المجلد السابع: إسرائيل.. المستوطن الصهيوني 1

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

الجزء الأول: إشكالية التطبيع والدولة الوظيفية

الباب الأول: إشكالية التطبيع

التطبيـــــــع

Normalization

«التطبيع» هو تغيير ظاهرة ما بحيث تتفق في بنيتها وشكلها واتجاهها مع ما يعده البعض «طبيعياً». ولكن كلمة «طبيعة» كلمة لها عدة معان. وقد استخدمنا هذه الكلمةبمعنى «الطبيعة/المادة»، والتطبيع في هذه الحالة يعني إعادة صياغة الإنسان حسب معايير مستمدة من عالم الطبيعة/المادة بحيث تصبح الظاهرة الإنسانية في بساطةوواحدية الظاهرة الطبيعية/المادية.

ولكن كلمة «طبيعي» يمكن أن تعني «مألوف» و«عادي»، ومن ثم فإن التطبيع هو إزالة ما يعده المطبَّع شاذاً، ولا يتفق مع المألوف والعادي و«الطبيعي».

وقد ظهر المصطلح لأول مرة في المعجم الصهيوني للإشارة إلى يهود المنفى (العالم) الذين يعدهم الصهاينة شخصيات طفيلية شاذة منغمسة في الأعمال الفكرية وفي الغش التجاري، ويعملون في أعمال هامشية مثل الربا وأعمال مشينة مثل البغاء. وقد طرحت الصهيونية نفسها على أنها الحركة السياسية والاجتماعية التي ستقوم بتطبيع اليهود، أي إعادة صياغتهم بحيث يصبحون شعباً مثل كل الشعوب (انظر الباب المعنون «مسألة الحدودية والهامشية»، وانظر أيضاً المداخل التالية: «إصلاح اليهود واليهودية» ـ «نفع اليهود» ـ «تطبيع الشخصية اليهودية»). ومع إنشاء الدولة الصهيونية اختفى المصطلح تقريباً من المعجم الصهيوني بسبب حاجة الدولة الصهيونية الماسة لدعم يهود العالم لها.

ولكن المصطلح عاود الظهور مرة أخرى في أواخر السبعينيات بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد. ولكنه طُبِّق هذه المرة على العلاقات المصرية الإسرائيلية، إذ طالبت الدولةالصهيونية بتطبيع العلاقات بين البلدين، أي جعلها علاقات طبيعية عادية، مثل تلك التي تنشأ بين أي بلدين. وقد قاوم الشعب المصري هذا التطبيع.

الشـــــذوذ البنيـــــوي

Structural Abnormality

إذا كانت بنية الظاهرة هي مجموعة العلاقات المتشابكة التي تكوِّن هذه الظاهرة وتمنحها صفاتها الأساسية ومنحناها الخاص الذي يميزها عن غيرها من الظواهر، فإن الشذوذ البنيوي هو حالة لصيقة ببنية هذه الظاهرة، أي بتركيبها الجوهري. وإصلاح هذا الشذوذ يعني تغيير بنية هذا الشيء تماماً.

ونحن نذهب إلى أن السمة الأساسية للدولة الصهيونية أنها تجمُّع استيطاني إحلالي يوظِّف الديباجات اليهودية، وأن نقطة انطلاقه هي الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة المهوَّدة، التي تذهب، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، إلى أن اليهود شعباً عضوياً يعيش في الغرب ولا ينتمي إليه، ولذا يجب أن يوطَّن في أرض أجداده، أي فلسطين، التي يجب أن تفرغ ممن قد يتصادف وجوده فيها من البشر. وقد ترجمت هذه الصيغة إلى الشعار "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".

التطبيـــع السياســـــي والاقتصــــادي

Political and Economic Normalization

«التطبيع السياسي والاقتصادي» هو إعادة صياغة العلاقة بين بلدين بحيث تصبح علاقات طبيعية. وتصر إسرائيل على أن التطبيع السياسي والاقتصادي بينها وبين الدول العربية هو شرط أساسي لتحقيق السلام في الشرق الأوسط. ولكن يوجد خلل أساسي في المفهوم وفي المحاولة، فالتطبيع السياسي والاقتصادي يجب أن يتم بين بلدين طبيعيين، وهو الأمر الذي لا يتوافر في الجيب الاستيطاني الصهيوني بسبب شذوذه البنيوي. فالدولة الصهيونية لا تزال تجمُّعاً استيطانياً وليس دولة للمواطنين الذين يعيشون داخل حدودها. ويعطي قانون العودة الحق ليهود العالم في "العودة" إلى فلسطين المحتلة باعتبارها وطن أجدادهم بعد أن تركوها منذ ألفي عام، وينكر هذا الحق على الفلسطيني الذي اضطر لمغادرة فلسطين منذ بضعة أعوام. كما يتبدى الشذوذ البنيوي في علاقة الدولة الصهيونية بالمنظمة الصهيونية وبالوكالة اليهودية، فهي علاقة شاذة ليس لها نظير في الدول الأخرى. وإسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي تتمتع بعضوية مشروطة بهيئة الأمم المتحدة، وشرط قبولها في المنظمة الدولية هو إعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين، وهو الأمر الذي لا توجد أية مؤشرات على احتمال تنفيذه في المستقبل القريب.

ويتبدى شذوذ إسرائيل البنيوي بشكل واضح في علاقتها بالفلسطينيين ومحاولتها الدائبة أن تحاصرهم مجازياً وفعلياً، وأن تفتت وجودهم القومي وأن تضرب عليهم بيد من حديد وأن تستغلهم باعتبارهم مادة بشرية وسوقاً للسلع. كما يتبدى في علاقتها بالعالم العربي الذي تراه باعتباره "المنطقة"، أي مجرد مكان لا تاريخ له ولا اتجاه، ولذا فهي تعتبره سوقاً للسلع ومصدراً للمواد الخام والعمالة الرخيصة وحسب، وتطرح السوق الشرق أوسطية بديلاً للسوق العربية المشتركة. لكل هذا تصبح محاولة التطبيع مع الفلسطينيين ومع الدول العربية محاولة يائسة ترتطم ببنية الكيان الصهيوني الشاذة غير الطبيعية التي تتبدى في سلوكه الشاذ غير الطبيعي.

التطبيـــــــــع المعرفــــــــي

Epistemological Normalization

«التطبيع المعرفي» هو محاول إضفاء صبغة طبيعية على ظاهرة لها خصوصيتها وتفردها وشذوذها بحيث تبدو هذه الظاهرة وكأنها تنتمي إلى نمط عام متكرر هي في واقع الأمر لا تنتمي له، ومن ثم يتم إدراكها وتخيُّلها ورصدها داخل هذا الإطار. ونحن نذهب إلى أن الخطاب السياسي العربي في تحليله للظاهرة الصهيونية قد سقط في محظورين:

1 ـ المغالاة في التخصيص إلى درجة الأيقنة وهي سمة يتسم بها الخطاب المعادي لليهود الذي يرى أن اليهود مصدر كل شرور العالم، وأن الدولة الصهيونية تعبير عن المؤامرة الصهيونية الأزلية. وهذا الخطاب يخرج بالظاهرة الصهيونية من عالم الظواهر الإنسانية ويدخل بها عالم الظواهر الشيطانية، ومن ثم فلا حل لها.

2 ـ المغالاة في التعميم وإسقاط كل سمات الخصوصية، وهي سمة يتسم بها الخطاب الذي يصف نفسه بأنه «علمي» و«موضوعي»، والذي يذهب إلى أن الدولةالصهيونية هي دولة مثل أي دولة أخرى، ومن ثم يصبح الحديث عن الدولة الصهيونية حديثاً عاماً عن "قوة العدو العسكرية والاقتصادية" دون أي اهتمام بالمنحنى الخاصللظاهرة الصهيونية.

وقد أدَّت المغالاة في التعميم، باسم العلمنة والموضوعية، إلى تطبيع النظام السياسي الإسرائيلي، أي محاولة دراسته باعتباره كياناً سياسياً طبيعياً عادياً بحيث تُستخدَم نفس المقولات التحليلية العامة التي تُستخدَم في دراسة النظم السياسية في العالم الغربي، وكأن الكيان السـياسي الإسـرائيلي لا يختلف في أسـاسـياته عن أي كيان سياسي آخر. فيتم الحديث عن نظام الحزبين في الديموقراطية الإسرائيلية، وعن أن كلاًّ من إنجلترا وإسرائيل لا يوجد فيهما دستور؛ أو أن النظام السياسي الإسرائيلي يتبع النمط الأنجلو أمريكي (الثنائي) لا النمط الأوربي الأكثر تعددية؛ وأن النقابات العمالية قوية في إسرائيل، كما هو الحال في أوربا وليس كما هو الحال في الولايات المتحدة.

وعلماء السياسـة العرب الذين يتبنون مثل هذه الرؤية يُخطئـون مرتين: من الناحيـة المعرفيـة ومن الناحيـة الأخلاقيـة. فمن الناحية المعرفية، يمكن القول بأن وصفهم للظاهرة الصهيونية ليس ذا مقدرة تفسيرية عالية، فهو غير قادر على تفسير ظاهرة مثل المنظمة الصهيونية أو دور الوكالة اليهودية التي تساعد سكان الدولة الصهيونية من اليهود، وتستبعد العرب، فهذه المؤسسة ليس لها نظير في أية «ديموقراطية» أخرى. كما أنه غير قادر على تفسير قانون العودة، ولا ضخامة الدعم المادي والمعنوي الذي يقدمه العالم الغربي للجيب الصهيوني. كما أنهم يُخطئون من الناحية النضالية والأخلاقية: إذ كيف يمكن الحديث عن ديموقراطية تستند إلى حادثة اغتصاب أرض وذبح بعض سكانها وطرد البعض الآخر واستبعاد لمن تبقى من العملية السياسية نفسها؟ والفشل الإدراكي المعرفي التفسيري هنا هو نفسه الفشل النضالي الأخلاقي، إذ أن التطبيع يخفي عن الأنظار (وعن الضمير) الظروف الخاصة بالكيان الصهيوني ككيان استيطاني إحلالي، كما يخفي حقيقة أن استيطانية الكيان الصهيوني وإحلاليته واعتماده الكامل على الدعم الغربي هو القانون الأساسي الذي يحكم ديناميته ومساره في الماضي والحاضر. فهذه الاستيطانية الإحلالية هي التي تُفسِّر عدم وجود دستور حتى الآن في إسرائيل، وتُفسِّر أهمية قانون العودة ومركزيته. وهذه الاستيطانية الإحلالية هي التي تجعلنا نكتشف أن الأحزاب الإسرائيلية ليست في أساسها أحزاباً وإنما مؤسسات استيطانية استيعابية تضطلع بوظائف لا تضطلع بها الأحزاب السياسية في الدول الأخرى ويتم تمويلها عن طريق المنظمة الصهيونية "العالمية". وهذه الاستيطانية الإحلالية هي التي تُفسِّر ضخامة الدعم الإمبريالي لإسرائيل ودور إسرائيل كدولة وظيفية.

وظاهرة مثل الكيبوتسات (المزارع الجماعية) وظواهر أخرى مثل عسكرة المجتمع الإسرائيلي، والطبيعة الاستيطانية الإحلالية للدولة الصهيونية، واعتماد وجودهاواستمرارها على الولايات المتحدة بشكل تام، وإدراك الصهاينة لهذا الواقع بدرجات متفاوتة هو الذي يحدِّد سلوكهم وحربهم وسلمهم، وما ينكرونه علينا وما قد يُقررونمنحنا إياه. وإسقاط هذه الأبعاد الخاصة يجعل عملية التطبيع المعرفية المنهجية عملية تسويغ وتبرير غير واعية للوجود الصهيوني وإضفاء درجة من الشرعية عليه.

وسنحاول في مداخل هذا المجلد أن نتناول خصوصية الظاهرة الصهيونية وأن نبيِّن البُعد الصهيوني أو «صهيونية» الظواهر الإسرائيلية المختلفة.

تطبيـــــــــع المصطلــــــــح

Normalization of Terminology

حاول الخطاب السياسي العربي أن يتعامل مع الظاهرة الصهيونية في تفردها وعموميتها، فهي كانت بالفعل ظاهرة جديدة كل الجدة على الشعب العربي سواء في فلسطين أن خارجها: أن تأتي كتلة بشرية، تحت رايات الاستعمار البريطاني وتدريجياً تبدأ في احتلال الأرض إما بالقوة العسكرية أو من خلال شراء الأراضي إما مباشرةً من بعض كبار الملاك أو بشكل غير مباشر من خلال وسطاء ثم تتحول الكتلة البشرية الغازية، بين يوم وليلة، إلى دولة تستولي على جزء كبير من فلسطين ثم تقوم بطرد السكان الأصليين، يساندها في ذلك العالم الغربي بأسره.

ورغم أن التجربة الصهيونية الاستيطانية تجربة فريدة في كثير من جوانبها إلا أن هناك جوانب منها مشتركة مع ظواهر أخرى، فهي جزء من الغزوة الاستعمارية التي أخذت شكل استعمار عسكري مباشر في بعض البلدان العربية. فهناك التجربة المصرية والسودانية والعراقية واليمنية مع الاستعمار البريطاني، والتجربة السورية واللبنانية والمغربية والتونسية مع الاستعمار الفرنسي، والتجربة الليبية والصومالية مع الاستعمار الإيطالي. كما أخذت الغزوة الاستعمارية شكل الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر. كما يُلاحَظ أن الاستعمار الإنجليزي أخذ شكل الاستعمار الاستيطاني الإحلالي في جنوب السودان، حيث قام بنقل (ترانسفير) السودانيين المسلمين حتى يجعل الجنوب خالياً من العرب (بالألمانية: أراب راين Arabrein)

وفي محاولة الخطاب العربي وصف الغزوة الصهيونية في خصوصيتها وعموميتها، كان أول مصطلح استُخدم هو «إسرائيل المزعومة»، وهو مصطلح ليس له أية مقدرة تفسيرية، وكان تعبيراً عن عدم التصديق العربي لما حدث. وظهرت مصطلحات مماثلة أخرى مثل «شذاذ الأفاق». وهو مصطلح استُخدم في فلسطين للإشارة إلى المستوطنين الصهاينة، يحاول التهوين بشكل مبالغ فيه من ظاهرة الغزو الصهيوني، وإن كان قد نجح في رصد ظاهرة عدم التجذر التي تسم المجتمعات الاستيطانية. ولكن مع منتصف الخمسينيات بدأ الحديث عن إسرائيل باعتبارها "مخلب القط" للاستعمار الغربي (وهو مصطلح استمر فيما بعد في عبارة "إسرائيل كحاملة طائرات")، وباعتبارها "قاعدة الاستعمار الغربي". وهي مصطلحات تقترب إلى حدٍّ ما من الطبيعة الوظيفية للظاهرة الصهيونية.

ولا يزال الخطاب العربي يتأرجح في محاولته تسمية دولة إسرائيل فهي أحياناً «الدولة الصهيونية» وأحياناً أخرى «الدولة اليهودية»، وهناك من يشير إليها أحياناًباعتبارها «الدولة العبرية». ونحن لا نستخدم اصطلاح «الدولة اليهودية» (إلا إذا اضطرنا السياق لذلك) لأن ليس له قيمة تصنيفية أو تفسيرية، إذ لا يمكن تفسير سلوكإسرائيل استناداً إلى التوراة والتلمود. كما لا نستخدم مصطلح «الدولة العبرية» لأنه لا دلالة له، ولأنه يحاول تطبيع الدولة الصهيونية إذ أنه يفترض وجود ثقافة عبرية وهوية عبرية ذات مصالح قومية محددة، وهو أمر خلافي إلى حدٍّ كبير. فالدولة الصهيونية لا تزال تدَّعي أنها دولة كل يهود العالم، وهي ولا شك مجتمع مهاجرين غير مستقر ولم تتحدد هويته بعد. وهي لا تزال تشغل الأرض الفلسطينية وترفض عودة الفلسطينيين. ومن ثم فنحن نشير لإسرائيل باعتبارها «الدولة الصهيونية»، و«الصهيونية» هنا تعني «الاستعمار الاستيطاني الإحلالي الصهيوني». كما نشير لها بأنها «الدولة الوظيفية» أو «الدولة الصهيونية الوظيفية»!

وهناك بعض المصطلحات مثل: «فلسطين المحتلة» ـ «التجمُّع الصهيوني» ـ «الكيان الصهيوني» ذات مقدرة تفسيرية عالية لأنها لا تعكس الإدراك العربي للظاهرةالصهيونية وحسب، وإنما تقترب إلى حدٍّ كبير من بنية الكيان الصهيوني.

فلســـطين المحتلــة

Occupied Palestine

«فلسطين المحتلة» مصطلح يتواتر في الخطاب السياسي العربي يؤكد أن وضع فلسطين لم يتقرر بعد وأنها لم تصبح بعد إسرائيل بشكل نهائي، وأن الأمور لم يتم تسويتهاوتطبعها، وأن فلسطين في نهاية الأمر ليست "أرضاً بلا شعب" كما كان الزعم. لكل هذا فنحن نرى أن مصطلح «فلسطين المحتلة» مصطلح منفتح يترك الباب مفتوحاً أمام الجهاد والاجتهاد، ولا يقبل الأمر الواقع والوضع القائم (المبني على الظلم) باعتباره نهائياً. وبعد عام 1967 تشير كثير من الأدبيات العربية إلى «فلسـطين المحتلة عام 1948» مقابل «فلسـطين المحتلة بعد عام 1948».

وكثير من الصهاينة يدركون هذا البُعد في الخطاب العربي. وقد صرح مناحم بيجين وغيره أنه لو كانت «إسرائيل» هي «فلسطين»، لفقدت الصهيونية صفتها باعتبارها حركة تحرُّر وطني للشـعب اليهـودي وأصبحت عملية اسـتعمار واغتصاب. وعلى كلٍّ قررت الدولة الصهيونية ألا تغلق باب الاجتهاد تماماً ولذا فهي لم تحدد حدودها حتى الآن، وهي مستمرة بكل إصرار في إقامة المستوطنات للصهاينة والمعازل للفلسطينيين، أي أنها بمعنى من المعاني رفضت تطبيع ذاتها، مما يعني أن الحلبة لا تزال مفتوحة لكل أشكال الحوار الأخرى بما في ذلك الحوار المسلح، ومن ثم فإسقاط مثل هذا المصطلح هو سقوط في عملية التطبيع المعرفي والمصطلحي.

التجـمع الصـهيوني

Zionist Aggregate

«التجمُّع الصهيوني» مصطلح يُستخدَم في الخطاب التحليلي العربي للإشارة إلى الدولة الصهيونية التي تشير إلى نفسها أحياناً بأنها «الدولة اليهودية». والمصطلح يحاول أن يؤكد حقيقة أن إسرائيل لا تشكل مجتمعاً عادياً متماسكاً متجانساً يتسم بقدر معقول من الوحدة، وإنما هو مجرد تجمُّع من مجموعات بشرية، تتصارع فيما بينها إلا في مواجهة عدو خارجي (فهي أقرب إلى التركيب الجيولوجي التراكمي). والإشارة إلى الدولة الصهيونية باعتبارها "تجمعاً" لا يشكل سباً لها أو تقليلاً من شأنها وإنما هو محاولة جادة للتعرف على السمات الأساسية لهذا الكيان الغريب الذي له صفاته الخاصة (وأحياناً الفريدة).

الكيان الصهيوني

Zionist Entity

«الكيان الصهيوني» مصطلح يُستخدَم في الخطاب السياسي العربي للإشـارة إلى الدولة الصهيونية. وهو مصطـلح له مقدرة تفسيرية عالية لأنه منفتح، فهو لا يقبل القول بأن ما أُسِّس على أرض فلسطين هو مجتمع يهودي متجانس تحكمه دولة عادية، وإنما هو كيان كائن لم تتحدد صفاته بعد، أي أن المصطلح هنا يؤكد الشذوذ البنيوي لهذا الكيان الذي غُرس في فلسطين المحتلة غرساً وفُرض عليها فرضاً. ولأنه كيان مشتول لا جذور له فإنه يمكن أن "يُنفَض" كما يُنفَض الغبار (ومن هنا كان مصطلح «الانتفاضة»).

واستخدام كلمة «كيان»، شأنها شأن عبارة «فلسطين المحتلة» و«تجمُّع» لا تتضمن أيَّ شكل من أشكال السب أو القدح، وإنما هو محاولة جادة للابتعاد عن القوالب اللفظية الجاهزة التي تسقط في العموميات وتتجاهل المنحنى الخاص للظاهرة وتقوم بالتطبيع المعرفي للظاهرة الصهيونية. واستخدام هذه المصطلحات لا يعني أن «الكيان الصهيوني» أقل قوة أو بطشاً أو تواجداً من الناحية العسكرية من «الدولة الصهيونية»، فجماعات المغول التي اكتسحت العالم الإسلامي وأسقطت الخلافة وهدَّدت العالم المسيحي، لم يكن تشكل دولة ولا حتى قبائل رعوية في بقعة محددة، وإنما، كما يبدو، كانت فائضاً سكانياً ضخماً قذفت به سهوب منغوليا الشاسعة عبر موجات متكررة، فاكتسحت الصين والهند ثم العالم الإسلامي. وكان هذا الفائض يتسم ببراعة عسكرية فائقة ومقدرة على إدارة الحرب النفسية وكان يحمل رغبة صادقة في تحطيم الحضارة الإنسانية باعتبارها تعبيراً عن شكل من أشكال الانحلال.

والكيان الصهيوني هو أيضاً شيء فريد، فائض بشري أرسلته أوربا إلى فلسطين، بعد أن قامت بتسليحه ودعمه وتغطيته عسكرياً وسياسياً واقتصادياً. وأوربا تشكيل حضاري أحرز تقدماً تكنولوجياً ضخماً تملك ناصيته المستوطنون الصهاينة، كما تملَّكوا ناصية أساليب الإدارة المتقدمة التي طوروها. ولكن كل هذا لا يجعلهم مجتمعاً أو دولة "عادية"، ومن هنا استخدام مصطلح مثل «تجمُّع» أو «كيان».

المشروع الصهيوني

Zionist Project

«المشروع الصهيوني» عبارة تتردد في الخطاب السياسي العربي يُقصد منها أحياناً المخطط الصهيوني لاحتلال فلسطين وطرد أهلها أو الهيمنة عليهم (ويُقصد منها أحياناًأخرى المؤامرة اليهودية التي لا تنتهي).

ويمكن القول بأن المشروع الصهيوني هو النموذج المثالي الصهيوني (ما ينبغي أن يكون). وتتبدى من خلال هذا المشروع كل سـمات الشـذوذ البنيوي التي اتضحت فيما بعد من خلال الأداء الصهيوني. فالمشروع يتحقَّق في الزمان والمكان، الأمر الذي يعني أن التناقُض بين ما ينبغي أن يكون وما يتحقَّق بالفعل يأخذ في الظهور. ومع هذا يردد كثير من العرب أن المشروع الصهيوني خطة محكمة آخذة في التحقُّق بحذافيرها، وأن هرتزل على سبيل المثال تنبأ بأن الدولة الصهيونية ستُقام بعد خمسين عاماً وأن نبوءته قد تحققت بالفعل. وما يغفل عنه الكثيرون أن عدد النبؤات الصهيونية الذي لم يتحقق يفوق كثيراً عدد ما تحقَّق. فقد تنبأ هرتزل عام 1904 أن ألمانيا هي التي ستأخذ الدولة الصهيونية تحت جناحيها، أي قبل أن تأخذ الدولة النازية أعضاء الجماعات اليهودية في أوربا تحت جناحيها (على طريقتها الجهنمية الخاصة) بثلاثين عاماً. وقد تنبأ بن جوريون بأنه بعد إنشاء الدولة بسنتين أو ثلاثة ستستسلم كل الدول العربية وستوقِّع معاهدات سلام مع الدولة الصهيونية وأن الفلسطينيين العرب سيتركون أراضيهم بحثاً عن الثروة في بقية العالم العربي.

ولكن الأهم من هذا كله هو التناقضات العميقة التي ظهرت والتي زادت من الشذوذ البنيوي للكيان الصهيوني. فقد خطط الصهاينة على سبيل المثال لتأسيس دولة يهودية خالصة كان من المفروض أن يهرع لها كل يهود العالم أو غالبيتهم، وكان المفروض أن تكون هذه الدولة دولة مستقلة تعتمد على نفسها وتشفي اليهود من طفيليتهم. وغني عن القول أن شيئاً من هذا لم يحدث وأن أعضاء الجماعات اليهودية لا يزالوا في أوطانهم الأصلية الحقيقية، فهم ليسوا شعباً بلا أرض، يتساءلون عن يهودية الدولة اليهودية، والأسوأ من هذا أن العرب لا يزالون يقاومون هذا الكيان الصهيوني ومشروعه فيفتحونه ويكشفون شذوذه البنيوي ويؤكدون أن فلسطين ليست أرضاً بلا شعب.

السمات الأساسية للمشروع الصهيوني

Main Traits of the Zionist Project

تتضح السمات الأساسية للمشروع الصهيوني في عدة حقائق سنبينها على النحو التالي:

1 ـ ظهرت الفكرة الصهيونية في أوربا في القرن التاسع عشر، وهو عصر الاستعمار الأوربي القومي للقوميات الأخرى، وقد استمد كثيراً من مبرراته من الأفكار القائمةعلى التمييز العنصري، وتلك الخاصة بتفوق الرجل الأبيض، وغيرها من الأفكار المثيلة الرائجة آنذاك.

2 ـ انطلقت فكرة قيام كيان يهودي، ثم تحوَّل إلى صهيوني، من قبَل الزعامات الأوربية قبل أن تتحول إلى تنظيم لليهود والصهاينة:

أ) فقد أعلن نابليون عام 1799 عن استعداده للسماح لليهود بإعادة بناء الهيكل في القدس إذا ساعدوه في حربه مع بريطانيا العظمى من أجل السيادة على الشرق الأدنى والطريق إلى الهند.

ب) وأعلن بسمارك عن رغبته في إنشاء كيان يهودي حول نهر الفرات لحماية مشروع خط الملاحة الألماني التجاري الذي فكرت ألمانيا آنذاك في إنشائه لتخرج من دائرة احتكار بريطانيا للطرق التجارية المؤدية إلى الشرق الأقصى.

جـ) في عام 1837 طلب بالمرستون رئيس وزراء بريطانيا من سفيره في استنبول الاتصال بيهود الشرق الأدنى ليطلبوا حماية بريطانيا لتتمكن من تحقيق وجود لها على غرار الوجود الذي حققته فرنسا في الشرق الأدنى تحت شعار حماية المسيحيين الكاثوليك وذاك الذي حققته روسيا القيصرية أيضاً تحت شعار حماية المسيحيين الأرثوذكس.

د) بعد قيام الحركة الصهيونية بتشجيع ألماني بريطاني جرى صراع حول الاستقطاب إلى أن نجحت بريطانيا في احتواء الحركة الصهيونية وإبعاد النفوذ الألماني، بوصول وايزمان وبن جوريون إلى موقع القيادة الأول.

هـ) صدر وعد بلفور من بريطانيا، إلا أن صياغته وصدوره كان جهداً بريطانياً أمريكياً مشتركاً.

و) تأخرت أمريكا في توقيع موافقتها على صك الانتداب الفرنسي والبريطاني على فلسطين والأردن وسوريا ولبنان مدة سنتين، ولم توقعه إلا بعد أن حصلت من بريطانيا وفرنسا على حقوق اقتصادية متساوية معهما في الشرق العربي.

ز) مع أن صك الانتداب على غير فلسطين نص على تمكين الشعوب ذات العلاقة من الوصول إلى مرحلة الاستقلال الوطني، إلا أن صك الانتداب على فلسطين تضمن (في المادة الثالثة منه) على تهيئة الأوضاع في فلسطين لإقامة كيان يهودي فيها.

ح) منذ قيام الكيان الصهيوني والمؤسسة المحورية فيه هي المؤسسة العسكرية، ودور القوة العسكرية الصهيونية فيه هو حماية مصالح الاستعمار في المنطقة (عدوان السويس 1956) ثم تحولت إلى قاعدة عسكرية أمريكية، فضلاً عن كونها أكبر القواعد العسكرية فاعلية بسبب موقعها الجغرافي وبسبب الدعم العسكري الأمريكي غير المحدود لبناء قوتها العسكرية، كما أنها من أقل القواعد العسكرية كلفة (450 ألف جندي في حالة التعبئة، تكـلف أمريكا حوالي خمـس مليارات دولار فقـط سنوياً).

ط) أصبح الكيان الصهيوني العسكري جزءاً أساسياً من إستراتيجية حلف الأطلسي في إستراتيجية المواجهة مع الاتحاد السوفيتي في منطقة الشرق الأدنى، وتحولت ذلكوبأهدافها الخاصة (إسرائيل الكبرى) إلى مركز مؤثر حاد، مضاد للسلام المجتمعي والإقليمي في المنطقـة. ومركز جذب للصراع بين الدول الـكبرى بما يهـدد السلامالعالمي.

3 ـ الفـكرة الصهـيونية منذ أن قامت وكما عرفـها المفكرون الصهاينة هي:

أ) إقامة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات كهدف إستراتيجي يتم تنفيذه على مراحل.

ب) تنفيذ هذه الفكرة بالحرب العدوانية التوسعية الاستيطانية وضخ سـكان المنطقـة إلى الخارج بالإرهاب وضخ يهود العالم إلى الدولة بالإكراه.

جـ) عدم وضع دستور بالمعنى التقليدي لدولة الكيان الصهيوني والاكتفاء بمجموعة قوانين أساسية وذلك لتفادي وضع حدود للدولة، تقيد العمل من أجل تحقيق إسرائيل الكبرى.

4 ـ يقوم الكيان الصهيوني في إطار فلسفته المجتمعية على أكثر حالات التمييز العنصري والديني والطائفي والعرْقي، حدة عبر التاريخ:

أ) فهناك تمييز بين اليهود اللاساميين (الأوربيين والأمريكان والروس) القدامى والجدد.

ب) وهناك تمييز بين اليهود اللاساميين واليهود الساميين (العرب) لمصلحة اليهود اللاساميين.

جـ) وهناك تمييز أكثر حدة في الحقوق والواجبات بين اليهود وغير اليهود وبخاصة العرب (الساميون) المسلمون والمسيحيون من الفلسطينيين (السكان الأصليين للبلاد).

د) وتفسر الصهيونية خطر السماح للفلسطينيين المسلمين والمسيحيين بالعودة إلى وطنهم، بأن هذه العودة تؤدي إلى الإخلال بصفاء المجتمع اليهودي.

5 ـ قامت إسرائيل كدولة صهيونية من خلال ما يُسمَّى بالشرعية الدولية المتمثلة في قرار الجمعية العمومية المتحدة في نوفمبر عام 1947 بتقسيم فلسطين، مع أن هذا القرار يتناقض مع المبادئ المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، لأنه صادر إرادة شعب فلسطين وحقه في تقرير مصيره، فضلاً عن أن تهجير تجمعات بشرية إلى وطن يسكنه شعبه رغم إرادة هذا الشعب، ثم إعطاء هؤلاء المهاجرين حق سلب جزء من الوطن، عمل يتناقض مع الحقوق الطبيعية للشعوب التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة وإعلان حقوق الإنسان.

6 ـ دولة إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي قامت بفعل الغير ووفق شروط تفصيلية تناولت حتى مبادئ الدستور ونصت على عدم المساس بالحقوق السياسيةوالمدنية والثقافية والدينية والاقتصادية لغير اليهود في القسم المخصص لليهود في فلسطين.

7 ـ إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي وضع على قبول عضويتها في الأمم المتحدة شروط حددها بروتوكول لوزان الذي وقعته حكومة إسرائيل. وأهم هذه الشروط قيامإسرائيل بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة بشأن فلسطين بما في ذلك شروط قرار التقسيم وقيام دولة إسرائيل وقرار حق الفلسطينيين في العودة إلى وطنهم وبيوتهم وممتلكاتهم،والتعويض لمن لا يرغب في العودة منهم. ولكن إسرائيل ترفض حتى الآن تنفيذ أي قرار من قرارات الأمم المتحدة، بما في ذلك ما يتصل بحدودها وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم وبيوتهم وممتلكاتهم فيها، وهو ما يجعل عضويتها في الأمم المتحدة باطلة وغير شرعية.

8 ـ ترفض إسرائيل عملياً الالتزام بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان على غير اليهود، كما ترفض الالتزام بالمواثيق الدولية ومنها اتفاقيات جنيف في كيفية التعامل مع شعب الأراضي المحتلة. ولا توجد دولة في الأمم المتحدة، صدرت بحقها قرارات إدانة في هذا المجال ومجال رفضها الالتزام بميثاق الأمم المتحدة وقراراتها كما صدر بحق دولة إسرائيل، بما في ذلك ما يتصل بانتهاكاتها سيادة دول المنطقة وانتهاكاتها اتفاقيات الهدنة. (لبنان ـ السعودية ـ سوريا، مصر ـ العراق ـ الأردن(.

9 ـ لم يعلن القادة الصهاينة قبل قيام دولة إسرائيل موافقتهم على قرار التقسيم ورفضوه كما رفضه شعب فلسطين، ولكنهم في الاجتماع الذي عُقد في تل أبيب في ديسمبر عام 1947 قرروا عدم إعلان رفضهم له أو موافقتهم عليه، والعمل على تنفيذه كمرحلة أولى من مراحل العمل من أجل تحقيق الاستيلاء على كل فلسطين كقاعدة انطلاقباتجاه تحقيق إسرائيل الكبرى كهدف نهائي جغرافياً.

10 ـ إن التجمُّع البشري الذي يتألف منه الكيان الصهيوني لم يصل إلى مستوى المجتمع المتكامل للأسباب التالية:

· الإجــماع الصـهيونى

· الاعتــــدال والتطـــرف:المنظــــورالصهيـــونى.

الإجــماع الصـهيوني

Zionist Consensus

«الإجماع» في عالم السياسة هو الاتفاق بين النخبة والغالبية الساحقة من الشـعب بشأن عدد من المسـلمات الفلسـفية والأخلاقية والسياسية. و«الإجماع الصهيوني» هو اتفاق داخل الدولة الصهيونية بين التيارات والاتجاهات والأحزاب الصهيونية التي تضم الغالبية الساحقة من المستوطنين الصهاينة بشأن الأمن وحدود الدولة والعلاقة مع الفلسطينيين ومع يهود العالم ودول العالم، وبخاصة دول العالم الغربي وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي ترعى الكيان الصهيوني. وقد تظهر اختلافات بشأن الوسائل والنهج، ولكنها لا تنصرف قط إلى المسلمات النهائية. (والعقد الاجتماعي الذي يستند إليه التجمُّع الصهيوني هو نفسه هذا الإجماع، وهو الذي يشكل المرجعية النهائية لكل الأحزاب والتيارات الصهيونية).

وقد اهتزت معظم هذه المسلمات، نقول "اهتزت" ولا نقول "زالت". إذ أنه رغم الاهتزاز هذا، الذي فرضه الواقع المقاوم على المستوطنين الصهاينة فرضاً، تظل غالبيتهم الساحقة تدور في إطار الإجماع الصهيوني، الذي يمكن تلخيصه فيما يلي:

1 - اليهود شعب واحد، طليعته هم المستوطنون الصهاينة، وفلسطين هي أرض الميعاد أو إرتس يسرائيل (وطن اليهود القومي) وليست فلسطين، وطن أهلها. وحدود إرتس يسرائيل مراوغة مطاطة لا يمكن تحديدها في الوقت الحاضر، إذ لابد أن تتوسع إسرائيل لتصل لحدودها "التاريخية" (التي ورد ذكرها في التوراة!). وعلى يهود العالم أن يهاجرو إلى إرتس يسرائيل وأن يلتفوا حول دولتهم الصهيونية القومية ويقوموا بدعمها مالياً وسياسياً فهي المركز وهم الهامش. هذه الدولة يجب أن تكون دولة يهودية خالصة (دولة اليهود ودولة يهودية في آن واحد) تجسِّد الرؤى اليهودية، وبإمكان اليهودي أن يحقِّق فيها ذاته وهويته.

ولكن الدولة الصهيونية بدأت تدرك أن اليهود ليسوا شعباً واحداً (كما كان يدَّعي الصهاينة قبل عام 1948). وسؤال من هو اليهودي لا يزال سؤالاً ملحاً، يطرح نفسه على الدولة الصهيونية وعلى قاطنيها من المستوطنين الصهاينة. كما أدرك الصهاينة أن فلسطين، من خلال مقاومة أهلها، لم تعد لقمة مستساغة أو مطية سهلة أو مجالاً مفتوحاً للتوسع الصهيوني. ولم تَعُد الدولة الصهيونية تطلب من يهود العالم الغربي الهجرة إليها ولم تَعُد تتبع الأسلوب العقائدي العدواني الذي كانت تتبعه في الماضي. ومن هنا كف الحديث عن الشعارات القديمة مثل «جمع المنفيين» و«غزو الجاليات» و«تصفية الدياسبورا» و«إسرائيل الكبرى حدودياً»، وبدأ، بدلاً من ذلك، الحديث عن «الصهيونية التكنولوجية» أو «الإلكترونية» (أي التي تساهم في بناء "الوطن القومي اليهودي" من خلال التكنولوجيا والإلكترونيات)، كما يتحدث الصهاينة الآن عن «صهيونية الدياسبورا» و«إسرائيل العظمى اقتصادياً» المهيمنة على المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج، أي أن الحركة الصهيونية قد قبلت بأمر واقع مفاده أن اليهودليسوا شعباً واحداً وأن إسرائيل ليست وطنهم الوحيد وأن يهود المنفى لهم حق البقاء فيه، ومن هنا قبول الصهيونية التوطينية، والتنازل عن الأهداف القصوى للصهيونية الاستيطانية المطالبة بـ «تصفية الدياسبورا»، ومن هنا أيضاً محاولة توظيف يهود «المنفى» في منفاهم، أي أوطانهم.

2 - وجود الفلسطينيين في وطنهم فلسـطين - حسـب التصوُّر الصهيوني - أمر عرضي زائل، ومن ثم لابد من التخلص منهم بشكل ما (لتأسيس الدولة اليهودية المقصورة على اليهود). وانطلاقاً من كل هذا يصبح من "حق" الدولة الصهيونية أن "تدافع" عن نفسها وعن حقوقها المطلقة بكل ضراوة من خلال "جيش الدفاع الإسرائيلي" ضد "إرهاب" السكان الأصليين، أي الفلسطينيين ممن يرفضون الإذعان للرؤية الصهيونية. وقد تتفاوت مفاهيم السلام بين حزب صهيوني يميني وآخر صهيوني يساري ولكن في التحليل الأخير نجد أن مفهوم الأمن لدى الأحزاب الصهيونية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار يشير إلى مضمون واحد.

وينظر الصهاينة إلى القضية الفلسطينية باعتبارها «قضية أخلاقية» وحسب، ومن ثم يجب عدم الحديث عن "عودة" الفلسطينيين إلى ديارهم ("إعادة توطينهم" في المصطلح العربي)، وإنما يجب الحديث عن "منح تعويضات" مالية للمتضررين منهم. أما المتبقون فيُستوعَبون في أماكن وجودهم (أي في البلدان العربية المختلفة، وبخاصة سوريا ولبنان).

ومع هذا أدرك الصهاينة صعوبة التخلص من الفلسطينيين ومن وجودهم "العرضي الزائل". ولذا يحاول الصهاينة الآن قبول الأمر السكاني الواقع مع الاتجاه نحو تقليل الاحتكاك بالفلسطينيين ومحاصرتهم عبر إقامة كيان خاص بهم، لأنهم يهددون شرعية الوجود الصهيوني ذاته. ولكن الحديث عن "محاصرة السكان" هو نفسه دليل علىالفشل الصهيوني في إنشاء الدولة الصهيونية الخالصة، وفي حماية المزاعم الصهيونية التي تحدتها الانتفاضة المباركة. وقد تحوَّل النظام الاستيطاني الصهيوني عن الإحلال وأصبح نظاماً مبنياً على التفرقة العنصرية (الأبارتهايد).

3 - سياسة الأمر الواقع هي السياسة الوحيدة التي يمكن اتباعها مع العرب، فالأمر الواقع هو الذي يغيِّر الواقع [العربي] ويفرض واقعاً ) صهيونياً] جديداً عليه ويمكن تحقيق السلام وبالشروط الصهيونية من خلاله.

وقد أثبتت الانتفاضة و"الحزام الأمني" في لبنان عدم جدوى الأمر الواقع وعبثيته واستحالة فرض السلام بالشروط الصهيونية. ولذا نجد أن الإجماع الصهيوني قد اهتز بشأن غزوات إسرائيل العسكرية "دفاعاً" عن نفسها (والتي تفرض الأمر الواقع والسلام بالشروط الصهيونية من خلالها)، فلا يوجد إجماع بشأن حرب لبنان، ولا يكف بعض أعضاء النخبة عن الحديث عن ضرورة الانسحاب من طرف واحد (وإن ظل الإجماع الصهيوني بشأن قمع الانتفاضة، لأنها تتحدى شرعية الوجود الصهيوني ذاتها). كل هذا يعني في واقع الأمر أن الإجماع الصهيوني يهتز في حالة قيام العرب بالمقاومة.

4 - لا يمكن تفكيك المستوطنات القائمة بالفعل، فتفكيك المستوطنات يضرب في صميم الشرعية الصهيونية، ولابد من الحفاظ عليها بشكل أو بآخر، والدولة الصهيونيةتضم الضفة الغربية، وحدودها هي نهر الأردن. ولكن، هل يجب أن تكون هذه المستوطنات متصلة بطرق برية أم أنفاق تحت الأرض، أم تظل منفصلة؟ وهل هي مستوطنات أمنية مؤقتة أم دائمة؟ كل هذه أمور ثانوية يمكن الاختلاف بشأنها بين أعضاء حزب العمل وحزب الليكود. إذ يرى أعضاء الليكود أن حدود إسرائيل هي نهر الأردن بالفعل وأن الوجود الإسرائيلي هناك وجود دائم، أما العماليون فمستعدون "للخروج" من هذه الأرض (من الناحية النظرية على الأقل) للحفاظ على يهودية الدولةالصهيونية فيما يُسمَّى «الصهيونية السكانية». فضم الضفة الغربية بمن عليها سيجهز على الطابع اليهودي للدولة الصهيونية. وكل هذه الاختلافات السابقة إن هي إلا امتدادللاختلافات التي نشأت من البداية، بين التيارات الصهيونية المختلفة.

ولكن مع هذا نجد أن أمراً جوهرياً مثل الاستيطان، حجر الزاوية في الإجماع الصهيوني، قد يصبح هو الآخر موضع خلاف. فمع تزايد مشاعر العداء بين مستوطني عام 1948 (وراء الخط الأخضر) ومستوطني الضفة والقطاع، بسبب حجم الإنفاق الاقتصادي والعسكري العالي الذي ليس له عائد واضح، ظهرت أصوات كثيرة تصف هذا الاستيطان بأنه "مكلف"، أو "مترف"، أو كصنبور الماء المفتوح، وطالب البعض، من منظور صهيوني، بوقفه أو فكه أو تجميده، وبخاصة بعد أن أصبح الاستيطان «مكيف الهواء» وأصبح على الجيش حماية المستوطنين (بعد أن كانوا يشكلون طليعته العسكرية(.

5 - القدس هي العاصمة الموحدة والأزلية للدولة الصهيونية (وليست موضوعاً للمساومة) وبإمكان الفلسطينيين أن يأخذوا مكاناً خارج القدس وليسمونه ما يشاءون الـ Quds على سبيل المثال، وهذه (مع الأسف) ليست مجرد نكتة سياسية وإنما حقيقة صهيونية.

6 - الكيان الفلسطيني الذي سينشأ (في الضفة والقطاع) كيان سياسي منقوص السيادة، منزوع السلاح وبدون جيش. ويشبَّه الكيان الفلسطيني ببورتوريكو وأندورا (والأولى دولة حرة، تابعة للولايات المتحدة، لسكانها حق التصويت، دون أن يحملوا الجنسية الأمريكية، أما الثانية، فتخضع لنظام حكم تحت سيادة فرنسا وأسقف من إسبانيا [فهي تقع بين البلدين]). أما ماذا تُسمَّى هذه الدولة (هل هي «حكم ذاتي» أم «دولة فلسطينية مستقلة»؟) فهذه مسألة ثانوية يمكن الاختلاف بشأنها.

7 - يذهب الإجماع الصهيوني - رغم كل ديباجات الاستقلال الصهيوني والاعتماد على الذات ورفض الجوييم - إلى أنه دون الدعم الغربي، وبخاصة الأمريكي، للمستوطن الصهيوني لن يُقدر له البقاء والاستمرار، وأن هذا المستوطن الصهيوني هو أساساً دولة وظيفية أُسست للاضطلاع بوظيفة أساسية، هي الدفاع عن المصالح الغربية، وأن الغرب قد تبنى المشروع الصهيوني وضمن له البقاء والاستمرار كي يدافع عن مصالح الغرب في المنطقة، ودون أداء الدولة الصهيونية لوظيفتها، لن يكون هناك دعماً.

ولعل العنصر الوحيد الذي لم يهتز هو إدراك الصهاينة أن الدعم الأمريكي أمر حيوي وأساسي للبقاء والاستمرار الصهيونيين، أي أن كل الثوابت قد اهتزت وظهرت عليهاالتشققات والتغيرات إلا هذا العنصر، ومن هنا تسميتنا له "بالثابت الثابت". أما عناصر الإجماع الأخرى فقد ظهر أنها متغيرات خاضعة للتفاوض.

الاعتــــدال والتطـــرف: المنظــــور الصهيـــوني

Moderation and Extremism: Zionist Perspective

«الاعتدال» من «عدل» أي «سوى بين الشيئين». و«الاعتدال السياسي» هو أن يأخذ المرء موقفاً ينزع نحو المهادنة وتقديم التنازلات في سبيل تحقيق قدر من العدل والسلام. و«التطرف»، على خلاف «الاعتدال»، هـو «تجـاوز حد الاعتدال». وهـو على زنة «تفعُّل» من «طرف». و«الطرف» هو «حافة الشيء». و«التطرف»، في المصطلح السياسي، هو أن يتمسك المرء بموقفه وبالحد الأقصى لا يحيد عنه ولا يقبل تقديم أية تنازلات ولا يتهاون بغض النظر عن الأوضاع والملابسات المحيطة بالموقف. ومصطلحا «الاعتدال» و«التطرف» شائعان في الخطاب السياسي، فيوصف إنسان بأنه «متطرف» وآخر بأنه «معتدل» حسب ما يتخذانه من مواقف. ولكن ما يغيب عن الكثيرين أن التطرف والاعتدال يُقاسان بالنسبة إلى مرجعية ما كامنة، فما هو متطرف من وجهة نظر ما قد يكون اعتدالاً من وجهة نظر أخرى، وكل شيءيعتمد على المرجعية. وما يفوت من يستخدمون مثل هذه المصطلحات أن أسباب الصراع (في المجال السياسي والاقتصادي) ليس لها علاقة كبيرة بما يُسمَّى «العُقد النفسيةوالتاريخية»، وإنما هي في العادة أسباب بنيوية، لصيقة بالعلاقـات التي توجد في الواقع. وطالما ظلت البنية الشاذة ظل الصراع، أي أن القضية ليس لها علاقة كبيرة، فيكثير من الأحوال، مع الحالة النفسية أو مع مدى استعداد أحد أطراف الصراع لإظهار الاعتدال والتسامح. ولذا فنحن نذهب إلى أن مصطلحي «الاعتدال» و«التطرف» ليـس لهما مقدرة تفسيرية عالية في مجال السياسة والاقتصاد.

والأمر لا يختلف كثيراً في الصراع العربي/الصهيوني، فسبب الصراع هو الشذوذ البنيوي للكيان الصهيوني الاستيطاني الإحلالي، الذي تأسس على الظلم، وتم تحقيقه من خلال الإرهاب والقمع، وطالما ظلت البنية الصهيونية الشاذة، ظل الصراع العربي الصهيوني. ومع هذا تم استخدام المصطلحين بطريقة فيها قدر كبير من السـيولة وعدم التحدد. وهذا يعود إلى أن المرجعية الصهيونية والحد الأقصى الصهيوني والمسلمات النهائية (تأسيس الدولة اليهوديةالخالصة، الخالية من العرب) أخفيت تماماً عنالأنظار، وأن شعارات مثل "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" و"إرتس يسرائيل التي تمتد من النيل إلى الفرات" أو "على ضفتي الأردن" و"تجميع المنفيين في إرتس يسرائيل" و"نفي (أي تصفية) الدياسبورا" قد تم إخفائها عن طريق استخدام الخطاب الصهيوني المراوغ، الآلية الصهيونية لإخفاء المرجعية. ولهذا نجد أن ما يوصفبالتطرف يوماً يوصف بالاعتدال يوماً آخر وهكذا، إلى أن اقترب "الاعتدال الصهيوني" من المسلمات الصهيوني النهائية والحد الأقصى الصهيوني. فبعد إعلان وعد بلفور عام 1917 كان الصهاينة الذين يطالبون بإنشاء دولة صهيونية يعدون "متطرفين" لأن الحد الأقصى المعلن آنذاك هو "وطن قومي" وحسب. ولكن هؤلاء المتطرفون أصبحوا معتدلين في الأربعينيات حينما أصبح الشعار الرسمي للحركة الصهيونية هو إنشاء دولة صهيونية وقبول قرار التقسيم والعيش مع العرب في سلام! ومن ثم كان الحديث عن كامل أرض إسرائيل وطرد العرب هو عين التطرف الصهيوني. ولكن بعد أن قضمت إسرائيل أراض تتجاوز حدود الأرض المعطاة لها بمقتضى قرار التقسيم وبعد أن تم طرد العرب، أصبح الاعتدال الصهيوني هو تجاوز قرار التقسيم والقبول بالأمر الواقع والتمسك بحدود 1948 وببقاء الفلسطينيين خارج ديارهم. وبعد حرب 1967 كان التطرف الصهيـوني هو التمسك بكل أو بعض الأراضي المحتلة بعد عام 1967 وبإقامة المستوطنات فيها. وبالتدريج، تغيَّر مثل هذا الموقف الأخير، وأصبح الاعتدال هو قبول الأمر الواقع وتجميد المستوطنات مع الاستمرار في تسمينها (أي توسيعها).

وينطبق الموقف نفسه على العرب بطبيعة الحال، فالمعتدل، من وجهـة النـظر الصهيونية، هو الذي يقبل الموقـف الصهيـوني المعتدل ويتغيَّر بتغيُّره. فالعربي الذي كان يقبل استيطان الصهاينة دون إنشاء دولة كان يُعدُّ (منذ عام 1917 وحتى الأربعينيات) معتدلاً، ولكنه أصبح متطرفاً بعد ذلك التاريخ. ومن كان يقبل إنشاء الدولة اليهودية وقرار التقسيم عام 1948 كان يُعدُّ عربياً معتدلاً، ولكن بعد إنشاء الدولة، أصبح مثل هذا الشخص متطرفاً. وظل الأمر كذلك حتى عام 1967 حين أصبح الاعتدال العربي هو الرضوخ لحدود إسرائيل بعد عام 1967 وأصبح تطبيق قرار 242 أو حتى إنقاص المستوطنات في الضفة الغربية هو عين التطرف العربي. ومما يجدر ملاحظته أن الحفاظ على أمن إسـرائيل هو دائماً الحـجة التي تُسـاق لتحديد مفهومي الاعتدال والتطرف، وأن مواصفات هذا الأمن تحدده الدولة الصهيونية دائماً. ويُلاحَظ، في جميع الأحوال، غياب مفهوم العدل والتآكل التدريجي لمفهوم المقاومة إلى أن أصبح أي شكل من أشكال «المقاومة» شكلاً من أشكال التطرف والإرهاب. وقد تَسلَّل المصطلحان بمرجعيتهما الصهيونية إلى الخطاب السياسي العربي وأصبح يُشار إلى «العمليات الفدائية» بأنها «عمليات انتحارية».

ويمكننا أن نقول إن المرجعية النهائية للعقل الصهيوني هي الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة (دولة وظيفية يقيمها الغرب ويدعمها ويضمن لها البقاء وتقوم هي على خدمة مصالحه وتجنيد يهود العالم وراءها). وهي صيغة استعمارية استيطانية تنفي العرب وتُسقط فكرة العدل تماماً وتستند إلى القوة الذاتية للصهاينة وإلى الدعم الإمبرياليالغربي. هذا هو الأساس وما عدا ذلك تفاصيل وآليات وديباجات. فحدود الدولة وحجم الاستيطان وكثافته كلها آليات وتفاصيل خاضعة للاعتبارات الإستراتيجية الغربيةوللملابسات الخاصة المحيطة بالدولة الاستيطانية والعملية الاستيطانية.

ولكن، ورغم وجـود هـذه المرجعية الثابتة للعقــل الصهيوني، فإن موقف الصهاينة على مستوى الممارسة اليومية يتباين بين «الاعتدال» و«التطرف» فهو ليـس موقـفاً واحداً ثابتاً لا يتغيَّر. ولتفسـير هذه الظاهرة، وحتى يمكننا أن نتوصل إلى نموذج تفسيري معقول. فلابد أن نشير ابتداءً إلى أن ثمة انفصالاً بين إدراك الإنسان لواقعه وبين استجابته لهذا الواقع وسلوكه فيه. فاستجابة الفرد لواقعه لا تحددها فقط مكوِّنات هذا الواقع المادية (مثل موازين القوى على سبيل المثال) وإنما يحددها أيضاً مركب هائل من العوامل النفسية والعصبية والتاريخية والثقافية وإدراك الآخر. ولهذا السبب، قد يكون من المفيد أن نرسم مخططاً متكاملاً لطيف الإدراك الصهيوني (الذاتي) في علاقته بموازين القوى (الموضوعية). وقد بيَّنا في مدخل آخر (انظر: «الإدراك الصهيوني للعرب») أن الصهاينة يدركون العرب من خلال أربعة أنماط أساسية: العربي الحقيقي ـ العربي ممثلاً للأغيار ـ العربي الهامشي ـ العربي الغائب. ويمكن أن نرى كيف تساهم القوة في تقويض نمط إدراكي ما أو تدعيمه.

1 ـ في حالة اتجاه موازين القـوى لصـالح العرب وضـد صـالح الصهاينة، فإن هذه الموازين تدعم الإدراك الواقعي عند الصهاينة، إذ يكتشف المستوطنون أن البنيةالاستيطانية/الإحلالية لن تحقق لهم الأمن الذي يريدونه ولا الرفاهية التي يبغونها، ومن ثم تظهر على شاشة وجدانهم صورة العربي الحقيقي. وتساهم عملية إعادة صياغةالإدراك في تبديد الأوهام الأيديولوجية. وقد يؤدي هذا، في ظروف معينة، إلى ظهور برنامج سياسي يعكس الواقع، أي أن ميل موازين القوى لصالح العرب يؤدي إلى ترشيد العقل الصهيوني.

2 ـ في حالة اتجـاه موازين القوى لصـالح الصهاينة وضـد صـالح العرب، فإن هذه الموازين ستدعم الإدراك الصهيوني المتحيز. وسيرى المستوطنون أن البنية الاستيطانية/الإحلالية قد حققت لهم الأمن الذي يبغونه ومستوى معيشياً مرتفعاً. وسيساهم ذلك في تحويل الواقع التاريخي إلى شيء هامشي باهت، ويظهر على شاشةوجدانهم صورة العربي الهامشي ثم الغائب، ويتدعـم البرنامج السياسـي الصهيـوني بوصفه مرشـداً للتعامل مع الواقع.

ويمكن أن نفسِّر التطرف والاعتدال الصهيونيين في ضوء الاحتمالين السابقين. فإن ظل العربي الحقيقي ساكناً دون أن يتحدى الرؤية أو موازين القوى، أصبح من الممكن قبوله كشخصية متخلفة هامشية غائبة، ويصبح من الممكن إظهار التسامح تجاهه، بل منحه بعض الحقوق مثل "الحكم الذاتي" (وهنا تكمن المفارقة). أما إذ بدأ العربي الحقيقي في التحرك لتأكيد حقوقه ورفض الهامشية المفروضة عليه وتحدي الرؤية الصهيونية وحاول تغيير موازين القوة لصالحه، فإنه يصبح مصدر خطر حقيقي ويصبح من الضروري ضربه لتهشيمه وتهميشه ويصبح التسامح مرفوضاً.

نحن نعيش في عالم يؤمن بالحواس الخمس وبكل ما يُقاس، ولا يعترف بالحق أو الخير أو العدل. ولتوصيل مثل هذه القيم غير المحسوسة للعدو، لابد من الضغط على حواسه الخمس حتى يعرف أن العربي الحقيقي ليس مجرد صورة باهتة في وجدانه يمكنه تغييبها وإنما هو قوة واقعية يمكن أن تسبب له خسارة فادحة إن هو تجاهلها أو حاول تهميشها وتهشيمها.

ولعل هذا هو القصور الأساسي في محاولات التوصل للسلام حسب الشروط الصهيونية. فقد ظن مهندسو هذه الاتفاقيات أنهم عن طريق رفع رايات السلام والاعتدال والحديث الهادئ على مائدة المفاوضات سيُغيِّرون صورة العربي في وعي العالم ويهدئون روع الصهاينة ويقنعونهم بأنهم معتدلون وراغبون في السلام، وأن هذا سيخلق دينامية تفرض على الحكومة الإسرائيلية أن تصل إلى اتفاق عادل أو شبه عادل. ولكن الذي حدث هو عكس ذلك تماماً. فكلما ازداد الاعتدال العربي زاد التطرف الصهيوني وزاد التمسك بالمستوطنات وبكل شبر من الأرض المحتلة. والعكس بالعكس، فكلما زاد التطرف العربى، أي المقاومة والحوار المسلح، ازداد الصهـاينة رشداً واستعداداً لتَقبُّل فكرة السلام الذي يستند إلى العدل، بدلاً من السلام حسـب الشروط الصهيونية، أي الاستسلام الكامل.

الحــــوار والحـــوار النقـــدي والحـــوار المســـلح

Dialogue, Critical Dialogue and Armed Dialogue

«الحوار» مصطلح يعني حرفياً حديث يجري بين شخصين. وهو ترجمة لكلمة «ديالوج»dialogue»» المكونة من مقطعين «ديا»«dia»وتعني «اثنين»، أما «لوج»logue» » فهي من الفعل اللاتيني «لوكور» loquor» » والتي تعني «يتحدث». فهو حديث بين اثنين (على عكس المونولوج فهو حديث شخص واحد [مونو] مع نفسه). وكلمة «حوار» تفترض شكلاً من أشكال الندية والمساواة. ويلجأ الصهاينة إلى الدعوة إلى "الحوار" و"التفاوض وجهاً لوجه" و"الابتعاد عن عقد التاريخ وحساسيات الهوية". ومثل هذه الدعوة للحوار دون تحديد المنطلقات والأطر هي في واقع الأمر دعوة لمحو الذاكرة والتخلي عن القيم والتعري الكامل. وفي غياب الندية فإن ما يحسم الحوار هو السلاح، أي أنها دعوة للتطبيع من الجانب العربي دون أن يقوم الجانب الصهيوني بإزالة استيطانيته الإحلالية، التي تسبب شذوذه البنيوي.

ولكي يكون الحوار مثمراً لابد أن يبدأ من التاريخ والقيم ومن الواقع المركب الذي نعيشه، فالبشر ليسوا مثل الفئران عقولهم صفحة بيضاء، فنحن كلنا نحمل عبء الذاكرة والتاريخ والأخلاق وهذا ما يجعلنا بشراً، ونحن جميعاً نعيش في الواقع وندركه من خلال تجربتنا المتعينة. ولذا في أي حوار مع الآخر الصهيوني لابد أن نبـدأ بتعريف المشـكلة لا أن ننسـاها أو نتناساها، ولابد أن نتذكر أن هناك كياناً استيطانياً إحلالياً وكتلة بشرية غازية وأن ثمة «مسألة فلسطينية» متمثلة في شعب فَقَد أرضه ولم يفقد ذاكرته، ولذا فهو متمسك بها، يناضل من أجلها، أي أن الحوار لابد أن يبدأ بالاعتراف بشذوذ إسرائيل البنيوي وشرعية المقاومة وفحوى التاريخ وبالوجود الفلسطيني.

ولابد أن يبدأ الحوار من تقرير الإطار القيمي وأن العدل هو الذي يجب أن يسود وأن العنصرية شيء بغيض، ومن ثم لابد أن يتوجه الحوار لقضية الظلم الذي حاق بالفلسطينيين والتمييز العنصري الذي يلاحقهم في فلسطين المحتلة قبل وبعد عام 1967.

ويجب أن ندرك أن الحوار أنواع، فهناك الحوار بين طرفين يتفقان في المنطلقات والأطر المرجعية والمبادئ، والهدف من الحوار في هذه الحالة هو تحويل هذا التفاهم العام إلى إجراءات محددة، وهذا هو أسهل أنواع الحوار، ويمكن أن يتم بشكل سلمي.

لكن إن كان الطرفين غير متفقين في المنطلقات ولا الأطر ولا المبادئ، فيمكن في هذه الحالة إجراء ما يُسمَّى «حواراً نقدياً»، وهو حوار يمكن أن يتم على مائدة المفاوضات وعبر وسائل الإعلام حيث يحاول كل طرف أن يبيِّن للطرف الآخر وجهة نظره وعدالتها ويبيِّن عنصرية الآخر ولاعقلانيته.

ولكن إن كان هناك حوار بين طرفين غير متفقين في المنطلقات والآراء والأطر المرجعية وكان أحد الطرفين نسبياً يرفض أي مطلقات أخلاقية ومرجعية ويجعل من نفسهمرجعية ذاته، مكتفياً بذاته، فإن قيام أي حوار أمراً مستحيلاً. وتسوء الأمور إن كان الطرف الذي نصَّب من نفسه المرجعية النهائية المطلقة مسلح برؤية نيتشوية داروينية،تنطلق من المبدأ القائل بأن البقاء للأصلح بمعنى الأقوى، وأن ما يحسم الأمور هو القوة العسكرية وسياسات الأمر الواقع التي تستند إلى الغزو العسكري.

ومع هذا يمكن أن ينشأ نوع من الحوار نسميه «الحوار المسلح»، حين يقوم الطرف الذي وقع عليه الظلم بالمقاومة، فهو من خلال مقاومته وإلحاق الأذى بالآخر الظالم، يبدأ هذا الآخر في إدراك أن رؤيته للواقع ليست بالضرورة مطلقة ولا نهائية، فتنفتح كوة من الرشد الإنساني في سُحب الظلم الكثيفة ويبدأ الآخر الظالم في إدراك الظلم الذي وقع على ضحيته ومن ثم قد يُعدِّل موقفه. وهذا يتطلب رصداً ذكياً ومستمراً من جانب الضحية المقاوم، حتى يدرك أن اللحظة قد حانت للدخول في التفاوض مع الآخر الظالم. هذا لا يعني التوقف عن المقاومة، لأنه لو جرى الحوار دون المقاومة المسلحة فإن هذا الآخر، حبيس حواسه الخمسة ورؤيته الداروينية، قد يرى الرغبة في التفاوض باعتبارها مؤشراً على استعداد الضحية للاستسلام للذبح مرة أخرى. وقد أدرك الفيتناميون هذا الوضع، فدخلوا في حوار مسلح مع الأمريكيين انتهى بالطرفين إلي مائدة المفاوضات، ولكن لم يتوقف الفيتناميون عن القتال إلا بعد انتهاء المفاوضات.

وقد كان هناك حوار مسلح حقيقي بين المستوطنين الصهاينة والفلسطينيين أثناء الانتفاضة توقف مع اتفاقية أوسلو وإن كان استؤنف بشكل أقل حدة بعدها. أما في جنوب لبنان فالحوار المسلح لا يزال قائماً، حتى أن بعض القادة العسكريين الإسرائيليين يطالبون بالانسحاب من طرف واحد.

الصهيونية كغزو عسكري واقتصادي وسياسـي للعــالم العـربى

Zionism as a Military, Economic, and Political Invasion of the Arab World

المشروع الصهيوني والإجماع الصهيوني ينطلقان من الصيغة الصهيونية الشاملة المهوَّدة التي تفترض أن الجماعات اليهودية شعباً له علاقة عضوية بأرض فلسطين، وأن علاقة شعب فلسطين بأرض أجداده هي علاقة عرضية واهية هامشية تبرر عملية إبادتهم وطردهم (شعب يهودي بلا أرض لأرض بلا شعب فلسطيني). ومثل هذا المشروع لا يمكن تنفيذه إلا بحد السلاح وعن طريق الإرهاب. وقد تناولنا هذا الجانب بشيء من التفصيل في الأبواب المعنونة «الإرهاب الصهيوني قبل عام 1948» و«الإرهاب الصهيوني بعد عام 1948»، وفي كثير من المداخل الأخرى.

ولكن الصهيونية ليست غزواً عسكرياً تقليدياً للمنطقة، وإنما هي استعمار استيطاني إحلالي يأخذ شكل دولة وظيفية (انظر الأبواب المعنونة: «إشكالية الدولة الصهيونيةالوظيفية» ـ «إحلالية الاستعمار الاستيطاني الصهيوني» ـ «الاستعمار الاستيطاني الصهيوني»).

وقد بدأ كثير من المحللين العرب يتحدثون عن «التحدي الحضاري الإسرائيلي» كما لو كانت إسرائيل كياناً عادياً طبيعياً، يشكل تحدياً حضارياً، شأنها في هذا شأن إنجلترا أو فرنسا أو الولايات المتحدة. وهو الأمر الذي ينافي الحقيقة إلى حدٍّ كبير.

التحدي الحضاري الإسرائيلي

Israeli Cultural Challenge

«التحدي الحضاري الإسرائيلي» عبارة دخلت الخطاب السياسي العربي، ومفادها أن التجمُّع الصهيوني يُمثِّل كياناً حضارياً مستقلاً متفوقاً على الكيان الحضاري العربي، وأن هزيمة العرب العسكرية هي نتيجة تخلُّفهم الحضاري، وأن العرب لو حذوا حذو الصهاينة لحققوا الانتصار عليهم.

والتحدي الحضاري هو عملية تغطي كل جوانب الحياة حيث يطرح الآخر رؤية للحياة وأسلوباً لتنظيمها يحققان نجاحاً على جميع المستويات ويحققان كل إمكانيات الإنسان كإنسان، فالتحدي الحضاري ليس مجري إنجاز تكنولوجي أو تفوُّق عسكري وإلا اضطررنا للقول بتفوق التتار على العرب لأنهم عبروا نهر دجلة على كوبري من المخطوطات العربية، ولقلنا بتفوق البرابرة على الرومان لأنهم نجحوا في غزو روما وتحطيم منجزاتها الحضارية. ولكن من الصعب قبول مثل هذا المعيار لأنه معيار أحادي يتجاهل الوجود الإنساني المُركَّب، ولأن التفوق العسكري في نهاية الأمر ليس هو التفوق الحضاري. وقد تحوَّل هذا العنصر الوحيد إلى المعيار الأوحد بتأثير الحضارة الغربية ذات الرؤية الداروينية الصريحة، التي منحته مركزية لا يستحقها.

وإذا نظرنا إلى التجمُّع الاستيطاني الصهيوني الذي يمثل التحدي الحضاري ـ حسب رؤية البعض ـ لوجدنا بالفعل تجمعاً قد حقق تفوقاً عسكرياً لا يمكن إنكاره. ولكنه تفوُّق لم يحرزه بإمكانياته الذاتية وإنما بسبب الدعم العسكري الغربي. بل إن التجمُّع الصهيوني ككل لا يعتمد على موارده الطبيعية أو الإنسانية وإنما يعتمد على الدعم المستمر من الولايات المتحدة والدول الغربية ويهود الغرب. ومن ثم فمحاولة محاكاة هذا المجتمع محاولة فاشلة، مصيرها الإخفاق.

وهذا التجمُّع الصهيوني هو مجتمع ذو توجُّه عسكري واضح، تهيمن عليه المؤسسة العسكرية التي ليس لها أي وجود ملحوظ لا بسبب غيابها وإنما بسبب حضورها الكامل العضوي في كل مؤسسات التجمُّع الصهيوني.

وهذا التجمُّع الاستيطاني الإحلالي، شأنه شأن كل الجيوب الاستيطانية الإحلالية، مبني على الحد الأقصى من العنف الموجَّه ضد الآخرين وضد الذات. فهو مبني على أكذوبة (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض)، وهي أكذوبة لم يَعُد يصدقها حتى الصهاينة أنفسهم. وهو يحاول أن يكتسب شرعية وجوده إما من خلال قصص ومفاهيم توراتية (لا يؤمن بها معظم المستوطنين الصهاينة ذوي التوجُّه العلماني الشامل) أو مفاهيم جيتوية حلولية عضوية لا تختلف كثيراً عن الأساطير النازية العرْقية ولكنه يكتسب شرعية وجوده، في واقع الأمر، بالطريقة الغربية المألوفة، أي بقوة السلاح.

وهذا التجمُّع لا توجد فيه حضارة متجانسة، فكل مستوطن أحضر معه من وطنه الأصلي خطاباً حضارياً مختلفاً، وادَّعت الدولة الصهيونية أنها ستمزج الجميع في بوتقة يهودية عبرانية جديدة ليخرج منها مواطن جديد. وما حدث هو أن الخطاب الحضاري الجديد المزعوم لم يتشكل، وظهر بدلاً منه واقع حضاري غير متجانس، وأصبح الخطاب الحـضاري المهـيمن هو خـطاب الراعي الإمبريالي، أي الخـطاب الأمريكي.

باختصار شديد التجمُّع الصهيوني ليس مجتمعاً، وإنما هو "تجمع" يتسم بالشذوذ البنيوي، غُرس في المنطقة بمساعدة القوة العسكرية الغربية ومن خلال دعمها الاقتصادي والسياسي والعسكري ليقوم بدور عسكري لصالح الحضارة الغربية. ومن ثم فهو يشكل تحدياً عسكرياً وحسب، لا تحدياً حضارياً، بل إنه تحدٍّ عسكري جعلنا ننحرف عن الاستجابة للتحدي الحضاري الأصلي الذي طرحته علينا الحضارة الغربية الحديثة، وهو كيف نؤسس مجتمعاً حديثاً في إطار منظوماتنا القيمية والحضارية؟

ولعلنا لا ندَّعي حين نقول إن التحدي الحضاري للأمة التي أنتجت ابن خلدون والمتبني والغزالي وابن رشد ينبغي أن يأتي من شعب أو حضارة أنتجت أرسطو وماركس وألا يهبط إلى مستوى بناء حضاري متخلف تسيطر عليه الأفكار الجيتوية ويتزعمه بن جوريون الذي يتصور أنه يحدد سياسة بلاده الخارجية وتحركات جيوشه حسب رؤى العهد القديم وأقوال التلمود وأساطير الأولين، بشرط أن يكونوا من اليهود.

الصهيونيــة كغــــزو ثقـــــافي للعــالم العــربى

Zionsim as a Cultural Invasion of the Arab World

يجب أن يُفهَم خطر الغزو الثقافي الصهيوني للمنطقة العربية بمعنى أوسع لا يقتصر على خطره على الفكر العربي، أي الثقافة بالمعنى الضيق، بل يشمل أيضاً الخطر الذي يواجهه نمط الحياة والسلوك والقيم والعقائد وطبيعة الولاء... إلخ.

والخطر الثقافي، بهذا المعنى الواسع، لا يعني الخطر الذي يمثله غزو حضارة أو ثقافة متنوعة لحضارة ضعيفة أو دنيا، وإنما يعني تهديد ثقافة لثقافة أخرى بالاضمحلال أو الزوال لمجرد أن الأولى يحملها شعب متفوق عسكرياً أو تكنولوجياً دون أن تكون ثقافته بالضرورة أكثر استحقاقاً للبقاء أو أشد جدارة. والتاريخ يعرف هذين النوعين من الغزو الثقافي.

إن هذا الخطر يشترط لتَحقُّقه ابتداءً، وقبل كل شيء، هزيمة نفسية من جانب العرب، وسيادة الاعتقاد لديهم بأن سبب التفوق العسكري الذي أحرزته إسرائيل عليهم هوتفوُّق قيمي وأخلاقي وحضاري وثقافي، ومن ثم يظهر بين العرب من المفكرين والكُتَّاب من يصدقه عدد متزايد من العرب يدعون إلى احتذاء إسرائيل ليس فقط في تطبيقالتكنولوجيا الحديثة بل وفيما يتعدى ذلك كالإشارة إلى أسلوبهم في التنظيم والإدارة وإلى نظامهم السياسي وعلاقاتهم وقيمهم الاجتماعية ونمط سلوكهم. وقد بدأت مثل هذهالدعوة تعبِّر عن نفسها بأساليب مختلفة، على استحياء أولاً في أعقاب هزيمة العرب عام 1967 ثم زادت جرأة في أعـقاب زيــارة رئيــس مصر الســابق للقدس عام 1977 وتوقيــع اتفاقيـة كامب ديفيد عام 1979.

ومن الكُتَّاب العرب من يعبِّر عن نفس الموقف بطريقة غير مباشرة عن طريق التأكيد على أن تكرار هزائم العرب في مواجهة إسرائيل إنما يرجع إلى تَخلُّفهم عن السير في ركاب الحضارة الغربية بينما لحقت إسرائيل بها، دون أن يميِّز التمييز الكافي بين الجوانب الإنسانية البحتة في التقدم الغربي والجوانب الثقافية التي تمثل إفرازاً خاصاً لثقافة بعينها.

وبصرف النظر عن توالي هزائم العرب العسكرية على يد إسرائيل منذ عام 1948، فإن الخطر الثقافي الصهيوني قد أتيحت له الآن قناة جديدة تتمثل في قبول مصر الانفتاح الاقتصادي والثقافي على إسرائيل منذ اتفاقية كامب ديفيد عام 1979. فالسلع الإسرائيلية سوف تحمل في طياتها نمطاً للاستغلال وأسلوباً للحياة لم يختره المصريأو العربي بمحض إرادته أو بمقتضى تطوُّره الاقتصادي والاجتماعي الطبيعي. وسوف يتكرر، عن طريق إسرائيل، غزو أنماط الاستهلاك الغربية للمنطقة العربية، كما سوف يؤدي التعاون بين مصر وإسرائيل في مجالات الإعلام (إذا قُدِّر له أن يصل إلى المدى الذي تأمله إسرائيل) إلى طبع وسائل الإعلام المصرية، ثم العربية، بالطابع التجاري الاستهلاكي الذي يكرس تغريب الحياة الاجتماعية.

ومن أشد الأخطار التي يمثلها هذا الغزو، تهديده للمشروع الحضاري العربي الذي شرعت مصر في قيادته في الستينيات ولم تتمه، والذي يقوم على اعتبار الوطن العربي وحدة سياسية وثقافية، وكان يمكن أن يؤدي في النهاية إلى تبلور موقف حضاري مستقل للعرب. ذلك أن من المستحيل أن نتصور أن يتم تكامل بين بلد عربي أو مجموعة من الدول العربية وإسرائيل مع وجود تكامل اقتصادي وسياسي بين الدول العربية إلا إن كان هذا التكامل الأخير في خدمة المصالح الاقتصادية والسياسية للدول الصناعية أو لإسرائيل نفسها. إن ما ترتب على استعمار بريطانيا أو فرنسا في القرن الماضي، لدول صغيرة مجزأة في غربي أفريقيا مثلاً، من تكامل دولة كغانا أو نيجيريا مع الاقتصاد البريطاني، ودولة كساحل العاج أو غينيا مع الاقتصاد الفرنسي، كان ذلك وحده كافياً لعزل كل من هذه الدول عن الأخرى ولمنع قيام أي تكامل اقتصادي بين هذه الدول حتى الخاضع منها لنفس الدولة الغربية.

كذلك، فإن الانفتاح الثقافي لإحدى الدول العربية، كمصر، على إسرائيل، من شأنه أن يخلق عقبات تتراكم في وجه التكامل الثقافي العربي، كالانحسار التدريجي للتوجه العربي للتعليم، أو كالإهمال المتعمد لتعليم اللغة العربية والتاريخ العربي، بل لقواعد الدين تحت شعار الانفتاح على العالم المتحضر ومجاراة متطلبات العصر. وليس مثال دول المغرب العربي الثلاث بعيداً عنا بما ترتَّب على إخضاعها لتكامل اقتصادي وثقافي مع فرنسا من صعوبات أمام العودة بهذه البلاد إلى التكامل مع بقية الدول العربية أو حتى فيما بينها.

وإذا قُدِّر لمثل هذا الاتجاه أن ينجح، فإن أقل الاحتمالات سوءً أن يطرح العرب في النهاية أية محاولة لتقديم أية مساهمة فريدة في الحضارة الإنسانية، وأن يتحولوا إلى مقلدين ولو تعدَّى التقليد ميدان الاستهلاك إلى ميدان الانفتاح، وكذلك أن يفقد العرب إلى الأبد الفرصة التي مازالت متاحة لهم لاستلهام تراثهم الحي في بناء نمط جديد للحياة يقوم على فلسفة ونظرة متميزة إلى الإله والكون والطبيعة والعلاقات الاجتماعية وعلاقة الفرد بالدولة والمدينة بالريف وإلى ابتداع مدارس خاصة بهم في العلوم الاجتماعية والتنظيم الاقتصادي ونمط الإنتاج والتقدم المادي.

أما القول بأن إسرائيل ليست إلا بلداً صغيراً لا يمكن أن تشكِّل خطراً ثقافياً أو اقتصادياً على المنطقة العربية بالعدد الكبير لسكانها، فإنه قول يـكفي لإهماله أن نتذكر كيـف حكمت إنجـلترا في القرن الماضي، وهـي الجـزيرة الصغيرة، إمـبراطورية لا تغـرب عنها الشمس، وأثرت تأثيراً بالغـاً في التـوجه الثقافي للدول الخاضـعة لها.

الباب الثانى: الدولة الصهيونية الوظيفية

المضمـون الطبقي للصهيونية

Class Content of Zionism

قضية المضمون الطبقي للصهيونية قضية مركبة ومتشابكة إلى أقصى حد، ومعظم التعاريف المطروحة تفتقر إلى إدراك الكل وتهمل كثيراً من المعطيات وتركز علىالأجزاء. وقد بيَّنا في مداخل أخرى (انظر: «الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة» ـ «الصهيونية ذات الديباجة المسيحية» ـ «صهيونية غير اليهود العلمانية») أن ثمة صيغة صهيونية أساسية تبنتها بعض الأوساط التجارية البروتستانتية في أوربا (وخصوصاً في إنجلترا) وأضفت عليها ديباجات مسيحية ثم تبنتها الأوساط الاستعمارية الغربية (وخصوصاً أيضاً في إنجلترا)، واستخدمت ديباجات علمانية نفعية، وأضافت بعض عناصر جديدة لها، فتحوَّلت إلى الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة. ويبدو أن مثقفي يهود شرق أوربا من البورجوازيين الصغار الذين لم تُتَح أمامهم فرصة للحراك الاجتماعي اكتشفوها من خلال كتابات الصهاينة غير اليهود. وقد هيأتهم تجربتهم التاريخية الخاصة مع التحديث المتعثر في بلادهم لتبنِّي هذه الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة كفلسفة سياسية وتطويرها وتهويدها. ولعلهم قد توصَّـلوا هم أنفسهم إلى بعض جوانب هذه الصيغة دون أي تأثير خارجي، وذلك انطلاقاً من تجربتهم في شرق أوربا، ومما لا شك فيه أن صهيونية غير اليهود كان لها أعمق الأثر فيهم وفي تفكيرهم وتَوجُّههم. ومن الصعب القول بأن هذه الفئة أو تلك، وهذه الطبقة أو تلك، هي المسئولة عن تكوين الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة أو نشرها، فكلهم اشتركوافي ذلك، وبالتالي فإن من الصعب تحديد مضمونها الطبقي بالشكل المباشر المألوف.

وإذا كانت الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة نفسها تتسم بعدم التحـدُّد، فإن الممارسـة الصهيونية لا تختلف عنها كثيراً في هذا المضمار. فقد لجأ مثقفو شرق أوربا إلى الاستعمار الغربي ليساعدهم على تحويل الفكرة إلى مشروع. وتم نوع من أنواع الاتفاق بين الطرفين (العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية بشأن يهودالعالم) تعهدت الحركة الصهيونية بمقتضاه بنقل الفائض اليهودي إلى فلسطين، وهي عملية نقل أو ترانسفير تُفقد أعضاء هذا الفائض مضمونهم الطبقي القديم وتكسبهم مضموناً جديداً. فالعامل الثوري من روسيا، والبقال المحافظ من بولندا، والرأسمالي الليبرالي من ألمانيا حينما يتم نقلهم إلى فلسطين تحت رعاية الإمبريالية، يصبحون جميعاً أداة في يد الاستعمار رغم حديث الأول عن الثورة الحمراء والثاني عن الإصلاح الاجتماعي والثالث عن الحرية والإخاء والمساواة.

وحينما طُرحت الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة على أعضاء الجماعات اليهودية، لم يتم تعديلها بأي شكل جوهري وإنما أضيفت لها عدة ديباجات يهودية متنوعة هدفها مساعدة المادة البشرية على استبطان الصيغة، الأمر الذي جعلها صيغة مراوغة ازداد مضمونها الطبقي والسياسي غموضاً وهلامية. وقد أشرنا إلى وجودصهيونيتين مختلفتين متناقضـتين: إحداهما توطينية والأخرى استيطانية، تقومان بتجنيد أعضاء الجماعات اليهودية للمشاركة في التوطين أو الاستيطان، ولكلٍّ ديباجاتها. فقامت الصهيونية التوطينية بتجنيد يهود الغرب المندمجين، وضمنهم الأثرياء وأعضاء الطبقة الوسطى والفقراء، وقامت أيضاً بتجنيد أي فائض بشري في شرق أوربا سواء كانوا عمالاً أو فلاحين أو بورجوازيين صغاراً. ثم فرضت الصهيونية بعد إنشاء الدولة مضمونها الصهيوني العام على يهود البلاد العربية الذين يضمون عناصر قبلية وعمالاً وفلاحين ومثقفين ومموِّلين كباراً. وهي تقوم الآن بتجنيد يهود الولايات المتحدة بكل طبقاتهم، كلٌّ حسب هواه، لأغراض صهيونية مختلفة. والهجراتالصهيونية المختلفة تبيِّن غياب البُعد الطبقي المحدَّد، فأعضاء الهجرة الثانية يختلفون عن أعضاء الهجرة الثالثة ويختلف أعضاء كل الهجرات الإشكنازية عن أعضاء الهجرات من البلاد العربية. وبوصول يهود الاتحاد السوفيتي (من دولة اشتراكية غربية أصبحت بغير تَوجُّه عقائدي واضح) ويهود الفلاشاه (من دولة إثيوبيا ذات الطابع القَبَلي)، يصبح تحـديد المضمون الطبقي بالطريقة المألوفة أمراً مسـتحيلاً.

وغني عن القول أن المضمون الطبقي للصهيونية قد ازداد ترهلاً وهلامية عبر السنين واكتسب لوناً يهودياً فاقعاً، وخصوصاً بعد ظهور الصهيونية الحلولية العضوية وصهيونية عصر ما بعد الحداثة، وازداد ضبابية بعد ظهور الصراعات الإثنية بين الإشكناز من جهة والسفارد واليهود العرب من جهة أخرى، وبعد انقسام النظام الحزبي الإسرائيلي على أساس إثني وديني، وانضمام اليهود الشرقيين الفقراء الساخطين إلى حزب الليكود الإشكنازي الذي يمثل، فيما يمثل، أصحاب رؤوس الأموال! ويمكن القول بأن حركيات التجمُّع الصهيوني تجعل تبلوُر تشكيل طبقي محدد داخله أمراً عسيراً لأنه تجمُّع مهاجرين (ونازحين)، ولأنه في نهاية الأمر تجمُّع مغروس في المنطقة يعتمد على التمويل الخارجي الذي يُضعف بنيته الطبقية.

ولكن انعدام المضمون الطبقي أو ترهله أو تنوعه أو فشله في التبلور والتشكل (الأمر الذي يجعل التصنيف بالطريقة المألوفة صعباً بل ومستحيلاً) لا يعني استحالة تصنيف دولة إسرائيل وطبيعة بنائها الاجتماعي وتَوجُّهها السياسي أو الإستراتيجي، كما أنه لا يعني أن إسرائيل ثمرة الميثاق الذي تم عقده بين الرب وشعبه، كما يتوهم الصهاينة العضويون أو كما يدَّعون، ولا يعني أن الدولة الصهيونية قد تم تأسيسها لتبيع وتشتري في السوق الشرق أوسطية كما يدَّعي صهاينة عصر ما بعد الحداثة. ولعل الأساس التصنيفي للدولة الصهيونية لا يوجد في مضمونها الطبقي وإنما في كونها امتداداً لوضع أعضاء الجماعات اليهودية داخل الحضارة الغربية كجماعة وظيفية، وفي كونها دولة وظيفية مملوكية عميلة.

الدولـة الصهيونيـة الوظيفيـة

The Functional Zionist State

ترجع المسألة اليهودية في أوربا إلى عدة أسباب من أهمها ـ في تصوُّرنا ـ وضع الجماعات اليهودية في الحضارة الغربية باعتبارها جماعات وظيفية لم يَعُد لها دور تلعبه، وهو الأمر الذي يُفسِّر ظهور كل من المسألة اليهودية والصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة التي طُرحت باعتبارها حلاًّ لها. وهو حل يفترض أن الجماعات اليهودية عنصر حركي عضوي مستقل بذاته غير متجذر في الحضارة الغربية، يستحق البقاء داخلها إن كان نافعاً يلعب الوظيفة الموكلة إليه، فإن انتهى هذا النفع وجب التخلص منه (عن طريق نقله خارجها). والواقع أن عملية النقل تحل المشكلة لأنها تتضمن خلق وظيفة جديدة له. وهذا هو الإطار الذي يدور في نطاقه وعد (أو عقد أو ميثاق) بلفور، أهم حدث في تاريخ الصهيونية، فهو يطرح حلاًّ لمسألة الجماعة الوظيفية اليهودية التي لم يَعُد لها نفع داخل الحضارة الغربية وأصبح أعضاؤها فائضاً بشرياً يهودياً لا وظيفة له.

وقد أدرك الفكر الصهيوني بين اليهود (بشكل جنيني) وضع الجماعات اليهودية كجماعة وظيفية، فأشار هرتزل وبنسكر إلى اليهود كأشباح وطفيليين، ووصفهم نوردو (وهتلر من بعده) بأنهم مثل البكتريا. وكل هذه الصور المجازية هي محاولة لوصف هذا الكيان الذي يوجد في المجتمع دون أن يكون منه، يتحرك فيه دون أن يضرب فيه جذوراً، وهو كيان أساسي لإتمام كثير من العمليات دون أن يكون جزءاً من الجسم الاجتماعي نفسه. وحديث هرتزل عن اليهود باعتبارهم "أقلية أزلية"، وكذلك حديث بوروخوف عن "الهرم الإنتاجي المقلوب"، هو في صميمه حديث عن الجماعات الوظيفية دون استخدام المصطلح بطبيعة الحال. وقد قام الصهاينة من اليهود (وخصوصاً الصهاينة العماليون) بتهويد الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة وتقديم قراءة "يهودية" للحقيقة التاريخية التي تستند إليها (أي اضطلاع أعضاء الجماعات اليهودية بدور الجماعات الوظيفية). فوصفوا وضع اليهود الوظيفي بأنه مرض لابد من علاجه، فاليهود حسب هذا التصور شعب عضوي متكامل (شعب مثل كل الشعوب في الصيغة العلمانية، وشعب مقدَّس في الصيغة الدينية) وقد تَبعثَّر هذا الشعب فيما بعد وتَشتَّت وتَحوَّل إلى شعب في المنفى: جماعات متناثرة ذات وظيفة محدَّدة. هذه الوظيفة هي الاقتراض والربا في المنظومة الصهيونية العمالية، وهي وظيفة الشعب الشاهد في المنظومة الصهيونية الدينية (المسيحية أو اليهودية). وقد نجم عن ذلك تَشوُّه هذا الشعب. ويأخذ هذا التشوه شكل الهرم الإنتاجي اليهودي المُشوَّه أو المقلوب في المنظومة العمالية حيث يُفترَض أن اليهود، حينما كانوا شعباً، كان لهم هرمهم الإنتاجي السوي، بحيث يشغلون كل درجات الهرم الإنتاجي. ولكنهم، بتشتُّتهم، أصبحوا يتركزون في قمة الهرم وحسب (أما الإثنيون فيرون أن مصدر التشوه فشل الشعب في الحفاظ على هويته الإثنية الدينية أو الإثنية العلمانية). وانطلاقاً من هذا الافتراض، يطرح الصهاينة أمنية أن تتحول هذه الجماعات الوظيفية إلى شعب مرة أخرى. وهذا ما عبَّر عنه هرتزل بحديثه عن تحويل اليهود من طبقة إلى أمة، وما عبَّر عنه بوروخوف بقوله إن اليهود سيصبحون شعباً تشغل طبقاته قمة الهرم ووسطه وقاعدته، فيقف الهرم على قاعدته لا على رأسه، وما عبَّر عنه كوك بقوله إن الوحي الإلهي (والدائرة الحلولية) لا تكتمل إلا بعودة الشعب اليهودي إلى أرضه. ولكن كل هذا لا يتم إلا بحصول اليهود على أرض مستقلة يؤسسون فيها دولة قومية. وتأسيس دولة إسرائيل، من ثم، هو تحقيق لهذه الرؤية.

هذا هو التصوُّر الصهيوني أو الديباجة الصهيونية. ولكن ما حدث بالفعل هو أن التشكيل الاستعماري الغربي قد جَمَع بعض «المنفيين» الذين هم في واقع الأمر أعضاء الجماعات اليهودية الوظيفية التي فَقَدت وظائفها وتحوَّلت إلى فائض بشري، وهي جماعات كانت تضطلع بمهام عديدة من أهمها الأعمال المالية (التجارية والربوية) في مجتمعات مختلفة. وقد قام هذا التشكيل الاستعماري بنقل أعضاء هذا الفائض إلى فلسطين وتحويله إلى جـماعة وظيفية واحـدة تأخذ شـكل دولة تضطلع بدور أساسي: الاستيطان والقتال. وهو دور نَصفه بـ «الدور المملوكي»، فالمماليك جماعة وظيفية تم استيرداها إلى الشرق العربي للاضطلاع بدور القتال.

ويمكن هنا أن نطرح سؤلاً: لمَ لجأ الغرب إلى آلية الدولة الوظيفية لتحقيق أهدافه، وذلك بدلاً من الآلية الأكثر شيوعاً، أي آلية الجماعة الوظيفية؟ ولمَ لمْ يُوطِّن الاستعمار الغربي اليهود في فلسطين ليقوموا بدور الجماعة الوظيفية القتالية التي تعمل تحت إشرافه ولصالحه بشكل مباشر كما فعل الفرس والهيلينيون من قبل حيث وظفوا الجماعات اليهودية بهذا الشكل؟ هناك مركب من الأسباب لتفسير هذه الظاهرة، ولعل أهمها هو طبيعة المجتمعات في العصر الحديث حيث تغلغلت فيها مُثُل الديموقراطية والعدالة الاجتماعية وهي مجتمعات تربطها وسائل الاتصال الحديثة (من صحافة وتليفزيون ووسائل مواصلات واتصال) تجعل الاحتفاظ بطبقة منعزلة حضارياً، ومتميِّزة وظيفياً وطبقياً، أمراً عسيراً، بل مستحيلاً. ولكن إذا شكلت هذه الطبقة دولة قومية مستقلة، فيمكنها حينذاك أن تحتفظ بعزلتها وتَميُّزها بسهولة ويُسر، كما يمكن تسويغ وجودها وحقها في البقاء باللجوء إلى ديباجة حديثة، ويصبح الاستعمار الاستيطاني «حركة تَحرُّر وطني»، ويتخذ اغتصاب فلسطين اسم «إعلان استقلال إسرائيل»، ويصبح الدور القتالي «دفاعاً مشروعاً عن النفس»، وتتخذ قوات الجماعة الوظيفية الاستيطانية القتالية اسم «جيش الدفاع الإسرائيلي»، وتصبح العزلة هي «الهوية»، وتصبح لغة المحاربين لا التركية أو الشركسية (كما هو الحال مع المماليك) وإنما العبرية، وهي لغة أهم كتب العالم الغربي المقدَّسة. ويعيش أعضاء الجماعة الوظيفية القتالية لا في جيتو خاص بهم أو ثكنات عسكرية مقصورة عليهم وإنما داخل الدولة/ الشتتل/القلعة، ويستمرون في تعميق هويتهم (أي عزلتهم) وفي القتل والقتال نظير المال والمكافآت الاقتصادية وغير الاقتصادية السخية، متخفين خلف أكثر الديباجات رقياً وحداثة.

لكل هذا، لجأ العالم الغربي لصيغة الدولة الوظيفية الاستيطانية القتالية (المملوكية) وذلك بدلاً من الجماعة الوظيفية الاستيطانية القتالية. وهذا هو الترجمة الدقيقة للشعار الصهيوني: تحويل اليهود من طبقة (أي جماعة وظيفية) إلى أمة (أي دولة وظيفية).

ويذهب المفكرون الصهاينة إلى أن حل المسألة اليهودية داخل التشكيل الحضاري الغربي مسألة مستحيلة، ولذا طُرحت الصهيونية باعتبارها العقيدة التي حاولت أن تُحقِّق لليهود من خلال التشكيل الإمبريالي الغربي ما فشلوا في تحقيقه من خلال التشكيل الحضاري الغربي. ولكن الدارس المدقق سيكتشف أن ما حدث هو في الواقع إعادة إنتاج للنمط نفسه: المجتمع الغربي المضيف الذي يحوسل الجماعة اليهودية ويُوظِّفها لصالحه ويدعمها بمقدار نفعها. فالدولة الصهيونية، رغم حداثة شكلها، إن هي إلا إعادة إنتاج لواحد من أكثر أشكال التنظيم الاجتماعي تخلفاً وكموناً وتواتراً في الحضارة الغربية.

ويمكننا أن نطرح السؤال التالي: لماذا تم تجنيد أعضاء الجماعات اليهودية لتأسيس الدولة الصهيونية الوظيفية، دون غيرهم من الأقليات؟ لا يمكن القول بأن المجتمع يفرض على الجماعة الوظيفية وضعها الوظيفي، كما لا يمكن القول بأن هذا الوضع الوظيفي من اختيار الجماعة الوظيفية. فظهور الجماعة الوظيفية واضطلاعها بدورها يعود لظروف عديدة مركبة، إذ تنشأ حاجة لجماعة غريبة تضطلع بوظيفة يرى مجتمع ما أنه غير قادر على أدائها، إما لأنها مشينة أو لأنها متميِّزة جداً أو لأنه لا يملك لا المادة البشرية ولا الخبرة لأدائها. وعادةً ما تُوجَد مـادة بشـرية مناسـبة (إما خارج المجتمع أو داخله) لأداء مـثل هذه الوظيفة.

وما حدث في حالة الدولة الصهيونية الوظيفية في فلسطين هو عملية مماثلة:

1 ـ نشأت حاجة داخل التشكيل الحضاري والسياسي الغربي لتأسيس جيب استيطاني قتالي مملوكي يُشكِّل قاعدة للاستعمار الغربي في فلسطين، وبخاصة مع تَوقُّع سقوط الدولة العثمانية، التي كانت فلسطين تقع في وسطها في مكان يبلغ الغاية في الأهمية من الناحية الإستراتيجية.

2 ـ كان أعضاء الجماعات اليهودية مرشحين لأن يلعبوا دور المادة البشرية التي تفي بهذه الحاجة للأسباب التالية:

أ) النزوع "الصهيوني" نحو نقل اليهود إلى فلسطين، نزوع متأصل في الحضارة الغربية، إذ أن هذه الحضارة كانت تنظر لليهود باعتبارهم وسيلة لا غاية، وباعتبارهمشعباً عضوياً لا ينتمي للحضارة الغربية.

ب) في أواخر القرن التاسع عشر، كانت الغالبية الساحقة من يهود أوربا من نسل يهود بولندا الذين كانوا يعملون داخل نظام الأرندا الذي سميناه «الاقطاع الاستيطاني»، فكانوا يُشكِّلون عنصراً استيطانياً يقوم بجمع الضرائب واستغلال الفلاحين الأوكرانيين لصالح طبقة النبلاء البولنديين (شلاختا) وفي حماية القوة العسكرية البولندية (ولذا فقد سميناهم «المماليك المالية»، فهم مماليك لا يحملون سيفاً وإنما يحملون رأس المال الربوي). ومع بدايات القرن التاسع عشر، ومع تَزايُد هيمنة الدولة القومية المركزية، فَقَد أعضاء الجماعات اليهودية الوظيفية دورهم وتحولوا إلى فائض بشري يهودي بدأ يهدد الأمن الاجتماعي في كثير من دول أوربا الشـرقية، وبدأ يتـدفَّق على دول أورباالغربية والولايـات المتحدة فيهدِّد الأمن الاجتماعي فيها أيضاً (أو هكذا تصوَّر كثير من أعضاء النخبة الحاكمة وأعضاء الجـماعات اليهودية المندمـجون في الغرب).

جـ) كان اليهود، باعتبارهم شعباً عضوياً، حسب التصوُّر الغربي، مرتبطين بشكل عضوي بفلسطين. وكانت كل دولة تُصدر وعُودَها البلفورية، كما كان لكل دولةمشروعها الصهيوني الخاص الذي يرى اليهود باعتبارهم المادة البشرية المناسبة. ففكَّر بسمارك في توطين اليهود في منطقة حدودية محاذية لخط بغداد ـ برلين ليصبحوا جماعة وظيفية تصطدم بالسكان وتعتمد على ألمانيا لحمايتها. بل نجد الفاشيين تحت حكم موسـوليني والنازيين تحـت حكـم هتلر كان لهم أكثر من مشروع. وبطبيعة الحال، كان هناك المشاريع الإنجليزية والفرنسية المختلفة.

وقد رفضت المادة البشرية اليهودية في بداية الأمر فكرة الدولة الوظيفية. ومع تَعثُّر التحديث، طرحت مسألة يهود شرق أوربا نفسها على أوربا، وبدأت أعداد من اليهود تفكر في الانتقال. وبدأ تهويد الصيغة الشاملة، وهو ما جعل بإمكان أعضاء الجماعات اليهودية استبطانها. ثم ظهر هرتزل الذي طوَّر الخطاب الصهيوني المراوغ والعقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية. وقد أفرز هذا في نهاية الأمر المنظمة الصهيونية التي وقَّعت العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونيةبشأن يهود العالم والذي تم بمقتضاه تأسيس الدولة الصهيونية الوظيفية التي هي إعادة إنتاج لنمط الجمـاعة الوظيفية التي تحركت في إطـاره الجـماعات اليهـودية في الغرب.

ومفهوم الدولة الصهيونية الوظيفية له قيمة تفسيرية عالية، ونحن نرى أن كثيراً من الدارسين قد أخفقوا نسبياً في فهم آليات الدولة الصهيونية وحركياتها لأنهم تصوَّروا أنها دولة مثل كل الدول الأخرى خاضعة للقوانين نفسها، بينما هي في واقع الأمر خاضعة لقوانين الجماعات الوظيفية. ويظهر هذا الخلل في حديث الماركسيين مثلاً عن تصعيد التناقض الطبقي داخل إسرائيل لتصبح أكثر ثورية، وفي حديث الليبراليين عن الضغط على إسرائيل (من خلال المساعدات وغيرها) لتصبح أكثر ديموقراطية، وذلك بهدف إرغامها على إعطاء الفلسطينيين حقوقهم. وهذا أمر يتنافى مع بنية الدولة الصهيونية نفسها ومع قانون وجودها، فسياسات إسرائيل الأمنية، ونمط إنفاقها، وطريقة تمويلها، وبنيتها الطبقية، وأساليبها الإدارية، لا يمكن فهمها إلا في إطار الدعم الأمريكي الذي يُقدَّم لإسرائيل بمقدار اضطلاعها بوظيفتها القتالية التي أُسِّست الدولة من أجلها في بادئ الأمر، وقد نُقل اليهود من الغرب واقتلع العرب من بلادهم للسبب نفسه. والواقع أن أية اتجاهات نحو الديموقراطية والإخاء الثوري قد تؤدي إلى الاعترافبالفلسطينيين وبحقوقهم، لابد أن تُهدِّد الدولة الوظيفية الصهيونية من جذورها إذ أنها ستفقدها وظيفتها القتالية، أي ما يُسمَّى بقيمتها الإستراتيجية، وهي السلعة الأساسية التي تنتجها وتبيعها للغرب، وهي مصدر نَفْعها الذي يبرر وجودها واستمرار دعمها. ومن هنا، فإن فكرة السلام مع العرب تَصـدُر عن المقدمات نفسها التي أدَّت إلى الصـراع والقتال والعزلة مثل الزعم بأن هناك شعباً يهودياً له تراث يهـودي وهويـة يهودية وحقوق يهودية، وأن الدولة اليهودية ليست ثمرة التشكيل الاستعماري الغربي وإنما هي تعبير عن ذلك التراث وتلك الهوية، وأن استيطان الصهاينة في فلسطين ليـس اسـتعماراً استيطانياً إحلالياً وإنما عودة لاستعادة الحقوق اليهودية. فالسلام المقترح لا يخل بالبنية الصراعية الأساسية الشاملة بأية حال.

ولكن، مع تطوُّر الأوضاع في العالم العربي، ومع تزايد استعداد النخب الحاكمة للانخراط في سلك النظام العالمي الجديد والخضوع للهيمنة الغربية الأمريكية، ليس من المستبعد تحقيق السلام بعض الوقت مع الدولة الوظيفية الصهيونية، إذ أن النظم العربية من خلال نخبها الحاكمة، ستصبح هي نفسها دولاً أو أنظمة وظيفية، تقوم بدور الوسيط الوظيفي بين النظام العالمي الجديد وشعوبها المستضعفة. كما أنه مع تصاعد خوف هذه النظم من الصحوة الشعبية الإسلامية، ومع تحوُّل دور إسرائيل من دولة وظيفية تضرب القومية العربية إلى دولة وظيفية تضرب الصحوة الإسلامية، ستزداد الرقعة المشتركة بين هذه النظم الوظيفية والدولة الوظيفية، ومن ثم سيمكن تحقيق السلام المبني على تَماثُل الوظيفة.

ويُلاحَظ أن الدولة الصهيونية الوظيفية نفسها قد تضم جماعات وظيفية، ومن أهم هذه الجماعات الآن عرب الأراضي المحتلة الذين بدأوا يستولون على قطاعات بأسرها كقطاع المباني كما يعملون في المطاعم إما كجرسونات أو عمال نظافة. كما أنهم بدأوا يتغلغلون في القطاع الزراعي ذاته. ويبدو أن كثيراً من اليهود الشرقيين يقومونبدور الجماعة الوظيفية (الوسيطة) بين العرب والدولة الصهيونية، فكثير من مقاولي العمال يأتون من صفوفهم، ويمكن القول أن الدولة الصهيونية الوظيفية تحاول أن تجعل من السلطة الفلسطينية دولة وظيفية تعمل لصالح إسرائيل.

الدولة الصهيونية الوظيفية: التعاقدية والنفع والحياد

The Functional Zionist State: Contractualization, Utilitiy, and Neutrality

تتسم الدولة الصهيونية الوظيفية بكل سمات الجماعة الوظيفية، وأول هذه الصفات هي التعاقدية والنفع والحياد.

1 ـ الوظيفة القتالية والعائد الإستراتيجي:

من أهم وظائف الدولة الصهيونية الوظيفية أنها تقوم بالأعمال المشينة التي لا تستطيع الدول الغربية الاضطلاع بها نظراً لكونها دولاً "ليبرالية" و"ديموقراطية" تود الحفاظ على صورتها المشرقة أمام الرأي العام العالمي وأمام جماهيرها بقدر المستطاع فتكل إلى الدولة الصهيونية مثل هذه الأعمال. ومن هذه الوظائف تزويد دول أمريكااللاتينية العسكرية بالسلاح، والتعاون مع جنوب أفريقيا في كثير من المجالات، ومنها السلاح النووي، والقيام ببعض أعمال المخابرات والتجسس، والسماح للولايات المتحدة بإنشاء إذاعة فيها موجَّهة للاتحاد السوفيتي (سابقاً). كما تقوم الدولة الصهيونية بتوفير الجو الملائم والتسهيلات اللازمة للترفيه عن الجنود الأمريكيين. ويبدو أن الدولة الصهيونية الآن أصبحت مصدراً لكثير من المرتزقة في العالم، كما يبدو أنها بدأت في تصدير البغـايا لبـلدان غربية مثل هولندا (أمستردام) وألمانيا (فرانكفورت(

وكانت أهم وظائف الدولة الصهيونية على الإطلاق، حتى عهد قريب، هو الوظيفة القتالية (لا التجارية أو المالية) فعائد الدولة الوظيفية الأساسي عائد إسـتراتيجي، والسـلعةأو الخدمة الأسـاسية الشـاملة التي تنتجها هي القتـال: القتال مقابل المـال، أي أنهـا وظيفة مملوكية بالدرجـة الأولى. وفيما عدا ذلك، فإنها ديباجات اعتذارية وتفاصيل فرعية.

وقد تنبَّه أصدقاء الصهيونية وأعداؤها على السواء إلى طبيعة هذه العلاقة وطبيعة هذه الوظيفة منذ البداية، فتم الدفاع عن المشروع الصهيوني والترويج له من هذا المنظور، كما تم الهجوم عليه وشجبه من هذا المنطلق. فعلى سبيل المثال، صرح ماكس نوردو، في خطاب له في لندن (في 16 يونيه 1920) بأنه يرى أن الدولةالصهيونية ستكون بلداً تحت وصاية بريطانيا العظمى وأن اليهود سيقفون حراساً على طول الطريق الذي تحفّ به المخاطر ويمتد عبر الشرقين الأدنى والأوسط حتى حدود الهند. وكان حاييم وايزمان كثير الإلحاح في تأكيد أهمية الجيب الاستيطاني الصهيوني الإستراتيجية (لا الاقتصادية)، فهذا الجيب سيشكل، حسب رأيه، «بلجيكا آسيوية»، أي خط دفاع أول لإنجلترا ولا سيما فيما يتعلق بقناة السويس. وفي خطاب كتبه إسرائيل زانجويل (في 3 أكتوبر 1914) بيَّن أن من البدهي أن إنجلترا في حاجة إلى فلسطين لحماية مصالحها.

وأما حنه أرنت، فقد أكدت أن الصهيونية بطرحها نفسها «حركة قومية» باعت نفسها منذ البداية للقيام بالوظيفة القتالية الاستيطانية، فشعار الدولة اليهودية كان يعني في واقع الأمر أن اليهود ينوون التستر وراء القومية وأنهم سيقدمون أنفسهم باعتبار أنهم «مجال نفوذ» إستراتيجي لأية قوة كبرى تدفع الثمن.

وقد عرض ناحوم جولدمان القضية بشكل دقيق جداً عام 1947 في خطاب له ألقاه في مونتريال بكندا قال فيه: "إن الدولة الصهيونية سوف تُؤسَّس في فلسطين، لا لاعتبارات دينية أو اقتصادية بل لأن فلسطين هي ملتقى الطرق بين أوربا وآسيا وأفريقيا، ولأنها مركز القوة السياسية العالمية الحقيقي والمركز العسكري الإستراتيجي للسيطرة على العالم". ومعنى هذا أن الدولة الصهيونية لن تنتج سلعاً بعينها ولن تُقدِّم فرصاً للاستثمار أو سوقاً لتصريف السلع ولن تكون مصدراً للمواد الخام والمحاصيل الزراعية، وإنما سيتم تأسيسها لأنها ستقدم شيئاً مختلفاً ومغايراً وثميناً: دوراً إسـتراتيجياً يؤمِّن سـيطرة الغـرب على العالم، وهو دور سيكون له دون شك مردود اقـتصادي، ولكنه غير مباشر.

ولا تختلف المنظمة الاشتراكية الإسرائيلية ماتزبن، أي البوصلة، في وصفها وضع إسرائيل عن وصف جولدمان أو حنه أرنت، حيث ترى المنظمة، في تحليل لها صدرفي الستينيات، أن الدور الذي تضطلع به الدولة الصهيونية لم يطرأ عليه أي تغيير، فهي لا تزال تشكل قاعدة لقوة عسكرية يمكن الاعتماد عليها، قوة موجهة ضد العرب لخدمة المصالح الإمبريالية الإستراتيجية. وقد بيَّن ب. سبير (في علْ همشمار بتاريخ 29 أبريل 1986) أن إسرائيل قد جعلت جيشها "الذراع المستقبلية المحتملة للولايات المتحدة"، فهي خدمة حربية كامنة جاهزة على أهبة الاستعداد لتأدية الخدمات في أي وقت.

2 ـ الجدوى الاقتصادية للدولة الوظيفية:

من المعروف أن على أعضاء الجماعة الوظيفية القيام بوظيفة ما هي في جوهرها استغلال الجماهير لصالح النخبة الحاكمة. فتقوم الجماعة بتحصيل الضرائب من الجماهير أو امتصاص فائض القيمة منها من خلال الإقراض بالربا أو التخصص في بيع سلع معينة (مثل الملح والخمور) يحتكرها الحاكم لحسابه. وكان أعضاء الجماعة الوظيفية يحققون بذلك أرباحاً عالية، ولكنهم بعد ذلك كان عليهم دفع ضرائب باهظة للحاكم. ولذا، فقد كانت معظم الأرباح تصب مرة أخرى في خزائنه، أي أن أعضاء الجماعة الوظيفية اليهودية كانوا في واقع الأمر من أهم مصادر الربح للنخب الحاكمة في الغرب في العصور الوسطى.

والدولة الوظيفية الصهيونية لا تقوم، مثل الجماعة الوظيفية اليهودية، بتحصيل الضرائب مباشرةً، ولكنها مع هذا تُحقِّق ريعاً عالياً للدولة الراعية لأنها تقوم بضرب تلك النظم القومية العربية التي تحاول رفع سعر المواد الخام أو حتى التحكم في بيعها وفي أسعارها أو التي تختط طريقاً تنموياً أو تتبنى سياسة داخلية وخارجية تهدد المصالح الغربية بالخطر. أما الضريبة التي يدفعها أعضاء الدولة الوظيفية الصهيونية، فهي حالة الحرب الدائمة التي يعيشونها بسبب الدور الذي يضطلعون به.

ومهما يكن الأمر، فقد أدرك الصهاينة هذه الوظيفة، كما أدركوا أنهم كلما زاد ما يحققونه من ربح لراعيهم من خلال أدائهم مهام وظيفتهم زادت فرص استمرار الدعم وفرص البقاء. ومن هنا كان تأكيدهم المستمر وإلحاحهم الدائم على الجدوى الاقتصادية للوظيفة التي يؤديها التجمُّع الصهيوني وعلى مقدار النفع الذي سيعود على الراعي والمموِّل (الإمبريالي)، تماماً مثلما يفعل أي شخص رشيد مع أية سلعة تُباع وتُشتَرى. وبالفعل، نجد أنه، في وقت كان فيه المشروع الصهيوني لا يزال في إطار النظرية والأُمنية، كان الزعماء الصهاينة يؤكدون، الواحد تلو الآخر، أن تمويل مثل هذا المشروع الاستيطاني الصهيوني مسألة مربحة للدولة التي ستستثمر فيه. وقد أدرك هرتزل ـ بمكره ودهائه ـ أن ثورة الفلاحين المصريين ستجعل مصر مكلفة جداً كقاعدة عسكرية بالنسبة لإنجلترا، ولذا فقد أشار إلى أن المشروع الصهيوني، بتكاليفه الزهيدة، شيء مغر. واستخدم وايزمان الصورة المجازية التجارية التعاقدية نفسها حين كتب لتشرشل قائلاً: "إن السياسة الصهيونية في فلسطين ليست على الإطلاق تبديداً للموارد، وإنما هي التأمين الضروري الذي نعطيه لك بسعر أرخص من أن يحلم به أي فرد آخر". وأفاض وايزمان في شرح وجهة نظره، مبيناً أن الاستعمار البريطاني، بتأييده المنظمة الصهيونية، قد وضع ثقته في مجموعة مستعدة لتَحمُّل قدر كبير من المسئولية المادية عن الاستعمار. وإذا تبيَّن أن تكاليف الحامية البريطانية ستكون مرتفعة، عندئذ يمكن تنظيم وتسليح المستعمرين اليهود. ثم يتساءل وايزمان بشيء من الخطابية وبكثير من التوتر: "هل تمت أية عملية استعمارية أخرى تحت ظروف مواتية أكثر من هذه: أن تجد الحكومة البريطانية أمامها منظمة لها دخل كبير ولديها استعداد لأن تضطلع بجزء من مسئولياتها التي تكلفها الكثير؟". إن الصوت هنا صوت بائع متجول يجيد الإعلان عن السلعة، حتى لو كانت كيانه ووجوده.

ولا يختلف صوت يعقوب ميريدور وزير التخطيط والتنسيق الاقتصادي (1982 ـ 1984) كثيراً، ففي حديث له لإذاعة الجيش الأمريكي ركَّز على مدى رخص وانخفاض ثمن إسرائيل كقاعدة للمصالح الأمريكية. وقد بيَّن الوزير الإسرائيلي أن إسرائيل تحل محل عشرة من حاملات الطائرات، وقدَّم الوزير الإسرائيلي كشف حساب بسيط جاء فيه أن تكلفة بناء الحاملات العشر هذه تبلغ 50 بليون دولار. ثم أضاف الوزير، وهو الخبير بالأمور الاقتصادية، أنه لو دفعت الولايات المتحدة فائدة قدرها 10% على تكاليف تشييد هذه الحاملات (وقد كان الوزير متسامحاً مع الولايات المتحدة فلم يذكر تكلفة الجنود الذين ستحملهم حاملات الطائرات أو الحرج السياسي الذي سيسببه وجود مثل هذه القوات)، لو دفعت الولايات المتحدة مثل هذه الفائدة لبلغت خمسة بلايين دولار. وحيث إن المعـونة الأمريكية لا تصل بأيـة حال إلى هذا القدر، فقد اختتم ميريدور حديثه بملحوظة فكاهية ولكنها في الوقت نفسه بالغة الدلالة، إذ قال: "أين إذن بقية المبلغ؟". ويبدو أن هذا هو الخط الإعلامي الإسرائيلي في مواجهة الأمريكيين، ففي العام نفسه بيَّن أريل شارون أن الخدمات التي تقدمها إسرائيل للولايات المتحدة تفوق في قيمتها ما تقدمه الولايات المتحدة من معونات لإسرائيل. ثم قال بشكل شبه جديّ ما قاله ميريدور بشكل فكاهي: "إن الولايات المتحدة لا تزال مدينة لنا بسبعين مليـاراً من الدولارات".

وتَرد الفكرة نفسها، كما يرد كشف حساب مماثل، في مقال لشلومو ماعوز المحرر الاقتصادي للجيروساليم بوست بعنوان «صفقة إستراتيجية» حين أشار إلى أن الإسرائيليين يعرفون جيداً أن مساعدة الولايات المتحدة للدولة الصهيونية هي في جوهرها مساعدة لخدمة مصالح الولايات المتحدة الإستراتيجية. فالولايات المتحدة تدفع سنوياً 130 بليون دولار لقواتها في حلف شمال الأطلنطي و40 بليوناً للوفاء بالتزاماتها في المحيط الهادي. وبالتالي، فإن مساعداتها العسكرية والمدنية لإسرائيل صغيرة بشكل مضحك، إذا ما قُورنت بالمبالغ الآنفة الذكر، وخصوصاً إذا ما تم النظر إلى مثل هذه المساعدات باعتبارها استثماراً لحماية مصالح أمريكا في المنطقة.

هذا هو المفهوم الغربي لإسرائيل. فالمدافعون عنها في الولايات المتحدة لا يلجأون أبداً إلى الحديث عن المغانم الاقتصادية الثانوية أو المغارم الاقتصادية التافهة وإنما يشيرون دائماً إلى الحليف الذي يمكن التعويل عليه والمغانم الإستراتيجية الأساسية الشاملة الهائلة. وقد عبَّرت مجلة الإيكونومست (في 20 يوليه 1985) عن موقف هؤلاء بقولها: إذا كان بإمكان أمريكا أن تدفع 30 بليون دولار كل عام ضمن تكاليف حلف الأطلنطي (لتحقيق أهداف إستراتيجية)، فإن من المؤكد أن إسرائيل، وهي المخفر الأمامي والقاعدة المحتملة، تستحق مبلغاً تافهاً (نحو 4 بلايين دولار آنذاك).

وقد لخص سبير كل الموضوعات والصور المجازية السابقة فقال إن الزعماء الإسرائيليين مضطرون دائماً لأن يذكِّروا القيادة الأمريكية في واشنطن بمقدار تكلفة وجود الجيش الأمريكي في غرب أوربا بالمقارنة بتلك الهبات الممنوحة لإسرائيل. وقد بيَّن سبير أن الجيش الإسرائيلي ليس خدمة حربية كامنة وحسب، وإنما هو أيضاً خدمة رخيصة، بل إنها أرخص من أي خيار عسكري آخر محتمل لأمريكا في المنطقة. وحسبما جاء في مقاله، يوافق البنتاجون على هذا الرأي، ولذا لا يبدي خبراؤه أي تأفف إزاء الحساب الذي يقدمه الإسرائيليون، حتى أن هناك من يرى أنه رخيص نسبياً، الأمر الذي يدل على أن نبوءات الزعماء الصهاينة وحساباتهم، بشأن الجيب الصهيوني الوظيفي، كانت تتسم بالدقة، وأن السلعة الصهيونية مربحة ولا شك، وأن العقد النفعي الذي وُقِّع بين الحضارة الغربية والمنظمة الصهيونية بشأن يهود العالم لا يزال نافذاً حتى الآن وأن عائده لا يزال مرتفعاً.

3 ـ التعاقدية بين رؤية الذات ورؤية الآخر:

إن ارتباط الإنسان بوطنه ارتباط قد تُفسَّر بعض جوانبه على أُسس اقتصادية، ولكن لا يمكن ردُّه برمته إلى الدوافع الاقتصادية وحسب، فهو ارتباط لا يمكن تفسيره إلا على أُسس أكثر تركيباً. ولكن عضو الجماعة الوظيفية إنسان اقتصادي بالدرجة الأولى حبيس تجربته التي حولته إلى أداة اقتصادية، ولذا فهو يدرك الجنس البشري من خلال تجربته، ويُسقط دوافعه على دوافع الآخرين، ولذا فهو يفشل تماماً في إدراك عمق الرابطة بين الإنسان ووطنه. ولذا، نجد أن الفكر الصهيوني يدور في نطاق رؤية تعاقدية وظيفية نفعية ضيقة سواء في رؤيته لليهود أو في رؤيته للآخر، إذ أن الصهاينة يرون أن العالم بأسره إن هو إلا سوق تُباع فيها الأشياء وتُشتَرى، وضمن ذلك ما يُسمَّى «الوطن القومي». ويبدو أنه في المراحل الأولى للحركة الصهيونية ساد تصوُّر بين المفكرين الصهاينة مفاده أن الحصول على هذا الوطن يمكن أن يتم من خلال عملية تجارية رشيدة من خلال المقايضة والمساومة والسعر المغري. وكان هرتزل يتصور أن الحركة الصهيونية، مُمثّلة الشعب اليهودي، ستقوم بشراء العريش أو أوغندا، أو حائط المبكى وفلسطين من أصحابها. فالأرض هنا ليست وطناً وإنما عقار، وعلاقة الإنسان بها ليست علاقة انتماء وكيان وإنما هي علاقة نفعية تعاقدية تشبه علاقة الجماعة الوظيفية بالمجتمع المضيف. وحينما نشر هرتزل كتابه دولة اليهود، اتهمه بعض اليهود بأنه تقاضى مبلغاً ضخماً من شركة أراض بريطانية كانت تود القيام بأعمال تجارية في فلسطين فتم تفسير الحلم القومي على أنه مشـروع تجـاري. وعلـَّق هو على هذا الاتهـام بقوله: "إن اليهـود لا يصـدقون أن أي شـخص يمكن أن يتصرف مدفوعـاً باقتنـاع أخلاقي". وكان هرتزل يتصوَّر، في واقع الأمر، أن العالم حانوت أو سوق كبيرة، فحينما ذهب لمقابلة جوزيف تشامبرلين (وزير المستعمرات البريطاني) ليطلب منه قطعة أرض ليقيم عليها وطناً، كان يتخيل أن الإمبراطورية الإنجليزية مثل دكان كبير للعاديات التي لا يعرف مالكها عدد السلع فيها على وجه الدقة، وتخيل هرتزل نفسه زبوناً يطلب سلعة اسمها «مكان تجمُّع الشعب اليهودي» ويحاول مع صاحب الدكان أن يبحث له عن مثل هذا المكان/السلعة في بضاعته.

ولكن هرتزل كان ينوي المتاجرة في عدة بلاد حتى يكسب إحداها في نهاية الأمر ومجاناً (فالطفيلية إحدى سمات الجماعة الوظيفية في آخر مراحل تطورها). وعلى سبيلالمثال، حاول هرتزل أن يحصل على امتياز شركة أراض في موزمبيق من الحكومة البرتغالية دون أن يدفع فلساً واحداً، وذلك بأن يَعد بسداد الديون ويدفع ضريبة فيما بعد. ثم يوضح هرتزل للقارئ نواياه: "على أني أريد موزمبيق هذه للمتاجرة عليها فقط وآخذ بدلاً منها جزيرة سيناء مع مياه النيل صيفاً وشتاءً، وربما قبرص أيضاً دون ثمن"، فالمسألة كلها تَبادُل وتَعاقُد وعلاقات موضوعية رشيدة.

ويؤمن هرتزل بأن الدولة اليهودية نفسها سلعة مربحة ناجحة، فهو يوضح أن الجمعية اليهودية ستعمل مع السلطات الموجودة في الأرض، وتحت إشراف القوى الأوربية: "وإذا وافقوا على الخطة فإن هذه السلطات ستستفيد بالمقابل، وسندفع قسطاً من دَينها العام ونتبنى إقامة مشاريع نحن أيضاً في حاجة إليها، كما سنقوم بأشياء أخرى كثيرة. ستكون فكرة خَلْق دولة يهودية مفيدة للأراضي المجاورة، لأن استثمار قطعة أرض ضيقة يرفع قيمة المناطق التي تجاورها".

والرؤية الصهيونية التعاقدية التي تضع لكل شيء سعراً مهما سمت مرتبته، تفترض أن فلسطين (هي الأخرى) سلعة، بل سلعة غير رائجة لا يود أحد شراءها سوى المعتوهين من اليهود. ويُقِّدر هرتزل أن ثمن فلسطين الحقيقي، هو مليونان من الجنيهات فقط (حيث إن العائد السنوي منها عام 1896 كان ـ حسب تصوُّره وحساباته الحقيقية أو الوهمية ـ حوالي 80 ألف جنيه). ولعله أخذ في الاعتبار سعر الفائدة والتمويل. وقد وافق كثير من الصهاينة على هذا الثمن الواقعي أو التجاري. إلا أن السمسار السياسي يعرف أن الثمن التجاري يختلف عما يجب أن يُدفَع حين يحين وقت البيع والشراء، وهو لهذا السبب يرفع السعر إلى عشرين مليون جنيه تركي دفعة واحدة، يُدفَع منها مليونان لتركيا والباقي لدائنيها.

بل إن هرتزل على ما يبدو كان يحاول الحصول على فلسطين بالمجان مثل أي سمسار غشاش من أعضاء الجماعات الوظيفية المالية الذين تفوقوا في الغـش التجـاري. فقد ذهب إلى السـلطان عبد الحمـيد خاوي الوفاض، ودوَّن في مذكراته أنه لو عُرضت عليه فلسطين الغالية نظير سعر مخفض لشعر بالحرج، لأنه لا يحمل معه كل المبلغ. إن كل ما يريده من السلطان هو وعد ببيع فلسطين له، وهذا الوعد سيكون له بمنزلة السلة التي يستخدمها المتسولون لجمع التبرعات. وإن لم ينجح التسول، فإن هرتزل لن تُعجزه الحيلة، فهو يقرر أن يقبل الصفقة على أن يطلب بعض الامتيازات من تركيا (مثل احتكار الكهرباء) حتى يتسنى له الدفع بيسر.

إن هذا التصوُّر التجاري التعاقدي للوطن القومي اليهودي ليس مقصوراً بأية حال على هرتزل، فموسى هس يؤكد أنه لا توجد أية قوة أوربية تفكر في مَنْع اليهود من شراء أرض أجدادهم ثانيةً. وهو يتصوَّر أن تركيا سترد لهم وطنهم نظير حفنة من الذهب. وتصوُّر ليلينبلوم لفكرة شراء الوطن ليس مغايراً لفكرة هس: "على رجالنا الأغنياء أن يبدأوا بشراء العقارات في تلك الأرض، ولو ببعض ما يملكون من ثروة، وما دام هؤلاء لا يرغبون في تَرْك أراضيهم التي يسكنونها الآن، فليشتر كل منهم قطعة أرض في أرض إسرائيل ببعض من مالهم حيث تُعطَى هذه الأراضي لمن يستغلها على أساس اتفاقية بشأن العائد (أو الربح) مع الشاري". ويرى بنسكر هو الآخر أن حل المسألة اليهودية يتلخص في تأسيس شركة مساهمة لشراء قطعة أرض تتسع لعدة ملايين من اليهود يسكنون فيها مع مرور الزمن. وهذا التصور التجاري لكل أراضي آسيا وأفريقيا لم يكن أمراً غريباً على العقل الغربي الاستعماري في القرن التاسع عشر الذي كان يرى العالم بأسره حيزاً للاستغلال وأرضاً تُوظَّف بطريقة مربحة (من خلال شركات ذات براءة في معظم الأحيان).

ولا يزال التصوُّر الوظيفي التجاري التعاقدي قائماً حتى الآن، فحينما يتحدث وايزمان عن فائدة الدولة الصهيونية للإمبريالية، ويقدم حساب التكاليف، وحينما تقدِّم الحركةالصهيونية الحوافز المادية والرشاوى ليهود المنفى ليهاجروا إلى أرض فلسطين (وكأن الوطن ملكية عقارية)، وحينما يحاولون شراء حائط المبكى، وحينما يعرضون تعويض الفلسطينيين عن وطنهم وتقديم المساعدة المالية لهم شريطة أن يتنازلوا عن حق العودة، فإنهم يؤكدون أن هذه الرؤية التجارية التعاقدية السطحية لا تزال لها قوتها في بعض الأوساط الصهيونية. ويمكن القول بأن الصهيونية النفعية تعبير آخر عن هذا الاتجاه.

الدولــــة الصهيونيـــة الوظيفيــــة: الحوسلــــة

The Functional Zionist State: Instrumentalization

الدولة الوظيفية هي دولة تتم حوسلتها لصالح الدول الراعية الإمبريالية، ولكن يبدو أن الحوسلة في حالة الحركة الصهيونية لن تتوقف عند الدولة الوظيفية، بل ستمتد لتشمل كل المادة البشرية اليهودية أينما كانت. وفي اجتماع بين هرتزل وفيكتور عمانوئيل الثالث، ملك إيطاليا، أشار الزعيم الصهيوني إلى أن نابليون دعا إلى عودة اليهود إلى فلسطين ليؤسـسوا وطناً قومياً، ولكن ملك إيطاليا بيَّن له أن ما كان يريده في الواقـع هو أن يجعل اليهود المشـتتين في جميـع أنحاء العـالم عمـلاء له. وقد اضطر هرتزل إلى الموافقة على ما يقول، وقد اعترف بأن تشامبرلين، وزير الخارجية البريطاني، كانت لديه أيضاً أفكار مماثلة. وكان هرتزل يرى أنه إذا وافقت إنجلترا على مشروعه الصهيوني، فإنها ستحصل، «في ضربة واحدة»، على عشرة ملايين تابع (عميل) سري في جميع أنحاء العالم يتسمون بالإخلاص والنشاط، وبإشارة واحدة سيضع كل واحد منهم نفسه في خدمة الدولة التي تقدم لهم العون. "إن إنجلترا ستحصل على عشرة ملايين عميل يضعون أنفسهم في خدمة جلالتها ونفوذها". ثم أضاف هرتزل، مستخدماً الصورة المجازية التجارية التعاقدية الشائعة في الأدبيات الصهيونية، "ثمة أشياء ذات قيمة عالية تكون من نصيب الشخص الذي يحصل عليها في وقت لم تكن قد عُرفت قيمتها الحقيقية العالية بعد". وأعرب الزعيم الصهيوني عن أمله في أن تدرك إنجلترا مدى القيمة والفائدة التي ستعود عليها من وراء كسبها الشعب اليهودي، أي أن هرتزل مدرك تماماً لوظيفة الدولة اليهودية والشعب اليهودي ومدى نفعه وإمكانية حوسلته.

والخطة الصهيونية الخاصة بتسخير الشعب اليهودي جزء أساسي من العقيدة الصهيونية. ففي عام 1920، عبَّر ماكس نوردو عن تفهُّمه العميق للدوافع التي حركت رجال السياسة البريطانيين الذين كانت تواجههم مشـكلة التـوازنات الدولية. وبعد القـيام بحسـاباتهم تَوصَّل هؤلاء الساسـة إلى أن اليهود يُعتبَرون في الحقيقـة "مصدر قوة" وربما "مصدر نفع" أيضاً لبريطانيا وحلفائها، ومن ثم عرضت عليهم فلسطين.

ويُلاحَظ أن كل الكُتَّاب السابقين ينظرون إلى إسرائيل باعتبارها «رقعة» أو «مساحة» أو «مكاناً تابعاً» أو «بلداً» تحت الوصاية (فهي مكان تم نزع القداسة عنه وتمت حوسلته تماماً حتى أصبح موضوعاً محضاً). وهم يعتبرون المستوطنين الصهاينة حراساً و"خدمة عسكرية جاهزة": جماعة من المماليـك أو المرتزقة على أهـبة الاسـتعداددائماً. والمملوك أداة ووسـيلة، وليس إرادة وقيمة.

وسواء كانت الإشارات للمكان أو كانت للإنسان، فإن جوهر الصور المجازية جميعاً هو التبعية الكاملة للغرب، والتحوسل الكامل لحسابه، وتحويل المكان والإنسان إلى أداة منعزلة عن المحيط الحضاري الشرقي («ذراع مستقبلية»). وقد مزج هرتزل، مؤسس الصهيونية، كل العناصر في تعبيره المجازي الشهير حين قال: "سنقيم هناك [في آسيا] جزءاً من حائط لحماية أوربا يكون حصناً منيعاً للحضارة [الغربية] في وجه الهمجية"، فقد مزج الإنسان والمكان بحيث أصبحا حائطاً غربياً في مواجهة الشرق. (يُلاحَظ أن كلمة «إسرائيل» في العبرية كلمة متعددة المعاني متنوعة الدلالات وتشير للأرض والشعب تماماً كما فعل هرتزل(.

ولا يزال إدراك الإسرائيليين لدورهم (وإدراك العالم الغربي له) يدور في هذا الإطار. وكثير من الصور المجازية التي يستخدمها المستوطنون الصهاينة في وصف الدورالموكل إليهم يبين إدراكهم لعملية الحوسلة الوظيفية هذه. فقد استخدمت جريدة هآرتس صورة مجازية درامية لوصف الدور الذي تم إسناده إلى الدولة اليهودية (في مقال فيسبتمبر 1951) بعنوان "نحن وعاهرة المواني" جاء فيه أن "إسرائيل تم تعيينها لتقوم بدور الحارس الذي يمكن الاعتماد عليه في معاقبة دولة واحدة أو أكثر من جيرانهاالعرب الذين قد يتجاوز سلوكهم تجاه الغرب الحدود المسموح بها".

والصورة المجازية السابقة (إسرائيل كحارس أجير يشبه العاهرة) تلمس ـ على ما يبدو ـ وتراً حساساً في الذات الصهيونية الإسرائيلية، إذ تَكشَّف أخيراً من خلال وثائق وزارة الخارجية البريطانية لعام 1956 الخاصة بحرب السويس أنه، أثناء المباحثات السرية التي جرت بين إنجلترا والدولة الصهيونية ومهدت للعدوان الثلاثي على مصر، تم الاتفاق على أن تقـوم إسرائيل بمهاجـمة مصر. وبعـد وصولهـا إلى قناة السويس، تقوم إنجلترا وفرنسا بالتدخل ثم تصدران أمراً إلى الطرفين المصري والإسرائيلي بالانسحاب عدة كيلو مترات من حدود القناة، وبذا يتم تبرير الغزو الفرنسي والإنجليزي أمام الرأي العام العالمي باعتباره عملية محايدة تهدف إلى حماية الملاحة في القناة. وقد ضمنت الدولتان أمن إسرائيل وزودتاها بالغطاء الجوي المطلوب (وهذه أمور معروفة لا تحتاج إلى توثيق). ولكن يبدو أن المندوب الإنجليزي في هذه المفاوضات السرية بالغ قليلاً في الأمر وطلب أن تقوم القوات الإنجليزية بإلحاق بعض الإصابات الطفيفة، ولكن الفعلية، بالقوات الإسرائيلية لرفضها الانسحاب أو لتباطؤها فيه حتى يتم حبك المسرحية. وهنا ثارت ثائرة بن جوريون واستخدم صورة مجازية شبيهة بالصورة المجازية التي اسـتخدمتها هآرتس لوصـف العـلاقة بينإسرائيل والدول الغربية إذ قال: إنجلترا تشبه النبيل الإقطاعي الذي يرغب في معاشرة إحدى الخادمات جنسياً على أن يتم ذلك في الخفاء وحسب، أي في المطبخ مثلاً لا فيحجرة النوم. ومن الواضح أن بن جوريون لم يرفض الدور الإستراتيجي الموكل إليه (الخادمة الحسناء)، ولكنه كان يطمع في أن يتـم الـلقاء بين الخـادمة والسـيد في مكان لائق (الحديقة أو غرفة النوم على سبيل المثال)، يتفق مع مكانة الشعب اليهودي وكرامة دولته اليهودية الوظيفية.

ومن الصور المجازية المتواترة الأخرى، صورة إسرائيل باعتبارها كلب حراسة. فقد وصف البروفسير يشعياهو ليبوفيتس في حديث له في صحيفة لوموند بتاريخ 8 مارس 1974 إسرائيل بأنها "عميل للولايات المتحدة" ووصف الإسرائيليين بأنهم "كلاب حراسة للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، ويتعلق بقاؤنا بقدرتنا على القيام بهذه المهمة ". وقد طوَّر الصحفي الإسرائيلي عاموس كينان هذه الصورة المجازية المثيرة من عالم الحيوان وجعلها أكثر حدة وإثارة إذ وصف إسرائيل بأنها "كلب حراسـة رأسـه في واشـنطن وذيلـه في القدس"، وهي كلب حراسة قوي لكنه يحتاج إلى حماية. ويفضل العرب استخدام «مخلب القط» كصورة مجازية لوصف الدولة الوظيفية. وهي صـورة مجـازية مألوفـة وشـائعة فَقَدت كثيراً من قوتها بسـبب تكرارهـا بشكل ممل، وإن كانت معبِّرة تماماً. والصورة المجازية السـابقة (الحارس، والعاهرة، والخادمة الحسـناء الطيعة، وكلب الحراسـة، ومخلب القط) سواء أقبلناها لجدتها أم رفضناها لحدتها، تؤكد أن أهمية إسرائيل من وجهتي النظر الغربية والصهيونية لا تكمن في عائدها الاقتصادي وإنما في دورها الإستراتيجي إذ أن كل الصور المجازية تفترض وجود دور يُؤدَّى وثمن يُدفَع، لا عائد اقتصادي يُحصَّل.

ولكن كل الصور المجازية السابقة،، اللائق منها وغير اللائق، هي في الواقع مستمدة من القرن التاسع عشر قبل تفجُّر الثورة التكنولوجية وتزايد معدلات نمو الصناعات الحربية وتنوعها. ولذا، كان تطَوُّر الصورة المجازية بشكل يتفق مع روح العصر في أواخر القرن العشرين حتمياً (والواقع أن إحدى السمات الأساسية الشاملة للدولة الوظيفية الصهيونية مقدرتها على تغيير وظيفتها بما يتفق مع متطلبات الدولة الراعية). وهذا ما أنجزه يعقوب ميريدور في حديثه للإذاعة التابعة للجيش الأمريكي، فقد بيَّن أنه لولا وجود إسرائيل كقاعدة ومنطقة نفوذ وحليف للولايات المتحدة لاضطرت الأخيرة إلى بناء عشر من حاملات الطائرات. وهو بذلك يكون قد أحلّ صورة إسرائيل المجازية كحاملة طائرات أمريكية محل الصور المجازية الغامضة أو الفاضحة السابقة. وترد الصورة المجازية نفسها، وبشكل أكثر تبلوراً، في مقال الصحفي الإسرائيلي سبير والمعنون «مجتمع يتغذى على الهبات الخارجية» إذ قال الكاتب: "إن الأمريكيين يدفعون لنا لأنهم يريدون أن تكون لهم دولة تابعة مجهزة بأفضل الأسلحة والجنود". وقد وصف سبير هذه الدولة بأنها حاملة طائرات عليها أربعة ملايين نسمة في موقع إستراتيجي فريد من نوعه قريب من الاتحاد السوفيتي وقريب من أوربا الشرقية وقريب من حقول النفط.

إسرائيل إذن «حاملة طائرات»، أي أنها وظيفة تُؤدَّى أو دور يُلعَب وأداة تُستخدَم أو ثروة إستراتيجية تضم أربعة ملايين مقاتل. ولا شك في أن صورة «الحاملة» المجازية أكثر دقة ودلالة من سابقاتها لأنها لا تتحدث عن دور الدولة الصهيونية أو وظيفتها بشكل عام، وإنما تعرِّف ـ وبدقة بالغة ـ طبيعته الإستراتيجية كدولة عميلة توجد في منطقة حدودية قريبة من الاتحاد السوفيتي (سابقاً) وأوربا الشرقية وحقول النفط، وليس لها عائد اقتصادي مباشر. وتؤكد الصورة المجازية حركية هذه الدولة النافعة الثمينة وإمكانية نَقْل جنودها من مكان حدودي إلى مكان حدودي آخر. ولكن الصورة المجازية تُظهر في الوقت نفسه أنه يمكن الاستغناء عنها، فالأجزاء الآلية الحركية ليست عضوية ولا ثابتة. وتنفي الصورة المجازية عن إسرائيل أيَّ دور اقتصادي مباشر. ولعل الاتفاق الإستراتيجي الذي تم توقيعه بين الولايات المتحدة وإسرائيل عام 1984 هو تَحقُّق آخر لهذا الإدراك لطبيعة دور الدولة إسرائيل وعلاقتها بالعالم الغربي.

التحالف الإستراتيجي الأمريكي/ الإسرائيلي

Israeli-American Strategic Alliance

لا شك في أن القوى الاستعمارية هي التي تبنَّت المشروع الصهيوني وتكفَّلت برعايته ووفرت له كل أسباب النجاح. وحتى الحرب العالمية الثانية كانت أوربا القاعدة المركزية للنشاط الصهيوني، وكانت بريطانيا الدولة العظمى التي تقود عملية إنشاء الدولة الصهيونية في فلسطين. أما بعد التحـولات التي أخـذت تتبلور مع الحرب العـالمية الثانية، فإن النشاط الصهيوني سارع في الانتقال إلى الولايات المتحدة الأمريكية مركز القوة الجديد في الغرب، فكانت الولايات المتحدة أول دولة تعترف بإسرائيل بعد دقائق من إعلان قيامها في 15 مايو 1948. وقد أيَّدت الإدارات الأمريكية المتعاقبة موقف إسرائيل من الصراع العربي الإسرائيلي، باستثناء فترة العدوان الثلاثي سنة 1956.

ولكن الدعم العسكري والاقتصادي ظل متواضعاً حتى منتصف الستينيات، حيث كانت إسرائيل تعتمد على التعويضات الألمانية من الناحية الاقتصادية، وعلى السلاح الفرنسي من الناحية العسكرية. وبدأ التبدُّل النوعي في العلاقة بين الطرفين مع تولي لندون جونسون رئاسة الولايات المتحدة في وقت أصبح من الواضح فيه أنها وريثة الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة وزعيمة العالم الغربي في عالم ما بعد الاستعمار. وبذلك انطوت حقبة كاملة من السياسة التي تميَّزت بالتوازن النسبي أحياناً أو الانحياز المحدود المقتصر على مؤسسة الرئاسة كما في ولاية ترومان، وبدأت حقبة مختلفة مع جونسون اتسمت بالانحياز الجارف إلى إسرائيل على جميع المستويات الرئاسية والحكومية وبخاصة بعد حرب 1967، حيث أصبحت الولايات المتحدة المورِّد الأساسي للسلاح لإسرائيل.

وفي عهد الرئيس رونالد ريجان قطعت هذه العلاقة مسافة أخرى على طريق التنسيق الإستراتيجي المتكامل، حيث تم توقيع اتفاقية التعاون الإستراتيجي لسنة 1981. وبعد أسابيع من توقيعها أعلنت إسرائيل ضم مرتفعات الجولان السورية. وبعد عام، على وجه التحديد، في يونيه 1982، قامت إسرائيل باجتياح جنوب لبنان ثم انضمت عام 1983 إلى مبادرة الدفاع الإستراتيجي الأمريكية (SAI) بتوقـيع اتـفـاقية إسـتراتيجية أخرى بين الولايات المتحدة وإسرائيل، حصلت إسرائيل بموجبها على مكاسب جديدة وفُتحت أمامها آفاق جديدة من التعاون والمسـاعدات الأمريكية. فلقـد تكفَّلت الولايات المتحـدة، في هـذه الاتفاقية، بأن تقوم وزارة الدفاع الأمريكية بشراء ما قيمته 200 مليون دولار سنوياً من إسرائيل، كما سمحت للشركات الإسرائيلية بدخول المناقصات التي تجريها وزارة الدفاع الأمريكية من أجل الحصول على عقود صنع السلاح. كذلك حصلت إسرائيل على تعهُّد أمريكي بمدها بالمعلومات التي تحصل الولايات المتحدة عليها في الشرق الأوسط عن طريق الأقمار الصناعية.

وفي عام 1985 وقَّعت الحكومتان اتفاقية تم بمقتضاها إلغاء التعريفة الجمركية بينهما، أي قبل سبع سنوات من إبرامها اتفاقية مماثلة مع جارتيها كندا والمكسيك. واستمرت إدارة الرئيسين بوش وكلينتون في دعم إسرائيل (باستثناء موقف بوش بتجميد ضمانات القروض لإسرائيل).

وفي مطلع عام 1986 تم التوصل إلى عدد من الاتفاقات الأمنية والعسكرية بين إسرائيل والولايات المتحدة، ويستند التحالف الإستراتيجي الأمريكي /الإسرائيلي إلى مجموعة متنوعة من الخدمات المميزة التي يمكـن أن توفرها إسـرائيل للولايات المتحدة باعتبارها رصيداً إستراتيجياً، وهي تتمثل في:

* الموقع الجغرافي: إسرائيل قاعدة انطلاق مثالية للقوات الأمريكية إذا هُدِّدت مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وهو منطقة مهمة من الناحية الجيوبوليتيكية بسبب ما يحويه من نفط ورؤوس أموال وأسواق. ومن المعروف أن نقل قوة لها شأنها إلى هذه المنطقة يستغرق عدة أشهر، أما مع وجود إسـرائيل كحليف فإنه لا يحتاج إلا إلى بضعة أيام.

* البنَى التحتية والمواصلات والاتصالات: تستطيع القوات الأمريكية استخدام القواعد الجوية والبحرية والبرية الإسرائيلية إما لهدف عسكري مباشر أو عمليات الإسناد أو كقواعد وسيطة.

* البحث والتطوير والاستخبارات: يمكن أن تستفيد القوات الأمريكية من الخبرات الحية للتجربة العسكرية الإسرائيلية ومن المعلومات التي تجمعها إسرائيل عن المنطقة.

* القدرة الدفاعية: يمكن استخدام القدرات العسكرية الإسرائيلية لحماية قوة تدخُّل أمريكية في الشرق الأوسط، وخصوصاً أن سلاح الجو الإسرائيلي يسيطر على المجال الجوي.

وأنشطة البحث والتطوير الإسرائيلية نفسها مفيدة للولايات المتحدة الأمريكية بسبب التكامل الوثيق بين المخترعين الإسرائيليين والشركات الأمريكية (وكما قال جورجكيجان، رئيس استخبارات سلاح الجو الأمريكي سابقاً، إن مساهمة إسرائيل تساوي ألف دولار لكل دولار معونة قدمناها لها).

وإمكانيات إسرائيل في الاستخبار السياسي ضخمة جداً، فكثير من الإسرائيليين جاءوا من مختلف دول المنطقة وذلك يعطيهم معرفة أفضل باللغات، وغير ذلك من العوامل التي لا غنى عنها لأي تحليل أفضل، وتأويل أمثل للمعلومات التي يتم جمعها من المنطقة.

وإذا أردنا استخدام مصطلحنا يمكننا القول بأن الدولة الصهيونية هي إعادة إنتاج لنمط الجماعة الوظيفية القتالية والاستيطانية والتجارية والجاسوسية. وإذا أضفنا عملياتالترفيه عن الجنود الأمريكيين في الموانئ الإسرائيلية، فإننا بذلك نضم قطاع اللذة إلى قائمة الوظائف، فهي عملية توظيف شاملة يستفيد منها الفريقان.

يترتب على هذه العناصر تحقيق وحدة المصالح الإسرائيلية الأمريكية، وخصوصية علاقتهما وتفرُّدها، باعتبار إسرائيل موقعاً أمريكياً متقدماً في منطقة الشرق الأوسط.

وفكرة أن إسرائيل رصيد إستراتيجي للولايات المتحدة لا تنفصل عن الصراع العربي الإسرائيلي، فالخبرات والقدرات السابقة لم تكتسبها إسرائيل إلا بانغماسها في ذلك الصراع، كما أن تصاعد الصراع واحتدامه أدى إلى زيادة الروابط العسكرية والإستراتيجية بين البلدين.

المعونات الخارجية للدولة الصهيونية الوظيفية

Foreign Aid to the Functional Zionist State

«المعونات الخارجية» مصطلح شامل لا يضم فقط المساعدات الإنمائية وإنما يضم أيضاً المعونة العسكرية والمعونة الإنسانية التي تدفعها دولة (أو منظمة دولية) لدولة أخرى. والمعونات الخارجية هي إحدى أدوات تحقيق أهداف السياسة الخارجية للدولة المانحة.

والمشروع الصهيوني الاستيطاني الذي يهدف إلى تأسيس دولة وظيفية تجمع بعض يهود العالم وتقوم على خدمة المصالح الغربية في المنطقة مشروع تم تنفيذه برعاية الدول الغربية ودعمها السياسي والاقتصادي. فقد حصلت الحركة الصهيونية على العون السياسي والمادي منذ نشأتها في أواخر القرن التاسع عشر. وحتى قبل أن تتحوَّل إلى منظمة لها شبكتها الضخمة الممتدة التي تمارس الضغط السياسي وتجمع التبرعات من الحكومات والأفراد، كانت المعونات قد بدأت تصب بالفعل في فلسطين لتمويل جماعات المستوطنين اليهود التابعين لمنظمات شبه صهيونية كانت بمنزلة الإرهاصات الأولى للحركة الصهيونية.

والتمويل الخارجي جزء أساسي من تكوين الحركة الصهيونية، ويمكن القول بأن الأثرياء اليهود، ومن بعدهم الدول الغربية (التي احتضنت المشروع الصهيوني بعد أنتحوَّل من مجرد جمعيات وإرهاصات إلى منظمة عالمية)، لا ينظرون إلى المُستوطَن الصهيوني باعتباره استثماراً اقتصادياً، وإنما باعتباره استثماراً سياسياً له أهميةإستراتيجية قصوى. ولذا اتسمت تدفقات المعونات على الحركة الصهيونية وعلى الدولة الصهيونية بدرجة عالية من التسييس والارتباط بطبيعة المشروع الصهيوني.

والواقع أن أيَّ باحث في الاقتصاد الإسرائيلي لابد أن يلاحظ محورية الدور الذي تلعبه المعونات الخارجية وتدفقات البشر ورؤوس الأموال على إسرائيل بشكل لا مثيل له في أية دولة من دول العالم، سواء من حيث حجمها ودرجة اعتماد الاقتصاد الإسرائيلي عليها، أو من حيث درجة تسييسها وارتباطها بطبيعة المشروع الصهيوني.

والدولة الصهيونية في حالة حرب دائمة تلتهم جزءاً كبيراً من ميزانية الدفاع والأمن وهو ما يُشكِّل استنزافاً اقتصادياً دائماً. كما أن عملية بناء المستوطنات تتطلب ميزانيات ضخمة. وبناء المستوطنات، شأنه شأن نشاطات "اقتصادية" أخرى، لا يخضع بالضرورة لمقاييس الجدوى الاقتصادية الصارمة، إنما يخضع لمتطلبات الاستيطان وهو ما يسبب إرهاقاً مالياً.

والاقتصاد الإسرائيلي صغير الحجم - بمعيار عدد السكان - لا يشكل قاعدة كافية لاستيعاب ناتج الكثير من المشروعات الإنتاجية عند حجمها الأمثل، وهو ما يعني أن الإنتاج في مثل هذا الاقتصاد ليس اقتصادياً (بالمعنى الفني للمصطلح)، الأمر الذي يقتضي تخصيص مبالغ كبيرة لدعم المشروعات وإعانتها، وقد بلغت نسبة الإعانات للمشـروعات الصـناعية في بعض السـنوات 40% من قيمة الناتج الصناعي. ويمكن القول بأن النموذج الاقتصادي الإسرائيلي يرجع أساساً إلى نجاح صيغة الصهيونيةالعمالية (الاستيطانية)، التي تبنتها إسرائيل منذ نشأتها، في ضمان تَدفُّق البشر ورؤوس الأموال إليها.

وقد ارتبطت فترات النمو في الاقتصاد الإسرائيلي أساساً بتدفقات البشر - عبر حركات هجرة البحر والأموال (أو العمل ورأس المال بالتعبير الاقتصادي) - على إسرائيل، حيث يرى أحد الباحثين الإسرائيليين أن 75% من النمو الذي حققه الاقتصاد الإسرائيلي في الفترة من 1954 - 1972 تم بفضل المعدلات المرتفعة التي نمت بها عواملالإنتاج (رأس المال والعمل) و25% منه فقط بسبب التحسن في الكفاءة الإنتاجية، الأمر الذي يفسر نجاح إسرائيل في تنفيذ استثمارات ضخمة رغم أن معدل الإدخار المحلي كان بالسالب في أغلب الفترات (حتى في الفترات التي كان الاقتصاد الإسرائيلي فيها ينمو بشكل سريع إذ كان الإدخار القومي سالباً، ومع هذا كان معدل الإدخار الخاص مرتفعاً، لكنه لم يكن كافياً لتغطية العجز في ميزانية الحكومة)، وقد كانت المساعدات الخارجية الوسيلة الأساسية لسد الفجوة بين الإدخار والاستثمار، وهي التي مكَّنت إسرائيل من تحقيق مستوى معيشي مرتفع رغم معدلات زيادة السكان المرتفعة.

وقد ساهمت المعونات ولا شك في حل مشاكل التجمُّع الصهيوني الاقتصادية وحمته طيلة هذه الفترة من جميع الهزات. والأكثر من هذا أن هذه المعونات غطت تكاليف الحروب الإسرائيلية الكثيرة والغارات التي لا تنتهي. وبالتالي قُدِّر للعقيدة الصهيونية أن تستمر لأن الإسرائيليين لا يدفعون بتاتاً ثمن العدوانية أو التوسعية الصهيونية. كما موَّلت هذه المعونات عملية الاستيطان باهظة التكاليف، وحقَّقت للإسرائيليين مستوىً معيشياً مرتفعاً كان له أكبر الأثر في تشجيع الهجرة من الخارج وبخاصة من الاتحاد السوفيتي.

وحينما يتحدث الدارسون عن «المعونات الخارجية» فهم يتحدثون عن معونات من مختلف الدول الغربية ومن يهود العالم الغربي. ولكن قبل الخوض في هذا الموضوع لابد من الاعتراف أنه سيكون هناك قدر من الاختلافات الواضحة بين التقديرات المختلفة لحجم المعونة الغربية (وبخاصة الأمريكية) للدولة الصهيونية. ولعل هذا يعود إلى طريقة تقديرها وإلى أن قدراً كبيراً من السرية والتعمية المتعمدة يحيط بحجم المعونات. وقد اعتمدت إسرائيل في البداية على التعويضات الضخمة التي تلقتها من ألمانيا اعتباراً من عام 1953 (بواقع 750 - 900 مليون دولار سنوياً) وحتى نهاية الستينيات، والتي بلغت مليار دولار كتعويضات مباشرة للحكومة الإسرائيلية، باعتبارهاالممثل الشرعي والوحيد لكل يهود العالم، ومنهم ضحايا النظام النازي في الحرب العالمية الثانية (التي بدأت وانتهت قبل قيام دولة إسرائيل!)، كما اعتمدت على المعونات العسكرية الألمانية خلال الخمسينيات والستينيات، وهي المساعدات التي قامت ألمانيا بموجبها بتمويل شراء إسرائيل لأسلحة أمريكية (مثال: في عام 1963 قامت ألمانيا بتقديم 60 مليون دولار لتمويل شراء صفقة دبابات أمريكية الصنع لإسرائيل). وقد بلغت التعويضات الألمانية للأفراد ما بين 700 - 900 مليون دولار سنوياً. وتصلبعض التقديرات إلى أن حجم المعونة الألمانية تتراوح بين 60 - 80 بليون دولار. فقد صرح وزير الخارجية أمام المؤتمر اليهودي (8/5/1997) أن ألمانيا دفعت لإسرائيل تعويضات تصل إلى 97 مليون مارك (6 بليون دولار) وأنها ستستمر في دفع التعويضات لمدة 34 سنة أخرى حتى تصل عام 2030 مبلغ 940 بليون مارك (80 بليون دولار)، مع العلم بأن مجموع ما تلقته ألمانيا من مشروع مارشال هو 15 بليون دولار!

ولكن الدعم الحقيقي جاء من الولايات المتحدة، وهو ما يجعلها صاحبة لقب «الراعي الإمبريالي» بامتياز. وكانت الولايات المتحدة أول دولة تعترف بإسرائيل؛ وذلك بعد مضي دقائق على إعلان قيامها في 15 مايو 1948. وبعد أسـابيع منحـتها قرضاً قيمته 100 مليون دولار. وكان الدعم العسكري والدعم الاقتصادي منذ الخمسينيات حتى منتصف الستينيات متواضعين، ذلك أن إسرائيل كانت من الناحية الاقتصادية تعتمد على التعويضات الألمانية كما أسلفنا؛ وبدأ التبدل النوعي في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية بعد حرب 1967 مباشرةً في عهد الرئيس ليندون جونسون.

وفي الأيام الأولى لحرب 1973، أقامت الولايات المتحدة جسراً جوياً بينها وبين إسرائيل، إذ نقلت إلى إسرائيل في أيام قليلة 22 ألف طن من العتاد العسكري لتعويضها عن خسائرها التي مُنيت بها.

وقد تطوَّرت المساعدات الأمريكية لإسرائيل وتصاعدت خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات، وحدثت القفزة الكبيرة بعد حرب 1973 حتى وصلت إلى 3 مليار دولار تقريباً سنوياً طبقاً للإحصاءات الأمريكية الرسمية منها 1.8 مساعدات عسكرية، 1.2 مساعدات اقتصادية. وقد أخذ طابع المساعدات منذ الثمانينات يتحوَّل إلى المنح بدلاً من القروض.

تطور المساعدات الأمريكية لإسرائيل (مليون دولار):

السنة / المجموع / القروض / المنح

1949 - 1950 / 852.9 / 339.3 / 313.6

1960 - 1969 / 834.8 / 801.9 / 32.9

1970 / 93.6 / 80.7 / 12.9

1972 / 480.9 / 424.9 / 56.0

1974 / 2.646.3 / 1.055.0 / 1.591.3

1978 / 1.822.6 / 772.2 / 1.050.4

1982 / 2.245.5 / 874.0 / 1.371.5

1984 / 2.628.5 / 851.9 / 1.776.6

1986 / 3.800.0 / --- / 3.800.0

1988 / 3.050.0 / --- / 3.050.0

1990 / 3.452.0 / --- / 3.452.0

1991 / 2.935.0 / --- / 2.935.0

المصدر : حتى سنة 1988 : Rabie (1988) .p.59.

أما سنتا 1990 و 1991 ، فمن :

Government Finance Statistics Yearbook (1992).p.306.

غير أن الأرقام السابقة - على ضخامتها - لا تكشف سوى جزء من الواقع، إذ أن المبالغ الفعلية التي تحصل عليها إسرائيل أكبر من الرقم الرسمي المعلن بكثير، لتصل إلى ما يتراوح بين 5.5 مليار دولار و6.5 مليار دولار كما يتبين من خلال استعراض التقديرين الآتيين:

ففي تقدير ذا واشنطن ربورت أُنْ ميدل إيست أفيرز The Washington Report on Middle East Affairs تم تقدير حجم المعونة عام 1993 بـ 6.321 مليار دولار أو 17 مليون دولار يومياً، منها 2 مليار دولار سنوياً منذ عام 1993 ولمدة خمس سنوات هي ضمانات قروض بقيمة 10 مليار دولار، وذلك لكون إسرائيل غير مُلزمة بسداد القروض للولايات المتحدة سواء من خلال إمكانية تنازُل الكونجرس، أو بسبب تعديل كرانستون الذي يشترط عدم خفض مستحقات الدفع السنوية لإسرائيل، ويُلزم الحكومة الأمريكية بأن لا يقل حجم المكون الاقتصادي من المعونة التي تقدمها لإسرائيل عن إجمالي أقساط وفوائد الديون المستحقة على إسرائيل للولايات المتحدة سنوياً، أي أن الولايات المتحدة قد ألزمت نفسها بسداد ما سبق أن اقترضته الحكومة الإسرائيلية أو ما يمكن أن تقترضه في المستقبل من الولايات المتحدة.

ويبيِّن الجدول الآتي المعونة الأمريكية لإسرائيل عام 1993 بالمليار دولار:

3.000 من ميزانية المساعدات الأجنبية.

1.271 مساعدات أخرى من الميزانية ومن خارجها.

0.050 فوائد قروض إسرائيلية.

2.000 ضمانات قروض.

6.321 المجموع

وحسب بعض التقديرات، يصل إجمالي ما تحصل عليه إسرائيل في ميزانية 1996 من معونة مبلغ خمسة مليار وخمسمائة وخمسة ملايين وثلاثمائة ألف دولار (5.505.300)، أي أن ما تحصل عليه إسرائيل يعادل تقريباً ضعف ما تظهره الأرقام الخاصة ببرنامج المعونة الأمريكية الخارجية لإسرائيل وهي 3 مليارات دولارمنها 1.2 مليار دولار تحت بند المعونة الاقتصادية أو بعبارة أدق تحت بند "صندوق الدعم الاقتصادي Ecormic Support Fund" و1.8 مليار دولار تحت بند المعونة العسكرية أو بعبارة أدق تحت بند "مبيعات السلاح الخارجية Foreign Military Sales". أما عن مصادر تلك الفجوة بين حجم المعونة الرسمية المعلن وبين ما تحصل عليه إسرائيل فعلاً فهو ما يلي:

1 - المعونات المدرجة ضمن ميزانيات عدد من الوزارات أو الوكالات الفيدرالية مثل وزارات الخارجية والدفاع والتجارة، ومصلحة الهجرة والجنسية... إلخ، فميزانية الدفاع خصَّصت مبلغ 242.3 مليون دولار عام 1996 لتطوير عدد من نظم التسليح لم تظهر في برنامج المعونة.

2 - التيسيرات الهائلة التي تحصل إسرائيل بموجبها على حصتها من برنامج المعونة، كونها الدولة الوحيدة في العالم التي تحصل على المعونة الاقتصادية نقداً ومرة واحدة وهو ما يرفع عن كاهلها أعباء مصاريف بنكية تصل إلى 60 مليون دولار، ولأنها مستثناه من قانون استخدام أموال المعونة العسكرية لشراء معدات عسكرية أمريكية، بل إن لها الحق في استخدامها في شراء معدات مُصنَّعة في إسرائيل.

3 - التسهيلات الائتمانية والقروض وهي من حيث المضمون أقرب إلى المنحة منها إلى القرض.

وقد حصلت إسرائيل على استثناءات كثيرة من شروط المعونة، من أهمها الاستثناءات الخاصة باستخدام إسرائيل أموال المعونة في شراء منتجات غير أمريكية وبخاصة في مجال التصنيع العسكري. كما تعمد إسرائيل إلى خرق العديد من القوانين الأمريكية إذا تصادمت مع مصالحها مثل خَرْق القانون الذي يحظُر نَقْل التكنولوجيا الأمريكية بدون إذن الإدارة الأمريكية إلى طرف ثالث. بل إن عملية الخرق هذه قد تجد تشجيعاً من الإدارة الأمريكية. ففي عام 1993، قرر الكونجرس خصم واحد دولار من المعونة مقابل كل دولار تستخدمه إسرائيل في بناء المستوطنات في غزة والضفة، واعترفت إسرائيل بأنها أنفقت بالفعل 437 مليون دولار على المستوطنات وهو ما كان يعني خصم القيمة نفسها من المعونة، فقررت إدارة الرئيس كلينتون تزويد إسرائيل بـ 500 مليون دولار إضافية مقابل ذلك الخصم، وهو ما يعني زيادة 63 مليون دولار على المعونة لم تكن لتستلمها لو أطاعت رغبة الكونجرس.

ويشير أحد التقديرات إلى أن إجمالي ما حصلت عليه إسرائيل من معونة أمريكية حتى عام 1996 يبلغ 78 مليار دولار، منها ما يزيد على 55 مليار دولار منحة لا تُرد. بينما ترفع بعض التقديرات الأخرى مبلغ المعونة الفعلية إلى أعلى من هذا بكثير.

ولا تكشف هذه الأرقام بطبيعة الحال عن حجم المساعدات غير الحكومية التي تتلقاها إسرائيل من أفراد ومؤسسات داخل الولايات المتحدة الأمريكية، والتي أصبحت منذ منتصف السبعينيات ثاني أكبر مصدر لتدفُّق رؤوس الأموال الخارجية على إسرائيل بعد الحكومة الأمريكية. ففي الولايات المتحدة توجد حوالي 200 مؤسسة تعمل في مجال جمع التبرعات لإسرائيل، من أشهرها مؤسسة النداء اليهودي المتحد، ومنظمة سندات دولة إسرائيل. وتشير بعض التقديرات إلى أن المساعدات التي حصلت عليها إسرائيل من مصادر غير حكومية في الفترة من 1948 إلى 1986 قد بلغت 24.5 مليار دولار موزعة على النحو التالي: 6.5 مليار مساعدات أفراد و11 مليار مساعدات مؤسسات و7 مليارات قيمة سندات دولة إسرائيل. وقد صبت هذه المعونات في تجمُّع بشري يبلغ عدد سكانه أقل من خمسة ملايين. وقد قدَّر أحد الدارسين أن الولايات المتحدة منحت إسرائيل ما يقرب من عشرة بلايين دولار سنوياً في الفترة الأخيرة، وأنها أعطت كل مواطن إسرائيلي مبلغ ألف دولار كل عام منذ إنشاء دولة إسرائيل، وهذا المبلغ يفوق كثيراً معدل دخل كثير من مواطني العالم الثالث.

وحالياً تبلغ حصة الفرد الإسرائيلي من المساعدات حوالي 1600 - 2000 دولار سنوياً دون حساب عوائد الدعم الاقتصادي والتكنولوجي والعلمي والعسكري والسياسي. وطبقاً للتقديرات السابقة فإن مجمل المعونات الأمريكية الرسمية يصل إلى 78 مليار دولار، ومجمل المعونات الأمريكية غير الرسمية يصل إلى 24.5 مليار دولار، أي أن المعونات الأمريكية الرسمية وغير الرسمية تزيد عن مائة مليار دولار.

ويمكن القول بناءً على تقديرات أخرى لا تختلف كثيراً عن التقدير السابق مباشرةً أن مجموع المساعدات الأمريكية لإسرائيل إضافة إلى التعويضات الألمانية والجباية اليهودية منذ عام 1949 وحتى عام 1996 ما يزيد عن 179.4 مليار دولار، موزعة بين 79.6 مليار دولار مساعدات حكومية أمريكية متنوعة، 60 مليار دولارتعويضات ألمانية، 19.4 مليار دولار جباية يهودية، 23.4 مليار دولار أصول أجنبية في إسرائيل. وحتى إذا استبعدنا الأصول الأجنبية الموجودة في إسرائيل على اعتبار أنها قد توطنت فيها لاعتبارات اقتصادية (وهو أمر غير صحيح لأنها كانت دائماً دولة في حالة حرب أو توتر ولا تغري أي مستثمر بتوطين الاستثمارات فيها) فإن المساعدات الخارجية المعروفة التي تلقتها إسرائيل منذ إنشائها عام 1948 وحتى عام 1996 قد بلغت نحو 156 مليار دولار بالأسعار الجارية على مدى سنوات تلقي إسرائيل لها، وهي توازي ما يزيد عن 450 مليار دولار من دولارات الوقت الراهن.

وهناك مساعدات تحصل عليها إسرائيل في ظروف معينة مثل ما حصلت عليه عند التوقيع على معاهدة كامب ديفيد 1979 لتعويض ما فقدته، فحصلت على: بناء مطارين في النقب يعمل في كل منهما سربان أثناء العمليات بواسطة سلاح المهندسين الأمريكي، وتعزيز البنية الأساسية لقواعد بحرية وإنشاءات عسكرية ومراكز تدريب وثكنات، والحصول على معدات وأسلحة لتحديث قواتها، وبناء مدارس عسكرية، وبناء مخزنين في كل قاعدة جوية في النقب بهما قطع الغيار اللازمة، وهي تعمل بطريقة أوتوماتيكية بحيث يكفي 3 أشخاص لتشغيل وإدارة كل مخزن، وقد تكلفت هذه الإنشاءات والمعدات ما يقرب من3.2 مليار دولار، والغريب أن كل معدات سلاح المهندسين التي قامت ببناء هذه الأبنية أعطيت منحة لإسرائيل.

علاوة على ذلك فإنه لا يمكن حصر المساعدات غير المنظورة التي تُعطَى للكيان الصهيوني، مثل هجرة العلماء إليها، فمثلاً يُقال إن معظم أعضاء قسم رسم الخرائط فيالجيش البولندي هاجروا إلى إسرائيل بعد عام 1967، كما أن كثيراً من العلماء اليهود يجرون تجاربهم في معامل جامعاتهم في الولايات المتحدة، ثم يعطون نتائجها لإسرائيل. وهذا شكل من أشكال المعونات يصعب - إن لم يستحيل - حسابه.

ويمكن رصد أنواع أخرى من المساعدات غير المباشرة. ففي مجال الصناعات الحربية تسهم الولايات المتحدة في مشروع إنتاج الصاروخ "حيتس أو السهم" الإسرائيلي المضاد للصواريخ رغم تكرار فشله (وكذلك الحال مع الطائرة لافي من قبل). وفي مجال نقل التكنولوجيا نجد أنه رغم أن الولايات المتحدة تفرض قيوداً صارمة على عملية النقل هذه إلا أنها لا تُطبَّق على إسرائيل، التي تستخدم في صناعاتها الحربية معدات تكنولوجية أمريكية.

وتشير بعض الإحصاءات إلى أن 36% من الصادرات الإسرائيلية تحتوي على نظم أمريكية، ولذلك فإنه لو طُبِّقت القيود الصارمة على تصدير التكنولوجيا التي في حوزة إسرائيل لدولة ثالثة لأصيبت صادراتها بضربة قاسية.

وهناك نوع آخر من المساعدات غير المباشرة وهو فتح الأسواق الأمريكية للصادرات الإسرائيلية، وكذلك ما يُعرف بـ «الأسواق المتروكة»، وهي أسواق لا تستطيع الولايات المتحدة التورط فيها بطريقة مباشرة مراعاةً لمصالحها العليا، الأمر الذي يجعلها تلجأ إلى إسرائيل لملئها مؤقتاً مثل أسواق ديكتاتوريات أمريكا اللاتينية أو أسواق بعض النظم العنصرية مثل نظام جنوب أفريقيا السابق.

ولهذه المعونات آثار سلبية عديدة، فالتضخم المفرط ناجم في جزء كبير منه عن التدفق المسيَّس لرؤوس الأموال الذي بلغ في منتصف الثمانينيات معدلات فلكية (536% عام 1984)، والخفض المستمر في قيمة الشيكل (اضطرت الحكومة في النهاية لإلغائه واستبدال الشيكل الجديد به حيث أصبح كل شيكل جديد يساوي 100 شيكلإسرائيلي) ساهم في تدهور قدرته الشرائية ودفع العديد من الاقتصاديين الإسرائيليين إلى المطالبة بدولرة الاقتصاد الإسرائيلي. وأوشك النظام المالي الإسرائيلي علىالانهيار لولا تدخُّل الولايات المتحدة وقيامها بمد إسرائيل بمساعدة طارئة بلغت 1.5 مليار دولار مكَّنت الحكومة الإسرائيلية من تثبيت سعر الشيكل ووفرت عليها عبءالاستدانة من أسواق المال العالمية. وقد أصبحت إسرائيل نتيجة هذا الدعم المستمر بلداً كل ما فيه مموَّل أو مُدعَم من الخارج: حمام السباحة في النادي، معمل قسمالطفيليات في الجامعة، مشروعات إعانة الفقراء، المتحف الذي يذهب المواطن لزيارته، بل حتى البرامج الإذاعية التي يسمعها. وبطبيعة الحال الجيش الذي يدافع عنه، والوجبة التي يتناولها. إن مثل هذا الوضع يقوض دعائم الأخلاقيات الاجتماعية وأي إحساس بالعزة القومية. والصهيونية تستمد شرعيتها أمام اليهود من ادعائها أنها حولتهم إلى شعب له كرامته القومية مثل كل الشعوب.

وقد بدأت الحكومة الأمريكية تتدخل في السياسات الداخلية للمستوطن الصهيوني وبخاصة الشئون الاقتصادية والعسكرية، وأصبحت هذه السياسات يتم تقريرها على أمل أن تحوز إعجاب واشنطن. وهذه قضية تثير قلقاً عميقاً داخل المُستوطَن الصهيوني. وكما قال ييجال يادين: "إن المعونة الأمريكية تشكل الخطر الأساسي على مستقبلنا الروحي". ولكن لا يوجد حل ولو نظري لهذه المشكلة في الوقت الحاضر على الأقل.

والمعونات الخارجية أدت إلى ظهور بعض الظواهر الفريدة في المجتمع الإسرائيلي. فالمعونات الألمانية - على سبيل المثال - خلقت بشكل فجائي فوري طبقة من الإسرائيليين الأثرياء (من أصل أوربي) تمكنوا من الانتقال من الأحياء الفقيرة إلى أحياء أكثر ثراء، وغيَّروا أسلوب حياتهم بشكل كامل. هذه النقود السهلة (كما يسمونها)، أي النقود التي لم يكدَّ أحد من أجلها، تُعرِّض المجتمع لهزات اجتماعية وتُولِّد فيه التوترات. ونتيجة المعونات ازداد عدد كليات الطب في إسرائيل بشكل غير طبيعي في بلد يوجد فيه فائض كبير من الأطباء الأمر الذي يتسبب في هجرة العديد منهم. وقد لخص أحد الرأسماليين الإسرائيليين أثر المعونات السلبي في المجتمع الإسرائيلي بقوله: "إنه قد يضطر لإغلاق مصنعه لو زادت المنح الخارجية لإسرائيل، إذ أنها ستوزَّع على العمال الذين يمكنهم بذلك تحقيق دخل لا بأس به دون الحاجة للعمل"، أي أن المعونة تحوِّل اليهود إلى شعب طفيلي غير منتج مرة أخرى.

ونتيجة انسحاب اليهود من الأعمال الإنتاجية دخلت العمالة العربية كل مجالات الحياة وضمنها الكيبوتس الذي يستفيد منها بسبب انخفاض تكلفتها. وبدأت الأعمالالضرورية في الزراعة والبناء والمصانع تنتقل تدريجياً إلى أيدي العرب، وهناك فروع كاملة أو جزء كبير منها لم يَعُد موجوداً بين أيدي عمال يهود.

وفي أعقاب احتدام أزمة نموذج الصهيونية العمالية منذ منتصف الثمانينيات وظهور الدعوة لتطبيع الاقتصاد الإسرائيلي، تعالت الأصوات منادية بضرورة إعادة النظر في اعتماد إسرائيل على المساعدات الخارجية، وداعية إلى ضرورة تَوجُّه إسرائيل نحو جذب رؤوس أموال غير مسيَّسة عن طريق توفير مناخ استثماري أفضل لضمان تدفُّق رؤوس الأموال على إسرائيل سواء في شكل استثمارات أجنبية مباشرة أو استثمارات في حوافظ الأوراق المالية، عن طريق ما يُعرف بالوعاء الاستثماري للدولة أو صندوق الدولة (بالإنجليزية: كانتري فاند country fund) الذي يتم تسجيله كشركة قابضة في إحدى البورصات ثم يقوم بإصدار أوراق مالية يتم تداولها في البورصات العالمية، على أن يقوم هذا الصندوق باستثمار حصيلة بيع الأوراق المالية في مجموعة من الشركات الإسرائيلية سواء عن طريق شراء أسهم وسندات هذه الشركات أو عن طريق الاستثمار المباشر (وهو ما تم بالفعل منذ عام 1992 إذ تم إنشاء ما يُعرف بصندوق إسرائيل الأول).

وتبلورت هذه الاتجاهات بشكل احتفالي خلال الزيارة الأولى التي قام بها بنيامين نتنياهو إلى الولايات المتحدة عقب توليه الحكم. فقد شهدت هذه الزيارة - ولأول مرة منذ قيام دولة إسرائيل - إعلان رئيس وزراء إسرائيلي عن استعداده لبحث خفض المعونة الأمريكية لإسرائيل بدعوى أن الاقتصاد الإسرائيلي وصل لمرحلة من التطور تغنيه عن المساعدات الخارجية! ونجاح إسرائيل في الاستغناء عن المساعدات الخارجية (التي مثَّلت - إلى جانب موجات الهجرة لإسرائيل - إحدى دعامتين قام عليهما نموذجالصهيونية العمالية) يمكن أن يُعَد مؤشراً بالغ الدلالة على قدرة الاقتصاد الإسرائيلي على تجـاوز أزماته، وإمكانية نجـاح التطبيـع، على الأقل على المستوى الدولي.

وفي أعقاب احتدام أزمة نموذج الصهيونية العمالية منذ منتصف الثمانينيات وظهور الدعوة لتطبيع الاقتصاد الإسرائيلي، تعالت الأصوات منادية بضرورة إعادة النظر في اعتماد إسرائيل على المساعدات الخارجية، وداعية إلى ضرورة تَوجُّه إسرائيل نحو جذب رؤوس أموال غير مسيَّسة عن طريق توفير مناخ استثماري أفضل لضمان تدفُّق رؤوس الأموال على إسرائيل سواء في شكل استثمارات أجنبية مباشرة أو استثمارات في حوافظ الأوراق المالية، عن طريق ما يُعرف بالوعاء الاستثماري للدولة أو صندوق الدولة (بالإنجليزية: كانتري فاند country fund) الذي يتم تسجيله كشركة قابضة في إحدى البورصات ثم يقوم بإصدار أوراق مالية يتم تداولها في البورصات العالمية، على أن يقوم هذا الصندوق باستثمار حصيلة بيع الأوراق المالية في مجموعة من الشركات الإسرائيلية سواء عن طريق شراء أسهم وسندات هذه الشركات أو عن طريق الاستثمار المباشر (وهو ما تم بالفعل منذ عام 1992 إذ تم إنشاء ما يُعرف بصندوق إسرائيل الأول).

وتبلورت هذه الاتجاهات بشكل احتفالي خلال الزيارة الأولى التي قام بها بنيامين نتنياهو إلى الولايات المتحدة عقب توليه الحكم. فقد شهدت هذه الزيارة ـ ولأول مرة منذ قيام دولة إسرائيل ـ إعلان رئيس وزراء إسرائيلي عن استعداده لبحث خفض المعونة الأمريكية لإسرائيل بدعوى أن الاقتصاد الإسرائيلي وصل لمرحلة من التطور تغنيه عن المساعدات الخارجية! ونجاح إسرائيل في الاستغناء عن المساعدات الخارجية (التي مثَّلت ـ إلى جانب موجات الهجرة لإسرائيل ـ إحدى دعامتين قام عليهما نموذجالصهيونية العمالية) يمكن أن يُعَد مؤشراً بالغ الدلالة على قدرة الاقتصاد الإسرائيلي على تجـاوز أزماته، وإمكانية نجـاح التطبيـع، على الأقل على المستوى الدولي.

غير أن تأمل واقع الاقتصاد الإسرائيلي، والبرنامج الاقتصادي للحكومة الحالية بشكل دقيق، يثير العديد من الشكوك حول مصداقية المبادرة التي تقدَّم بها نتنياهو. فبرنامج الحكومة الانكماشي لا يحتمل أيَّ خفض في إيرادات الدولة، إذ أن تراجع المعونات الخارجية سيضعف الأثر المرجو لخفض النفقات على عجز الموازنة. بالإضافة إلى أن عدداً من توجهات الأحزاب المشاركة في الائتلاف الحاكم (كالتوجه نحو التوسع في الاستيطان مثلاً) يحتاج إلى مصادر تمويلية إضافية.

وتؤكد هذه الشكوك أن نتنياهو نفسه عاد وأوضح ـ بعد 3 أيام فقط من خطابه أمام الكونجرس ـ أنه لا يرغب في خفض المعونة الأمريكية خلال العامين الماليين القادمين، موضحاً الفرق بين المساعدات العسكرية التي تعطيها إسرائيل أولوية كبرى، وبين المعونة الاقتصادية التي يمكن خفضها تدريجياً. فالمعونة الاقتصادية تُستخدَم لسداد ديون إسرائيل لدى الولايات المتحدة، كما أن تعديل كرانستون يُلزم الولايات المتحدة بأن تقدِّم الولايات المتحدة معونة اقتصادية سنوية لإسرائيل قيمتها أكبر من إجمالي الديون المستحقة عليها للولايات المتحدة، بالإضافة إلى قدرة إسرائيل على الحصول على مستوى المعونة نفسه بوسائل وأساليب أخرى.

وحقيقة السياسة الإسرائيلية تكمن في رفع شعار الاستغناء عن المعونة الأمريكية مع استمرار الحصول عليها سراً، بهدف تخفيف الحرج عن اللوبي الصهيوني عندما يجري نقاش علني حول خفض برنامج المعونة الخارجية الأمريكي، وللإيحاء بأن إسرائيل قوة اقتصادية تعتمد على نفسها اعتماداً تاماً.

وعلى أية حال فإن التشكيك في مصداقية مبادرة نتنياهو لخفـض المعونة لا ينـفي اتجـاهاً أمريكياً لخفـض المعونات لجميع دول العالم. فالميزانية الأمريكية تعاني من ضغوط متزايدة يرجع جزء أساسي منها إلى أن المعونات الأمريكية لكل من إسرائيل ومصر لم يصبها التخفيض كما أصاب غيرها، الأمر الذي يعني أن اقتراح نتنياهو ـ بغض النظر عن مصداقيته بالنسبة لأوضاع الاقتصاد الإسرائيلي ـ يمثل ضرورة حيوية للميزانية الأمريكية، وهو ما يدعم الآراء القائلة بأن خفض المساعدات الخارجية آت لا محالة بعد انتهاء العامين الماليين القادمين.

وهنا تبرُز أهمية القنوات الأخرى ـ بخلاف المعونة الرسمية ـ لتدفُّق رؤوس الأموال على إسرائيل، والتي توفر في الوقت الحالي أكثر قليلاً من نصف المبالغ التي تحصل عليها إسرائيل من الحكومة الأمريكية (ناهيك عما تحصل عليه من تبرعات من جهات غير حكومية)، والتي يمكن أن تُستخدَم لتعويض أيِّ خفض في المعونة الرسمية.

والدلالة التي يمكن استخلاصها هنا بالغة الخطورة، إذ أن الاعتماد الإسرائيلي سيتحول من موارد مؤقتة بطبيعتها ـ نظراً لخضوعها ولو شكلياً للمراجعة الدورية من قبَل المؤسسة المانحة ـ إلى موارد غير ظاهرة وغير خاضعة للمراجعة الدورية، ومن ثم تُعَد من الناحية العملية أكثر ثباتاً، الأمر الذي قد يشير إلى أن الاعتماد الإسرائيلي على المعونة الأمريكية يزداد تجذراً ـ بدلاً من أن ينخفض كما ينادي أنصار التطبيع ـ بحيث ينتقل إلى الاعتماد على موارد دائمة لا مؤقتة، وهو ما يطرح أزمة الاقتصاد الإسرائيلي بشكل أعمق، إذ أن المعونة أصبحت جزءاً من هيكل هذا الاقتصاد.

كما أن زيادة الاعتماد على المساعدات الخارجية يشير إلى فشل الجهود الرامية لتطبيع الاقتصاد الإسرائيلي على المستوى الدولي. فإذا أضفنا إلى ذلك الصعوبات التي تواجه التطبيع محلياً وإقليمياً، فيمكننا أن ندرك عُمْق الأزمة التي يمر بها هذا الاقتصاد، وأن هذه الوظيفية والتبعية ستظل من صفاته البنيوية.

الصفحة التالية ß إضغط هنا