المجلد السادس: الصهيــونيــــة 9

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

هـــــرتزل والصهيونيتــــان

Herzl and the Two Zionisms

تتبدَّى براعة هرتزل لا في تطويره الخطاب الصهيوني المراوغ وحسب، ولا في اكتشافه حتمية الاعتماد على الإمبريالية فقط، وإنما في اكتشافه منذ البداية نظرية الصهيونيتين. وقد اكتشف هرتزل الصهيونيتين لأنه صهيوني يهودي غير يهودي ينظر إلى اليهود من الخارج، باعتبارهم مادة بشرية مستهدفة، ولكنه ينظر أيضاً إليهم من الداخل باعتبـارهم كياناً بشرياً يحتاج لأن يجد معنى لحياته وأفعـاله.

وقد توجَّه هرتزل للطرفين: يهود الغرب المندمجين التوطينيون، ويهود اليديشية الاستيطانيين. ولكنه واجه متاعب مع الطرفين في طرح حله الصهيوني لأسباب مختلفة:

1 ـ يهود اليديشية:

يشير هرتزل إلى "هؤلاء المسجونين دوماً، الذين لا يتركون سجنهم برضا". والمسجونون هم يهود اليديشية. والواقع أن مسألة يهود شرق أوربا كانت مسألة متشعبة ومتشابكة، ويمكن تقسيمها إلى قسمين؛ المشكلة الاقتصادية والمشكلة الثقافية أو الإثنية:

أ) المشكلة الاقتصادية: كان الحل الذي طرحه هرتزل بالنسبة للشق الاقتصادي بسيطاً وهو تحويل الطبقة المضطهدة (أي الجماعات الوظيفية) إلى أمة عن طريق تهجير الفقراء الفائضين، وإتاحة فرص الحراك الاجتماعي أمامهم. ويؤكد هرتزل أن الصهيونية لن تعود بالمستوطنين إلى مرحلة متأخرة، إنما سترتفع بهم إلى مرحلة أعلى "لن نفقد ما نملك إنما سنحافظ عليه... لن يغادر إلا أولئك الذين ستتحسن أوضاعهم بالهجرة... سيذهب أولاً أولئك الذين هم في حالة يأس ثم يتبعهم الفقراء، وبعدهم يذهب الأغنياء. إن الذين يذهبون أولاً سيرفعون أنفسهم إلى مرتبة توازي مرتبة الذين سيلحقون بهم من الأغنياء. وهكذا فإن الخروج سيكون طريقاً للرقي الطبقي"، أي أن جماهير البورجوازية الصغيرة اليهودية في شرق أوربا الذي أدَّى تَعثُّر التحديث إلى القضاء على فرصها في الحراك، سيمكنها مرة أخرى أن تحقق أحلامها عن طريق المشروع الصهيوني. وهناك الكثيرون من الثوريين في صفوف يهود الشرق، ولهذا فإن هرتزل قد وَعَد بتسريب هذه الطاقة الثورية. ولعل فَتْح أبواب الحراك الاجتماعي هو في حد ذاته جزء من عملية التسريب هذه، كما أن عملية نَقْل العنصر الثوري من مجتمعه وطبقته إلى مجتمع جديد ستؤدي إلى تقويض التطلعات الثورية.

ب) مشكلة الإثنية: لعل مواجهة هرتزل مع المدافعين عن الخطاب الإثني (الديني أو العلماني) كانت من أعمق المواجهات. كان هرتزل يرى أن الانتماء اليهودي (يهودية اليهود) مسـألة مفروضـة عليهم من قبَـل أعدائهم، ولذا فهي مسألة فارغة تماماً؛ شكل من أشكال الغياب، وليست تعبيراً عن ثقافة يهودية، فمثل هذه الثقافة ـ حسب تصوُّره ـ غير موجود إطلاقاً. ولذا، فإن الحل الصهيوني بالنسبة إليه ليس مسألة حفاظ على التقاليد أو تعبير عن هوية بقدر ما هو حل لمشكلة اجتماعية تفاقمت عن طريق الصيغة الاستعمارية وهي نَقْل اليهود خارج الغرب، ولا يهم إن كان نَقْلهم إلى فلسطين أم إلى الأرجـنتين. أما بالنسـبة للــغة الدولة، فلكل مواطن أن يتحدث بلغته. وقد لاحظ أحد أعضاء أحباء صهيون (بعد المؤتمر الأول) أن ثمة خيطاً رفيعاً يفصل حزب هرتزل عن حزبه، فالأول كان لا يطلب سوى إفراغ أوربا من اليهود لوضع نهاية لمعاداة اليهود، بينما كان الثاني يرغب في تأسيس مُستوطَن إرتس يسرائيل ليعبِّر عن الأشكال الإثنية التي عرفوها في شرق أوربا. وقد فرَّق وايزمان بين الصهيونية كحركة إنقاذ (ويمكن أن نسميها أيضاً حركة إفراغ) والصهيونية كحركة تعبير عن الذات. وقد رأى المدافعون عن الصهيونية الإثنية أن هرتزل قد أهمل الجانب التعبيري عن الصهيونية، أي أهمل الإثنية اليهودية.

ولكن هرتزل في الواقع لم يهمل شيئاً، فصيغته المراوغة تسمح بامتصاص أي شيء. ومن هنا كانت أهمية سطحيته وهامشيته في صياغة الحل الصهيوني المقبول للجميع، فحينما كان يتناول قضية مصيرية (على الأقل من وجهة نظر يهود الشرق)، مثل موقع الوطن المقترح، فإنه يتحدث عنها كما لو كانت مسألة عابرة تفصيلية (بسبب خلفيته الغربية غير اليهودية) "أيهما أفضل، فلسطين أم الأرجنتين؟ ستأخذ جمعية اليهود ما يُعطَى لها [من الدول الغربية كما حدث في مشروع شرق أفريقيا] وما يفضله الرأي العام اليهودي. ستقرر الجمعية كلاًّ من هذين الأمرين". وقد ترك هنا مشـكلة الإثنية برمتـها مفـتوحة، فهــي في الواقـع أمر لا يعنيه كثيراً. ولكنه صحفي قادر على كتابة تقارير تتسم بالذكاء وإن كانت لا تتسم بالعمق، وحين يتحدث عن أهمية فلسطين يقول هرتزل "إنها وطننا التاريخي الذي لا يمكننا نسيانه، ومجرد الاسم هو صرخة جامعة عظيمة". ولكنه لا ينسى الأرجنتين، فهي من أخصب بلاد العالم وتمتد فوق مساحات شاسعة، سكانها غير كثيفين، كما أن مناخها معتدل.

إن الصيغة المقترحة صيغة منفتحة جداً، تركت المجال مفتوحاً لأي شكل من أشكال الإثنية العلمانية أو الدينية أو رفض الإثنية، دينية كانت أم علمانية. ومما سهل الأمور أن الصهيونية الإثنية لا تكترث كثيراً بالنشاطات السياسية أو الاقتصادية أو الاستيطانية، ويقتصر نشاطها على أشكال التعبير، ولذا فإن دعاتها لم يطرحوا برنامجاً سياسياً أو اقتصادياً محدداً. وقد قال آحاد هعام ذات مرة: "إن خلاص إسرائيل سيأتي من خلال الأنبياء وليس من خلال الدبلوماسيين الذين يتفاوضون مع القوى الاستعمارية"، وهي عبارة مضحكة تنم عن جهل المفكر الصهيوني بأبعاد المشروع الصهيوني. فإسرائيل التي يتحدث عنها ليست إسرائيل التي كان يبشر بها هرتزل أو التي يمكن أن تساعد الإمبريالية على بنائها، ولذلك فقد اكتسحه هرتزل تماماً، واضطر هو في نهاية الأمر أن يلحق بالحركة التي أسسها الصحفي النمساوي وأن يقوم بجهود دبلوماسيةاستعمارية (لا علاقة لها كثيراً بالأنبياء أو حتى الكهنة) وذلك أثناء وجوده في لندن. وفي نهاية الأمر، قدَّم هرتزل لأصحاب الخطاب الإثني أو الصهيونية الإثنية فكرة دولة اليهود، أي الدولة الجيتو.

والواقع أن عبارة «دولة اليهود» (يودين شتات) نفسها كانت تُطلَق على الجيتو في مدينة براغ. وبهذا الشكل، قدَّم لهم هرتزل الإطار الذي يمكن أن تتحقق من خلاله إثنيتهم، وفي هذا إشباع لبعض طموحاتهم.

وفكرة الدولة نفسها تتضمن فكرة الشعب العضوي الذي له إثنيته العضوية المستقلة التي تحتاج إلى إطار مستقل للتعبير عنها. وهي على أية حال فكرة مُتضمَّنة في الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة التي كان يتحرك في إطـارها العـالم الغـربي وكـذلك هرتـزل.

وماذا عن الدين اليهودي؟ لقد فَقَد هرتزل علاقته بالدين اليهــودي وبقىت لديه (في خطـابه) بضعة مصطلحات مثل «الخـروج»، وبضع إشارات مثل «الماشيَّح». ومعهذا، لم يُغلق هرتزل الباب، بل تركه مفتوحاً للإيمان الديني مثلما تركه مفتوحاً أمام الإثنية، ولذا كان دائماً يحاول أن يخطب ود الحاخامات ويقوم ببعض الشعائر دون أن يفهم معناها، كما كان يستخدم ديباجات دينية أحياناً. بل قد كُشف النقاب عن اتصال هرتزل بالحاخام فيشمان (ميمون فيما بعد) عام 1902 لحثه على إنشاء حزب ديني صهيوني ليوازن العصبة الديموقراطية التي اعترضت على أسلوبه في إدارة المنظمة.

وقد اتصل فيشمان بالحاخام إسحق راينس وتم تأسيس حركة مزراحي بناءً على هذه الاتصالات. ودفع هرتزل تكاليف المؤتمر الذي أُسِّست فيه حركة مزراحي من ماله الخاص. وقد نجح دعاة الصهيونية الإثنية في إسقاط ديباجاتهم الحلولية العضوية على الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة فقاموا بتهويدها، الأمر الذي يسَّر للمادة البشرية المُستهدَفة استبطانها حتى نسى الجميع أصول الصيغة الصهيونية البروتستانتية والعلمانية التي أصبحت صيغة يهودية قلباً وقالباً.

2 ـ يهود الغرب المندمجون:

واجه هرتزل بعض المتاعب مع يهود الغرب المندمجين. فلم تكن لديهم مسألة يهودية ولكنها عاودت الظهور مع هذا، لا نتيجة تطورات سلبية داخل مجتمعاتهم وإنما بسبب وصول جحافل يهود الشـرق، وهو ما نَجَم عنه التشــابك بين المندمـجين والمنبوذين. ولهذا، فقد اضطر يهود الغرب إلى التنازل الجزئي وليس الكلي عن قيمهم الاندماجية إذ قَبلوا فكرة فشل المُثُل الاندماجية والليبرالية لا بالنسبة لأنفسهم وإنما بالنسبة ليهود الشرق. ولهذا قرروا تقديم يد العون للبؤساء من الشرق، ولكنه عون كان في إطار الصدقات وحسب وخارج أية أطروحات قومية أو أي حديث عن حركة منظمة أو دولة وظيفية، ولذا رفض هؤلاء الأثرياء هرتزل في بداية الأمر. ولكن يهود الشرقاستمروا في المجيء بأعداد متزايدة، الأمر الذي زاد تشابكهم وتوترهم. وقد تنبَّه هرتزل لذلك الوضع وذكَّرهم بأن صهيونيتهم الخيرية (التوطينية) هي في واقع الأمر ضداليهود المضطهدين وليس من أجلهم، ولسان حاله يقول "تخلَّصوا من المعوزين بأسرع ما يمكن". وهو يزيل عنهم الحرج بخطابه الزلق المراوغ، ويخبرهم بأنه سيفعل ذلك بالضبط، أي أنه سيخلصهم من المعوزين وبطريقة منهجية لن تهدد مواقعهم وانتماءاتهم "فمن يرغب أن يبقى فليبق، ومن يريد الذهاب معنا فلينضم لرايتنا". ولن يهاجر اليهود جميعاً "فهؤلاء الذين يستطيعون أو الذين يرغبون في أن يندمجوا فليبقوا أو يندمجوا، بل إن الحل الصهيوني سيساعدهم على مزيد من الاندماج لأنهم لن يتعرضوا بعد ذلك إلى ما يزعج عملية تلوُّنهم (كما يقول داروين) بلون المحيط الذي سيندمجون فيه بسلام. وسيُصدِّق المجتمع اندماجهم، وذلك إذا ما فضلوا البقاء فيه حتى بعد قيام الدولة اليهودية". فالصيغة الصهيونية ليست صيغة شمولية كاسحة وإنما هي صيغة مراوغة قادرة على إفراز ما يراد منها "فإذا اعترض أحد يهود فرنسا [أو حتى كل يهود فرنسا] على هذه الخطة لأنهم قد اندمجوا. فردي عليهم بسيط: إن الأمر لا يعنيهم. إنهم إسرائيليون فرنسيون"، فهذا الأمر (الصهيوني القومي) ليس إلا مسألة خاصة بالفائض البشري اليهودي (من يهود اليديشية)

بل إن الصهيونية أخذت خطوة ما كان يحلم بها يهود الغرب المندمجون وهي أنها وعدت بتطبيع اليهود (على حد قول نوردو)، أي وسمهم بميسم غربي وتحويلهم إلى شخصيات مفيدة منتجة لا تسـبب الحـرج ليهـود الغـــرب، وهذا شكل من أشكال الدمج والصهر. وأكثر من ذلك أنه إذا كان هرتزل قد أعلن فشل الاندماج على مستوى الأفراد في الشرق، فقد بيَّن بما لا يقبل الشك أنه فعل ذلك صاغراً. وأنه سيُوطِّن هؤلاء الفائضين في دولة اليهود التي ستكــون دولة عـادية تندمج تماماً في عالم الأغيار مع غيرها من الدول. وهكذا، سيحقق يهود شرق أوربا المتخلفون الفائضون، عن طريق التشكيل الاستعماري الغربي، ما فشلوا في تحقيقه عن طريق التشكيل الحضاريالغربي.

والصهيونية ستُنقذ يهود الغرب من جحافل يهود اليديشية ولكنها لن تطالبهم بالهجرة ولن تَفرض عليهم هم الشعارات القومية رغم أنها ستطالبهم بدعم المشروع الصهيوني بالمال والنفوذ. ولكن المشروع الصهيوني جزء من المشروع الاستعماري الغربي والغرب هو مصدر السيادة، ولذا فـإن دعـم اليهودي الغربي للمشروع الصهيوني لنيتناقض مع ولائه لوطنه، لأن الولاء للواحد يعني الولاء للآخر.

والموازنة نفسها التي تؤدي إلى إرضاء الجميع يتسم بها شكل الدولة. فلنأخذ على سبيل المثال قضية السيادة: سيكون الجيب الاستيطاني المُقتَرح دولة ذات سيادة (على الطريقة الغربية) كما كان يتـوق بعـض يهــود اليديشية ممن سيطرت عليهم أفكار القومية العضوية، ولكن مصدر السيادة (كما هو مُتوقَّع) هو الغرب الذي سيرعى الدولة ويحميها، أي أنها ستدور في فلك الغرب، الأمر الذي يَقْبله الغربيون.

وهكذا سيترك اليهود أصدقاء مكرمين (تحت رعاية الدول الغربية). وعندما يعودون لزيارة البلاد التي تركوها، فسوف يستقبلهم أهلها بحفاوة توازي استقبالهم للزوّار الأجانب. وسيتم الاستيطان على النحو التالي: سيذهب أولاً الأكثر فقراً لتأسيس البنية التحتية لزراعة الأرض، سيبنون الطرق والجسور والسكك الحديدية والخطوط اللاسلكية وسيعملون على تنظيم مياه الأنهار ويهيئون لأنفسهم بيوتاً، كل ذلك وفقاً لخطة مدروسة (تضعها جمعية اليهود). وسيؤدي ذلك إلى تجارة، والتجارة تؤدي بدورها إلى أسـواق، والأسـواق تجذب مسـتوطنين جـدداً. وبالتالي، فسوف يتبع المهاجرين الفقراء الأوائل هؤلاء الذين هم أعلى منهم درجة (أي الطبقة الوسطى والمموِّلون)

وهناك قضية تتصل بالتوجه الاقتصادي للدولة، فرغم أن الغرب سيرعى المشروع الصهيوني إلا أنه لن يحسم إلا توجُّهه الإستراتيجي. وسيترك للمنظمة الصهيونية (شأنها شأن شركات الاستعمار الاستيطاني) كامل الحرية في الإشراف على الاستيطان، بكل ما يتطلب ذلك من حرية سياسية واقتصادية، حتى يتمكن المستوطنون من التكيف مع وضعهم الفردي. ولذا فإن وصف هرتزل للعملية الاستيطانية وصف شديد التجرد يتجاوز أية تقسيمات طبقية بل يشمل الجميع.

فهرتزل ـ كما يقول شلومو أفنيري ـ كان ليبرالياً ولكنه في حديثه عن الدولة تخلى عن كثير من مُثُله الليبرالية وتبنَّى مُثُلاً اشتراكية عمالية. ولعل ذلك يعود إلى إدراكه العميق لخصوصية المشروع الصهيوني الذي يهدف إلى تحويل اليهود من طبقة إلى أمة. فمثل هذا التحويل لا يمكن أن يتم من خلال الاقتصاد الحر، ولذا نجده يشير إلى أن ملكية الأراضي في الدولة اليهودية ستكون ملكية عامة، وسيؤجر الفلاحون أرضهم من الصندوق القومي. بل إن عَلَم الدولة اليهودية الذي اقترحه هرتزل علم عمالي صهيوني لونه أبيض "رمزاً لحياتنا الصافية الجديدة، ويتوسطه سبعة نجوم ذهبية رمزاً لساعات العمل السبع. فنحن سندخل أرض الميعاد نحمل شارة العمل".

ويبدو أن هرتزل كان واعياً بأنه بتبنِّيه "المُثُل الاشتراكية" إنما يتبنَّى لغة كان يفهمها شباب اليهود في شرق أوربا، وأنه بذلك كان يكسبهم لصفه، وأنه وضع بذلك إطار التعامل بين المنظمة الصهيونية التي كانت تُوجَد في الغرب الليبرالي من جهة والمستوطنين الذين عليهم أن يتعاملوا مع الظروف الطبيعية القاسية ومع المواطنين الأصليين من جهة أخرى، وهو إطار يفترض أن لكل فريق توجُّهه العقائدي الذي يخدم مصالحه، وأن كل فريق يجب ألا يتدخل في شئون الآخر.

وبهذا، يكون هرتزل قد حدد رقعة كل من التوطينيين والاستيطانيين، وقسَّم العمل بينهم وهدَّأ من روعهم. ولهذا، يحق له أن يقول إنه قدَّم شيئاً يكاد يكون مستحيلاً: "الاتحاد الوطيد بين العناصر اليهودية الحديثة المتطرفة [المندمجون في الغرب والثوريون في الشرق] وبين العناصر اليهـودية المحافظـة [الإثنيون الدينيون والعلمانيون في الشرق]. وقد حدث ذلك بموافقة الطرفين دونما أي تنازل من الجانبين ودون أية تضحية فكـرية"، فالخطـاب المراوغ يسـمح بامتصـاص كل شيء.

هـــرتزل والحركـــة الصهيونيـة

Herzl and the Zionist Movement

طوَّر هرتزل الخطاب الصهيوني المراوغ الذي جعل بالإمكان صياغة العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية بشأن يهود العالم. وأصبحت كل الأطراف جاهزة للتوقيع. ولكن الاستعمار الغربي لا يتعامل مع أفراد، وإنما مع مؤسسات تمثل المادة البشرية المُسـتهدَفة، أي يجب أن يكـون هناك هيكل تنظيمي يمكن توقيع العـقد معـه. وقد اقــترح هرتزل في دولة اليهود إنشاء مؤسستين: جمعية اليهود (بالإنجليزية: سوسياتي أوف ذا جوز Society of the Jews)، والشركة اليهوديـة (بالإنجليزية: جويش كومباني Jewish Company)، وقد أورد هرتزل هذه التسميات الإنجليزية في النص الألماني لكتابه:

أ) جمعـية اليهـود: وهي القـوة الخالقـة للدولة في نَظَر القانون الدولي، وهي القسم الذي يُعنى بكل شيء ما عدا حقوق الملكية. فتَوجُّهها ـ كما يقول هرتزل ـ علمي وسياسي تضطلع بمسئولية الشئون القومية، وتتعامل مع الحكومات وتحصل على موافقتهم على فَرْض السيادة اليهودية على قطعة أرض تدير المنطقة كحكومة مؤقتة (فهي إذن تقوم بالجانب التوطيني والتفاوض مع القوى الاستعمارية)

ب) الشركة اليهودية: وتقوم بتصفية الأعمال التجارية لليهود المغادرين والعمل على تنظيم التجارة والأعمال المتعلقة بها في البلد الجديد. وستكون هذه الشركة هي الشركةاليهودية ذات الامتياز، وستُؤسَّس كشركة مساهمة تُسجَّل في إنجلترا بموجب القانون الإنجليزي وتحت حمايته وتكون خاضعة للتشريع الإنجليزي (أي أنها ستتكفل بالجانبالاستيطاني)

وقد وضع هرتزل أفكاره موضع التنفيذ وعَقَد المؤتمر الصهيوني الأول (1897)، فحضره ما بين 200 و250 مندوباً (وهذه مشكلة خلافية باعتبار أن من الصعب تقرير من حضر كمراقب ومن حضر كمندوب). وكان معظم المندوبين من جمعية أحباء صهيون ونصفهم من شرق أوربا (كان ربع المندوبين من الإمبراطورية الروسية). ولكن حتى الذين أتوا من الغرب كانوا هم أيضاً من أصل أوربي شرقي. أما من ناحية التكوين الطبقي، فقد كان معظم المندوبين من أبناء الطبقة الوسطى المتعلمة وكان ربعهم رجال أعمال وصناعة وأعمال مالية. وأما الفئات الثلاث التالية (وتكوِّن كل منها سدس المشتركين)، فقد كانت من الأدباء والمهنيين والطلبة. كما كان هناك 11 حاخاماً،والباقون من مهن مختلفة. وكان بينهم المتدين وغير المتدين والملحـد، كما كانوا يضمـون في صفوفــهم بعض الاشتراكيين. ولم يكن هناك أي يهودي يتمتع بشهرة عالميةباستثناء نوردو الذي ما لبث أن خبا نجمه بعد ذلك (ومن الجدير بالملاحظة أن مشاهير اليهود في العالم لا يتولون قيادة الجمعيات اليهودية والتنظيمات الصهيونية، الأمرالذي يجعلها تقع في أيدي عقليات لا يمكن وصفها بسعة الأفق أو المقدرة على تجاوز موازين القوى القائمة لاستشراف الأبعاد التاريخية للواقع). وقد حضر هشلر، الواعظالبروتستانتي، هذا المؤتمر.

وأعد هرتزل برنامج المؤتمر، وصمم ماكس بودنهايمر الزعيم الصهيوني الألماني شارته، وهي درع أزرق ذو حواف حمراء كُتبت عليه عبارة: "تأسيس الدولة اليهودية هو الحل الوحيد للمسألة اليهودية"، وفي وسطه أسد يهودا، وحوله نجمة داود واثنتا عشرة نجمة إشارة إلى أسباط إسرائيل. كما تم إصدار طبعة خاصة من مجلة دي فيلت. ووعد رئيس كانتون بازل بأن يحضر أحد اجتماعات المؤتمر. وفي اليوم الذي يسبق المؤتمر، ذهب هرتزل إلى المعبد اليهودي لأداء الصلاة. وقد تم تكريمه بأن طولب بقراءة التوراة، وكان يعرف أن هذا سيحدث، ولذا فقد حفظ في اليوم السابق الدعاء العبري الذي كان عليه أن يلقيه بهذه المناسبة. ودوَّن هرتزل في مذكراته (كملاحظة) أنه يقود جيشاً من الصغار والشحاذين والمغفلين (وهذه هي العبارة التي استخدمها روتشيلد لوصفه حين قابله)

وافتُتح المؤتمر يوم الأحد 29 أغسطس 1897 في صالة الاحتفالات التابعة لكازينو بلدية بازل. وأصر هرتزل أن يرتدي الحاضرون الملابس الرسمية (معطفاً طويلاً ورباط عنق أبيض ربما لتأكيد انتمائهم للحضارة الغربية الحديثة، وابتعادهم عن الجيتو ويهود اليديشية). وألقى نوردو خطاباً وصفه هرتزل بأنه كان المؤتمر، وتم وضع أساس تنظيمي حديث، وأصدر المؤتمر قرارات تُعرَف الآن باسم «برنامج بازل» الذي أصبح الوثيقة النظرية والعملية لأهداف الصهيونية حتى انعقاد المؤتمر الصهيوني الثالث والعشرين (1950)

ولم يكن هناك مفر، بعد تحديد الأطر النظرية والتنظيمية، من تأسيس الأداة التنظيمية التي تتولى تحقيق الأهداف الصهيونية التي جسَّدها برنامج بازل وتكون في الوقت نفسه بمنزلة هيئة رسمية تمثل الحركة الصهيونية في مفاوضاتها مع الدول الاستعمارية الرئيسية آنذاك من أجل استمالة إحداها لتبنِّي المشروع الصهيوني. ولهذه الأغراض، تأسست المنظمة الصهيونية خلال المؤتمر الصهيوني الأول كإطار يضم كل اليهود الذين يقبلون برنامج بازل ويسددون رسم العضوية (شيكل). وقد أُنيطت بالمنظمة مهمة إقامة الدولة الصهيونية لتحقيق الخلاص ليهود العالم أجمع، وانتُخب هرتزل أول رئيس للمنظمة.

وقد اتسع نشاط المنظمة الصهيونية في السنوات القليلة التالية للمؤتمر الصهيوني الأول. ولكي يتَسنَّى لها تنفيذ مخططها الاستيطاني، عملت المنظمة على إنشاء عدد من المؤسسات المالية لتمويل المشروع الصهيوني، وكانت أبرز هذه المؤسسات:

ـ صندوق الائتمان اليهودي للاستعمار. وقد تأسس عام 1899 لتمويل النشاطات الصهيونية الاستيطانية في فلسطين، ولتدبير الموارد المالية التي تحتاج إليها الحركة الصهيونية. وفي عام 1903، أنشأ الصندوق فرعاً مصرفياً في يافا تحت اسم «الشركة البريطانية الفلسطينية» برأسمال قدره 40 ألف جنيه إسترليني، كما أنشأ عدة فروع أخرى في هولندا وألمانيا (وقد سُمِّيت الشركة فيما بعد «البنك البريطاني الفلسطيني»، ثم سُمِّيت «بنك ليئومي ليسرائيل» منذ عام 1951)

ـ الصندوق القومي اليهودي. وقد تأسَّس عام 1901 بهدف توفير الأموال اللازمة لشراء الأراضي في فلسطين لصالح المستوطنين الصهاينة. ونص قانون النظام الأساسي لهذا الصندوق على اعتبار الأراضي التي يشتريها ملكية أبدية للشعب اليهودي لا يجوز بيعها ولا التصرف فيها.

وبعد تأسيس المنظمة الصهيونية، انتقل النشاط الصهيوني من مرحلة البداية الجنينية ذات الطابع المحلي إلى مرحلة العمل المنظم على الصعيد الغربي. ولكن هرتزل كان قد بدأ نشاطه قبل ذلك إذ كان قد قام بعدة اتصالات مع بعض الشخصيات الاستعمارية، وساعده على ذلك الصهيوني غير اليهودي هشلر.

ولكن، حتى بعد تأسيس المنظمة، كان هرتزل يدرك أن منظمته لا تمثل أحداً، أو أنها تمثل أقلية من اليهود لا يُعتدُّ بها، وأن العنصر الحاسم ليس المنظمة وإنما هو الدولة الراعية. ولذا، فقد تَجاهَل منظمته وبدأ بحثه الدائب عن قوة غربية ترعى المشروع. فقد كان يعلم تمام العلم أنه لو حصل على مثل هذه الموافقة فسترضخ له المنظمة وتتبعه، وخصوصاً أنها لم تكن تملك بديلاً، كما أن الصهاينة التسلليين كانوا يعلمون أن المشروع الصهيوني كان قد وصل بقيادتهم إلى طريق مسدود.

ومن هنا، فإن التفسير التقليدي لسلوك هرتزل بأنه زعيم دكتاتوري وشخصية أوتوقراطية أرستقراطية هو تفسير يحاول تطبيع النسق الصهيوني، أي النظر إليه على أنه نسق طبيعي يتم تفسيره باستخدام القواعد نفسها التي تُستخدَم في تفسير الأنساق المماثلة. وفي هـذا خلل منهجي أسـاسي، فالصهيونية ظاهرة لها قوانينها الخاصة، وأحد قوانينها الأساسية أنها حركة سياسية بلا جماهير. وهذا ما اكتشـفه هـرتزل منذ البداية، ولذا فلا يمكن اتهامه بالدكتاتورية، فقد كان عملياً أكثر من العمليين، مدركاً لما فشل الصهاينة الديموقراطيون في إدراكه، كما كان يعرف كيف يتصل بممثلي الحضارة الغربية ويعرف كيف يتحدث لغتهم وكيف يعرض عليهم العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية.

وانطلاقاً من هذا، تَخطَّى هرتزل الجميع (الجميع كانوا تقريباً من شرق أوربا). وقد بدأ اتصالاته الدبلوماسية أو فلنقل إنه استمر فيها باعتبار أنه كان قد قام باتصالات قبل ذلك. ومن الشخصيات التي اجتمع بها لعرض مشروعه الصهيوني، ملك إيطاليا (عمانوئيل الثالث) ووزير داخلية روسيا (فون بليفيه) وكان شخصية مكروهة تماماً من يهود روسيا. ولكن هرتزل ركَّز معظم جهوده على القوتين الاستعماريتين العظميين آنذاك: ألمانيا وبريطانيا، وهما أيضاً القوتان اللتان كان لهما تطلعات استعمارية في الشرق الأوسط، وكانتا تتنافسان على حماية ومساعدة الباب العالي. ولم يكن هرتزل مُنظِّراً من الدرجة الأولى، ولكنه كان صحفياً يرصد الأحداث بذكاء ويتسم بحس عملي فائق، ولذلك فإنه بعد أن قضى بضع سنوات يغازل ألمانيا (والباب العالي) اكتشف أن الطريق إلى فلسطين يبدأ في لندن، فحمل أمتعته وذهب إلى هناك حيث وجد جوزيفتشامبرلين (وزير المستعمرات البريطاني في وزارة بلفور) شخصاً متفهماً لمشروعه، متقبلاً للفكرة المبدئية وهي حل مسألة يهود شرق أوربا على الطريقة الاستعمارية، أي نَقْلهم إلى الشرق. ولكن وقت تقسيم الدولة العثمانية لم يكن قد حان بعد، ولذا اقترح وزير المستعمرات على هرتزل أن يبحث عن أي أرض أخرى داخل الإمبراطورية الإنجليزية (قبرص ـ العريش ـ شرق أفريقيا). وبعد عدة دراسات واقتراحات واتصالات، استقر الرأي على شرق أفريقيا بناءً على نصيحة تشامبرلين، ولكن الخطة لم يُكتَب لها النجاح. ومع هذا، يمكن القول بأنه تم من خلالها إجراء أول بروفة لتوقيع العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية بشأن يهود العالم واتخاذ الإجراءات الأولية لتأسيس مُستوطَن صهيوني.

جــذور العنـف الصهـيوني في أفكـار هـرتزل

Roots of Zionist Violence in Herzl's Ideas

طوَّر هرتزل الخطاب المراوغ ودعا كل الأطراف (العالم الغربي ويهود العالم بشقيه الغربي والشرقي) لتوقيع العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية.

ولكن هناك طرفاً لم يُدعَ للتوقيع، رغم أنه سيضار حين يُوضَع العقد موضع التنفيذ، ألا وهو العرب. فقد ذكر هرتزل هذا الطرف بشكل عابر أحياناً في معرض نقدهللصهيونية التسللية التي لم تدرك أن المستوطنين الأصليين (العرب وربما الهنود في الأرجنتين) سيشعرون بأنهم مهددون فيضغطون على الحكـومات المعـنية فتضـطر هذهالحكومات لإيقاف التسلل. ولا يرد لهم ذكر في دولة اليهود أو في الخطاب الذي ألقاه أمام المؤتمر الأول (1897)، أي في الوثائق العلنية الموجهة للصهاينة. ولكن هناكوثائق علنية أخرى موجهة للرأي العام مثل الأرض الجديدة القديمة حيث يُقدِّم هرتزل صورة وردية لمصير العرب من مواطني الدولة اليهودية الذين سيزدادون رخاءً وسينعمون بالهناء. وقد كتب هرتزل عام 1899 خطاباً لأحد القادة الفلسطينيين يبشره بالرفاهية التي ستعم والثروة التي ستزيد. ولكن، مهما كانت رقة قلب هرتزل، فإن العرب والسكان الأصليين لم يُدعَوا لتوقيع العقد، فسيادة الدولة اليهودية مصدرها الغرب، والحكومات المعنية يمكن أن تسبب المضايقات، أما السكان الأصليون فلا أهمية لهم. وهرتزل لم يكن فريداً في هذا، فتحديث الغرب على الطريقة الاستعمارية كان يفترض أن يدفع الشرق فواتير التقدم الغربي. وبالتالي، فإن السكان الأصليين ليسوا ضمن عملية التحديث وإنما يقعون خارجها تماماً. ولذا، فإن الإغفال والتغييب جزء من النظام الإدراكي الغربي الحديث للآخر، ومن ثم يصبح العنف هو الآلية المحضة لتنفيذ المشاريع التي تتحرك في إطار القانون الدولي العام أي القانون الاستعماري الغربي.

ولكن هرتزل، بمراوغته، لا يتحدث قط عن العنف في الوثائق العامة، إلا من إشارة عابرة للمكابيين في دولة اليهود، وهي إشارة يمكن أن تُفهَم على أن المقصود بعث عسكري وليس بالضرورة عنفاً ضد العرب. والتفسير نفسه يمكن أن ينطبق على خطابه للبارون دي هيرش حين ذكر خطته التي تهدف لأن يخلق من البروليتاريا اليهودية المثقفة (المفكرين المتوسطين الذي يتحدث عنهم في دولة اليهود) شيئاً نافعاً "جنود وكوادر الجيش الذي سيبحث عن الأرض ويكتشفها ثم يستولي عليها". وعلى أية حال، فإن العنف يطل برأسه في كلمة «يستولي». والأمر يختلف قليلاً في اليوميات التي يختلط فيها الإعجاب بالعسكرية البروسية بالحديث عن كيفية الاستيلاء على الملكية الخاصة للسكان الأصليين وكيفية استخدامهم لقَتْل الثعابين وتأمين عمل لهم في بلاد أخرى (كما دوَّن في مذكراته عام 1885). وفي عام 1902، كتب هرتزل لتشامبرلين عن مصير السكان الأصليين في قبرص إن وقعت في الدائرة الصهيونية الحلولية المقدَّسة الفاتكة: "سيُرحَّل المسلمون، أما اليونانيون فسيبيعون أرضهـم بكل سـرور نظـــير سعر جيد ثم يهاجرون إلى أثينا أو كريت"، أي أن الاستيلاء على الأرض وإخلاءها من سكانها هو الافتراض الكامن في كتاباته، فالعنف رابض بين السطور، يتحين الفرصة لكي يتحقق، وينتظر اللحظة المواتية كي ينهمر الرصاص ويسقط النابالم. ومما يجدر ذكره أن هرتزل لا يستبعد استخدام العنف ضد اليهود أنفسهم (إن رفضـوا الخضوع للرؤية الصهـيونية) كما يتضـح في مفـهوم غزو الجاليات.

صهيون بـدون صهيونية

Zion Without Zionism

«صهيون بدون صهيونية» اصطلاح استخدمه الصهاينة الإثنيون (الدينيون والعلمانيون) للإشارة إلى تَصوُّر هرتزل وغيره من الصهاينة لدولة اليهود، فهي دولة كانت تشكل إطاراً يُستوعَب فيه الفائض اليهودي وحسب، ولم تكن له أية معالم أو قسمات يهودية مميَّزة. والصهاينة الإثنيون كانوا محقين إلى حدٍّ ما في موقفهم، فالصهاينة التوطينيون في مرحلة ما قبل بلفور كانوا مهتمين بشيء واحد هو التخلص من الفائض البشري اليهودي اليديشي وبأسرع وقت ممكن بإلقائه في أي مكان متاح. ولكنهم لميكونوا محقين بشكل مطلق إذ أن صياغة هرتزل الهلامية تركت الباب مفتوحاً أمام سائر الديباجات الصهيونية الممكنة، فهي لم ترفض الصهيونية الإثنية وإنما كانت غير مكترثة بها وحسب.

الباب التاسع: الصهيونية السـياسية

الصهيونية السياسية

Political Zionism

«الصهيونية السياسية» اصطلاح مرادف لما يُسمَّى» الصهيونية الدبلوماسية«

الصهيونية الدبلوماسية ) الاستعمارية(

Diplomatic (Colonial) Zionism

«الصهيونية الدبلوماسية» اصطلاح مرادف لاصطلاح «الصهيونية السياسية»، ونحن نفضل الاصطلاح الأول لأنه أكثر تفسيرية وارتباطاً بالظاهرة موضع الدراسة. كما أن كلمة «سياسية» مصطلح شديد العمومية يفترض أن الصهيونيات الأخرى ليست سياسية. وكلمة «سياسية»، في هذا المصطلح، تعني في واقع الأمر «المناورات السياسية» أي «الجهود الدبلوماسية». ولذا، فإن الاصطلاح يشير إلى إجراءات تؤدي إلى تحقيق الهدف الصهيوني، وحيث إن هذه الإجراءات تتحد في السعي لدى القوى الاستعمارية لضمان تأييدها للمُستوطَن الصهيوني، فإن المصطلح يجب أن يكون «الصهيونية الدبلوماسية الاستعمارية». ولكننا سنكتفي باستخدام المصطلح دون إضافة أية صفات، فهي أمر مفهوم، وخصوصاً أن كل الاتجاهات الصهيونية استعمارية.

ويُستخدَم اصطلاح «الصهيونية السياسية» أو «الصهيونية الدبلوماسية» للتفرقة بين الإرهاصات الصهيونية الأولى التي سبقت ظهور هرتزل، مثل جماعات أحباء صهيون (ونضيف لها الصهيونية التوطينية لأثرياء اليهود في الغرب)، والحركة الصهيونية التي نظَّمها هرتزل، وتعود بداياتها إلى عام 1896 (تاريخ نشر دولة اليهود). ولم تكن قيادة التنظيمات الصهيونية في مرحلة ما قبل هرتزل تدرك ضرورة وحتمية الاعتماد على الإمبريالية لوضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ، وقد كانت تظنأن الاستيطان في فلسطين سيتم بالجهود الذاتية بالاعتماد على الصدقات التي يقدِّمها أثرياء اليهود دون حاجة إلى ضمانات استعمارية. أما هرتزل، فقـد أدرك حتمية الاعتماد على الإمبريالية من البداية، ومن ثم ضرورة أن تسبق الجهود الاستيطانية التسللية جهود دبلوماسية تهدف إلى تأمين الدعم الغربي الاستعماري للمشروع الصهيوني. وقد عرَّف وايزمان الصهيونية السياسية (الدبلوماسية) بأنها تعني جَعْل المسألة اليهودية عالمية، أي جزءاً من المشروع الاستعماري الغربي.

والصهيونية الدبلوماسية تختلف عن صهيونية غير اليهود في أن المؤمنين بها من أعضاء الجماعات اليهودية، ولكنها لا تختلف عنها في أنها تنظر لليهود من الخارج باعتبارهم فائضاً بشرياً يجب التخلص منه بإنشاء دولة وظيفية له. فالصهاينة الدبلوماسيون هم عادةً إما يهود جاءوا من ألمانيا أو يهود ذوو خلفية ألمانية أو غربية حديثة، ولذا فهم مبتعدون تماماً عن اليهودية بالمعنى الإثني الديني أو العلماني، فهم يهود غير يهود. ولكنهم، مع هذا، وجدوا أنفسهم متورطين في المشروع الصهيوني لأن أعداء اليهود صنفوهم يهوداً، ولأن وصول يهود اليديشية هـدَّد مواقعهم وتطـلَّـب منهم تحركاً سريعاً أخذ شكـل الصهيونية التوطينية. فالصهاينة الدبلوماسيون لا يهتمون بالمشروع الصهيوني إلا باعتباره مشروعاً لتخليص أوربا من الفائض البشري، ولذا فإنهم لم يعيروا التوجه السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي أي اهتمام. وهم، بسبب معرفتهم بالعالم الغربي، كانوا قادرين على أن يقوموا بدور الجسر بين الغرب وبين المادة البشرية المُستهدَفة في شرق أوربا، يتحدثون مع كل عالم بلغته، ولذا فقد تمكنوا من صياغة العقد الصهيوني الصامت وبَذْل الجهود السياسية أو الدبلوماسية التي أدَّت إلى عقد أو وعد بلفور.

وبعد إصدار وعد بلفور، لم تَعُد هناك ضرورة لبذل مثل هذه الجهود. ولذا، فقد اختفت الصهيونية السياسية أو الدبلوماسية وتبنَّى يهود العالم الغربي المندمجون صيغة توطينية أخرى هي «الصهيونية العمومية» و«الصهيونية التصحيحية» وما يُسمَّى «صهيونية الشتات». وهرتزل هو المناور الصهـيوني الأكـبر بــلا منازع، وواضع أُسس الصهيونية السياسية أو الدبلوماسية، ومن أهم أتباعه ماكس نوردو وجيكوب كلاتزكين.

يوهـان كريمنســكي (1850-1934(Johan Kremenesky

صهيوني توطيني وأول رئيس للصندوق القومي اليهودي، وهو مهندس ورجل صناعة روسي. وُلد في أوديسا واستقر في فيينا عام 1880. أسَّس مع بوريس جولدبرج مصنع السليكات في تل أبيب عام 1920، وكان قد أصبح من أهم رجال الصناعة الأوربيين في مجال الصناعات الكهربائية على وجه الخصوص. اشترك مع هرتزل في المنظمة الصهيونية، وأصبح عضواً في اللجنة التنفيذية منذ المؤتمر الأول (1897) وظل عضواً بها حتى عام 1905. وأسَّس كريمينسكي الصندوق القومي اليهودي بناءً على توصية منه للمؤتمر الصهيوني الخامس (1901). ظل رئيساً للصندوق إلى أن انتقل من فيينا إلى كولونيا بألمانيا. جعله هرتزل أحد منفذي وصيته، فأسَّس أرشيف هرتزل.

ديفيــد ولفســون (1856-1914(David Wolffson

زعيم صهيوني، وثاني رؤساء المنظمة الصهيونية العالمية. وُلد في ليتوانيا وتلقى تعليماً تقليدياً وانتقل إلى ألمانيا عام 1872. شارك في تجارة الأخشاب عام 1888، واستقر في كولونيا بألمانيا حيث تخلَّى عن إيمانه باليهودية الأرثوذكسية. مارس نشاطه الصهيوني من خلال الجمعية الأدبية اليهودية في كولونيا حيث كان يحاضر عن التلمود والقبَّالاه. وفي هذه الجمعية، قابل ماكس بودنهايمر وأسسا سوياً (عام 1893) جمعية لتوطين اليهود في فلسطين على مبادئ أحباء صهيون.

تعرَّف إلى أفكار هرتزل من خلال كتاب دولة اليهود. وبعد قراءة الكتاب، سافر فوراً إلى فيينا حيث قابل هرتزل وقامت بينهما صداقة قوية، وقد كان كل منهما يكمل الآخر فأحدهما ذو خلفية ليبرالية اندماجية وسط أوربية علمانية والآخر ذو خلفية محافظة أرثوذكسية شرق أوربية متدينة. وقد أخبره هرتزل بجهله التام بمن سبقه من المفكرين الصهاينة وبحال اليهود في شرق أوربا. وأكد ولفسون لهرتزل أهمية الجماهير اليهودية في شرق أوربا كمادة استيطانية لإنجاح الفكرة الصهيونية التي نادى بها هرتزل.

أسَّس ولفسون صندوق الائتمان اليهودي، واختلف مع هرتزل في أسلوب إدارته حيث كان هرتزل يرى الصندوق أداة سياسية بينما كان ولفسون يراه مشروعاً مالياً. عمل ولفسون بشكل دءوب على توحيد الحركة الصهيونية بالعمل كوسيط بين هرتزل ومعارضيه. وبعـد مـوت هرتزل، ورغـم معارضـة الصهــاينة العمليين، تسنَّم ولفسونمنصب رئيس المنظمة الصهيونية العالمية بعد امتناع، وحرص أثناء عمله على توحيد صفوفها. وقابل لفسـون عدة شـخصيات أوروبية حاكمة لتـسهيل حركة الصهاينة في أوربا. لم يُجدَّد انتخابه عام 1911 رئيساً للمنظمة الصهيونية العالمية، لكنه ظل رئيساً لصندوق الائتمان اليهودي وهو ما يدل على نجاح سياسته المالية العملية.

ناحوم سوكولوف (1859-1936(Nahum Sokolov

صحفي وكاتب بولندي، وأحد قادة الحركة الصهيونية والمؤرخ الرسمي لها. تلقَّى تعليماً تقليدياً، وأبدى اهتماماً بقضية إحياء اللغة العبرية، وكَتَب قصصاً وأشعاراً ومسرحيات بالعبرية (وكان مُلمَّاً بلغات أخرى مثل اليديشية والألمانية والفرنسية والإسبانية والإيطالية). وكان سوكولوف يُعَدُّ أول كاتب عبري يقرؤه اليهود الدينيون والعلمانيون. لم يكن في البداية متحمساً لحركة أحباء صهيون، فكتب مهاجماً بنسكر وكراسته. وقد ظل على موقفه الرافض للصهيونية، فهاجم كتاب هرتزل دولة اليهود. ولكنه، بعد حضوره المؤتمر الصهيوني الأول (1897)، تغيَّر مجرى حياته وأصبح من كبار المعجبين بهرتزل، وترجم أعماله إلى العبرية (1885) كما ترجـم أعـمال لورانس أوليفانت الصهيوني غير اليهودي. نشر سوكولوف كتاباً سنوياً بالعبرية طوَّر من خلاله أسلوباً عبرياً كان له أكبر الأثر في تطوير اللغة العبرية. ولسوكولوف عدة مؤلفات حاول أن يشرح فيها وجهة النظر الصهيونية أحدها بعنوان الكراهية الأزلية للشـعب الخــالد. وكما هو واضـح من عنوان الكتاب، يطرح سوكولوف الرؤية الصهيونية لظاهرة معاداة اليهود باعتبارها ظاهرة لصيقة بالنفس البشرية. وله مُؤلَّف آخر بعنوان إلى سادتنا وأساتذتنا يحاول أن يشرح فيه لليهود المتدينين لماذا يجب عليهم أن يصبحوا صهاينة.

ولكن أهم كتب سوكولوف كتابه الشهير تاريخ الصهيونية (1917) الذي يحلل فيه الجذور الغربية للفكرة الصهيونية، وهو يُعَد أول تاريخ للصهيونية وبمنزلة تاريخها الرسمي. والكتاب سرد نثري ممل يتسم بالتجميع المباشر دون تحليل أو تفسير، إذ قام سوكولوف بجمع كل الأقوال الغربية التي تدعو لإرجاع اليهود إلى فلسطين وتأسيسدولة مستقلة لهم فيها. ويتجلى ضعف مقدراته التحليلية في تعريفه أهداف الصهيونية على النحو التالي وبهذا الترتيب:

1 ـ وطن مادي لليهود الذين يعانون من الناحيتين المادية والمعنوية.

2 ـ وطن للتعليم اليهودي والعلم والأدب اليهودي.

3 ـ نموذج مثالي لليهود في كل العالم.

4 ـ مكان يستطيع اليهود أن يعيشوا فيه حياة يهودية صحية.

5 ـ بعث لغة الكتاب المقدَّس.

6 ـ بعث الوطن الذي أُهمل طويلاً ودُمِّر وذلك من خلال الحضارة والمثابرة.

7 ـ خلق طبقة زراعية يهودية صحيحة وقوية.

وهو تعريف هلامي تماماً يضم كل شيء بدون أي ترتيب منطقي ويعطي لكل فرد ما يريد. وهذا التعريف لا يلقي الضوء على مضمون فكر سوكولوف المُشوَّش وحسب وإنما على شكله أيضاً، فتاريخ الصهيونية الذي كتبه عمل يدل على أن كاتبه لا يدرك دلالة كثير من المعطيات والحقائق التي يوردها، وكثيراً ما لا يفهم أبعاد ما يقول. وقد كتب سوكولوف كتاب أحباء صهيون (1934(

غير أن اهتمامات سوكولوف الأدبية والفكرية لم تَحُل دون أن يصبح زعيماً صهيونياً بارزاً، ففي الفترة من عام 1907 حتى عام 1909 كان يشغل منصب السكرتير العام للمنظمة الصهيونية العالمية كما كان مسئولاً عن إصدار صحيفة دي فيلت الناطقة باسم الحركة الصهيونية بالألمانية. ولم يكن سوكولوف مقتنعاً بالأساليب الدبلوماسـيةوحـدها وإنما كان من أنصار الصهيونية العملية (التسللية). وعقب خلافه مع ولفسون، اعتزل عام 1909. إلا أنه سرعان ما عاد عام 1911 عضواً في المجلس التنفيذي الصهيوني واقترح تشجيع العرب على بيع أراضيهم في فلسطين وأن يتوطنوا في أماكن مجاورة. وبنشوب الحرب العالمية الأولى، أُوفد إلى إنجلترا مع وايزمان للحصول على تأييدها للحركة، كما قام بمهام مماثلة في إيطاليا وفرنسا. وبالفعل، حصل في مايو 1917 على تصريح رسمي فرنسي مؤيد للحركة الصهيونية، ثم على وعد بلفور من إنجلترا في نوفمبر من العام نفسه. وفي أعقاب الحرب، ترأس سوكـولوف الوفد الصـهيوني إلى مؤتمر الســلام في باريـس عام 1919. ومع صعود نجمه، اختاره المؤتمر الصهيوني الثاني عشر (1921) رئيساً للمجلس التنفيذي للمنظمة الصهيونية العالمية، كما عمل ممثلاً للصندوق التأسيسي اليهودي في عدد من البلدان ورئيساً للجنة التنفيذية للوكالة اليهودية الموسعة (1929) ورئيساً للمنظمة الصهيونية العالمية في الفترة بين عامي 1931 و1935. والتقى سوكولوف بموسوليني عام 1927 وعام 1933 حيث حصل على تصريح بتأسيس لجنة إيطالية لدعم المشروع الصهيوني في فلسطين. وفي عام 1935، تولَّى القسم الثقافي في المنظمة الصهيونية العالمية وساهم في تأسيس اتحاد الكتاب العبريين في إرتس يسرائيل.

أبراهـام أوسـيشكـين (1863-1941)Abraham Ussishkin

زعيم صهيوني روسي، وُلد لأسرة حسيدية ونشأ نشأة تقليدية. وفي عام 1881، أسس في جامعة موسكو جماعة صهيونية للهجرة إلى فلسطين مع صديقه ياهيل تشيلنوف. زار فلسطين ووقف ضد آراء آحاد هعام المعارضة للمستوطنات التي تقيمها حركة أحباء صهيون والتي كان أوسيشكين عضواً في لجنتها التنفيذية منذ 1885. اتصل بزعماء اليهود الأتراك عقب ثورة تركيا الفتاة، وأثناء الحرب العالمية الأولى تبنَّى أوسيشكين فكرة حياد الصهيونية على أساس التعاون مع المنتصر. ومع وعد بلفور، تحمَّس للبريطانيين بشدة. وكان من أعضاء الوفد اليهودي في مؤتمر السلام بباريس. واستقر في فلسطين بعدئذ حيث ترأس اللجنة الصهيونية. ولم يُجدَّد انتخابه عام 1923 في اللجنة التنفيذية بسبب معارضته حاييم وايزمان، ولكنه انتخب في العام نفسه رئيساً للصندوق القومي اليهودي. وقد عارض أوسيشكين المشروع البريطاني لتقسيم فلسطين عام 1937، وتُوفي في القدس عام 1941.

ماكـس نوردو (1849-1923(Max Nordau

مفكر يهودي ألماني، وزعيم صهيوني سياسي. اسمه الأصلي سيمون ماكسيميليان سودفيلد، وقد غيَّر اسمه إلى ماكس نوردو أي ماكس النوردي. وُلد في المجر حيث تلقَّى دروساً في اللغة العبرية وفي اللادينو على يد أبيه الحاخام الأرثوذكسي السفاردي. ولكن نوردو، مع هذا، بدأ يبتعد عن التقاليد اليهودية وينغمس في الثقافة الألمانية مثل هرتزل. وفي عام 1875، بدأ نوردو في دراسة الطب في جامعة بودابست ثم في باريس. وفي عام 1883، ظهر كتابه أكاذيب حضارتنا التقليدية حيث حمل على الدين والحضارة باسم العلم والفلسفة الوضعية، ثم شن هجومه على مجموعة من الكُتاب (مثل إبسن وماتيرلنك) متهماً إياهم بالنفاق والانحطاط والمرض العقلي (وذلك في الكتب التالية: مفارقـات و مرض العصر والانحطاط). وقد اعتبر نوردو نفسه وهو في ذروة حياته الأدبية مواطناً أوربياً لا وطن له ولا قومـية، وقد كان مـتأثراً في تفكيره بكل من نيتشه وفاجنر وزولا وإبسن، وبما نسميه «الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية»، وقد دعا إلى حل مشاكل أوربا الاجتماعية بالعنف وعن طريق تصدير فائضهاالبشري إلى الشرق (وذلك قبل تبنِّيه العقيدة الصهيونية).

وفي عام 1892، تعــرَّف هرتـزل إلى نـوردو وفاتحـه في فكـرة الدولـة الصهيــونية فوافــق عليها ثم أصبح بعدها ساعد هرتـزل الأيمــن. وقد كـان لاعتنــاق نـوردو العقيـدة الصهيونية فضل كبيــر في إظهارهــا بمظهــر تقدُّمي أمام المثقفين اليهود في العالــم الغربي. وقد ألقى نوردو الخطاب الافتتاحي عن وضع اليهود في العـالم، وذلك خــلال المؤتمر الصهيــوني الأول (1897)، واستمر على هذا المنوال حتى المؤتمر العاشر (1911). وقد لعب نوردو دوراً بارزاً في صياغة برنامج بازل، كما أيد مشروع شرق أفريقيا، ولكنه وصف الوطن اليهودي الذي سينشأ هناك بأنه مجـرد ملجأ "لمدة ليلة واحدة" قاصداً أنه نقطة عبور للأرض المقـدَّسة(حاول شاب صهيونى اغتيال نوردو «الشرق أفريقى»(.

وبعد موت هـرتزل، عُرضت عليه رئاسـة المنظمة الصهيونية العالمية، ولكنه رفض ذلك لأسباب عدة من بينها أنه كان متزوجاً من مسيحية وآثر أن يظل مستشاراً سياسياًلحلفاء هرتزل. وقد بدأ نجمه يخبو باستيلاء العناصر التي يُطلَق عليها «العناصر العملية» (من شرق أوربا) وهي العناصر المهتمة بالاستيطان التسللي أكثر من اهتمامهابالمفاوضات الدبلوماسية مع القوى الاستعمارية. وحينما اختار المؤتمر العاشر (1911) لجنة تنفيذية من أعضاء "عمليين"، كان هذا آخر مؤتمر يحضره. ولكنه في عام 1920، أي بعد وعد بلفور، حضر المؤتمر الصهيوني في لندن.

كان نوردو يعتبر نفسه تلميذاً لهرتزل، ويصف كتابه دولة اليهود بأنه عمل عظيم ونبوءة وبأنه "كتاب سيحل محل العهد القديم"، ويمكن القول بأنه كان وريث هرتزل الحقيقي، أي وريث الصهيونية الدبلوماسية، وهو من أهم المساهمين في صياغتها. وقد كان نوردو صهيونياً دبلوماسياً متطرفاً لا يميل إلى الصياغة الإثنية (دينية كانت أو علمانية)، ولا إلى الصياغة العمالية الاشتراكية، فقـد كان صهيـونياً يهودياً غير يهـودي يؤمن بكفاية الصيـاغة الدبلوماسية. وكان يرى الصهيونية حركة لإخلاء أوربا من اليهود بنقلهم إلى أي مكان وفي أقصر وقت. وقد ظل طوال حياته يهاجم التيارات الصهيونية الأخرى، فهاجم بطبيعة الحال حركة أحباء صهيون الاستيطانية التسللية، كما هاجم دعاة الصهيونية الإثنية بشقيها الديني واللا ديني، وبيَّن أن إنشاء مركز روحي لن يحل مشكلة اليهود في العالم. وسَخر من العصبة الديموقراطية وشعاراتها ونشاطـها. وأخـيراً، فقـد بيَّن أن العـدالة تتحقق من داخل الصهيونية، ولا حاجة لها بالصهيونية الاشتراكية، وحذر اليهود من خيبة الأمل في الحركات الثورية.

ينطلق فكر نوردو الصهيوني من القول بأن حركة الانعتاق هي حجر الزاوية الأساسي في تاريخ الجماعات اليهودية، فقد كانت نتاج الحركة العقلانية في الغرب. وقد منحت هذه الحركةُ اليهودَ حقوقاً سياسية، ولكنها لم تُغيِّر الواقع الاجتماعي. ولهذا، فقد ظهر تناقض حاد بين الانعتاق السياسي (الشكل الخارجي المجرد) والأحاسيس الشعبية (المتعينة) الرافضة لليهود. هذا هو الوضع في العالم كله، باسـتثناء إنجلترا، لأن الدسـتور الإنجـليزي نابع من تطـوُّر عضوي بطيء، ولم يُفرَض فرضاً من الخارج، أي أن الشكل السياسي يتطابق مع الوعي الاجتماعي في إنجلترا، ولهذا فلا يُوجَد أي أثر لمعاداة اليهود هناك.

وانطلاقاً من رفضه للانعتاق، يرسم نوردو صورة إيجابية للجيتو الذي حمى الذات اليهودية خلال عهود الظلام بما يضم من عناصر تضامن بين اليهود. ثم جاء عصرالانعتاق، فتَحطَّم الجيتو ولم يبق هناك إطار للهوية اليهودية، وفقد اليهودي هويته ولم يكتسب الهوية الجديدة ولم تَعُد له مكانة في العالم. ومن هنا، استخدم نوردو اصطلاح «المارانو الجديد»: يهودي لا يمكنه أن يصبح ما يريد، أي يهودي يود ترك يهوديته ليصبح عضواً في أمة غير يهودية، فحتى التنصر لم يَعُد وسيلة مقبولة للتخلص من اليهودية. فدعاة القومية العضوية في أوربا كانوا يرون أن الإنسان يُولَد بهويته. وهكذا يكون اليهودي المندمج منافقاً ومارانو (مرائي) حينما يرى نفسه أوربياً. بل يرى نوردو أن اليهود المندمجين يبالغون في ادعاءاتهم الوطنية وفي الانتماء لبلادهم أكثر من بقية المواطنين. والواقع أن ما يسميه نوردو «المارانو الجديد» هو ما يسميهدويتشر «اليهودي غير اليهودي».

وقد طوَّر نوردو صورة المارانو المجازية واستخدم صورة مجازية بيولوجية عضوية إذ شبَّه اليهود بالبكتيريا: كائنات دقيقة لا تراها العين ولكنها في واقع الأمر تقوِّض المجتمع من الداخل وتَفُت في عضده، وذلك إن لم تُعرَّض للشمس (أي إن لم تُرحَّل إلى أرض الميعاد(

وكان نوردو من أكثر المفكرين الصهاينة إيماناً بعدالة معاداة اليهود ووجاهتها. وكان، مثل هرتزل، لا يعرف عن اليهودية إلا القليل، بل كان يرى أنها شيء مقزز وأنها هي المسئولة عن مصيبة اليهود. ولذا، فإن الحل هو الصهيونية التي ستريح أوربا من اليهود وتمنحهم هوية جماعية جديدة. والصهيونية تختلف تماماً عن الدين اليهـودي والتطـلعات المشيحانية، فهي نابعة من داخل المجتمع الغربي، أي من المسألة اليهودية ومن ظاهرة معاداة اليهود، وهي الحل الحديث لمشكلة حديثة لا علاقة لها بالأوهام الدينية. فالصهيونية تعرض حل المسألة اليهودية في إطار السياسة العالمية (أي الإمبريالية) عن طريق نقلهم إلى فلسطين حيث سيتخلصون من صفاتهم الطفيلية ويتحولون إلى شعب مثل كل الشعوب ويكتسبون هوية عادية، وبذا يتحول الشعب المنبوذ أو الطبقة المنبوذة إلى جزء لا يتجزأ من الحضارة الغربية (مادة استيطانية بيضاء) عن طريق إلحاقها بالمشروع الاستيطاني الغربي. وفي المجتمع الصهيوني، سيظهر الإنسان اليهودي الجديد الذي لا علاقة له بيهود المنفى، فهذا هو اليهودي، ذو العضلات، الذي كان يُبشر به هرتزل.

ويُقسِّم نوردو اليهود إلى قسمين: أثرياء اليهود، والحاخامات، والفريقان يكوِّنان القيادة التقليدية التي يمكن أن تستغنى الصهيونية عنها وتحل محلها. أما فيما يتصل بالتمويل، فيمكن الاعتماد على الطبقات الوسطى والفقيرة اليهودية وكذلك على العالم المسيحي (أوربا الاستعمارية). يبقى بعد ذلك، الطبقة العاملة اليهودية وهي التي لا يمكن أن تعاديها الصهيونية أو تتنازل عنها بأي شكل من الأشكال، فهم المادة البشرية التي ستستخدمها الصهيونية. ومعنى ذلك أن نوردو توصَّل إلى صيغة الصهيـونيتين: الصهيونيـة الاسـتيطانية والصهيونيـة التوطينية. وقد كان نوردو من أكبر دعاة التخلص بشكل مباشر وسريع من يهود أوربا. فعرض خطة عام 1920 لنقل ستمائة ألف يهودي ويهودية لتوطينهم في فلسطين بأي ثمن "ليعملوا هناك، بل ليقاسوا إن كان ثمة حاجة... فهذه هي الطريقة الوحيدة لإقامة أغلبية يهودية في فلسطين". وقد سبَّبالاقتراح صدمة للحاضرين في المؤتمر الصهيوني في لندن، لكن نوردو أصر على موقفه ثم عرضه مرة أخرى في عشر مقالات نشرت في مجلة لي بيبل جويف في باريس. وفي الواقع، فإن اقتراحه هذا تعبير عن صهيونيته النيتشوية التي تُعلي إرادة الإنسان الفرد على الحدود والأوضاع التاريخية. وقد خيَّب الواقع ظن نوردو. وكان الزعيم الصهيوني جوزيف ترومبلدور أكثر تواضعاً إذ اقترح تكوين جيش جرار قوامه 100 ألف يهودي، ثم خفض هذا العدد بعد ذلك إلى عشرة آلاف. ثم بعث جابوتنسكي الفكرة مرة أخرى عام 1936 وسماها «مشروع نوردو» وهي العمود الفقري لخطة السنوات العشر التي وضعها لإجلاء اليهود من أوربا وتوطينهم في فلسطين.

وقد أدرك نوردو تماماً الطبيعة الاستعمارية العملية للدولة الوظيفية الصهيونية، ولذا فلم يكف عن الحديث عن فائدتها وجدواها بالنسبة للقوى الاستعمارية. وقد حاول في بداية القرن أن يعرض المشروع الصهيوني باعتبار أنه قادر على المحافظة على سيطرة السلطان العثماني على فلسطين لمواجهة حركة القومية العربية. وكانت هذه أول مرة يتعرض فيها للعرب (المؤتمر الصهيوني السابع ـ 1905)

أدرك نوردو كذلك الطـبيعة الإحـلالية للمشـروع الصهيوني، وتَوصَّل إلى أن إنجلترا هي القوة الاستعمارية الكبرى التي تستطيع أن تتبنَّى المشروع الصهيوني وتضعه موضع التنفيذ، والتي يمكنها أن تنقل اليهود وأن تشيِّد دولة وظيفية لهم. وكان متيقناً من أن العرب سيعارضون المشروع الصهيوني فبدأ على طريقة الصهاينة تفسير الثورة العربية تفسيراً يؤدي إلى تغييبها. فالثورة العربية في رأيه، تمت بقيادة المسيحيين وبعض المسلمين المتعصبين الذين أثاروا مشاعر الفلاحين الجهلة. والقومية العربية وهمٌ ولا توجـد أمة عربية بمفهـوم المـدنية الأوربية، والعرب مجرد قبائل وفلاحين متنازعين، وبإمكان الصهاينة التفاهم مع العرب لو وجِّهت اهتماماتهم بعيداً عن فلسطين. وفي نهاية الأمر، لا يوجد مجال للتفاهم مع العرب، "وإذا حاولوا مقاومتنا، فسوف يتضح لهم بسرعة أن قوتنا لا تقل عن قوتهم".

ورغم فهم نوردو كثيراً من جوانب المشروع الصهيوني، إلا أنه لم يلعب دوراً قيادياً في الحركة الصهيونية بعد موت هرتزل، وذلك للأسباب التالية:

1 ـ ظل نوردو يتحرك في إطار الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة قبل تهويدها، أي أنه صهيوني يهودي غير يهودي ينظر لليهود من الخارج تماماً مثل الصهاينة غير اليهود. ولم يدرك نوردو أن عمومية الصيغة الشـاملة أدخلها طريقاً مسـدوداً عقيماً وأن المادة البشرية المستهدفة لن تقبلها، وبالتالي فلابد من تهويدها. وهذا ما فعلته الصهيونية التوفيقية التي استوعبت الاتجاه الدبلوماسي التوطيني والاتجاه الاستيطاني وأدخلت عليهما الديباجات الصهيونية الإثنية، الدينية والعلمانية.

2 ـ لم يدرك نوردو أبداً أهمية الصمت وعدم الإفصاح. فهو من دعاة الحد الأقصى العلني والحل الفوري الشامل للمسألة اليهودية، ولعله كان في عجلة من أمره لأنه يهودي غير يهودي يود أن يُوطِّن الفائض البشري خارج أوربا ليستريح ويريح، ثم يعاود بعد ذلك حياته واندماجيته. ولذلك، فقد عارض المنظمة الصهيونية حين وافقت على سلخ شرق الأردن من المنطقة المخصصة للوطن القومي اليهودي، فقد كان يرى شرق الأردن مجالاً للتوسع السكاني يمكن أن تُوطِّن فيه ملايين اليهود. والواقع أن خطته لتغيير التركيب السكاني لفلسطين (بشكل جذري وفوري) هي أيضاً تعبير عن الموقف نفسه والعجلة نفسها. وهو، بهذا، يكون الأب الحقيقي للصهيونية التصحيحية ذات الديباجة اليمينية الصريحة، والتي تهدف إلى تخليص أوربا من اليهود وإلى تطبيع اليهود والدولة اليهودية، حتى يستريح الجميع، وضمنهم اليهود أنفسهم من وضع اليهود المتميِّز!

عاد نوردو إلى باريس عام 1920، ومات عام 1923 بعد مرض طويل. وقد نُقلت رفاته بعد ثلاث سنوات إلى تل أبيب حيث أُطلق اسم «تلة نوردو» على قسم من المدينة. وفي عام 1943، نشرت ابنته سيرة حياته، كما نُشرت أعماله الكاملة بالعبرية.

أوتـو ووربـورج (1871-1937(Otto Warburg

زعيم صهيوني ألماني الأصل من أسرة مندمجة، وهو ثالث رؤساء المنظمة الصهيونية العالمية. تلقَّى تعليماً علمانياً كاملاً وحصل على درجة الدكتوراه في علم النبات من برلين عام 1892. سافر أثناء دراسته إلى عدة مناطق في آسيا وأفريقيا ودرس إمكانية زراعتها واستيطانها من قبَل الألمان، أي أن اهتماماته الاستعمارية الاستيطانية كانت ألمانية قبل أن تصبح صهيونية. شارك في محاولات توطين اليهود في الأناضول بـدءاً من عام 1900، وســاهم في هذه المحاولات بماله الخاص. ثم درس إمكانية إقامة مستوطنات في قبرص، وخطط لتوطين ملايين اليهود في العراق، وأيَّد مشروع شرق أفريقيا. وقد ترأس ووربورج لجنة التـوطين هناك ثم رأس منذ المؤتمر السـادس (1899) لجنـة فلسـطين.

أهم إنجازاته الصهيونية دفعه المشروع التوطيني بشكل كبير. وقد انتُخب عام 1911 رئيساً للمنظمة الصهيونية، ولكنه تنحَّى عن هذا المنصب عام 1920 مع تنامي سيطرة يهود شرق أوربا وعدم رغبة بريطانيا في وجود ألماني على رأس المنظمة. رأس منذ عام 1925 قسم النبات في الجامعة العبرية، ولكنه كان يعيش في ألمانيا ويزور فلسطين زيارات متقطعة. وقد عاش ووربورج أعوامه الأخيرة في برلين منعزلاً طريح الفراش، وتُوفي عام 1937.

جيكوب كلاتزكين (1882-1948(Jacob Klatzkin

كاتب روسي صهيوني وابن حاخام وعالم تلمودي. وُلد في بولندا وحصل على الثقافة الدينية التقليدية، ثم تلقَّى تعليماً علمانياً في كلٍّ من سويسرا وألمانيا حيث درس الفلسفة على يد هيرمان كوهين، وحصل على الدكتوراه من جامعة برن. كان كلاتزكين نشيطاً ككاتب في الدوريات العبرية. وقد ترأس تحرير دي فيلت بين عامي 1909 و1911، واشترك مع ناحوم جولدمان في تأسيس دار إشكول لنشر الكتب العبرية، وساهم في تحرير الموسوعة اليهودية، كما عمل مديراً للمكتب الرئيسي للصندوق القومي اليهودي بين عامي 1915 و1919، ثم استقر في سويسرا بعد عام 1933. وبعد أن تسلَّم النازيون الحكم في ألمانيا، سافر إلى أمريكا (عام1941 (بعد نهاية الحرب) عاد إلى سويسرا حيث وافته المنية.

ولعل كتابات كلاتزكين من أهم وثائق الفكر الصهيوني نظراً لوضوحها النسبي، وتظهر فيها معظم مقولات الصهيونية الدبلوماسية الاستعمارية بشكل واضح. وينطلق كلاتزكين من أسس بيولوجية مادية علمانية لا تَقْبل أي تجاوز للمادة أو التاريخ كظاهرة مادية، كما ينطلق من رفض عميق لليهود واليهودية يقترب من الكره. وهو يرى أن الجماعات اليهودية ليست جديرة بالبقاء، فهي مشوهة تشويهاً مرعباً جسداً وروحاً، فالمنفى يُفسد شخصية الإنسان وكرامته ويُحوِّل اليهود إلى كائنات بشرية مُمزَّقة ومُحطَّمة.

ولعل الجماعات اليهودية كانت تستطيع التماسك قبل حركة التنوير نظراً لوجود الدين الذي كان بالنسبة إليهم بمنزلة «هيكل المنفى»، ولكن هذا الهـيكل المتـنقل تَحـطَّم مثلما تَحطَّم الهيكل الأول، ولذا فلابد من بدء تاريخ جديد. ويُلاحظ كلاتزكين أن ثمة حلولاً مطروحة لإعادة تعريف الهوية اليهودية ويبدأ برفض مقاييس الصهيونية الإثنية (الدينية والعلمانية). فالمقــياس الديني ـ فـي تصوُّره ـ عرَّف اليهودي بأنه المؤمن بالدين اليهودي، أما العلماني (الذي يُقال له الروحي) فقد عرَّف اليهودي بأنه من يتبنى القيم اليهودية، وكلا المقياسين ذاتي يستند إلى إيمان الفرد وليس إلى صفة موضوعية (أي مادية) فيه. والواقع أن هذا النوع من التعريف يذهب إلى أن تَحقُّق الهوية اليهودية يكمن في تحقيق المثل اليهودية المطلقة أو الأخلاق اليهودية أو الجوهر اليهودي من خلال مركز روحي في فلسطين أو في أي مكان في العالم. ولذا، فإن الدولة اليهودية ليست شيئاً جوهرياً أو أساسياً من منظور الصهيونية الإثنية. ويطرح كلاتزكين، بدلاً من ذلك، صيغته الهرتزلية التي يُسميها «التعريف العلماني»، وهي أن اليهودي هو المشارك في التاريخ اليهودي (بالمعنى المادي) والذي يملك الرغبة في الاستمرار في ذلك التاريخ.

وهو بذلك يكون قد طرح مقياساً موضوعياً وذاتياً. ثم إنه يضيف إلى ذلك عنصرين موضوعيين آخرين في طريقهما إلى التحقق: الأرض القومية واللغة القومية، فبدونهما لا معنى للقومية، وهذه القومية لا تحقق نفسها إلا من خلال الدولة اليهودية. ويؤكد كلاتزكين أن العنصر المهم هو إقامة الدولة أو الشكل أو الإطار، فهذا الإطار هو الذي سيضفي لوناً قومياً على المضامين الأخرى كافة. لكن مضمون حياة اليهود سيصبح قومياً عندما تصبح أشكالها قومية، ولذا فإن استعادة الأرض غاية في حد ذاتها وعن طريقها تتحقق الحياة القومية الحرة، ويصبح اليهود بذلك شعباً طبيعياً لا ينغمس بشكل متطرف في الفكر والروحانية وإنما يستمر في حياته القومية على أرضه، فما يحدد حياة الأمة هو الأرض واللغة وليس الأفكار الدينية أو الثقـافيـة، فالاهتـمام بهذه الأمور علامة من علامات المرض. ويتنبأ كلاتزكين بأن الانتماء اليهودي سيصبح في نهاية الأمر انتماءً عادياً طبيعياً قومياً صرفاً، وسيموت اليهود في سبيل الأرض واللغة على طريقة أعضاء القوميات العضوية التي ظهرت داخل التشكيل الحضاري والسياسي الغربي، وليس في سبيل المضمون الديني أو الأخلاقي لليهودية، أي على طريقة "أسلافنا" اليهود.

ويري كلاتزكين أن الصهيونية ذات الديباجات الإثنية تُشكِّل عائقاً مؤثراً، إن شخصية النبي التي يمثلها آحاد هعام لا تزال تحجب النور القومي الذي يمثله هرتزل.

إذن، ما مصير الجماعات اليهودية في العالم؟ هنا نجد أن كلاتزكين، مثل هرتزل (ونوردو وجابوتنسكي)، كان يرى ضرورة إخلاء أوربا من يهودها وضرورة تصفية الدياسبورا (يهود العالم) تماماً، فحياة يهود المنفى مؤقتة وتستمد أهميتها بمقدار ما تخدم الحياة الدائمة في فلسطين. لكن حياة المنفى ليست جديرة بالبقاء كغاية في ذاتها وتستحق البقاء فقط إن كانت واسطة انتقال. والواقع أن الجهد القومي من أجل يهود المنفى يجب أن يركز على استخدامهم، وبالتالي فيجب إنشاء الحواجز بينهم وبين الشعوب الأخرى حتى يمكن الاستفادة منهم. ولكن هذه المرحلة مجرد مرحلة انتقالية مؤقتة يتم فيها بَعْث الحياة القومية من خلال الدولة الصهيونية، وسيَضعُف الوجود اليهودي في العالم بالتدريج ويظهر نمط يهودي جديد كل الجدة يختلف تماماً عن نمط يهود العالم، وهو ما سـيؤدي إلى تقسـيم اليهـود إلى قسمين: داخلي وخارجي. بل إن كلاتزكين يذهب إلى أن يهود العالم سيختفون بعد انتهاء هذه المرحلة المؤقتة. وقد لاحَظ كلاتزكين أن عملية الاندماج في المجتمعات الغربية كانت قد بدأت وأخذت وتيرتها تتصاعد، كما أن عدوى الاندماج كانت قد بدأت تصيب قطاعات كبيرة وبدا تأثيرها أكثر عمقاً، وسوف تتكفل هذه العملية بتصفية يهود العالم (وهو ما يُطلق عليه الآن «موت الشعب اليهودي»).

وقد بيَّن كلاتزكين بذلك، وبصورة دقيقة، علاقة المستوطنين الصهاينة في فلسطين بالجماعات اليهودية في العالم، وحدَّد ليهود العالم دورهم كأتباع للدولة الصهيونية، يمدونها بالعون ولا ينتظرون منها سوى التصفية النهائية.

وقد أدرك كلاتزكين وجود صهيونيتين (توطينية غربية واستيطانية شـرقية). وفي نهاية إحدى المقالات في مجموعة الحدود (1914)، يقـول: "إن هرتزل لم يظهر نتيجة وعي قومي يهودي وإنما ظهر نتيجة وعي إنساني عالمي" (عبارة "إنساني عالمي" تعني في النصـوص الصهيـونية عادةً "غربي"). وقد عــاد هرتزل إلى شعبه، ولكن الذي عاد ـ في رأي كلاتزين ـ لم يكن هرتزل اليهودي وإنما هـرتزل الإنسـان (فكأن ثمة تناقضاً بين إنسانية اليهودي ويهوديته). فالصهيونية بين اليهود الغربيين تتغذى بعدد من العوامل الإنسانية العلمانية غير القومية، ولا تعتمد في غذائها على اليهودية وإنما على الحضارة بشكل عام. هذه هي صهيونية الغرب الخارجية (التوطينية)، أما صهيونية يهود الشرق فهي ليست كذلك، فالصهيونية بالنسبة ليهود اليديشية ليست حركة عالمية مُدمِّرة من جهة ومُعمِّرة من جهة أخرى (مدمرة لليهودية التقليدية ومعمرة للانتماء القومي اليهودي) وإنما هي تعبير عن رغبتهم في الاستمرار فيما هم عليه، فقد جاءوا من وسط ثقافي منحط وبالتالي فإنهم لا يقدمون أياً من تلك القيم الأخلاقية أو الجمالية (الغربية) التي مهدت الطريق للنهضة في الغرب. إن صهيونية الغرب جاءت لتُخلِّص الإنسان داخل اليهود (وليس اليهود) وتعلق آمالها على التقدم العام للحضارة (وليس على تطوير الذات اليهودية)، فإيمانها القومي ليس إيماناً باليهودية وإنما إيمان بالإنسان بشكل عام، إيمان بقوة الخير والجمال (أي بالقيم العلمانية التي لا علاقة لليهودية بها)

وهنا، يصل تقسيم العمل إلى ذروته، فالصهيونية بالنسبة للغرب تعني مزيداً من التغريب والانتماء العام للحضارة الإنسانية (أي الغربية). أما بالنسبة للشرق، فهي استمرار لما كان، ولذا فإن صهيونيتهم مرفوضة. ولعله، لهذا السـبب، رغم كل حديثه عن تصفية المنفى ومرضه، مكث خارج فلسطين (في سويسرا والولايات المتحدة وألمانيا) ومات في سـويسرا، عالم القيم العالمية (أي الغربية) التي كان يطمح إليها، وبعيداً عن القيم اليهودية التي كان يرفضها تماماً.

وقد كتب كلاتزكين دراسة في أعمال هيرمان كوهين وإسبينوزا وترجم كتابه الأخلاق إلى العبرية. وجُمعت أهم كتاباته في كتــابه تخـوم، ومـن أهـم أعماله أيضاً معجم للمصطلحات الفلسفية العبرية، ومختارات من الفلاسفة الذين يكتبون بالعبرية والفلاسفة العرب في العصر الوسيط.

الباب العاشر: الصهيونية العامة (أو الصهيونية العمومية)

الصهيونية العامة (أو الصهيونية العمومية(

General Zionism

«الصهيونية العامة» أو «الصهيونية العمومية» تيار صهيوني يحاول قدر استطاعته الالتزام بالصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة (شعب عضوي منبوذ ـ يُنقَل خارج أوربا ليُوظَّف لصالحها في إطار دولة وظيفية) وبالتعريف الهرتزلي للصهيونية (الذي لا يختلف قط عن هذه الصيغة). ويمكن القول بأن الصهيونية العامة هي «الصهيونية الدبلوماسية» و«صهيونية أثرياء الغرب المندمجين» بعد مرحلة هرتزل وبلفور (والتي تطوَّرت بعد ذلك لتصبح «صهيونية الدياسبورا»). ولأن الصهاينة العموميين يلتزمون بهذا الحد الأدنى، فإن أتباع هذا التيار يرفضون التيار الديني المتمثل في حركة مزراحي، بل عارضوا تطبيق التعاليم الدينية بقوة القانون وطالبوا بإلغاء القوانين الدينية التي تحد من الحريات الشخصية، وخصوصاً في مسائل الزواج والطلاق. وهم لا يتوجهون على الإطلاق لمشكلة ما يُسمَّى «الإثنية اليهودية»، كما أنهم يرفضون الخوض في مناقشة التوجه الاقتصادي أو السياسي للمُستوطَن الصهيوني أو الخوض في البرامج التفصيلية حول مستقبل المشروع الصهيوني وشكل الملكية في الدولةالصهيونية أو الدخول في الصراعات السياسية الناجمة عن العملية الاستيطانية. كما أنهم لم يهتموا كثيراً بالمؤسسات الاستيطانية: الزراعية والعسكرية والثقافية والدينية. وبطبيعة الحال، فقد عارضوا أيضاً الاتجاه العمالي المتمثل في حركة عمال صهيون بشكل خاص.

وتذهب التواريخ الصهيونية (أو المتأثرة بها) إلى أن الصهيونية العامة هي بمنزلة حزب الوسط، وأنها الصهيونية التي تعلو على الأحزاب، وأنها الصهيونية التي تركز على المصلحة القومية (بغض النظر عن الانتماء الطبقي ولا تكترث بالتفاصيل) لأن هذا سيكون على حساب الفكرة الأساسية، وكلها من قبيل محاولة تطبيع النسق الصهيوني وتصوير التيارات الصهيونية المختلفة كما لو أنها أحزاب تمثل اليمين والوسط واليسار.

وفي تَصوُّرنا أن عمومية الصهيونية العامة تكمن في عدم اكتراثها بالجوانب الخصوصية، فهي لا تصر على خصوصية الهوية اليهودية ولا على خصوصية المشاكل التي يواجهها المستوطنون الصهاينة في فلسطين. وهذه العمومية هي جزء لا يتجزأ من توطينية أتباع الصهيونية العامة ورفضهم التورط الكامل في المشروع الصهيوني باعتباره مشروعاً يهودياً وإصرارهم على غربيته أو على أن تأييدهم له ينبع من انتمائهم للغرب. ولذا، يمكن القول بأن الصهيونية العامة (على الأقل بالنسبة إلى عدد كبير من أعضائها في الخارج) هي الصهيونية التوطينية بعد وعد بلفور، فالتوطينيون قبل بلفور كانوا يخافون من أن يُتهَموا بازدواج الولاء، ولذا فقد أصروا على أن تظلالحركة الصهيونية حركة إنقاذ وإغاثة خارج أي إطار قومي. ومع تَبنِّي الدول الغربية نفسها للمشروع الصهيوني لم يَعُد هناك أي خوف من تهمة ازدواج الولاء، بل أصبح واجبهم الوطني هو الانضمام للصهيونية، وأصبحت صهيونيتهم جزءاً من وطنيتهم والعكس بالعكس (ومن ثم، فإن كثيراً من الصهاينة العموميين في الخارج هم من يُطلَق عليهم «صهاينة الدياسبورا»). ومع هذا، كان انتماء أعضاء هذا التيار للعالم الغربي، حيث تسود الديموقراطية الليبرالية والمشروع الحر، له أكبر الأثر في نفورهم من بعض أشكال الاستيطان الصهيوني الاشتراكية. وقد أظهروا معارضتهم له، رغم محاولتهم الابتعاد عن السياسة، فمثل هذه الأشكال الاشتراكية قد تُسبِّب لهم الحرج فيمجتمعاتهم الليبرالية.

ولا تتطلب الصهيونية العامة من الصهيوني سوى الانتماء للمنظمة الصهيونية العالمية وسداد رسوم العضوية (الشيقل) وقبول برنامج بازل. وقد حاول هذا الاتجاه تثبيت أركان الاستيطان الصهيوني في فلسطين عن طريق جمع المال وتوظيف رؤوس الأموال لشراء الأراضي وتوطين المهاجرين في فلسطين، ثم اتّباع أسلوب المفاوضـات الدبلوماسـية لتحقيق مكاسـب للحركة الصهيونية.

وقد كان هذا التيار يضم في صفوفه كبار المموِّلين اليهود في الخارج. وبالتدريج، اتسع نطاقه ليضم قطاعات كبيرة من يهود الولايات المتحدة (أي معظم صهاينة العالم الغربي التوطينيين). وظل هذا التيار مسيطراً على الحركة الصهيونية حتى عام 1929 حينما كانت الصهيونية لا تزال وليدة عاجزة، تحتاج لحضانة الاستعمار الغربي، فلم يكن قد تم تأسيس مؤسساتها الاستيطانية بعد. ومع منتصف العشرينيات، بدأ تيار الصهيونية العمومية يتراجع من حيث الوزن التنظيمي، فكانت نسبتهم في المؤتمر الصهيوني الثاني عشر (1921) 73% من مجموع المندوبين (مقابل 8% للتيار العمالي)، ثم انخفضت تلك النسبة بعد عشر سنوات عام 1931 إلى 53% (مقابل 29% للتيار العمالي)، واستمر التدهور بعد ذلك. وقبل انعقاد المؤتمر السابع عشر (1931)، قرَّر الصهاينة العموميون تنظيم أنفسهم، وقد عُقد أول مؤتمر للاتحاد العالمي للصهاينة العموميين عام 1931 عشية المؤتمر، وكان يضم المجموعات التالية:

ـ المجموعة (أ) التي تؤيد وايزمان وبرنامجه.

ـ المجموعة (ب) التي تنتقد هذا البرنامج والسياسات الاقتصادية للمنظمة الاستيطانية.

ـ المجموعة (جـ) الصهاينة الراديكاليون بقيادة ناحوم جولدمان ويتسحاق جرونباوم.

ومما دعَّم نفوذ الصهاينة العموميين في المُستوطَن الصهيوني، هجرة بعض اليهود الموسرين من ألمانيا ابتداءً من عام 1933 حيث كانت لهم مصالح تتناقض مع مصالح البيروقراطية العمالية.

ولكن، مع المؤتمر العالمي الثاني عام 1935، انشق الاتحاد إلى مجموعتين:

المجموعة (أ) وكانت تستمد قوتها بشكل خاص من فرع الصهاينة العموميين في بريطانيا وجنوب أفريقيا وألمانيا ورومانيا (وجزء من المنظمة الصهيونية الأمريكية)، وهم أساساً مهنيون ومثقفون كانوا يؤيدون سياسة وايزمان تجاه بريطانيا وكانوا لا يمانعون في وجود منظمات استيطانية ذات طابع جماعي. وقد أسَّست هذه المجموعة حركتها الاستيطانية الخاصة وتنظيمها الشبابي وأقامت عدداً من المستوطنات في فلسطين.

أما المجموعة (ب) فقد استمدت قوتها من جاليشيا (التي تُعَدُّ الركيزة الأساسية)، ولكن الأهم من هذا أن هذه المجموعة قد استمدت قوتها من غالبية أعضاء المنظمةالصهيونية في أمريكا، وخصوصاً بعد أن وصل أبا هليل سيلفر إلى رئاسة المنظمة الصهيونية في أمريكا (وكان متشـدداً في مواقفـه تجاه بريطانيا والانتداب البريطاني). وقد كان هؤلاء، بسبب جذورهم الأمريكية، يعارضون الهستدروت بشدة وكذلك أية مؤسسات عمالية مهما كان شكلها.

ورغم اختلاف المجموعتين، تقول الموسوعة الصهيونية إن جهدهم تركَّز على النشاطات الثلاثة التالية:

1 ـ تطوير الصهيونية في الخارج.

2 ـ الدفاع عن المستوطنين الصهاينة ("النضال السياسي من أجل الحقوق اليهودية في فلسطين").

3 ـ ولكن أهم نشـاطاتهم على الإطـلاق هو جمع الأموال لدعم الاستيطان.

وتضيف الموسوعة أن كلاًّ من الفريقين لم يهتم كثيراً بدعم التابعين له في فلسطين، أي أنه تنظيم خارجي (توطيني) أساساً. وقد تأسَّس عام 1946 اتحاد عام يضم كل الصهاينة العموميين سواء في إسرائيل أو خارجها. وتقول الموسوعة إن مواجهة الصهاينة العموميين داخل فلسطين للموقف الاستيطاني لم يحدث إلا بعد 1948، وحتى بعد ذلك كانت الأيديولوجيا الليبرالية شديدة الضعف. ولا يزال الصهاينة العموميون، لأنهم يمثلون الجماعات اليهودية، أكثر القطاعات قوة في الخارج. ففي المؤتمر الصهيوني السابع والعشرين (1968)، كانت قوتهم 180 مندوباً أو حوالي ثلث المندوبين. كما أنهم يُشكِّلون القوة المسيطرة الأساسية في عملية جمع الأموال لدعم إسرائيل وعملية الدعم السياسي (وهذه هي مهمة صهيونية الخارج التوطينية). ويسيطر اتحاد الصهيونيين العموميين سيطرة شبه كاملة على المنظمة الصهيونية الأمريكية.

ويوجد حزب في إسرائيل يُسمَّى حزب الصهيونيين العموميين اندمج مع الحزب التقدمي وكونا معاً الحزب الليبرالي عام 1961 ولكن التقدميين انسحبوا عام 1965، وانضم العموميون لحزب حيروت مكوِّنين معه حزب جحال، ثم انضم الجميع لليكود. ولكن يمكن القول بأن الصهاينة العموميين في الخارج توطينيون، أما الصهاينة العموميون في إسرائيل فهم استيطانيون، ولكلٍّ توجهاته وأولوياته. ولعل الرقعة المشتركة بينهما يشكلها أمران؛ أولهما: التركيز على المشروع الحر، وثانيهما: تأكيد ضرورة علمنة الدولة الصهـيونية. وتخـتلف ساحة نشاط التوطينيين عن ساحة الاستيطانيين، كما تختلف جماهير كل منهما.

حاييـــم وايزمــــان (1864-1952(Hayyim Weizmann

زعيم صهيوني، عالم كيميائي، وأول رئيس لدولة إسرائيل. وُلد في روسيا في منطقة الاستيطان، وكان أبوه تاجر أخشاب من مؤيدي حركة الاستنارة اليهودية. ومع هذا، فقد تلقَّى وايزمان تعليماً دينياً تقليدياً حتى سن الحادية عشرة، فدرس العهد القديم والنحو العبري وما يُسمَّى «التاريخ اليهودي»، ولكنه تلقَّى بعد ذلك تعليماً علمانياً. ولكن العنصر الأساسي في طفولة وايزمان هو الشتتل الذي نشأ فيه، وبناء الشتتل العاطفي والاقتصادي يستبعد الأغيار من وعي اليهود، إن لم يكن من واقعهم أيضاً (على حد قول وايزمان نفسه).

بعد حصوله على الدكتوراه من ألمانيا عام 1899، قام وايزمان بالتدريس في سويسرا (1901) ثم ألمانيا (1904). وقد كان من المطالبين بإدخال الديباجة الإثنية على الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة، كما كان من المعجبين بآحاد هعام وتأثر بأفكاره، وكان من الداعين لاستخدام العبرية في التخنيون (ضد دعاة الألمانية). ساهم في تأسيس الجامعة العبرية، كما ساهم في تأسيس أحد أهم المعاهد العلمية في فلسطين الذي أصبح بعد ذلك معهد وايزمان للعلوم. وانطلاقاً من موقفه الإثني العلماني، وقف وايزمان ضد مشروع شرقي أفريقيا.

كان من أوائل المفكرين والزعماء الصهاينة الذين أدركوا عبث الجهود الصهيونية الذاتية التسللية وحتمية الاعتماد على الدعم الإمبريالي لوضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ. وكان وايزمان مدركاً تماماً علمانية الحضارة الغربية ونفعيتها، فالمسألة ليست مسألة تلاق بين الأحلام اليهودية والأحلام المسيحية وإنما هو تلاقي مصالحالإمبريالية والصهيونية، فالدولة الصهيونية تحتاج إلى الدعم الإمبريالي وإنجلترا تحتاج إلى قاعدة، وبما أن الدولة اليهودية قاعدة رخيصة (على حد قول وايزمان) فلا تستطيع إنجلترا أن تجد صفقة أفضل من هذا (أي أنه أدرك أن الدولة الصهيونية دولة وظيفية(

غادر وايزمان سويسرا إلى إنجلترا عام 1904 وعُيِّن في جامعة مانشستر، وقد جمع حوله مجموعة من الصهاينة اليهود الذين كانوا قد بدأوا في تكثيف النشاط الصهيوني وكوَّنوا نواة الحركة الصهيونية في إنجلترا. وفي عام 1907، في المؤتمر الثامن، ألقى خطبته التي اقترح فيها تبنِّي ما سماه «الصهيونية التوفيقية» التي تجمع بين التوجهالدبلوماسي التوطيني (التفاوض مع الدول الاستعمارية من أجل الحصول على براءة الاستيطان في فلسطين) والجهد الاستيطاني وتطوير الإثنية اليهودية. وقد أصبحتالصهيونية التوفيقية منذ ذلك الوقت الإطار الذي تحركت من خلاله الحركة الصهيونية. وبعد نهاية المؤتمر قام وايزمان بأول زيارة لفلسطين.

اندلعت الحرب العالمية الأولى بعد وصول وايزمان إلى سويسرا بيوم، فقطع رحلته وعاد إلى إنجلترا حيث قدمه س. ب. سكوت محرر المانشستر جارديان لبعض الشخصيات الإنجليزية المهمة من بينهم لويد جورج وهربرت صمويل الذي كان قد أعد مذكرة بمبادرة منه لإقامة دولة يهودية في فلسطين بعد تقسيم تركيا. وكان إسكويث (رئيس الوزراء) قد رفض المذكرة الأمر الذي وضع حداً لكل الجهود الصهيونية. ولكن تغييراً حدث في الوزارة، فأصبح لويد جورج رئيساً للوزراء، وكان من قبل زيراً للإمدادات (وكان وايزمان قد ترك انطباعاً جيداً عنده باكتشافه الأسيتون) وكان بلفور وزير الخارجية، كما أن عدداً كبيراً من المشاركين في الوزارة (مثل سير مارك سايكس) كانوا مؤيدين متحمسين للمشروع الصهيوني كمحاولة لتقليص النفوذ الفرنسي في الشام، أي أن الجو كان مهيئاً لصدور وعد بلفور قبل صول وايزمان وبدون أن يبذل أي جهد. ولكن معارضة اليهود الإنجليز، وخصوصاً معارضة إدوين مونتاجو وكلود مونتفيوري، جعلته يشعر بالإحباط لدرجة أنه فكر في الاستقالة من اتحادالصهاينة الإنجليز، ولكن آحاد هعام نصحه بألا يفعل ذلك وذكَّره بأنه لم يعيَّن من قبَل أحد، ولذا فلا يمكنه أن يقدِّم استقالته لأحد. وكان وايزمان قد قطع علاقته بالمكتب المركزي للمنظمة الصهيونية العالمية في برلين التي كانت وثيقة الصلة بالألمان والأتراك وبمكتب الاتـصال التابـع لها في كوبنهـاجن، ثم صدر وعد بلفور.

كان وايزمان يتوقع أن يُقوِّي صدور وعد بلفور مركزه ومركز الصهيونية أمام اليهود، ويفرض المؤسسة الصهيونية عليهم من أعلى. وهذا ما حدث بالفعل، فقد عُيِّن عام 1918 رئيساً للبعثة الصهيونية التي أُرسلت إلى فلسطين لتحديد الطرق الممكن اتباعها لتطوير فلسطين بما يتفق مع ما جاء في وعد بلفور. وذهب وايزمان إلى القاهرة وقابل فيصل ابن الشريف حسين محاولاً الوصول معه إلى تفاهم. ثم رأس وايزمان الوفد الصهيوني لمؤتمر السلام في فرساي عام 1919 ليطالب بالموافقة الدولية على وعد بلفور وبأن يوكل لبريطانيا الانتداب على فلسطين. انتُخب وايزمان رئيساً للمنظمة الصهيونية العالمية عام 1921 في المؤتمر الصهيوني الثاني عشر، ونشب خلاف بينه وبين برانديز بشأن طريقة إدارة المُستوطَن الصهيوني وتمويل المستوطنات حيث طالب برانديز (الذي كان لا يعرف شيئاً عن طبيعة الاستعمار الاستيطاني وعن الظروف في فلسطين) بإدارتها على أُسس نظام الاقتصاد الحر، ورفض وايزمان الرضوخ لذلك لأن مثل هذا الإجراء كان يمكن أن يودي بالمشروع الصهيوني تماماًَ. ولذا، وقف وايزمان وراء أشكال الاستيطان العمالية مثل الموشاف والكيبوتس. وقد نجح وايزمان في عقد تحالف بين الصهاينة العموميين ومعظمهم من التوطينيين،والعماليين الاستيطانيين، وانضم لهم حزب مزراحي ممثل الصهيونية الإثنية الدينية. وهذا الائتلاف الثلاثي هو الذي قاد الحركة الصهيونية وأشرف على نشاطها خلال فترة الانتداب البريطاني.

كان وايزمان على خلاف مع جابوتنسكي الذي كان يتبنى خط الحد الأقصى ويصر على الإفصاح عن الهدف الصهيوني النهائي، وهو الأمر الذي وجده وايزمان غير مجد أو مثمر. وكان جابوتنسكي يطرح تصورات مثل خطة نوردو لتغيير الواقع السكاني في فلسطين بين عشية وضحاها، كما كان يلجأ إلى إصدار تصريحات من شـأنها إثـارة قلـق السـكان الأصليـين. وحينما وسَّـع وايزمـان الوكالة اليهودية، حتى تضم يهوداً غير صهاينة كجزء من السياسة الصهيونية لغزو الجماعات اليهودية، وعُقد أول اجتماع للوكالة الموسعة عام 1929، عارض جابوتنسكي هذا الإجراء.

وكان قد تم تعيين السير هربرت صمويل مندوباً سامياً لبريطانيا في فلسطين (وكان يهودياً نشأ وترعرع داخل تقاليد صهيونية غير اليهود ذات الديباجات المسيحية والعلمانية) وكان من المتوقع أن يتعاون مع وايزمان، ولكن طبيعة علاقة الدولة الإمبريالية (بمصالحها العالمية) مع السكان الأصليين تختلف عادةً عن طبيعة علاقة المستوطنين بهم، ومن هنا نشأ الاختلاف في الرؤية وتولَّدت التوترات. وكان وايزمان يحاول حل هذه المشكلة عن طريق إطلاق التصريحات الأخلاقية عن حقوق العربوضرورة ألا تُمس شعرة في رأسهم، وفي الوقت نفسه كان يضع الخطط التي تهدف إلى تغييبهم وإخلاء فلسطين منهم لوعيه التام بخطورة العنصر العربي على الدولةالصهيونية الاستيطانية الإحلالية، وكان يرى أن أي سلام مع العرب هو سلام القبور. وحينما عرف بطرد العرب من فلسطين عام 1948، تحدَّث عن هذه العملية على أنها معجزة أدَّت إلى تطهير أرض إسرائيل! ومن الواضح أنه يتحرك داخل إطار حلولي عضوي (حلولية بدون إله) في موقفه من الشـعب اليهـودي وعلاقته بالأرض. فحينما عُرض عليه أن يَقْبل اليهود وضع الأقلية في فلسطين وأن يتعايشـوا مع العـرب، انفجر متمـتماً بكلمات ذات طابع حلولي واضح: "الرب سيضع يده مرة ثانية ليستعيد بقية شعبه ويرفع راية لكل الأمم، وسيجمع المشردين من إسرائيل وسيجمع المشتتين من يهودا من أركان الأرض الأربعة"! وهكذا.

وكانت إدارة الانتداب والحكومة البريطانية تضطر من آونة لأخرى لإعادة تفسير وعد بلفور، كما حدث عام 1930 حيث أصدر سكرتير المستعمرات في وزارة العمال البريطانية كتاب باسفيلد الأبيض الذي اعتبره الصهاينة قضاء على المشروع الصهيوني بأكمله، فاستقال وايزمان من رئاسة المنظمة عام 1930 وتراجعت الحكومة البريطانية وأرسل رئيس الوزراء خطاباً لوايزمان يعبر له فيه عن تأكيده استمرار التزام حكومته بالمشروع الصهيوني.

وتتبدَّى مرونة وايزمان العلنية ومقدرته على استخدام الخطاب الصهيوني المراوغ في تصريحه عام 1931 بأن وجود أغلبية يهودية في فلسطين ليست مسألة ضرورية، وقد صرح بهذا من قبيل تهدئة الخواطر ولكنه كان يؤمن بأنه ستكون هناك أغلبية يهودية في نهاية الأمر من خلال الجهد البطيء الذي يخلق حقائق جديدة، من خلال بناء منزل وراء منزل ودونم وراء دونم، ومستوطنة بعد مستوطنة. والواقع أن خلق الحقائق الجديدة أصبحت الإستراتيجية المستقرة للصهيونية، ولكن يبدو أن ذلك كان يتم هذه المرة عَبْر الخط الأحمر دون أن يدري، وأن حجم المراوغة كان أكبر مما يتحمل الصهاينة، ولذا فقد كلَّفه هذا التصريح رئاسة المنظمة. ولكن، مع هذا، تم اختيار صديقه الحميم سوكولوف خلفـاً له، فالخـلاف لم يكن جوهرياً وإنما كان خطأ خاصاً بطريقة التعبير.

ومع صعود هتلر للسلطة، زاد عدد المهاجرين اليهود إلى فلسطين وزاد حجم رأس المال اليهودي فيها. وأعيد انتخاب وايزمان للرئاسة عام 1935. وكان وايزمان من المؤمنين بضرورة ترك يهود أوربا لمصيرهم على أن يتركز الجهد الصهيوني على تهجير بعض العناصر اليهودية التي ستساهم في بناء المُستوطَن الصهيوني. وتظهر مرونة وايزمان مرة أخرى عام 1937 حينما طُرحت فكرة تقسيم فلسطين إذ قبله رغم صغر حجم الجزء الممنوح للدولة اليهودية لأن قبول الحد الأدنى علنياً لا يعني عدم المقدرة على العمل في الخفاء للحصول على الحد الأقصى "وصحراء النقب" التي لم تكن جزءاً من الدولة اليهودية حسـب خطـة التقسيم "لن تفر"، حسب قوله، بل هي باقية يمكن الاستيلاء عليها فيما بعد.

وظلت العلاقة بين الصهاينة والحكومة البريطانية متعثرة، إلى أن نشبت الحرب العالمية الثانية. وقد حاول وايزمان تجديد جهوده العلمية حتى يزداد نفوذه أمام الحكومة البريطانية، ولكن عرضه رُفض وتم تأييد طلب جابوتنسكي بالسماح بتشكيل اللواء اليهودي للاشتراك كقوة صهيونية مستقلة (إلى جانب الحلفاء) ولتدعيم مركز المستوطنين، لكنَّ هذا لم يَعُقه عن مقابلة موسوليني شخصياً عدة مرات ليحصل منه على تأييده للمشروع الصهيوني.

وظلت علاقة الصهاينة ببريطانيا متعثرة حتى ظهور الولايات المتحدة كمركز للثقل الإمبريالي، فبدأوا في تحويل ولائهم. وقضى وايزمان وقتاً طويلاً (1941 ـ 1942) ورك حتى يمكنه تجنيد القيادة الأمريكية إلى جانب المشروع الصهيوني.

وعُقد مؤتمر صهيوني في بلتيمور عام 1942 وأصدر برنامج بلتيمور الذي تنبع أهميته من أنه أفصح عن الهدف الصهيوني النهائي في إنشاء دولة. ومع نهاية الحرب، كان وضع وايزمان داخل المنظمة مخلخلاً. فقد كان ممثلاً للمرحلة البريطانية في تاريخ الصهيونية والاستيطان الصهيوني. كما أن مجال حركته كان في الساحة الدولية خارج ساحة الاستيطان. ومع ازدياد قوة المستوطنين وظهور الولايات المتحدة، لم يَعُد الشخص المناسب للمرحلة الجديدة، وخصوصاً أن حكومة العمال البريطانية رفضت السماح بالهجرة اليهودية غير المقيدة، وكانت القيادة الجديدة تفضل تبنِّي سياسة نشطة نوعاً ما ضد البريطانيين، لذا بدأ بن جوريون يتحدى قيادته، وخصوصاً أنه كان قد بلغ السبعين وبدأ تصحته تعتل. ولم يَجر انتخابه رئيساً للمنظمة عام 1946 لوجود إحساس عام بأنه فَقَد صلته بالواقع. ومع هذا، استمر وايزمان في جهوده وسافر إلى الولايات المتحدة للاتصال بالرئيس ترومان وغيره حتى تقف الولايات المتحدة وراء قرار التقسيم. وكان وايزمان من أنصار أن يُعلَن قيام الدولة الصهيونية فور انسحاب البريطانيين، بغض النظر عن قرار هيـئة الأمم المتحـدة، وأن تُعدُّ الدولة نفسها للحرب مع العرب. وبعد إعلان الدولة، قابل ايزمان الرئيس ترومان وحصل منه على وعد بأن تقوم الولايات المتحدة بتمويل مشاريع التنمية في إسرائيل.

وحينما قامت الدولة وعُرضت عليه رئاستها هنأه القاضي فلكس فرانكفورتر وقال له إنه بإمكانه أن يقول ما لم يتمكن موسى من قوله (لأن هذا النبي الأخير قد مات قبل أن يصل إلى أرض الميعاد أما وايزمان فقد وصل بالفعل). ولكنه، مع هذا، لم يضع اسمه ضمن الموقعين على قرار إعلان إسرائيل، كما أنه كان يضيق ذرعاً بوظيفة رئيس الدولة لأنها وظيفة شكلية شرفية محضة، ولم تكن تُرسَل له حتى محاضر مجلس الوزراء، وذلك بناءً على أوامر بن جوريون. ومن أهم مؤلفات وايزمان كتاب التجربة والخطأ (1949)، كما أن رسائله قد جُمعت ونشرت تباعاً في سلسلة من المجلدات.

الصهيونية التصحيحية

Revisionist Zionism

«الصهيونية التصحيحية» وتترجم أحيانا بالصهيونية «المراجعة» أو «التنقيحيه» تيار صهيوني نابع من فكر جابوتنسكي ظهر داخل المنظمة الصهيونية عام1923 بهدفتصحيح أو تنقيح أو مراجعة السياسة الصهيونية (ومن هنا يُشار إليها أحياناً باسم «الصهيونية التنقيحية» أو «الصهيونية المراجعة»). وهذا التيار تعبير عن محاولة بعض العناصر الصهيونية (من شرق أوربا أساساً) المتشبعة بالفكر الاقتصادي الليبرالي والفكر السياسي الفاشي طرح الهيمنة العمالية على عمليات الاستيطان وهيمنة صهاينة الخارج الليبراليين على النشاط الدبلوماسي جانباً. وقد حاول دعاة هذا التيـار أن ينتهـجوا خـطاً وأسـلوباً جــديدين للعمل على الصعيد الدولي، حيث كانوا يرون أنهما في واقع الأمر استمرار لخط هرتزل ونوردو وفلسفتهما، وأن يصوغوا فكراً استيطانياً مستقلاًّ، وأن يُشيِّدوا مؤسسات استيطانية مستقلة. وقد كانت هذه المحاولة هي الأولى من نوعها داخل الحركة الصهيونية من جانب أعضاء الطبقة الوسطى. ولعل هذا يعود إلى الأصول الطبقية لموجات الهجرة الصهيونية المختلفة، فأعضاء الموجة الأولى والثانية أتوا أساساً من صفوف البورجوازية الصغيرة، ولم يكونوا يملكون شيئاً. ولكن فلسطين شهدت، ابتداءً من عشرينيات القرن وحتى بداية منتصف الأربعينيات، وصول الموجات الثالثة والرابعة والخامسة التي ضمت في صفوفها أعداداً كبيرة من صغار الرأسماليين وأصحاب العمل (هاجر في الموجة الخامسة وحدها حوالي 25ألف يهودي يملك كل منهم أكثر من ألف جنيه إسترليني).

وفكر الصهاينة التصحيحيين هو، في نهاية الأمر، فكر جابوتنسكي الذي يقبل كل الأطروحات الصهيونية الأساسية عن الشعب العضـوي المنبـوذ الذي يُـشكِّـل جسماً غريباً في أوربا تلفظه كل المجتمعات، وعن الشعب اليهودي الرديء الذي يكرهه جيرانه عن حق. ويرى جابوتنسكي ـ شأنه شأن هرتزل وأستاذه نوردو ـ أن مصدر هوية اليهود ليس تراثهم الديني أو الإثني (فهذا التراث يمكن الاستغناء عنه تماماً) وإنما هو معاداة اليهود. ولذا، فإن المسألة اليهودية في نظره هي في الأساس مسألة رفض أوربا لليهود، أي مسألة الفائض اليهودي. ولكن جابوتنسكي يُقرِّر، مع هذا، أن اليهود، وضمن ذلك السفارد، شعب أوربي. وقد عرَّف جابوتنسكي الشعب انطلاقاً من أطروحات الفكر العرْقي الغربي بكل ما يتضمنه ذلك من إيمان بتفاوت بين الأجناس.

وأرسلت الحركة التصحيحية أربعة مندوبين إلى المؤتمر الصهيوني الرابع عشر (1925)، وسُمِّيت الجماعة باسم «اتحاد الصهاينة التصحيحيين». وكان برنامجها يناديبما يلي: إنشاء دولة صهيون على ضفتي الأردن ـ رفع أية قيود على الهجرة اليهودية إلى فلسطين ـ مصادرة جميع الأراضي المزروعة والعامة في فلسطين ووضعها تحت تصرُّف الحركة الصهيونية.

عمل التصحيحيون على تفريغ أوربا من اليهود، وعلى تهجير أكبر عدد ممكن من اليهود في أقصر وقت ممكن. ولزيادة مقدرة فلسطين الاستيعابية، طالبوا بتوطين الطبقة الوسطى وتطوير القطاع الخـاص، لأن دخـول رأس المال الخـاص سـيخلق فرص عــمل جديدة. ولذا، فقد طالبوا بالتركيز على تطوير القطاع الصناعي والزراعة المكثفة. ونادى التصحيحيون بتأجيل الصراع الطبقي وقبول التحكيم الإجباري لحسم الخلافات بين العمال والرأسماليين ولسحق التمـرد العـربي دون اللجوء إلى البريطــانيين، وقد شـدد التصحيـحيون على ضـرورة إنشـاء وحـدات عسكرية يهودية مستقلة.

وقد وُضع هذا البرنامج في مجابهة كل التيارات الصهيونية الأخرى، وخصوصاً التيار العمالي الذي كان يؤيد طريقة الاستيطان التعاونية الملائمة لظروف فلسطين. وبهذا الشكل، فإن البرنامج التصحيحي ينم عن عدم فهم للمشروع الصهيوني وأبعاده الخاصة، أو على الأقل عدم فهم لطبيعة المرحلة التي كانت تتطلب التعاون والجماعية في الاستيطان، والبطء، والرضا بما تقبله الدولة الراعية، بالإضافة إلى السرية. كما أن ثمة تناقضاً أساسياً في هذا المشروع يكمن في المطالبة بالاستقلال الصهيوني في الحركة من ناحية وبالسرعة في تنفيذ المشروع الصهيوني اعتماداً على الدولة الراعية من ناحية أخرى. ولعل هذا يعود إلى إيمان هذا التيار بأن مشروعه استعماري تماماً، وبالتالي فإن ثمة تماثلاً كاملاً في المصالح يسمح برفع المطالب إلى الحد الأقصى.

ولعل أهم الأطروحات التي أكدها التصحيحيون أنه مهما كان الاستيطان في فلسطين قوياً ويشكل 90% من النشاط الصهيوني، فإن الـ 10% السياسي (الاستعماري) يظل الشرط المسبق للنجاح وللبقاء. فالاستيطان في نهاية الأمر بطيء ولن يفي بالغرض، ولهذا فلا غنى عن النشاط السياسي أو الدبلوماسي الذي يتلخص ـ طبقاً لتصورهم ـ في الضغط على الدول الغربية ـ وخصوصاً إنجلترا ـ لإخلاء أوربا من اليهود بشكل جماعي وإلقائهم في فلسطين، وذلك على حساب أية اعتبارات خيالية أخرى، مثل الدين والبعد الثقافي والتربية وما شابه، لإنشاء نظام استعماري استيطاني. ولهذا الغرض، تم تأسيس رابطة الدومنيون السابع لتطوير فلسطين كجزء من الإمبراطورية البريطانية.

جذبت الحركة التصحيحية عدة حركات ومنظمات صهيونية بين عامي 1925 و1935 وجدت في أفكار جابوتنسكي ضالتها المنشودة، ومنها:

ـ عصبة جوزيف ترومبلدور (بيتار). وقد احتفظت باستقلالها داخل معسكر اليمين، ثم أصبحت مع مرور الوقت التنظيم الأساسي الذي يزود ذلك المعسكر بالكوادر التي يحتاج إليها.

ـ مجموعة ريتشارد ليشتهايم، وهو يهودي ألماني استقال من اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية (مع جابوتنسكي) عام 1923.

ـ مجمـوعة روبرت شتريكر، وهو أحـد قادة الصـــهيونيين العموميين. وقد عارض شتريكر سياسة وايزمان المهادنة لبريطانيا وطالب بتحديد هدف الصهيونية بإقامة الدولة اليهودية ثم انضم إلى الحركة التصحيحية.

ـ مجموعة جوزيف شختار، وهو يهودي روسي ويُعتبَر من مؤسسي الحركة التصحيحية.

أرسل التصحيحيون عشرة مندوبين للمؤتمر الصهيوني الخامس عشر (1927) وواحداً وعشرين مندوباً للمؤتمر السادس عشر (1929) واثنين وخمسين مندوباً للمؤتمرالسابع عشر (1931). واتهموا القيادة العمالية بأنها توزع شهادات الهجرة بطريقة تخدم مصالح أتباعها وحسب وتتجاهل أتباع الحركة وبأن توزيع الأرض والأعمال يتم بالطريقة نفسها، كما اتهموا القيادة العمالية بتزييف انتخابات المؤتمرات الصهيونية عن طريق شراء الشيقل بالجملة. ولهذا السبب، انسحبوا من الصندوق القومي اليهودي ومن الهستدروت وكونوا اتحاد العمال القومي. كما عارضوا توسيع الوكالة اليهودية عام 1929 لأن هذا في تصوُّرهم سيؤدي إلى تمييع الصيغة الأساسية السـياسية الـتي يدافعـون عنهــا. وفـي عام 1931، رُفض طلب التصحيحيين بإعلان أن إنشاء الدولة اليهودية هو هدف الصهيونية، وأدَّى مقتل الزعيم العمالي حاييم أرلوسـوروف إلى زيادة حدة الخصومة، وخصوصاً أن بعض العناصر المعتدلة بمقاييس صهيونية (مثل شتريكر وليشتهايم) ابتعدوا عن جابوتنسكي وتركوا الحركة التصحيحية وكونوا حزب الدولة اليهودية.

في أواخر عام 1934، تقابل جابوتنسكي وبن جوريون في لندن بعد تبرئة ساحة المتهمين بقتل أرلوسوروف، فتوصلا إلى اتفاق من ثلاثة بنود:

1 ـ الامتناع عن الصراع إلا من خلال النقاش السياسي دون اللجوء للهجوم.

2 ـ التوفيق بين الهستدروت وتنظيم التصحيحيين العمالي، وذلك فيما يتصل بقضايا مثل الإضرابات والتحكيم الإجباري.

3 ـ توقُّف التصحيحيين عن مقاطعة الصناديق اليهودية القومية وإرجاع حق أعضاء البيتار في الحصول على شهادات الهجرة. ولكن الاتفاق رفض من جانب أعضاء الهستدروت.

بلغ عدد مندوبي التصحيحيين في المؤتمر الصهيوني الثامن عشر (1933) حوالي 45 مندوباً. وفي عام 1935، انفصل التصحيحيون وأسَّسوا المنظمة الصهيونية الجديدةوعقدوا أول مؤتمر لهم في فيينا في العام نفسه وانتُخب جابوتنسكي رئيساً لها. وكان مقرها كما هو مُتوقَّع في لندن بين عامي 1936 و1940. وكان برنامج المنظمة هو ثوابت الحركة التصحيحية مع تأكيد ضرورة تصفية الوجود اليهودي في العالم. كما بدأوا في سياسة التحالفات مع كل النظم الأوربية التي ستساعدهم في إجلاء اليهود، وطرح جابوتنسكي خطة السنوات العشر.

ومن أهم الجماعات في الحركة التصحيحية جماعة عصبة الأشداء (بريت هابيريونيم) الموجودة في فلسطين والتي كانت تضم أشيمير وجرينبرج وغيرهما. وقد تبنت هذه الجماعات صيغة صهيونية نازية لا تُخفي إعجابها بالنازية (مع تحفُّظها على موقفها من اليهود وحسب)

وقد طوَّر التصحيحيون، من خلال منظمة بيتار، شبكة ضخمة من مراكز التدريب العسكري في العالم، إذ ركزوا على الجانب العسكري من الممارسة الصهيونية الخاصة بالزراعة المسلحة.

ويصف الصهاينة التقليديون كلاًّ من جابوتنسكي والتصحيحيين عامة بأنهم متطرفون، ولكن من يدرس فكرهم وتاريخهم يجدهم أكثر التيارات الصهيونية واقعية واتساقاً مع الواقع الصهيوني. فقد أكدوا من البداية القانون الأساسي الذي يتحكم في الحركة الصهيونية، أي مدى استعدادها للارتماء في أحضان الاستعمار والقيام على خدمته، حتى يُسهِّل لها تهجير اليهود وتوطينهم في فلسطين وإقامة الدولة. وهم أخيراً كانوا متيقنين من أن العنف وحده هو وسيلة التعامل مع الفلسطينيين، وأن أوهام بعض الصهاينة الخاصة بإقناع الفلسطينيين بترك أرضهم لليهود هي بمنزلة أحلام ليبرالية رخيصة. وفي الحقيقة، فإن استخدام العنف والارتماء في أحضان الإمبريالية والإيمان بالمُثُل الرأسمالية الحرة هي جميعاً موضوعات تتواتر في كتابات هرتزل والصهاينة الدبلوماسيين، ولكنها كانت مغلفة بغلاف ليبرالي رقيق، لأن الصهيونية كانت لا تزال في بداياتها ولم تكن قد أدركت هويتها تماماً بعد، كما أنها كانت لا تزال حركة ضعيفة غير قادرة على الكشف عن أهدافها. وكلما كانت الصهيونية تزداد قوة، كانت تعلن عن أهدافها وعن هويتها، فالفرق إذن بين هرتزل وجابوتنسكي يكمن في النبرة والمصطلح وليس في الرؤية ولا الفلسفة. وقد قال جابوتنسكي مرة إنه خليفة هرتزل ووريثه الحقيقي، وقد وافقه نوردو على هذا، ونحن نذهب أيضاً إلى أن ثمة خطاً ممتداً من هرتزل لشارون عبر جابوتنسكي وبيجين.

المنظمة الصهيونية الجديدة

New Zionist Organization

بعد أن نشب الخلاف بين الصهاينة التصحيحيين والمنظمة الصهيونية العالمية حول فكرة الوكالة اليهودية الموسعة (وهي الفكرة التي عارضها الفريق الأول)، وكذلك حول حدود الدولة الصهيونية المقترحة، وبعد أن رفض المؤتمر الصهيوني السابع عشر (1931) تعريف هدف الصهيونية بأنه تأسيس الدولة الصهيونية، ونظراً لافتقاد المنظمةالصهيونية العالمية الطابع العسكري، انشق التصحيحيون بزعامة جابوتنسكي عن المنظمة الأم مكوِّنين منظمة مستقلة تُعرَف باسم «المنظمة الصهيونية الجديدة» عام 1935. وكانت المنظمة الجديدة تنادي بعدم الاعتماد على حكومة الانتداب، وعلى منح اليهود حق الهجرة، كما طالبت بتصفية الجماعات اليهودية في العالم، وكذلك فإن المنظمة الجديدة كانت تنادي بضرورة تسوية المنازعات بين العمال ورأس المال عن طريق مجلس أعلى للتحكيم، وكان مقر المنظمة في لندن وترأسها جابوتنسكي.

وقد لعبت المنظمة دوراً بارزاً في تنظيم الهجرة غير الشرعية، ومنحت تأييدها لمنظمة إتسل، كما كان لها تنظيماتها الاستيطانية المستقلة، ولعبت أفكارها دوراً مهماً في تأسيس المنظمات العسكرية الصهيونية الأخرى. وقد عارضت المنظمة الصهيونية الجديدة فكرة التقسيم. وفي عام 1946، عادت المنظمة الصهيونية الجديدة إلى صفوف المنظمة الصهيونية العالمية بعد أن أصبح موقفهما متفقاً بشأن معظم القضايا. وفي الحقيقة، فإن الانشقاق والاندماج بين المنظمتين كلاهما صهيوني نموذجي، فهو اختلاف حول التكتيك والحد الأقصى، ولا يمتد إلى الإسـتراتيجية أو الحـد الأدنى الصهـيوني بأية حال.

الصهيونية الراديكالية

Radical Zionism

تيار صهيوني لا يختلف كثيراً في رؤيته ولا في أساسه الطبقي عن الصهيونية التصحيحية أو الصهيونية العمومية. وقد نشأ هذا التيار عام 1923 خلال المؤتمر الصهيوني الثالث عشر كنوع من الاحتجاج على مهادنة وايزمان للحكومة البريطانية واستعداده للتخلي عن حقوق اليهود في فلسطين. وقد ظهرت الصهيونية التصحيحية في الوقت نفسه، وكاد الفريقان أن يتحدا لولا اختلاف موقفهما من الطابع الجماعي العمالي للاستيطان الصهيوني. وقد كان الفريقان يتفقان في الاعتراض على الطابع الاشتراكي لهذا الاستيطان، لكن الراديكاليين كانوا يرون أن هذا هو الأسلوب الوحيد المتاح.

وقد أسَّس الراديكاليون اتحاداً للصهاينة الراديكاليين لتحقيق الخلاص للشعب اليهودي عن طريق تغيير بنيان حياته. وكان الاتحاد ينادي بأن الاستيطان يجب أن يتم من خلال امتلاك الأرض ملكية قومية، كما حاول الاتحاد تقديم العون للاستثمارات الفردية. وفي عام 1930، حينما حـدث انقـسام في صـفوف الصهيونيين العموميين، انضم الصهاينة الراديكاليون للجناح الليبرالي واتحدوا معه مكوِّنين الاتحاد العالمي للصهيونيين العموميين.

بيتار (منظمة شبابية(

Betar

» بيتار« اختصار العبارة العبرية «بريت يوسف ترومبلدور»، أي «عهد ترومبلدور» أو «حلف ترومبلدور». وهو تنظيم شبابي صهيوني تصحيحي أسَّسه يوسف ترومبلدور في ريجا (لاتفيا) عام 1923، لإعداد أعضائه للحياة في فلسطين بتدريبهم على العمل الاستيطاني الزراعي وتعليمهم، مع التركيز على العبرية بالإضافة إلى التدريب العسكري. وكان يتم تلقين أعضاء التنظيم مقولات تعكس التأثر الواضح بالنزعات الفاشية التي سادت أوربا آنذاك، فكانوا يتعلمون مثلاً أن الإنسان أمامه اختياران لا ثالث لهما "الغزو أو الموت" وأن كل الدول التي لها رسالة قامت على السيف وحده. وبشكل عام، تَمثَّل التنظيم أفكار جابوتنسكي زعيم الصهيونية التصحيحية. وكانت إحدى الهتافات الشائعة لشباب بيتار طوال فترة الثلاثينيات "إيطاليا لموسوليني وألمانيا لهتلر وفلسطين لجابوتنسكي"، كما كانوا يرتدون القمصان البنية اللون تَشبُّهاً بالمنظمات الشبابية الفاشية. وقد انشق تنظيم بيتار عن المنظمة الصهيونية العالمية إثر النزاعات التي نشبت بين جابوتنسكي وزعمائها والتي انتهت بانفصاله وتشكيل «المنظمة الصهيونية الجديدة» ثم «الاتحاد القومي» عام 1934.

ولم يقتصر نشاط تنظيم بيتار على بولندا بل امتد إلى العديد من البلدان، فأقام التنظيم عام 1934 مركزاً للتدريب البحري في إيطاليا وآخر للتدريب على الطيران في باريس، كما أقام فروعاً في اللد (1938) وجنوب أفريقيا (1939) ونيويورك (1941). وحتى بداية الحرب العالمية الثانية، ظلت القاعدة الأساسية للتنظيم وهيئته القيادية خارج فلسطين ثم انتقلت بعد ذلك إليها حيث كان بعض أتباع بيتار قد أسسوا عدة مستوطنات تعاونية. وقد تشكلت في صفوف بيتار القيادات الأساسية لمنظمة الإرجونالصهيونية الإرهابية وقيادة حركة حيروت. ومن هذه القيادات، على سبيل المثال، يسرائيل شيف (الداد) ومناحم بيجين.

وقد أصبحت الدولة الصهيونية، بعد تأسيسها، مركزاً لتنظيم بيتار في العالم. وفي أواخر الستينيات. كان عدد أعضائه نحو ثمانية آلاف نصفهم في فلسطين المحتلة والباقي يتوزعون في 13 بلداً أخرى.

فلاديمــير جابوتنسـكي (1880-1940(Vladimir Jabotinsky

مفكر صهيوني وقائد حركة الصهيونيين التصحيحيين. وُلد في أوديسا (روسيا) لعائلة من الطبقة الوسطى حل بها الفقر لموت العائل (الأب). وكان اهتمامه باليهودية ضئيلاً للغاية، إذ كان ينظر إليها من الخارج، ولم تكن له معرفة بالعبرية وقد أتقنها فيما بعد وطالب بأن تُكتَب بحروف لاتينية.

لم يهتم جابوتنسكي كثيراً بحركة أحباء صهيون عندما سمع بها. ومع هذا، يُقال إنه كانت لديه نزعات صهيونية منذ صباه. درس القانون في سويسرا وإيطاليا حيث تعلَّم الإيطالية واستوعب الرؤية المعرفية الإمبريالية تماماً؛ فتبنَّى رؤية توماس هوبز للواقع ورفض كل المُثُل الإنسانية، وأعلن أن العالم إن هو إلا ساحة لصراع الجميع ضد الجميع، كما تأثر بالفكر الدارويني والنيتشوي والفاشي وتأثر على وجه الخصوص بأفكار أنطونيو لابريولا عن الإرادة وعن قدرة الإنسان على صياغة المستقبل بإرادته. وكانت ثمرة هذا كله رؤية جابوتنسكي لما سماه «الأنانية المقدَّسة» (أي أن تصبح الذات مركز الحلول)، فطالب أن يتعلم اليهودي الذبح (ذبح الآخرين) من الأغيار، أي أن جابوتنسكي كان يحاول دمج اليهودي في عالم أوربا الإمبريالي بحيث يكتسب اليهودي أخلاقياته ورؤيته وهويته من هذا العالم. وقد عمل جابوتنسكي أثناء إقامته في روما (1898 ـ 1901) مراسلاً لصحيفة ليبرالية تصدر في أوديسا وكان ينشر مقالاته باسمه المستعار «التالينا».

بدأ جابوتنسكي نشاطه الصهيوني عام 1903 بحضور المؤتمر الصـهيوني السـادس (1903)، فاطَّلع على كتابات الصهاينة الأوائل، مثل بنسكر وهرتزل وليلينبلوم،وتعرَّف إلى أوسيشكين وبياليك، وحاول تنظيم بعض خلايا الدفاع اليهودية في روسيا، كما أيد زيارة هرتزل لفون بليفيه وزير داخلية روسيا الذي يُقال إنه دبر عدة مذابحضد أعضاء الجماعـة اليهودية. وكان جابوتنـسكي من معارضي مشـروع شرق أفريقيا، ربما لإدراكه القيمة التي سيكتسبها المشروع الصهيوني إن تم تأسيسه في منطقة إستراتيجية مهمة للغرب مثل فلسطين.

انتقل جابوتنسكي إلى إستنبول حيث كان مسئولاً بصورة رسمية عن أجهزة الدعاية الصهيونية وعن الصحف الصهيونية هناك (التي كانت تَصدُر بالعبرية والفرنسـيةواللادينـو)، وذلك بعد سـقوط الخلافـة العثمانية. وانتُخب جابوتنسـكي عضواً في اللجنـة الصهـيونية عـام 1921. وأثناء المؤتمر الصهيوني الثاني عشر (1921)، تَوصَّـل بصفته هذه إلى اتفاق مع مندوب حكومة بتليورا الأوكرانية التي قامت بعدة مذابح ضد اليهود. وكان الاتفاق يقضي بأن تلحق قوة يهودية غير محاربة بقوات بتليورا أثناء زحفها ضد الحكومة البلشفية (وقد أثار ذلك احتجاج كثير من أعضاء الجماعات اليهودية). ويرجع إعجاب جابوتنسكي بالقومية الأوكرانية إلى عام 1911 حيث كتب مقالاًينوه فيه بهذه القومية وحيويتها وتفجُّرها باعتبارها قومية عضوية.

قَبل جابوتنسـكي الورقـة البيضـاء التي طرحها تشرشـل عام 1922، إلا أنه استقال من اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية عام 1923 احتجاجاً على قبولها هذه الورقة، وأسس في العام نفسه منظمة بيتار، كما أسَّس عام 1925 الاتحاد العالمي للصهاينة التصحيحيين، وقد جاء الاسم تأكيداً لموقفهم الرامي إلى ضرورة تصحيح السـياسة الصهـيونية وتنقيـحها، أي تصفــيتها من أيـة شوائب، حتى تقترب من الصيغة الهرتزلية الأصلية، وهي الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة قبل تهويدها وقبل إدخال الديباجات عليها. وقد أعلن التصحيحيون في دستورهم أن "هدف الصهيونية هو تحويل أرض إسرائيل، وضمنها شرق الأردن، إلى كومنولث يهودي... [يتمتع بـ] حكم محلي وأكثرية يهودية ثابتة"، على أن يسود الدولة الاقتصاد الحر ويتم تأجيل الصراع الطبقي وقبول التحكيم الإجباري لحسم الخلافات بين العمال والرأسماليين. وبعد أن قامت المنظمة الصهيونية بتوسيع الوكالة اليهودية عام 1929 وضم عناصر يهودية غير صهيونية (وكانت المنظمة قد رفضت لأسباب تكتيكية إعلان أن هدف الصهيونيةهو إقامة الدولة اليهودية)، وبعد اغتيال الزعيم الصهيوني العمالي أرلوسوروف ودفاع جابوتنسكي عن المتهمين باعتبارهم أبرياء، توترت العلاقة بين جابوتنسكي من جهة والمنظمة الصهيونية العمالية الواقعة آنذاك تحت هيمنة الصهاينة العماليين من جهة أخرى.

وعلى صعيد الاستيطان، أسس جابوتنسكي في هذه الفترة منظمة عمالية صهيونية تنافس الهستدروت وتُسمَّى «الهستدروت القومي للعمال»، كان مستعداً للتعاون مع مشاريع رؤوس الأموال الخاصة لإقامة مجتمع صهيوني طابعه العام رأسمالي. والواقع أن جابوتنسكي صهيوني دبلوماسي (يهودي غير يهودي)، لا تختلف صهيونيته أبداًعن صهيونية الغرب الاستعماري التي تدور في إطار فكرة الشعب العضوي وتنظر لليهود باعتبارهم شعباً عضوياً منبوذاً. وينطلق جابوتنسكي من الفكر القومي العضوي، فالأمة كيان عضوي مستقل وقيمة مطلقة صافية لا تشوبها أية شوائب ولا تحتاج إلى أية نقط مرجعية خارجها، فهي مطلق مكتف بذاته يجب أن تُستبعَد كل العناصر الأخرى الدخيلة مثل الدين والاشتراكية (شأنها شأن القوميات في العالم الغربي آنذاك التي لا تحتاج إلى أي تبرير أو منطق خارجي، ووجودها العضوي هو المبرر الوحيد). ولهذا، لجأ جابوتنسكي إلى ما سماه «الصهيونية بدون صفات إضافية»، أي القومية اليهودية دون ديباجات أو تبريرات.

ويرفض جابوتنسكي الدين اليهودي تماماً، فهو يدور في إطار الحلولية بدون إله، ولذا فقد صرح بأن الشعب اليهودي هو المعبد الذي يتعبد فيه. وهو على كلٍّ لم يكن يعرف اليهودية بقدر كاف، وكان يرى أن الصهيونية يجب أن تظل بمنأى عن اليهودية وألا تبتلع إلا أصغر جرعة منها. ولكنه، بطبيعة الحال، لم يمانع في مرحلة لاحقة (بعد عام 1932) في توظيف الدين في خدمة الصهيونية. كما رفض جابوتنسكي الموروث الإثني كمصدر للهوية على عكس دعاة الصهيونية الإثنية، ولذا فقد ذهب إلى إمكانالاستغناء عن هذا الموروث تماماً. بل إنه يذهب إلى أن الموروث الحضاري لليهود "هو الحضارة الغربية نفسها"، فاليهود مُستوعَبون تماماً في الحضارة الغربية.

ولكن ما مصدر خصوصية اليهود؟ يرى جابوتنسكي أن ثمة مصدرين أساسيين:

أ) أولهما وضع اليهود الشاذ في المجتمعات الغربية، فهم جسم غريب تلفظه هذه المجتمعات، ومن هنا فإن الشعب اليهودي شعب رديء يكرهه جيرانه (وهم على حق في ذلك). ومعنى هذا أن جابوتنسكي يقبل مقولات معاداة اليهود ويجدها استجابة معقولة للشخصية اليهودية وصفة لصيقة بالحضارة الغربية، كما أنه يرى أن الجانب الإيجابي للعداء لليهودية هو أنها تُولِّد إحساس اليهودي بنفسه.

ب) يرى جابوتنسكي أن العرْق هو المحور الأساسي للمجتمع، بحيث يمكن القول بأن القومية والعرْق كانا بالنسبة إليه شيئاً واحداً. بل يرى أن السمات العرْقية أكثر أهمية من الأرض والدين واللغة والقومية (أي أن المطلق هو العرْق والدم وليس الهوية الإثنية). ولذا، فهو، في حديثه عن الصهيونية، يشير باستخفاف إلى جميع الأحلام الإثنية "مجتمع نموذجي وثقافة عبرية وربما طبعة ثانية من التوارة" مقابل ما يراه الضرورات الواقعية المادية، أي إنقاذ الشعب اليهودي العضوي المنبوذ من الخطر المحدق.

تترجم هذه المنطلقات نفسها إلى حل وإجراءات، والحل هو إخلاء أوربا من اليهود تماماً، وتصفية الجماعات اليهودية في العالم ونَقْل ملايين اليهود إلى فلسطين ليفرضوا أنفسهم بالقوة كأغلبية سكانية داخل دولة يهودية. وكان جابوتنسكي يؤمن إيماناً قاطعاً بأن الجهود الذاتية للصهاينة لا جدوى من ورائها وأنه لا سبيل إلى النجاح دون الدعم الغربي للمشروع الصهيوني. وستقوم الحكومات الغربية، ومنها تلك التي تقوم باضطهاد اليهود، بالمساعدة في هذه الخطة (أشاد جابوتنسكي في شهادته عام 1937 أمام اللجنة الملكية لفلسطين بجهود الحكومة البولندية الرامية إلى لفت نظر عصبة الأمم والبشرية جمعاء إلى واجب البشرية أن تقدم لليهود منطقة يستطيعون أن يبنوا فيها كيانهم الاجتماعي. وهو يشعر أن مثل هذه الاقتراحات قد تثير الشكوك، ولكنه يرجو ألا توضع مثل هذه الاقتراحات موضع الشبهة بل يجب على العكس أن تُشكَر ويُعترَف لها بفضلها).

ولكن التحـالف مع إنجلترا (أكبر قـوة استعمارية) هو الحل الحقيقي، فهـو «تحالف عضوي»، وهـناك تماثل كامل في المصالح. ولذا، ساهم جابوتنسكي عام 1928 في تأسيس جماعة بريطانية تطالب بجعل فلسطين دولة صهيونية وجزءاً من الكومنولث البريطاني وهي جماعة الدومنيون السابع (حُلَّت عام 1929 بناءً على نصيحة رئيسها الكولونيل ودجـود بعد أن أخـذت الحكومة البريطانية موقفاً متشـدِّداً من المستوطنين). بل لقد صرح في إحدى المرات بأن ثمة أساساً إلهياً لتحالف يُعقَد بين بريطانيا وفلسطين اليهودية. ورغم هذا الالتزام المبدئي تجاه بريطانيا، فإن الخطة التاكتيكية عند جابوتنسكي كانت تختلف عن خطة وايزمان الذي راهن على حسن نية بريطانيا فاتخذ سياسة تتسم بالذيلية الكاملة. أما جابوتنسكي، فكان يلجأ إلى ما يسميه الضغوط الدولية، وهذا يُفسِّر بحثه الدائم عن حليف غير بريطانيا، فاتصل بموسوليني الذي عبَّر عن إعجابه "بالفاشي جابوتنسكي"، كما اتصل بمعظم حكومات شرق أوربا، وعارض مشروع تقسيم فلسطين وسياسة بريطانيا فيما يخص مسألة الهجرة، وعمل علىتشجيع الهجرة غير الشرعية إلى فلسطين. وكان الهدف من هذه التحالفات والمناورات هو الضغط على بريطانيا وليس استبدالها، وقد فشلت كل مساعيه فلم يحقق شيئاً. ولعل هذا استمرار لأسلوب هرتزل الدبلوماسي، أي البحث عن راع مع توضيح فائدة الدولة اليهودية له إن وُضعت في خدمته.

إن نَقْل اليهود، كأغلبية سكانية، سيُحقِّق عدة أهداف من وجهة نظر جابوتنسكي:

1 ـ تحويل اليهود إلى أمة مثل كل الأمم، أو تطبيع الشخصية اليهودية الهامشية.

2 ـ تقوم هذه الأمة بخدمة المصالح الغربية في المنطقة وتصبح قاعدة لها. وعلى حد قول نوردو أستاذ جابوتنسكي "سنجيء إلى فلسطين لنوسع حدود أوربا ونصل بها إلى الفرات"، أي أن الدولة الصهيونية ستصبح دولة وظيفية.

3 ـ بهذه الطريقة سيصبح الشعب العضوي اليهودي جزءاً من الحضارة الغربية، أي أنه سيحقق من خلال التشكيل الإمبريالي الغربي ما فشل في تحقيقه من خلال التشكيل الحضاري الغربي.

وماذا عن العرب؟ هنا يتضح الجانب الإحلالي من فكرة جابوتنسكي عن الشعب العضوي اليهودي الغربي، فهذا الشعب جزء من عرْق سيِّد، فالتفاوت بين الأجناس الراقية والمتخلفة هو التبرير الأساسي للعملية الاستعمارية. واليهود سيصلون إلى فلسـطين باعتبارهم هذا الجنس المتفوق. ومن ثم، فلا حقوق للعرب، فـهم متخلفون ولن يفهموا طبيعة المسألة اليهودية، ولذا فلا مفر من العنف العسكري لفرض أغلبية يهودية على العرب وإقامة دولة صهيونية على ضفتي نهر الأردن بالقوة. وقد استخدم جابوتنسكي صورة مجازية «الجدار الحديدي» ليصف الطريق الوحيد للاتفاق مع العرب؛ جدار حديدي من الحراب اليهودية.

نادى جابوتنسكي، خلال الحرب العالمية الأولى، بتجنيد فرقة من الكتائب اليهودية العسكرية لكي تحارب على الجبهة الفلسطينية مع القوات الإنجليزية الغازية لفلسطين. ووصل جابوتنسكي إلى الإسكندرية في ديسمبر 1914، وأسَّس في العام التالي، مع جوزيف ترومبلدور، فرقة البغالة الصهيونية. وقد وافقت الحكومة الإنجليزية عام 1917 على إنشاء الفرقة 38 من الكتائب حملة البنادق الملكية وتَطوَّع فيها جابوتنسكي وأصبح قائدها، وكان يظن أن هذه الوحدة العسكرية الصهيونية هي من الدوافع الأساسية وراء صدور وعد بلفور، وهو ما يبيِّن مدى ضيق أفقه وافتقاره إلى معرفة الدوافع المركبة في السياسة، فالمُخطَّط الإمبريالي البريطاني بشأن فلسطين وُضع قبل الحرب، وكان جزءاً لا يتجزأ من السياسة الإمبريالية البريطانية في المنطقة بعد تقسيم الدولة العثمانية. وقد أصبح جابوتنسكي عضواً في البعثة الصهيونية إلى فلسطين كما أصبح رئيس القسم السياسي فيها.

لعب جابوتنسكي دوراً أساسياً في تنظيم كتائب الهاجاناه لقمع المظاهرات العربية في القدس عام 1920، وتبنَّى سياسة «الردع النشيط» ضد العرب لإرغامهم على الاعتراف بالوجود اليهودي. ولذا، فقد قامت منظمة الأرجون، بوحي من أفكاره، بإلقاء القنابل على المدنيين دون تمييز لخلق ما سماه «الوقائع الجديدة» التي جاء ديان فيما بعد ليجعل منها محوراً لسياسة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. والهدف من هذه التنظيمات مزدوج، فهي تهدف إلى الدفاع عن المستوطنين ضد السكان الأصليين، ولكنها على حد قول جابوتنسكي خير دفاع عن المصالح الإمبريالية كما أنها حماية لطرق إمدادات الإمبراطورية لحماية المصالح الغربية ضد القومية العربية.

وأطروحات جابوتنسكي لا تختلف كثيراً عن أطروحات الصهيونية. ومع هذا، كان جابوتنسكي يُعَدُّ متطرفاً بالمقاييس الصهيونية. فما مصدر هذا التطرف؟ يؤمن جابوتنسكي بما كان يسميه «الواحدية» وهي فكرة شمولية تعبر عن نفسها كما يلي:

1 ـ الإيمان بدور العـقـائد الصافية البســيطة الواضـحة في دفع الجماهير. بل إنه كان يرى في خضوع الجماهير للقائد بعداً جمالياً (ففي روايته شمشون يعبِّر البطل عن إعجابه بنظام الفلستيين الوثني وخضوعهم الكامل للكهنة)

2 ـ الإيمان بفكرة اليهودي الخالص الذي لا تشوبه أية شائبة، فاليهود الذين يحاولون الاستيطان في فلسطين ليسوا بورجوازيين أو بروليتاريا وإنما هم مجرد رواد ليس لهم انتماء طبقي.

وهذه الواحدية الصريحة هي ما يُميِّز جابوتنسكي عن كل المفكرين الصهاينة، فهو يرفض الديباجات، كل الديباجات، ليبرالية كانت أم عمالية، علمانية كانت أم دينية. فالصهيونية مكتفية بذاتها، ومن ثم فلا داعي للتاكتيكات والمناورات، ولا مبرر للمراوغة وعدم المجاهرة. وموقف جابوتنسكي هذا ينم عن السذاجة والجهل بطبيعة العملالسياسي، وخصوصاً إذا كـان ثمـة ساحـات كثيـرة (فلسـطين ـ يهـود العالم ـ الدولة الإمبريالية الزراعية)

وكان في وسع الحركة الصهيونية امتصاص التيار التصحيحي وتوظيفه في المجالات التي يريدها وبالطريقة التي تروق لقادته، فالمجال كان دائماً مفتوحاً أمام الجميع. ولكن جابوتنسكي وأعوانه تَحدّوا المؤسسة الصهيونية لا عن طريق طرح فكر يميني متطرف، فالفكر الصهيوني ابتدأ فكراً استعمارياً استيطانياً، وإنما برفض بعض القواعد الخاصة بطريقة تناول الأمور، وهو تحدٍّ يدل في نهاية الأمر على قصر نظر جابوتنسكي وهو ما جعله يبدو متطرفاً من منظور صهيوني.

وأول نقط الاختلاف رفضه الخطاب الصهيوني المراوغ، إذ كان يرفض الشعار الداعي إلى الصمت والعمل والابتعاد عن السياسة والتظاهر "بأننا نذهب إلى فلسطين لمجرد حرث الأرض". فقد كان يؤمن بضرورة الإيضاح والإعلان عن الأهداف دون مواربة، وهي مسألة غير عملية ولا واقعية ولا تعود على الصهاينة بأية فائدة. وحينما اكتفت سلطات الانتداب البريطاني مثلاً بنقش حرفيE.I. (وهما اختصار عبارة «إرتس يسرائيل Eretz Israel») على العملة في فلسطين بدلاً من نقش الكلمتين كاملتين (وهذا حل مراوغ) رفض جابوتنسكي الأمر وطالب بأن يُكتَب الاسم كاملاً أو أن لا يكتب على الإطلاق. كما طالب بأن تُعلن الحركة الصهيونية بكل وضوح أن هدفها هو إنشاء دولة يهودية، وهو هدف كان الجميع متفقين عليه منذ أيام بنسكر، وهم يتحدثون عنه ولكنهم يؤثرون عدم إعلانه، لأن الصياح والإفصاح لا يفيدان في رأيهم. أما العرب، فكان جابوتنسكي يطالب بأن تُوضَّح لهم الأمور (أي أنهم سيتم طردهم)، إذ أن المشروع الصهيوني، سيتم بكل بساطة كما يتم أي مشروع استعماري كبير. وهو أمر كان مُتفَّقاً عليه تماماً، ولا ينصرف الاخـتلاف بين الصــهاينة إلا إلى جدوى الإعلان عن الأهداف النهائية.

وثاني أوجه الاختلاف بين جابوتنسكي والمنظمة هو إصراره على حـل الحـد الأقصى الذي يتســم بالشمول والفورية. ومرة أخرى، لم يكن ثمة اختلاف على الهدف، فالاختلاف كان على طبيعة المرحلة. وعلى سبيل المثال، كان جابوتنسكي يرى أن الدولة المزمع إنشاؤها يجب أن تتم دفعة واحدة عن طريق رفع قيود الهجرة إلى فلسطينونقل اليهود وطرد العرب، ومن هنا كان لجوؤه إلى عقد اتفاق مع حكومة بولندا في نهاية الثلاثينيات (1938) يقضي بتهـجير ملــيون ونصف مليون يهودي إلى فلسطين خلال عشر سنوات، وذلك بهدف خلق أغلبية يهودية فورية في فلسطين. وكان جابوتنسكي يتصوَّر أن هذا ممكن مع تفاقم ظاهرة العداء لليهود في بولندا التي كانت تضم آنذاك أكبر جماعة يهودية في العالم. والرؤية الطفولية الساذجة نفسها تكمن وراء أوهامه المتعددة في أن يصل الدعم الإمبريالي دفعة واحدة وأن تُقام الدولة على ضفتي نهر الأردن وأن تُصادَر جميع الأراضي العامة المنزرعة في فلسطين وأن تُوضَع تحـت تَصرُّف الحــركة الصهيونية. وكلها أهداف صهيونية كامنة. كما كان جابوتنسكي يناديبضرورة تصفية الجماعات اليهودية في الخارج وعبرنة التعليم، أي جَعْله تعليماً قومياً عضوياً يعبِّر عن الذات القومية ويؤدي إلى تطبيع اليهود تطبيعاً كاملاً. وهذه موضـوعات قـديمة ومطروحــة في أدبيــات الصهاينة من كل الاتجاهات، ولكن الإصرار عليها في تلك المرحلة كان من الممكن أن يَنتُج عنه صدع في القيادة الصهيونيةوانشقاقات في المنظمة. والواقع أن التحالف مع الاستعمار الغربي كان قائماً بالفعل، ولكن هناك صعوبات خاصة بسبب طبيعة المادة البشرية المُستهدَفة وطبيعة ساحة القتال في فلسطين. فالدولة الراعية التي يعتمدون عليها لها مصالح عالمية ليست بالضرورة متفقة تمام الاتفاق مع مصالح المستوطنين، من ذلك رغبة الإمبراطورية في عدم الدخول في صراع مع القومية العربية أثناء الحرب. ولذا، كان ضرورياً أن تُظهر القيادة الصهيونية تَفهُّماً لهـذه الرغبـة وأن تأخـذ الحسـاسيات في الاعتبار، الأمر الذي لم يدركه جابوتنسكي حينذاك ولا أدركه أتباعه (وقد أدركه شتيرن وبيجين بدرجة أقل فيما بعد). أما تصفية الدياسبورا، فهو تَجاهُل لحقيقة وجود صهيونيتين. وقد كان المستوطنون الصهاينة يعتمدون كل الاعتماد على الصهاينة التوطينيين في الخارج، وخصوصاً في مرحلة ما قبل إنشاء الدولة.

أما الوجه الثالث من أوجه الاختلاف، فهو إصراره على الاقتصاد الحر وتقوية البورجوازية اليهودية في فلسطين (ومن هنا صُنِّف فكره خطأً باعتباره فكراً يمينياً). ولم يكن العماليون يمانعون في التعاون معه حين يكون ثمة مجال للتعاون، فقد كانوا في نهاية الأمر يتعاونون مع السلطات الاستعمارية غير الاشتراكية ومع يهود الخارج البورجوازيين. ولكن طبيعة الاستعمار الصهيوني الاستيطانية الإحــلالية هي التي فرضت عليهم أسـلوباً جـماعياً عمالياً، وهو أسلوب لا يرتبط بالضرورة بأي مضمون اشتراكي إنساني حتى لو استُخدمت ديباجة اشتراكية لتسـويغه. فالمستوطنون الأوائل في الولايات المتحدة من طائفة البيوريتان، وفلسفتهم في الحياة فلسفة فردية متطرفة، وكان ماكس فيبر يعتبرها الأساس الفلسفي لعملية التراكم الرأسمالي، ومع هذا تبنوا أشكالاً جماعية في الاقتصاد والحياة كضرورة استيطانية، إذ هل يمكن حرث الأرض وقتل أصحابها الأصليين في إطارالمشروع الحر؟ وهكذا، لم يكن هناك مجال للتعاون بسبب طبيعة الموقف نفسه لا بسبب الاختلافات على التوجُّه السياسي.

ولقد أطلق بن جوريون على جابوتنسكي اسم «تروتسكي الحركة الصهيونية»، وهذا يعني أنه شخص يصر على الحد الأقصى والحلول الشاملة ويجاهر بذلك ولا يدرك طبيعة المرحلة متجاهلاً أن من الممكن تحقيق الشيء نفسه ببطء مع إطلاق شعارات هادئة جميلة عن الأخوة والتضامن. ولعل هذا يفسر نجاح العماليين فيما فشل فيه جابوتنسكي. فتاريخ الاستيطان (بشقيه الزراعي والعسكري) هو تاريخ الصهيونية العمالية.

ولا يعني هذا أن أتباع جابوتنسكي لم يلعبوا دوراً في تأسيس الدولة، فقد استمروا في جهودهم الاستيطانية العسكرية التي كانت تستفيد منها المؤسسة العمالية في نهاية الأمر. ولم يَدُم انشقاقهم طويلاً على كل حال، فقد مات جابوتنسكي عام 1940 وحل محله بيجين في قيادة هذا الاتجاه. وفي منتصف الأربعينيات، بدأ التعاون مرة أخرى مع العماليين، وعادت المنظمة الصهيونية الجديدة إلى صفوف المنظمة الأم عام 1946 بعد أن أصبح موقفهما متفقاً تجاه كل القضايا، واشترك الجميع في المؤتمر الصهيوني الثاني والعشرين (1946). وتُعَدُّ مذبحة دير ياسين، وهي من أكثر العمليات الإرهابية الصهيونية اتقاناً ونجاحاً، ثمرة هذا التعاون، إذ قام بها فريق من جماعة الأرجون ذات التوجه التصحيحي بالتعاون مع الهاجاناه التي يسيطر عليها العماليون. وقد استنكر الصهاينة العماليون هذه العملية الإرهابية، ولكن من الثابت تاريخياً أنه تم التنسيق المسبق بشأنها بين الاتجاهين الصهيونيين الاستيطانيين. وقد صدرت أعمال جابوتنسكي الكاملة بالعبرية في إسرائيل.

ماكــس بودنهايمـــر (1865-1940(Max Bodenheimer

زعيم صهيوني ألماني. درس القانون في جامعة شتوتجارت وعمل بالمحاماة بعض الوقت. وفي عام 1891 نشر كتيباً دعا فيه إلى إقامة مستعمرات في سوريا وفلسطينلليهود الروس المضطهدين. وبعد ذلك بعامين، أسَّس مع ديفيد ولفسون جمعية صهيونية في كولونيا تُدعَى «المنظمة اليهودية القومية». وبعد صدور كتاب هرتزل دولة اليهود، أصبح من أشد مؤيديه، وكان عضواً في رئاسة المؤتمر الصهيوني الأول (1897)، وساهم في صياغة الأهداف الصهيونية الواردة في برنامج بازل. ثم عمل نائباً للرئيس في المؤتمرات الصهيونية التالية، ووضع مسودة لوائح المنظمة الصهيونية العالمية.

في عام 1898، كان بودنهايمر عضواً في الوفد المرافق لهرتزل في لقــاءاته مع القيـصر الألماني ولهلم الثاني، وزار فلسطين وإستنبول. شارك في تأسيس المنظمةالصهيونية الألمانية وتولَّى رئاستها بين عامي 1897 و1910، كما كان رئيساً للصندوق القومي اليهودي في الفترة من 1907 وحتى 1914 ووضع لائحته التأسيسية. وأثناء الحرب العالمية الأولى، أسَّس في برلين لجنة تحرير اليهود الروس (سُمِّيت فيما بعد «لجنة الشرق»). وكانت هذه اللجنة بمنزلة حلقة الاتصال بين يهود اليديشية وقوات الاحتلال الألمانية التي كانت تود تجنيد اليهود المتحدثين باليديشية باعتبارهم ألماناً، وذلك حتى تزيد من الكثافة السكانية الألمانية في المناطق السلافية المختلفة.

تعاون مع التصحيحيين بين عامي 1929 و1934، ولكن لم ينشق معهم عن المنظمة الصهيونية العالمية. وقد استقر بودنهايمر عام 1935 في فلسطين حيث شارك بالكتابة في عدد من الدوريات الصهيونية، ونشرت مذكراته بالعبرية والإنجليزية والألمانية. كما كَتَب عام 1933 مسرحية عن حياة المسيح.

يتسـحاق جـروبناوم (1879-1970(Yizhak Gruenbaum

أحد قادة الاستيطان الصهيوني، وقائد الجناح الرايكالي داخل تيار الصهيونية العامة، وأول وزير داخلية في إسرائيل. وُلد في بولندا وشارك بنشاط في الأنشطة الصهيونيةفي صدر شبابه، وصار عضواً في المؤتمرات الصهيونية منذ المؤتمر السابع (1905)، وأصدر عدة صحف في روسيا وبولندا.

كان نشيطاً في الحركة السياسية البولندية قبل بعد استقلالها عن روسيا، وقد انتُخب عضواً في السييم (البرلمان البولندي) منذ عام 1918 وحتى عام 1932 حين هاجر إلى باريس. وخلال هذه الفترة، نظَّم «كتلة الأقليات» في البرلمان، ودافع بشدة عن الحقوق الاجتماعية والسياسية للأقليات. وبعد هجرته إلى باريس، أصبح عضواً في المكتب التنفيذي للمنظمة الصهيونية ومسئولاً عن النشاط التوطيني والاستيطاني.

كان من أشد معارضي عملية توسيع الوكالة اليهودية وضم غير الصهاينة لها. وكان من المدافعين بضراوة عن علمنة الحركة الصهيونية الأمر الذي جلب عليه عداء الأحزاب الدينية. وأثناء اضطهاد النازي للأقليات وإبادته لها، كان جرونباوم من أشد المعارضين لبذل أية جهود لإنقاذ يهود أوربا، فقد كان يرى أن الدياسبورا لا قيمة لها وأن حياة أية بقرة في فلسطين أكثر أهمية من حياة عشرات اليهود في الدياسبورا.

عُيِّن عضواً في الحكومة الإسرائيلية المؤقتة في 1948 ـ 1949 (وهي الحكومة التي أجرت انتخابات الكنيست الأول)، واشترك في الانتخــابات، ولكنه فشل. تضاءل دوره بعد ذلك في الحياة السياسية، ولكنه ظل يكتب لفترة في جرائد حزب المابام. ومن أهم أعماله الأدبية إشرافه على تحرير موسوعة الدياسبورا (1953 ـ 1959).

ماير جروسمان (1888-1964(Meir Grossman

صحفي وقائد صهيوني من التصحيحيين، وُلد في بروسيا. انخرط في الحركة الصهيونية منذ شبابه المبكر، وعاش لفترة في وارسو حيث كتب في الصحافة اليديشية. درس في برلين، ورأس تحرير صحف الحركة الطلابية الصهيونية هناك. ومع بداية الحرب العالمية الأولى، دافع عن آراء فلاديمير جابوتنسكي الداعية لإنشاء فيلق يهودي يحارب مع الحلفاء وذهب إلى لندن حيث أصدر صحيفة يديشية تدعو لهذا. ورحل جروسمان بعد فترة بسبب متاعب مالية إلى كوبنهاجن. وبعـد ثورة فـبراير في روسـيا (عام 1917)، عاد إلىها. وبعد ثورة أكتوبر، سافر إلى أوكرانيا حيث شارك بنشاط في الحركة الصهيونية. وبعد انتصار البلاشفة على القوميين الأوكرانيين بقيادة بتليورا، رحل جروسمان إلى الولايات المتحدة ليدعو لنجدة اليهود من البلاشفة. وفي عام 1919، شاركه جيكوب لانداو في إنشاء مكتب الاتصالات اليهودي. وأسَّس عام 1925 نشرة كانت تَصدُر باللغة الإنجليزية في القدس بالسـتاين بوسـت، والتي تحوَّلت فيما بعد إلى جيروسـاليم بوست. اشترك مع جابوتنسكي في إنشاء الحزب الصهيوني التصحيحي، لكنه خالفه في مسألة الانفصال عن المنظمة الصهيونية الجديدة عام 1933 وانشق ليُكوِّن حزب الدولة اليهودية. استقر جروسمان في فلسطين منذ عام 1934 وأصبح مديراً في بنك. وقد ألقَى هناك خطاباً فَضَح فيه مباحثات وايزمان مع وزير المستعمرات البريطاني بشـأن التقسـيم، الأمر الذي أدَّى إلى تعليق عضويته في المنظمةالصهيونية. وهاجر جروسمان إلى الولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم عاد إلى فلسطين وشارك في حزب الصهيونيين العموميين. واستمر في عمله الصحفي منهياً حياته السياسية بالانفصال عن الحزب الليبرالي الجديد، لكنه أبدى اهتماماً بقضايا اليهود السوفييت وأصدر عدة مطبوعات بالروسية في إسرائيل.

الصفحة التالية ß إضغط هنا