المجلد الثانى: الجماعات اليهودية.. إشكاليات 6

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

ولكن نموذجنا التفسيري لا يُهمل البُعد اليهودي في بناء هذه الهويات، فالدين اليهودي (بخاصيته الجيولوجية التراكمية) عنصر أساسي فيها، كما أن الرؤية الدينية بُعد حيوي ومهم. وكل ما نفعله أننا لا نجرده وإنما نراه في تفاعله مع الأبعاد الحضارية الأخرى. كما أننا لا نرى أن له مركزية تفسيرية. ولذا، فنحن لا نتحدث عن «هوية يهودية» عامة مُطلَقة، ولا نتحدث عن غياب أية هوية يهودية، وإنما نتحدث عن هويات يهودية مُتعيِّنة متنوعة.

والفكر الصهيوني يَصدُر عن نموذج اختزالي يُنكر واقع الجماعات اليهودية الحضاري الفسيفسائي الجيولوجي التراكمي، ويطرح فكرة الهوية اليهودية العالمية الواحدة، وتتم عملية تسمية الواقع وتصنيفه من هذا المنظور. ومن ثم، فإن هناك مصطلحات مثل «يهود الدياسبورا» و«يهود المنفى» و«الشعب اليهودي»، وهي جميعاً مصطلحات تفترض وحدة اليهود وتَجانُسهم. ولكن حين يصل أصحاب هذه الهويات إلى إسرائيل، يتضح للجميع أنهم ليسوا مجرد يهود، إذ يصبحون مرة أخرى مصريين ومغاربة وروس! وتتحدد مكانتهم الاجتماعية بحسب ذلك. ولذا، ينكر كثير من المغاربة هويتهم العربية، ويصرون على أنهم فرنسيون وليسوا يهوداً وحسب! وكذلك فإنيهود العالم العربي، الذين تم تهجيرهم باعتبارهم يهوداً بشكل عام، يصبحون مرة أخرى يهوداً شرقيين يقبعون في آخر درجات السلم الاجتماعي الإسرائيلي، كما يصبح يهود روسيا إشكنازاً أو غربيين، ويُعطَون المنح والقروض وأفخر المنازل، ثم يشغلون قمة السلم الاجتماعي. ومن هنا تظهر الهويات اليهودية المختلفة، وهو ما يؤدي إلى طرح قضية «الهوية اليهودية» على بساط البحث.

تاريخ الهويـات اليهوديـة حتى الوقت الحاضر

History of Jewish Identities till the Present

تاريخ الهويات اليهودية طويل ومُركَّب ويغطي عدة أزمنة وأمكنة لا يربطها رابط في كثير من الأحيان. وأولى الهويات اليهودية هو ما نسميه «الهوية العبرانية» أي هوية العبرانيين قبل أن يتم تهجيرهم إلى آشور وبابل. وكانت الهوية العبرانية تستند إلى تعريف ديني قومي، كما كان الحال في الشرق الأدنى القديم. ونحن نستخدم مصطلح «قومي» لعدم وجود مصطلح أدق، ونظن أن مصطلح «أقوامي» (نسبة إلى كلمة «أقوام») قد يكون أكثر دقة (مع قُبحه) لأنه مُستمَد من الواقع التاريخي القديم إذ تشير الدراسات التاريخية إلى «الأقوام الكنعانية» التي سكنت فلسطين (التي كان يُقال لها آنذاك كنعان) وإلى «الأقوام الآرامية»، وهي مجموعات بشرية متماسكة على نحو فضفاض، تتصف ببعض السمات القومية، مثل اللغة المشتركة والثقافة المشتركة والدين المشترك، ولكنها ليست شعوباً ولا قوميات بالمعنى الحديث للكلمة. ولم يكن التعريف الديني القومي للهوية العبرانية منغلقاً تماماً، فثمة إشارات عديدة في الكتابات العبرية التي تعود إلى هذه الفترة أو تتحدث عنها إلى الأجنبي أو الغريب (جير) الذي بوسعه أن ينتمي إلى الجماعة العبرانية عن طريق التهود. وجاء في سفر التثنية « لا تظلم أجيراً مسكيناً وفقيراً من إخوتك أو من الغرباء الذين في أرضك في أبوابك، في يومه تعطيه أجرته ولا تغرب عليها الشمس لأنه فقير وإليها حاملٌ نفسه لئلا يصرخ عليك إلى الرب فتكون عليك خطيَّة » (تثنية 24/14 ـ 15). وعند الحديث عن هجرة العبرانيين من مصر، أو ربما طردهم، ترد إشارة إلى أن بعض العـبرانيين قد تَخلَّفـوا فيهـا، كمـا خرج معهم « اللفيف » (خروج 12/38)، وهي إشارة إلى جماعات ليست متجانسة عرْقياً ولا تنتمي إلى العبرانيين، ولكنهم على أية حال أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من الجماعة العبرانية. وبعد التغلغل العبراني في أرض كنعان، امتزج العبرانيون بالكنعانيين وتزاوجوا معهم. ولكن الحظر التوراتي على الزواج من الأجانب، وعلى ذرية مثل هذا الزواج، لا ينطبق على الأدوميين أو المصريين، وإنما ينطبق على العمونيين والمؤابيين وحسب. « لا يدخل عموني ولا مؤابي في جماعة الرب حتى الجيل العاشر، لايدخل منهم أحد في جماعة الرب إلى الأبد... لا تكره أدومياً لأنه أخوك، لا تكره مصرياً لأنك كنت نزيلاً في أرضه. الأولاد الذين يُولَدون لهم في الجيل الثالث يدخلون منهم في جماعة الرب » (تثنية 23/3، 7 ـ 8). فالحظر هنا ليس مُطلقاً ولا ضَيِّقاً. ومع هذا، فإن ثمة إشارات إلى أن الغريب ليس مقبولاً قبولاً كاملاً بأية حال (تثنية 14/21). وبذا، يمكننا أن نقول إن رؤية العبرانيين لهويتهم وتعريفهم لها كان مرناً منفتحاً إلى حدٍّ ما.

أما على مستوى الممارسة، فقد كانت الهوية العبرانية منفتحة تماماً. فعند التهجير إلى بابل، كان العبرانيون يشكلون جماعة شبه قَبَلية تتحدث العبرية، كما كان لهم نسقهم الديني المقصور عليهم. ومع هذا، كانت هذه الجماعة مندمجة إلى حدٍّ كبير في المحيط الثقافي والسياسي الذي تواجدت فيه، متأثرة به أكثر من تأثيرها فيه. فالعبرانيون الذين تسللوا إلى كنعان كانوا قد أحضروا معهم من مصر (وأرض مدين) فكرة الإله الواحد. ولكن اليهودية (كنسق ديني متماسك) لم تكن، مع هذا، قد اكتمل تكوينها بعد واستوعبت عناصر كثيرة من عبادات الخصب الكنعانية، كما أن «يهوه » ذاته لم يكن قد اصطبغ بعد بصبغة كنعانية. وتَبـنَّى العبرانيون كثـيراً من أعيــاد الكنعانيينوعباداتهم، واكتسبوا الثقافة الكنعانية، وتحدثوا بإحدى اللهجات أو اللغات الكنعانية والتي أصبحت تُدعَى «العبرية». وحينما تم تأسيس المملكة المتحدة في عهد داودوسليمان، لم يتوقف دخول العناصر الأجنبية. ولقد كانت سيرة داود هي سيرة تحالفه مع الفلستيين، ثم تَنكُّره لهم، ثم تَحالُفه مع دويلات أخرى مجاورة، وهكذا. وحينما فتحداود القدس التي كانت لا تزال في يد اليبوسيين (وهم بطن من بطون كنعان)، تم استيعابهم في الجماعة العبرانية حسبما يُقال.

وبعد موت سليمان، انحلت المملكة المتحدة إلى دويلتين عبرانيتين: المملكة الشمالية، والمملكة الجنوبية. وكان لكلٍّ مركز ديني مستقل عن الأخرى. ومسألة المركز الديني في العبادات القربانية القديمة، التي تدور حول المعبد، مسألة شديدة الأهمية، فالمعبد هو مصدر الشرعية السياسية ومصدر الدخل الأساسي للدولة، وهو في نهاية الأمر مصدر الهوية القومية وأساسها. وقد كان ملوك الدويلتين العبرانيتين يتزوجون، كنوع من التحالفات السياسية، من أميرات أجنبيات كن يحضرن آلهتهن معهن ويقمن المعابد لهم وينشرن العبادات الخاصة بهم بين الأثرياء وفي البلاط، الأمر الذي كان يزيد التعددية الدينية وعدم التجانس القومي. والـزواج من أجنبيـات هو عـادة ترجع إلى سليمان الذي لم تكن أمه عبرانية. وثمة رأي يذهب إلى أن العبرانيين كانوا يتحدثون في تلك المرحلة بلهجات مختلفة، ولم تكن هناك بالتالي هوية لغوية موحَّدة. وكانت الدويلتان اليهوديتان في حالة حرب وصراع دائمين، كما كانتا تستعينان بالدول والدويلات الأجنبية في صراعهما (الواحدة ضد الأخرى). فقد قامت آشور بالهجوم على الدويلة الشمالية، وفعلت ذلك بناء على طلب من دويلة يهودا الجنوبية التي طالبت بحمايتها من الضـغوط التي كان يمارسـها عـليها الحلـف المعادي لآشور، والذي تَشكَّل بين الدويلات الآرامية والمملكة الشمالية.

وفي هـذا الإطار، يكـون الحديث عن هويـة عبرانية متسماً بالتجـاوز، ولكنه مع هذا يَصلُح إطاراً أو تعريفاً إجرائياً ضرورياً لتقسيم تَطوُّر ما يُسمَّى «الهوية اليهودية» عبر المراحل التاريخية.

ونستخدم أحياناً مصطلح «الهوية العبرانية اليهودية» للإشارة إلى الهوية اليهودية بعد العودة من بابل بتصريح من قورش الأخميني إمبراطور فارس. وقد بدأت ملامح الدين اليهودي في التحدد في تلك المرحلة، وظهر نسق ديني يهودي أخذ شكل عبادة قربانية مرتبطة بالهيكل الذي أعيد بناؤه بأمر من قورش، وبأرض فلسطين، وبالتراث العبراني. ومن هنا تسميتنا الهوية اليهودية في هذه المرحلة بأنها «هوية عبرانية يهودية»، فهي عبرانية في جانبها الإثني المحدد ويهودية في جانبها الديني الآخذ في التحدد. وقد ظهر مصطلح «يهودي» بعد التهجير إلى بابل. ومع هذا، يمكن القول بأن هذا المصطلح فيه شيء من التجاوز أيضاً، إذ أن معظم العبرانيين كانوا قد فقدوا لغتهم إبّان الإقامة في بابل، وبدأت أغلبيتهم تتحدث الآرامية. ولذا، فإن كلمة «عبرانية» تشير هنا إلى الانتماء الإثني العام وليس اللغوي. كما أن النسق الديني اليهودي لم يكن قد تَحدَّد تماماً إذ كانت تدخل عليه مؤثرات بابلية وفارسية قوية، ثم هيلينية فيما بعد. وكما هو واضح، تُعَدُّ هذه المرحلة مرحلة انتقالية من منظور الهوية. ولذلك، فإننا نستخدم مصطلح «هوية يهودية» على سبيل التبسيط.

ولم يكن تعريف الهوية العبرانية اليهودية في فلسطين يتسم بكثير من المرونة، إذ أن أعضاء الجماعة العبرانية العائدة من بابل كانوا يشعرون بأنهم أقلية تتهددهم الأقوام التي سكنت فلسطين، خصوصاً أن العبرانيين الذين لم يهاجروا تزاوجوا مع نساء تلك الأقوام ورجالهم. ولذلك، طالب عزرا كل من يود أن ينتمي إلى الجماعة اليهودية العبرانية بأن يطلق زوجته الأجنبية. « إنكم قد خنتم واتخذتم نساء غريبة لتزيدوا على إثم إسرائيل، فاعترفوا الآن للرب إله آبائكم، واعملوا مرضاته، وانفصلوا عن شعوب الأرض وعن النساء الغريبة» (عزرا 10/10ـ 11). وعند هذه النقطة، ظهرت جماعة السامريين التي شكلت جماعة دينية مستقلة ذات هوية دينية قومية مستقلة، ورفض أعضاؤها الخضوع لأوامر عزرا (لكن التفسير السامري للانفصال عن الجماعة اليهودية يخالف ذلك تماماً، إذ يرى السامريون أنهم أتباع موسى الحقيقيون الذين لم يُفسدوا أسفار موسى الخمسة بتعاليم الحاخامات وتفسيراتهم، أي التلمود). وقد ظل تعريف عزرا (الديني الإثني) الصارم للهوية سائداً حتى العصر الهيليني.

لكن أهم التطورات، في هذه المرحلة، كان انتشار الجماعات اليهودية خارج فلسطين. فهذه الجماعات كانت تشكل في معظم الأحيان جماعة وظيفية. وحتى يَتسنَّى لأعضاء هذه الجماعة الاضطلاع بالوظيفة الموكلة إليها بكفاءة وعلى أحسن وجه، كان لابد لها أن تحتفظ بعزلتها الإثنية والدينية عن مجتمع الأغلبية. وتُعبِّر هذه العزلة عن نفسها في صورة التمسك الشديد بالهوية والاحتفاظ بقدر من الاستقلال عن المحيط الحضاري الذي يعيش فيه أعضاء الجماعات اليهودية، في الرؤية والمأكل والملبس واللغة والعقيدة (مجتمعة أو منفردة). ولكن يجب أن نشير إلى أن هوية الجماعة الوظيفية تكون عادةً حالة عقلية أكثر من كونها أمراً واقعاً، فأعضاء الجماعة الوظيفية يستبطنون الدور المفروض عليهم ويتوحدون به، ويجدون أن العزلة أمر طبيعي بل ومرغوب فيه، وأن تَحقُّق الذات والهوية لا يمكن أن يتم بدونه. ويُلاحَظ أن أعضاء الجماعة الوظيفية لا يعيدون صياغة هويتهم من خلال عناصر مُستمَدة من التراث اليهودي أو العقيدة اليهودية وحسب، وإنما من عناصر مُستمَدة (وربما بالدرجة الأولى) منالمجتمع المضيف الذي يعيشون في كنفه أو من مجتمع مضيف سابق، أو من خلالهما مجتمعين. ولكن الحالة العقلية الانعزالية تخبئ أحياناً معدلات عالية من الاندماج في المجتمع، فهم يحتفظون بقدر من الاستقلال عن محيطهم الحضاري، ولكنهم يكتسبون سماتهم ورؤيتهم لأنفسهم ولغيرهم من محيطهم الحضاري (شأنهم في هذا شأن أعضاء الجنس البشري كافة) وذلك رغم استقلالهم عن هذا المحيط. فهويتهم (الوظيفية) اليهودية لا تتحدد من خارج التشكيل الحضاري الذي ينتمون إليه أو رغماً عنه، وإنما من خلاله ومن داخله وبسبب تفاعلهم معه. وفي الحقيقة، فإن تَفرُّد الهوية اليهودية في أي مجتمع لا تعود إلى تَفرُّد العناصر التي تُكوِّن الهوية وإنما تعود إلى وجودها مجتمعة. كما أن حركيات المجتمع الذي يعيشون فيه يمكن أن تُفسِّر هذا الاختلاف. وهذه التركيبة المزدوجة (قدر من العزلة الفعلية والعقلية مع قدر من الاندماج الفعلي) هي التركيبة المثلى للجماعة الوظيفية. فثمة ضرورة لقدر من الاندماج لأنهم يتعاملون يومياً مع أعضاء المجتمع ويتحركون داخله وبحسب قواعده، ولكن ثمة ضرورة أيضاً لقدر من العزلة لضمان الحياد واستمرار العلاقة التعاقدية بين أعضاء الجماعة الوظيفية وأعضاء المجتمع المضيف، أي أن التركيبة المزدوجة تضمن أن يظل أعضاء الجماعة الوظيفية في المجتمع دون أن يكونوا منه.

وأولى الجماعات الوظيفية اليهودية التي ظهرت خارج فلسطين هي الحامية العبرانية في جزيرة إلفنتاين، التي وَطَّنها فراعنة مصر هناك (في أسوان) كجماعة وظيفية استيطانية قتالية لحماية حدود مصر الجنوبية. وقد فَقَد هؤلاء علاقتهم بفلسطين ونسوا شعائر دينهم أو ربما احتفظوا ببعض العناصر الوثنية من العبادة اليسرائيلية واختلطوا بالمحيط المصري. فعندما أراد الفرس استخدامهم كجماعة وظيفية قتالية تابعة لهم ضد المجتمع المصري، أرسل الإمبراطور الفارسي رسالة يشرح لهم فيها طقوس عيد الفصح ليؤكد هويتهم اليهودية ويضمن عزلتهم عن محيطهم المصري، ومن ثم ولاءهم. ومع هذا، يرى بعض المؤرخين أن هوية هؤلاء اليهودية أو حتى العبرانية أمرمشكوك فيه، فقد كانوا يتحدثون الآرامية، كما كانت عبادتهم مشوبة بعناصر وثنية عديدة. ويمكن القول أيضاً بأن الجماعة العبرانية في مصر، قبل خروجها منها، كانتجماعة وظيفية، فقد عمل يوسف مديراً لمخازن فرعون، كما كان يضطلع بالأعمال المالية.

أما أهم هذه الجماعات طراً فهي الجماعة اليهودية في بابل والتي رفضت العودة إلى فلسطين (فيما عدا قلة صغيرة). وقد بدأ أعضاء هذه الجماعة في الاشتغال بالتجارةوالربا والانصراف عن الزراعة والتركز في المدن، أي أنهم تحولوا بالتدريج إلى جماعة وظيفية وسيطة تجارية ومالية ونسوا العبرية. وقد كان لهذا التجمع اليهودي علماؤه ومدارسه الدينية وتَوجُّهه الثقافي الذي أخذ يزداد قوة واستقلالاً، حتى أصبح في مرحلة من المراحل مركز اليهودية الأساسي في العالم. ويتضح تَفتُّت الهوية اليهوديةفي ظهور المفهوم الديني القائل بأن شريعة الدولة هي الشريعة التي يجب أن يتبعها اليهودي في حياته العامة، أي أن نطاق الشريعة اليهودية تم تقليصه بحيث أصبح مقصوراً على حياة اليهود الدينية الخاصة وتعاملاتهم فيما بينهم، ولا يضم حياة اليهود العامة أو القومية. وأصبحت اليهودية (على مستوى الممارسة) ديناً، وتَحوَّل الجانب القومي فيها إلى مجرد رموز وتَطلُّعات دينية وانتماء إثني يضمن للجماعة الوظيفية الوسيطة اليهودية العزلة اللازمة لها. وهذا هو المبدأ الذي لا يزال سائداً بين أعضاءالجماعات اليهودية رغم كل الادعاءات.

ومما زاد من استقلال يهود بابل عن بقية الجماعات اليهودية في فلسطين أو خارجها، أن اليهود، حتى عام 333 ق.م، كانوا يعيشون داخل إطار إمبراطورية واحدة يدورون في فلكها ويستمدون هويتهم منها، وهي الإمبراطورية الفارسية. أما بعد ذلك، فقد كان الجيب البابلي يدور في فلك فارسي (أخميني ثم فرثي ثم ساساني)، بينما كان يهود فلسطين والبحر الأبيض المتوسط يدورون في فلك هيليني ثم روماني. وقد واكب ظهور الجماعات اليهودية خارج فلسطين تَفتُّت الهوية العبرانية اليهودية في فلسطين. فقد شهد العصر الهيليني، خصوصاً في القرن الأول قبل الميلاد والقرن الأول الميلادي، تخلخلاً في الهوية العبرانية اليهودية في فلسطين (في الرؤية والممارسة) من المنظورين الديني والقومي لأسباب عديدة:

1 ـ أدَّى تسامُح الحضارة الهيلينية، وجاذبيتها الشديدة، واستعدادها للاعتراف بأي يهودي على أنه هيليني، متى أجاد اللغة اليونانية ومارس أسلوب الحياة اليونانية، إلىانجذاب العبرانيين اليهود (في بلدان البحر الأبيض المتوسط ومن بينها فلسطين) بأعداد متزايدة إلى تلك الحضارة، وإلى تَبنِّيهم طرق تفكيرها وزيها واحتفالاتها، وفي نهايةالأمر لغتها. وسُمح للعبرانيين اليهود الذين طرحوا هويتهم جانباً (مثل تايبريوس الإسكندر، ابن أخي فيلون الفيلسوف السكندري، وكثيرين غيره) بأن يصبحوا مواطنينيونانيين تماماً. أما بقية أعضاء الجماعة اليهودية الذين احتفظوا بعقيدتهم، فلم يكتسبوا المواطنة اليونانية لعدم استطاعتهم المشاركة الكاملة في نشاطات المدينة (البوليس polis)، إذ كانت الحياة في المدينة تدور حول العبادة اليونانية الوثنية. وكانت القيادة اليهودية في فلسطين ذاتها مصطبغة بالصبغة الإغريقية، الأمر الذي أدَّى إلى نشوب الثورة الحشمونية ضد السلوقيين. ولكن القيادة الحشمونية ما لبثت، هي ذاتها، أن تأغرقت بعد استيلائها على الحكم واصطنعت أسماء إغريقية مثل أنتيجون والإسكندر.

2ــ لم تكن الهوية العبرانية اليهودية، داخل فلسطين ذاتها، محددة بشكل صارم، حيث كانت تعيش في فلسطين أعداد كبيرة من أقليات غير يهودية (يونانيـون وفينيقيـون وبقايا الفلسـتيين وبقايا الأقوام السامية). ويتضح عدم التحدد في فرض الملوك الحشمونيين اليهودية بالقوة إذ فُرضت بالقوة على الأدوميين (في شرق الأردن) وعلى الإيطوريين (في الجليل). وكان هيرود (ملك اليهود) من أصل أدومي، وكان هؤلاء المتهوّدون يشكلون هوية جديدة أيضاً.

3 ـ كانت اليهودية، كنسق ديني، تخوض تحولات عميقة في تلك المرحلة، نتيجة احتكاكها بالفكر الهيليني وانتشار اليهود في حوض البحر الأبيض المتوسط. وظهرت فرق يهودية كثيرة من بينها الصدوقيون (من طائفة الكهنة) الذين كانوا لا يؤمنون باليوم الآخر، والأسينيون (من أبناء الشعب) الذين كانوا يحيون حياة تَقشُّف ورهبنة. بالإضافة إلى الفريسيين (من أبناء الطبقة الوسطى أساساً) الذين كانوا يؤمنون باليوم الآخر وإليهم يرجع الفضل في إعادة صياغة اليهودية، وهو ما جعلهم أهم هذه الفرق. كما كان هناك أبناء الطبقات الثرية المتأغرقون، فضلاً عن الفرق الشعبية المتطرفة مثل الغيورين (قنائيم)، وعصبة الخناجر (سيكاري)، وكُتَّاب «كتب الرؤى» (أبوكاليبس)، وكُتّاب «الكتب الخفية» (أبوكريفا). وكان لكل فريق رؤيته وعقيدته. ومن ثم، كانت كلمة «يهودي» في تلك المرحلة التاريخية، تضم تعريفات كثيرة متضاربة الأمر الذي زاد من خلخلة الهوية على مستوى الرؤية والممارسة.

4 ـ وفي هذا الإطار، طرح الفريسيون رؤية جديدة للهوية تُحرِّرها من المفهوم القديم المرتبط بالمجتمع القَبَلي العبراني أو المجتمع الزراعي الملكي، أو المجتمع الكهنوتي المرتبط بالهيكل والعبادة القربانية. فأعيد تعريف الهوية بحيث أصبحت أساساً هوية دينية روحية ذات بُعد إثني مُتقلِّص، ليس بالضرورة قومياً متضخماً، وهي علاوة على هذا غير مرتبطة بالهيكل. وواكب هذا التعريف الجديد استعداد للتصالح مع الدولة الحاكمة أو القوة العظمى في المنطقة، وعدم الاكتراث بنوعيتها مادامت لا تتدخل في حياة اليهود الدينية. وقام الفريسيون بنشاط تبشيري خارج فلسطين، الأمر الذي يفسر زيادة عدد اليهود في الإمبراطورية الرومانية في تلك المرحلة.

5 ـ كما شهدت تلك المرحلة الصدام بين الإمبراطورية الرومانية والقيادات الشعبية العبرانية اليهودية في فلسطين، التي أجهدها دفع الضرائب للإمبراطورية، فاندلعت الثورة في صفوفها. وعارض الصدوقيون والفريسيون التمرد ضد الرومان، ولم يكترث أعضاء الجماعة اليهودية في بابل به. ووقفـت بعض المدن ذات الأغلبيـة اليهوديـة الواضحة، مثل صفد وطبرية، موقف التأييد من الرومان. وانضم اليهود المتأغرقون إلى الرومان وحاربوا في صفوفهم، فكان هناك جيش يهودي تحت قيادة أجريبا الثاني أثناء حصار القدس وكانت أخته بيرنيكي هي عشيقة القائد الروماني تيتوس. وكانت جهود الرومان موجهة لإخماد التمرد وحسب، وليس للقضاء على اليهودية كدين أو على اليهود كإثنوس أو قوم (كما تَزعُم التواريخ الصهيونية أو المتأثرة بها).

6 ـ وفي هذه المرحلة، ازداد انتشار الجماعات اليهودية في العالم نتيجة الهجرة من فلسطين والتهوّد، بحيث أصبح عدد اليهود المقيمين خارج فلسطين يفوق عدد المقيمينفيها. وكما بيَّنا، كانت أعداد متزايدة من يهود فلسطين تفقد صبغتها العبرانية لتكتسب صبغة هيلينية. أما خارجها، فقد نسي يهود حوض البحر الأبيض المتوسط، ولا سيمافي مصر، العبرية تماماً، وتمت ترجمة العهد القديم إلى اليونانية (الترجمة السبعينية) بتشجيع من البطالمة حتى يفهم يهود مصر معانيه. وبتشجيع منهم أيضاً، تم تشييد هيكل في مصر (في ليونتوبوليس) وهو هيكل أونياس، وذلك حتى يستقلوا عن هيكل القدس، ويبتعدوا عن نفوذ السـلوقيين، وحتى يمكن الاسـتفادة منهم كجماعـة وظيفيـة،مقاتلة وسيطة، وهو ما كان يعني ظهور هوية يهودية في مصر الهيلينية مستقلةً عن الهوية اليهودية في فلسطين.

وهكذا كانت الهوية اليهودية، داخل فلسطين وخارجها، تخوض عملية تَفتُّت على المستويين الديني والقومي. ولذلك، يمكن القول بأن تحطيم الهيكل على يد تيتوس لم يكن سبباً مباشراً في القضاء على الهوية العبرانية اليهودية، وإنما كان تجسيداً لعملية تاريخية مركبة أدَّت إلى القضاء على هذه الهوية وإلى تفتيتها، ولم يكن تحطيم الهيكل سوى تعبير نهائي عن هذه العملية. فأثناء الحرب الرومانية، استسلم قائد قوات الجليل يوسيفوس فلافيوس للرومان ثم انضم إليهم، كما فرَّ يوحنان بن زكاي من القدس أثناء حصارها، وكلاهما كان من الفريسيين الذين انضموا إلى صفوف المتمردين على مضض. وقد سمح الرومان ليوحنان بن زكاي بتأسيس مدرسة يفنه الدينية التي تمت فيها صياغة اليهودية المعيارية أو اليهودية الحاخامية المنفصلة تماماً عن العبادة القربانية، وهو النسق الديني الذي نعرفه، بينما اختفت القوى الأخرى مثل الأسينيين (الذين استُوعبوا في المسيحية) والصدوقيين وغيرهم.

ويمكن القول بأن الهوية العبرانية والهوية العبرانية اليهودية ذات التوجه القومي قد اختفت تماماً عند هذه النقطة التاريخية وظهرت مراكز عديدة في بابل والإسكندرية. ولا يمكننا التحدث منذ ذلك التاريخ عن «عبرانيين» ولا عن «عبرانيين يهود»، وإنما عن «أعضاء الجماعات اليهودية»، وعن هوياتهم المختلفة. وقد حدث تمرُّد يهودي وهو تمرد بركوخبا، فقضى عليه الإمبراطور هادريان وأصدر مرسوماً بهدم القدس. ولكن، ومع ذلك، حينما مُنحت المواطنة لكل سكان الإمبراطورية عام 212م لم يُستثناليهود من ذلك، وأصبحوا مواطنين رومانيين.

ويمكننا أن نحصر هنا بعض الهويات اليهودية مســتخدمين معيارين: أحدهما ديني والآخر قومي أو إثني. فعلى المستوى الديني، كان هناك السامريون، كتَجمُّع ديني، مقابل بقية اليهود الذين كانوا ينقسمون بدورهم إلى عدة فرق لكلٍّ فهمه الخاص لليهودية، ومن أهمها الصدوقيون والفريسيون.

وإذا ما أخذنا بالمعيار الإثني، فيمكن الإشارة إلى يهود فلسطين المتأغرقين، وكانوا يتركزون أساساً داخل المدن وفي أوساط الأثرياء. رغم أن التأغرق معيار إثني، إلا أنه يحمل تضمينات دينية، إذ أن اليهود المتأغرقين كانوا يقفون ضد كثير من الطقوس الدينية، ويحاولون التملص منها بل والقضاء عليها بالتعاون مع الدولة السلوقية الهيلينية. وهناك يهود فلسطين (الساميون)، الذين كانوا يتحدثون الآرامية ويتركزون في الريف. كما كان هناك يهود فلسطين (المتهودون) من أبناء الإيطوريين والأدوميين. وهناك يهود مصر المتأغرقون (ويبدو أنه كانت هناك جماعة يهودية خارج الإسكندرية اكتسبت أيضاً الهوية المصرية المحلية ولم يكن أعضاؤها يُصنَّفون ضمن المتأغرقين). وهناك أيضاً يهود جزيرة إلفنتاين وكانوا يتحدثون الآرامية، وأخيراً يهود روما (الذين كانوا يتحدثون اليونانية واللاتينية). كما كانت تُوجَد جماعات يهودية في آسيا الصغرى وفي ليبيا (برقة)، وفي أنحاء متفرقة من أوربا. ويمكن أن نذكر أخيراً أهم هذه الجماعات طراً، وهي الجماعة اليهودية في بابل التي انفصلت عن يهودالإمبراطوريات الهيلينية ثم عن الدولة الرومانية. وقد اكتسب أعضاء هذه الجماعات كثيراً من السمات الإثنية من المحيط الحضاري الذي كانوا يعيشون فيه، الأمر الذيأدَّى إلى قَدْر هائل من التنوع وعدم التجانس. وستظل هذه هي السمة الأساسية والعامة للهويات اليهودية المختلفة التي ظهرت عبر العصور وفي مختلف المناطق.

ومما زاد من عدم تجانس الجماعات والهويات اليهودية، انتشار اليهود في كل أنحاء العالم دون وجود سلطة مركزية دينية أو قضائية في فلسطين أو في غيرها من الأماكن. كما لم تكن تُوجَد في العالم القديم وسائل مواصلات أو إعلام تقرب بين أطراف العالم كما يحدث الآن. لكل هـذا، تطـوَّرت كل جماعة يهودية على حدة، بمعزل عن الأخرى، على المستويين الديني والقومي. وقد ظلت هذه الفسيفساء قائمة إلى أن انحلت الإمبراطورية الرومانية وانتشرت المسيحية في الغرب وانتشر الإسلام في الشرق، فظهرت فسيسفاء أخرى احتفظت بعناصر من الفسيفساء القديمة، كما دخلت عليها عناصر جديدة. وقد انقسمت اليهودية ودخلت مدارين أساسيين: المدار الإسلامي والمدار المسيحي. وازدادت اليهودية توحيدية داخل المدار الإسلامي. ومن ثم، ظهر ما يمكن تسميته «هوية يهودية عربية إسلامية»، وهي التي أنتجت موسى بن ميمون. وقد حَدَث، داخل هذا الإطار، الانقسام الخطير الثاني، وهو الانقسام القرّائي. أما في الغرب، فقد ازدادت اليهودية غيبية، ودخلت عليها عناصر صوفية متطرفة. وازدادت الهوة اتساعاً بين الهويات اليهودية في الشرق والغرب. فيهود الأندلس والعالم العربي كانوا يتحدثون العربية ويكتبون بها، بينما كان يهود فرنسا يتحدثون برطانة فرنسية ويكتبون بالعبرية. ثم ظهرت اليديشية (لغة الإشكناز في شرق أوربا)، واللادينو (لغة يهود السـفـارد في حوض البحـر الأبيض المتوسط). وكانت هناك بقايا يهود الرومانيوت الذين يتحدثون اليونانية ويهود إيطاليا الذين يتحدثون الإيطالية. كما ظهرت هويات يهودية مختلفة في أماكن متفرقة، مثل: الخَزَر في منطقة القوقاز، والفلاشاه في إثيوبيا، وبني إسرائيل في الهند، ويهود الصين في كايفنج،ويهود مانيبور،والتشويتاس،واليهود السود.ولم يكن انتماء هؤلاء الديني إلى اليهودية الحاخامية،وإنما كان انتماؤهم إلى تقاليد دينية مختلفة دخلت عليها عناصر دينية وإثنية محلية. وكان يُوجَد كذلك يهود إيران وأفغانستان الذين يتحدثون اللغة الفارسية وغيرها من اللغات، وبعض اليهود الأكراد الذين يتحدثون الكردية. وظهر عدد ضخم من الجماعات اليهودية الصغيرة في القوقاز مثل: يهود الجبال ويهود جورجيا ويهود الكرمشاكي، وظهرت جماعـات يهودية في جبال الأطلس تتحدث البربرية. ومن الانقسامات الدينية المهمة، ظهور الحركة الشبتانية وظهور يهود المارانو في حوض البحر الأبيض المتوسط ويهود الدونمه في الدولة العثمانية.

هذه هي الفسيفساء التي كانت قائمة حينما ظهرت العلمانية في المجتمعات الغربية والتي زلزلت اليهودية الحاخامية وعمَّقت عدم التجانس.

التعريــف الدينــي للهـــويات اليهوديـــة

Religious Definition of Jewish Identities

في العصور القديمة، كانت اليهودية ديانة توحيدية في محيط وثني، وكانت تكتسب هويتها من هذا التعارض الواضح والبسيط. أما في العصور الوسـطى الغربية وفي العالم الإسـلامي، فقد اختلف الأمر تماماً، إذ وجدت اليهودية نفسها في محيط توحيدي (إسلامي أو مسيحي) أدَّى إلى انطماس معالمها. ولذلك، حاول علماء اليهود أن يخلقوا هوة بين اليهود وأعضاء الديانات التوحيدية الأخرى، وكان التلمود هو ثمرة هذه المحاولة. وخلال هذه الفترة، ظهر تعريف الشريعة (هالاخاه) للهوية اليهودية، فعُرِّف اليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية أو من تهوَّد. وهذه التعريف هو الذي ساد منذ ظهور اليهودية الحاخامية مع بدايات العصور الوسطى في الغرب حتى بداية القرن التاسع عشر، وبالتالي فهو التعريف الذي يُعَدُّ الإطار المرجعي لكثير من الكتابات والإشكالات التي تُثار حول الهوية اليهودية. وهو تعريف ديني إثني مُغلَق يشبه إلى حدٍّ ما تعريف نحميا وعزرا ولكنه مُتحرِّر من الارتباط بالهيكل. ولذا، نجد أن الحاخامات عارضوا أية محاولة للعودة الفعلية ووقفوا ضد أي ماشيَّح دجال من أمثال شبتاي تسفي، باعتبار أن العودة لا يمكن أن تتم إلا بأمر إلهي سيأتي في آخر الزمان، أي أن العنصر القومي للهوية تم تسكينه وتحويله إلى تَطلُّع ديني، ولكنه مع هذا ظل كامناً.

وقد كانت هناك إشكالية أساسية داخل هذا التعريف تتعلق بالجانب القومي أو العرْقي للتعريف، حيث يتضمن أن من يُولَد لأم يهودية يظل يهودياً حتى ولو لم يمارس تعاليم الدين اليهودي، فهو يهودي بالمعنى الإثني. أما اليهودي المتهود، فكان عليه أن يقوم بتنفيذ جميع الأوامر والنواهي، أي يجب أن يكون يهودياً بالمعنى الديني. لكن هذه الإشكالية كانت، هي الأخرى، في حالة كُمون لأن عدد اليهود المتهودين كان صغيراً إلى حدٍّ كبير، كما أن تَرابُط الجماعات الدينية والإثنية، في العالمين الإسلامي والمسيحي، كان قوياً لدرجة أن أي يهودي يترك دينه كان عادةً ما يتبنى ديناً آخر ويندمج في المجتمع الخارجي وينصهر فيه تماماً، الأمر الذي يحلّ الإشكالية. وكان الفيلسوف إسبينوزا أول يهودي يترك الدين اليهودي ولا يتبنى ديناً آخر، أي أنه كان أول يهودي إثني وعلماني.

وعلى أية حـال،فإن المشـكلة كانت تظهر عند إقراض النقود بالربا،فاليهودية تبيح لليهودي أن يقرض غير اليهودي بالربا،لكنها تُحرِّم إقراض بني ملته.فإذا ما طلب يهودي مُتنصِّر قرضاً من أحد المرابين اليهود،كانت قضية يهوديته تطرح نفسها.وقد أفتى بعض الحاخامات بأن مثل هذا اليهودي المتنصر يجوز إقراضه بالربا لأنه ليس يهودياً على الإطلاق،ولكن أغلبية الحاخامات أفتوا بأنه يهودي حسب الشريعة اليهودية،لأنه وُلد لأم يهودية (أي أنه يهودي بالمعيار العرْقي).

وفي القرن الثامن، شهدت اليهودية حركة إصلاح ديني من جانب القرّائين الذين تأثروا بالتراث الديني الإسلامي وعلم الكلام والنزعة العقلانية في التراث الديني الإسلامي، فرفضوا الشريعة الشفهية التي جُمعَت معظم أحكامها في التلمود، ونادوا بأن لا قداسة إلا للتوراة وحسب. أما الشريعة الشفوية، فهي مجرد تفسيرات واجتهادات غير مُلزمة. وهو موقف مختلف تماماً عن موقف اليهودية الحاخامية التي ترفع الشريعة الشفوية (أي تفسيرات الحاخامات) إلى مرتبة التوراة، بل إلى مرتبة أعلى منها أحياناً. ومن ثم، حـدث انقســام كامل بين الفريقين. وكان الفقه اليهودي يواجه دائماً مشكلة ما إذا كان القرّاءون يهوداً أم لا؟ وهل يحلّ الزواج بهم أم يٌعدُّ زواجاً مُختلَطاً؟.

ومن أهم المشاكل الأخرى التي واجهها الفقه اليهودي، مشكلة يهود المارانو (اليهود المتخفون) الذين لم يتركوا شبه جزيرة أيبريا وتظاهروا باعتناق المسيحية بعد استرداد المسيحية لهذه الجزيرة، واحتفظوا بانتمائهم اليهودي سراً. ويرى الفقه اليهودي أن اليهودي الذي اضُطر إلى اعتناق دين آخر يظل يهودياً، ويمكنه أن يعود إلى حظيرة الدين متى سنحت له الفرصة. ولكن كثيراً من المارانو اعتنقوا المسيحية بإرادتهم للاحتفاظ بممتلكاتهم وثرواتهم، كما أنهم لم يفروا من شبه جزيرة أيبريا حينما سنحت لهم الفرصة. بل إن انتماءهم اليهودي ضعف بشكل واضح بمرور الزمن، ولم يبق منه سوى قشرة رقيقة أو بضعة طقوس. وفي النهاية، أصبح من الصعب عليهم التأقلم مع اليهودية الحاخامية أو المعيارية كما حدث لإسبينوزا (ولأورييل داكوستا من قبله). بل إن ثمة نظرية حديثة تذهب إلى أن المارانو كانوا مسيحيين صادقين في مسيحيتهم، وأن بعض العناصر داخل الدولة الإسبانية هي التي قامت بتوجيه تهمة المارانية لهم لوقف حراكهم الاجتماعي، إذ أن هؤلاء المسيحيين الجدد، كما كانوا يُسمَّون أحياناً، كونوا طبقة وسطى صاعدة وقوية كانت تهدد مصالح بعض الطبقات المهيمنة.

وقد شكل يهود الدونمه من أتباع شبتاي تسفي مشكلة أخرى، فقد اعتنقوا الإسلام علناً، وأبقوا على انتمائهم اليهودي سراً. ولم يكن الفقه اليهودي، منذ أيام موسى بن ميمون، يعتبر اعتناق الإسلام من جانب اليهود شركاً أو إنكاراً لوحدانية الله (على خلاف التنصر). وبالتالي لم تكن هناك مشكلة من الناحية النظرية على الأقل. لكن الدونمه لم يُرغَموا على اعتناق الإسلام، كما أن الادعاءات المشيحانية لقائدهم قُوبلت بحرب شرسة من جانب الحاخامات الذين أعلنوا أنها هرطقة وتجديف. ومع هذا، كان يهود الدونمه في الدولة العثمانية يدرسون التلمود مع بقية أعضاء الجماعة اليهودية حتى منتصف القرن التاسع عشر، وظلوا محتفظين بكثير من طقوسهم اليهودية سراً دون أن يرغمهم أحد على ذلك! ولهذا كان من الصعب تقرير ما إذا كان المارانو والدونمه يهوداً أم لا، وهي مشكلة لم يحسمها الفقه اليهودي.

وقد ازداد انتشار أعضاء الجماعات اليهودية في أنحاء العالم، وازداد بشكل واضح غياب التجانس الثقافي والديني بينهم مع الثورة العلمانية الكبرى التي بدأت تترك أثرهاالتدريجي في الجماعات اليهودية (ولعل ظهور الحركات الشبتانية المختلفة هو تعبير عن تزايد معدلات العلمنة).

ولكن رغم كل المشاكل والتوترات الداخلية والخارجية، فإن تعريف الشريعة لليهودي (من وُلد لأمٍّ يهودية أو تَهوَّد)، وهو التعريف الحاخامي الأرثوذكسي، كان تعريفاً مقبولاً ويَصلُح أساساً للتفرقة بين اليهود وغير اليهود. ولكن الوضع اختلف تماماً مع ظهور العلمانية التي بدأت تترك أثرها التدريجي في الجماعات اليهودية إلى أن دخلت اليهودية في الغرب مرحلة الأزمة، فظهر فكر حركة التنوير ثم ظهرت اليهودية الإصلاحية ومن بعدها اليهودية المحافظة واليهودية التجديدية ولا تعترف اليهودية الأرثوذكسية بأتباع هذه الفرق أو بحاخاماتها يهوداً. هذا إلى جانب انتشار نزعات الإلحاد والشك الديني بين اليهود، وظهور ما يُسمَّى «اليهودية الإثنية» (في الولايات المتحدة وروسيا وأوكرانيا وغيرهما من كومنولث الدول المستقلة) وهي يهودية من لا يؤمنون بالعقيدة اليهودية وإن كانوا يمارسون بعض شعائرها باعتبارها شكلاً من أشكال الفلكلور الذي يدعم إثنيتهم اليهودية ويرفع روحهم المعنوية. كما ظهرت اليهودية الإنسانية التي تحاول أن تؤسس عقيدة يهودية لا تستند إلى الإيمان بالشريعة المُوحَى بها وإنما بالقيم الإنسانية العامة. وظهرت أيضاً جماعات يهودية أخرى مثل العلماء اليهود الذين يؤمنون بأن الطب الحديث لا طائل من ورائه، وبأن سر الشفاء يوجد في العهد القديم، وكانوا في الواقع متأثرين بفرقة دينية مسيحية تُسمَّى «العلماء المسيحيون». وانضم كثير من اليهود إلى فرقة الموحدانيين (يونيتريان Unitarian) المسيحية، واحتفظوا في الوقت نفسه بيهوديتهم. بل وظهرت جماعة تُسمَّى «اليهود من أجل المسيح»، وقد اعتنق هؤلاء المسيحية، واعتبروا المسيح عيسى بن مريم هو الماشيَّح اليهودي، ولكنهم لم يعترفوا ببنوته للرب، وهكذا. وقد أصر كل هؤلاء (رغم إلحادهم الكامل أو رفضهم معظم مقولات الشريعة اليهودية) على أن يُسموا «يهوداً»، الأمر الذي ولَّد موقفاً غريباً إلى أقصى درجة وهو أن الغالبية العظمى ليهود العالم لم تَعُد تلتزم بالشريعة اليهودية، ولم يَعُد ينطبق عليها مصـطلح «يهـودي»، حسـب التعريف الحاخامي، ولكن هذه الغالبية تصرُّ في الوقت نفسه على الاحتفاظ بلقب «يهودي»، بينما لا توجد سوى أقلية صغيرة للغاية ملتزمة بالشريعة تحتفظ هي الأخرى بلقب «يهودي» وتدَّعي لنفسها حقّ أن تقرر من هو اليهودي، ولذا فهي تذهب إلى أن أغلبية اليهود الساحقة ليسوا يهوداً!وقد صرح آفى بيكر، محرر إحدى التقارير التى أصدرها المؤتمر اليهودى عن أوضاع الجماعـات اليهــودية فى العـالم، أن الانفصـال بين اليهود الأرثوذكـس واليهود العلمانيين قد خلق شعبين مختلفين لايتفاعلان.

الخريطة العامة للهويات اليهودية فى الوقت الحاضر

General Map of Jewish Identities at the Present

لاحظنا التطور التاريخي للهويات اليهودية المختلفة والذي نجم عنه ظهور هويات لا حصر لها ولا عدد. كما لاحظنا أن تعريف الشريعة اليهودية لمن هو اليهودي كان تعريفاً يعاني من الخلل، فلا هو بالديني ولا هو بالعرْقي، بل يجمع عناصر دينية وعرْقية دون تعريف حدود كل عنصر. وقد زادت الصورة اختلاطاً وسوءاً مع ظهور الفرق اليهودية الحديثة، وظهور اليهودية الإثنية والإنسانية، وإصرار كل هؤلاء على أن يسموا أنفسهم يهوداً.

كل هذا يعني أن كلمة «يهودي» تشير إلى أشخاص يؤمنون بأنساق دينية متعارضة من بعض النواحي، وينتمون إلى تشكيلات حضارية مختلفة، أي أنها دال يشير إلى مدلولات دينية وقومية مختلفة. ولتوضيح الصورة قليلاً، يمكن القول بأن مصطلح «يهودي» كان يشير، منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى عشية ظهور الدولة الصهيونية، إلى عشرات الهويات والانتماءات الدينية والوثنية والطبقية:

1 ـ يهود اليديشية، ويُطلَق عليهم عادةً يهود شرق أوربا أو الإشكناز. وهم أكبر القطاعات اليهودية في العالم. وكان هؤلاء يوجدون في أوكرانيا ومنطقة الاستيطان اليهودية في روسيا وبولندا. وكانوا ينقسمون بدورهم إلى قسمين أساسيين:

أ) يهود متدينون يعرِّفون يهوديتهم على أساس ديني.

ب) يهود تمت علمنتهم ويعرِّفون يهوديتهم على أساس إثني.

وكان معظم أعضاء هذا التجمع اليهودي يتحدثون اللغة اليديشية، وقد حملوها معهم إلى إنجلترا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا، ولكن كانت بينهم قطاعات تتحدث البولندية والأوكرانية والروسية والألمانية.

2 ـ يهود العالم الغربي المندمجون الذين كانوا يتحدثون لغة بلادهم. وهؤلاء كانوا ينقسمون إلى عدة أقسام، فمنهم يهود متدينون يعرِّفون أنفسهم على أسس دينية مختلفة ( إصلاحى ـ محافظ ـ تجديدى ـ أرثوذكسى ) ومنهم أيضاً يهود لادينيون. وأكبر تَجمُّع لهؤلاء يُوجَد في الولايات المتحدة. وقد تزايد عددهم بوصول يهود اليديشية الذين اندمجوا بدورهم في المجتمعات التي وصلوا إليها، واكتسبوا سماتها الإثنية والحضارية، وفقدوا هويتهم السلافية اليديشية وظهر ما نسميه «الهوية اليهودية الجديدة». كما أن العناصر السفاردية في المجتمعات الغربية اندمجت هي الأخرى في محيطها الحضاري، خصوصاً أن أعدادهم كانت صغيرة.

3 ـ يهود أمريكا اللاتينية الذين يتحدثون الإسبانية والبرتغالية أساساً. وقد انضم إليهم آلاف من يهود اليديشية واليهود السفارد من العالمين الغربي والعربي. وقد احتفظت كل جماعة يهودية مهاجرة بلغتها وهويتها التي أحضرتها من بلدها الأصلي لأن المجتمع الكاثوليكي اللاتيني كان محتفظاً بهويته، فكان التعبير عن الهوية اليهودية هو ذاته صدى لبنية المجتمع المضيف. وحينما بدأ المجتمع اللاتيني يفقد هويته بالتدريج، وبدأت تتصاعد فيه معدلات العلمنة، أخذ أعضاء الجماعات اليهودية يفقدون هم أيضاً هويتهم ويندمجون، ولكن في محيطهم اللاتيني.

4 ـ يهود الشرق والعالم الإسلامي والعالم العربي، وكان من بينهم اليهود العرب (اليهود المستعربة)، واليهود السفارد الذين يتحدثون اللادينو، وكانت توجد جماعات كبيرة منهم في العالم العربي، وقد انضمت إليهم أعداد كبيرة من يهود اليديشية، ويهود البلاد الغربية (خصوصاً فرنسا). كما تم صبغ كثير من اليهود المحليين العرب بالصبغة الغربية، وحصلت أعداد كبيرة منهم على جنسيات أوربية.

5 ـ الجماعات اليهودية المتفرقة (مثل الفلاشاه وبني إسرائيل) التي اسـتمر معظمهـا في البقـاء، ولم يختف في واقع الأمر سـوى يهود الخزر، إذ لا يزال يُوجَد بعض أعضاء من يهود كايفنج ومئات وربما آلاف من يهود المارانو والدونمه، وإن كان ثمة نظرية تذهب إلى أن اليهود القرّائين الذين يتحدثون التركية هم من بقايا يهود الخَزَر.

6 ـ تم تصنيف جميع الجماعات السابقة إلى يهود غربيين يُسمَّون «الإشكناز»، ويهود شرقيين يُسمَّون «السفارد» (أحياناً) برغم خطأ التسمية.

7 ـ نحن نرى أن كل التقسيمات السابقة آخذة في الاختفاء وأن ثمة ثلاثة أقسام أساسية الآن في العالم:

أ) خارج فلسطين، ظهر ما يمكن تسميته «الهوية اليهودية الجديدة» وهي هوية ظهرت في المجتمعات الغربية الحديثة، وهي ذات ملامح يهودية إثنية أو دينية، ولكن البُعد اليهودي فيها هامشي، لا يؤثر في سلوك أعضاء الجماعات اليهودية، إذ أن ما يحكم هذا السلوك هو الرؤية العامة السائدة في المجتمع (المتعة واللذة) والتي تُوجِّه سلوك المسيحيين واليهود والبوذيين والملحدين... إلخ.

ب) داخل المُستوطَن الصهيوني ظهرت هوية جديدة تماماً لا علاقة لها بكل الهويات السابقة، وهي جيل الصابرا ويتنبأ الدارسون بأن هؤلاء الصابرا سيكونون أغيارا يتحدثون العبرية لاتربطهم بأعضاء الجماعات اليهودية فى العالم سوى روابط واهية لاتختلف كثيرا عن علاقة اليونانيين المحدثين بالاغريق القدامى. ويميل كثير من علماء الاجتماع إلى أن اليهود المولودين في إسرائيل ينقسمون أيضاً إلى شرقيين وغربيين، ومن ثم يُطلَق مصطلح «الصابرا» في واقع الأمر على أولاد اليهود الغربيين وحدهم.

جـ ) يهود متدينون ( أرثوذكس ) وهم أقلية صغيرة خارج إسرائيل وأقليه كبيرة داخلها.

والصورة، كما نرى، مركبة وغير متجانسة على جميع المستويات. فهذه الجماعات التي كانت تفصل بعضها عن البعض هوة من الخلافات الدينية، وكانت تتحدث عشرات اللغات واللهجات، تقع ضمن تشكيلات اجتماعية وثقافية لا حصر لها، ابتداءً من يهود الغرب المندمجين في مجتمعاتهم الرأسمالية ومروراً بيهود اليمن الذين يشكلون جزءاً متكاملاً من مجتمعهم العربي بكل فنونه وتقاليده ومزاياه وعيوبه،وانتهاء بيهود الفلاشاه (في إثيوبيا) الذين ينتمون إلى تشكيل قَبَلي بسيط ويتحدثون الأمهرية لغة أغلبية أهل إثيوبيا ويتعبدون بالجعزية لغة الكنيسة القبطية فيها!ويُلاحَظ هنا كيف يتداخل الانتماء الإثني مع الأبعاد الدينية.وربما كان هذا التداخل هو ما جعل مندوب الوكالة اليهودية في الخمسينيات لا يتردد في أن ينصح الفلاشاه بحل مشاكلهم كلها لا بالهجرة إلى إسرائيل وإنما عن طريق التنصر والانضمام إلى الكنيسة القبطية في إثيوبيا!

وهذه الهويات اليهودية المختلفة لا وجود لها خارج محيطها الحضاري. فإن فقد يهود الفلاشاه الأمهرية والجعزية والشعائر الدينية المختلفة التي استقوها من محيطهم الحضاري، فإنهم يفقدون هويتهم التي يُقال لها «يهودية». ويسري الشيء نفسه على يهود الولايات المتحدة، فخصوصيتهم نابعة من انتمائهم إلى المجتمع الأمريكي، ولايمكن تَخيُّلهم خارج هذا المحيط الثقافي.

وإذا كانت هناك هوية يهودية مسـتقلة نسـبياً عن محيطها الحضاري، فهذا لا يعني بالضرورة أن هناك هوية يهودية عالمية واحدة مترابطة. والواقع أن هناك هويات يهودية مختلفة متعددة بعدد المجتمعات التي تتواجد فيها هذه الهويات، إذ أن انفصالها النسبي لم يؤد بالضرورة إلى ترابط الواحدة مع الأخرى. فيهود شرق أوربا كانوا يكتسبون هويتهم الشرق أوربية اليهودية من خلال اليديشية. وكان اليهود السفارد يكتسبون هويتهم الإسبانية من خلال اللادينو. وكانت كل من اليديشية واللادينو تعزل أعضاء الجماعة عن محيطهم. ومن ثم كان الصدام بين السفارد والإشكناز حاداً دائماً في جميع نقط التماس، سواء في أوربا في القرن السابع عشر أو في العالم الجديد في القرن الثامن عشر أو في المُستوطَن الصهيوني في القرن العشرين.

الهوية اليهودية الجديدة في المجتمعـات الغربية الحديثة

New Jewish Identity in Modern Western Societies

«الهوية اليهودية الجديدة» مصطلح قمنا بصكه لوصف الهوية اليهودية الجديدة التي نشأت تدريجياً في العالم الغربي بعد عصر الانعتاق وتَصاعُد معدلات العلمنة حتى أصبحت النموذج السائد فيه. واليهود الجدد هم أصحاب هذه الهوية الجديدة. ويمكن القول بأن الهويات اليهودية المختلفة، بعامة، قد تحدَّدت معالمها وتَشكَّل مضمونها في المجتمعات التقليدية (قبل الرأسمالية) بطريقة مختلفة عن تَشكُّلها في المجتمعات العلمانية الحديثة. فالمجتمعات التقليدية هي مجتمعات تدور حول منظومة عقيدية تستند إلى ميتافيزيقا ومطلقات معرفية وأخلاقية ويأخذ تقسيم العمل فيها شكل الفصل الحاد بين الطبقات والأقليات والجماعات. وبذا اضطلع اليهود فيها بدور الجماعة الوظيفية الوسيطة (وأحياناً العميلة) المنغلقة على نفسها، شأنهم في هذا شأن الأرمن في تركيا والصينيين في جنوب شرقي آسيا.

لكن يهود العالم الغربي، شأنهم شأن بقية قطاعات المجتمع الغربي، خضعوا بعد القرن التاسع عشر لعملية ضخمة من العلمنة والتحديث، ووجدوا أنفسهم يتفاعلون مع بيئة حضارية وسياسية مختلفة تماماً عما ألفوه من قبل، فقد تزايد معدل العلمنة في المجتمعات الغربية إلى أن أصبحت المجتمعات تُهيمن عليها العقيدة العلمانية (الشاملة) التي لا تتبنى أية معايير دينية أو أخلاقية للحكم على الفرد. فهي مجتمعات تدور حول مبدأي المنفعة واللذة وحول مفهوم الإنسان الطبيعي (الاقتصادي والجسماني)، ولا تحكم على الفرد إلا على أساس كفاءته ومدى نفعه وتكيفه مع قيم المجتمعات بحيث يصبح مواطناً يتوجه ولاؤه نحو الدولة وخدمة مصلحتها، قادراً على البيع والشراء والبحث عن اللذة وتعظيم الإنتاج والإشباع والقتال حينما يُطلَب منه ذلك.

وتتسم هذه المجتمعات بتَراجُع العقيدة المسيحية وعدم الاكتراث بها وبكل الأديان والمقدسات والغيبيات. ففي الماضي، أي حتى منتصف القرن التاسع عشر وربما أواخره، كان على اليهودي الذي يود الاندماج الكامل في مجتمعه أن يُغيِّر دينه ويعتنق ديناً آخر، أي المسيحية، كما فعل هايني ووالدا كلٍّ من ماركس ودزرائيلي. ولكن المسيحية دين له رموزه المركبة والمعادية لليهود واليهودية، ولذا كانت تجربة التنصر مريرة ولا شك. أما يهود العالم الغربي في الوقت الحاضر، فيمكن لمن يريد منهم أن يتخلَّى عن دينه أن يفعل ذلك ببساطة شديدة دون أن يُضطر بالضرورة إلى التنصر أو اعتناق أي دين آخر (كما فعـل الفيلـسـوف إسبـينوزا أول يهـودي إثني)، وبوسعه بعد ذلك أن ينتظم في صفوف الملايين التي تدخل الآلة الرشيدة اليومية والتي يتم تنميطها من الداخل والخارج بشكل دائم من خلال البنية التحتية المادية والمؤسسات الإعلامية والتربوية. وهذه الملايين لا تكترث بالخصوصية، إلا باعتبارها مصدراً متجدداً للمتعة والإثارة. وهذه المجتمعات الغربية التي يعيش فيها اليهود الجدد لا تهتم كثيراً بالدين (أو أية أبعاد معرفية كلية نهائية)، ولذا فهو لا يُوجِّه سلوك أعضائها ولا رؤيتهم لذاتهم أو للواقع، وإن كان هناك بُعد ديني فهو عادةً هامشي ضامر. وهي مجتمعات لا ترى اليهودي باعتباره قاتل المسيح أو عدو الإله، ولا ترى اليهود باعتبارهم الشعب الشاهد. وأعضاء هذه المجتمعات قد يتحدثون عن التراث اليهودي/المسيحي ولكن الإنسان بالنسبة لهم، في التحليل الأخير، هو الإنسان الاقتصادي،المنتج والمستهلك، والإنسان الجسماني، الباحث عن المتعة.وهي مجتمعات لم تَعُد تكترث كثيراً بالشعائر المسيحية ولا بالأعياد المسيحية باستثناء الكريسماس الذي فُرِّغ من مضمونه الديني وأصبح مناسبة اجتماعية وموسماً للبيع والشراء. وبدلاً من العقيدة المسيحية، ظهرت مجموعة من العقائد العلمانية المختلفة (مثل الوجودية والماركسية والنازية والليبرالية أو حتى الاستهلاكية) يمكن أن يؤمن بها كل من يشاء.

ولا تمارس هذه المجتمعات أي تمييز ضد اليهود أو ضد أية أقلية أخرى،فرقعة الحياة (العلمانية) العامة مفتوحة أمام الجميع، وبإمكان الجميع الالتقاء فيها بعد أن يطرحوا جانباً خصوصياتهم الثقافية والدينية،أو بعد أن يتركوها في منازلهم في رقعة الحياة الخاصة (وقد طلبت حركة الانعتاق من اليهودي أن يكون يهودياً في المنزل مواطناً في الشارع).وفي رقعة الحياة العامة يمكنهم أن ينخرطوا، ما حلا لهم الانخراط،في البيع بأعلى الأسعار، والشراء بأرخصها، والبحث الدائم (المنهجي أو التلقائي) عن اللذة وعن التخفيضات والأوكازيونات، دون أي تمييز على أساس العقيدة أو الجنس أو اللون. ومن ثم لا يوجد أي تمايز ثقافي أو وظيفي أو مهني لليهود في مواجهة غيرهم، وإن كان هناك مثل هذا التمايز فهو من رواسب الماضي، فالجميع يلتقي على أرض علمانية صلبة.

هذه صورة المجتمع العلماني النماذجية، أي أنها صورة غير واقعية ولكنها، مع هذا، ممثلة للواقع. وداخل هذا الإطار، ظهرت الهوية اليهودية الجديدة، التي نطلق على أصحابها مصطلح «اليهود الجدد» لنميزهم عن يهود ما قبل القرن التاسع عشر وعن يهود مرحلة ما قبل الانعتاق. وفي بعض الدراسات المتخصصة، يُقال لليهود الجدد «يهود ما بعد مرحلة الإعتاق»، كما يمكن أن يُشار إليهم ببساطة بوصفهم «يهود العالم الغربي»، أو «اليهود الغربيين»، مع إسقاط المصطلحات التي تشير إلى هويات إثنية أو إثنية دينية مختلفة، مثل: «يهود اليديشية» أو «السفارد» أو «الإشكناز»، لأنها لم تَعُد تَصلُح إطاراً مرجعياً. فاليديشية اختفت تقريباً، كما اختفت أية ملامح إثنية أتى بها المهاجرون اليهود من أوطانهم الأصلية. وأهم كتلة يهودية بين اليهود الغربيين تتمثل في الأمريكيين اليهود (وليس اليهود الأمريكيين) الذين استُوعبوا في الحضارة الأمريكية تماماً ولا وجود لهم خارجها ولا يمكن فَهْم سلوكهم دون الرجوع إليها.

والأمريكيون اليهود هم أهم قطاعات هؤلاء اليهود الجدد وأكبرها، إذ يشكلون نحو 90% منهم، ويمثلون جماهير الصهيونية الغربية وعمودها الفقري ويؤثرون في صنع القرار الأمريكي، وحيث إن يهود أوربا الغربية بل ويهود أوربا الشرقية أيضاً آخذون في التلاشي (باستثناء يهود فرنسا التي هاجر إليها يهود المغرب)، فإننا نستخدم أحياناً مصطلح «اليهود الجدد» كمرادف لمصطلح «الأمريكيون اليهود». وقد ساهمت خصوصية الولايات المتحدة الأمريكية في سرعة ظهور الهوية اليهودية الجديدة وفي بلورتها، وتتمثل هذه الخصوصية في العناصر التالية:

1 ـ المجتمع الأمريكي مجتمع استيطاني يتكون من فسيفساء إثنية. ورغم أن ثمة نواة بروتستانتية بيضاء أسست المجتمع وشكلت أغلبية أعضاء النخبة، فإن المجتمع لا تُوجَد فيه أغلبية متجانسة. ولذا، لا يشكل اليهود الأقلية الإثنية أو الدينية الوحيدة، وإنما توجد بالإضافة إليهم عشرات الأقليات الأخرى، مثل الإيطاليين والأيرلنديينوالمهاجرين ذوي الأصل الإسباني من بورتوريكو وأمريكا اللاتينية، إلى جوار العرب والسلاف. كما تُوجَد الآن أعداد كبيرة من الآسيويين من الهند والصين واليابان،وهناك أيضاً أعداد كبيرة من الأقليات الدينية من كل شكل ولون.

2 ـ المجتمع الأمريكي مجتمع جديد منفتح يوجد فيه مجال للريادة والاستثمارات والحراك الاجتماعي، الأمر الذي يسَّر لأعضاء الجماعات اليهودية أن يحققوا كل إمكانياتهم الاقتصادية وأن يستثمروا كفاءاتهم ورؤوس أموالهم بشكل كامل. والمجتمع الأمريكي الرأسمالي، الذي تشتغل فيه قطاعات ضخمة بالتجارة والبيع والشراء والأعمال المالية، لم يفرض على أعضاء الجماعات اليهودية دور الوسيط، ولم يُحرِّم عليهم أي نشاط اقتصادي.

3 ـ لم يمارس المجتمع الأمريكي أي تمييز ضد أعضاء الجماعات اليهودية في الحقوق السياسية أو المدنية، بل منحهم هذه الحقوق كاملة منذ البداية. ولم يُظهر هذا المجتمع سوى أشكال طفيفة من التفرقة الاجتماعية (هي شكل من أشكال التحامل أكثر من كونها تفرقة عنصرية) مثل حرمان اليهود من عضوية النوادي الاجتماعية الأرستقراطية أو التعيين في بعض المناصب الحيوية. وقد تهاوت هذه الحواجز ذاتها في أوائل السبعينيات حين عُيِّن كيسنجر وزيراً للخارجية عام 1973، وإرفينج شابيرو مديراً لواحدة من أكبر الشركات الأمريكية (شركة دي بونت) عام 1974.

4 ـ المجتمع الأمريكي مجتمع ليس له تاريخ طويل أو تراث مُركَّب، ومن ثم لا تسيطر علىه أية أساطير عرقية أو مفاهيم دينية قديمة ذات امتداد زمني أو ذات جذور تاريخية راسخة. وإن كانت هناك رواسب حملها بعض المهاجرين معهم، مثل الأيرلنديين أو الألمان وغيرهم، فهي مجرد رواسب لم تكتسب أية مركزية ولم تضرب بجذور عميقة. ويقول بعض علماء الاجتماع إن التعصب الأمريكي عادةً ما يستهدف السود بالدرجة الأولى، ثم الكاثوليك بالدرجة الثانية، ولكنه لا يستهدف أعضاء الجماعات اليهودية إلا بالدرجة الأخيرة.

5 ـ المجتمع الأمريكي هو أكثر المجتمعات علمانية على وجه الأرض، حيث تم فصل الدين والأخلاق وكل القيم عن الدولة وعن رقعة الحياة العامة (أي عن 90% من حياة الإنسان الأمريكي).

لكل هذا، وجد المهاجرون اليهود أنفسهم في وضع حضاري جديد تماماً، إذ أن المجتمع الأمريكي مجتمع منفتح بمعنى الكلمة، بخلاف المجتمعات الغربية المنغلقة المثقلة بالأساطير القديمة والتقاليد التاريخية والقيم التي ورثتها. ولذلك اندمجوا فيه بسرعة وتهاوت أسوار العزلة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية عنهم، فلم يُضطروا إلى السكنى في أماكن خاصة بهم (الجيتو)، ولم يُفرَض عليهم أن يرتدوا أزياء مُميَّزة. ولهذا، اختفت بقايا ثقافة يهود اليديشية الإثنية من شرق أوربا، كما اختفت تقريباً اللغة اليديشية ذاتها بسرعة، وكذلك الأمر مع المدارس ذات الطابع اليهودي التقليدي بل وغير التقليدي.

ومع هذا، يمكن القول بأن الهوية اليهودية الجديدة في الولايات المتحدة، رغم تبلورها بسرعة وبشكل حاد، فإنها لا تشكل سوى حالة متقدمة من متتالية نماذجية آخذة في التحقق. فالهوية اليهودية الجديدة هي ثمرة التفاعل التلقائي واليومي بين أعضاء الجماعات اليهودية ومجتمعاتهم العلمانية، إلا أنها في الوقت نفسه ثمرة تخطيط واع. فبعد انهيار أسوار الجيتو، وفتح أبواب الانعتاق، والاندماج، أدرك بعض قيادات الجماعات اليهودية الفكرية ضرورة تحديث الهوية اليهودية لتتفق مع الأوضاع الجديدة، بكل ما تعطيه لليهود من حقوق جديدة، وبكل ما تُلزمهم به من واجبات جديدة أيضاً. وقد كان مُتصوَّراً أن تحديث الهوية اليهودية هو السبيل الوحيد لاحتفاظ اليهودي بيهوديته (الدينية أو الإثنية) وتحقيق الاستمرار لها داخل مجتمعات ما بعد الانعتاق، لأن الاصطدام بالمنظومة العلمانية أمر لا جدوى له. ولكن ما حدث كان عكس المتوقع. إذ اندمج اليهود تماماً في مجتمعاتهم بحيث أصبحت أنماط سلوكهم وأسلوب حياتهم لا تختلف كثيراً عن الأنماط والأساليب السائدة في مجتمعاتهم، كما أن أحلامهم وطموحاتهم لا تختلف عن أحلام وطموحات معظم أعضاء مجتمعاتهم التي ارتفعت فيها معدلات العلمنة. أما البُعد اليهودي في هويتهم فقد أصبح هامشياً للغاية، وظهر أن الهوية اليهودية الجديدة (من منظور خصوصيتها اليهودية الدينية أو الإثنية) هوية هشة رخوة تنتمي يهوديتها إلى المظهر والقشرة لا إلى المخبر والجوهر.

فعلى المستوى الديني، نجد اليهودي الجديد « المتدين» (باستثناء قلة صغيرة) ينتمي عادةً إلى فرقة من الفرق اليهودية الجديدة (الإصلاحية أو المحافظة أو التجديدية) التي تؤمن بصياغة مخففة للغاية من اليهودية. وهو قد يُصنِّف نفسه يهودياً متديناً ومع هذا لا ينتمي إلى أي من الفرق. وهذا الانتماء الديني يأخذ شكل الإيمان ببعض الأفكار الغامضة عن وجود الإله وبعض المبادئ الأخلاقية العامة الموجودة في معظم الأديان والمنظومات الأخلاقية. وهو إيمان منفصل تماماً عن الشعائر الدينية والإثنية اليهودية، فقد اختفت، بشكل كامل تقريباً، الشعائر الدينية اليومية التي تنظم حياة اليهودي بل واختفت الشعائر الأسبوعية والشهرية ولم يبق سوى الشعائر السنوية ذات الطابع الاحتفالي والتي لا تتطلب أية عملية ضبط للذات. بل، على العكس، يتحول الاحتفال بالشعائر إلى فرصة لتأكيد الذات والإفصاح عنها وإدخال قدر من المتعة عليها. ولذا، تم التركيز على تلك الشعائر ذات القيمة الجمالية أو الإثنية أو تلك التي تشبه بعض الطقوس والشعائر (المسيحية) بحيث يستطيع الجميع الاحتفال بشعائرهم في ذات الوقت وفي رقعة الحياة العامة. وانطلاقاً من هذا، نجد أن الشعائر تأخذ شكل تناول العشاء أو وجبة مطبوخة بطريقة معينة في بعض الأعياد أو إيقاد شموع السبت (لا يقيم شعائر السبت كلها سوى 5% من يهود أمريكا) أو إيقاد شمعدان الحانوخاه في ديسمبر أو تزيين المنزل بشجرة الحانوخاه التي ليس لها أي مضمون ديني (وتشبه تماماً شجرة الكريسماس). بل وهناك العم ماكس رجل الحانوخاه، بديل بابا نويل أو سانتا كلوز. وهذا اليهودي الجديد قد يذهب إلى المعبد اليهودي ولكنه يفعل ذلك مرة أو مرتين في السنة (عادةً في يوم الغفران وربما في عيد الفصح). والشعائر تُقام لا باعتبارها شعائر دينية وإنما باعتبارها حدثاً اجتماعياً إذ تحوَّل الزمان الديني المقدَّس (بالإنجليزية: سيكريد تايم sacred time) إلى احتفال عائلي، أي إلى زمن عائلي (بالإنجليزية: فاميلي تايم family time)، ثم تحول الزمن العائلي بدوره إلى "وقت الفراغ" أو "الويك إند".

ويمكن أن يغالي اليهودي الجديد قليلاً ويصر على ضرورة ممارسة شعائر الطعام الشرعي ولكنه عادةً ما يقيم بعضها لا كلها، كما يمكنه أن يُصر على إقامة احتفال بلوغ سن التكليف (بارمتسفاه) لأطفاله (حتى لا يختلف عن أقرانه المسيحيين ممن يحتفلون بتثبيت التعميد). ولكن هذا الاحتفال، تماماً مثل الاحتفال بالحانوخاه، مُفرَّغ تماماً من أي مضمون ديني أو حتى أي مضمون إثني حقيقي. فهو حَدَث بورجوازي استهلاكي ضخم يُشبه الاحتفال بعيد الميلاد حين يحتفل الإنسان بميلاده البيولوجي لا بميلاده الديني. وبدلاً من أن يتذكر اليهودي أنه قد وصل إلى السن الـذي يجب عليه أن يحمل فيها نيـر العهـد ويُنفذ الوصـايا والأوامر والنواهي، فإنه يعقد حفلة فاخرة مكلفة وسوقية (تثير حفيظة كثير من الحاخامات). وقد لخص أحد الحاخامات الموقف الديني في الولايات المتحدة بقوله: « إن يهود أمريكا قد أصبحوا أقل تديناً وأصبحت يهوديتهم أكثر تأمركاً». ويمكن إعادة صياغة هذا القول لينطبق على يهود المجتمعات الغربية ككل فنقول: « إن يهود العالم الغربي العلماني قد أصبحوا أقل تديناً وأصبحت يهوديتهم أكثر علمانية ».

أما من الناحية الإثنية، فيُلاحَظ أن اليهود الجدد يتحدثون لغة البلد الذي ينتمون إليه وقد يستخدمون كلمة عبرية هنا وكلمة يديشية هناك من قبيل التظاهر الإثني، ولكن هذالن يعوق عملية التواصل الرشيد البرجماتي. وتُعَدُّ الإنجليزية، وليس العبرية، لغة معظم يهود العالم إذا أضفنا يهود أستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا وإنجلترا وكندا إلى الأمريكيـين اليهـود، وهي اللغة التي يتحدثون بها ويحبون ويكرهون ويتعبدون ويدبجون مؤلفاتهم الدنيوية والدينية بها.

ومن الواضح أن الحضارة الغربية الحديثة قد بهرت الكثيرين من اليهود وحلت محل ثقافتهم اليهودية التقليدية تماماً. وكما قال أحد المعلقين، فإن يهود العالم الغربي يعرفون موتسارت ومايكل جاكسون، ولكنهم لم يسمعوا قط بموسى بن ميمون ولا يعرفون عن مضمون التلمود شيئاً، وبعضهم يصاب بصدمة عميقة حينما يعرف عن بعض جوانب التلمود المظلمة والسلبية. وغني عن القول أن النسق القيمي الذي يتبناه عامة اليهود الجدد والأمريكيون اليهود هو نسق مادي استهلاكي، شأنهم في هذا شأن عامة جماهير المجتمعات الغربية. والواقع أن الإسهامات الثقافية المتميِّزة ليهود العالم الغربي، في مجالات الأدب والفنون التشكيلية والعلوم، تُعَدُّ من أكبر الشواهد على مدى اندماجهم في هذه الحضارة وتَملُّكهم ناصية مصطلحها. فهي إسهامات غربية علمانية بالدرجة الأولى، وقد تكون لها نبرة يهودية حين تتناول أحياناً موضوعات يهودية، ولكن المجتمعات الغربية لا تُمانع في هذا بتاتاً ما دامت هذه النبرة لا تتعارض مع أداء اليهودي في رقعة الحياة العامة. والعقد الاجتماعي الأمريكي يسمح للأمريكيين بأن يحتفظوا بشيء من عقائدهم الدينية وثقافتهم الأصلية بشرط ألا يتناقض ذلك مع الانتماء الأمريكي الكامل.

ولذا، يستطيع اليهودي أن يُعبِّر عن إحساسه بالانتماء للتراث اليهودي (دون إلمام به)، وأن يتباهى أمام الجميع بذلك، وأن يشعر بالفخـر بالإنجـازات اليهودية، ويشتري أعمالاً فنية يهودية (نجمة داود ـ شمعدان المينوراه ـ أعمال شاجال ـ أفلام وودي آلن)، ويشتري أيضاً بعض الهدايا التذكارية (سوفينير) من إسرائيل، ويُساهم في المناسباتوالمؤسسات الخيرية والثقافية اليهودية أكثر من أقرانه من غير اليهود. ولكن كل هذه أمور هامشية بالنسبة لانتمائه لمجتمعه ولأدائه في رقعة الحياة العامة.

ولا يتفاعل اليهود الجدد مع ثقافة إسرائيل العبرية إلا باعتبارها ثقافة أجنبية يربطهم بها اهتمام خاص، تماماً مثلما يتفاعل المهاجر الإيطالي مع الثقافة الإيطالية حينما يدفعه الحنين الرومانسي إلىها (نوستالجيا nostalgia) وذلك دون أن يضحي بهويته الأمريكية.

ويُعَدُّ تزايد معدلات الزواج المُختلَط من أهم علامات تآكل الهوية اليهودية وهشاشتها. فقد أصبحت هذه الهوية اليهودية الجديدة، بسبب هامشيتها بالنسبة لسلوك اليهودي في المجتمعات الغربية، لا تُشكِّل عائقاً أمام الزواج المُختلَط. فحينما يقرر شخص غير يهودي، مثلاً، أن يتزوج من يهودي رجلاً كان أو امرأة، فإن انتماء هذا الأخير لا يمس جوهر رؤيته للكون أو لنفسه ولا يؤثر في سلوكه بشكل كبير. فاليهودي، شأنه شأن المسيحي، يؤسس حياته على أسس علمانية، ولذا لا يتردد اليهودي في الزواج من شخص غير يهودي. بل ويُقال إن إعادة تعريف الهوية اليهودية لم تَعُد تشكل فقط حاجزاً أمام الزواج المُختلَط، بل وأصبحت حافزاً على مثل هذا الزواج في المجتمعات العلمانية، حيث يبحث الجميع عن مغامرات جديدة ومغايرة وعن أساليب حياة مختلفة، واليهودي يتيح هذه الفرصة ويُحقق مثل هذه الأمنية لمن يقترن به.

ومن أكبر العلامات الأخرى على الاندماج الكامل ما يُعرَف بالاندماج الاقتصادي. فلم يَعُد اليهود يشكلون كتلة اقتصادية مستقلة داخل المجتمعات الغربية. ولم يَعُد لهم هرم وظيفي مستقل عن الهرم السائد في المجتمع (إلا من بعض الجوانب فقط). كما لا يمكن الحديث عن «رأسـمالية يهودية» أو حتى عن «رأسـمالية يهودية أمريكية أو إنجليزية»، فرؤوس الأموال التي يملكها الرأسماليون اليهود إنما هي رؤوس أموال أمريكية أو إنجليزية ليس لها حركية مستقلة أو اتجاه مستقل، أي أنها جزء صغير من كلٍّ أكبر. والرأسمالي أو المهني أو العامل اليهودي لا يواجه مشاكل خاصة به، بل يواجه المشاكل نفسها التي يواجهها أقرانه في الشريحة الاجتماعية نفسها أو في المهننفسها. ويُلاحَظ أن الأمريكيين اليهود يتركزون في الوقت الحالي في المهن (الطب والجامعات والإعلام... إلخ) وهو اتجاه آخذ في التعمق باعتبار أن عدد الشباب اليهوديفي الجامعات الأمريكية يتزايد على مر الأيام. ولكن هذا هو الاتجاه العام في المجتمعات الاستهلاكية، إذ يزيد قطاع الخدمات تدريجياً بازدياد الرفاهية. ومع تزايد اعتماد المجتمعات الحديثة على الآلات العلمية والإلكترونيات، يزداد احتياج المجتمع إلى المهنيين. وإذا كانت نسبة اليهود المهنيين أعلى من النسبة العامة في الولايات المتحدة، فهذا ليس دليلاً على التمييز العنصري وإنما هو دليل على أن اليهود، باعتبارهم أقلية، يتسمون بقدر من الحركية أعلى من تلك التي يتسم بها بقية أعضاء المجتمع، فيسارعون باغتنام الفرص التعليمية المتاحة ويحققون درجة من الحراك الاجتماعي تزيد عن تلك التي يحققها بقية أعضاء المجتمع، وهم في هذا لا يختلفون عن أعضاء الأقليات الأخرى.

ويهود الدول الغربية الحديثة لا يعيشون في جيتوات مقصورة عليهم وإنما يتقرر مكان معيشتهم بحسب دخولهم وبحسب ما تمليه مصالحهم (الطبقية والمهنية والحرفية). وقد نجم عن هذا أن اليهود الجدد، والأمريكيين اليهود على وجه الخصوص، يعيشون إما في المدن الكبرى أو في مـدن صـغيرة أو جديـدة قريبة من المدن الكبـرى (الضواحي). ويتسبب هذا التوزيع في تشتيت اليهود الجدد، وفي ابتعادهم عما تبقى من مراكز الثقافة اليهودية وعن أقرانهم، وفي اقترابهم من غير اليهود، الأمر الذي يزيد معدل اندماجهم والزواج المُختلَط بينهم. ومن المفارقات التي تستحق الذكر أن الحراك الاجتماعي يُعتبَر من أهم أسباب تَشتُّت اليهود الجدد، وارتقائهم في سلم المجتمع وفي مراحل التعليم العالي، وفي بحثهم الدائب عن أفضل المؤسسات التعليمية وأحسن الفرص الاقتصادية. وتكمن المفارقة في أن القيمة الإيجابية التي يعلقها اليهود الجدد على التعليم هي نفسها التي تسبب انتشارهم، بكل ما يتضمنه هذا الانتشار من سلبيات من منظور التماسك الاجتماعي.

وفي هذا الإطار، سنجد أن توجهات يهود العالم الغربي السياسية (بما في ذلك تأييدهم لإسرائيل والصهيونية) لا يختلف عن الأنماط السياسية السائدة في المجتمع، وأن طريقة تصويتهم في الانتخابات لا تختلف (إلا في بعض التفاصيل) عن النمط السائد في المجتمع. فيُلاحَظ مثلاً أن يهود الولايات المتحدة كانوا يتجهون حتى عهد قريب اتجاهاً ليبرالياً وكان أغلبيتهم يصوتون لصالح الحزب الديموقراطي. وهم، في هذا، لا يختلفون كثيراً عن أعضاء الأقليات الأخرى أو عن سكان المدن. وهم يكونون جماعات ضغط تتحرك داخل النظام السياسي ولكنها لا تختلف في هذا عن الأقليات وجماعات الضغط الأخرى (فالديموقراطية الأمريكية لم تَعُد ديموقراطية انتخابية وإنما صارت ديموقراطية جماعات الضغط).

وقد أدَّى تَزايُد معدلات الاندماج إلى الابتعاد عن التراث أو الموروث الثقافي التقليدي، وبالتالي إلى ضعف الهوية الإثنية الخاصة. ومن المُلاحَظ أن أزمة الهوية والإحساس بالاغتراب، وهما من الموضوعات الأساسية في الأدب الغربي الحديث وفي المجتمعات الغربية، قد أصابا اليهود الجدد أيضاً، ومن هنا بحثهم الدائب عن هوية. والواقع أن هذا البحث ترجم نفسه إلى حاجة نفسية لافتراض وجود ظاهرة معاداة اليهود في كل مكان. ففي غياب أي مضمون إيجابي للهوية، يصبح الآخر المعادي عنصراً ضرورياًلوجودها ومصدراً أساسياً لها. وقد ذكر أحد المعلقين الأمريكيين أن سارتر يرى أن المعادي لليهود إن لم يجد يهوداً لاخترعهم اختراعاً. ولكن الوضع أصبح معكوساًبالنسبة للأمريكيين اليهود واليهود الجدد، فهم إن لم يجدوا أعداء اليهود لاخترعوهم. والمؤسسة الصهيونية تدرك هذه الحاجة النفسية للأمريكيين اليهود، فتقوم بتعميقإحساسهم بالمخاطر الحقيقية أو الوهمية المحيطة بهم والمؤامرات التي تُحاك ضدهم، وتؤكد على الهولوكوست أو الإبادة النازية باعتبارها موضوعاً أساسياً فيما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» وعلى إمكانية قيام أفران الغاز في بروكلين (نيويورك) أو في كولومبوس (أوهايو) أو حتى في باريس (فرنسا) أو موسكو (روسيا).

ولكن الشكل الأساسي للهوية المعلنة بين الأمريكيين اليهود واليهود الجدد بشكل عام هو إعلان انتمائهم الصهيوني بشكل متشنج حتى يضفوا ما يشبه المضمون الإيجابي الصلب على هذه الهوية اليهودية الجديدة الهشة السطحية، فهي تجعل الأمريكي اليهودي فرداً من الشعب اليهودي القديم فخوراً بتراثه ورموزه القومية، خصوصاً الرمز القومي الأكبر، أي الدولة الصهيونية. ولكن، بشيء من التحليل المتعمق، سنكتشف أن يهود العالم الغربي والأمريكيين اليهود قبلوا الصهيونية حسب شروطهم هم. ونحن نقسم الصهيونية إلى نوعين: صهيونية استيطانية، أي أن يهاجر المواطن اليهودي من بلده ويتحول إلى مستوطن صهيوني في فلسطين، وصهيونية توطينية أو صهيونية الغوث والمعونة والهوية، وهذه صهيونية تترجم نفسها إلى تبرعات مالية لإسرائيل للمساعدة في توطين اليهود الآخرين، وإلى تأييد وضغط سياسيين من أجلها، وإلى مصدر من مصادر الهوية، بحيث تصبح إسرائيل بالنسبة لهؤلاء الأمريكيين اليهود هي البلد الأصلي (مسقط الرأس) مثل إيطاليا بالنسبة إلى الإيطاليين وأيرلندا بالنسبة إلى الأيرلنديين ولبنان بالنسبة إلى اللبنانيين، فكأن الأمريكيين اليهود قد تَقبَّلوا الصهيونية بعد أمركتها، تماماً مثلما فعلوا مع اليهودية!

لكل هذا، لا يهاجر اليهود الجدد إلا بأعداد صغيرة، فمعدل هجرة الأمريكيين اليهود في السنة هو 1250 فقط (ولعل هذا العدد قد تزايد قليلاً مع انتشار البطالة في المجتمع الأمريكي)، ولكنهم دائماً على استعداد لإحداث الضوضاء والتظاهر من أجل إسرائيل والكتابة إلى الكونجرس ودفع التبرعات الآخذة في التناقص (لا يُساهم سوى 02% من يهود أمريكا في الجباية اليهودية الموحَّدة ،كما لُوحظ مؤخراً أن ما تحصل عليه الجمعيات الخيرية غير اليهودية من أعضاء الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة يزيد على ما تحصل عليه الجمعيات اليهودية). وقد لاحظ أحد الدارسين أن الهجرة إلى إسرائيل تتناسب تناسباً عكسياً مع تَصاعُد نبرة هذه الصهيونية التوطينية وازدياد حدتها.

لكن الأهم من هذا كله أن هذه الصهيونية لا تشكل رؤية متكاملة للحياة، فهي لا تتحكم إلا في جانب واحد وسطحي من الشخصية، إذ تظل قيم اليهودي الجديد وهويته المتعيِّنة غربية علمانية استهلاكية. ومما ييسر الأمر بالنسبة إلى اليهود الجدد أنه لا يوجد أي تعارض أو تناقض بين مصالح بلادهم ومصالح إسرائيل التي تمثل هذه المصالح في الشرق الأوسط. فتأييدهم للمُستوطَن الصهيوني لا يختلف في أساسياته (وإن اختلف أحياناً في نبرته) عن تأييد غير اليهود للمشروع الصهيوني. وهو تأييد مؤسِّسي عام تشترك فيه الحكومات الغربية والمؤسسات الإعلامية والثقافية. وحين يُشارك اليهودي الجديد في هذا لا يعدو أن يكون صوتاً في جوقة، يسبح مع التيار لا ضده. ويمكن الزعم بأن تأييد يهود أمريكا لإسرائيل ينبع أساساً من أمريكيتهم، أي من انتمائهم الأمريكي وليس من خصوصيتهم اليهودية.

ولكن هذا الانتماء الصهيوني يخبئ كثيراً من التناقضات والمفارقات. فأولاً: إذا كانت إسرائيل هي حقاً البلد الأصلي، فإن هذا يعني أنها البلد الذي هاجر المهاجر منه لا البلد الذي يهاجر إليه، أي أن الأسطورة الصهيونية في محاولة التكيف مع الواقع الأمريكي قضت على نفسها. وثانياً: يساعد هذا الانتماء الصهيوني السطحي على مزيد من الاندماج والانصهار، فهو انتماء إثني لا ديني يُفقدهم ما تبقَّى لهم من انتماء ديني. وحيث إنهم يكتسبون سماتهم الإثنية الحقيقية من مجتمعاتهم، فهم يزدادون في واقع الأمر تأمركاً وعلمنة وتظل الاختلافات بينهم وبين بقية المواطنين باهتة وطفيفة، ويصبح مضمون الحياة اليهودية الوحيد هو دفع التبرعات إلى إسرائيل وحضور المظاهرات التي ينصرف اليهودي الجديد بعدها إلى بيته الوثير في الضاحية، بعد أداء واجبه تجاه هويته اليهودية الجديدة الهشة، ليتمتع بحياة استهلاكية هنيئة ويلتهم كل أنواع الطعام، المباح وغير المباح شرعاً. وقد لاحظ بن جوريون نفسه هذا الوضع حينما ذكر أن صهيونية يهود أمريكا (والعالم الغربي) ليست إلا غطاء لعملية الاندماج السريعة. ويمكن تلخيص الموقف بالقول بأنه من منظور الهوية بين اليهود الجدد، يُوجَد سطح صهيوني لامع تزدهر فيه الهوية الإثنية الوهمية السطحية، وباطن غربي علماني تتآكل فيه الهوية الدينية أو التقليدية وتتشكل داخله الهوية اليهودية الجديدة. وإذا كان الصهاينة قد وصفوا اليهود المندمجين بأنهم المارانو الجدد (أي اليهود المتخفون، مثل يهود إسبانيا الذين اضطروا إلى التنصر، فأظهروا مسيحيتهم وظلوا في الباطن يهوداً)، فيمكننا أن نصف اليهود الجدد بأنهم مقلوب المارانو، أي أنهم يظهرون اليهودية بطريقة صاخبة ولكنهم يبطنون العلمانية والاستهلاكية والأمريكية.

ولكن كل هذا لا يعني عدم وجود تناقضات بين اليهود الجدد والمجتمعات التي ينتمون إليها، كما لا يعني أن كل أشكال التفرقة ضدهم قد اختفت تماماً. فهناك التوتر المتزايد بين الأمريكيين اليهود والسود، وبينهم وبين الكثير من أعضاء الجماعات المهاجرة. وهناك أشكال من التفرقة الاجتماعية غير الملحوظة (نسميه «تحامل»). ولكن مثل هذه التناقضات ومثل هذه التفرقة هي جزء من أي كيان اجتماعي. ويشبه وضع اليهود الجدد، في كثير من نواحيه، وضع أية أقلية في أي مجتمع غربي حديث منفتح، وهذا الوضع شيء جديد تماماً بالنسبة إلى يهود العالم الغربي.

يهـودي غــير يهـودي ويهــودى بشــكل مـا

Non-Jewish Jew and Jewish in Some Way

«اليهودي غير اليهودي» هو عنوان أحد كُتب المؤرخ والمفكر التروتسكي إسحق دويتشر. ويذهب دويتشر إلى أن ثمة جانباً عالمياً في اليهودية تَبدَّى في الفكر الثوري العالمي للمفكرين اليهود أمثال إسبينوزا وماركس، فهذا الجانب العالمي دفعهم لأن يطوروا أنساقاً فكرية ثورية عالمية تجـاوزت حـدود اليهودية بل وحدود كثير من الأنساق الفكرية الأخرى. ومعنى ذلك أن تَحقُّق النزعة العالمية الكامنة في اليهودية يؤدي إلى نفي اليهودية. وهؤلاء المفكرون، في تَصوُّر دويتشر، يمثلون كل ما هو عظيم في الفكر الحديث سواء في الفلسفة أو علم الاجتماع أو الاقتصاد أو السياسة في القرون الثلاثة الأخيرة. ويرى دويتشر أن السمات الأساسية لهؤلاء المهرطقين اليهود هي ما يلي:

1 ـ الإيمان بالحتمية، وبأن العالم يحكمه قانون.

2 ـ الإيمان بأن الواقع في حالة حركة دائمة وليس جامداً.

3 ـ عدم انفصال النظرية عن الممارسة.

4 ـ الإيمان بتضامن البشر في عملية انعتاق إنسانية كاملة.

والعناصر الثلاثة الأولى تعني، في واقع الأمر، الإيمان بالمرجعية المادية الكامنة ونموذج الطبيعة/المادة، أما الرابع فهو الإيمان بعقيدة التقدم. ويضيف دويتشر أن هؤلاء المثقفين اليهود المهرطقين يعيشون على حدود الحضارات، وهذا يعمق إيمانهم بصيرورة العالم وبالتضامن الإنساني العالمي.

ويمكن القول بأن المثقفين اليهود غير اليهود لا يختلفون كثيراً عن المثقفين المسيحيين غير المسيحيين. فاليهودي غير اليهودي، هو فرد من أصل يهودي وحسب، فَقَد إيمانه بمنظومته العقيدية، وهو مع هذا لا يختلف عن المثقف من أصل مسيحي الذي فَقَد إيمانه بالعقيدة المسيحية، فالجميع يلتقي في رقعة الحياة العامة والرؤية الأممية العالمية الكوزموبوليتانية. وهذا على كلٍّ هو ميراث عصر الاستنارة الذي يسعى إلى ظهور الإنسان الأممي الذي لا يرتبط بأية خصوصيات قومية أو دينية أو طبقية، وإن ارتبط بشيء فهو شيء أممي عام مثل الحفاظ على البيئة أو مصالح الطبقة العاملة التي ستلغي كل الطبقات وتُحقِّق المجتمع الشيوعي الذي سيسير حسب قوانين الاشتراكيةالعلمية.

وهناك كثير من النشطاء السياسيين في الأحزاب الشيوعية والحركات الثورية الغربية من أصل يهودي، ولكنهم فقدوا علاقتهم باليهودية وتحولوا إلى ثوريين متطرفين يعملون من أجل المثل الثورية الأممية العالمية النابعة (كما يتصورون) من قوانين الحركة المادية الكامنة والتي تتبدَّى في جدلية التاريخ، ومن ثم فهي مُثُل لا تعرف أية خصوصيات. وقد جعل هؤلاء الثوريون همهم القضاء على ما تبقَّى من جيوب إثنية يهودية (يديشية في معظمها) تحت شعار دمج اليهود في مجتمعاتهم وحل المسألةاليهودية من خلال الطرح الثوري. ومن أهم هذه الشخصيات فرديناند لاسال وكارل ماركس وروزا لوكسمبورج وليون تروتسكي وإيسنر كورت وبيلا كون وراكوس ماتياس وأرنو جيرو ورودولف سلانسكي وآنا بوكر.

ورغم العداء الشرس من قبل هؤلاء المثقفين اليهود غير اليهود لليهود واليهودية، ظلت الجماهير الشعبية تصنفهم على أنهم «يهود»، حتى أن الثورة البلشفية كانت تُدعَى «الثورة اليهودية». ويعود هذا إلى أن أعداد هؤلاء اليهود غير اليهود في صفوف الحركات الثورية والاشتراكية، بل وفى قياداتها،كان أمرا ملحوظًا. ولكن هناك بُعداً خاصاً للقضية في شرق أوربا (حيث كانت تُوجَد غالبية اليهود وحيث استولت الأحزاب الشيوعية على نُظُم الحكم). فأعضاء الجماعات اليهودية كانوا يلعبون دور الجماعة الوظيفية في مجتمعاتهم التقليدية، وكانوا أداة قمع في يد الطبقة الحاكمة (فكانوا جامعي الضرائب وكانوا وكلاءهم الماليين والتجاريين). ووجود اليهود غير اليهود الملحوظ في الأحزاب الشيوعية في شرق أوربا، خصوصاً في النظم الستالينية، جعل الناس يدركون مرة أخرى أنهم جماعة وظيفية يهودية جديدة تلعب مرة أخرى دور العميل لحساب القوة الشيوعية الروسية أو المحلية التي تقوم بابتزازهم. ورغم أن هؤلاء المفكرين والمواطنين الثوريين من اليهود غير اليهود لم يميِّزوا بين اليهود وغير اليهود، وكانوا أداة أمينة في يد نظمهم الحاكمة في عملية القمع، إلا أن العقل الشعبي لا يميل إلى التمييز بين الظلال المختلفة بل يميل إلى إدراك الواقع من خلال نماذج مختزلة له، خصوصاً أن هناك تراثاً تاريخياً يدعم هذا النموذج. ولذلك، فهناك مفارقة تستحق التأمل وهي أنه رغم اختفاء اليهود من هذه البلاد، إلا أن شعوبها لا تزال تمارس عداءً حقيقياً لليهود.

ويمكن أن نوسِّع نطاق مصطلح «يهودي غير يهودي» لنشير إلى أي مواطن من أصل يهودي تآكل انتماؤه اليهودي (سواء من الناحية الإثنية أو الدينية) أو اختفى تماماً، فهو إنسان مندمج تماماً في محيطه يُقبل على الزواج المُختلَط ولا يعيش في جيتو أو في أي قسم من أقسام المدينة مقصورة عليه، كما لا يتسم بأي تَميُّز وظيفي أو مهني أو ثقافي فهو من اليهود الجدد أصحاب الهوية اليهودية الجديدة، ورغم كل هذا يُصنَّف على أنه «يهودي» إما من قبَل ذاته أو من قبَل الآخرين، ومن ثم تصبح يهوديته إما شيئاً مفروضاً عليه من الخارج أو ادعاء ليس له ما يسانده لا في سلوكه ولا رؤيته.

1 ـ وإذا كان «اليهودي غير اليهودي» قد صُنِّف يهودياً رغم أنفه (وهذا ما كان يحدث في العالم الغربي حتى الحرب العالمية الثانية)، فهو عادةً لا يكترث بجوانب سلوكه أو شخصيته التي يسميها الآخرون «يهودية»، بل يحاول قدر استطاعته أن يبيِّن أنها هامشية ويُحس بالاستياء إن أصر الآخر على مركزية انتمائه اليهودى.

2 ـ يمكن أن نُصنِّف اليهود الخفيّين ( بالإنجليزية: إنفيسيبل جوز invisible Jews ) ضمن هؤلاء، ففى أثناء الحرب العالمية الثانية آثر الكثير من اليهود أن يخفوا هويتهم خوفا من الاضطهاد النازى، كما أن الفاتيكان أعطى الألوف شهادات تعميد لتسهل لهم عملية الهجرة أو التخفى. وفى الاتحاد السوفيتى كان من حق المواطن اليهودى أن يسجل نفسه روسياً أو أوكرانياً إن شاء، أو يهودياً إن فضَّل ذلك. وقد آثر مئات الألوف تسجيل أنفسهم روساً. ومن أشهر هؤلاء مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأمريكية، التى أُكتشف أمرها؛ وكذلك روبرت ماكسويل، الناشر الإنجليزى.

3 ـ ولا شك في أن اليهودي الكاره لنفسه هو أيضاً يهودي غير يهودي.

4 ـ بل وعلى المسـتوى العميق، يمكـن القول بأن كل الصـهاينة هم «يهود غير يهـود»، فالمضمون اليهـودي لحياة معظم صهاينة الغرب يكاد يكون منعدماً، وهم يهود كارهون ليهوديتهم ويودون إلغاء الوجود اليهودي في العالم ليُحلوا محله نمطاً إنسانياً جديداً (طبيعياً) لا يتسم بأي شذوذ أو طفيلية، وهو ما يُسمَّى الإنسان العبري الجديد.

5 ـ بلغ الاختلاط درجة كبيرة حتى أنه ظهرت فى الاحصاءات الخاصة بالجماعات اليهودية فى العالم مقولة جديدة كل الجده وهى «يهودى بشكل ما » ( بالانجليزية: جويس إن سم وبى Jewish in some way ) وهى مقولة كوميدية لاتختلف عن تعريف سارتر لليهودى بأنه « هو من يشعر فى قرارة نفسه بأنه كذلك ».

6 ـ أما «اليهودي غير اليهودي» الذي يدعي اليهودية ويتباهى بها (وهذا هو النمط السائد بعد وعد بلفور والحرب العالمية الثانية)، فهو على العكس من ذلك، حيث يتباهى بانتمائه اليهودي مع أن حياته وسلوكه وهويته تكاد تكون خالية تماماً من أي مضمون يهودي ديني أو إثني. وهو يسعى دائماً إلى إبراز جوانب شخصيته التي يتصور أنهايهودية.

فريدريك ستاهل (1802-1861)

Friedrich Stahl

اسمه الأصلي يوليوس شلسنجر. وُلد في بافاريا الكاثوليكية. وهو رجل سياسة وقانون ألماني محافظ وأحد قادة البروتستانتية اللوثرية الألمانية. وُلد لأسرة يهودية وتلقىتعليماً أرثوذكسياً يهودياً، ولكنه تَنصَّر ثم دخل الكنيسة اللوثرية عام 1819، أي وهو بعد في سن السابعة عشرة. وقد كان في هذا مثل عدد كبير من اليهود الألمان فيعصره الذين تَنصَّروا لأسباب مختلفة.

درس ستاهل القانون في عدة جامعات ألمانية، وكان نشطاً في الحركات الطلابية، وعمل أستاذاً للقانون الروماني والكنسي. وعُيِّن عضواً في المجلس التشريعي في بروسيا، وعضواً في مجمع الكنيسة البروسية، كما ساهم في إنشاء مجلس الشيوخ في بروسيا وعين عضواً فيه مدى الحياة، وكان قائداً للحزب المحافظ.

ويتناول أهم أعمال ستاهل الذي نُشر عام 1829 فلسفة القانون، حيث ينكر في هذا العمل كل العقائد العقلانية وينادي بأن أساس القانون والسياسة هو الوحي المسيحي وأن العرش الزماني لابد من ربطه بالعرش السماوي، أي مُلْك الإنسان بمُلك الإله، كما ينادي بتجنيد الجماهير ضد الليبرالية والديموقراطية.

وباعتباره قائداً للحزب المحافظ، كان ستاهل مسئولاً عن صياغة برنامجه السياسي الذي يُسمَّى برنامـج تيفولي، والـذي كـان ينادي بعدم إعتاق اليهود. وكـان ستاهـل يؤكد دائمـاً أن اليهــودية متدنية أخلاقياً بالقياس إلى الفولك (الشعب العضوي) الألماني. وقد تأثر بسمارك والمؤرخ الألماني ترايتشكه بأفكار ستاهل الذي يعده بعض المؤرخينالمُنظِّر الحقيقي للفكر المحافظ الرجعي الألماني.

وُلد ستاهل ونشأ يهودياً أرثوذكسياً في مقاطعة كاثوليكية، وتَنصَّر ودخل الكنيسة اللوثرية البروسية وأصبح أحد قادتها ومن قادة الحزب المحافظ، وأخذ موقفاً معادياً تماماً لليهود لا من قبيل الانتهازية وإنما انطلاقاً من رؤية محافظة ساهم في صياغتها. ومع هذا، كان المعادون لليهود يشيرون إليه وإلى غيره من المفكرين من أصل يهودي بوصفهم يهوداً، الأمر الذي يُبيِّن مدى سذاجة مثل هذه التصنيفات ومدى عدم جدوى الإصرار على أن المفكر من أصل يهودي يظل بصورة حتمية يهودياً مهما تغيَّرت آراؤه ومواقفه وأفعاله. فمثل هذا الإصرار يؤدي إلى تكوين صورة عن المفكر لا علاقة لها ببنية فكره أو بمواقفه المتعيِّنة.

وقد يكون من التعسف إنكار أن أصول المفكر اليهودية تترك أثرها في فكره، ولكن لا يمكن، بأية حال، رد فكره بقضه وقضيضه إلى أصوله اليهودية.

فرديـنانــد لاســــال (1825-1864(

Ferdinand Lassalle

زعيم وفيلسوف اشتراكي ألماني يهودي. وُلد في براسلاو لتاجر ثري، وانضم إلى الحركة اليهودية الإصلاحية وأصبح من أشد المؤمنين بها. وقد درس لاسال في جامعتي براسلاو وبرلين، وتأثر بكتابات هيجل، وانضم لفترة قصيرة لحركة الشباب الهيجلي وعمل على استخدام اليهودية الإصلاحية لضرب اليهودية الأرثوذكسية. وخلال الفترة 1843 ـ 1845، طوَّر لاسال مفهومه حول الاشتراكية الديمـوقراطية والصنـاعية التي تسـتند إلى حكم القانون. وفي عام 1845، انتقل إلى باريس حيث التقى بالشاعر هايني، وتوطدت علاقتهما برغم خلافاتهما العميقة اللاحقة. وقد اشترك في ثورة 1848 أن رؤاهما تباعدت في كثير من الأمور، فتَبنَّى لاسال نهجاً إصلاحياً ونادى بحق الاقتراع العام وبالملكية الدستورية كما أيد القومية ورفض اعتبار الحركة القومية السلافية في روسيا معادية للثورة.

وقد أسس لاسال عام 1863 الجمعية العامة للعمال الألمان والتي تطورت فيما بعد لتصبح الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني. وكانت زعامته لهذه الجمعية ومعاداته للحركة الليبرالية أحد أسباب التقارب بينه وبين بسمارك الذي كان أيضاً معادياً للبيراليين. وقد أدَّت هذه العلاقة إلى اتهام لاسـال بخيانة الطبقة العاملة وبالانتهازية السياسيـة.

وبرغم اهتمام لاسال في شبابه بالعقيدة اليهودية، وخصوصاً اليهودية الإصلاحية، إلا أنه رفضها فيما بعد واعتبرها مرحلة ضرورية في التطور الإنساني في الماضي، ولكنها لا تُعتبَر ذات قيمة أو نفع في الوقت الحاضر، وكان في رأيه هذا متأثراً بهيجل. كما أشار لاسال أنه لا يعتبر نفسه يهودياً، ولا يرى في اليهودية سوى البقايا الفاسدة لماض عظيم غابر، وأن اليهود بعد قرون من العبودية اكتسبوا خصائص العبيد. وقد لقي لاسال مصرعه في مبارزة دفاعاً عن شرفه حين رفضت أسرة خطيبته الكاثوليكية قبوله زوجاً لها بسبب أصوله اليهودية وماضيه الثوري.

كورت إيسنر (1867-1919(

Kurt Eisner

زعيم اشتراكي ألماني يهودي ومؤسس الجمهورية البافارية وأول رئيس وزراء لها. وُلد في برلين لأب ثري يعمل بالتجارة، واشتغل في الصحافة فساهم في تحرير عدد من الصحف الألمانية. وأظهر كورت إيسنر اهتماماً شديداً بالفلسفة فدرس مع هرمان كوهين وله دراسة عن نيتشه. وفي عام 1910، أصدر جريدة نالت شعبية كبيرة. ومع اندلاع الحرب العالمية، عارض بشدة الأطماع الإمبريالية للحكومة الألمانية وسياستها الحربية. وفي عام 1918، حُوكم وسُجن بتهمة الخيانة بعد مشاركته في إضراب عمالي مطالباً بالسلام في ميونيخ، وقد أُفرج عنه بعد عدة أشهر فقام بترشيح نفسه عن الحزب الاشتراكي الديموقراطي المستقل في الانتخابات البرلمانية. وفي نوفمبر من العام نفسه، تَزعَّم كورت إيسنر الانتفاضة الثورية التي جرت في ميونيخ ثم اختير رئيساً لمجلس الوزراء في الجمهورية البافارية الجديدة. ولكي يفضح مسئولية الحكومة الألمانية عن الحرب، قام بالكشف عما جاء في تقارير الحكومة البافارية وسفارتها في برلين. وقد أدَّى ذلك إلى اتهامه من قبل أعدائه بالتـعاون مـع دول الحلفـاء وتَلقِّي الرشـاوى منهم لإشعال الثورة في ميونيخ. وفي عام 1919، اغتيل كورت إيسنر وهو في طريقه إلى البرلمان لكي يقدم استقالة حكومته بعد أن أحرز حزبه (الحزب الاشتراكي المستقل) نتائج ضعيفة في الانتخابات، وكان قاتله من أصل يهودي. ومما يُذكَر أن إيسنر نفسه كان ملحداً، أي يهـودياً غير يهودي. ومع هذا، استفادت الدعاية النازية المعادية لليهود من وجود إيسنر وغيره في صفوف الحركة الاشتراكية لتتحدث عن المؤامرة اليهودية ضد الشعب الألماني.

بيـلا كـون (1886-1935)

Bela Kun

مؤسس الحزب الشيوعي المجري، وأحد أهم الزعماء الشيوعيين. وُلد لأسرة يهودية من الطبقة الوسطى إذ كان أبوه من صغار التجار، ولكنه كان علمانياً تماماً ولا علاقة له باليهودية. وانضم إلى الحزب الديموقراطي الاشتراكي وهو بعد في السادسة عشرة من عمره. فعمل صحفياً في جريدة الحزب وكاتباً في الحزب ومديراً في قسم التأمينات الخاص بالحزب ثم فُصل لسوء سلوكه. انضم للجيش وكان يعمل ضابطاً برتبة ملازم في جيوش الإمبراطورية النمساوية المجرية فأَسَرته القوات الروسية عام 1916. وحين نشبت الثورة، انضم إلى البلاشفة وأصبح تابعاً متحمساً للينين وقام بتجنيد الأسرى لصالح الحركة الثورية.

عاد بيلا كون إلى المجر عام 1918وساهم في تأسيس الحزب الشيوعي المجري وجريدته وكتب العديد من الكتيبات الثورية، واشترك في الثورة التي أتت بالحزب الديموقراطي الاشتراكي وبالحزب الراديكالي للحكم. وقد حاول بيلا كون أن يطيح بالنظام الحاكم ولكنه سُجن في فبراير 1919. ثم أُفرج عنه في 21 مارس 1919 وهو اليوم نفسه الذي أُعلنت فيه المجر جمهورية سوفيتية، فعُيِّن قوميساراً للشئون الخارجية والعسكرية وأصبح القائد الحقيقي للوزارة والدولة. وكانت الوزارة (التي كان ثلثا أعضائها من اليهود) عبارة عن ائتلاف من الاشتراكيين والبلاشفة، فعمل بيلا كون على القضاء على العناصر المعتدلة وأعلن ديكتاتورية البروليتاريا، وأمم البنوك ورؤوس الأموال الكبيرة والملكيات الزراعية الكبيرة. وقد نجح بيلا كون في بادئ الأمر إذ كوَّن جيشاً شيوعياً أحمر قوياً صد هجوم التشيك والرومانيين واستعاد الأراضي المجرية التي كانت قد استولت عليها كلٌّ من تشيكوسلوفاكيا ورومانيا. ولكن الضربات بدأت تتوالى بعد ذلك، فامتنع الفلاحون عن تزويد المدن بالمحاصيل الزراعية بعدما رفض بيلا كون توزيع الأرض عليهم بعد أن أممها، وتحالف ملاك الأراضي والطبقة الوسطى ضد تأميم الملكية وضد الإجراءات الثورية المختلفة (مثل تقويض دعائم الثقافة القومية وإقامة محاكم ثورية) وضد سوء سلوك البيروقراطية الثورية. وعلى مستوى الجبهة الخارجية، طالبه كلمنصو بسحب قواته. وانهارت شبكة توزيع الطعام تماماً، ورفض الجيش أن يحارب ضد الرومانيين مما أدَّى إلى هزيمته، ففرَّ في أغسطس من العام نفسه إلى النمسا (حيث سُجن ووضع في مصحة عقلية بعض الوقت) ومنها ذهب إلى موسكو حيث عُيِّن قوميساراً سياسياً للجيش الأحمر في الجنوب، ثم عُيِّن قوميساراً مدنياً لشبه جزيرة القرم حيث تَعامَل بصرامة بالغة مع العناصر المعارضة للبلاشفة. وقد كان بيلا كون عضواً في المجلس التنفيذي للكومنترن حيث ساهم في تشجيع النشاط الشيوعي العلني في ألمانيا والنشاط السري في المجر. ويبدوأنه عارض في عام 1937 سياسة الجبهة المتحدة وطالب باتباع الطرق الثورية على طريقة البلاشفة الأصليين، فقُدِّم للمحاكمة واتُهم بالتروتسكية وسُجن، ويُقال إنه أُعدم (ولكن الأرجح أنه كان مصاباً بالسكر، فأُفرج عنه وعُزل عن الحياة العامة). ولبيلا كون مؤلفات عديدة عن الشيوعية، كما أنه كتب عدة مقالات أثناء إقامته في فيينا،وحرَّر إحدى المجلات الشيوعية أثناء إقامته في موسكو، وعُيِّن مديراً لإحدى دور النشر أثناء وجوده في موسكو.

وبيلا كون ليست له أهمية تُذكَر من منظور يهودي، لأنه كما أسلفنا فَقَد انتماءه الديني والإثني (مثل كثيرين من يهود المجر) ـ فهو، إذن، يهودي غير يهودي. ولفهم سلوكه، لابد من فهم حركيات التاريخ الغربي والحركة الثورية فيها وكذلك موازين القوى بين الدول المختلفة وتطورات الفكر السياسي السوفيتي. أما يهوديته، فهي لا تمثل سوى دور ثانوي للغاية. وقد قدَّمنا سيرته هنا لا باعتباره يهودياً وإنما باعتباره نموذجاً متطرفاً لشخص يُصنَّف بوصفه يهودياً مع أن سلوكه لا يمكن تفسيره إلا بالعودة للحركيات الاجتماعية العامة.

ماتياس راكوسي (1892-1971(

Matyas Rakosi

سياسي وزعيم مجري شيوعي يهودي درس في بودابست ثم اشتغل كاتباً في بنك. وعاش لفترة قصيرة في إنجلترا حيث انضم إلى الحركة الاشتراكية. وخلال الحرب العالمية الأولى، قاتل في صفوف الجيش النمساوي المجري ولكنه وقع في أسر القوات الروسية عام 1915وأمضى عاماً في معسكر لأسرى الحرب.

وبعد اندلاع الثورة البلشفية انضم للحزب الشيوعي وعاد عام 1919 إلى المجر مع الحكم الجمهوري السوفيتي الجديد بها تحت قيادة بيلا كون. وبعد سقوطه في العام نفسه، هرب إلى الاتحاد السوفيتي. وفي عام 1924، عاد إلى المجر سراً لتنظيم وإحياء الحزب الشيوعي المحظور ولكنه وقع في أيدي السلطات وحُكم عليه بالإعدام. وكان لتَدخُّل بعض المفكرين الأوربيين البارزين لصالحه الفضل في تخفيف الحكم إلى السجن مدى الحياة.

وفي عام 1940، تم الإفراج عنه وانتقل إلى موسكو حيث تَزعَّم المنفيين المجريين. وفي عام 1944، عاد إلى المجر حيث عمل على إعادة تنظيم الحزب الشيوعي المجري. كما تولى في الفترة ما بين عامي 1945 و1948 منصب نائب رئيس الحكومة الإئتلافية. وقد نجح خلال هذه الفترة في إخراج العناصر غير الشيوعية من الائتلاف الحاكم، وعمل بعد ذلك على إبعاد وإسكات جميع التيارات والاتجاهات المعارضة للحكم حتى بين صفوف الشـيوعيين. وقد تولى عام 1952 رئاسة الوزراء، وتَبنَّى سياسة ستالينية صارمة. وبعد وفاة ستالين، تعرض لانتقادات حادة من جانب القيادة السوفيتية الجديدة، خصوصاً بسبب فشل سياسته الاقتصادية، الأمر الذي دفعه للاستقالة عام 1953، ولكنه عاد مرة أخرى لرئاسة الوزراء عام 1955 واستمر في ذلك حتى عام 1956 حينما استـقال قبل اندلاع أحـداث الانتفاضة المجرية بفترة قصيرة. وقد اضطر راكوســي إلى الفرار مرة أخرى إلى الاتحــاد السـوفيتي في أعقــاب هذه الأحـداث ولم يَعُد إلى المجر حتى بعد قمع الانتفاضة إلا قبل وفاته بقليل. وقد طُرد من الحزب الشيوعي عام 1962.

لم يُبد راكوسي أي اهتمام بالشئون اليهودية، بل وحاول إخفاء أصله اليهودي، كما أنه كان مناهضاً للصهيونية، وقدم الكثير من الصهاينة للمحاكمة، فهو إذن «يهودي غير يهودي» على حد تعبير إسحق دويتشر. وقد لعب هؤلاء اليهود غير اليهود دوراً كبيراً في نشر الشيوعية في شرق أوربا وفي حكوماتها الشيوعية بعد ذلك. وقد تأثر كثير من أعضاء الجماعة اليهودية في المجر تأثراً سلبياً من سياسات راكوسـي الاقتصـادية التــي أدَّت إلى تأمــيم المؤســسات التجــارية الخاصــة وإلى نقــل آلاف الســكان خارج العاصمة وغيرها من المدن الكبيرة. ولكنه، مع هذا، ظل يُصنَّف على أنه «يهودي».

ادعــــاء اليهوديــــة

Claiming Jewishness

«ادعاء اليهودية» هو أن يدَّعي شخص غير يهودي، وليست له أية جذور يهودية على الإطلاق، أنه يهودي. والمصطلح نفسه ينطبق على يهودي مندمج تماماً (يهودي غير يهودي) نسي يهوديته، ولكنه تحت ظروف معيَّنة يدَّعي أنه يهودي. وهذه الظاهرة ظاهرة حديثة تماماً، فعبر التاريخ كان «التهوّد» يعني الانضمام لأقلية لها طقوسها وشعائرها ووظائفها التي تعزلها عن المجتمع، والتي لها وضع مختلف عن وضع الأغلبية، ولذا لم يكن هناك أي مبرر لادعاء اليهودية.

وقد ظل الوضع كذلك إلى أن ظهرت الحركة الصهيونية وأُقيمت دولة إسرائيل التي فتحت أبوابها للمهاجرين (بخاصة من الدول الغربية) وقدَّمت لهم هي والحركة الصهيونية تسهيلات مادية وعينية مختلفة ومنحاً مالية مباشرة. وقد شجع هذا بعض العناصر اليهودية ممن فقدوا علاقاتهم باليهودية على إعادة اكتشاف هذه العلاقة حتى يمكنهم عن طريقها تحقيق المزايا المادية. ولكن الظاهرة ظلت هامشية إلى حدٍّ كبير.

ومع هجرة اليهود السوفييت في بداية التسعينيات (والتي تزامنت مع تآكُل الاتحاد السوفيتي ثم سقوطه)، تفاقمت الظاهرة حتى أن كثيراً من «اليهود المتخفين»، أي المواطنين السوفييت من أصل يهودي، الذين سجلوا أنفسهم على أنهم غير يهود (وهو أمر كان يسمح به القانون السوفيتي)، بدأوا يؤكدون هويتهم اليهودية المزعومة، وانضمت لهم بأعداد متزايدة عناصر غير يهودية على الإطلاق (من بينها عناصر مسيحية بل ومسلمة). ويُقال إن ما بين نصف أو ثلث المهاجرين اليهود السوفييت في التسعينيات غير يهود (مدعو اليهودية أو زوجات وأزواج غير يهود).

ولا يقتصر الأمر على الاتحاد السوفيتي (سابقاً)، فمن المعروف أن عـدد اليهـود في مدينـة مكسـيكوسيتي كان يبلغ حوالي عشرة آلاف ثم قفـز إلى 35 ألفاً في عام واحد بعد أن بدأت بعض المنظمات اليهودية الأمريكية تقديم العون للجماعة اليهودية في المكسيك.

وقد تكررت الظاهرة مرة أخرى في إثيوبيا، فالفلاشاه ليسوا يهوداً بالمعنى الحاخامي، ومع هذا سُمح لهم بالهجرة إلى إسرائيل. ثم بدأ الفلاشاه موراه بالمطالبة بالهجرة باعتبارهم يهوداً، مع أنهم فلاشاه تَنصَّروا منذ قرنين من الزمان.

ويرى الإسرائيليون أن العبرانيين السود أو اليهود السود (من الولايات المتحدة) مدَّعو اليهودية. وفي الأعوام الأخيرة، بدأت الظاهرة تأخذ شكلاً حاداً إذ بدأ أفراد بعض القبائل في آسيا وأفريقيا يعلنون أنهم «يهود» (من نسل القبائل العبرانية العشر المفقودة) ومن ثم يحق لهم الهجرة إلى إسرائيل بمقتضى قانون العودة. وبعض هذه القبائل تُوجَد في شعائرها بالفعل عناصر عبرية أو يهودية، ولكنها لا تجعل عقيدتهم عقيدة يهودية (بأقصى المعايير تسامحاً بل ونسبية) ومن ثم لا يمكن تصنيف أعضائها على أنهم يهود. ولكن معظم أعضاء الجماعات اليهودية لا يعترفون بمعيارية اليهودية الحاخامية. وقد عرَّفت المحكمة الإسرائيلية العليا اليهودي بأنه من يرى نفسه كذلك. وهذا يخلق ورطة حقيقية للمُستوطَن الصهيوني. ولذلك، فقد تعالت الأصوات ولأول مرة في تاريخ الصهيونية مطالبة بإلغاء قانون العودة.

أغيــار يتحــدثون العبريــة

Heberw-Speaking Gentiles

«أغيار يتحدثون العبرية» مصطلح صكه عالم الاجتماع الفرنسي (اليهودي) جورج فريدمان في كتابه موت الشعب اليهودي ويستخدمه للإشارة إلى جيل الصابرا الإسرائيلي، فهم من وجهة نظره يختلفون تماماً عن يهود العالم (يهود المنفى)، وهويتهم لا علاقة لها بما يُسمَّى «الهوية اليهودية». ولذا، فهم ليسوا يهوداً وإنما أغيار وحسب، حتى وإن كانوا يتحدثون العبرية. والمصطلح تعبير عن إشكالية الهوية أو الهويات اليهودية.

أعضاء الجماعات اليهودية وقضيـة الهـوية القوميـة

Members of Jewish Communities and the Issue of National Identity

ما يُقال له «المسألة اليهودية» هو، في جانب أساسي منه، مشكلة «الهوية اليهودية» في التشكيل الحضاري الغربي. وتعود بجذورها إلى العصور الوسطى في الغرب إذ أن أعضاء الجماعات اليهودية لعبوا هناك دور الجماعة الوظيفية الوسيطة كتجار ومرابين، الأمر الذي أدَّى إلى عزلهم عن بقية أعضاء المجتمع. ومما دعم هذه العزلة، علاقات الجماعة الوظيفية اليهودية (في كل بلد أو مدينة أوربية) مع الجماعات الوظيفية اليهودية الأخرى في أنحاء العالم الغربي والإسلامي، وهي علاقات كانت تشكل ما يشبه النظام المصرفي والائتماني العالمي. وقد خلقت هذه العلاقات وهم الوحدة، بحيث كان المراقب الخارجي يتصور أن اليهود يشكلون وحدة قومية بسبب علاقاتهم التجارية والمالية، وَهْم في الواقع جماعات غير متجانسة تنتمي إلى تشكيلات حضارية مختلفة ويربطها رباط الوظيفة الاقتصادية والاجتماعية (وهذا ما سماه أبراهام ليون«الطبقة/الأمة»). ومن أسباب تدعيم العزلة، أيضاً، التصور المسيحي لهم باعتبارهم قتلة المسيح والشعب الشاهد (على عظمة الكنيسة وصدقها). وقد تَبدَّى كل هذا في شكل استيطان وتوطين اليهود في الجيتو. وهذه بالطبع صورة نموذجية مثالية تختلف كثيراً عن الواقع الحي الذي كان أكثر تماوجاً وتركيباً.

وقد ظل هذا الوضع قائماً في أوربا، بصور مختلفة، حتى القرن السابع عشر، حين بدأت تظهر الطبقات البورجوازية المحلية (المسيحية) ثم الدول المطلقة ووريثتها الدولة القومية الحديثة التي بدأت تضطلع بكل وظائف الجماعات الوظيفية، وهو ما أدَّى إلى الاستغناء عنها، وانهيار الهيكل القانوني والسياسي الذي كان يجسد عملية الفصل بين الطبقات من ناحية، والجماعات الدينية والإثنية التي كانت تدار على أساسها الدولة في المجتمع التقليدي من الناحية الأخرى. وقد طالبت الدولة القومية الحديثة أعضاء الجماعات اليهودية وكل الأقليات بالتخلص من خصوصيتهم الدينية أو الإثنية أو العرْقية، وبأن يقوموا بإعادة تعريف هويتهم بشكل يتفق مع ما تتطلبه من ولاء قومي كامل من كل المواطنين، وحاولت تخليصهم من تمايزهم الوظيفي والاقتصادي. وهذه عملية يمكن أن نطلق عليها مصطلح «تحديث الهوية» أو «علمنة الهوية». وتتم هذهالعملية وتكتمل حينما يتحول أعضاء الجماعة اليهودية من جماعة وظيفية وسيطة إلى أعضاء في الطبقة الوسطى، أو أيٍّ من الطبقات الأخرى في المجتمع.

ومن منظور التحديث، يمكننا أن نقول إن هويتين يهوديتين أساسـيتين ظهرتا في التشـكيل الحضاري الغربي في القرن التاسـع عشر، أولاهما، الهوية اليهودية في مجتمعات غرب أوربا ووسطها، في إنجلترا وفرنسا وإيطاليا، وفي ألمانيا بدرجة أقل، ثم في الولايات المتحدة، وهي مجتمعات تتسم بأنها لم تكن تضم أعداداً كبيرة من أعضاء الجماعات وبأن عملية التحديث نجحت فيها إلى حدٍّ كبير، وتم إعتاق أعضاء الجماعات وإعطاؤهم حقوقهم السياسية والمدنية، كما تم دمجهم في المجتمع اقتصادياً وثقافياً، حيث أصبح الاندماج هو المثل الأعلى. وقد نشأت، في هذا الإطار الاندماجي، اليهودية الإصلاحية التي فصلت الهوية الدينية عن الهوية القومية أو الإثنية تماماً، وعرَّفت الهوية اليهودية تعريفاً دينياً خالصاً. وقد أنجزت اليهودية الأرثوذكسية أمراً مماثلاً بأن جعلت هوية اليهودي مسألة دينية أساساً، وجعلت تحقيق الجانب القومي من العقيدة اليهودية مرتبطاً بالإرادة الإلهية، وهو كما تَقدَّم الحل التقليدي الذي طرحته اليهودية الحاخامية للإشكالية المشيحانية. وقد اندمج يهود هـذه المجتمعات اندماجاً كاملاً، وكانوا يتحدثون الفرنسية في فرنسا والإنجلـيزية في كـلٍّ من إنجلترا والولايات المتحـدة. والهـوية اليهـودية في ألمانيــا، وفي كثـير من بلاد وسـط أوربــا، تنتــمي إلى النمط نفســه رغــم اختلاف الظروف، ولا يمكن فهم هوية الجماعــات اليهـودية في هذه البلاد إلا في السياق الحضاري لكلٍّ منها. وبالتــدريج تراجـع البُعـد الديني مع تَصـاعُد معدلات العلمنة فأعيــد تعريف الهوية اليهودية على أساس إثني علماني ولكن البُعد اليهودي (الإثني والديني) ظل هامشياً للغاية. ولذلك، تأخذ التطلعـات القـومية اليهودية ليهود الغرب، إذا وُجدت، شكـل حنــين ديني للعـودة إلى صهيـون (الروحيــة) إن كـان اليهـود من المتدينين. أما إذا كانوا من العلمانيين، فإنها تأخذ شكل حماس عاطفي لهويتهم الإثنية، لا يترجم نفسه أبداً إلى هجرة استيطانية وإنما يأخذ شكل صهيونية توطينية، أي ينصرف إلى توطين اليهود الآخرين حتى يحموا مواقعهم الطبقية ومكانتهم الاجتماعية. وهذه هي هوية ما بعد الانعتاق أو الهوية اليهودية بعد تحديثها أو الهوية اليهودية الجديدة.

أما الهوية اليهودية الثانية، فقد نشأت في مجتمعات شرق أوربا بين يهود اليديشية، خصوصاً في بولندا وروسيا. وهذه مجتمعات دخلت العصر الحديث متأخرة وسادت فيها (في القرن التاسع عشر) ظروف تشبه الظروف السائدة في العالم الثالث في الوقت الحاضر، إذ تعثَّر فيها التحديث لسنوات طويلة ابتداءً من عام 1882، كما أنها كانت تضم أعداداً ضخمة من أعضاء الجماعات اليهودية، بل معظم يهود العالم. وكان أعضاء الجماعات اليهودية في هذه المجتمعات يتحدثون اليديشية في محيط سلافي، ويؤمنون باليهودية في محيط مسيحي أرثوذكسي محافظ. كما أن روسيا كانت تأخذ شكل إمبراطورية مُكوَّنة من قوميات لكل منها لغتها وثقافتها. ولذا، لم يكن اليهود، كتَجمُّع له ثقافته ولغته، يمثل استثناءً كبيراً. وقد بُذلت محاولات، في نهاية القرن التاسع عشر، لصبغ اليهود، وغيرهم من الجماعات، بالصبغة الروسية أو البولندية. ولكن، مع تَعثُّر التحديث، توقفت هذه المحاولات.

وداخل هذا الإطار، وفي هذه المرحلة (أواخر القرن التاسع عشر) طُرحت في شرق أوربا عدة تصورات للهوية اليهودية تستند إلى تجربة أعضاء الجماعات اليهودية في تلك المنطقة. فكان هناك التصور الاندماجي الذي يشبه تَصوُّر يهود الغرب للهوية. ولكن، كان هناك تصوران آخران هما اللذان قُدِّر لهما الشيوع في صفوف يهود شرق أوربا.

أ) قومية الدياسبورا:

حاول دعاة قومية الدياسبورا (سيمون دبنوف، وحزب البوند)، المتأثرون بتجربة يهود شرق أوربا وتراثهم، أن يعرِّفوا الهوية اليهودية تعريفاً ثقافياً أو تراثياً وحسب، بإسقاط الجانب الديني تماماً، إذ رأوا أن الهوية اليهودية هي أساساً انتماء إلى التراث الثقافي اليهودي. كما لم يربطوا هذا التراث بفلسطين أو بأي مركز محدَّد آخر، فهم يرون أن مركز اليهودية الثقافي ينتقل من بلد إلى آخر. كما أنهم يرفضون أي إطار عالمي لليهودية، ولا يعترفون بوجود ثقافة يهودية عالمية، ويرون أن كل جماعة يهودية مرتبطة بحركيات تاريخية مختلفة ولها هوية مختلفة وتراث يهودي مختلف، ولذا فإن كل جماعة تبحث عن حلول لمسألتها داخل حدود تاريخها الخاص والمتعيِّن وخارج أية رؤية تاريخية عالمية. ولهذا، يمكن القول بأنهم لا يتحدثون في واقع الأمر عن «قومية الديسبورا» (كما يتوهمون)، وإنما عن هوية يهودية شرق أوربية (يديشية) متفاعلة مع التشــكيل الحضاري الذي تُوجَد فيه. وانطـلاقاً من تلك الرؤية، يرى دعاة قومية الدياسبورا أن اللغة التي تُعبِّر عن هذه الهوية اليهودية ليست العبرية (اللغة الدينية العالمية لليهود)، وإنما اليديشية. وحينما استأنفت الثورة البلشفية عملية التحديث في روسيا، ناصبت حزب البوند العداء لأسباب سياسية في البداية، كما رفضت تَصوُّره للهوية اليهودية المحدودة الشرق أوربية، ولكنها عادت في الثلاثينيات واعترفت بها وبلغتها المستقلة وبشخصيتها الثقافية المستقلة التي يمكن أن تتحقق داخل الإطار السوفيتي. وانطلاقاً من ذلك، حددت مقاطعة بيروبيجان، كمقاطعة مستقلة، لغتها الرسمية اليديشية. وكان بإمكان هذه المقاطعة، من الناحية النظرية، أن تتحوَّل إلى جمهورية مستقلة (داخل اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية) لو هاجر إليها عدد كاف من اليهود. وقد ظلت الهوية اليديشية مزدهرة في الفجوة الزمنية بين تَعثُّر التحديث واستئنافه في الاتحاد السوفيتي وبين هجرة يهود شرق أوربا إلى الولايات المتحدة واندماجهم فيها، وهي تقع على وجه التقريب بين بداية القرن الحالي وأواخر الأربعينيات. ولكن مع تَصاعُد معدلات التحديث والعلمنة بدأت الهوية اليديشية في التآكل السريع، وساهم النازيون في القضاء على البقية الباقية من هذه الهوية، ومع الستينيات لم يَعُدللهوية اليديشية من أثر في العالم.

ب) الحل الصهيوني:

حاول الصهاينة العلمانيون، أو اللادينيون، إعادة تعريف الهوية اليهودية تعريفاً يؤكد الجانب القومي ولا يُعنى بالجانب الديني إلا بمقدار تعبيره عما يُسمَّى «القوميةاليهودية». وقد أسس هؤلاء مجتمعهم الصهيوني استناداً إلى هذه الرؤية. ومع هذا، ظهرت داخل الحركة الصهيونية جماعات من الصهاينة المتدينين الذين يرون أن الدين اليهودي والقومية اليهودية هما شيء واحد، وأن الهوية اليهودية هويةٌ قومية دينية، الأمر الذي أدَّى إلى تصعيد التفجرات داخل الكيان الصهيوني.

التعاريف الصهيونيـة للـهـويات اليهوديـة

Zionist Definitions of Jewish Identities

تُعَدُّ الصهيونية، في أحد جوانبها، محاولة لإعادة تعريف اليهود تعريفاً يتفق مع وضعهم الجديد في الغرب بعد ظهور الدولة القومية العلمانية وعصر الإعتاق وسقوطالجيتو. وهي، من هذا المنظور، واحدة من كثير من المحاولات اليهودية الأخرى، مثل: اليهودية الإصلاحية، واليهودية الأرثوذكسية، وقومية الدياسبورا. وينطلق الصهاينةاللادينيون من تعريف للهوية هو في جوهره علمنة لكثير من الأفكار القومية الكامنة في التراث الديني اليهودي. فهم يرون أن ثمة هوية قومية يهودية واحدة متميزة متجانسة تفرق بين اليهود وسواهم من أقوام وشعوب في كل زمان ومكان، وأن ثمة مصدرين لها. أما المصدر الأول، فهو الضغوط من الخارج، أي أن مصدر الهوية اليهودية ليس من داخل اليهودية ذاتها وإنما هو مجرد رد فعل لهجمات أعداء اليهود عليهم، باعتبار أن اليهود جسم قومي غريب في أوطان الآخرين. ومن جهة أخرى يرى بعض الصهاينة المتأثرين بالخطاب الاشتراكي أن مصدر الهوية اليهودية هو الوضع الطبقي المتميِّز لليهود في المجتمع الغربي كجماعة وظيفية وسيطة. واليهودي، بحسب الرؤية السابقة، يكتسب هويته من الغير، وهو تعريف أخذ به معظم الصهاينة الأوائل مثل: تيودور هرتزل، وماكس نوردو، وأهارون جوردون، وغيرهم. ويبدو أن هذا كان الاتجاه السائد في أوربا. فعلى سبيل المثال، صرح كارل ليوجر (المرشح المعادي لليهود لمنصب عمدة فيينا) بأنه هو الذي يحدد من هو اليهودي.

لكن معظم الاتجاهات الصهيونية لا تأخذ بهذا الرأي الآن، وتطرح تصوراً للهوية اليهودية على اعتبار أنها شيء نابع من مصدر آخر هو حركيات ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» المرتبط بفلسطين (إرتس يسرائيل في الخطاب الديني). وهذا المجال الزماني المكاني هو المجال الوحيد الذي تستطيع فيه هذه الهوية أن تُعبِّر عن نفسها تعبيراً كاملاً، مثلما حدث تحت حكم المملكة العبرانية المتحدة (أو الكومنولث الأول) وحكم الدولة الحشمونية (أو الكومنولث الثاني)، إلى أن تم هدم الهيكل.

ويرى الصهاينة أن هويات يهود المنفى المندمجين ليست إلا انحرافاً عن مسار هذا التاريخ. ولذا، فهم ينطلقون في تعريفهم الهوية اليهودية « الحقة » من انتقاد جذري لهذهالهويات، مستخدمين كثيراً من أطروحات أدبيات معاداة اليهود. فاليهود المندمجون شخصيات مريضة مصابة بالازدواج والانقسام، مشوهة وهامشية، وهم يحاولون إخفاء هويتهم اليهودية الحقة المتأصلة ويبذلون قصارى جهدهم في إظهار هويتهم غير اليهودية المُكتسَبة والإعلان عنها بشكل مُقزِّز، الأمر الذي يجعلهم يشبهون القردة التي تقلدما لا تعي. وستُلغَى كل هذه الأوضاع الشاذة حالما يؤسس الصهاينة وطناً قومياً تتمكن الشخصية اليهودية من خلاله التعبير عن نفسها بشكل سوي تعبيراً كاملاً، بحيث يصبح اليهود شعباً مثل كل الشعوب. وسيحقق اليهود من خلال الدولة، وبوصفهم شعباً، ما فشلوا في تحقيقه بوصفهم أعضاء في مجتمعاتهم. وهذا ما يُسمَّى في المصطلح الصهيوني «تطبيع الشخصية اليهودية». وبحسب الرؤية الصهيونية، فقد بدأت هذه العملية بالفعل في عام 1948ـ عام إعلان الدولة الصهيونية (الكومنولث الثالث). لكن تطبيع اليهود لا يعني تصفية الهوية اليهودية وإنما يعني منحهم هوية يهودية جديدة سوية؛ هوية اليهودي الخالص (اليهودي مائة بالمائة على حد قول بن جوريون). وقد طُرحت تصورات عدة لمصدر يهودية هذا اليهودي الخالص ولسماته وجوهره:

1 ـ التعريف العرْقي:

يُصُّر المدافعون عن هذا التعريف على رؤية اليهود كعنصر عرْقي متمـيِّز، ولذا فهم يتحـدثون عن «الجنس اليهودي» وعن اليهود باعتبارهم « جنساً متميِّزاً ». وقد عرَّف كثير من الزعماء الصهاينة اليهودية بأنها « مسألة تتعلق بالدم». وانطلاقاً من ذلك، يرى الصهاينة أن التزاوج مع الأجانب سيؤدي إلى تدهور العرْق اليهودي، وأنه لابد من تأسيس وطن قومي (لهذا الجنس الفريد) ودولة مستقلة يُعبِّر فيها عن عبقريته ويمارس فيها إرادته. ولكن تم التخلي عن هذا التعريف تماماً في هذه الأيام، إذ أن النظريات العرْقية لم تَعُد مقبولة في الغرب، خصوصاً بعد أن نجح هتلر في تدمير أعداد كبيرة من اليهود باسم هذه النظريات والاعتذاريات.

2 ـ التعريف الإثني أو التراثي:

يرى فريق من الصهاينة أن اليهود جماعة مترابطة ذات تاريخ مُشترَك منفصل ومحدَّد، وأن ثمة روابط تراثية (وليست عرْقية) فريدة بقيت على مدى قرابة أربعة آلاف سنة بين اليهود، وأن ثمة تماثلاً في أوضاع اليهود الإثنية والتاريخية، والمختلفة من بلد إلى بلد. وهم يرون أن ما حفظ وحدة اليهود هو الدين اليهودي، لا من حيث هو عقيدة وإنما من حيث هو إطار رمزي وبُعد أساسي من أبعاد التراث اليهودي. فالدين هو الوعاء الوحيد الذي ضمن الاستمرار والتجانس الإثني. وبناءً عليه، تكون الدولة الصهيونية هي الإطار الأمثل لكي تُعبِّر هذه الإثنية عن نفسـها.

3 ـ التعريف الديني:

لم يقبل الصهاينة الدينيون التعاريف اللادينية السابقة، وحاولوا استرجاع قداسة الهوية اليهودية. وهكذا، فهم يرون أن هوية اليهود القومية مصدرها الدين، إذ لا يمكن التفرقة بين القومية اليهودية والعقيدة اليهودية. فاليهود أمة مقدَّسة وكيان منعزل غريب مقدَّس يكتسب هويته من علاقته الخاصة مع الرب، ومن رسالته الخالدة بين الشعوب الأخرى. والتعريف الديني لا يستبعد العنصر الإثني، فالهوية اليهودية (بحسب تعريف الشريعة كما تقدَّم) ذات أساس ديني إثني. كما أن الهوية اليهودية (كما يُعرِّفها الصهاينة المتدينون) لا تحمل معها أية أعباء أخلاقية، بل تمنح اليهود حقوقهم القومية كاملة دون أية مسئولية تجاه الأغيار. ولذا، لا يوجد أي تناقض جوهري بين التعريف الإثني اللاديني والتعريف الإثني الديني. ومع هذا، يظل مصدر الشرعية في كلا التعريفين مختلفاً، فمصدر الشرعية والقداسة في القول الصهيوني العلماني هو الشعب اليهودي ذاته. أما في القول الديني، فإن مصدر الشرعية هو الحلول الإلهي في هذا الشعب. وحينما يتحدث المتدينون عن اليهودي، فإنهم يستخدمون، كما هو مُتوقَّع، معياراً أرثوذكسياً.

والتعريف السائد الآن في المُستوطَن الصهيوني هو التعريف الصهيوني اللاديني الإثني بالدرجة الأولى، ويليه التعريف الصهيوني الديني الإثني. ومن الملاحَظ أن التعريف الديني أخذ في الشيوع والانتشار منذ نهاية الستينيات. كما أن الصراع بين التيارين يفجر قضية الهوية التي يُشار إليها بسؤال «من هو اليهودي»؟.

ومن الضروري أن نتنبه إلى أن مقولة الهوية اليهودية في السياق الصهيوني الاستيطاني ليست مجرد مقولة نفسية أو فلسفية أو دينية، فهي مقولـة قانونية تحمل مضموناً سـياسياً واقتصـادياً محـدَّداً. فلليهودي، في الدولة الصهيونية، مزايا وحقوق معينة لا يتمتع بها غير اليهودي. كما أن ثمة وكالات ومؤسسات صهيونية عديدة يمولها يهود الخارج وتُعدُّ الترجمة الفعلية والمؤسسية لمقولة اليهودي هذه، فهي مؤسسات تمد يد المساعدة لليهود وحسب، وتحجبها عن غير اليهود. وأهم هذه المؤسسات الصندوق القومي اليهودي الذي يمتلك معظم أراضي فلسطين المحتلة باسم الشعب اليهودي، والذي تُحرِّم قوانينه بيع هذه الأراضي أو تأجيرها لغير اليهود، أو حتى استخدامهم للعمل فيها. وبذلك يمكننا أن نقول إن التعريف الصهيوني للهوية اليهودية هو الأساس النظري للممارسات الصهيونية العنصرية ضد العرب، بل إن عمليات ضم الأراضي تتم باسم هذه الهوية. وبالفعل، حذَّر الحاخام آرون سولوفاشيك (زعيم اليهودية الأرثوذكسية في الولايات المتحدة) من أن قبول التعريف العلماني لليهودي سيقوي عناصر الضغط على إسرائيل لأن تتنازل عن الأراضي المحتلة وعن أجزاء من القدس وحائط المبكى، حيث إنها ضمتها باسم الهوية اليهودية وباسم الحقوق التي يتمتع بها اليهود.

الهويات اليهودية والتناقض بين الرؤية الصهيونيــة والممارسـة الإسرائيلية

Jewish Identities and the Contradiction Between the Zionist Outlook and Israeli Practice

كانت كل جماعة يهودية تمارس تجربتها التاريخية والدينية بمعزل عن الجماعات الأخرى، وكانت كل منها تُطوِّر هويتها الدينية والإثنية من خلال التشكيل الحضاري الذي تُوجَد فيه وتتعامل معه وتُسمِّي نفسها «يهودية»، وذلك دون البحث عن خاصية جوهرية ما تربط كل أعضاء الجماعات معاً، ودون الحاجة إلى تعريف دقيق وعالمي وشامل لليهودي.

وكان الصهاينة اللادينيون، حتى عام 1948، يتحدثون بحرية شديدة عن «الشعب اليهودي الواحد» (بالألمانية: أين فولك Ein Volk)، وبالتالي عن «الهوية اليهودية الواحدة» و«القومية اليهودية». كما كان الصهاينة المتدينون قانعين بدورهم الثانوي في الحركة الصهيونية، ولكنهم كانوا يتحينون الفرصة ليفرضوا تعريفهم القومي الديني الأرثوذكسي. وقد تم إعلان قيام الدولة الصهيونية لا باعتبارها دولة مستقلة وحسب، وإنما باعتبارها دولة يهودية ليست مقصورة على مواطنيها، فهي أيضاً دولة الشعب اليهودي بأسره داخل فلسطين وخارجها. وترى هذه الدولة أن مصدر شرعية وجودها هو يهوديتها، ومن هنا محورية تعريف الهوية اليهودية، ومن هنا أيضاً حتمية ظهور التناقضات الكامنة.

وقد أصدرت الدولة الصهيونية عدة قوانين تعطي حقوقاً لصاحب الهوية اليهودية. وكان أول هذه القوانين قانون العودة (عام 1950) الذي يعطي لأي يهودي الحق، أينما كان، في الهجرة إلى إسرائيل (فلسطين المحتلة)، والاستيطان فيها. ثم صدر عام 1952 قانون تكميلي هو قانون المُواطَنة الإسرائيلية، والذي يمنح الجنسية الإسرائيلية لكل المهاجرين اليهود. ولكن كلا القانونين لم يُعرِّف من هو اليهودي، وتُركت القضية معلقة. وقانون العودة ليس القانون الوحيد الذي يتطلب تعريف اليهودي، إذ تتم الإشارة إلى اليهودي في الدولة الصهيونية في سياقين آخرين. فقانون تسجيل المواطنين يتعرض لهذه القضية إذ تتضمن الهوية في إسرائيل البنود المعتادة مثل الجنسية (إسرائيلي)، والديانة (يهودي أو مسلم أو مسيحي)، ولكن هناك بنداً ثالثاً خاصاً بالقومية (عربي بالنسبة للعرب المسلمين والمسيحيين ويهودي بالنسبة للإسرائيليين اليهود). ولابد أن يتفق البندان الخاصّان بالديانة والقومية في حالة الإسرائيليين اليهود باعتبار أن الصهيونية في أحد تعاريفها للهوية تُوحِّد بينهما.

أما السياق الثالث الذي تتم الإشارة فيه إلى اليهودي، فهو المحاكم الحاخامية التي تمارس السلطة المُطلَقـة في أمور الزواج والطلاق. والتعريف الذي تأخذ به هذه المحاكم هو التعريف الديني القومي (الأرثوذكسي) وحسب، وهو يستبعد أي تعريف آخر. ويمكننا أن نتحدث عن عدة تناقضات أساسية، واجهها الصهاينة في محاولتهم تطبيق المُثُل الصهيونية، ولكنهم فضلوا إرجاءها وعدم التعرض لها:

1 ـ التناقض بين الدينيين واللادينيين:

التعريف الديني الأرثوذكسي لليهودي أمر معروف أقرته الشريعة اليهودية الحاخامية. أما التعريف القومي (غير الديني)، فهو مسألة غامضة للغاية، إذ أن من الصعب تعريف هذه الخاصية القومية الفريدة التي تُميِّز هذا الحشد الهائل من الجماعات اليهودية التي تتمتع بهويات متعددة. ومن الصعب كذلك، بل وربما من المستحيل، تعريف اليهودي الملحد أو اليهودي الإثني، أو اليهودي غير اليهودي. وفي نهاية الأمر، تصبح المسألة مسألة إحساس داخلي غامض يمارسه اليهودي بوجود هذه الخاصية اليهودية داخله. ولذلك، يشير بعض المعلقين إلى التعريف الديني بأنه تعريف موضوعي، أي يستند إلى مقاييس خارجة عن الذات ويمكن الاحتكام إليها. أما التعريف العلماني، فهو تعريف ذاتي يستند إلى حالة شعورية تتفاوت في حدتها وعمقها من شخص إلى آخر. وبالفعل، تُعرِّف الأوساط العلمانية اليهودي بأنه من يشعر في قرارة نفسه بأنه يهودي ويعلن ذلك بإخلاص دون الحاجة إلى قرائن خارجية، وهو تعريف يخلق من المشاكل أكثر مما يحلّ.

ولإيضاح هذه النقطة، يمكن أن نشير إلى العاهرات وتجار الرقيق الأبيض والقوادين من أعضاء الجماعة اليهودية ممن تركزوا في الأرجنتين، وكونوا قطاعاً اقتصادياً كبيراً وجماعة ضغط، وأصبحت لهم مؤسساتهم الخاصة من نواد ومسارح ونظام رفاه اجتماعي. وهذه مسألة مفهومة تماماً في إطار علماني مادي حيث يقوم من لهم مصالح مشتركة بتنظيم أنفسهم. ولكن المشكلة ظهرت حينما أصر هؤلاء المشتغلون بهذه المهنة الشائنة على انتمائهم أو هويتهم اليهودية، ومن ثم كانت لهم معابدهمالخاصة وحاخاماتهم الذين يفون باحتياجاتهم الروحية، بل وكانوا يخرجون في استعراضات أو مواكب في الأعياد الدينية اليهودية! وغني عن القول أن هذا كان يسبب حرجاً شديداً لأعضاء الجماعة اليهودية، فظلوا يحاربون هذا الجيب الذي يُصرُّ على يهوديته حتى نجحوا في القضاء عليه تماماً. وكل ما تَبقَّى من هذا الجيب هو ملجأ للبغايا اليهوديات العجائز في بيونس أيرس.

2 ـ التناقض بين السفارد والإشكناز:

يمكن القول بأن الصهيونية، على مستوى الممارسة منذ أول أيامها وحتى عام 1948، قد عرَّفت اليهودي بأنه اليهودي الأبيض (الإشكنازي). وكانت، في هذا، متسقة تماماً مع نفسها، فقد كانت تُقدِّم نفسها باعتبار أنها تجربة تتم داخل إطار التشكيل الاستعماري الاستيطاني الغربي، ولذا كان على الصهاينة إثبات بياض بشرة اليهودي حتى يتسنى للمستوطنين أن يشاركوا في حَمْل عبء الرجل الأبيض، ويستفيدوا في الوقت نفسه من الأمن العسكري والدعم الاقتصادي الذي يوفره القائمون على المشروع الاستعماري،ويحلوا محل أحد شعوب آسيا وأفريقيا. وقد بذل آرثر روبين، أحد أهم علماء الاجتماع الصهاينة والمسئول عن الاستيطان في فلسطين لفترة طويلة قبل إنشاء الدولة، جهداً «علمياً»فائقاً لإثبات أن اليهودي هو الإشكنازي وحده وأن الشرقيين ليسوا يهوداً. وهناك العديد من البيانات والتصريحات تُعبِّر عن هذا الموقف. لكن هذا الموقف يتناقضتماماً مع موقف الصهيونية الأصلي، فالصهيونية تكتسب شرعيتها من زعمها بأنها حركة الشعب اليهودي بأسره.

3 ـ التناقض بين التعاريف الدينية المختلفة:

لا تنحصر المسألة في التناقض بين الدينيين والعلمانيين وحسب، أو بين الإشكناز والسفارد فقط، وإنما تمتد لتشمل مجال الدينيين ذاته. فالأرثوذكس لا يعترفون بالحاخامات الإصلاحيين ولا بالحاخامات المحافظين كيهود. ولذا، فهم لا يعترفون بالمتهوّدين على أيدي مثل هؤلاء الحاخامات. وفي معرض دفاعهم عن وجهة نظرهم، يذكر الأرثوذكس أن الشريعة، بحسب اليهودية الحاخامية، حدَّدت الخطوات اللازمة للتهوّد بشكلٍّ واضح تماماً كما حدَّدت من هو اليهودي. فلكي يَتهوَّد إنسان ما، يجب أن يتم ختانه إن كان ذكراً، أما الأنثى فعليها أن تأخذ حماماً طقوسياً وهي عارية أمام ثلاثة حاخامات (وهو الأمر الذي يسبب الحرج للإناث المتهوّدات). وعلى المتهوّد أن يَتقبَّل نير المتسفوت (الفرائض أو الأوامر والنواهي)، أي أن يعيش حسب قانون التوراة. أما الحاخامات الإصلاحيون، فلا يلتزمون بهذه الخطوات، إذ يكفي عندهم أن يحضر راغب التهود محاضرة عن التاريخ اليهودي، أو يقرأ مقطوعة من العهد القديم. ويقر الحاخامات الإصلاحيون بأن مراسم التهويد التي يقومون بها لا تتَّبع الشريعة، ولكنهميصرون في الوقت نفسه على أن هذا لا يمنع كونها مقدَّسة. أما المحافظون، فيرون أنهم يتبعون الشريعة، لكن الأرثوذكس لا يوافقونهم على ذلك.

ومن المشاكل الأخرى التي ظهرت داخل المعسكر الديني مشكلة قيام اليهودية الإصلاحية بإعادة تعريف اليهودي بحيث أصبح من يُولَد لأب يهودي أو أم يهودية، وهو ما لا توافق عليه اليهودية الأرثوذكسية واليهودية المحافظة.

4 ـ تناقضات أخرى:

هناك تناقضات يصعب تصنيفها لأنها ذات طابع ديني إثني، وقد نشأت هذه التناقضات أساساً بين المؤسسة الدينية وبعض الجماعات اليهودية الصغيرة بشأن انتمائهم الديني والإثني وما إذا كان هذا الانتماء خالصاً أم أنه هجين.

وكانت أولى المشاكل التي واجهها الصهاينة التناقض بين السفارد والإشكناز، وهو انقسام سبق إعلان الدولة. وقد لجأت السلطات البريطانية لطـرق عملية غـير عقائدية لحلـه، إذ سـمحت بوجود حاخاميتين: واحدة سفاردية، والأخرى إشكنازية، بكل ما ينطوي عليه ذلك من انقسام أساسي وجذري. والانقسام بين الإشكناز والسفارد انقسام عميق ذو طابع ديني، ولكنه ذو أبعاد طبقية وإثنية. وهو من العمق بحيث يتبدَّى من خلال تَنوُّع الأحزاب الإسرائيلية وبنيتها وأنماط التصويت في الانتخابات التي تجري في المُستوطَن الصهيوني. ومع هجرة اليهود الشرقيين من العالم العربي والعالم الإسلامي وبلاد الشرق الأخرى، مثل الهند، زاد العنصر الشرقي على حساب العنصر الغربي، وأصبح الشرقيون أغلبية في المجتمع، الأمر الذي اضطر المؤسسة الحاكمة إلى إخفاء تعريف الهوية الذي يعادل بين الإشكنازي واليهودي، وكفت المؤسسة عن إطلاق التصريحات العنصرية ضد اليهود السفارد ويهود البلاد الإسلامية. لكن الرؤية الكامنة التي تُوجِّه الدولة الصهيونية لا تزال، أولاً وأخيراً إشكنازية، وهي تحاول القضاء على الأشكال الحضارية الشرقية التي أحضرها اليهود الشرقيون معهم، ولا تزال النخبة الحاكمة في إسرائيل غربية بوجه عام وإشكنازية بالدرجة الأولى.

ومن الأمثلة الأخرى التي انفجرت فيها قضية الهوية من منظور ديني، قضية يهود الهند المعروفون باسم بني إسرائيل. فالحاخاميتان، السفاردية والإشكنازية، لم تعترفا بهم كيهود، لأنهم يمارسون الزواج المُختلَط ولا يعرفون التلمود. وقد استمرت مشكلتهم قائمة إلى أن اضطرت المؤسسة الدينية إلى الرضوخ لضغط المؤسسة السياسية. ولم تعترف الحاخاميتان أيضاً بيهود الفلاشاه، ولم تشجع هجرتهم طيلة الأعوام الثلاثين الماضية لعدة أسباب، من بينها أنهم هم أيضاً لا يعرفون التلمود، ولكن حينما طُلب إليهم التهود، رفضت أعداد كبيرة منهم ذلك. فاقترحت الحاخاميتان صيغة مخففة للتهويد تتضمن عملية تختين رمزية (حين قبل بعضهم ذلك سارع ممثل الحاخامية السفاردية بتختينهم قبل أن يقوم ممثل الحاخامية الإشكنازية بهذه العملية. ولكن حينما حضر الأخير قام هو الآخر بالعملية نفسها، أي أنهم تم تهويدهم وتختينهم مرتين خلال عدة أيام). وتثار قضية اليهود القرّائين واليهود السامريين من آونة إلى أخرى، خصوصاً حينما يتم زواج مُختلَط بين أحد أعضاء إحدى هاتين الجماعتين وفرد ينتمي إلى اليهودية الحاخامية. ولم تضطر الدولة الصهيونية ولا المؤسسة الدينية إلى الدخول في صراع عميق مع أيٍّ من هذه الجماعات بسـبب صـغر أحجامها وقلة نفوذها داخل وخـارج إسرائيل. ولم تأخذ المؤسسة السياسية موقفاً حاسماً في هذه القضية، بل تركت الأمر للمؤسسة الدينية تصرفه بطريقتها.

ومع منتصف الخمسينيات، ظهرت التناقضات بين الدينيين واللادينيين، وكذلك بين الأرثوذكس من ناحية وبقية الفرق الدينية من ناحية أخرى، وذلك حينما بدأت المؤسسة الأرثوذكسية في الخارج تضغط على المؤسسة الدينية في إسرائيل حتى تتبنى موقفاً أكثر تشدداً من مسألة تعريف اليهودي. وقد تزامن ذلك مع موجة من الهجرة من شـرق أوربا ضمت عـدداً كبيراً من الزيجات المُختلَطة. وفي عام 1957، قرر رئيس قسم تسجيل الهوية في وزارة الداخلية (وهو عضو في الحزب الديني القومي) ألا يقبل وصف المهاجر لنفسه بأنه يهودي باعتباره المقياس الوحيد معتبراً أنه معيار علماني ذاتي، وأصدر أمراً إدارياً للموظفين في إدارته بذلك. ورداً على ذلك، أصدر وزير الداخلية (وكان علمانياً من حزب اتحاد العمال «أحدوت هاعفود») قراراً في مارس 1958 يؤكد فيه التوجيهات القديمة التي تقبل المعيار الذاتي. فانسحب الحزب الديني القومي من الائتلاف الحاكم احتجاجاً. فقام بن جوريون بالكتابة إلى خمسين شخصية يهودية (دينية وفكرية) في أنحاء العالم يطلب إليهم الفتوى في هذا الأمر (وكان يشار إليهم بعد ذلك بوصفهم «حكماء إسرائيل»!). وجاءت الإجابات مشتملة على سائر التناقضات المتوقعة والتي لم يحسمها الفكر الصهيوني قبل قيام الدولة. فقد عرَّف القسم الأكبر منهم (37) الهوية اليهودية على أساس الشريعة، ولكن نفراً منهم تَبنَّى معيـار الاختيار الشـخصي (اليهودي هو من يعتبر نفسـه كذلك)، وتَبنَّى نفر آخر معيار القسر الخارجي، أي أن اليهودي هو من يعتبره الأغيار كذلك. ومع هذا، صدر عام 1959 توجيه إداري ينص على تعريف اليهودي بأنه الشخص الذي وُلد لأم يهودية، وذلك لاسترضاء الحزب الديني القومي حتى يعود إلى التحالف.

وقد ضـمت الوزارة التاليـة وزيـراً للداخلية من الحـزب الديني القومي، فأصدر توجيهات إدارية عام 1960 يُعرِّف فيها اليهودي بأنه من يثبت أن أمه يهودية أو أنه تَهوَّد حسب الشريعة وعلى يد حاخام أرثوذكسي. وقد وعد الحزب الديني بأن التعديل ستتم الموافقة عليه، ولكن الرأي العام الإسرائيلي أفشل هذه المحاولة.

ثم تفجرت القضية مرة أخرى بهجرة الأخ دانيال (أوزوالد روفايزين) الذي وُلد لأبوين يهوديين في بولندا، وانضم إلى المقاومة ضد النازية وأنقذ كثيراً من اليهود. وبعد أن قُبض عليه فرَّ إلى دير راهبات وعاش فيه متخفياً في زي راهبة حتى انتهت الحرب، فاعتنق المسيحية ودخل سلك الرهبنة، وهاجر إلى إسرائيل بموافقة الفاتيكان، وطلب اعتباره يهودياً بمقتضى قانون العودة. وقد عُرضت عليه الجنسية الإسرائيلية على أساس التجنس، ولكنه رفض وأصر على أن يحصل على الجنسية بموجب قانون العودة، أي باعتباره يهودياً. وقد ذكر في طلبه أن الشريعة اليهودية تقرر أن اليهودي لا ينسلخ بتاتاً عن دينه اليهودي مهما بلغت ذنوبه وذلك بحسب ما جاء في كتاب السنهدرين في التلمود. وقد ذكر الأخ دانيال أنه إذا كان بوسع الملحد أن يظل يهودي القومية، فمن باب أولى أن يُعتبَر هو (المسيحي) يهودياً!! وقد رفضت المحكمة العليا طلبه عام 1966، وقالت في حكمها إنه وفقاً للعرف المعمول به فإن كل من يغير دينه بدين آخر يُعَدُّ غير يهودي لأنه اختار أن ينفصل عن مصير الشعب اليهودي وتاريخه (ويُلاحَظ أن فكرة المصير هذه ستصبح بالتدريج ركيزة التعريف اللاديني الأساسية). وقد بيَّنت المحكمة أن حكمها هذا مناف للشريعة اليهودية وأكثر تشدداً منها، وأن الأخ دانيــال قد يكون يهودياً بحسب الشريعة،ولكن لا يمكن اعتباره يهودياً من منظور قانون العودة،أي أن المحكمة أخذت بتعريف لا ديني لليهودي،وجعلت أساس اليهودية الانتماء القومي.

ومن المفارقات، أن المؤسسة الدينية الأرثوذكسية كانت تقف ضد طلب الأخ دانيال، أي أنها أخذت موقفاً أكثر تشدداً من الشريعة ذاتها بل ومنافياً لها. وقد قيل في معرض نقد هذا الحكم إنه يتعلق بتعريف من هو غير اليهودي ولكنه لا يعرِّف اليهودي من قريب أو بعيد. ولم تترك القضية أثراً عميقاً في الدولة الصهيونية لأنها لم تؤثر على علاقتها بيهود العالم. بل وشعر كثير من الإسرائيليين بأنها لا تخصهم.

وأثيرت القضية مرة أخرى وبحدة عام 1968 حينما طلب الضابط بنيامين شاليط (المتزوج من إنجليزية غير يهودية رفضت التهود بسبب لا أدريتها) تسجيل أولاده باعتبارهم إسرائيليي الجنسية يهوديي القومية، على أن يُكتَب في بند الدين عبارة «لا يوجد»، أي أنه طلب الأخذ بالتعريف الإثني دون الديني. وحينما رُفض طلبه، رفع قضية في المحكمة العليا التي حكمت لصالحه عام 1970، وذكرت المحكمة في حكمها أن مصطلح «قومية» خاضع للتفسير العلماني، فأولاد شاليط ارتبطوا بمصير الشعب اليهودي وتاريخه. ومع هذا، أكدت المحكمة أن حكمها ينصب على الوضع المدني، أي على قانون العودة وقانون المواطنة والإجراءات الخاصة بالتسجيل، ولا ينصرف إلى الأحوال الشخصية (مثل الزواج والطلاق) التي تختص بها المحاكم الحاخامية. وقد رفض اليهود الأرثوذكس الأخذ بهذا الحكم، لأنه في تَصوُّرهم سيُقسِّماليهود إلى قسمين: يهود مؤمنين ويهود غير مؤمنين. ولذا، صدر عام 1970 تعديل لقانون العودة، وعُرِّف اليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية بشرط ألا يكون على دين آخر. ونص أيضاً على أن اليهودي هو المتهوِّد، وهو تعريف يعتمد الجانبين الإثني والديني، ولا يزال هذا التعريف هو المعتمد.

ومع هذا، أثار التعريف غضب الدينيين واللادينيين. كما أن جورج طامارين، المحاضر في جامعة تل أبيب، أثار جانباً آخر غير مُتوقَّع للقضية. فقد رأى أن التعريف الأخير تعريف ثيوقراطي، أي يستند إلى أساس ديني. ولذا، طالب بأن يُسجَّل في بند القومية لفظ «إسرائيلي» بدلاً من «يهودي». وقد رُفض طلبه بطبيعة الحال، لأن ذلك يعني رفض الصهيونية من أساسها.

أما الأرثوذكس، فلم يعجبهم التعريف الجديد إذ أنه يعترف ضمناً باليهود المتهوِّدين على يد حاخامات إصلاحيين ومحافظين، وهم في نظر الأرثوذكس ليسوا يهوداً، أو على الأقل مشكوك في يهوديتهم، ولذلك فهم يطالبون بإضافة عبارة «تهود حسب الشريعة» (بالعبرية: كاهالاخاه) أي على يد حاخام أرثوذكسي. وتحوَّلت القضية، من ثم، إلى من هو الحاخام؟ وقد قُدِّم إلى الكنيست مشروع قرار بهذا المعنى، رُفض في 16 يناير 1985، وتَسبَّب المعراخ أساساً في إسقاطه. والملاحَظ أن هذا التعديل الأخير المُقترَح سيثير من المشاكل أكثر مما يحلّ، فهو على سبيل المثال سيهز أحد الأسس التي يستند إليها التجمع الصهيوني، وهي فكرة «الوضع الراهن». والعبارة تشير إلى الوضع السائد في فلسطين إبان حكم الانتداب.وقد تَوصَّل الصهاينة الدينيون والصهاينة اللادينيون، عشية إنشاء الدولة، إلى اتفاق على أن الدولة الصهيونية ستلتزم بالشعائر والأعراف السائدة في ذلك الوقت في المجال الديني.ولا يزال الاتفاق يحكم مدى التزام الدولة بتنفيذ الشعائر الدينية.

وقد أثيرت عام 1987 قضية شوشانا ميلر المواطنة الأمريكية التي اعتنقت اليهودية على يد حاخام إصلاحي ثم هاجرت عام 1985 إلى إسرائيل، حيث رفضت وزارة الداخلية الإسرائيلية منحها الجنسية بمقتضى قانون العودة. وطلب إليها وزيرالداخلية أن تتهوَّد مرة أخرى على يد حاخام أرثوذكسي، فرفضت طلبه وتقدمت بشكوى إلى القضاء. ولحسم المسألة، اقترح الوزير أن يُكتَب على بطاقة تحقيق الشخصية الخاصة بالمتهوِّدين لفظة «متهوِّد» بدلاً من «يهودي»، سواء أكان التهود قد تم على يـد حاخام إصـلاحي أم على يـد حاخـام محافظ أم أرثوذكسي، فرفضت المواطنة ذلك أيضاً باعتبار أن هذا سيحولها إلى يهودية من الدرجة الثانية. وقد حكمت المحكمة لصالح الشاكية، فاستقال وزير الداخلية واتهم اليهود الإصلاحيين بأنهم « يقودون أمة إسرائيل إلى التهلكة ». ولكن الوزارة اضطرت في نهاية الأمر إلى تسجيل بعض مَنْ تهوَّدوا على يد حاخامات غير أرثوذكس باعتبار أنهم يهود.

وهناك حالات قامت فيها المحاكم الحاخامية بالتشكيك في يهودية بعض ضحايا الإبادة النازية الذين استقروا في إسرائيل، بل وهناك حالة قامت فيها السلطات الدينية بالرجوع إلى الأرشيف النازي للتأكد من هوية أحد اليهود.

وكأن مشاكل الهوية لا تنتهي، فقد طُرحت القضية من جديد وبحدة بالغة في فبراير 1988، حين حضر يهوديان اسمهما جيري وشيرلي بيرسفورد، ينتميان إلى جماعة دينية مسيحية تبشيرية اسمها رامات هاشارون، ويشبه وضعهما وضع الأخ دانيال من بعض الوجوه، ويختلفان عنه من البعض الآخر. فهما يهوديان بالمعنى الإثني وهما يؤمنان بالمسيح، تماماً مثل الأخ دانيال، ولكنهما يختلفان عنه في أنهما لم يتنصرا، أي لم يعتنقا الديانة المسيحية. ولا يبيِّن المصدر ما معنى هذه العبارة، وإن كان من الواضح أنها تعني أنهما آمنا بأن عيسى هو المسيح أو الماشيَّح المُنتظَر دون الإيمان ببنوته للرب.

وقد طُرح حل صهيوني للمشكلة باعتبار أن قانون العودة قانون سياسي صهيوني لمن يشاء، وقانون ديني لمن يشاء، ويمكن لكل فريق أن يفسره بالطريقة التي يراها، على أن تحتفظ السلطة الأرثوذكسية بسلطتها كاملة في أمور الأحوال الشخصية وفي عمليات التهويد التي تتم داخل إسرائيل. وتحاول بعض الأحزاب الدينية تَبنِّي موقف مماثل، لكنهم بدلاً من المطالبة بتغيير قانون العودة يطالبون بتغيير قانون المحاكم الحاخامية بحيث يصبح من صلاحياتها أن تقرر من هو اليهودي ومن هو غير اليهودي، بدلاً من وزارة الداخلية. وفي هذه الحالة، سيمكنها أن تسقط صفة اليهودية عن الحاخامات الإصلاحيين والمحافظين. ولكن جماعة حبد الأرثوذكسية ترفض مثل هذا الحل.

وفي تَصوُّرنا أن أزمة الهوية اليهودية ستتعمق ولن تُحسَم في المستقبل القريب لأسباب عديدة تتصل بالتطورات داخل المُستوطَن الصهيوني وخارجه. أما داخل المُستوطَن الصهيوني، فقد لوحظ، على عكس ما تَوقَّع المفكرون الصهاينة، أن التطورات والآليات الاجتماعية لم تؤد إلى صهر العناصر اليهودية الدينية واللادينية والإشكنازية والسفاردية وغيرها، وإنما ازدادت الصورة استقطاباً وتطرفاً. وإذا ما ركزنا على الجانب الديني مقابل العلماني، نُلاحظ ظهور هوية يهودية جديدة بالإضافة إلى عدم التجانس، وهي هوية الصابرا من الإشكناز التي يتسم أصحابها بسمات خاصة، كمعاداة العقل والفكر وحب العنف والتحلل من القيم الأخلاقية، بل إنهم يكنون احتقاراً عميقاً ليهود المنفى، أي يهود العالم كله (وقد كان المؤمَّل في الصابرا أن يكونوا الترجمة العملية لليهودي الخالص). وإلى جانب ذلك، يُلاحَظ تَزايُد معدلات العلمنة في التجمع الصهيوني (الذي وصفه أمنون روبنشتاين بأنه من أكثر المجتمعات إباحية على وجه الأرض). وبحسب بعض الإحصاءات، يبلغ عدد المواطنين الذين لا يؤمنون بالخالق 80% من كل الإسرائيليين. وهؤلاء ينظرون إلى الشعائر الدينية باعتبارها فلكلوراً قومياً. وتُعدُّ الأعياد الدينية بالنسبة إليهم أعياداً قومية، والعبرية ليست لغة الصلاة (اللسان المقدَّس) وإنما هي لغة البيع والشراء والجماع. وقد أصبح يوم السبت، وهو يوم راحة وتَعبُّد من الناحية الدينية، يوم صخب ولهو في الدولة التي يُقال لها «يهودية». ولا يراعي كثير من الإسرائيليين قوانين الطعام الشرعي، ويُقال إن نصف اللحم المستهلك في إسرائيل من لحم الخنزير.

لكل هذا، حينما عُرضت قضية جيري وشيرلي بيرسفورد على الرأي العام الإسرائيلي، قال 78% منهم إنه يجب منحهما الجنسية الإسرائيلية إن كانا صهاينة، وعلىاستعداد لأن يرتبطا بالمصير اليهودي. ومعنى هذا أن الإسرائيليين استخدموا معياراً قومياً لا دينياً صرفاً، ولو تم الأخذ به سيظهر نوع جديد من اليهود الذين يؤمنونبالمسيح عيسى بن مريم، ولأصبح الأخ دانيال يهودياً برغم حكم المحكمة العليا.

مقابل هذا التعاظم في معدلات العلمنة، هناك تعاظم أيضاً في النزعة الدينية يتضح في هجوم المؤسسة الدينية على الصور والمظاهر الإباحية في إسرائيل، وإصرارها على إقامة شعائر السبت، وفي إصرارها على تعديل قانون العودة. وينعكس هذا الاستقطاب القومي في واقعة حرق اللادينيين معبداً يهودياً احتجاجاً على نشاط المتدينين. ويتضحالاستقطاب أيضاً في ظهور عاصمتين للتجمع الصهيوني؛ إحداهما علمانية تماماً في تل أبيب، والأخرى في القدس يتزايد فيها نفوذ الأرثوذكس. وفي مثل هذا الإطار، يصبح الإجماع القومي، أو حتى الهدنة الاجتماعية القومية بشأن تعريف الهوية اليهودية، أمراً مستبعداً. ومما يعمق المشكلة أن ثمة استقطاباً مماثلاً يحدث بين يهود العالمالذين تزداد بينهم معدلات العلمنة والزواج المُختلَط.

ويُلاحَظ أن مشكلة السفارد قد ازدادت تفاقماًً، خصوصاً مع ازدياد عددهم وازدياد ثقتهم بأنفسهم. فالتجمع الصهيوني يعتبرهم يهوداً وحسب ماداموا في بلادهم، وهذا جزء من حملته الإعلامية، ولكنهم يصبحون يهوداً شرقيين فور وصولهم إلى إسرائيل، إذ أن التجمع الصهيوني يحتاج إليهم باعتبار أنهم مادة بشرية قادرة على حل أزمة المصادر البشرية التي يعاني منها، وعلى العمل في قاعدة الهرم الاقتصادي الإنتاجية. لكن إصرار السفارد على الحراك الاجتماعي، باعتبارهم يهوداً بشكل عام، سيجعلهم يشغلون الدرجات العليا من الهرم، ويتركون قاعدته خالية يشغلها العرب. وبهذا تشتبك مشكلة الهوية مع واحدة من أعمق مشكلات التجمع الصهيوني،وهي مشكلة الإنتاجية،خصوصاً أن الصهاينة يدَّعون أن اليهودي الجديد شخصية منتجة على خلاف يهود المنفى الهامشيين المرابين.

وقضية الهوية اليهودية قضية محورية. فالدولة الصهيونية تكتسب شرعيتها، أمام نفسها وأمام الكثيرين، من ادعائها أنها دولة يهودية، لكن استمرار تَفجُّر هذ القضية يقوض دعائم هذه الشرعية. كما أن تعديل قانون العودة سيؤدي إلى استبعاد ما يقرب من 80% من يهود العالم (وربما أكثر) ممن يُعرِّفون اليهودي على أسس دينية ذاتية أو علىأسس إصلاحية ومحافظة ولا يقبلون اليهودية الأرثوذكسية.

ومن القضايا الأخرى المرتبطة بقضية «من هو اليهودي؟» قضية «من هو الصهيوني؟»، وهل هو اليهودي الذي يهاجر إلى إسرائيل، أي من يمارس الصهيونية الاستيطانية أم اليهودي الذي يدعم المستوطن الصهيوني دون أن يهاجر ويكتفي بالصهيونية التوطينية؟ وهي قضية تمس الهوية ولكنها لا تصل في عمقها إلى قضية «من هو اليهودي؟».

وكل هذه العناصر والتوترات والتناقضات تجعل من العسير على اليهود أنفسهم تصديق مقولة الشعب اليهودي الذي يتجاوز الأزمنة والأمكنة والذي يحمل داخله جوهراً يهودياً. فقد أثبت الواقع العملي أنه لا يوجد جوهر واحد، بل هي سمات عديدة متنوعة بتنوع التشكيلات الحضارية والتاريخية التي يتواجد فيها اليهود. وقد أثُيرت القضية مرة أخرى مع وصول المهاجرين اليهود السوفييت. وكما بيَّنت المؤسسة الدينية، فإن معظمهم ليسوا يهوداً، فهم إما من أصل مسيحي تزوجوا من يهود أو هم من مدعي اليهودية. بل واتضح أن اليهودية بالنسبة لليهودي منهم لا تمثل سوى أصداء خافتة للغاية. ومع هذا، رحبت المؤسـسة الصهيونية بوصـولهم، فهي في حاجة ماسـة للمادة الاستيطانية. والحاجة نفسها هي التي تُفسِّر الترحيب بالفلاشاه موراه (وهم أشباه يهود تَنصَّروا بكامل إرادتهم منذ قرنين من الزمن). وكل هذه المؤشرات تدل على أن المؤسسة الصهيونية، نظراً لحاجتها للمادة البشرية الاستيطانية، قد تجعل من اليهودية قشرة رقيقة للغاية (مثل الانتماء المسيحي في جنوب أفريقيا) إذ أن المطلوب هو مادة استيطانية غير عربية يضمن الكيان الصهيوني لنفسه الاستمرار من خلالها.

الأخ دانيـــــال (1922 ( –

Brother Daniel

راهب كاثوليكي وُلد لأبوين يهوديين، وكان يُدعَى عند مولده أوزوالد روفايزين. لجأ إلى دير كاثوليكي أثناء الاجتياح النازي لبولندا، ثم اعتنق المسيحية وعُمِّد وأصبح راهباً من الطائفة الكرملية. وفي عام 1958، أُرسل إلى دير جبل الكرمل في حيفا. وعند وصوله إلى إسرائيل، طلب منحه الجنسية الإسرائيلية بمقتضى قانون العودة الذي يُعرِّف اليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية (دون إشارة إلى العقيدة). وقد بيَّن الأخ دانيال أنه إذا كان الشرع اليهودي يعترف بالملحد يهودياً، فمن باب أولى أن يعترف بالكاثوليكي يهودياً! وعندما رفضت وزارة الداخلية طلبه، رفع قضية في المحكمة العليا التي أيَّدت قرار وزارة الداخلية (خمسة أصوات ضد أربعة). وفي حكمها، اعترفت المحكمة بأن الشريعة اليهودية تُعرِّف اليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية وأن المرتد عن اليهودية يظل يهودياً، ولكنها بينت أن قانون العودة قانون علماني، ومن ثم يجب تفسيره بما يتفق مع الفهم العام للكلمة، ولذا فالكلمة لابد أن تُفهَم بالطريقة التي يفهمها بها المواطن العادي، الذي يرى أن كون الإنسان يهودياً يتعارض مع الإيمان بعقيدة أخرى. ويستند هذا المعنى العادي اليومي، في تَصوُّر المحكمة، إلى التاريخ اليهودي والأهداف الصهيونية والرغبة الجماعية في الإبقاء على الصلة بين إسرائيل ويهود العالم (الدياسبورا). وقد عُدِّل قانون العودة بعد ذلك ليصبح تعريف اليهودي «من وُلد لأم يهودية ولم يَتبنَّ عقيدة أخرى». وقد حصل الأخ دانيال على الجنسية بمقتضى قانون التجنيس، وهي عملية لا تستند إلى قانون العودة.

وقد أدَّت حادثة الأخ دانيال إلى طرح قضية «من هو اليهودي؟» وهي قضية لم تجد حلاًّ حتى الوقت الحالي. ولعل الذين أثاروا قضية الأخ دانيال لم يدركوا أن الفيلسوف « اليهودي » ليف شستوف والمفكرة الدينية « اليهودية » إتي هلسوم والروائي «اليهودي» بوريس باسترناك كلهم كانوا يؤمنون بالمسيحية أو كانوا يؤثرونها كنسق ديني على اليهودية، ومع هذا تظهر أسماؤهم في الموسوعات اليهودية باعتبارهم يهوداً.

إديث شتاين (1891-1942(

Edith Stein

مساعدة الفيلسوف الألماني هُسرل. وُلدت لأم يهودية أرثوذكسية لم توفر تعليماً دينياً لأولادها، ولذا ألحدت إديث وهي في سن صغيرة. ثم قرأت السيرة الذاتية لحياة سانت تيريزا، وتأثرت بها تأثراً عميقاً، فتكثلكت وغيرت اسمها إلى تيريزيا بنديكتا. ويبدو أنها كانت تشير إلى نفسها على أنها يهودية (بمعنى أن اليهودي هو من وُلد لأم يهودية). وقد قبض عليها الجستابو عام 1942 وماتت في أوشفتس بعد ثمانية أيام من القبض عليها.

وقد أعلنت الكنيسـة الكاثوليكية عـام 1990 أن إديث شـتاين قديسة، فثارت ثائرة المؤسسة اليهودية لأن هذا ـ من وجهة نظرهم ـ يُعَدُّ محاولة للاستيلاء على أوشفتس باعتبارها رمزاً يهودياً (يحتكره اليهود وحدهم). كما أن المؤسسة اليهودية أشارت إلى أن إديث شتاين تم القبض علىها لأنها يهودية. والطريف في الموضوع أن الأخ دانيال، وهو يهودي تكثلك (تماماً مثل إديث شتاين)، وذهب إلى إسرائيل باعتباره يهودياً وطالب بالحصول على الجنسية الإسرائيلية حسب قانون العودة ورُفض طلبه. فكأن المؤسسة اليهودية في العالم الغربي هي التي تقرر من هو اليهودي، دون الالتزام بأية معايير إلا مصالحها وأهوائها.

استجابة أعضاء الجماعات اليهودية للتعاريف الصهيونيـة للهويات اليهودية

Response of the Members of the Jewish Communities to the Zionist Definitions of Jewish Identities

طرحت الصهيونية (في صيغتها اللادينية) نفسها كحركة لتطبيع اليهود، وطرحت مفهوم «اليهودي الخالص» صاحب الهوية اليهودية الحقيقية ليحل محل «يهودي المنفى» الذي يخفي هويته ويتقمَّص هوية الآخرين. والدولة الصهيونية التي يُقال لها «يهودية» ستكون هي المسرح الذي تتحقق عليه هذه الهوية. وقد قبل بعض الصهاينة الدينيين المشروع الصهيوني وتحالفوا مع اللادينيين على أمل أن تُتاح لهم الفرصـة بعـد ذلك أن يفرضوا رؤيتهم الدينية بحيث يصـبح «اليهودي الحقيقي » هو اليهودي حسب التعريف الأرثوذكسي. وقد أدَّى هذا إلى توترات عميقة بين الدولة الصهيونية من جهة والجماعات اليهودية في العالم، بكل ما تتسم به من تنوُّع وعدم تجانس، من جهة أخرى.

والصهيونية، كما بيَّنا، ترى أن الهوية اليهودية خارج المُستوطَن الصهيوني هوية ناقصة مريضة يجب إلغاؤها، وهذا ما يُسمَّى «نفي الدياسبورا» في المصطلح الصهيوني (أي تصفية الجماعات اليهودية أو استغلالها). وقد نجم عن ذلك صراع حاد بين أعضاء الجماعات اليهودية والمُستوطَن الصهيوني، إذ أن أعضاء الجماعات يرون أن هويتهم، أو هوياتهم اليهودية، ليست مريضة وإنما هي جديرة بالحفاظ عليها وتنميتها، في حين تحاول المؤسسة الصهيونية أن تقلل من شأنها وأن تجعل منها وقوداً يغذي الدولة الصهيونية. ولذا، فهي تجعل من الهجرة إلى فلسطين المحتلة والاستيطان فيها، المعيار الوحيد لتقييم مدى صهيونية اليهودي ومدى يهوديته. وهذه المشكلة تنفجر دائماً داخل المؤتمرات الصهيونية وخارجها.

1 ـ وانطلاقاً من المفهوم الصهيوني للهوية اليهودية الحقيقية، تتصرف الدولة الصهيونية أحياناً بطريقة لا تخدم صالح أعضاء الجماعات اليهودية وإنما تخدم مصالحها هي على حسابهم. وربما تكون حادثة بولارد نقطة مهمة في هذا الصراع، فهي تمثل تصادماً بين رؤيتين للهويـة: واحدة صهيونية والأخرى أمريكية يهودية. فتذهب الرؤية الصهيونية إلى أن الأمريكي اليهودي يهودي أولاً وأخيراً، ولذا لابد أن يخدم الدولة الصهيونية، في حين تذهب الرؤية الأمريكية اليهودية إلى أن الأمريكي اليهودي هو أمريكي في المقام الأول وله مصالح تختلف عن مصالح الدولة الصهيونية.

2 ـ عندما ينظر يهود العالم، خصوصاً المتدينين منهم، إلى الدولة التي يُقال لها «يهودية»، يكتشفون أن هويتها وهوية سكانها ليست يهودية على الإطلاق. فمعدلات العلمنة عالية للغاية بين الإسرائيليين، وهو الأمر الذي يصدم الزوار اليهود للدولة الصهيونية الذين يهربون من مجتمعاتهم الاستهلاكية ويحضرون إلى إسرائيل فيفاجأون بمجتمع إباحي مفتوح أكثر علمانية من المجتمعات غير اليهودية التي تركوها وراءهم. والواقع أن المجتمع الإسرائيلي بدأ، منذ السبعينيات، يتوجه توجهاً استهلاكياً حاداً لا يضبطه أي ضابط أخلاقي أو حضاري أو عقائدي. وهذه التساؤلات ليست مقصورة على المتدينين، فاليهود اللادينيون، أو المندمجون الذين لا يقيمون شعائر دينهم، يحاولون التمتع بشيء من الهوية والتجربة الدينية عن طريق إسرائيل. فبرغم أنهم يتمتعون تماماً بالاستهلاك والحضارة العلمانية في بلادهم، فإنهم يذهبون إلى إسرائيل ويدفعون لها الإعانات ليعيشوا تجربة دينية قومية (ولو بشكل مؤقت، وكأن إسرائيل ديزني لاند يهودية، على حد قول أحد الحاخامات). ولكن العلمانية الصريحة للدولة اليهودية تحرمهم من هذه المتعة وتلك الإثارة.

3 ـ كما يسأل اليهود المتدينون: بأي معنى يمكن إطلاق تسمية الدولة الصهيونية على الدولة اليهودية وهي تُسوِّي كل خلافاتها مع الآخرين عن طريق العنف العسكري ولا يمكن محاكمتها بمعايير أخلاقية يهودية؟ كما أن الطريقة التي يتم بها قمع الانتفاضة يصعب تسميتها «يهودية» مهما تحلى الإنسان بالكرم والخيال.

4 ـ يشكو اليهود المتدينون من أن التعريف الصهيوني للهوية اليهودية قد صادر الرموز والمصطلحات الدينية، بحيث يتصور كثير من اليهود الآن أن اليهودية والصهيونيةأمران مترادفان، وأن المرء يمكنه أن يحقق هويته اليهودية عن طريق التبرع للدولة الصهيونية وعن طريق شراء سندات إسرائيل. وكما قال الحاخام ألكسندر شندلر: «يتصور بعض اليهود الآن أن إسرائيل هي معبدهم اليهودي وأن رئيس وزرائها هو حاخامهم الأكبر».

ولكن نقطة الاشتباك الكبرى بين أعضاء الجماعات والدولة الصهيونية هي في مجال تعريف هوية اليهودي والمعيار المُستخدَم في هذا التعريف، إذ تُصرُّ المؤسسة الدينية، مُمثَّلة في أحزابها الدينية، على تَبنِّي تعريف أرثوذكسي. وقد حدثت مواجهة سريعة بين يهود العالم والمؤسسة الدينية في حالة يهود الهند (بني إسرائيل) في الخمسينيات، وفي حالة يهود الفلاشاه في الثمانينيات، ومع القرّائين والسامريين عبر كل هذه السنوات. وكان جوهر المواجهة دائماً هو إصرار المؤسسة الدينية على التمسك بتعريفها لليهودي، والذي يستبعد أعضاء هذه الجماعات. وقد حُسمت هذه المواجهات إما بتهود أعضاء هذه الجماعات مرة أخرى حسب الشريعة، وإما بتراجعهم وقبولهم مرتبة ثانوية في الهرم الديني اليهودي. كما أن المؤسسة أبدت من جانبها شيئاً من المرونة تجاههم. ولكن كل هذه المواجهات كانت مع جماعات صغيرة لا نفوذ لها انفصلت منذ قرون طويلة عن اليهودية الحاخامية، ولذا لم تتسبب المواجهة في تفجير أزمة عامة ذات أثر عميق. أما المواجهة مع يهود الولايات المتحدة وروسيا وأوكرانيا وغيرهم من الجماعات اليهودية بشأن الموضوع نفسه، فهي مواجهة مهمة وعميقة لها أعمق الأثر في كل من الدولة الصهيونية وأعضاء الجماعات.

ولنفهم مدى عمق هذه المواجهة، لابد أن نتناول وضع الجماعات اليهودية في العالم. فلو نظرنا إلى الهويات اليهودية في أنحاء العالم الغربي خصوصاً في الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي حيث يتركز معظم يهود العالم لوجدنا أن ثمة هويات متعددة غير متجانسة مندمجة في مجتمعاتها تتفاعل معها بحيث أصبح الإطار المرجعي لهويتهم وأساسها هو تجربتهم التاريخية في أوطانهم وليس التعريف الصهيوني أو اليهودي وإن كان ثمة عنصر مشترك بينها فهو المرجعية العلمانية النهائية التي أدَّت إلى ظهور «الهوية اليهودية الجديدة» فهوية يهود أمريكا على سبيل المثال هوية أمريكية ذات أبعاد إثنية دينية يهودية هامشية والحديث الصارخ عن بعث الإثنية في الولايات المتحدة والتمسك بها إنما هو من قبيل الادعاءات اللفظية المريحة للغاية. فمفهوم الهوية في الإطار الأمريكي لا يختلف أبداً عن مفهوم الدين، وكل من الدين والهوية شيئان يمكنتَقبُّلهما شريطة أن يتم تهميشهما حتى لا يتعارضا مع أداء اليهودي في رقعة الحياة العامة ولا يهددا الانتماء إلى المجتمع الأمريكي. ولكن إذا استبعدنا الهوية والدين من الحياة العامة ومن الإحساس بالانتماء، فلا يبقى شيء سوى زخارف أو تسلية تُمارس في أوقات الفراغ من آونة لأخرى، ولا تشكل بعدًا حقيقيا في بناء شخصية المرء ولا في رؤيته للكون.

الصفحة التالية ß إضغط هنا