس بعض المسلمين لزعزعة ثقتهم. وقد أشار القرآن الكريم إلى وجود اختلاف بين بني إسرائيل (واليهود) في فهم كتاب الله وتفسيره وإلى انقسامهم تبعاً لذلك شيعاً وأحزاباً، واتهموا ببغض المسلمين وبالإخلال في الأمانات (وثمة رأي يذهب إلى أن كلمة «بني إسرائيل» كما وردت في القرآن لا تشير بالضرورة إلى يهود الجزيرة العربية، وإنما تشير إلى اليهود في الماضي باعتبارهم أتباع العقيدة اليهودية). وقد استمر اليهود في خصومتهم، وحاولوا إثارة الأحقاد القديمة بين الأوس والخزرج، كما اتصلوا بخصوم الجماعة الإسلامية وهو ما ولَّد أزمة سياسية.
وتصاعد الصراع الفعلي مع اليهود بعد غزوة بدر نتيجة تخوف اليهود من ارتفاع شأن المسلمين وخصوصاً أنهم كانوا يظنون أن النصر الذي تحقَّق للمسلمين في بدر جاء اعتباطاً أو في غفلة من الزمن. فبدأ الصراع مع بني قينقاع (أقوى الجماعات اليهودية التي شملتهم المعاهدة مع المسلمين) الذين كانوا يسكنون داخل المدينة (يثرب سابقاً)، كما كانوا أغنياء جلهم صاغة، ويعتمدون على مساندة الخزرج. كذلك كانوا يعتدون بقوتهم العسكرية. ويُفهَم من كتب السيرة أنهم أظهروا بوادر التحدي ثم التحرشبالمسلمين.
وذهب كعب بن الأشرف إلى مكة بعد بدر يُحرِّض أهلها على الأخذ بثأرهم والانتقام من الرسول (صلى الله عليه وسلم) والمسلمين قبل أن يثبت سلطانهم وتقوى شوكتهم. ولم يكتف بذلك، إذ عندما عاد إلى المدينة استخدم شعره في التشبيب بنساء المسلمين والخوض في أعراضهم، ثم راح يطعن في الرسول (صلى الله عليه وسلم) ويُحرِّض الناس على الخلاص منه. وحدثت مشادة في سوق الصاغة التي كانت ليهود بني قينقاع أدَّت إلى مقتل يهودي ومسلم وأراد الرسول (صلى الله عليه وسلم) تهدئة النفوس في ضوء احترام عقد الموادعة بين الطرفين، ولكن يهود بني قينقاع رفضوا فأمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بحصار دورهم واستمر الحصار خمسة عشر يوماً حتى أعلن اليهود استسلامهم. وقد كان من رأي المسلمين أن يقتلوهم جميعاً، وكان عددهم سبعمائة رجل، لكن الرسول قَبل ساطة عبد الله بن أبيّ وعبادة بن الصامت على أن يجلوا عن المدينة وسُمح لهم بالهجرة فخرجوا إلى أذرعات الشام، وأخذ الرسول (صلى الله عليه وسلم) أموالهم وأبقى لهم ذراريهم ونساءهم.
وفي أُحُد، رفض اليهود الاشتراك مع المسلمين كما يفترض العهد بين اليهود والمسلمين، وتعللوا بأنه يوم سبت. بل كان هوى بني النضير مع المشركين. واتخذ بعضهم (مثل كعب بن الأشرف) موقفاً استفزازياً بندب قتلى بدر والتحريض على المسلمين. كما أخذ بعضهم يزيد في التشكيك والتحرش، ووجدوا تشجيعاً من المنافقين معتمدين على حلفهم مع الأوس. وقد استقبل زعيم بني النضير سلام بن مشكم أبا سفيان بن حرب عندما قدم من مكة في مائتين من أهلها وأغار على أطراف المدينة وأحرق دارين وقتل رجلين وقفل عائداً إلى مكة. وقد أطلعه ابن مشكم على أسرار المسلمين. وقام أحدهم (عمرو بن جحش) بمحاولة اغتيال الرسول، بعد عقد العهد (أي المعاهدة) بين المسلمين واليهود. واعتبر الرسول هذا التصرف دليلاً على نقضهم العهد. وكانت قريش قد بدأت تجمع جموعها للفتك بالمسلمين. ولتأمين جبهتهم الداخلية أعطاهم الرسول إنذاراً بالرحيل عن المدينة فرفضوا وأخذوا يتحصنون ويعدون أنفسهم لحرب طويلة. وجاء ذلك على لسان زعيمهم حُييّ بن أخطب. وازداد صلف بني النضير عندما وعدهم زعيم المنافقين عبد الله بن أُبي بالدعم (هذا رغم أنه كان قد وعد بني قينقاع ثم تخلى عنهم عندما صمَّم الرسول على إجلائهم). واستمر القتال عشرين ليلة ولكن بنيالنضير استسلموا في نهاية الأمر فسمح لهم الرسول بالخروج من المدينة ومعهم ما تحمل الإبل إلا الدروع (حسب طلبهم) وخرجوا حيث نزل بعضهم خيبر، ونزل آخرون بالشام. ويُلاحَظ أن بني قريظة حلفاء بني النضير لم يمسهم سوء لأنهم أبقوا على العهد.
وكان لليهود دور كبير في خروج الأحزاب وفي غزوة الخندق. فبدأوا يهيجون ضد المسلمين واستجابت لهم جماعات (أحزاب) كثيرة فزحفت على المدينة. فحفر المسلمونخندقاً وضُرب الحصار على المدينة لمدة شهر. وخلال ذلك كان زعيم بني النضير، حييّ بن أخطب يُحرض كل قبائل العرب الذين كانوا ما يزالون على وثنيتهم ضد مُحمّد وأصحابه، وسعى جاهداً إلى أن يجعلها حرباً عامة تضم سكان شبه الجزيرة العربية من الوثنيين واليهود المنافقين في المدينة لاستئصال شأفة الإسلام؛ فقدم إلى قريش في مكة وذكَّرها بقتلى بدر وضياع سيادتها على الطريق التجاري إلى الشام إذا ازدادت قوة المسلمين في المدينة. وسألت قريش وفد اليهود « يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول وأهل العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومُحمّد، أفديننا خيرٌ أم دينه؟ » وأعماهم الحقد فأجابوا « بل دينكم خيرٌ من دينه وأنتم أولى بالحق منه »!
والقرآن الكريم يشير إلى ذلك في آيات صريحة جاء فيها: «ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا. أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا » (النساء 51 ـ 52).
هكذا أثار اليهود من جديد ثائرة قريش ضد المسلمين، وفعلوا ذلك أيضاً مع قبائل غطفان من قيس عيلان ومن بني مُرة ومن بني فزارة ومن أشجع ومن سليم ومن بني سعد ومن أسد وغيرهم. وأتم ذلك كله حيي بن أخطب بإغراء يهود بني قريظة بالدخول في هذا الحلف مع الأحزاب، ونقض عهدها مع الرسول، وعلى الرغم من أن زعيمهم كعب بن أسد تردد في أول الأمر، إلا أن حيي بن أخطب ما زال به حتى انضم لقريش وحُلفائها من يهود ووثنيين.
وكانت خطورة انضمام بني قريظة إلى هذا الحلف، أنهم كانوا يقيمون في المنطقة التي لم يمتد إليها الخندق الذي حفره المسلمون حول المدينة عندما علموا بمقدم الأحزاب، اعتماداً على أن بني قريظة تحمي هذه المنطقة وفاءً لعهدها مع الرسول، ومن ثم كان هذا يعني دخول الحلفاء إلى المدينة والقضاء على المسلمين بداخلها عن طريق بوابة قريظة هذه، ولما سمع الرسول بغدرهم أرسل لهم سعد بن معاذ سيد الأوس (لأنه كان هو وجماعته من حُلفاء بني قريظة) وسعد بن عبادة سيد الخزرج فقابلا كعب بن أسد وحذَّراه من مغبة الغدر، فسخر منهما. ونجح أحد المسلمين في زرع الشكوك بين الأحلاف، وفشـلت الحملة. وعندئذ هاجم الرسول (صلى الله عليه وسلم) بني قريظة،فخارت قواهم وطلبوا العفو لكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) تنازل لسعد بن معاذ سيد الأوس عن حقه في اتخاذ القرار ليحكم في أمرهم.
ولعل سعد بن معاذ فكَّر فيما قام به بنو النضير من نشاط ضد المسلمين بعد خروجهم من المدينة وتحريضهم لبني قريظة. وقد رأى سعد بن معاذ بنفسه إصرار بني قريظة على الخيانة ورفضهم النصح. فحكم على الرجال (أي العناصر العسكرية) بالقتل وسبي الذراري والنساء، باعتبار أن ما ارتكبوه يعادل في القانون الحديث الخيانة العظمى وإعلان الحرب.
وكانت خيبر (في أعالي الحجاز) من مراكز اليهود المهمة، وصارت ملجأ اليهود الحانقين ومركزاً للتآمر، وأخذت في تكوين كتلة من يهود القرى المجاورة كتيماء ووادي القرى ولكن دون نجاح. وكان المسلمون يدركون ذلك. وحين سالم الرسول (صلى الله عليه وسلم) مكةَ في الحديبية (آخر العام السادس للهجرة)، أمر بالتهيؤ لخيبر في مطالع العام السابع للهجرة، فهي خطر عسكري من الشمال مع وجود قريش في الجنوب ولها دور في التحريض على غزوة الخندق كما حاولت التفاهم مع غطفـان لمحاربة المسـلمين بوعـدهم بنصـف تمر خيبر لعام إن انتصروا، كما جرت المفاوضات بين خيبر ويهود وادي القرى وتيماء وفدك لتكوين حلف جديد يتزعمه اليهود الآن لحرب مُحمّد وأصحابه بعد أن فشل القرشيون في ذلك. ولم يكن من المستبعد أن يسعى يهود خيبر للاستعانة بقوى خارجية كالفرس مثلاً الذين كانت لهم مصالحهم في اليمن، وهم ولا شك يطمعون أن يمتد نفوذهم إلى كل محطات طريق التجارة البري من اليمن إلى الشام عبر المدينة. ولكن المحاولة فشلت لسبق المسلمين في التحرك ولتخاذل غطفان. وكان ليهود خيبر مناطق حربية (النطاة والشق والكتيبة) لكل منها حصون يحتمون بها من الغارات، وفيها مخازن الغلال، أما المزارع فخارج الحصون. وبعد حصارومناوشـات، سلـم يهود خيبر على أن تُحقَن دماؤهم، واعتـبر الرسـول صلى الله عليه وسلـم خيـبر غنيمة وقسمها، ولكنه ترك اليهود يزرعونها لعدم توافر الأيدي العاملةلديه مقابل نصف المحصـول. وكان بين غنـائم خيبر صحائف من التوراة، فلما جاء اليهـود يطلبونها أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بتسليمها إليهم.
وبعد خيبر، خضعت بقية القرى اليهودية وسلمت للنبي (صلى الله عليه وسلم). فأرسل الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى يهود فدك وتم الاتفاق معهم دون قتال على أن يُتركوا لزراعة الأرض ويعطوا النبي نصفها. ثم خرج الرسول (صلى الله عليه وسلم) بنفسه إلى يهود وادي القرى وهزمهم وتوصل معهم إلى اتفاق مشابه لما توصل إليه مع اليهود السابقين. ولما سمع يهود تيماء بذلك لم ينتظروا مسيرة الرسول إليهم بل أرسلوا إليه وقبلوا شروط المسلمين. ويُقال إنه في هذه الآونة قدَّمت امرأة يهودية (زينب بنت الحارث بن سلام) شاة مشوية للرسول، دست له فيها السم وأوحي إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالأمر فلفظ ما أكل. وفي رواية أخرى أنه أُقيم عليها القصاص لأن أحد الصحابة ممن أكلوا من الشاة مات مسموماً.
وكان وجود اليهود في مستوطنات متراصة في قلب الأمة الجديدة، وموقفهم السلبي ثم العدائي، سبب تأزُّم العلاقة لتشكيلهم جبهة داخلية ذات خطر. ولكن، بعد خيبر، لم يبق منهم خطر وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بمعاملتهم (في خيبر والقرى الشمالية) معاملة حسنة باعتبارهم أهل ذمة.
وقد قام عمر بن الخطاب بإجلاء اليهود عن الجزيرة العربية ليحمي الدولة الجديدة من عناصر لم يكن ولاؤها كاملاً. وربما كانت هذه حادثة الطرد أو التهجير الوحيدة في تاريخ العالم الإسلامي باعتبار أن ما حدث في وقت الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان جزءاً من عمليات عسكرية. ومع هذا، عامل عمر الجماعات اليهودية طبقاً للشروط التي كانت بينهم وبين المسلمين. فأهل فدك، على سبيل المثال، كان لهم نصف الأرض، فاشتراها عمر منهم. ويسَّر عمر للجماعات اليهودية عملية الاستيطان في الشام والعراق، وخصوصاً في الكوفة. بل بقي بعض اليهود في المدينة وفي وادي القرى وتيماء قروناً عديدة، كما ظل هناك يهود بطبيعة الحال في اليمن. ويبدو أن موقف يهود الدولة البيزنطية من الفتح الإسلامي كان مؤيداً وممالئاً للمسلمين، وخصوصاً أن أوضاعهم كانت قد تردت داخل هذه الإمبراطورية بعد تعاونهم مع الفرس من قبل. وقد ساعد اليهود والسامريون، وكذلك المسيحيون اليعقوبيون، الفتح الإسلامي، وخصوصاً في سوريا وفلسطين. وفي حمص، على سبيل المثال، سد اليهود والمسيحيون بوابات المدينة لمنع جيش الروم من الدخول. وفي الخليل وقيصرية، تَمكَّن المسلمون من اختراق تحصينات الروم بسبب مساعدة اليهود. وفي إسبانيا، كانوا يقومون بثورات مسلحة ضد حكامهم من القوط الغربيين. كان هذا هو النمط الغالب، وإن كانت هناك بعض الحالات الاستثنائية حين تعاون اليهود مع الروم، بل يُقال إنهم قاتلوا إلى جوارهم كما حدث في غزة.
الذميون أو أهل الذمة في الإسلام
The Dhimmis
«الذميون» أو «أهل الذمة» هم من يجوز عقد الذمة معهم، وهم أهل الكتاب، ومن سن بهم الشرع سنة أهل الكتاب مثل المجوس. و«الذمة» في اللغة هي العهد والأمان والضمان، ولذا يُقال لأهل الذمة «أهل العهد». والمصطلح يعني أن أهل الذمة « في ذمة الله ورسوله وليسوا في ذمة أحد من الناس ».
والذمة ذُكرت في القرآن الكريم مرتين في سورة التوبة (الآيتين 8 ـ 10) اللتين أكدتا أن وضع الغلبة إذا كان من نصيب المشركين فإنهم لن يرقبوا في مؤمنٍّ إلاًّ ولا ذمة.
وتعبير «الذمة» كان أحد مفردات الخطاب العربي قبل الإسلام، حيث كانت عقود الذمة والأمان صنيعة التعايش الذي صادف سمات في الشخصية العربية. فقد عرف العرب من قديم التناصر بالجوار، بما يسمونه «عقد الجوار أو الذمة». وكانت رعاية الجوار عندهم من مقتضيات شهامة العربي. وكان على المجير أن يحمي الجار أو المستجير ويقاتل عنه، ويطلب حقه، ويمنعه ويمنع أهله مما يمنع منه نفسه وأهلـه وولده. فمسـألة الذمة كانت حالة تعاهدية تعارف عليها عرب الجاهلية.
واللفظ اصطلاحاً ظهر مع استخدام الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة منها الحديث الشريف: "من آذى ذمياً فأنا خصمه"، وقوله (صلى الله عليه وسلم) في خطبة الوداع: "أوصيكم بأهل ذمتي خيراً". ومن خلال هذه الصيغة دخل تعبير «أهل الذمة» قاموس التخاطب مع غير المسلمين سواء في الممارسات أو في كتب الفقه. ويضع الفقه الإسلامي «الذميَّ» مقابل «المسلم» من جهة، ومقابل «المشرك» من جهة. كما يوضع «الذمي» مقابل «الحربي»، وهو «الكتابي الذي يعيش في دار الحرب»، ومقابل «المُستأْمَن»، وهو «الكتابي الذي يأتي لدار الإسلام للاتجار أو الزيارة فيُعطَى الأمان ويُصرَّح له بالعيش لمدة محددة». وأصبح تعريف عقد الذمة (المستقر في كتب الفقه المختلفة) أنه عقد يصير غير المسلم بمقتضاه في ذمة المسلمين، أي في عهدهم وأمانهم على وجه التأبيد، وله الإقامة في دار الإسلام على وجه الدوام.
وأهم سمات عقد الذمة أنه تعاقد قانوني بين طرفين، وليس حالة قانونيـة دائمة، وهو تعاقد يسـتند إلى ظروف محدَّدة ومن ثم يزول بزوالها. وفكرة العقد هنا هي إسهام أساسي للدين الإسلامي في التعامل مع قضية الأقليات، إذ أن العلاقة مع غير المسلمين لم تُؤسَّس على أساس تسامح المسلمين أو عطفهم وحسب، وإنما أُسِّست على مقولات قانونية واضحة تتجاوز الأهواء، محمودة كانت أم مذمومة (على عكس الفقه المسيحي الغربي الذي لم يطرح قط أية بنية قانونية خاصة بالأقليات وترك الأمر برمته للتسامح المسيحي).
هذا التعاقد لا يتم في فراغ وإنما في إطار النموذج المعرفي الإسلامي ومن منطلقاته الأساسية التي يمكن أن نوجز بعضها فيما يلي:
1 ـ التعددية:
يعترف الإسلام بالتعددية وحتميتها، وينطلق منها. بل إن جميع الفقهاء يعتبرون الاختلاف والتعددية سُنّة إلهية تركت بصمتها على جميع الخلق. والإسلام لا يجعل مجرد المخالفة في الدين سبباً يحمل على التقاطع بالتفرقة وسلب الحريات والإخراج من الديار، وإنما جعل العداء سبباً مانعاً من موالاة العدو والامتزاج به والاعتماد عليه (كما يذهب ابن كثير والقرطبي وغيرهم في تفسير سورة الممتحنة).
وقد أكد الدين حرية العقيدة في آيات عديدة منها:"لا إكراه في الدين، قد تبيَّن الرشد من الغي" (البقرة 256)، وأقر حرية الاختيار "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" (الكهف 29)، وعلق المشيئة باختيار العبد "ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها" (السجدة 13).
وقد دعا الإسلام إلى تأجيل الخلافات العقيدية إلى الآخرة لكي يفصل فيها الله سبحانه وتعالى (فهمي هويدي) فالقلوب والضمائر ينبغي أن تُترك لرب القلوب ويوم الحساب "إن الذين آمنوا والذين هادوا، والصابئين والنصارى، والمجوس والذين أشركوا، إن الله يفصل بينهم يوم القيامة" (الحج 17).
كل هذا يعني حتمية الاختلاف، والاختلافات في الدين على هذا الأساس لا يمكن أن تكون سبباً للعداء والحرب. ويذكر القرضاوي أن أساس التعامل مع غير المسلمين هو "اعتقاد المسلم أن اختلاف الناس في الدين واقع بمشيئة الله تعالى" و"ليس المسلم مكلفاً أن يحاسب الكافرين على كفرهـم أو يعاقب الضالين على ضلالهم" و"إيمان المسلم بأن الله يأمر بالعدل ويحب القسط"، "يأيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقـاكم. إن الله عليم خبير" (سورة الحجرات 13).
2 ـ العدل:
وهو القيمة القطب في الإسلام (فهمي هويدي). العدل في المجتمع المسلم يقوم وفقاً لجملة من الثوابت منها رفع قيمة الإنسان، والاستخلاف، والمساواة، وتحريم الله الظلم على نفسه وتحريمه بين الخلق. وهذه القيمة يتمتع بها الناس جميعاً لأنهم أخوة، فكلهم لآدم (الغنوشي). وإذن فمادام غير المسلم إنساناً، فإن له بمقتضى هذه الصفة في الدين الحصانة والكرامة والحماية. وأكد سليم العوا، في ذلك السياق، عصمة الدم.
والعدل في الإسلام قيمة مطلقة وليست نسبية، فهي واجبة الالتزام في كل الظروف، وهي في مواجهة الأعداء، كما هي مع الأهل والحلفاء"لا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا" (المائدة 8)، أي لا يدفعكم بُغض قوم إلى اقتراف جريرة الظلم بإزائهم. ولذا كتب عمر بن الخطاب إلى أحد عماله يقول: "وأما العدل فلا رخصة فيه من قريب ولا بعيد، ولا في شدة ولا رخاء، والعدل وإن رئى ليناً، فهو أقوى، وأطفأ للجور، وأقمع للباطل من الجور".
والعدل تحري الإنصاف والمساواة وإعطاء كل ذي حق حقه، والحكم بين الناس بالحق الذي لا يحوم حوله باطل، وهو نقيض الظلم (محمد سيد طنطاوي). والعدل الإلهي يتجلى على الصعيد الاجتماعي في الدعوة إلى إقامة مجتمع إنساني حر مفتوح تملك جميع العقائد والمذاهب والآراء أن تعيش في ظله، وليس الإكراه عنصراً من عناصر تكوينه ولا بقائه (سيد قطب). وهذا المجتمع قائم على الإيمان بالعقيدة وعلى تطوع كل فرد فيه بصيانة النظام، حدوده مفتوحة بلا حواجز ولا قيود لجميع المسلمين من كل جنس ولون، ولغير المسلمين كذلك من المسالمين. بل إن المشرك ليملك في الوطن الإسلامي أن يستجير فيُجار ويتحتم حينئذ على الدولة الإسلامية أن تحميه وتكفله. وقد نصَّت وثيقة المدينة (الصحيفة) على أن « من خرج من المدينة آمـن، ومن قعد آمن إلا من ظلم وأثم » (الغنوشي).
3 ـ المساواة التامة بين البشر:
ويرتبط بقيمة العدل الإيمان بالمساواة التامة بين البشر التي تنبع من رؤية إنسانية للإنسان تنبو عن عرْق أو دين أو لغة أو خلافه. وليس للمسلم من هذه الزاوية أية أفضلية على غيره، وإنما هو إنسان شأن أي إنسان آخر إذ خلقنا الله من نفس واحدة. كما ذهب أبو الأعلى المودودي وفهمي هويدي وإدوارد الذهبي والغنوشي وسليم العوا وسيد قطب إلى أن هذه المساواة التي تمثل خلفية معرفية لمفهوم الذمـة تعود بالمفكـرين إلى طبيعة التكريم الذي قضاه الله للإنسان « ولقد كرمنا بني آدم » (الإسراء 70) فالإنسان في الإسلام هو مخلـوق الله المختـار، الذي خلقه وسواه وعدَّله، ونفخ فيه من روحه. ومعنى التكريم هنا أي جعلنا لهم كرماً، أي شرفاً وفضلاً، وأياً كان مناط التكريم، أكان لأن الإنسان نفساً، أو لهداية الإنسان بالعقل، أو لاستخلافه، فإن نتاج هذا التكريم أن صار للإنسان، كل إنسان، قدسيته في هذا الدين. وقد صار الإنسان في حمى محـمي، وحرم مُحـرَّم، ولا يزال كـذلك حتى يهـتك هو حرمة نفسه، وينزع بيده هذا الستر المضروب عليه، بارتكاب جريمة ترفع عنه جانباً من تلك الحصانة، وهو بعد ذلك بريء حتى يثبت جرمه، وهو بعد ثبوت جرمه لا يفقد حماية الشرع كله، لأن جنايته ستُقدَّر بقدرها، ولأن عقوبته لن تجاوز مقدارها. بهذه الكرامة يحمي الإسلام أعداءه كما يحمي أولياءه وأبناءه، هذه الكرامة التي كرَّم بها الإنسانية في كل فرد من أفرادها، هي الأساس الذي تقوم عليه العلاقات بين بني آدم.
ولا شك في أن هذا الذي سبق يخص فيما يخص أهل الذمة وإن كان أعم وأشمل. غير أن لأهل الذمة مزية خاصة لكونهم أهل توحيد يشاركهم في ذلك المجوس وكذلك السامرة والصابئة بشرط أن يوافقوا اليهود والنصارى في أصل عقيدتهم. ويقول الإمام علي رضي الله عنه إنهم قبلوا عقد الذمة لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا، ويؤكدها السرخسي من مشاهير الفقهاء بقوله: « ولأنهم قبلوا عقد الذمة، لتكون أموالهم وحقوقهم كأموال المسلمين وحقوقهم ». بل أكثر من ذلك ذهب الفقه الإسلامي إلى أن حقوق الأقليات غير المسلمة طالما كانت مستمدة من الشريعة فإنها لا تتأثر بسـوء معاملة الأقليات المسـلمة في الدول غير الإسـلامية وعليه، فلا يجوز، لدار الإسلام أن تسيء معاملة الأقليات غير المسلمة في إقليمها بحجة الأخذ بقاعدة « المعاملة بالمثل ». وذهب محمد عمارة إلى أبعد من ذلك حيث لم يعتبر ما للذميين حقوقاً وإنما هي ضرورات واجبة.
تأسيساً على تلك الأسس الفكرية كان لا مناص من اعتبار النظام الإسلامي أن أهل الذمة جزء من الرعية الإسلامية، مع احتفاظهم بعقيدتهم، ومن ثم فقد كانت المعاهدات الخارجية يُمثَّل فيها المسلمون والذميون كأمة متحدة.
ويؤكد محمد الغزالي أن الإسلام يرى أن من عاهد المسلمين من اليهود أو النصارى أنهم قد أصبحوا من الناحية السياسية أو الجنسية مسلمين لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم من واجبات، وإن بقوا من الناحية الشخصية على عقائدهم وعبادتهم وأحوالهم الخاصة. ويؤكد الفكر الإسلامي أن انضواء الأفراد والجماعات في نطاق النظام السياسي الإسلامي قد أدَّى إلى اعتماد « الأمة »، و«الرابطة الأمتية » إطاراً عاماً يحدد سلوك الأفراد واتجاهات الفعل السياسي ضمن المجتمع المسلم.
وإذا كان ذلك كذلك فإن الدعوة لاعتبار الذميين مواطنين تطرح نفسها بقوة خاصة مع تعدد فئات ومستويات معضدات هذه الفكرة. وعندما تناول العديد من المفكرين (فهمي هويدي ـ لؤي صافي ـ راشد الغنوشي ـ إدوارد الذهبي ـ سليم العوا، وغيرهم) صحيفة المدينة بالتحليل، وجدوا أن أهل الكتاب كانت لهم بموجب نص هذه الصحيفة حقوق المواطنة الكاملة يمارسون عبادتهم بحرية، ويناصحون المسلمين، ويتناصرون في حماية المدينة، ويتعاونون، كلٌّ في موقعه على حمل أعباء ذلك. ولعل من نص الصحيفة هذه ما يبرر ذلك حيث قالت: "وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا مُتناصَر عليهم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين.. لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.. مواليهم وأنفسهم.. إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ [يهلك] إلا نفسه وأهل بيته.. وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة. وأن بينهم النصح والنصيحة دون إثم". (نص وثيقة المدينة). وأكد ذلك أحمد طه السنوسي في تناوله فكرة الجنسية في التشريع الإسلامي المقارن.
وهكذا فإن مفهوم الذمة لا يتعارض مع مفهوم المواطنة حتى ذهب فهمي هويدي إلى إعادة النظر في مفهوم الذمة الذي يُعبِّر عن تصنيف وليس تمييز، ولا يرتب اختلافاً يسـتدعي اسـتمرار الالتـزام بـه.
وأكد ذلك راشد الغنوشي في حديثه عن ارتفاع المواطنة في الدولة الإسلامية عن كل الفوارق الجنسية والقومية واللغوية وسواها من الفوارق التي أقيمت بين البشر. وهذه المواطنة رتبت حقوقاً لكل من توطن هذه الدولة، وألزمتهم بواجبات كذلك. وقد أكد أن مبدأ مساواة المواطنين في الدولة الإسلامية ثابت فلا تختلف حقوق وواجبات المسلمين عن حقوق غير المسلمين إلا فيما يقتضيه اختلاف العقيدة. فحَمْل المسلمين على ما يخالف عقيدتهم أو الذميين كذلك هو طعن في مبدأ العدالة والمساواة، كأن يُحْمَل الذمي على ترك الخمر ولحم الخنزير، أو يُحْمَل المسلم على أكل لحم الخنزير وشرب الخمر.
وعقد الذمة يختص به الإمام أو نائبه، وشـروطه قسـمان: مستحَق ومستحَب. أما المستحق، فهو أداء الجزية والخراج والضريبة التجارية والتزام أحكام القانون الإسلامي ومراعاة شعائر المسلمين ومشاعرهم وألا يعينوا أهل الحرب. وهي شروط ملزمة إذا نقضوها انتقض عهدهم.
وأهم عناصر الذمة هي الجزية وهي من الكلمة الفارسية «جازيت» أي «الخراج الذي يُستخدَم في الحرب». والجزية ضريبة أساسها نَصّ القرآن وإجماع المسلمين، ووجه إيجابها أن الإسلام أوجب الخدمة العسكرية على أبنائه، وجعلها عليهم فريضة دينية مقدَّسة، واعتبر أداءها عبادة، فكان من لطفه مع غير المسلمين ألا يلزمهم بما يعتبر عبادة في غير دينهم. والجزية على غير المسلم بدل مالي عن الخدمة العسكرية المفروضة على المسلمين، لذلك فهي لا تجب إلا على القادر على حمل السلاح من الرجال، ولا تجب على امرأة ولا صبي ولا شيخ ولا على ذي عاهة، ولا تُفرَض على راهب، كما تسقط عمن تجب عليه إذا لم تستطع الدولة أن تقوم بواجب حماية أهل الذمة من مواطنيها، وتسقط أيضاً باشتراك أهل الذمة مع المسلمين في القتال والدفاع عن دار الإسلام. وقد أُعفي من الجزية نصارى اليونان لغير الاشتراك في القتال (الإشراف على القناطر)، كما فُرضت الجزية على مسلمي مصر كمسيحييها لما أعفوا من الخدمة العسكرية. ومن الممكن تأجيل تحصيل الجزية من المعسر. لكل هذا، يذهب بعض الكُتَّاب إلى أن الجزية لا يمكن تصنيفها كضريبة رأس كتلك التي كانت تفرضها الجيوش الفاتحة على الشعوب المغلوبة.
ويؤكد الغنوشي أن الضريبة التجارية، فرضها عمر على أهل الذمة بنصف العشر من مال التجارة الذي ينتقل من بلد إلى بلد (بينما كان التاجر المسلم يؤدي ضريبة مقدارها ربع العشر)، وهي ضريبة لم يرد فيها نص معصوم، إنما فُرضت باجتهاد مصلحي اقتضته السياسة الشرعية، وعلى هذا: لو تغيَّر الوضع فيما يتعلق بالنظر إلى الذمة وأصبـح يُؤخَذ منه ضرائب على أمواله الظاهرة والباطنة ما يسـاوي الزكاة، لأمكن حينئذ أن يؤخذ من التاجر الذمِّي مثل ما يُؤخذ من المسلم ولا حرج. وقد أُعفيت أموال التجارة الداخلية من الضرائب، أما زرعهم وثمارهم التي يستغلونها من أرض الخراج فليس عليهم شيء فيها غير الخراج، وهي ضريبة كان يدفعها المسلمون أيضاً.
ويذهب السنوسي والغنوشي إلى أن التزام الذميين بأحكام القانون الإسلامي، يَصدُر عن واقع أنهم يحملون جنسية الدولة الإسلامية ويلتزمون بقوانينها فيما لا يمس عقائدهم وحريتهم الدينية. وأما مراعاة شعور المسلمين فيقتضي ألا يسبوا « الإسلام ورسوله وكتابه جهرة »، وألا يروجوا من العقائد والأفكار ما ينافي عقيدة الدولة ودينها، ما لم يكن ذلك جزءاً من عقيدتهم كالتثليث والصلب عند النصارى، وغير ذلك من مظاهر السلوك.
بل إن المودودي يذهب لأبعد من ذلك فيرى أن لغير المسلمين في الدول الإسلامية من حرية الخطابة والكتابة والرأي والتفكير والاجتماع والاحتفال ما للمسلمين سواءً بسواء، وعليهم من القيود والالتزامات ما على المسلمين أنفسهم، فيجوز لهم انتقاد الدين الإسلامي مثل ما للمسلمين من حق في نقد مذاهبهم ونحلهم. ويجب على المسلمين أن يلتزموا حدود القانون في نقدهم وكذلك غير المسلمين. ولغير المسلمين كذلك الحرية الكاملة في مدح نحلهم. ولا يحق للحكومة الإسلامية أن تعترض على انتقال أحد من غير المسلمين من نحلة غير إسلامية إلى أخرى غير إسـلامية. ولكن لا يمكن لمسـلم أن يسـتبدل دينه في حدود الدولة الإسلامية، وإن ارتد مسلم فيقع وبال ارتداده على نفسه. ولن يُؤخذ غير المسلم الذي حمله على ذلك بذنبه.
هذا فيما يتصل بالمستحق، أما المستحَب فيحوي شروطاً عديدة من بينها لبس الغيار (وهو الملابس ذات اللون المخالف للون ملابس المسلمين لتمييزهم عنهم). كما كانت الشروط المستحبة لعقد الذمة تختلف باختلاف الزمان والمكان، وكان الإخلال بها لا يُعَد نقضاً لعهد الذمة. ويذهب الدكتور قاسم عبده قاسم إلى أن الشروط التي اصطُلح على تسميتها «المستحَق» استهدفت في أساسها حماية الإسلام والجماعة الإسلامية، كما أنها تتفق في مجموعها مع روح الشريعة الإسلامية، أما الشروط التي عُرفت باسم «المستحب» فواضح أنها اجتهادات من وضع الفقهاء في مرحلة متأخرة نتيجة اتصال الذميين ببعض الغزاة إبّان الحروب الصليبية، وقد كانت نوعاً من المغالاة في فرض القيود لا تستهدف الحماية كما قلنا، غير أنها غير معصومة، فلم تُفرَض على عهد النبي (صلى الله عليه وسلم). وتؤلف هذه الشروط بقسميها صورة «العهـد العمري» أو «الشـروط العمرية» المنسـوبة إلى الخليفة عمربن الخطاب. وجدير بالذكر أن «عهد عمر» ظل مجهولاً بصورته التقليدية طوال القرنين الهجريين الأول والثاني، ولم يبدأ ظهوره بشكله النهائي إلا في أواخر القرن الثاني الهجري، الأمر الذي يحمل على الاعتقاد بصحة أصوله التي اهتمت بحماية المجتمع الإسلامي. وقد وضع الخليفة عمر بن الخطـاب شـروط العهد العمري بشـكل متَّسـق مع روح الشريعة الإسلامية.
وقد ضمن الإسلام لأعضاء الأقليات غير الإسلامية حقوقاً عديدة من أهمها:
1 ـ حق العبادة: ضمن الإسلام لأهل الذمة حق العبادة ضماناً مطلقاً، فلا إكراه في الدين بنص القرآن، ولا يُجبَر أحد ولا يُضغَط عليه لترك دينه إلى غيره. « ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين » (سورة النحل 125).
وذهب القرضاوي وغيره إلى أنه لا يحق للمسلم أن يُحاسب غير المسلم على معتقداته حتى ولو كان كافراً. وفضلاً عن إباحة زواج المسلم بكتابية فإن علي عبد الواحد وافي يرى أنه لا يجوز للزوج أن يمنع زوجته الكتابية من أداء عباداتها وشعائرها، بل إن بعض المذاهب ترى أنه ينبغي له أن يصحبها إلى حيث تؤدي هذه العبادات في كنيستها أو بيعتها إذا رغبت في ذلك.
ويوضح الشيخ محمد الغزالي أن الإسلام لم يفرض على الكتابيين ترك أديانهم، بل طالبهم ـ ماداموا يؤثرون دينهم القديم ـ أن يدعوا الإسلام وشأنه، يعتنقه من يعتنقه دونتَهجُّم مر أو جدل يسيء. بل إن الإسلام كفل في الحرية الدينية لأهل الكتاب حرية إقامة الشعائر في أماكن عبادتهم، وحقهم في تجديد ما تَهدَّم منها، وبناء الجديد منها، ودق نواقيسهم إيذاناً بصلاتهم، بل لهم إخراج صلبانهم في يوم عيدهم.
وبالنسـبة لبناء الكنائـس ودور العبـادة، أورد الشـيخ القرضاوي عهد عمر بتأمين الكنائس القائمة وقت الفتح الإسلامي، ثم أورد عهد خالد "لهم أن يضربوا نواقيسهم في أية ساعة شاءوا من ليل أو نهار إلا في أوقات الصلاة، وأن يُخرجوا الصلبان في أيام عيدهم". وذكر بشأن بناء الكنائس الجديدة أن من فقهاء المسلمين من يجيزها في الأمصار الإسلامية، وحتى في البلاد التي فتحها المسلمون عنوة، "إذا أذن لهم إمام المسلمين بناء على مصلحة رآها"، وذلك على مـذهب الزيدية وابن قـاسم. وأورد أمثلة من مصر، وما ذكره المقريزي "وجميع كنائس القاهرة المذكورة محدثة في الإسلام بلا خوف".
2 ـ قدر من الاستقلال الثقافي والديني: ويستند هذا الحق إلى أمر الله سبحانه وتعالى لرسوله (عليه الصلاة والسلام) أن احكم بين الناس بالعدل « وإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم » (سورة المائدة 42)، أي أنه يمكن أن يُتركوا وشأنهم يطبقون قوانينهم في مجال حياتهم الخاصة. وقد كان ليهود بني قريظة بعض الحقوق في إدارة شئونهم الخاصة (أي أن العلاقة مع الدولة كانت فيدرالية إلى حدٍّ ما، إن صح التعبير). وبالفعل، كان من حق الأقليات أن ينظموا أمورهم الداخلية بالكيفية التي تلائمهم، فكان لهم حق تعليم أبنائهم تعاليم دينهم، وأن تسود قوانين الأسرة الخاصة بهم وأحكامهم الخاصة، وكانت لهم محاكمهم الخاصة، أي أن الإسلام ضمن قدراً كبيراً من الإدارة الذاتية للأقليات.
3 ـ حمايتهم ضد العدوان الخارجي والظلم الداخلي: يذكر شمس الدين الرملي الشافعي أن دفع الضرر عن أهل الذمة واجب كدفعه عن المسـلمين:
أ) العدوان الخارجي: من حقوق أهل الذمة حمايتهم من الاعتداء عليهم بحفظهم ومنع ما يؤذيهم وفك أسرهم ودفع من يقصدهم بأذى "ولو كانوا منفردين ببلد". وينقل عن ابن حزم في مراتب الإجماع "إن من كان في ذمتنا [من أهل الكتاب] وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع [أي بالخيل] والسلاح ونموت دون ذلك، صيانةً لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة". ولقد أصر شيخ الإسلام ابن تيمية فيتفاوضه مع قائد التتار على إطلاق من تم أسره من أهل الذمة مع إطلاق المسلمين حيث قال: "لا نرضى إلا بامتثال جميع الأساري من اليهود والنصارى، فهم أهل ذمتنا ولا ندع أسيراً لا من أهل الذمة ولا من أهل الملّة".
ب) حمايتهم ضد الظلم الداخلي: من حقوق أهل الذمة أيضاً حمايتهم من الظلم الداخلي، ونُقل عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قوله "من ظلم معاهداً أو انتقصه حقاً، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه [أي خصيمه] يوم القيامة". وقوله (صلى الله عليه وسلم) "من أذى ذمياً فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة". وقوله (صلى الله عليه وسلم) "من أذى ذمياً فقد آذاني، ومن آذاني فقد أذى الله". وفيما ذكره ابن عابدين أن "ظلم الذمي أشد من ظلم المسلم إثماً". ومن كتب الفقه نجد قول القرافي المالكي: "إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقاً علينا، لأنهم في جوارنا، وفي خفارتنا (أي حمايتنا)، وذمتنا وذمة الله تعالى وذمة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة فقد ضيَّع ذمة الله وذمة رسوله وذمة دين الإسلام". وحق الحماية المقرر لأهل الذمة يتضمن حماية دمائهم وأنفسهم وأبدانهم وحماية أموالهم وأعراضهم كما أسلفنا القول، فكلها مكفولة باتفاق المسلمين. ومن قتل ذمياً غير حربي قُتل، ومن سرقه قُطعت يده. وبلغ من رعاية الإسلام لحرمة أموالهم وممتلكاتهم أنه يحترم ما يعدونه ـ حسب دينهم ـ مالاً وإن لم يكن مالاً في نظر المسلمين (كالخمر والخنزير). ومن حقوقهم تأمينهم عند العجز أو الشيخوخة أو الفقر، فالضمان الاجتماعي في الإسلام يشمل المسلمين وغير المسلمين.
قال الإمام أبو يوسف صاحب كتاب الخراج: "وحدثني عمر بن نافع عن أبي بكر قال: مرَّ عمر (رضي الله عنه) بباب قوم وعليه سائل يسأل، وكان شيخاً ضرير البصر فضرب عمر عضده، وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي. قال فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: اسأل الجزية والحاجة والسن. فأخذ عمر بيده، وذهب به إلى منزله وأعطاه مما وجده، ثم أرسل به إلى خازن بيت المال وقال له: انظر هذا وضرباءه. فو الله ما أنصفناه، أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم (إنما الصدقات للفقراء والمساكين)، والفقراء هم الفقراء المسلمون وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ثم وضع عنه الجزية وعن ضربائه". قال أبو بكر: "أنا شهدت ذلك من عمر ورأيت ذلك الشيخ".
وقد أباح الإسلام لأهل الذمة حرية العمل والكسب، ومزاولة ما يختارونه من مهن، ومباشرة ما يرتاحون إليه من نشاط اقتصادي، شأنهم في ذلك شأن المسلمين الذين يعيشون معهم. ولا يرى الإسلام أي حرج في أن يشتغل مسلم عند أهل الكتاب أو يشتغل أهل الكتاب عند مسلم، أما عن تولِّي غير المسلمين الوظائف العامة، فذكر لأهل الذمة « الحق في تولي وظائف الدولة كالمسلمين، إلا ما غلبت عليه الصبغة الدينية، كالإمامة ورئاسة الدولة، والقيادة في الجيش والقضاء بين المسلمين، والولاية على الصدقات لأن الإمامة والرئاسة العامة في الدين والدنيا وهي خلافة عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقيادة الجيش ليست عملاً مدنياً صرفاً، بل هي من أعمال العبادة لكونها جهاداً، والقضاء حكم بالشريعة الإسلامية فلا يُطلَب من غير المسلم أن يحكم بما لا يؤمن به. وأشار في ذلك إلى ما صرح به الماوردي من جواز تقليد الذمي وزارة التنفيذ دون وزارة التفويض. ولذا كان اشتغال اليهود والنصـارى في الوظائـف الكبيرة والصغـيرة أمـراً شـائعاً في بلاد الإسلام. ومع هذا يرى طارق البشري أنه في العصر الحديث، بعد أن أصبحت الدولة كياناً مركباً متداخلاً، وأصبح القرار السياسي نتيجة دراسة خبراء ومستشارين، فإن من الممكن لأهل الذمة أن يتقلدوا أية مناصب (إلا تلك المناصب ذات الصيغة الدينية، بطبيعة الحال).
وفيما يتصل بعقد الذمة في الدولة (الإسلامية) الحديثة فكما يرى العوا ليس له محل من الوجود إذ أن تلك الدولة لم تقم على حق الفتح، حتى يكون هناك عهد ذمة لأهل تلك البلاد، بل قامت على حق التحرر من الاستعمار، ذلك التحرر الذي شارك في صنعه كل من المسلمين والمسيحيين، ومن ثم أصبح الإطار القانوني الذي يحكم تلك العلاقة هو المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات. بل يمكن القول بأن قاعدة "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" يُعاد استعمالها في أجلى صورها، ويبقى حق المسلمين فيها هو حقالأغلبية في كل بلاد الدنيا، ويظلل المجتمع بأسره فكرة النظام العام التي تسمح بتطبيق القوانين الإسلامية واحترام كل من الأغلبية والأقلية لها.
إن موقف الإسلام من أهل الذمة لا يستند إلى حالة عاطفيـة أو عقلية وإنما إلى قاعدة قانونية فقهية وإلى الرؤية الإسلامية للكون. ولعل الواقعة التالية التي يذكرها ميخائيلشـاروبيم في الكافي تبلور هذه الفكرة. فمن المعروف أن الوالي عباس الأول، الذي تولَّى الحكم قبل محمد سعيد، كان شديد النقمة على النصارى، وأخرج منهم كثيرين منخدمة الدولة، وأراد أن يدبر إخراجهم من وطنهم وإبعادهم إلى السودان، ولزمه لتنفيذ هذا الأمر أن يستصدر من الأزهر فتوى بجوازها، فطلب إلى الشيخ الباجوري، شيخ الجامع الأزهر وقتها، الرأي في جواز إبعادهم، فرفض الشيخ إنفاذ رغبة الوالي قائلاً: « إنه إن كان يعني الذميين الذين هم أهل البلاد وأصحابها، فالحمد للّه لم يطرأ على ذمة الإسلام طارئ، ولم يستول عليها خلل، وهم في ذمته إلى اليوم الآخر». إن القاعدة الفقهية الخاصة بأهل الذمة وحقوقهم المطلقة مسألة ثابتة لا تحتمل النقاش.
ولكن، لا يستند الدين الإسلامي في موقفه من أهل الذمة إلى القاعدة القانونية والفقهية وحسب، وإنما هناك أيضاً التسامح كعنصر تكميلي، وهذا هو معنى «البر والقسطاس»، فهي عبارة تؤكد أن الموقف الإسلامي من أعضاء الأقليات لا يستند إلى العدل الاجتماعي (المستند إلى هيكل القانون) وحسب، وإنما إلى الإحسان (المستندإلى التسامح الشخصي) أيضاً. وبمعنى آخر لابد من القسطاس أي العدل (البراني) والبر (الجواني). ولذا يحض القرآن على البحث عن الرقعة المشتركة بين المسلمين وأهل الذمة. « ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون » (سورةالعنكبوت 46).
ويشير الشيخ القرضاوي في علاقة المسلمين بغيرهم إلى ما لا يدخل في نطاق الحقوق التي تنظمها القوانين، وهو الروح التي تبدو من حسن المعاشرة ولطف المعاملة ورعاية الجوار وسعة المشاعر الإنسانية من البر والرحمة والإحسان، ومن إكرام الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب، وزيارتهم وعيادة مرضاهم والتعامل معهم. وقد أجاز الفقهاء للمسلم أن يوصي أو يوقف شيئاً من ماله لغير المسلمين من أهل الذمة، وتكون هذه الوصية أو الوقف أمراً نافذاً.
وبوسعنا أن ننتقل الآن من المعيارية الإسلامية إلى ممارسات المسلمين التاريخية، وأن نثير قضية مهمة وهي أن بعض التشريعات المنظمة للعلاقة مع الذميين كانت تحمل دلالة وظيفية وحسب. ولكن، بعد حين، نُسيت الوظيفة التي من أجلها تم التشريع وتحوَّل الحظر إلى رمز. فعلى سبيل المثال، كان الذميون يُمنَعون من ركوب الخيل، وإن ركب الذمي الخيل فعليه أن يدلَّي بقدميه من ناحية واحدة لاعتبار أمني، أي لتأكيد أن الذمي لا يحمل السلاح. ولكن هذا طال نسيانه ولم يبق من أمر طريقة الركوب الخاصة سوى جانبه الرمزي وحده.
ويتبدَّى تحويل الوظيفة إلى رمز في قضية الغيار (الرداء) أيضاً. والواقع أن إلزام الذميين بلبس الغيار لم يُطبَّق في أيام الرسول، أما عند الفتح الإسلامي، فقد كان غيار السكان المحليين مختلفاً عن رداء العرب المسلمين حيث مُنع المحليون من ارتداء زيّ العرب كضرورة أمنية في عصور الفتح. وكان الهدف من الاختلاف في الزي تأكيد التمايز وليس التميز، بمعنى أن الزيّ شكل من أشكال التعبير، أو هو لغة خاصة يتحدث بها الإنسان ويعبِّر بها عن هويته. والواقع أن التلمود ينصح اليهود بألا يرتدوا ملابس مثل ملابس الفرس (العنصر السائد في الإمبراطورية الفارسية التي كان يعيش فيها اليهود). وفي العصر الأموي، استبدل بالغيار الزنار. ولعل الهدف منه كانإدارياً بحيث يمكن التمييز بين الذميين والمسلمين بما تقتضيه ضرورة تسيير شئون الدولة، وكان الزنار يشبه في ذلك بطاقة تحقيق الشخصية، ولكن بعض الفقهاء نسوا وظيفة الغيار الإدارية أو الأمنية العملية وفرضوا عليه مدلولاً رمزياً بحيث أصبح الهدف منه الإذلال والتمييز.
ولا يمكن حسم هذه القضية إلا بالتمييز بين المعيارية الإسلامية (المثالية) والممارسات الإسلامية الواقعية،وهو تمييز ليس ممكناً وحسب في إطار الإسلام وإنما حتمي وواجب لمن يؤمن بالإسلام ديناً يهديه سواء السبيل، ويتحرك في إطاره ويحتكم إلى منظومته القيمية والمعرفية.
وما يهمنا من وجهة نظر هذه الموسوعة أن نشير إلى أن التشريعات الإسلامية الخاصة بأهل الذمة (ومنهم أعضاء الجماعة اليهودية) لم تخلق قابلية لدى الجماعات اليهودية للتحول إلى جماعات وظيفية.
ويمكننا أن نضيف بعض العناصر الأخرى التي ساعدت على استقرار وضع الجماعات اليهودية كأهل ذمة داخل التشكيل الحضاري الإسلامي وساهمت في عدم فرض دور وظيفي فريد أو متميِّز.
1 ـ لم يلعب اليهود دور «قاتل الرب» الذي يلعبونه في الرؤية المسيحية للكون ولذا فالرؤية الأخروية (الإسكاتولوجية، رؤية الخلاص النهائي الإسلامية) لم تفرض على اليهود دوراً مميَّزاً (كما هو الحال في المجتمعات المسيحية).
2 ـ لم ينظر إلى اليهود باعتبارهم الشعب الشاهد الذي يقف في ضعفه دليـلاً على عظمة الكنيسـة، وفي ذلته وهـزيمته دليلاً على انتصارها.
3 ـ لم ينظَر المجتمع الإسلامي إلى اليهودي من خلال مفهوم العودة الألفية التي ترى أن الخلاص لن يتحقق إلا بعودة اليهود إلى فلسطين وتنصيرهم.
4 ـ لا توجد علاقة حب وكُره بين الإسلام واليهودية كما هو الحال بين المسيحية واليهودية. فالمسيحية تعتبر العهد القديم (كتاب اليهود المقدَّس) أحد كتبها المقدَّسة. كما أن الإسلام لا يرى نفسه تحقيقاً لليهودية أو نفياً لها (كما حدث في المسيحية). فالإسلام يعترف بأنبياء اليهود وبالمسيح عليه السلام وبكتب اليهود والمسيحيين المقدَّسة. ولكنها مع هذا لم تُتخذ كتباً مقدَّسة لأن الإسلام يرى أنها حُرِّفت. ويظهر الفرق بين موقف المسيحية والإسلام من اليهود في أن الإسلام يشير إلى «شريعة اليهود» أما المسيحيةفتشير إلى «قانون اليهود» و«خرافة اليهود» بل «خيانة اليهود».
5 ـ ظهر الإسلام في منطقة هامشية بالنسبة لليهودية، على عكس المسيحية التي نشأت في فلسطين مركز اليهودية. وفي البداية استفاد اليهود من الحكم الروماني في قمع المسيحية (وفي صلب المسيح حسب الرؤية المسيحية). ولكن حينما قويت شوكة المسيحية وتحولت الإمبراطورية إلى المسيحية قامت السلطة الرومانية بالقضاء على بقايا اليهودية في فلسطين.
6 ـ لم يكن أعضاء الجماعات اليهودية يمثلون قوة سكانية ذات وزن في العالم الإسلامي.
7 ـ حرَّم الإسلام الربا ولكنه نظر للتجارة باعتبارها نشاطاً إنسانياً كريماً، ولذا مارسها المسلمون (واليهود والنصارى) ولم يحدث تمايز اقتصادي كبير لأعضاء الأقليات.
لكل هذه الأسباب لم يتحول كثير من أعضاء الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية، وكان هرمهم الوظيفي والمهني لا يختلف في مجموعه عن الهرم الوظيفي والمهني السائد في المجتمع. هذا لا يعني أنه لم تتحول قطاعات منهم إلى جماعات وظيفية، فقد حدث هذا بلا شك ولكن بدون الشكل الحاد وبدون التبلور الذي أخذته هذه الظاهرة في المجتمعات الغربية. وقد اختلف الوضع تماماً مع نهاية القرن التاسع عشر ومع وقوع كثير من البلدان العربية في قبضة الاستعمار الغربي ووصول كثير من اليهود الإشكناز إذ تم تحويل الغالبية الساحقة لأعضاء الجماعات اليهودية في العالم الإسلامي إلى جماعات وظيفية تقوم على خدمة الاستعمار الغربي وترعى مصالحه ويقوم هو بحمايتها، ولذا حصل كثير من أعضاء الجماعات اليهودية من أبناء البلاد على جنسية إحدى البلاد الغربية.
العالم الإسلامي منذ انتشار الإسلام حتى سقوط بغداد على يد المغول
The Islamic World from the Spread of Islam to the Moghul Sack of Baghdad
قبل تَناول الجوانب الإدارية والاقتصادية لوجود أعضاء الجماعة اليهودية في الدولة الإسلامية، قد يكون من المفيد أن نقول إن الحضارة الإسلامية، شأنها شأن معظم الحضارات الشرقية القديمة، تقبل التنوع وعدم التجانس بدرجة أعلى من الحضارة الغربية. فالإمبراطوريات الشرقية كانت تسود فيها إحدى الجماعات الإثنية، ولكنها لم تكن تستوعب الجماعات الأخرى، وإنما كانت تحدِّد حقوقها وحدودها وواجباتها وحسب. وكانت الجماعة السائدة تُعرِّف هويتها، في العادة، من المنظــورين الإثني والديني. أما الجمـاعة السـائدة في الدولة الإسلامية، فقد عرفت نفسها (من الناحية النظرية) على أساس ديني وحسب، وهو أمر يشكل انفتاحاً كبيراً ويحقق فرصاً أكبر للحراك الاجتماعي وللانتماء. ومن المهم أن نشير إلى أن الإسلام أكد وحدة الأديان (على الأقل من الناحية النظرية والمثالية) وجعل إبراهيم أباً للموحِّدين، أباً لكل الأديان. ورغم الاصطدام الذي حدث بين الرسول (صلى الله عليه وسلم) واليهود، فإن اليهود لم يتحولوا (في الرؤية الإسلامية للكون) إلى الآخر أو القتلة، كما حدث في المسيحية حين ارتبط اليهود بحادثة الصلب التي يشار إليها بعبارة «قتل الرب»، بل ظلوا أهل ذمة وأهل كتاب. بل يمكن القول بأن اليهود كانوا أحسن حظاً من المسيحيين إذ أن القوة المضادة للفتح الإسلامي كانت الدولة الفارسية (المجوسية) التي تم القضاء عليها بسرعة، ثم الدولة الرومانية الشرقية (المسيحية) التي استمرت الحرب معها سجالاً عدة قرون. ومعنى هذا أنه لم تكن هناك قوة يهودية دولية مضادة.
ويمكن القول أيضاً بأن مقدرة اليهود على التكيف مع الفتح الإسلامي كانت أعلى بكثير من قدرة الجماعات الأخرى. فلم يكن اليهود أغلبية، ولذا كانت عندهم المهارات المختلفة اللازمة للتعايش باعتبارهم أقلية داخل مجتمع تحكمه أغلبية منتصرة. وقد تَمكَّن فقهاء اليهود من تطويع القانون التلمودي حتى يتسنى لليهود التعايش بسهولة ويسر كأقلية ليس لها مركز ديني، وطوروا مقولة إن قانون الدولة هو القانون أو الشريعة، أي أن الأمور الدنيوية لا يحكمها القانون التلمودي وإنما قانون الدولة نفسها.
ولم يكن اليهود (ولا المسيحيون) عنصراً وافداً جديداً على المجتمع العربي الإسلامي، فجذورهم فيه قديمة حيث يعود تاريخ الجماعة اليهودية في بابل إلى أيام التهجير البابلي، كما انتقل مركز اليهود إلى بابل قبل الفتح الإسلامي بقرون.
وفي نهاية الأمر، لم يكن اليهود الأقلية الوحيدة في العالم الإسلامي مثلما كانوا في أوربا المسيحية، وقد عرف الشرق الأدنى القديم عشرات الأقليات الدينية والإثنية التي كان على الإمبراطوريات القديمة تنظيم التعامل معها. وقد استمر الإسلام في تقاليد التسامح وتَقبُّل التنوع، ولم يجد اليهود أنفسهم يلعبون دور الغريب أو الآخر الذي تحيط به هالات ميتافيزيقية.
ومما يجدر ذكره أن اليهود، عند الفتح الإسلامي، لم يكونوا عنصراً واحداً متجانساً فقد كان هناك يهود الرومانيوت الذين يتحدثون اليونانية (في الإســكندرية وفي أجـزاء أخرى من الدولة الرومانيـة الشرقية)، كما كان يوجد يهود يتحدثون الآرامية في الإمبراطورية الفارسية وفلسطين، وانضمت إليهم قبائل اليهود المستعربة التي طُردت من الجزيرة العربية ووُطنت خارجها. ومما له دلالته أن هذه القبائل لم تطلب توطينها في فلسطين أو في القدس. ومن المفارقات أن هذه المجموعة المستعربة كانت بمنزلة النواة العربية القوية التي ساعدت بقية الجماعات اليهودية على استيعاب اللغة والحضارة العربية. وعلى المستوى الديني، كانت اليهودية الحاخامية التلمودية قد فرضتسـيطرتها، وكانت المدرسـة البابليـة بالذات صاحبة السلطـة والشرعية. ولكن هذا لم يمنع وجود بعض الفرق اليهودية المختلفة، فيهود الجزيرة العربية كانوا لا يعرفونالتلمود، ويبدو أنه كانت تُوجد بقايا للصدوقيين أو لفكرهم. كما كان هناك أيضاً اليهود السامريون (وقد شكل كل هؤلاء نواة حركة القرّائين فيما بعد). وكانت أغلبية يهود العالم يوجدون في المناطق التي فتحها المسلمون، ويشكلون نحو 1% من السكان في هذه المناطق، كما أن نسبتهم كانت أكبر في المدن.
ومع هذا، فمن الضروري إضافة أن التسامح والعدل كانا يسمان فترات الاستقرار والانتصار، كما كانت تتسم بهما سياسة الحكومات في وسط العالم الإسلامي. أما في فترات التراجع، حيث كان يخشى فيها المسلمون من الغزو الخارجي، وفي الأطراف (المغرب، إيران... إلخ) حيث كانت مهددة دائماً بالغزو؛ أي في الأمكنة والأزمنة التي تهتز فيها ثقة الأمة بنفسها وبمقدرتها، فإن التسامح لم يكن صفة ملازمة لسلوك الدولة، كما لم يكن العدل ديدنها بالضرورة، فكانت تَصدُر تشريعات خاصة للتمييز ضد الذميين في الزي وخلافه مما يتطلبه أمن الدولة. ولكن من المعروف أيضاً أن مثل هذه التشريعات صدرت في بعض الأحيان التي ازداد فيها التمازج والاندماج بين المسلمين والذميين، فكان الفقهاء الذين يخشون على الهوية الإسلامية أو على السلطة الإسلامية يطلبون استرجاع مثل هذه التشريعات، وكانت الدولة تؤيدهم في ذلك لأنه يسهّل عملية تسيير دفة الحكم، ولأسباب أخرى.
ويمكن القول بأن وضع اليهود السياسي والقانوني كان يشبه، من بعض الوجوه، وضعهم في الإمبراطوريات القديمة، وخصوصاً الإمبراطورية الفارسية الساسانية، فيفترات ازدهارها. وقد استمرت المؤسسات الدينية والإدارية التي ظهرت إبّان عصر الإمبراطورية الساسانية حيث كان يتولى قيادة الجماعة رئيس يُسمَّى رأس الجالوت «المنفى» يختاره أعضاء الجماعة اليهودية بأنفسهم؛ له السلطة الكاملة على أبناء جماعته ويقوم بتنظيم العلاقات فيما بين أبناء الجماعة من ناحية وبينهم وبين الدولة من ناحية أخرى. وقد اعترف المسلمون بمنصب رأس الجالوت.
ومن الميزات الأساسية للجماعات اليهودية داخل المجتمعات الإسـلامية في تلك الفترة عدم وجـود تفرقة اقتصادية أو تمايز وظيفي مهم، بل كان اليهود يشاركون في معظم مجالات الحياة وفي كل المهن والحرف تقريباً. وكانت ملكية الأراضي مفتوحة أمامهم، كما أنهم تملكوا العقارات في كل أنحاء البلاد وتناقلوها عن طريق الوراثة أو عمليات البيع والشراء فيما بينهم وبين المسلمين دون أية مضايقات. وكان لهم مطلق الحرية في العمل التجاري بلا حدود. وكانت نقابات الحرفيين والمهنيين مفتوحة للجميع بغض النظر عن أي دين أو مذهب أو أصل. وقد شغل اليهود أعلى الوظائف الحكومية شريطة أن تكون الوظيفة ذات طابع تنفيذي ولا تعطي صاحبها سلطات تشريعية أو سياسية، ذلك أن الدولة الإسلامية كانت ترى أن مثل هذه الوظائف لابد أن يشغلها مسلم لاعتبارات أمنية.
ولكن، ورغم عدم وجود تمايز وظيفي، كان يجري استبعاد أعضاء الجماعات اليهودية في العالم العربي الإسلامي من بعض الوظائف الإستراتيجية بحكم انتمائهم إلى أقلية، فكان معظم الذميين يعملون في الدرجات الدنيا والوسطى، ولم يصل إلى الدرجات أو المراتب العليا إلا نسبة صغيرة، إذ كانت هذه الوظائف مقصورة على المسلمين أو على من اعتنق الإسلام من الذميين. وقد تَركَّز اليهود أيضاً في الوظائف والمهن التي تتطلب التعامل مع غير المسـلمين مثل التجـارة الدوليـة والجاسـوسـية والدبلوماسـية والترجمة. كما أن المجتمعـات التقليدية، رغبةً منها في تسهيل عملية الإدارة ونقل الخبرة، كانت تركز بعض الوظائف والمهن في أسر وأقليات معيَّنة، بحيث تصبح هذه الأسر أو الأقليات جماعات وظيفية. ويُلاحَظ تركز اليهود في التجارة والمال والحرف مثل: الصباغة والدباغة ونسج الحرير، وفي بعض الحرف الوضيعة مثل: جمع القمامة وتنظيف البالوعات وتجفيف مخلفات المجاري لاستعمالها كوقود. كما كانوا يعملون أيضاً جزارين ومنفذين لأحكام الإعدام. وكانوا يعملون في بعض الحرف المتميِّزة،مثل:الطب والترجمة والكتابة.وتبين وثائق جنيزة القاهرة التي تعود إلى القرن الحادي عشر الميلادي أن اليهود كانوا يعملون في أربعمائة وخمسين مهنـة وحرفـة، منها مائتان وخمسـون حرفة يدوية لم تكن بالضرورة وضيعة.
وعند الفتح الإسلامي، كان أعضاء الجماعات اليهودية يشتغلون بالزراعة وتربية الماشية، وكانت أكثريتهم تمتهن الحرف اليدوية. ولكن، مع نهاية العصر الأموي وبداية العصر العباسي، تغيَّر الوضع تماماً نظراً لما يسميه بعض المؤرخين "الثورة التجارية في القرنين الثامن والتاسع الميلاديين". وتعود هذه الثورة التجارية إلى أن الفتح الإسلامي قد وحَّد منطقة الشرق بعد أن تقاسمتها عدة إمبراطوريات ودويلات لمدة طويلة. وقد تم الاستيلاء على ثروات كبيرة كانت محبوسة في الكنائس والأديرة وقصور الملوك على هيئة تماثيل ذهبية ومعدنية تحوَّلت كلها إلى رأسمال كان من السهل انتقاله. وقد واكب ذلك ظهور عمالة رخيصة بسبب توحيد السوق، وسقوط الإطار الطبقي الهرمي القديم الذي كانت تعضده الديانة المجوسية والكنيسة الأرثوذكسية الرومانية، والهجرة من القرية إلى المدينة. وساهمت حركة البناء الضخمة التي أعقبت الفتح الإسلامي في تنشيط الحركة التجارية، وساهمت الطرق التي شُقَّت في تسهيل انتقال رأس المال والعمالة والخبرات والسلع.
والواقع أن كل هذه العناصر ما كانت لتسبب ثورة تجارية لو لم تكن النخبة العربية الحاكمة ذات أصول تجارية من قريش واضطلعت بالتجارة الدولية من قبل (رحلة الشتاء والصيف)، ولم تكن هذه النخبة تنظر إلى العمل التجاري أو المالي باعتباره عملاً وضيعاً. وقد غيَّرت الثورة التجارية وضع اليهود تماماً فعملوا بالتجارة المحلية والدولية والصيرفة والربا. ومع حلول القرن العاشر الميلادي، كانت المؤسسات المصرفية اليهودية تقوم بإقراض الدولة سواء في بغداد أو القاهرة. ومن أشهر التجار الدوليين في ذلك الوقت (القرنين السابع والتاسع الميلاديين) التجار الراذانية. وقد أدَّى كل ذلك إلى ظهور طبقة يهودية وسيطة (كبيرة وذات نفوذ) تشكل جزءاً أساسياً من المجتمع لا تضطلع بوظيفة اقتصادية محددة مقصورة عليها كما كان الحال في أوربا، وإنما تقوم بنشاط اقتصادي مشروع ومقبول من المجتمع ككل باعتباره نشاطاً مهماً وجوهرياً ورفيعاً. ولذا، لم يتعرض اليهود لمثل تلك المذابح أو الهجمات التي كانت تُدبَّر ضدهم في أوربا إما بإيعاز من النبلاء الذين كانوا يرون فيهم أداة الملك أو من تجار المدن الذين كانوا يرون فيهم منافسين لهم، بل قامت شركات تجارية بين المسلمين والذميين. والواقع أن الطبقة التجارية المحلية في العالم الإسلامي كانت قوية لا تخشى التجار الذميين بل تراهم مكملين لها. كما لم يكن اليهود عرضة للاستياء الشعبي بسبب ممارستهم الربا، فهذه وظيفة كان يضطلع بها أيضاً المسيحيون من جميع الجنسيات، بل بعض المسلمين. أي أن اليهود عاشوا في صلب المجتمع الإسلامي، لا في مسامه كما كان الحال مع بعض الجماعات اليهودية في أوربا في مرحلة تاريخية معيَّنة.
ويبدو أن المكانة الخاصة التي يشغلها التجار في الحضارة الإسلامية انعكست على الجماعات اليهودية، فكانت النخبة التجارية تشكل العمود الفقري للنخبة الدينية اليهودية وتتحكم فيها. وكثيراً ما كان يُجنَّد رؤساء الحلقات التلمودية في العراق من بين صفوف التجار حتى قبل الفتح الإسلامي. وقد ظهرت طبقة ثرية قائدة بين اليهود تشكل القيادة الحقيقية للجماعة (وهو وضع يشبه وضع اليهود في الولايات المتحدة حالياً). ولعبت هذه الطبقة من التجار والمموِّلين دوراً أساسياً في حياة الجماعة، فقد كانوا جهابذة وصيارفة بلاط أو صيارفة حكومة أو مموِّلين كباراً يتحكمون في تعيين رأس الجالوت. وبسبب نفوذهم، تمكَّن سعيد بن يوسف الفيومي (سعديا جاؤون) (882 ـ 941) من أن يبقى رئيساً لحلقة سورا لمدة عامين حتى بعد أن طرده رأس الجالوت. كما كان اليهود الراذانية مسيطرين على حلقة بومبديثا التلمودية. ويُلاحَظ أن طبقة التجار كانت تتحد دائماً مع الفقهاء ضد رأس الجالوت الذي كان يُقال إنه من نسل داود. وهذا التحالف يمثل النخبة التي تستند إلى المال والمقدرة الفكرية مقابل النخبة التي تستند إلى الميراث. وهذا يشبه من بعض الوجوه صعود الموالي في المجتمع الإسلامي مستندين إلى المال والمقدرة الفكرية، مقابل الأرستقراطية العربية التي تعتمد على الحسب والنسب.
ويمكن القول بأن الحلقات كانت في واقع الأمر شبكات تجارية أيضاً، فكانت المراسلات الدينية والتجارية ورأس المال والفتاوى تتنقل من خلال القنوات نفسها. وكثيراً ما كان رئيس الجماعة اليهودية (المقدَّم) يضطلع في منطقة ما بوظيفة الحاخام والوكيل التجاري لعديد من الشركات. وحتى بعد انفصال مصر ودول أخرى عن الدولة العباسية وظهور وظيفة النجيد أو رئيس اليهود، ظلت الشبكة التجارية الدينية دون تَغيُّر كبير. ويُلاحَظ أن هذه الشبكة لم تكن مقصورة على التجار والمموِّلين وحسب، وإنما استفادت من وجود آلاف الحرفيين والمهنيين اليهود كما استفادوا هم أيضاً منها. وهذا لا يعني أن الجماعة اليهودية كانت تمثل دولة داخل دولة أو أنها تمتعت بالاستقلال الاقتصادي أو كوَّنت بورجوازية يهودية مستقلة أو ما شابه من ادعاءات، فلقد كان اليهود جماعة صغيرة مدمجة تماماً في المجتمع. وتشكل أواصر القرابة والتضامن الديني في المجتمعات التقليدية عناصر أساسية تضمن الحد الأدنى من الثقة الذي ييسر عمليات الائتمان والتجارة. ولذا، كان التجار اليهود يستعينون بالمموِّلين والحرفيين اليهود، تماماً مثلما كان التجار المسيحيون يستعينون بالمموِّلين والحرفيين المسيحيين. وكان الجميع ينتمون إلى الإطار الحضاري الإسلامي الأكبر.
وقد أدَّى وجود الجماعات اليهودية داخل الإطار الحضاري الإسلامي الموحَّد إلى سهولة حركة اليهود برؤوس أموالهم وأفكارهم وإلى تمازجهم، فاندمجت الجماعة اليهودية إلى حد كبير في المجتمع العربي الإسلامي. وتتضح درجة الاندماج الاجتماعي والاقتصادي العالية في أن تركيب اليهود الطبقي لم يكن يختلف عن تركيب المجتمع ككل. ويظهر الاندماج الثقافي في أن لغة أعضاء الجماعة اليهودية، سواء في الحديث اليومي أو في أدبياتهم الدينية أو الدنيوية، هي العربية. وحينما قام سعيد الفيومي بترجمة التوراة في القرن العاشر الميلادي، أشار إلى الآرامية باعتبارها لغة الآباء. بل تأثرت نظرتهم إلى العبرية نفسها بمعرفتهم بالعربية، وهو ما أدَّى إلى بعثها وتجديدها، فاهتموا بمفرداتها ونحوهـا وصرفهـا ووضعوا لها المعاجم. وقد تأثر الأدب العبري، وخصوصاً الشعر، بالأدب العربي، فأخذوا الأوزان والقافية من الشعر العربي. كما تأثر التراث الديني اليهودي بالتراث الديني الإسلامي إلى درجة أعمق من تأثره بالهيلينية، فظهر أساطين الفكر العربي الإسلامي اليهودي مثل سعيد بن يوسف الفيومي وطائفة القرّائين (منتصف القرن الثامن)، وجمعت الهلاخاه (الشريعة) وصُنِّفت على طريقة المصنفات الفقهية الإسلامية، وأصدر علماء اليهود الفتاوى على نمط الفتاوى الإسلامية.
وقد يكون من المفـيد أن نميِّز بين اصطلاحي «مسـلم» و«إسلامي»، فالمسلم هو من يؤمن بالعقيدة الإسلامية، أما كلمة «إسلامي» فتشير إلى الخطاب الحضاري الإسلامي الذي يشارك فيه جميع أعضاء الأمة (بالمعنى الحضاري والسياسي) من مسلمين ويهود ومسيحيين.
ولا يمكن فَهْم التراث الديني اليهودي في هذه المرحلة إلا بالعودة إلى التراث الإسلامي؛ الفلسفي والديني. ويمكن القول بأن تَفاعُل أعضاء الجماعة اليهودية مع الحضارة الإسلامية أمر لا نظير له في أية حضارة أخرى. وتجب ملاحظة أن بروز اليهود في الحضارة الغربية الحديثة، وتفاعلهم معها، لم يتم إلا بعد أن تمت علمنتهم وتخلوا عن أية هوية دينية يهودية، على عكس النجاح الذي حققوه في إطار الحضارة العربية الإسلامية إذ حققوه باعتبارهم يهوداً ذوي هوية دينية مستقلة. ولكن ما تجدر الإشارة إليه أن يهود العالم الإسلامي لم تظهر منهم شخصيات فكرية يهودية ذات ثقل كبير، على عكس يهود الأندلس الذين ظهر منهم موسى بن ميمون (1135ـ 1204) ويهودا اللاوي (1080 ـ 1140) وغيرهما من مفكرين وشعراء. ولعل هذا يرجع إلى أن العراق كانت توجد بها تلك الحلقات التلمودية التي كانت تدور داخل إطار تقليدي لا يزال فيها التفكير الديني لليهودي ضيقاً محدوداً برغم تأثرهم بالتراث الديني الإسلامي. ويُلاحَظ أن الفكر القرّائي الذي عبَّر عن هذا التأثر جرت محاصرته ورفضه من قبَل أعضاء الجماعات اليهودية. وهذا على عكس ما بدا من يهود الأندلس الذين لم يؤسسوا مدارسهم الدينية إلا بعد أن تم تعريبهم وبعد أن أخذت نخبتهم تتشرب الحضارة العربية الإسلامية. وبالتالي، كانت التقاليد الفكرية داخل هذه الحلقات تسمح لهم بالانفتاح الكامل على الحضارة العربية الإسلامية، حيث أمكنهم الإبداع من داخلها فأنتجوا أهم كلاسيكياتهم الفكرية والأدبية التي ظلت تحتل مكان الصدارة حتى العصر الحديث.
وقد تدهور وضع اليهود بتدهور وضعهم في العالم الإسلامي ككل، وهو تدهور نجم عن انقسام العالم الإسلامي (في العصر العباسي الثاني وبعده) إلى دويلات وإمارات مختلفة، الأمر الذي أدَّى إلى انقسام اليهود أنفسهم. وقد تدهور حال الطبقة الوسطى في العالم الإسلامي ككل بعد أن توقفت الثورة التجارية وتآكلت نتيجة ظهور الجمهوريات البحرية الإيطالية التي أخذت تتحكم في التجارة الدولية. وقد نجم عن ذلك أن المصدر الأساسي للعوائد في الدولة أصبح متمثلاً في الضرائب والمكوس، وهو ما جعل الجزية أمراً مهماً للغاية تسعى الدولة إلى تحصيلها بشتى السبل.
وقد ازداد التراجع الإســلامي بعـد الهجـوم المسيحي المتمثل في حـروب الفرنجــة ثم الهجـوم على الأندلــس وصقلية، وهـو هجـوم صاحبـه تنكيــل بالجمـاعات الإسلامية التي وقعت تحت حكم المسيحيين. ثم كان هناك الغزو المغولي عام 1258 الذي أدَّى إلى الكارثة التي حاقت بالعالم الإسلامي وأجهضت كثيراً من إمكاناته. وقد تحسنت أحوال اليهود والمسيحيين تحت حكم المغول الذين كانوا وثنيين يضمون عناصر مسيحية وتعاونوا مع الذميين كعادة الغزاة. لكن استمرار تدهور العالم الإسلامي وتدهور الجماعات اليهودية فيه امتد حتى الفتح العثماني. ويُلاحَظ أنه، في القرن الثالث عشر الميلادي، كانت أغلبية اليهود، ولأول مرة في التاريخ، تعيـش في أوربا (وضمن ذلك إسبانيا) وليس في الشرق الأدنى.
الباب الثانى: إسبانيا الإسـلامية (الأندلس)
إسبانيــا الإسـلامية (الأندلـس)
Moslem Spain (Al Andalus)
حينما وصل طارق بن زياد إلى إسبانيا الكاثوليكية عام 711، كانت حالة أعضاء الجماعة اليهودية فيها متردية، بل يُقال إن معظمهم تحولوا إلى يهود متخفين. ويبدو أنهم، مع وصول أنباء الفتح العربي، بدأوا يتحسـسون إمكانية تغيير أوضاعهم. ولذا عاونوا الفاتحين المسلمين، كما عاونهم بعض المسيحيين. فقاموا، على سبيل المثال، بثورة في طليطلة ضد القوط واستولوا على حصن المدينة وفتحوا أبوابها للفاتحين. وحاول المسلمون الاستفادة من الجماعة اليهودية، فكانوا بعد فتح أية مدينة يوطنون اليهود فيها لحراسـتها حتى يتفرغ المسلـمون للفتح. وقد كان هذا أمراً مهماً ولا شك للفتح العربي نظراً لقلة جنود المسلمين. ويُقال إن عملية توطين اليهـود تمت في مـدن مهمة، مثل: قرطبة وغرناطة وطليطلة وأشبيلية. وقد ثار السكان المسيحيون في أشبيلية بعد فتحها وفتكوا بأعضاء الجماعة اليهودية، ولكن المسلمين استعادوها بعد ذلك (وقد لعب أعضاء الجماعة اليهودية الدور نفسه بعد أن استعاد المسيحيون إسبانيا، فكان المسيحيون يوطنونهم في المدن المفتوحة أو يتركون أعضاء الجماعة اليهودية ويطردون المسلمين).
وقد اسـتفاد أعضـاء الجماعـة اليهــودية من الفتـح الإسلامي إذ استـولوا على بعض بيــوت النبـلاء المســيحيين الذين فرُّوا وتركــوا ثرواتهــم، وكانت مثل هذه الثروات تُعدُّ مصدراً أساسياً لرأس المال. بل يُقـال إن الثــورة التجارية التي حــدثت في العالم الإســلامي كانت تعتـمد إلى حدٍّ مـا على تحرير هذه الثروات المجمدة داخل القصور والأديرة. ومع هذا، يجب عدم المبالغة في الدور الذي لعبه أعضاء الجماعة اليهودية، فقد كانوا أقلية صغيرة جداً لا يُعتَد بها، كما أن الجماعة اليهــودية كانت لا تعـرف شـيئاً عن فنون الحرب بالإضافة إلى أن مستواها الثقافي والحضاري كان متدنياً إلى أقصى درجة. ولعل أهم دور لهم هو ما لعبوه بوصفهم كثافة سكانية مهما تكن ضآلتها النسبية، وبوصفهم مصدراً للمعلومات.
وقد استقلت إسبانيا الإسلامية عن الخلافة العباسية بوصول عبد الرحمن الداخل الذي أسس فيها حكم الأسرة الأموية (757 ـ 787) وخلفه ابنه هشام الأول (788 ـ 795) الذي بدأت في عصره عملية الاندماج الحضاري والاجتماعي لليهود ـ فبدأوا يدرسون في مدارس الدولة.غير أنه نشب تَمرُّد بين اليهود في عصر الحكم الأول (796 ـ 822) في مقاطعة الأندلس عام 818 وحدث تمرد آخر في طليطلة عام 828 بالاشتراك مع المسيحيين المستعربين،وقد قُضيَ على هذه التمردات.
وشهد القرنان العاشر والحادي عشر الميلاديان تَشرُّب اليهود الحضارة العربية الإسلامية، وتَحسُّن أحوالهم المعنوية والروحية والمادية، وتعريب أسمائهم ولغتهم ورؤيتهم، وَتأثُّر آدابهم الدنيوية والدينية بالتراث العربي الإسلامي. وقد وصل اليهود في الفترة نفسها إلى مكانة عالية رفيعة، فعملوا في الوظائف الإدارية والمالية حيث كان يعمل بعضهم في وظيفة يهود البلاط، واشتغلوا بالتجارة المحلية والدولية التي كانت تصل حتى حدود الصين أو كانت تدخل إلى أوربا، واحتكروا بعض أنواع التجارة مثل تجارة العبيد (ومنهم العبيد والجواري البيض) الذين كانوا يحضرونهن من بلاد الصقالبة، واشتغلوا بالحرف مثل الصباغة كما اشتغلوا بالزراعة. وقد برز اليهود في وظائف محددة مثل التجارة الدولية والترجمة بسبب وضعهم وثقافتهم، فقد كانوا يجيدون العربية والعبرية وبعض اللغات الأوربية، الأمر الذي حوَّلهم إلى حلقة وصل وجماعة وظيفية وسيطة بين العالمين الإسلامي والمسيحي، وخصوصاً أنهم كانوا ينتقلون بسهولة ويسر بين إسبانيا المسلمة وإسبانيا المسيحية، فكان اليهودي ينشـأ في إسـبانيا المسـيحية مثلاً ثم ينتقل إلى إسبانيا المسلمة أو العكس.
وقـد تَركَّز اليهـود في المدن مثل قرطبة وطليطلـة وأشبيلية وسرقسطة. ووصل بعض اليهود إلى أعلى الوظائف الحكومية بما في ذلك أعلى مراتب الوزراء كما هو الحالمع حسداي بن شفروط الذي كان يعمل طبيباً ودبلوماسياً في بلاط عبد الرحمن الثالث (912 ـ 961) والحكم الثاني (961 ـ 972). وقد تحوَّلت الأندلس إلى أهم مراكزاليهودية في العالم. وتمثَّل هذا في قيام عدة حلقات دراسية دينية مستقلة عن العراق (في قرطبة وغرناطة وطليطلة وأشبيلية). وقد أُسِّست هذه الحلقات التلمودية بتشجيع منالطبقات الثرية اليهودية في شبه جزيرة أيبريا التي كانت في حاجة إلى حلقات تصدر فتاوى تتفق مع أوضاعها الجديدة وتنازع العراق (المركز التقليدي للحلقات) فيالقيادة. كما أن الحلقات كانت محطة أساسية في الشبكات التجارية. وكانت الفتاوى والسلع تعبر من خلال القنوات نفسها. ومن أهم الحلقات، تلك التي أسسها حسداي بنشفروط في قرطبة عاصمة الأمويين والتي عيَّن لها العالم اليهودي الإيطالي موسى بن حانوخ رئيساً.
وقد اندمجت النخبة اليهودية في محيطها العربي تماماً، واستوعبت أعداد كبيرة منها الفلسفات العقلانية والدنيوية التي كانت الأندلس تربة خصبة لها. وتذهب بعض الدراسات إلى أنه، نتيجةً لهذا، فقدت الجماعة اليهودية أية هوية دينية واضحة، وأنه لذلك لم يَعُد هناك من اليهودية (عند استرداد المسيحيين إسبانيا) سوى قشرة رقيقة كان من السهل على النظام المسيحي الجديد أن يقنع أعضاء الجماعة بطرحها جانباً، من خـلال القـسر أحياناً ومن خلال الإغراء أحياناً أخرى، فتنصرت أعداد كبيرة منهم. ولكن يمكن القول أيضاً بأن ما حدث هو أن اليهودية، باعتبارها نسقاً دينياً، اكتسبت أبعاداً حضارية إسلامية كما هو واضح في فلسفة موسى بن ميمون. ولذا، لم يمكنها الاستمرار تحت الحكم المسيحي، ولم تكن لديها فرصة للتكيف لتظهر يهودية جديدة ذات أبعاد كاثوليكية. وحينما ظهرت، أخذت شكل المارانية، أي يهودية المارانو. ولا تزال الكتب الدينية اليهودية تفسر النكبة التي ألمت بالسفارد (يهود شبه جزيرة أيبريا) وطردهم من شبه الجزيرة، بأنه عقاب لهم لتخليهم عن عقيدتهم.
ومع تفكك الخلافة الأموية والحكم المركزي في إسبانيا، انقسمت إسبانيا إلى دويلات وإمارات إسلامية صغيرة فيما يُعرَف بحكم الطوائف (1008). فاستخدم الأمراء كثيراً من اليهود مثل صمويل بن نغريلة وزير أمير غرناطة. وكان اليهود يعملون مستشارين ماليين وسياسيين، وفي البعثات الخارجية للدول، ويهود بلاط، وملتزمي ضرائب.
وبعد استيلائهم على سدة الحكم عام 1086، قام المرابطون بتطهير جهاز الدولة من اليهود، فتدهورت أحوالهم لبعض الوقت، ولكن الأمور عادت إلى نصابها بعد قليل. ومع صعود أسرة الموحدين عام 1146، لم يَعُد اليهود يتمتعون بذلك الوضع الممتاز، ومُنعت اليهودية في الأندلس، كما أخذ الحكم الإسلامي في الانحسار التدريجي بعد ذلك التاريخ.
ويُقال إن العصر الإسلامي في الأندلس كان يمثل العصر الذهبي لليهود إذ ازدهر الفكر اليهودي الديني والفلسفي نتيجة الاحتكاك بالمسلمين العرب. واكتسبت اللغة العبرية أعماقاً جديدة من خلال علاقتها بالعربية، ودخلت عناصر الحياة على الشعر العبري كما هو واضح في أشعار يهودا اللاوي (هاليفي) وموسى بن عزرا. وكتب المؤلفون اليهود موشحات لم تكن تحاكي الموشحات العربية بشكل عام وحسب وإنما قلدت موشحات عربية بعينها دون تعديل أو تحوير. ونشأ فن المقامة في العبرية وتُرجمتمقامات الحريري وكليلة ودمنة، وظهر موسى بن ميمون أهم المفكرين الدينيين اليهود على الإطلاق، الذي كان لفكره العربي الإسلامي اليهودي أعمق الأثر في الفكر اليهودي في كل أنحاء العالم.
ويبدو أن الجماعات اليهودية في الأندلس لم يكن يربطها تنظيم واحد وليس لها منصب مثل رأس الجالوت (المنفى) في بغداد أو الحاخام باشي في الأستانة الذي يشكل ما يشبه القيادة المركزية، وإنما كانت كل جماعة تشكل مجموعة مستقلة يطلق عليها اسم «الجماعة» يترأسها المقدم الذي يشكل حلقة الوصل بين الجماعة والدولة أو الدويلة أو الإمارة. وربما كان انعدام المركزية بين الجماعات اليهودية انعكاساً للوضع السياسي في شبه جزيرة أيبريا، فقد كانت إسبانيا من أكبر دول أوربا ولم تتمتع بالحكم المركزي إلا في فترات قصيرة. وكما رأينا، انحل الحكم الإسلامي إلى حكم أمراء الطوائف الذي كان يشبه الإقطاع الغربي من بعض النواحي. وقد استمرت هذهاللامركزية حتى بعد أن قام المسيحيون باستعادة إسبانيا.
الأندلــــس
Al Andalus
انظر: «إسبانيا الإسلامية (الأندلس)».
العصـــر الذهـــبي لليـــهود
The Golden Age of the Jews
«العصر الذهبي لليهود» عبارة تُستخدَم للإشارة إلى الوجود اليهودي في الأندلس،وخصوصاً في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين،ويُقصَد بها الفترة التي حقق أعضاء الجماعة اليهودية في أثنائها إنجازات حضارية هائلة من خلال التفاعل مع الحضارة العربية الإسلامية.
الباب الثالث: الدولة العثـمانية وفارس بعد انتشار الإسلام
الدولـــة العثمانيـة
The Ottoman State
قام العثمانيون، وهم مجموعة من القبائل التركية، بقيادة زعميها عثمان الأول (1293 ـ 1326)، بتأسيس الدولة العثمانية. بدأ العثمانيون بتوحيد الإمارات التركية في آسيا الصغرى التي مدت سلطانها إلى جنوب أوربا والشرق الأدنى القديم. ومع حلول منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، كانت الدولة العثمانية الناشئة قد ضمت مناطقكبيرة من البلقان واليونان، وفتحت القسطنطينية عام 1453. وقد استولى العثمانيون على سوريا وفلسطين ومصر (1516 ـ 1517) ومعظم المجر (1526) والعراق (1530). ومع منتصف القرن السادس عشر الميلادي، حيث وصلت الإمبراطورية إلى أعلى قمة نفوذها، بسط العثمانيون نفوذهم على شبه الجزيرة العربية وضموا معظم شمال أفريقيا وكثيراً من الجزر في البحر الأبيض المتوسط. وكانت تحكم الإمبراطورية العثمانية نخبة عسكرية تركية مسلمة. وقد بدأ مد العثمانيين في التوقف عام 1683 حينما فشلوا للمرة الثانية في الاستيلاء على فيينا. وبعد ثلاثة أعوام فقدوا بودا (بودابست) ووقعوا أول معاهدة يقرون فيها بهزيمتهم. وبالتدريج، أخذ النفوذ العثماني في الانحسار، إذ بدأت روسيا في الزحف من الشمال، وظهرت الدولة الصفوية (الشيعية) التي ناصبت الدولة العثمانية العداء، وظهرت دول أوربا البحرية ومن بينها إسبانيا والبرتغال، ثم إنجلترا وفرنسا اللتان قلصتا نفوذ الدولة العثمانية واستولتا على بعض أرضها وعلى أجزاء من العالم الإسلامي إلى أن سقطت الخلافة العثمانية على يد ثورة تركيا الفتاة. وتمزقت الإمبراطورية العثمانية تماماً مع الحرب العالمية الأولى، واستقلت كل الدول التي كانت تابعة لها.
وتاريخ يهود العالم الإسلامي (ابتداءً من القرن الخامس عشر الميلادي) هو تقريباً تاريخهم داخل الدولة العثمانية، فقد ضمت الإمبراطورية العثمانية المترامية الأطراف جماعات يهودية عديدة تتحدث لغات مختلفة ولها انتماءات إثنية ودينية متنوعة.
1 ـ الرومانيوت: حينما فتح العثمانيون آسيا الصغرى واليونان والبلقان، وجـدوا يهود الدولة الرومانية الشـرقية (البيزنطيـة) الذين كانوا يتحدثون اليونانية، وكان يُطلَق عليهم أيضاً «الجريجوس»، أي «اليونانيون».
2 ـ الإشكناز: مع بداية القرن الخامس عشر الميلادي، هاجرت جماعات من اليهود الإشكناز من ألمانيا وفرنسا إلى الدولة العثمانية.
3 ـ السفارد: مع طرد يهود شبه جزيرة أيبريا الذين كانوا يتحدثون اللادينو، هاجرت أعداد منهم إلى الدولة العثمانية، وكانت هجرتهم تفوق في أعدادها الهجرة الإشكنازية. وقد أصبح السفارد أهم العناصر اليهودية وطبعوا بقية الجماعات بطابعهم، حتى أن اللادينو أصبحت هي لغة اليهود الأساسية، تماماً مثل اليديشية في أوربا آنذاك.
4 ـ اليهود المستعربة: وهم اليهود العرب الذين يتحدثون العربية وينتمون إثنياً إلى الأمة العربية ويرتدون الزي العربي.
5 ـ اليهود الأكراد (في العراق): وكانوا يتحدثون الكردية. وكان منهم أيضاً من يتحدث الآرامية في القرى الجبلية البعيدة، كما كان سكان المدن منهم يتحدثون العربية.
6 ـ اليهود القرّاءون: وكان من بينهم من يتحدث العربية (في مصر) ومن يتحدث التركية (في شبه جزيرة القرم) وربما كان هؤلاء بقايا دولة الخزر اليهودية.
7 ـ اليهود السامريون في فلسطين.
8 ـ كانت هناك جماعات يهودية متناثرة تتحدث المجرية والرومانية وغيرها من اللغات الأوربية في المقاطعات التي ضمها العثمانيون.
وكانت توجد تجمعات يهودية في آسيا الصغرى واليونان، في إستنبول وسالونيكا وأدرنة وأزمير وبورصة، وكذلك في فلسطين والعراق ومصر واليمن وتونس والجزائر. وكان يُطلق على كل تجمُّع يهودي لفظة جماعة )بالعبرية: قهال). وكانت كل جماعة تُسمَّى حسب البلد الذي جاءت منه مثل: بروفنسال أو كورفو أو أراجون أو صقلية أو طليطلة أو قرطبة أو الأندلس. وكانت كل جماعة تنقسم عادةً إلى جماعتين، فالبروفنسال مثلاً تصير إلى بروفنسال القديمة والجديدة، وكانت كل جماعة تحتفظ باستقلالها، وعلى سبيل المثال كان يوجد في سالونيكا (في القرن السادس عشر) ثلاث عشرة جماعة يهودية مقسمة حسب البلد الأصلي يتحدثون اليونانية أو الإيطالية أو الإيطالية باللهجة الصقلية أو البرتغالية أو اللادينو. وكان يوجد في إستنبول ثلاثون جماعة يهودية، لكلٍّ معبدها وحاخامها ومحاكمها الخاصة التي لم تكن لها سلطة تنفيذية وجمعية الدفن المقصورة على أعضائها. ولم تكن العلاقات بين هذه الجماعات ودية بل كانت تتصارع فيما بينها. فالجماعات الكبيرة تضطهد الصغيرة، والجماعات التي تنتمي إلى أصل واحـد والمتناثرة في مدن مختلفـة تتعـاون فيما بينها ضد الجماعات الأخرى، كما كانت هذه الجماعات تشي ببعضها البعض لدى السلطات. فعلى سبيل المثال، حدث شجار في دمشق بين اليهود المستعربة والسفارد حول عمق الحمام الطقوسي، فوجَّه اليهود المستعربة بعض الاتهامات الظالمة إلى السفارد أمام السلطات التي قبضت على بعض منهم وألقت بهم في السجن.
وكان السفارد يشيرون إلى الرومانيوت بأنهم «التوشافيم»، أي «السكان الأصليين» بكل ما تحمل الكلمة من إيحاءات قدحية، كما كانوا يشيرون إليهم بلفظ «الجريجوس» وهي تسمية كانت هي الأخرى ذات دلالات سلبية. وكان الرومانيوت يشيرون بدورهم إلى السفارد باعتبارهم «مجوراشيم» أي «المطرودين» أو «المنبوذين». ولم تكن هناك سلطة يهودية مركزية أو منصب حاخام أكبر، وهو ما يجعل تجربة يهود الدولة العثمانية تشبه من بعض الوجوه تجربة يهود الولايات المتحدة الذين يتكونون من جماعات مختلفة لا يربطها رباط مركزي. وحينما نشأت وحدة بين هذه الجماعات، كانت ثمة وحدة فيدرالية ضعيفة. ولكن، مع هذا، تمت عملية الامتزاج بينها بالتدريج. وهذا يعود إلى أن الأجيال الجديدة من اليهود لم تَعُد تهتم بالبلد الأصلي، وبدأت تتحرك داخل إطار تجربتها العثمانية كما هي العادة مع الجيل الثالث من أبناء المهاجرين. ومما ساعد على مزج اليهود في الدولة العثمانية صدور الشولحان عاروخ الذي قبلته الجماعات اليهودية كافة باعتباره المرجع الأساسي للشريعة. ومع حلول القرن الثاني عشر الميلادي، كانت أغلبية الجماعات اليهودية تعتبر نفسها سفاردية وتتحدث اللادينو، وكانت هناك أقلية صغيرة إشكنازية يتحدث بعض أعضائها اليديشية، وأخرى قرّائية، وذلك بخلاف الأقليات الهامشية مثل السامريين والأكراد. وقد أخذ عدد يهود الدولة العثمانية في التزايد بسبب اتساع الدولة حيث كانت تضم جماعات يهودية جديدة كلما ازدادت توسُّعاً ، وكذلك عن طريق هجرة اليهود إليها، أو عن طريق التزايد الطبيعي.
ويتميَّز يهود الدولة العثمانية بانتمائهم لها. فأثناء الفتح العثماني لآسيا الصغرى وبعض أنحاء أوربا تعاون يهود بورصة (1354) وأدرنة والقسطنطينية (1433) وبودا (1526) ورودسي وأذربيجان وبلجراد (1543) مع القوات العثمانية الفاتحة. رحبت الدولة العثمانية بالمهاجرين من أعضاء الجماعات اليهودية فهاجرت أعداد كبيرة منهم وأصبحوا عثمانيين بمحض إرادتهم، أي أنهم هاجروا إليها واستوطنوا فيها وجعلوها وطنهم الوحيد واندمجوا في الحضارة الإسلامية. ولم تضم الدولة العثمانية عبر تاريخها سوى أقلية من يهود العالم إذ أن مركز اليهود السكاني كان قد انتقل إلى أوربا ابتداءً من القرن الرابع عشر الميلادي. وفي القرن التاسع عشر الميلادي، بلغ عدد اليهود في الدولة العثمانية، ثلاثمائة ألف، أي أقلية صغيرة للغاية بالقياس إلى يهود العالم الغربي الذين كانوا على عتبات الانفجار السكاني (حيث زاد عددهم إلى عشرة ملايين مع أواخر القرن التاسع عشر الميلادي)، وهو انفجار لم يكن له ما يناظره في الدولة العثمانية.
وقد رحب العثمانيون من جانبهم بالهجرة اليهودية من أوربا، فقد كتب الحاخام إسحق تسارفاتي عام 1479 إلى يهود ألمانيا والمجر لحثهم على الهجرة إلى الدولة العثمانية. وكان العثمانيون يرون أن العنصر اليهودي عنصر بشري مهم للإمبراطورية نظراً لخبرته المالية والعلمية ومعرفته باللغات الأجنبية، إلى جانب أنه يشكل كثافة بشرية كانت الإمبراطورية في أمس الحاجة إليها.
ومن الكلمات المهمة في المصطلح السياسي العثماني كلمة «سورجون»، وهـي تعني النفـي أو الترحيل أو التهـجير أو النقـل الإجباري. وكان السورجون يطبق على فرد أو أسرة أو جماعة بشرية كاملة باعتباره شكلاً من أشكال العقاب أحياناً، ولخدمة مصلحة الدولة العثمانية في أحيان أخرى. وقد كانت الدولة تنظر إلى أعضاء الجماعات اليهـودية باعتبارهـم عنصراً بـشرياً يمكن أن يُطبَّـق عليه قانون السورجون، فكانوا يُوطَّنون في مكان ما لموازنة العنصر المسيحي كما حدث في قبرص، أو كان ينظر إليهم باعتبارهم عنصراً تجارياً يمكن أن يُنشِّط الحياة الاقتصادية فيتم توطينهم في المدن مثل إستنبول وأدرنة.
ومما شجع اليهود على الهجرة إلى الدولة العثمانية أنها منحتهم الحقوق كافة مثل الاشتغال بأية حرفة أو امتلاك الأراضي الزراعية والعقارات، ولقد وصلوا إلى أرفع المناصب. ولدراسة الوضع الاقتصادي والاجتماعي لليهود في الدولة العثمانية، لابد أن نقرر ابتداءً أن أعضاء الأقليات في المجتمعات التقليدية لم يكن بإمكانهم أن يشغلوا وظائف حربية أو إدارية أساسية أو إستراتيجية معيَّنة لأسباب أمنية، وأنهم في العادة يتركزون في وظائف ونشاطات اقتصادية مالية ومهنية وهو ما يحوِّلهم إلى جماعات وظيفية. وهذا ما حدث لأعداد من أعضاء الجماعات اليهودية في الدولة العثمانية، فكان منهم المترجمون، وكانت وظيفة ترجمان البلاط يشغلها دائماً يهودي. كما اشتغل اليهود بمهنة الطب، ولربما تفوقوا في هذا المجال لأنهم تعلموا في أوربا فنون الطب الذي كان مختلفاً عن الطب في العالم الإسلامي في القرن السادس عشر الميلادي وأكثر تطوراً. ويبدو أن اليهود أيضاً ساهموا في نقل بعض جوانب تكنولوجيا السلاح من الغرب، وهو ما سبب حنق المراقبين الغربيين عليهم لأنهم عدوهم مسئولين عن التفوق العسكري العثماني. كما أنهم نقلوا فن الطباعة، واشتغلوا بالصناعة فأسسوا كثيراً من مصانع النسيج، كما اشتغلوا بالتجارة الدولية وشكلوا جماعة وظيفية وسيطة بين الدولة العثمانية وأوربا. وعمل اليهود في الوظائف المالية مثل الإقراض بالربا كما أنهم، والسفارد منهم على وجه الخصوص، اضطلعوا بوظيفة المديرين الماليين للولاة العثمانيين ولكثير من الباشوات العثمانيين. ومن أهم الوظائف التي اضطلعوا بها تلك الوظائف المرتبطة بالضرائب سواء أكانوا جامعي أو مفتشي ضرائب أو موظفي جمارك أو ملتزمي ضرائب. وكانت أغلبية العاملين في الضرائب في الدولة العثمانية من أعضاء الجماعات اليهودية حتى أن الإيصالات كثيراً ما كانت تُكتَب بحروف عبرية.