المجلد الثالث: الجماعات اليهودية.. التحديث والثقافة 7

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

وإنكارنا وجود ثقافة يهودية مستقلة ومثقفين يهود خالصين لا يعني إنكار وجود بُعد يهودي أو عناصر يهودية مستقلة. كل ما نذهب إليه أن مثل هذه العناصر، إن وُجدت،فليست ذات مركزية تفسيرية، أي أننا لتفسير بنية فكر فيلسوف أو مفكر يهودي ما، وطبيعة أدب أديب يهودي ما، فعلينا تبنِّي نماذج تفسيرية مشتقة من الحضارات التيينتمي إليها هذا المفكر أو الأديب اليهودي بدلاً من العودة للتوراة والتلمود وتاريخ العبرانيين والكنعانيين (كما فعل الصهاينة والمعادون لليهود) فالنماذج المشتقة من هذه الحضارات تفوق كثيراً مقدرة النماذج المشتقة من الثقافة اليهودية.

ويمكن دراسة العناصر اليهودية باعتبارها عناصر مكملة، دون أن تكتسب مركزية تفسيرية. انطلاقاً من هذا نطرح نموذجاً تفسيرياً مشتقاً من الحضارة الغربية الحديثة ومن تطوُّر العقيدة اليهودية داخلها فنشير إلى أن العقيدة اليهودية أصبحت عقيدة حلولية كمونية بعد هيمنة القبَّالاه عليها منذ القرن الرابع عشر، وأن الميراث الحلولي للمثقفين اليهود في العصر الحديث (ابتداءً بإسبينوزا وانتهاء بدريدا)، ساهم ولا شك في جعلهم أكثر استعداداً لقبول الحضارة الغربية الحديثة، بحلوليتها وكمونيتها. ويمكن أن نشير إلى تصاعُد معدلات العلمنة بين الجماعات اليهودية بدرجات تفوق المعدل السائد في المجتمع الغربي (كما هو الحال دائماً مع الأقليات). ويمكن أن نشير كذلك إلى أن إحساس أعضاء الجماعات اليهودية بالغربة وعدم الأمن (كما هو الحال أيضاً مع أعضاء الأقليات) جعلهم تربة صالحة وخصبة لتقبُّل الحضارة الغربية الحديثة. ويمكن أخيراً أن نذكر أن موقف كثير من المثقفين اليهود يتسم بأنه موقف نقدي جذري من الحضارة الغربية، يتسم بالشك المعرفي والأخلاقي وسيطرة الفلسفات العدمية. كل هذه العناصر اليهودية ساهمت ولا شك في أن تجعل المثقفين اليهود أكثر استعداداً لتقبُّل الحضارة الغربية الحديثة وأكثر قدرة على التعبير عنها ـ أي أن البُعد اليهودي في ثقافة المثقف اليهودي الغربي قد يُفسِّر حدة نبرته وجذريتها وعمق عدميتها وحلوليتها. كما قد يُفسِّر تزايُد عدد المثقفين اليهود من الثوريين والعدميين ودعاة العقلانية المادية، ولكنه لا يُفسِّر بأية حال ظهور المنظومة الحضارية الغربية الحديثة العقلانية المادية، فهذا مرتبط بآليات المجتمع الغربي، الثقافية والاقتصادية. بل إننا نذهب إلى أن بروز أعضاء الجماعات اليهودية في الحضارة الغربية الحديثة، ناجم عن انتمائهم إلى هذه الحضارة واندماجهم فيها واستيعابهم لها لا انعزالهم عنها، ويتزايد بروزهم بمقدار تخليهم عن عزلتهم واستقلالهم. وليس من قبيل الصدفة أن أول مفكر يهودي بارز في الحضارة الغربية الحديثة هو إسبينوزا الذي تخلَّى عن يهوديته تماماً. وقد أعلن هايني أن التنصُّر هو تأشيرة دخول الحضارة الغربية، فتنصَّر هو نفسه (كما فعل أبو ماركس وأولاد هرتزل وأولاد موسى مندلسون ونصف يهود برلين في القرن التاسع عشر.. إلخ). ولكن الأدق هو القول بأن التخلي عن العقيدة اليهودية (وليس بالضرورة التنصُّر) هو تأشـيرة الدخـول (فليس مطـلوباً من أحد التنصُّر، باعتبار أن مرجعية الحضارة الغربية لم تَعُد المسيحية وإنما العقلانية المادية أو الحلولية الكمونية).

وتنبغي الإشارة إلى أن البُعد اليهودي قد ينصرف إلى بنية فكر المثقف اليهودي وإلى الموضوعات الكامنة، وليس إلى مضمونه الواضح. بل إن المضمون الواضح يمكن أن يكون عالمياً وإنسانياً بل معادياً لليهود أو الصهيونية، وتظل البنية والمقولات الأساسية الكامنة يهودية بالمعنى المحدَّد الذي نطرحه، كما هو الحال مع كل من إسبينوزا ودريدا وفرويد وكافكا. فإسبينوزا وقف موقفاً رافضاً تماماً لكل الأديان، بل اختص اليهودية بالهجوم الشرس، وهو في هذا لا يختلف كثيراً عن كثير من المفكرين الغربيين منذ عصر النهضة وهيمنة العقلانية المادية، ومع هذا لا يمكن فهم حدة هذا الرفض وهذا الهجوم إلا بالعودة للقبَّالاه اللوريانية والتراث الماراني.

واهتمام فرويد الحاد بالجنس يمكن رؤيته كتعبير طبيعي عن تصاعُد معدلات العلمنة ومحاولة رد كل شيء إلى عنصر واحد (كامن/ حال) في المادة (الجنس في حالة فرويد) وهو بالفعل كذلك. ولكن القبَّالاه اللوريانية كانت قد قامت بإنجاز هذا معرفياً وبشكل متبلور قبل ذلك بعدة قرون. وقد وصف أحـد المراجع القبَّالاه بأنها جنَّست الإله، وألَّهت الجنـس: أي جعلت الجنس نموذجاً تفسيرياً كلياً ونهائياً، يُرَدُّ له كل شيء. وهذا ما فعله فرويد.

وتلجأ بعض المراجع لحيلة رخيصة لتأكيد وجود حضارة يهودية مستقلة وهوية يهودية ثقافية مستقلة نابعة منها. فتتحدث موسوعة التاريخ اليهودي عن هذا الزي « اليهودي الصميم » الذي يرتديه يهود المغرب والذى يُسمَّى «keswa kubra» وهي «الكسوة الكبرى»، وتُكتب الكلمة بحروف لاتينية دون ترجمة فيتصور القارئ الذي لا يعرف العربية أن هذه كلمة عبرية أو كلمة عربية عبرية! ويوجد للزي اليهودي الصميم شيء يُسمَّى «cum» وهو «الكم» (ويأكل أعضاء الجماعة اليهودية في بخارى طعاماً يهودياً مميَّزاً يُسمَّى «yachni» أي «الياخني»، أما في اليمن فهم يأكلون طعاماً خاصاً للغاية لم نسمع عنه قط من قبل يُسمَّى «khubz» أي «خبز». وفي إسرائيل بلد العجائب، يأكلون طعاماً موغلاً في يهوديته اسمه «falafel» أي «الفلافل» والتي اكتشفت أنها طعام إسرائيلي فريد حينما كنت أعيش في مدينة نيويورك). ورؤساء يهود الفلاشاه، نوع خاص من الحاخامات، يسمونهم «قسيم» وهي صيغة الجمع العبرية لكلمة «قس» العربية (وربما الأمهرية) التي اقتبسها يهود الفلاشاه الذين دخلت على يهوديتهم عناصر مسيحية كثيرة! وحينما يحاول الإسرائيليون أن يرقصوا فهم يرقصون رقصة يهودية صميمة تُسمَّى «الهورا» (من أصل روماني أو أوكراني) أو رقصة يهودية صميمة أخرى تُسمَّى «الدبكة»! وحينما ترتدي مضيفات شركة العال زي الفلاحة الفلسطينية، فهذا زي إسرائيلي نابع من الثقافة اليهودية. وحينما أُسِّس متحف في قرى حيفا على هيئة قرية عربية أَخبر كتيب المعرض الزائر أن هذه قرية من حوض البحر الأبيض المتوسط حتى يمكن تحاشي ذكر كلمة «فلسطيني»، وحتى يختبئ الأصل الحقيقي للمُنتَج الحضاري.

الـــتراث اليهـــودي

The Jewish Heritage

يتواتر مُصطلَح «التراث اليهودي» في الكتابات التي تصف الجماعات اليهودية. وهو مُصطلَح يفترض أن تراث أعضاء الجماعات اليهودية هو تراث يهودي منفصل عن تراث المجتمع الذي يعيش اليهود بين ظهرانيه. ونحن نذهب إلى أنه لا تُوجَد ثقافة يهودية مستقلة، ومن ثم لا يُوجَد تراث يهودي مستقل.

وقد يكون ما يدفع البعض للحديث عن «تراث يهودي مستقل» و«ثقافة يهودية مستقلة» هو انفصال اليهود النسبي عن محيطهم الحضاري. فيهود بولندا كانوا يتحدثون اليديشية التي تبدو كأنها لغة يهودية خالصة، كما كانوا يبدعون الأدب اليديشي الذي يبدو كأنه جزء من تراث يديشي يهودي مستقل. ولكن اليديشية، كما هو معروف، هي ألمانية العصور الوسطى، دخلت عليها كلمات سلافية وعبرية، وتُكتَب بحروف عـبرية. أما الأدب اليديشـي، فهـو نتاج التقاليد الأدبية السلافية. ولا يمكن فهم فتراته وحركاته إلا بالعودة إلى التراث الأدبي الغربي، خصوصاً في روسيا وألمانيا. ثم يحمل المهاجرون اليهود معهم هذه اللغة وهذه الثقافة إلى البلاد التي هاجروا إليها، فيبدو كما لو أن هذا هو تراثهم الخاص بهم، المقصور عليهم، الذي يحملونه معهم أينما ذهبوا في كل زمان ومكان. ومما يزيد الأمر حدة أن هؤلاء المهاجرين يُظهرون ولاءً شديداً لهذه الثقافة التي أحضروها معهم فهي تراثهم الوحيد، يتمسكون بها، ويدافعون عنها، تماماً مثلما يتمسك أعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة بانتمائهم إلى وطنهم القومي الوهمي أو بيهوديتهم الإثنية الخالصة المستمدة - في واقع الأمر - من محيطهم الحضاري السابق أو الحالي. ويتمسك المهاجرون بتراثهم باعتباره تراث الأجداد وباعتباره تراثاً يهودياً خالصاً وعاماً. وقد تجتمع عدة أقليات يهودية لكل تراثها في بلد واحد. ومع هذا، تستمر كل أقلية في الحفاظ على موروثها اليهودي الذي أتت به رغم أنه مختلف عن موروث الجماعات اليهودية الأخرى. وتجربة الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية مثال جيد على ذلك، فكل جماعة تحافظ على تراثها بتعصُّب شديد وهو تراث ألماني بالنسبة للألمان وسوري حلبي بالنسبة ليهود حلب وسوري دمشقي بالنسبة ليهود دمشق! ومهما يكن من أمر تمسُّك المهاجرين اليهود بموروثهم، فإن هذا الموروث عادةً ما يأخذ في الاختفاء كما حدث مع اليديشية التي لم يعد لها سوى صدى خافت في وعي المهاجرين اليهود إلى الولايات المتحدة أو جنوب أفريقيا وفي رؤيتهم لأنفسهم وللواقع.

تـــــراث الجماعــــات اليهوديــــة الدينـــــي

Religious Heritage of the Jewish Communities

يذهب بعض الباحثين (في الغرب) إلى أن الإبداع الحضاري الأساسي لليهود يكمُن في تراثهم أو موروثهم أو رؤيتهم الدينية وفي الثقافة الدينية التي أشاعوها، أي أنعبقرية اليهود الثقافية عبقرية دينية. وهذه رؤية سادت أوربا في القرن التاسع عشر. ومع هذا، كان مفكرو أوربا حتى نهاية ذلك القرن يرون اليهودية باعتبارها مسيحيةناقصة. ومهما يكن من أمر، يمكننا القول بأن التراث الديني لأعضاء الجماعات اليهودية يتسم بقدر من الاستقلال غير موجود على مستوى التراث الحضاري،. فالتراث الديني له سماته وإشكالاته الخاصة، وأحياناً لغته.

ومع هذا، فلابد أن نلاحظ ما يلي:

1 ـ لم يكن التراث الديني اليهودي القديم مستقلاًّ تماماً بأي حال عن التقاليد والأفكار الدينية السائدة في الشرق الأدنى القديم، وخصوصاً في بلاد الرافدين، كما لا يمكن فصله عن الإرهاصات الدينية التوحيدية في مصر، وعبادة يهوه في سيناء. وفي الحقيقة، فإن تطوُّر اليهودية من عبادة يسرائيل شبه الوثنية، التي تخلو من أي مفهوم لليوم الآخر والثواب والعقاب، إلى اليهودية التي تُعَدُّ نسقاً دينياً توحيدياً متكاملاً، أو التي تحوي داخلها عنصراً توحيدياً قوياً، هو أكبر دليل على تأثير الحضارات المصرية والبابلية والآشورية، ثم الفارسية والهيلينية، في المعتقدات الدينية اليهودية. هذا لا يعني بطبيعة الحال تبنِّي نموذج تراكمي، فالتوحيد، تماماً مثل الشرك، أمر كامن في نفس الإنسان التي ألهمها الله فجورها وتقواها.

2 ـ يمكن الحديث بشكل ما عن موروث ديني يهودي عام حتى بداية العصور الوسطى. ولكن مع اختفاء السلطة المركزية اليهودية، ومع دخول اليهودية في فلكي حضارتين توحيديتين مختلفتين، ظهرت تقاليد دينية مختلفة متناقضة وموروثات دينية متباينة. كما ظهرت، في إثيوبيا والهند والصين، مراكز يهودية مختلفة بعيدة تماماً عن تأثير السلطات الحاخامية وتتأثر بالموروث الديني لكل بلد. ومع تصاعُد معدلات العلمنة الشاملة حدث تفجُّر كامل، وخصوصاً بعد عصر الإعتاق والانعتاق، إذ تصاعدت معدلات العلمنة والاندماج وازداد تأثر أعضاء الجماعات اليهودية كما تأثر الدين اليهودي بالسياقات الحضارية المحيطة. وأصبح من المستحيل الحديث عن موروث ديني يهودي واحد، بل لم يَعُد هناك أي تأثير للموروثات الدينية في الأجيال الجديدة. وقد سمينا هذه الظاهرة «الخاصية الجيولوجية لليهودية.«

3 ـ يُلاحَظ أن التراث التلمودي وكتب التفسيرات الضخمة (الشريعة الشفوية) التي تحاول أن تحتفظ لليهودية بهويتها، لم تكن معروفة عملياً للعامة من أعضاء الجماعات اليهودية. وكانت هذه الكتب، أو على الأقل الرؤى التي تتجسد من خلالها، تؤثر بغير شك في سلوك اليهودي. لكن هذا التأثير لم يكن يماثل، بأية حال، أثر التراث الحضاري لبلدهم الذي يتفاعلون معه ويبدعون من خلاله ويدورون في إطاره ويدركون العالم ككل من خلاله. وعلى كلٍّ، لا يمكن فصل الشريعة الشفوية ذاتها عن سياقها الحضاري، وقد ازداد اليهود جهلاً بهذه الكتب في العصر الحديث.

4 ـ يُلاحَظ أن جوانب كثيرة من الرسالات العامة للعهد القديم من تعظيم للخالق الواحد الذي لا تدركه الأبصار والمتجاوز للطبيعة والتاريخ المتعالي عليهما، والوصايا العشر، والروح العامة للأنبياء العبرانيين، والأمثال والمزامير، أصبحت جزءاً من التراث الديني المسيحي، أي أنها لم تَعُد مقصورة على اليهود حيث تداخل الموروثان اليهودي والمسيحي. ويمكن هنا أن نطرح ما يمكن تسميته «إشكالية فيلون»، فقد كان يهودياً منبت الصلة إلى حدٍّ كبير بالثقافة العبرية الآرامية، وحاول صبغ العقيدة اليهودية بصبغة إغريقية، ولكنه لم يترك أي أثر في تطور اليهودية اللاحق في حين تأثرت به العقيدة المسيحية أيما تأثر، فهل يُعَدُّ فيلون، إذن، جزءاً من الموروث المسيحي أم يُعَدُّ جزءاً من الموروث اليهودي؟

مــــيراث الجماعــــات اليهوديــــة الاقتصــادي

Economic Heritage of the Jewish Communities

»الميراث أو التراث أو الموروث الاقتصادي لأعضاء الجماعات اليهودية»، عبارات تتواتر في كثير من الكتابات التي تتناول أعضاء الجماعات اليهودية. ومناقشة هذا الموضوع ستتطلب منا أن نخفض من مستوى تعميمنا قليلاً فنتحدث عن يهود العالم الغربي بمعزل عن بقية يهود العالم لأننا لو ضممنا كل يهود العالم في إطار واحد لأصبح التعميم، أياً كان مستواه، مستحيلاً. ولعل الدور الذي لعبه اليهود باعتبارهم جماعة وظيفية وسيطة هو الحقيقة الأساسية في هذا الميراث الاقتصادي، وقد اكتسبوا مجموعة من الخبرات حملوها معهم أينما هاجروا استمرت في تحديد نشاطاتهم الاقتصادية حتى بعد أن زالت الوظيفة. فعلى سبيل المثال يُلاحَظ أن ميراث أعضاء الجماعة اليهودية الاقتصادي في الغرب (باعتبارهم جماعة وظيفية وسيطة تقف دائماً على الهامش) يجعلهم يتخصصون في الصناعات القريبة من المستهلك ويبتعدون عن الصناعات الثقيلة، إذ أن عضو الجماعة الوسيطة كان لا يحب الاستثمار في المنقولات الثابتة (مثل الأرض والصناعات الثقيلة). وكان يفضل الاستثمار في الصناعات الخفيفة وفي المشاريع التجارية التي تتطلب قدراً عالياً من المهارة الإدارية، ونتج عن ذلك هامشية اليهود، أي أن نشاطاتهم الاقتصادية ليست في قلب العملية الإنتاجية.

وهذا الوضع يُفسِّر ظاهرة الرأسمالية المنبوذة التي تحدث عنها ماكس فيبر، وهي النشاط الرأسمالي في المجتمع الإقطاعي، الذي ليس له علاقة كبيرة بالرأسمالية الرشيدة (أي الرأسمالية الحديثة). وينتج عن ميراث اليهود الاقتصادي في العالم الغربي أنهم كثيراً ما يكونون عرضة للتأميم والتصفية، وربما يصلح تركُّزهم في صناعة النسيج والملابس مثلاً على ذلك. فقد قامت كوبا بتأميم هذه الصناعات، الأمر الذي نتج عنه تصفية الأساس الاقتصادي للوجود اليهودي في كوبا، فهاجروا منها. ويمكن القول بأنتركُّز بعض أعضاء الجماعات اليهودية في تجارة الرقيق الأبيض ـ قوادين وبغايا ـ هو نتيجة ميراثهم كجماعة وظيفية وسيطة. فالجماعة الوظيفية الوسيطة عادةً ما تتحركبسرعة لسد حاجة نشأت في المجتمع. ويبدو أنه، في أواخر القرن التاسع عشر، نشأت في العالم الغربي حاجة للخدمات الجنسية خارج مؤسسة الزواج بسبب ضعف الأسرة وتصاعُد معدلات العلمنة.

وفي المجتمعات الاستيطانية مثل أمريكا اللاتينية كان الأمر أكثر حدة حيث كان عدد الإناث أقل بكثير من عدد الذكور. وتزامن ذلك مع ضعف التجارة اليهودية الصغيرة ودور اليهود كباعة متجولين. ومن ثم، تحولت أعداد كبيرة من اليهود إلى التجارة الجديدة. ومما يجدر ذكره أن ميراث المهاجرين اليهود الاقتصادي، شأنه شأن الميراث اللغوي والثقافي والديني، يؤثر بشكل واضح في الجيل الأول ثم يفقد فعاليته بالتدريج إلى أن يفقدها كلها تقريباً بعد جيلين أو ثلاثة.

ولكن هناك جانباً مهماً في الميراث الوظيفي ليهود العالم الغربي حدَّد بشكل جوهري طبيعة وجودهم في القرن العشرين، وهو رؤية الغرب لهم كمادة استيطانية نافعة، وتوظيفهم في هذا المجال. ولعل أهم تجارب الجماعات اليهودية مع الاستيطان هي تجربة يهود بولندا (يهود أوكرانيا على وجه التحديد) مع نظام الأرندا إذ كان اليهود يُشكِّلون عنصراً استيطانياً مالياً. ومما يَجدُر ذكره أن يهود العالم الغربي كافة في العصر الحديث من نسل يهود بولندا. ومما لا شك فيه أن هذا الجانب من الموروث الاقتصادي اليهودي في الغرب هو الذي رشحهم للعب دور الجيب الاستيطاني في الغرب والشرق والذي أخذ شكل الدولة الصهيونية الوظيفية التي حوَّلت عدة ملايين من يهود العالم إلى جماعة استيطانية قتالية.

الموقف الصهيوني من تراث أعضاء الجماعات اليهودية والتناقض بين القول والفعل في إسرائيل والعالم

Zionist Attitude to the Heritage of the Jewish Communities and the Contradictions between Theory and Practice in Israel and the World

تنطلق الصهيونية من افتراض وجود ثقافة يهودية مستقلة وتراث يهودي مستقل، بل تجعلهما من ركائزها الأساسية. والصهيونية في هذا وليدة العصر الإمبريالي الغربي الذي ظهرت فيه فكرة الشعب العضوي (فولك) ذي الثقافة العضوية التي تُعبِّر عن هويته. وهذه الثقافة العضوية يفترض فيها أنها ذات امتداد في الماضي (أي ذات تراث)، ويجب أن تكون ذات امتداد في المستقبل. ومن ثم، دعا الصهاينة إلى بعث الثقافة العبرية واللغة العبرية تعبيراً عن كونهم شعباً عضوياً. وازدادت هذه الدعوة قوة بعد أن انضم إلى صفوفها يهود شرق أوربا (يهود اليديشية) من دعاة الصهيونية الثقافية الذين كانوا ينادون بأن اليهودية هي بالدرجة الأولى هوية إثنية ذات تراث ثقافي مستقل وشخصية ثقافية مستقلة ولغة مستقلة (العبرية). واكتسبت الدعوة للتراث ركيزة دينية داخل اليهودية المحافظة التي خلعت صفة الإطلاق على الشعب العضوي بحيث حل محل الخالق، فالتراث هو محور اليهودية المحافظـة، ويكـاد يصبح الركيزة النهائية والنقطة المرجعية للنسـق الفكري. وفي اليهودية التجديدية، يصبح التراث، دون مواربة أو حرج، مصدر الإطلاق وموضع القداسة.

وقد عارضت ثلاثة اتجاهات يهودية هذا المفهوم:

1 ـ اليهود المتدينون: وهؤلاء يؤمنون بأن اليهودية ليست مجرد تراث ثقافي وإنما هي انتماء ديني، وبأن اللغة العبرية لغة مقدَّسة (بالعبرية: ليشون هاقدوش) لا يصح استخدامها في الحياة اليومية أو في شئون الدنيا.

2 ـ اليهود الاندماجيون: وكانوا يتركزون أساساً في فرنسا وإنجلترا وألمانيا (أي في غرب أوربا)، وبعد ذلك في الولايات المتحدة وغيرها من الدول الاستيطانية (باستثناء إسرائيل)، وهؤلاء يرون أن اليهود يكتسبون هويتهم الثقافية من الثقافات القومية المختلفة التي يتفق وجودهم فيها. وقد استبعد معظم هؤلاء كل الإشارات القومية والمُصطلَحات العبرية حتى من الصلوات اليهودية ذاتها.

3 ـ دعاة الثقافة اليديشية. وكانوا مركزين في شرق أوربا التي كانت تضم أغلبية يهود العالم آنذاك (في روسيا وبولندا أساساً). وكان دعاة هذا التيار يرون أن يهود شرقأوربا من يهود اليديشية يشكلون جماعة بشرية ذات شخصية ثقافية قومية مستقلة، ولكن هذه الشخصية ليست يهودية بشكل عام وإنما هي شرق أوربية تتحدث وتفكر وتكتب باليديشية وليس لها أية علاقة بالعبرية (ولذا، يمكن إطلاق اصطلاح «القومية اليديشية» عليها). وقد كان حزب البوند أكبر تنظيم اشتراكي في أوربا في أواخر القرن التاسع عشر يضم أعضاء الطبقة العاملة اليهودية في شرق أوربا من أهم المدافعين عن هذا الاتجاه.

واحتدم الصراع بين ممثلي هذه التيارات، ولكن كان من المحتم أن ينتصر التيار الصهيوني بين الجماعات اليهودية، وذلك لسبب بسيط وهو أن كلاًّ من دعاة اليديشيةوالاندماج لا يؤمنون بضرورة التوجه إلى الجماعات اليهودية كافة، فكلاهما ينكر أساساً وجود ثقافة يهودية عالمية مستقلة ويعترف بانتماء أعضاء الجماعات إلى تشكيلاتحضارية قومية مختلفة. أما التيار الديني المناوئ للدعوة الصهيونية، وهو تيار عالمي بمعنى أنه يرى أن اليهودية انتماء ديني (مثل الإسلام والمسيحية) لا تحده الحدودالقومية، فقد انحسر بالتدريج وتحوَّل إلى جيب صغير معارض بسبب تزايُد معدلات العلمنة في الغرب. هذا إلى جانب صهينة الدين اليهودي ذاته، أي فرض الأطروحاتالصهيونية عليه.

وقد تم الاستيطان الصهيوني تحت راية الإمبريالية الغربية ومن خلال ديباجات الثقافة اليهودية العالمية العبرية الوهمية. وكان المستوطنون الأوائل يرفضون أن يُسمَّوا «اليهود»، إذ كانوا يعتبرون أنفسهم عبرانيين يهدفون إلى إنشاء دولة عبرية أو عبرانية تقطع علاقتها تماماً بالتراث اليهودي باعتباره تراث المنفى. وظل هذا الوضع قائماً حتى منتصف الثلاثينيات، ثم تم تبنِّي مُصطلَح «الدولة اليهودية» بسبب إمكاناته التعبوية الواضحة. ولكن، بعد إنشاء الدولة، لا تزال قضية الثقافة اليهودية تلاحق الصهاينة داخل المستوطَن الصهيوني وخارجه. فكل مهاجر صهيوني يستوطن فلسطين يحضر معه من وطنه الأصلي ثقافته الحقيقية التي تعلمها ونشأ عليها، وتراثه الذي تغلغل في وجدانه وفي عقيدته الدينية، بحيث تحوَّلت إسرائيل إلى ساحة صراع بين هذه الحضارات المختلفة، وظهرت الطبيعة الجيولوجية للهوية اليهودية. وقد تفاقم هذا الوضع، وبحدة، حينما وصلت مؤخراً أعداد كبيرة من إثيوبيا من يهود الفلاشاه الذين يتحدثون الأمهرية (لغة معظم أهل إثيوبيا) ويصلون باللغة الجعزية (لغة الكنيسة القبطية هناك). وتذكر إحدى الصحف الإسرائيلية أن معلقاً إذاعياً إسرائيلياً سأل أحد المهاجرين عن اللغة التي يتحدث بها، ويبدو أنه لم يكن قد سمع عنها قط من قبل، فلقد طلب إليه أن يكرر الإجابة ثلاث مرات قبل أن يستوعب كلمة «أمهرية»، ثم طلب إليه أن يشرح معنى الكلمة!

ولكن الصراع الأكبر هو الصراع الدائر بين ثقافة مؤسسي الدولة من الإشكناز من جهة، وثقافة السفارد (من المتحدثين باللادينو) وثقافة يهود العالم العربي من جهة أخرى. فالثقافة المهيمنة في المُستوطَن الصهيوني والتي تسم المؤسسات الثقافية في إسرائيل بميسمها هي ثقافة ذات طابع إشكنازي. أما ثقافة السفارد، فقد استُبعدت قدر المستطاع، فلا تذكر الكتب المدرسية شيئاً عن إنجازات العرب اليهود داخل التشكيل الحضاري العربي، ولا عن إسهامات السفارد داخل تشكيل البحر الأبيض المتوسط بشكل عام. ورغم أن اليهود السفارد والعرب يشكلون الآن أكثر من نصف سكان التجمع الصهيوني، فإن التوجه العام لا يزال إشكنازياً غربياً.

ورغم زعم الصهاينة أن الثقافة اليهودية مستقلة عن الثقافات الأخرى، فإنهم لا يكفون عن تأكيد أن إسرائيل هي امتداد للحضارة الغربية وأنها لا تنتمي إلى الشرق الأوسط إلا بمعنى جغرافي. بل إن المؤرخ الإسرائيلي يعقوب تالمون يرى أن الثقافة اليهودية بأسرها إنما هي ثقافة غربية، وهو أمر يصعب قبوله من جانب يهود بني إسرائيل في الهند أو يهود الفلاشاه الذين انقطعت علاقتهم بالعالم الخارجي منذ مئات السنين.

ويرى بعض دارسي المُستوطَن الصهيوني أن ثمة ثقافة جديدة متميِّزة آخذة في الظهور هناك وعاؤها اللغة العبرية الجديدة، وأن هذه الثقافة تتخطى الانقسامات القديمة وتتجاوز الثقافات المختلفة التي حملها المهاجرون معهم، فهي ثقافة تعبِّر عن وضع المستوطنين الإسرائيليين. ورغم أن مثل هذه الثقافة الجديدة لا تزال في طور التكوين، باعتبار أن الاختلافات والانقسامات الثقافية لا تزال واضحة، فإن بإمكان هذه الثقافة، من الناحية النظرية والمنطقية إن لم يكن من الناحية الفعلية أيضاً، أن تظهر وتكتمل معالمها بمرور الزمن. ومع هذا، يمكن أن نضيف التحفظات التالية:

1 ـ هذه الثقافة الجديدة (ثقافة الصابرا)، أي ثقافة الإسرائيليين المولودين على أرض فلسطين، ستكون ذات صبغة إشكنازية واضحة، وذلك نظراً لاستبعاد اليهود السفارد والعرب من مؤسسات صنع القرّار، ذلك لأن صورة الذات في إسرائيل إشكنازية، ولأن أجهزة الإعلام يديرها أسـاساً إشـكناز ينظرون إلى العالم بعيون إشكنازية، وفي النهاية، نظراً لأن الأشكال الأولى لهذه الثقافة تمت صياغتها في غياب السفارد واليهود العرب.

2 ـ حينما تكتمل هذه الثقافة بأشكالها المختلفة، لن تكون «ثقافة يهودية» وإنما ستكون «ثقافة إسرائيلية» تُعبِّر عن تجربة المستوطنين الصهاينة في فلسطين، ولن تكون ذات علاقة كبيرة بثقافات أعضاء الجماعات، إذ سيظل هؤلاء داخل تشكيلاتهم الثقافية المختلفة يتفاعلون معها ويؤثرون فيها ويتأثرون بها. ومن المعروف أن أعضاء جيل الصابرا لا يكنون كثيراً من مشاعر الاحترام والمودة لأعضاء الجماعات اليهودية خارج فلسطين الذين تصفهم الأدبيات الصهيونية بأنهم شـخصيات مريضـة هامشـية خانعـة قابلة لحالة النفي كحالة نهائية. وقد حدا هذا بعالم الاجتماع الفرنسي اليهودي جورج فريدمان إلى أن يصف الإسرائيليين بأنهم « أغيار يتحدثون العبرية »، أي أن مواقفهم ورؤاهم لا تختلف كثيرا عن مواقف ورؤى غير اليهود إلا في الوعاء اللغوي. وقد أُعلن مؤخراً أنه سيُكَّرس شهراً في كل عام يُسمَّى «شهر التراث اليهودي» ليتعلم الإسرائيليون هذا التراث بعدما اكتُشف جهلهم العميق به.

3 ـ ولكن، حتى الوعاء اللغوي، أي العبرية التي ارتبطت دائماً بأعضاء الجماعات اليهودية من الناحية الدينية وبأعضاء المُستوطَن في نشاطات حياتهم كافة، بدأت تحيط به المشاكل. فقد كتب مواطن عربي من إسرائيل (أنطون شماس) رواية بالعبرية تُسمَّى آرابيسك أثنى عليها الناقد الإسرائيلي يائيل لوتان. وعبَّر الروائي الإسرائيلي يهوشاوا عن إعجابه بها، وشبَّه كاتبها بالروائي الروسي نابوكوف الذي يكتب بالإنجليزية. ويبدو أن الرواية باعتبارها عملاً فنياً جيداً ستفرض نفسها على الأدب العبري، ولكن كاتبها عربي فلسطيني غير يهودي، أي شخص «لا يحمل عبء الوعي اليهودي»، وليس «عضواً في القبيلة اليهودية»، على حد قول لوتان. أي أن العبرية نفسها، كوعاء يهودي، قد انكسر على يد هذا الروائي العربي. ومن قبل، كتبت الشاعـرة الروسـية (المسـيحية) اليشيفا قصائد بالعبرية، وهي تُعَد من شعراء العبرية.

هذا هو وضع «الثقافة اليهودية» بالنسبة للمستوطن الصهيوني. أما بالنسبة لأعضاء الجماعات اليهودية في العالم، فمن الممكن تقسيمهم إلى قسمين أساسيين: أعضاءالجماعات اليهودية ممن احتفظوا بثقافتهم المحلية (وعلى رأسهم يهود اليديشية)، ويهود العالم الغربي المندمجين حضارياً في مجتمعاتهم وبقية اليهود في العالم. ولنبدأ بالقسم الأول. أسهم النازيون وكذلك الحرب العالمية الثانية في تصفية المراكز السكانية اليهودية في بولندا (وغيرها) والتي كانت تزدهر فيها الثقافة اليديشية. ويُلاحَظ كذلك أن اليديشية آخذة في الضمور في روسيا وأوكرانيا، رغم اعتراف الاتحاد السوفيتي بها كلغة قومية، وذلك بسبب معدلات الاندماج السريع وإحجام أعضاء الجماعة اليهودية عن الهجرة إلى مقاطعـة بيروبيجان التي أعلنت أن لغتها القوميـة هي اليديشية، وفي نهاية الأمر بسبب إحساسهم بأن هذه اللغة لا مستقبل لها (ولذا، فإنهم لا يشجعون أولادهم على تعلُّمها). والوضع نفسه يسري على الولايات المتحدة حيث حمل إليها المهاجرون اليهود اليديشية. فالصحف والجرائد اليديشية آخذة في الانقرّاض ولم يبق منها سوى صحيفة واحدة ومجلة أو مجلتين يتناقص عدد قرّائها. كما أن معهد الدراسات اليديشية (ييفو) في نيويورك يعاني من أزمة مالية دائمة لا يخرجه منها سوى معونات الحكومة الأمريكية. ويعود هذا إلى أن أبناء المهاجرين يفهمون اليديشية ولكنهم لا يتحدثونها في العادة. أما أبناء الجيل الثالث فهم ينسونها تماماً ولا يبقى منها سوى ذكرى، إذ أن الجميع يود الاندماج بسرعة في المجتمع الجديد ويود تحقيق حراك اجتــماعي أهم شـروطه، في مجـتمع تعـاقدي مثل المجـتمع الأمريكي، هو تملُّك ناصية اللغة مثل أهلها. وأعضاء الجماعة اليهودية لا يختلفون في هذا عن بقية جماعات المهاجرين (الإيطاليين أو البولنديين أو الألمان أو الروس) وإن كان من الملاحَظ أنهم كانوا من أوائل الجماعات المهاجرة التي فقدت اللغة التي أحضرتها معها.

وغني عن الذكر أن الثقافات اليهودية المحلية الأخرى قد اختفت هـي الأخرى. فاللادينو (الرطانة التي يتحدث بها السـفارد) اختفت تماماً، كما أن أية جيوب ثقافية أخرى انتهت بتصفية الجماعات اليهودية في الهند وإثيوبيا وفي كل أرجاء العالم العربي الإسلامي. ولا شك في أن الحركة الصهيونية حاربت بلا هـوادة، قبل بعد إنشــاء الدولة، ضد اليديشية (الوعاء الأساسي لثقافة يهود شرق أوربا) في مختلف أنحاء العالم وضد كل لهجات وثقافات الجماعات اليهودية. ولكن الإنصاف يتطلب منا أن نقرر أنه رغمشراسة الهجمة الصهيونية ضد الثقافة اليديشية وغيرها من الثقافات اليهودية المحلية، ورغم أن هذه الهجمة ساهمت ولا شك في سرعة ضمور واختفاء هذه الثقافة، إلا أن ظاهرة الاختفاء ذاتها لا يمكن تفسيرها إلا على أساس حركيات المجتمعات الحديثة التي يعيش أعضاء الجماعات اليهودية في كنفها، وهي حركيات تقضي على مختلف الخصوصيات الدينية والإثنية، أو على الأقل تهِّمشها.

أما يهود الغرب المندمجون، فقد تبنَّت الصهوينية تجاههم إستراتيجية مختلفة بسبب طبيعة العلاقة الخاصة مع حكومات الدول الغربية التي لا يمكن اتهامها بالاضطهاد والإبادة وبسبب حاجة الصهيونية إلى يهود الغرب، وخصوصاً يهود الولايات المتحدة باعتبارهم عنصر ضغط سياسي ودعم مالي. وأخذت هذه الإستراتيجية شكل محاصرة إعلامية تؤكد أطروحة الهـوية اليهـودية والثقافـة اليهـودية المستقلة، ومهاجمة كل كاتب أو مؤلف يهودي يحاول أن يُعبِّر عن هويته القومية المتعينة كأمريكي أو إنجليزي أو فرنسي، باعتبار أنه يتسم بالجبن، وأنه منقسم على نفسه. كما تأخذ هذه الحملة شكل تأكيد أية جوانب يهودية كامنة أو واضحة في كتابات أي مؤلف يهودي. وقد أنكر شـاجال ذات مرة، في مجـلة تايم، أن رسـومه يهودية بالمعنى العام للكلمة، وأصر على هويته الروسية الفرنسية، فانهالت عليه عشرات الخطـابات تؤكد يهوديته، مع أن من المعـروف أن اليهودية تُحرِّم التصوير، وأن الفنون التشكيلية لم تزدهر بين أعضاء الجماعات اليهودية عبر تواريخهم إلا في داخل التشكيل الحضاري الغربي في القرن التاسع عشر بعد علمنة اليهود وبعد اندماجهم في الحضارة الغربية الحديثة. وتُنظَّم حملات شرسة ضد كاتب أمريكي، مثل فيليب روث، تتهمه بأنه يعامل هويته اليهودية باستخفاف شديد، بل يخضعها للنقد والتمحيص والتشريح (كما يفعل الكُتَّاب الأمريكيون مع كل شيء). وقد وصف الكاتب الأمريكي اليهودي سول بلو نفسه بأنه أمريكي وفيٌّ لتجربته ولثقافته الأمريكية، كما ذكر أن لغته هي الإنجليزية وتربيته أمريكية وأنه لا يمكن أن يرفض ستين عاماً من حياته في الولايات المتحدة. وأضاف قائلاً: « إن اصطلاح «كاتب يهودي» هو اصطلاح سوقي ومُبتذَل من الناحية الفكرية، ويفرض قيوداً ضيقة دون جدوى، ولا فائدة منه على الإطلاق ». وتعبِّر روايات بلو عن هذه التجربة الأمريكية (ولكنه، مع هذا، كان عليه أن يكتب كتيباً عنصرياً صهيونياً عن الصراع العربي الإسرائيلي عنوانه إلى القدس مع العودة وذلك قبل أن يحصل على جائزة نوبل في الآداب).

وقد نجح الصهاينة في الولايات المتحدة في أن يضعوا مفهوماً للثقافة اليهودية داخل إطار أمريكي. فالعقد الاجتماعي يسمح للمواطن الأمريكي أن يعتز بتراثه الإثني مادام ذلك لا يتناقض مع انتمائه الأمريكي أو التزامه الوطني. فالأمريكي من أصل إيطالي يعتز بإثنيته الإيطالية، ويقيم الاحتفالات الراقصة القومية، وقد يطلق أسماء إيطالية على أولاده، ويتناول الأطعمة الإيطالية بحماس قومي زائد. وقد نمَّى الصهاينة في يهود أمريكا، بغض النظر عن أوطانهم الأصلية، الإحساس بأن وطنهم القومي الأصلي هو إسرائيل وأن ثقافتهم هي الثقافة اليهودية. ولكن إذا نظرنا إلى مضمون هذه الثقافة اليهودية بين اليهود العاديين، فإننا نجد أنها تتكون أولاً من ذكريات الإبادة النازية، ثم تأخذ شكل تعلُّم الرقص الشعبي الإسرائيلي الذي هو في واقع الأمر رقص شعبي من شرق أوربا، والاحتفال ببعض الأعياد اليهودية (وليس كلها) وعلى الطريقة الأمريكية، والإبقاء على بعض الشعائر الدينية بعد تفريغها من أي مضمون أخلاقي، وتناول بعض الأطعمة اليهودية التي أحضرها أعضاء الجماعة اليهودية من بولندا (تماماً كما يتناول الأمريكيين، من اليهود وغير اليهود، الفلافل المصرية باعتبارها طعاماً إسرائيلياً!).

وكما قال أحد المفكرين الأمريكيين اليهود، فإن هؤلاء اليهود الأمريكيين (بثقافتهم اليهودية المزعومة) لا يعرفون إلا أقل القليل عن دينهم اليهودي، ولم يسمعوا قط بموسى بن ميمون (العربي). وهم، بلا شك، لم يسمعوا بالحاخام راشي (الفرنسي). وكثيرون منهم لا يعرفون أن التلمود يتكون من عدة أجزاء، لأن أحدهم لم ير نسخة واحدة منهطيلة حياته، وكل نصيبهم من العبرية هو بضع كلمات يتفوهونها بصعوبة بالغة، على طريقة تيودور هرتزل في المؤتمر الصهيوني الأول (1897). ومن المؤكد أنهم هم وأولادهم يعرفون والت ويتمان شاعر الديموقرّاطية الأمريكية، ومارك توين المؤلف الأمريكي، وأسماء رؤساء الولايات المتحدة، والتاريخ الذي نشبت فيه الحرب الأهلية الأمريكية، والبرامج السياسية للأحزاب الأمريكية. ولا شك في أنهم يرتدون البنطلون الجينز والقمصان المعروفة باسم «تي شيرت T.Shirt»، ويلتهمون الهامبورجر وفطيرة التفاح الأمريكية الشهيرة بشراهة أمريكية معهودة.

وربما كان اليهـود الأمريكيون محقـين في جهلهم بموسـى بن ميمون، فهذا المفكر جزء من التشكيل الثقافي العربي، وهو ليس ذا أهمية ثقافية عالمية. أما إسهامه في صياغة الأطروحات الأساسية أو أصول الدين اليهودي، فهو أمر لا يعنيهم لأنهم علمانيون كبقية المجتمع الأمريكي وأغلبيتهم العظمى لا أدرية. وإن كانت لدى أحد منهم بقايا انتماء ديني، فهي تأخذ شكل صياغة مخفَّفة للغاية، مثل اليهودية الإصلاحية، ولا يشغل هذا الانتماء سوى حيِّز صغير من وجدانه. ويمكننا أن نقول إن اليهودي الأمريكي، رغم كل الادعاءات الصهيونية، أمريكي عادي غارق حتى أذنيه في الثقافة الأمريكية بكل محاسنها ومساوئها. وهو حينما يدافع عن إسرائيل، فإنه لا يختلف كثيراً عن أي مواطن أمريكي آخر إلا في نبرته العالية. فإسرائيل هي الحليف الإستراتيجي لبلده. وكما قال القاضي الأمريكي والزعيم الصهيوني برانديز، فإن صهيونية اليهودي الأمريكي تنبع من أمريكيته. ولذا، فإننا نجد أن هذا اليهودي الأمريكي لا يمانع في حمل لواء الثقافة اليهودية الوهمية التي لا يعرف عنها شيئاً. وهو يفعل ذلك لأن الأمر لا يكلفه شيئاً، ولا يتناقض البتة مع ولاءاته القومية الأمريكية الحقة.

يهـود الصدفة

Chance Jews

«يهود الصدفة» مُصطلَح يشير إلى عباقرة اليهود الذين أسهموا في الحضارة الإنسانية دون أن تكون هويتهم اليهودية هي العنصر الأساسي في إسهاماتهم. وكما يقول الكاتب العربي الفلسطيني محمد رمضان، فإن كل من يقرأ لأينشتاين أو فرويد أو هايني أو إسبينوزا، أو يستمع إلى مندلسون أو روبنشتاين بل حتى إلى ألفيس بريسلي (المغني الأمريكي)، لا يخطر له قط أنهم يهود لأن تأثير اليهودية في كتاباتهم وإبداعاتهم معدوم تماماً. فهم لا يستعملون المُصطلَحات العبرية إن عرفوها ولا يستخدمون ما يُسمَّى «الصور اليهودية»، فلكلورية كانت أو دينية، أي أنهم غرباء عما يُسمَّى «الثقافة اليهودية».

ومن المضحك، مثلاً، أن تصر حكومة إسرائيل على الاحتفال كل عام بذكرى الملحن المصري الكبير داود حسني لمجرد أنه يهودي، مع أنه كان مصرياً أصيلاً يتمسكبالتقاليد الشعبية المصرية العربية وليس في ألحانه وأغانيه ذات الطابع الشرقي الصميم ذرة من التأثير الموسيقى أو التراث اليهودي المزعوم.

هذا هو المقصود من القول بأن هؤلاء العباقرة كانوا من «يهود الصدفة». فحتى إن كان بعضهم متديناً، فإن البُعد اليهودي في شخصيتهم وثقافتهم لم يكن عنصراً أساسياً أو حاسماً، ولم تكن له أية فعالية في عملية الإبداع.

بعض أهم الصحف والمجلات والدوريات ودور النشر اليهودية في الولايات المتحدة وكندا وإنجلترا وفرنسا

Some Important Newspapers, Magazines, Periodicals and Publishing Houses of the Jewish Communities in the U. S. A., Canada, England, and France

تُوجَد عدة صحف ومجلات ودوريات يُصدرها أعضاء الجماعات اليهودية في العالم، ومعظمها ذات توجُّه صهيوني واضح، وإن كان حقل اهتمامها أوسع من الإصدارات الصهيونية المحضة، كما أنها أحياناً تتخذ موقفاً رافضاً للصهيونية أو متملصاً منها أو محتجاً عليها. وهذا المدخل لا يقدم سوى قائمة مبدئية للإصدارات الأساسية المهمة:

1 ـ الولايات المتحدة:

ـ الديلي نيوز بوليتن Daily News Bulletin، وهي نشرة يومية تُصدرها الوكالة التلغرافية اليهودية Jewish Telegraphic Agency ومقرها نيويورك.

ـ جيوش فوروارد Jewish Forward، وهي جريدة يديشية أسـبوعية كانت تَصدُر في نيويورك وتَصدُر بالإنجليزية في الوقت الحاضر.

ـ مورننج فرايهايت Morning Freiheit، وهي الجريدة اليديشية الأخرى التي تَصدُر في نيويورك وتُطبَع ثلاث مرات أسبوعياً، وهي ذات تَوجُّه اشتراكي.

ـ كما تُوجَد أكثر من 75 مجلة أسبوعية في جميع أنحاء الولايات المتحدة من بينها جويش برس Jewish Press ، و جويش ويك Jewish Week ، اللتان تَصدُران في نيويورك.

ـ مجلة كومنتري Commentary التي تُصدرها اللجنة اليهودية الأمريكية منذ عام 1945، وتُعَدُّ من أبرز المجلات باللغة الإنجليزية في العالم.

ـ تُصدر اللجنة اليهودية الأمريكية المجلة الربع سنوية برزنت تنس Present Tense،كما تُصدر،بالتعاون مع جمعية الإصدارات اليهودية في أمريكا،الكتاب الأمريكي اليهودي السنوي American Jewish Year Book، و مومنت Moment، وهي مجلة شهرية فكرية.

ـ يُصدر المؤتمر اليهودي الأمريكي مجلة شهرية هي كونجرس منثلي Congress Monthly، وأخرى ربع سنوية هي جودايزم Judaism، وهي دورية علمية تقدِّم دراسات في اليهودية.

ـ للتيارات الدينية المختلفة داخل الجماعة اليهودية إصداراتها الشهرية الخاصة.

ـ ومن أهم دور النشر اليهودية دار هرتزل Herzl في نيويورك، والجمعية اليهودية للإصدار Jewish Publication Society في فيلادلفيا، وشركة بلوخ للنشر Bloch Publishing Company التي تأسَّست عام 1854 في نيويورك، وكتب شوكن Schocken Books.

2 ـ كندا:

ـ كنيديان جويش نيوز Canadian Jewish News، وهي جريدة أسبوعية تَصدُر في تورنتو ويصل حجم توزيعها إلى 55 ألف نسخة.

ـ مينوراه Menorah، وهي مجلة أسبوعية تَصدُر باللغة المجرية، وتُعَدُّ ثاني أكبر مجلة أسبوعية من حيث حجم التوزيع، والذي يبلغ 30 ألف نسخة، وهي تُوزَّع أيضاً في الولايات المتحدة.

ـ جويش ستار Jewish Star نصف الشهرية، وتَصدُر في طبعتين منفصلتين في كل من أدمنتون وكالجاري.

ـ كوفنانتCovenant، وهي ربع سنوية تُصدرها البناي بريت في طبعة من 12 ألف نسخة باللغتين الإنجليزية والفرنسية.

ـ إيمجز Images، وهي شهرية تُصدرها الاتحادات اليهودية لجامعتي يورك وتورنتو خلال العام الدراسي.

ـ جورنال أوف سايكولوجي آند جودايزم Journal of Psychology and Judaism (مجلة علم النفس اليهودية)، وهي مجلة علمية متخصصة ذات توزيع محدود وتَصدُر في أوتوا.

3 ـ إنجلترا:

ـ جويش كرونيكل Jewish Chronicle، وهي جريدة أسبوعية تأسست عام 1841، وتُعَدُّ أقدم جريدة يهودية في العالم، وتُعتبَر جريدة الجماعات اليهودية الرئيسية في إنجلترا حيث تصل إلى 80% من أعضائها، وتغطي الأخبار والقضايا الخارجية والمحلية.

ـ جويش كوارترلي Jewish Quarterly، وهي مجلة ثقافية ربع سنوية تَصدُر منذ عام 1953.

ـ جويش جورنال أوف سوسيولوجي Jewish Jouranl of Sociology (المجلة اليهودية لعلم الاجتماع)، وهي مجلة مستقلة تَصدُر مرتين كل عام،كان يُصدرها المؤتمر اليهودي العالمي، وهي تَصدُر منذ عام 1959.

ـ جورنال أوف جويش ستاديز Jouranl of Jewish Studies (مجلة الدراسات اليهودية)، وتأسَّست عام 1949.

ـ ويصدر معهد الشئون اليهودية ثلاث مجلات علمية مهمة:

باترنز أوف بريجيديس Patterns of Prejudice (أنماط التحيز)، وهي مخصَّصة لقضايا معاداة اليهود والعنصرية.

ـ سوفييت جويش أفيرز Soviet Jewish Affairs (الشئون اليهودية السوفيتية).

ـ كريستيان جويش ريليشنز Christian Jewish Relations (العلاقات المسيحية اليهودية).

كما يُصدر المعهد سلسلة من التقارير Research Reports بصفة دورية تتناول قضـايا دولية ذات أهمـية خاصـة للجماعـات اليهودية في العالم.

ـ وتقوم دار جويش كرونيكل للنشر Jewish Chronicle Publications بإصدار الكتاب اليهودي السنوي Jewish Year Book، و الدليل السياحي اليهودي جويش ترافل جايد Jewish Travel Guide.

ـ يُصدر الاتحاد الصهيوني نشرة شهرية هي زايونست ريفيو Zionist Review، كما يُصدر الكتاب الصهيوني السنوي زايونيست يير بوكZionist Year Book .

ـ يُصدر الاتحاد اليهودي لتنمية التعليم The Jewish Educational Development Trust كتاباً سنوياً حول تعليم اليهود.

ـ وهناك جرائد ودوريات يهودية أخرى تَصدُر في المدن البريطانية المختلفة، وتُصدر معظم المنظمات والمعابد اليهودية إصدارات خاصة محدودة التوزيع.

4 ـ فرنسا:

ـ نشرة الوكالة التلغرافية اليهودية ايجنس تلجرافيك جويف Agence Telegraphique Juive.

ـ أونزر فرت Unzer Wort وهــي جــريدة يديشــية صهــيونية ذات ديباجات اشتراكية.

ـ جريدة ناي برس Naie Presse وهي جريدة يديشية يسارية.

ـ تربيون جويف Tribune Juive .

ـ جريدة أونزر فج Unzer Weg وهي جريدة أسبوعية يديشية يُصدرها المزراحي.

ـ وجريدة أونزر ستيم Unzer Stime وهي مجلة أسبوعية يديشية بوندية.

ـ مجلة لارش L' Arche الشهرية - إنفورماسيون جويف Information Juive الـشهرية ـ لاتير رتروفيه La Terre Retrouve، وهي مجلة شهرية ذات توجُّه صهيوني ـ أميتيه فرانس إسرائيل Amitie France-Israel ـ هامور Hamore وهي شهرية خاصة بالتعليم.

ـ نوفو كاييه Noveaux Cahiers (الكراسات الجديدة) وهي حولية ربع سنوية أكاديمية تُصدرها الأليانس إسرائيليت يونيفرسل ـ أميف Amif وحولية ربع سنويةتُصدرها الجمعية الطبية اليهودية في فرنسا Association Medicale Israelite de France (Amif).

ـ ريفو ديز إتيد جويف Revue des Etudes Juives (مجلة الدراسات اليهودية) وتَصدُر مرتين في السنة عن جمعية الدراسات اليهودية منذ عام 1880 ـ لي كاييه برنار لازارLes Cahiers Bernard Lazare وتَصدُر كل شهرين وهي ذات توجُّه صهيوني وديباجات يسارية ـ كونفرساسيون أفك لي جون Conversations Avec Les Jeunes، وهي نصف شهرية وتُصدرها حركة لوبافيتش ـ مساجيه Messager (حاملة الرسالة) ويُصدرها الليبراليون ـ ريفو ديلا ويزو Revue de La Wize، وتَصدُر كل شهرين، وهي مجلة نسائية.

ـ ويُصدر المجلس الكنسي المركزي Consistiore Central كتاباً سنوياً وتقويماً سنوياً.

الباب الثانى: فلكلور (طعام وأزياء) الجماعات اليهودية

فلكلــــور الجماعــــات اليهوديــــة

Folklore of the Jewish Communities

لا يمكن الحديث عن «فلكلور يهودي»، لأن مثل هذا الفلكلور سيضم مواد من حضارات مختلفة لا يمكن تصنيفها على أساس يهوديتها، وإنما يمـكن تصـنيفها على أسـاسالحضارات التي تنتمي إليها. وبإمكان القارئ أن يرجع إلى المدخل الخاصة بـ «التراث اليهودي» ليجد تناولاً للإشكالية الكامنة في المصطلح، وليجد أساس تفضيلنا لمُصطلَح مثل «فلكلور الجماعات اليهودية».

طعـــام الجماعــــات اليهوديــــة

Food of the Jewish Communities

لا يمكن الحديث عن «الطعام اليهودي» لأن هذه العبارة تعني أن ثمة طعاماً يهودياً متميِّزاً نابعاً من ثقافة يهودية متميِّزة ويعبِّر عن إثنية يهودية متفردة. وهي أمور نتصوَّر أنها وهمية ولذا فإننا نستخدم مُصطلَح «طعام أعضاء الجماعات اليهودية» أي أنواع الطعام التي يتناولونها. وهذا المُصطلَح ذو مقدرة تفسيرية وتصنيفية أعلى بكثير.

تتنوَّع وتتعدَّد أنواع وأصناف الأطعمة، التي يقوم بإعدادها وتناولها أعضاء الجماعات اليهودية، بتعدُّد وتنوُّع المجتمعات التي يعيش أعضاء الجماعات اليهودية في كنفهاباستثناء بعض التفاصيل التي ترجع إلى قوانين الطعام الشرعي (التي تُحدِّد طريقة الذبح والإعداد وتُحرِّم أنواعاً معيَّنة من الطعام أو تُحرِّم الجمع بين أنواع منه) وربما بعض الوصفات التي حملها أعضاء الجماعات اليهودية من تشكيلات حضارية أخرى تواجدوا فيها قبل هجرتهم إلى مجتمعهم الجديد. فإذا استبعدنا هذين العنصرين فإن منالصعب أن نجد، فيما يتعلق بأصناف الطعام أو مكوناتها أو طرق الإعداد، سمة مشتركة أو مميِّزة تسمح لنا بإطلاق صفة «الطعام اليهودي» على الطعام الذي اعتاد أعضاء الجماعات اليهودية في مختلف أنحاء العالم تناوله سواء في وجباتهم اليومية أو في احتفالاتهم وأعيادهم الدينية. فالأطباق والأصناف التي تملأ موائد العائلات اليهودية لا تختلف كثيراً (بل إطلاقاً) عن تلك الأطباق والأصناف التي تملأ موائد غير اليهود في المجتمعات المختلفة التي يعيش بينها أعضاء الجماعات اليهودية، والتي تعتمد بالدرجة الأولى على أنواع المحاصيل الزراعية والثروة الحيوانية المتوافرة في كل منطقة وعلى تقاليد وعادات الطهي المتوارثة لدى شعوب هذه المناطق.

وسوف يتضح لنا ذلك إذا أجرينا مقارنة بين أنواع وأصناف الطعام التي يتميَّز بها اليهود السفارد والشرقيون من جهة واليهود الإشكناز من جهة أخرى، وذلك من خلال رصد أصناف الطعام التي اعتادت كل جماعة إعدادها للاحتفال بنفس الأعياد الدينية اليهودية. فبين اليهود السفارد واليهود الشرقيين، يَكثُر استخدام الأعشاب والتوابل مثل النعناع والكمون والزعفران والقرفة، وأيضاً الأرز والحبوب والبقول مثل العدس والفول والبرغل، وكذلك الزيتون ولحم الضأن والماعز والحلويات المقلية والمضاف إليها محلول السكر المُركَّز. وهذه الأصناف من الغذاء هي نفسها التي يكثر استخدامها وتناولها بين شعوب العالم الإسلامي وحوض البحر المتوسط. ويقوم اليهود السفارد واليهود الشرقيون بإعداد الأصناف والأطباق المميِّزة لهذه المناطق مثل مختلف المحشيات والكباب والكبة والأرز المخلوط بالخضراوات واللحوم والمسقَّعة والبامية، والحلويات الشرقية المتنوعة كالقطايف والكعك بالسمسم. ومن الطريف أن كثيراً من المراجع اليهودية تضم هذه الأصناف الشرقية تحت بند «الطعام اليهودي»، وتشير لأسمائها الشرقية أو العربية مكتوبةً بالحروف اللاتينية دون ذكر أصولها العربية أو الشرقية، فيهود بخارى مثلاً يأكلون يوم السبت قطعاً صغيرة من لحم مشوي مع البصل يُسمَّى «kabab» أي «الكباب»، أو قطعاً من لحم بارد يُسمَّى «yachni» أي «اليخني». أما يهود اليمن، فيفضلون يوم السبت أكل الـ «kur'i» أي «الكوارع»، ويأكلون خبزاً اسمه الـ «Khubs» (أي الخبز) يُخبَز في الأفران الطينية (وهي الأفران التي تَكثُر وتنتشر في قرى وأرياف الشرق الأوسط). أما يهود العراق، فإنهم يفطرون بعد صيام يوم الغفران بالـ «bamya» أي «البامية»، كما يأكلـون حلـوى تُسـمَّى «ata-if» أي «القطايف». والقارئ غير العربي الذي يقرأ مثل هذه الكلمات، يظن لأول وهلة أنها أسماء عبرية لأطعمة يهودية موغلة في القدم، وأن ترجمتها للغة غير عبرية أمر عسير ظناً أن لها ارتباطاً عضوياً بالثقافة اليهودية العريقة!

ولا يمكن إطلاق صفة «يهودية» على مثل هذه الأصناف الشرقية بدعوى أنها أصبحت من الأطباق المميَّزة في أعياد اليهود الشرقيين الدينية أو أنها تشكل جزءاً من وجباتهم اليومية، كما لا يمكن الادعاء بأنها تهوَّدت بفعل قوانين الطعام اليهودية. فهي في النهاية تشكِّل جزءاً من التراث الغذائي للشعوب العربية وشعوب حوض البحر المتوسط والتي استمد منها اليهود السفارد والشرقيون تقاليدهم وعاداتهم الاجتماعية والغذائية.

أما بالنسبة لليهود الإشكناز، خصوصاً يهود شرق أوربا، فيَكثُر بينهم استخدام اللحم البقري والخضراوات قليلة التتبيل، مثل البطاطس والكرنب والبقول ومنتجات الألبان. ونظراً لأن اللحم المذبوح شرعاً لم يكن متوافراً بشكل دائم، أصبح السمك يشكِّل جزءاً مهماً من غذاء الجماعات اليهودية في وسط وشرق أوربا، خصوصاً بعد العصور الوسطى، وكذلك الدواجن. ومن أصناف السمك الشائعة لدى يهود شرق أوربا سـمك الجيفيلت gefilte وهو سـمك محشـو يبدو أنه من أصـل ألماني،وسمك الليبكوخن lebkukhen وهو سمك بالزبيب والعسل وهو من أصل سويسري، وسمك الرنجة المُملَّحة التي يُخرَّط عليها البصل والبيض والتفاح والخبز ويُضاف إليها الخل، وهناك أيضاً الجيهاكت gehakte وهو صنف من أصل روسي بولندي ليتواني. كما يَكثُر بين يهود شرق أوربا الأصناف النشوية مثل عجائن لوكشين lokshen والكريبلاخ kreplach، ويبدو أنهما من أصل إيطالي نظراً لتشابُه اللوكشين مع الإسباجيتي أو المكرونة الإيطالية، وتشابُه الكريبلاخ مع الرافيولي الإيطالي. كما تُستخدَم عجينة اللوكشين نفسها لإعداد حلوى البودنج أو لوكشين كوجيل lokshen kugel حيث يُضاف إلى العجين الزبيب والسكر. ويبدو أن هذا الصنف من أصل ألزاسي. ومن الأصناف التي تشتهر أيضاً بين يهود شرق أوربا حساء الكرنب أو البورشت borsht الروسي الأصل، وفطائر اللحم البيروجين pirogen الروسية الأصل أيضاً. وهناكالسجق أو الكيشكه kishke المحشوة بالبصل والدقيق، وطبق الماماليجا mamaliga الروماني الأصل والذي يتم إعداده من دقيق الذرة ويُقدَّم بقشدة اللبن الرايب أوالزبدة. وتُستخدَم قشدة اللبن الرايب بشكل واسع في شرق أوربا وتضاف لكثير من الأكلات،ويأكلها اليهود مع الخضراوات الطازجة والجبن.

وتشتهر بين يهود الإشكناز أيضاً كعكة عجينة الخمير. وهي رغم اعتقاد الكثيرين أن لها خصوصية يهودية، إلا أنها من أصل روسي. كما أن فطائر البلنتسس blintses من أصل روسي بولندي، أما فطيرة الشترودل strudel فهي من أصل ألماني، كذلك الكعكة الإسفنجية التورته torta وكعك اللوز مانديلتروت mandeltrot. وقد أخذ يهود الإشكناز عن الألمان أيضاً المخللات والأطباق التي تجمع بين الطعم الحلو والحمضي مثل أصناف التزيم tzimmes وهي أطباق من اللحم تُضاف لها البطاطس والدقيق أو الخوخ أو الزبيب.

ويتبيَّن مما سبق أن كثيراً من الأصناف والأطباق التي أصبحت معروفة في الغرب، وفي الولايات المتحدة على وجه الخصوص، بأنها يهودية وتضمها كتب الطهي اليهودي، ما هي إلا أصناف وأطباق سلافية أو ألمانية تشتهر بها مناطق شرق ووسط أوربا وجاء بها يهود اليديشية إلى الولايات المتحدة وارتبطت بهم. ومع هجرة الجزء الأكبر من يهود شرق أوربا إلى الولايات المتحدة، اكتسب هؤلاء اليهود العادات الأمريكية في الطعام، وأصبح كثير من هذه الأصناف والأطباق تُقدَّم فقط في الأعياد والمناسبات الدينية لدرجة أنه أصبح هناك ما يُسمَّى «يهودية المطبخ» أو «يهودية الطعام» (بالإنجليزية: كيوليناري جودايزم culinary Judaism) حيث لا يربط اليهودي أي شيء بالعقيدة اليهودية أو طقوسها سوى الحرص على تناول الطعام اليهودي التقليدي في الأعياد اليهودية المختلفة. ففي ظل المجتمعات الغربية العلمانية الحديثة، وفي ظل تزايُد علمنة واندماج أعضاء الجماعات اليهودية، أصبح الطعام يمثل بالنسبة لكثير من اليهود شكلاً من أشكال الإثنية اليهودية أو الانتماء اليهودي الإثني، ولعله الشكل الوحيد. ولكن المفارقة هنا هي أن هذا الطعام الذي يُقال له «طعام إثني» أي يعبِّر عن الهوية أو الإثنية اليهودية هو في الواقع طعام روسي أو بولندي أو ليتواني أو ألماني.

والواقع أن نمط ما يُسمَّى «الطعام اليهودي» لا يختلف عن معظم الأشكال الثقافية التي يُقال لها «يهودية»، وهي في العادة منتَج ثقافي (طعام ـ لغة ـ شكل من الأشكال الفنية ـ زي) يتبناه أعضاء إحدى الجماعات اليهودية ثم تهاجر أعداد منهم إلى بلد آخر يحملون معهم هذا المنتَج الثقافي والذي يُطلَق عليه اصطلاح «يهودي». ويتصوَّر البعض أن هذا المنتَج الثقافي يشارك فيه كل اليهود في كل زمان ومكان، وهم أبعد ما يكونون عن الواقع، إذ أن هذا المنتَج الثقافي يظل مقصوراً على أعضاء الجماعة اليهودية في مجتمع ما وعلى من هاجر منهم واستقر في بلد آخر.

طعــام الجماعـات اليهــودية في الأعيــاد اليهوديــة

Food of the Jewish Communities in Their Festivals

رغم أن الشريعة اليهودية لا تضم أية شروط أو قوانين خاصة بالطعام في الأعياد اليهودية فيما عدا عيد الفصح، إلا أن أغلب هذه الأعياد (سواء عند اليهود السفارد أو عند الإشكناز) ارتبطت بها بعض الأصناف الخاصة من الطعام. ورغم أن المناسبة الدينية اليهودية قد توجِّه اختيارات أعضاء الجماعات اليهودية وتحدِّدها على مستوى الشكل أو النوعية، إلا أن البيئة الثقافية التي يعيش فيها أعضاء الجماعات اليهودية (أو كانوا يعيشون فيها قبل هجرتهم)، وما توفره من أطعمة وطرق في الطهي، تظل هي الإطار النهائي الذي يدورون فيه والذي يحكم اختياراتهم وذوقهم. ولنضرب مثلاً بالطعام الذي يتناوله أعضاء الجماعات اليهودية في ليلة السبت، حيث يُلاحَظ أن يهود شرق أوربا يفضلون بعض الأكلات في يوم السبت (طبق سمك الجيفلت المحشو مثلاً)، أما يهود بخارى فيأكلون السمك المقلي بالثوم. ونظراً لأنه محرَّم على اليهود القيام بأي نشاط في يوم السبت (مثلاً إيقاد النار بما في ذلك النار التي تُوقَد للطهو)، فقد نتج عن ذلك أسلوب في إعداد الطعام يتمثَّل في الطهي على نار هادئة ابتداءً من مساء يوم الجمعة وحتى يوم السبت. وفي شرق أوربا، كان يُطلَق على هذا الطبق اسم «تشولنت cholent» وهي كلمة مشتقة من كلمتين فرنسيتين هما «شو chaud» أي «دافئ»، و«لنت lent» أي «بطيء». وعادةً ما يضم هذا الطبق خليطاً من اللحم الدسم والسجق (كيشكه) والبطاطس والبقول. أما في تونس والمغرب والجزائر، فيُسمَّى هذا الطبق «دفينة» وفي بعض دول الشرق الأوسط الأخرى، يُسمَّى هذا الطبق «سخينة» أو «حامين» أي «الطبق الدافئ» أو «الطبق الحار» وبين يهود بخارى يُسمَّى هذا الطبق «بحش bahsh»، وهو خليط من الأرز واللحم والكبدة والخضراوات والتوابل.

ومن الأكلات المفضلة أيضاً بين الإشكناز في يوم السبت حساء الدجاج والبيتشا pitcha أو الكوارع، وسمك الرنجة المُملَّحة المُسمَّى «الجيكهات» وأطباق اللحم المسماه «التزيم».

ومقارنةً باليهود السفارد واليهود الشرقيين، يفضل يهود بخارى مثلاً الكباب واليخني وفطيرة اللحم أو الفاكهة وُتسمَّى «ماموس mamossa». أما يهود إيران، فإنهم يفضلون أطباق الأرز المتنوعة أو «البيلاو pilaw»، وأيضاً طبق الجيبا gipa وهو الأمعاء المحشو بالأرز (المنبار). ويأكل السفارد فطائر البستيلا أو البوريكاس وهي فطائر بالسمسم والبندق واللحم والبصل. وبالنسبة للحلويات، يفضل يهود شرق أوربا كومبوت الفواكه، أما يهود وسط أوربا فيفضلون الكعك الإسفنجي وكعك اللوز وفطيرة الشتروديل، ويفضل يهود اليمن صنف الغينينون ghininun وهو نوع من البودنج يُقدَّم أحياناً بالجبن. كما يأكل يهود اليمن الجعلة ga'le وهي الفول السوداني والزبيب واللوز والفاكهة والحلوى المُحمَّصة. وفي حين يتناول اليهود الإشكناز النبيذ أو البراندي مع وجبة يوم السبت، يتناول اليهود الشرقيون شراب العرقي.

ويصاحب وجبة يوم السبت وأغلب الأعياد الأخرى، خصوصاً عند اليهود الإشكناز، خبز الحالا hallah الذي يُخبَز من الدقيق الأبيض. ونظراً لأن يهود شرق أوربا كانوا يأكلون الخبز الأسود طوال الأسبوع، أصبح تناول الخبز الأبيض يوم السبت (وفي الأعياد الأخرى) رمزاً للاحتفال. ويُعجَن خبز الحالا عادةً على شكل ضفائر وتُرَش عليه حبات السمسم رمزاً للمانا manna المذكورة في العهد القديم. أما يهود إسبانيا، فإنهم يتناولون الخبز الإسباني الذي يُخبَز بالبيض والسكر، ويَكثُر بين اليهود الشرقيين تناول الأنواع المختلفة من الفاكهة في يوم السبت حيث يُعتبَر ذلك في الشرق رمزاً للاحتفال. كل هذا يبين كيف يتنوُّع طعام السبت بتنوع البيئة التي يعيش في كنفها أعضاء الجماعات اليهودية.

ولا يختـلف الأمر كثيراً بالنسـبة للأعيـاد الأخرى، ففي عيـد الفصح، يأكل اليهود خبزاً لا يدخله خميرة أو ملح. وفي هذا اليوم، تُعَدُّ أنواع متنوعة من خبز الفطير (ماتسوت)، ويُستخدَم في ذلك دقيق خبز الفطيرة (ماتساه). كما يُستخدَم دقيق البطاطس لإعداد أصناف مختلفة من الطعام. ومن الأطباق الإشكنازية الشهيرة لهذا اليوم مايُسمَّى «كنيدلاخ kneidlaeh» أو «كور الماتساه» حيث يُعجَن دقيق الماتساه بالبيض والسمن والبصل في شكل كور ويُطهَى في الماء المغلي أو المرقة. أما أطباق عيد الفصح بين اليهود الشرقيين (في اليمن) فتضم ما يُسمَّى «فتوت fahthut» وهو نوع من الحساء يدخل في إعداد دقيق الماتساه والميناس minas، والمحموراس في تركيا (وهي رقائق الماتساه محشوة بالجبن أو الخضراوات أو اللحوم).

أما في عيد الأسابيع، فيَكثُر تناول الألبان والجبن، ويُقال إن هذا التقليد يرجع إلى أن التوراة التي يُحتَفل بنزولها في هذا اليوم يُشار إليها أحياناً باسم «اللبن والعسل»، وتتنوع أصناف الأطباق التي تُقدًَّم في هذا اليوم من جماعة إلى أخرى، وعادةً ما يتم إعداد الحلوى والكعك بالجبن على شكل جبل موسى (سيناء).

ومن الأطباق التي يفضلها اليهود الإشكناز في هذا اليوم فطائر البلنتسس وعجائن الكريبلاخ وفطائر الشتردول الألمانية وكعكة الجبن البولندية وفطيرة الجبن الأمريكية وعجينة الكنيش knishes وهي عجينة الخميرة التي تُحشَى باللحم أو البطاطس والجبن أو الفاكهة وأصلها ليتواني. ويُخبَز في هـذا اليوم خبز الحـالا الأبيض بالجبنة. أما السفارد، فإنهم يُعدُّون لهذا اليوم كعكة السماوات السبع رمزاً للسماوات السبع التي شقها الإله لكي تنزل التوراة على موسى. ويستخدم السفارد جبن الشاه لتحضير العديد من الأطباق مثل طبق السفونجوس sphongous والذي يُعدُّ بالجبن والسبانخ.

وفي عيد رأس السنة اليهودية، يتم تقديم الأصناف الحلوة والفواكه كرمز لعام جديد مليء بالخير والطيبات. وعادةً ما يضاف العسل إلى كثير من الأطباق. وتقوم كل جماعة بإعداد الخضراوات واختيار الفواكه التي لها دلالة خيرة في المجتمعات التي يعيشون فيها، فيهود شمال أفريقيا يأكلون السلق والسبانخ في هذا اليوم باعتبار أنهما « يحملان البركة » وفقاً للاعتقاد العربي المحلي. وعند تناول السلق تتلو العائلة اليهودية دعاء للتبريك يشمل كلمة «يستلقو» أي «تشتيت الأعداء وهروبهم» والتي تتشابه في النطق مع كلمة «سلق». وفي اليمن، يتناول اليهود الحلبة ويقابلها في العبرية «روبيا»، وبالتالي فإن تناولها يرمز إلى التكاثر إذ أن منطوقها يشبه العبارة العبرية «شيه يربو» والتي تفيد التكاثر. أما بين الإشكناز، فيتم إعداد أطباق التزيم بالجزر والشرائح المستديرة للجزر ذهبيّ اللون حيث يرمز ذلك إلى الخير والثراء (ولها معنى مماثل باللغة الألمانية). كما يأكل الإشكناز أيضاً سمك الليبوخن الذي يُعَدُّ بالزبيب والعسل. وفي هذا العيد، يقدِّم اليهود الشرقيون رأس سمكة أو رأس خروف إلى رب البيت رمزاً لبقائه دائماً على رأس العائلة. ويُخبَز خبز الحالا على شكل عجلة مستديرة رمزاً لدوام الخير طوال العام.

وفي يوم الغفران، يخبز الإشكناز خبز الحالا، حيث يُعجن جزء منه على شكل مدرج أو رأس طير رمزاً لصعود الصلوات والأدعية سريعاً إلى السماء. ويأكل اليهود الإشكناز قبل بدء الصيام حساء الدجاج مع عجين السكر. وتتنوع الأطباق التي يفطر عليها أعضاء الجماعات بانتهاء الصيام. ففي وسط أوربا، يفطر هؤلاء على الـ «باركس barkes» أو الـ «شنيكين shneken» وهي كعكة بالقرفة والجوز أو الزبيب، وهم يفضلون أطباق الرنجة والأصناف التي تجمع بين الطعم الحلو والحمضي مثل السمك المُخلَّل بالجيلي أو «زيس زوير zise-zoyre». أما السفارد، فإنهم يفضلون الإفطار بفنجان قهوة محوجة بالقرفة (هولندا) أو بحب الهال (سوريا ومصر) أوبالزنجبيل (اليمن). وفي بعض دول الشرق الأوسط، مثل تركيا واليونان والعراق، يفطر أعضاء الجماعات اليهودية على مشروب اللوز أو السوبيا أو غيرها من المشروبات التي يرمز لونها الأبيض إلى النقاء. أما في العراق، فإن أعضاء الجماعات يفطرون على البامية وكعك الزنجبيل أو الشدجوباده، كما تأكل كثير من الجماعات الشرقية الكعك بالسمسم. أما في إيطاليا، فإنهم يأكلون كعكة لها نكهة البن أو الموكا اسمها «دولشي ربيكا dolce Rebeca».

وفي عيد المظال، تتنوع الأصناف التي تُقدَّم في الأكواخ الخاصة أو المظال الصغيرة التي تقام احتفالاً بهذه المناسبة. فبين الإشكناز، يُقدَّم حسـاء البورشـت الروسـي والجولاش المجري وعجينة الفلودن fluden، وهي حلوى تُعَدُّ بالفواكه، إلى جانب فواكه الموسم. وفي الشرق الأدنى القديم، كان تُقدَّم الكبة والمسقَّعة والمحشيات المختلفة. وفي اليوم السابع من عيد المظال، يُخبَز خبز الحالا، وأحياناً يُعجَن جزء منه على هيئة يد ممدودة رمزاً لتلقِّي البركة، أو على هيئة مفتاح رمزاً لفتح باب السماء للأدعية.

وفي عيد التدشين، يجرى إعداد الفطائر والحلوى المقلية في الزيت رمزاً لمعجزة استمرار الزيت في الاحتراق عند إعادة تدشين الهيكل في أورشليم في عهد يهودا المكابي. ويقوم الإشكناز بإعداد فطائر اللاتكيس latkes أو الفاسبوتشس fasputches أو البونتشكس pontshkes ويُقال إنه جرت العادة على إعداد هذه الفطائر بين يهود شرق أوربا لأن لعب الورق (الكوتشينة) كان من عادات الاحتفال بهذا العيد. وكانت هذه الفطائر تُعتبَر من الوجبات التي يَسهُل إعدادها وتناولها دون إحداث تعطيل أو انقطاع في جلسات اللعب التي كانت تستمر أحياناً طوال الليل وحتى فجر اليوم اللاحق. ويقوم يهود شرق أوربا أيضاً بإعداد سلطة من الفجل واللفت والزيتون والبصل المحمَّر في سمن الإوز، كما تُقدَّم أطباق الإوزّ في هذا اليوم.

وفي اليمن، يتم إعداد طبق من الجزر المطهو على نار هادئة اسمه «لحيس جزر lahis gizar»، كما يأكلون الزلابيا، وفي العراق يأكلون القطايف، وفي بخارى الدوشبير dushpire، وفي ليبيا السبانزس spanzes وكلها أصناف من الفطائر.

ومن أشهر الوجبات التي يتم إعدادها بين الإشكناز في عيد النصيب، فطائر مُسلسَلة الشكل تُحشَى بحبوب الخشخاش وأيضاً بالزبيب أو البرقوق أو الخوخ. وتُسمَّى هذه الفطائر بين يهود شرق أوربا «هامان تاشن haman tashen» أو «جيوب هامان» فهي ترمز إلى جيوب هامان المليئة بالرشاوى التي تقاضاها. وفي وسط أوربا، تُسمَّى هذه الفطائر «قبعة هامان». ويُقال إن شكل الفطيرة جاء من قبعات جنود نابليون حيث يبدو أن اليهود في عصر نابليون كانوا يعتبرونه محرِّراً. وقد كان يُطلَق عليها أيضاً اسم «آذان هامان» لأنه كان يتم قديماً قطع آذان المجرمين عقب إعدامهم. ويُقال أيضاً إن هذه الفطيرة ارتبطت بعيد النصيب لأن الكلمة الألمانية التي تعني حبوب الخشخاش وهي كلمة «مون mohn» مشابهة لاسم هامان.

وخبز عيد النصيب كبير الحجم ومضفَّر رمزاً للحبال التي استُخدمت لشنق هامان. ويُعدّ السفارد فطائر مشابهة تُحشَى باللحوم والخضراوات والفاكهة. ويُعدّ أعضاء الجماعات الشرقية أنواعاً مختلفة من الحلويات والكعكات المحشوة باللوز والجوز، ويوزِّع يهود إيران بعد قراءة أجزاء من العهد القديم نوعاً من الحلوى تُسمَّى «حلافا كاشكا».

أزيــــــاء وملابــــس الجماعــــات اليهوديـــــة

Dress and Costumes of the Jewish Communities

لا يمكن الحديث عن «أزياء يهودية»، وإنما يمكن الحديث عن الأزياء والملابس والثياب التي يرتديها أعضاء الجماعات اليهودية المتعددة والتي تختلف باختلاف المجتمعات التي يعيشون في كنفها، ومن ثم يكون اصطلاح «أزياء الجماعات اليهودية» أكثر دقة وأعلى قدرة على التفسير والتصنيف، فالذي يحدِّد السمات الأساسية لهذه الأزياء المجتمعات التي يعيش أعضاء الجماعات اليهودية في كنفها. ولا يمكن فهم تحولات وتطوُّر أزياء أعضاء هذه الجماعات إلا في هذا الإطار وهو أمر طبيعي تماماً فالأزياء، شأنها شأن اللغة، رموز اجتماعية لا يبتدعها المرء وإنما يتلقاها من المجتمع، وقد يحاول التغيير في بعض التفاصيل (وحينئذ قد يوصف بالأصالة أو بالشذوذ)، لكن الأزياء في نهاية الأمر لغة اجتماعية. وقد كان العبرانيون في مصر يرتدون (على ما يبدو) أزياء قدماء المصريين، كما ارتدوا أزياء البابليين ثم الفرس وهم في بابل وفارس، وأزياء اليونان والرومان إبان حكم الإمبراطوريات الهيلينية والرومانية. ولم يختلف زي اليهود المستعربة عن أزياء العرب. ولا نرى يهود الدولة العثمانية يرتدون سوى الزي السائد في زمانهم ومكانهم. وحينما بدأ العثمانيون يرتدون الطربوش ارتدوه، وعندما تخلوا عنه واستعملوا الأزياء الغربية تحولوا بتحـوُّلهم. ويرتـدي يهود الهــند، من الذكور والإناث، الأزياء الهندية المعروفة، كما ارتدى يهود الصين أزياء أهل بلدهم.

ومع هذا، لابد من الإشارة إلى أن أعضاء الجماعات اليهودية، شأنهم شأن الأقليات والجماعات الدينية والإثنية الأخرى قبل العصر الحديث، لهم بعض الثياب المميَّزة المرتبطة بشعائر دينهم وأعيادهم ومناسباتهم التي لا يشاركون فيها أعضاء الأغلبية. فعلى سبيل المثال، يرتدي أعضاء الجماعة اليهودية من المتدينين (أي غالبية اليهود الساحقة حتى أواخر القرن الثامن عشر، وأقلية صغيرة للغاية في العصر الحديث) شال الصلاة (طاليت) وهم في طريقهم إلى المعبد يوم السبت، ويرتدي بعضهم شال صلاة صغيراً تحت ملابسه طيلة الوقت، وإن كانت أغلبية يهود العالم هجرت هذه الممارسات الدينية. وحيث إن قوانين المجتمعات التقليدية كانت مبنية على الفصل الحاد بين الطبقات والجماعات، فإن الأزياء كانت تُستخدَم وسيلةً لتدعيم هذا الفصل، فلا يرتدي الفرسان زي الفلاحين، ولا يرتدي هؤلاء زي التجار، وهكذا. ولأن أعضاء الجماعة اليهودية كانوا يتركزون عادةً في مهنة واحدة مثل التجارة، فإنهم كانوا يرتدون زي أهل هذه المهنة حينما يتطلب الأمر اشتغالهم بها. كما أن انتماء الفرد في تلكالمجتمعات إلى إحدى الأقليات، خصوصاً إذا كانت الأقلية من الجماعات الوظيفية الوسيطة، كانت تصحبه مجموعة من المزايا والأعباء كما كان الحال في العصور الوسطى في الغرب، إذ كان لابد له من ارتداء شارة تميِّزه عن الآخرين. ومن هنا، وُجدت شارة اليهود المميَّزة التي كانت تُعَدُّ ميزة يحصلون عليها ويسعون من أجلها، فهي تَكفُل لهم الحماية وتضمن لهم الإعفاء من جمارك المرور على سبيل المثال. ولكن أحياناً كان يُفرَض على اليهود في العالم الغربي، وعلى غيرهم من أعضاء الأقليات، زي محدَّد لضمان الأمن الداخلي أو كمحاولة للحد من نشاطهم وتضييق الخناق عليهم، خصوصاً حينما يصـبح المجتمع بلا حاجة إليـهم. ولكنه، في جميع الحالات، لم يكن هناك زي واحد يُفرَض على اليهود في كل زمان ومكان، بل كانت هناك أزياء مختلفة ومتعددة باختلاف وتعدُّد الأماكن والمراحل التاريخية والظروف الاجتماعية والسياسية.

وإذا كنا قد شبَّهنا الأزياء باللغة، فبوسعنا الآن أن نشبه أزياء أعضاء الجماعات اليهودية باللهجات التي يتحدثون بها. فلهجات أعضاء الجماعة اليهودية تنبثق من لغة ما يتبنونها ثم يضيفون إليها بعض العبارات العبرية، ويستمرون في استخدامها حتى بعد أن تتطور اللغة الأصلية، كما حدث مع اليديشية التي هي عبارة عن ألمانية العصورالوسطى نقلها اليهود إلى بولندا واستمروا في استخدامها كما هي (مع أنها تطورت في وطنها الأصلي) وأضافوا إليها كلمات سلافية وعبرية.

وعلى سبيل المثال، فإن الزي الذي يُسمَّى «الكسوة الكبرى»، وهو رداء العروس اليهودية في المغرب، يضم عناصر من أزياء إسبانيا كان أعضاء الجماعة اليهودية قد تبنوها قبل طردهم منها وأضافوا إليها عناصر من أزياء المغرب. وحدث تطـوُّر مماثل في أزياء يهود شرق أوربا، فهم يرتدون رداءً طويلاً مصنوعاً من الحرير ذا أكمام طويلة ومفتوحاً من الأمام حيث يُثبَّت بحزام في الوسط ويُسمَّى «كفتان» (من الكلمة العربية «قفطان»). وكان النبلاء البولنديون يرتدونه، ويبدو أن هؤلاء بدورهم كانوا قد نقلوه من زى المغول الرسمي في القبيلة الذهبية والتي كانت تمثل القوة العظمى في أوربا السلافية. وتطوَّر الكفتان بعد ذلك وأصبح ما يُسمَّى «كابوت». وقد تبنَّى يهود شرق أوربا إلى جانب ذلك بعض العناصر الأخرى من رداء النبلاء البولنديين، حيث كان اليهود يشكلون جماعة وظيفية وسيطة تمثل مصالح هؤلاء النبلاء في أوكرانيا وغيرها من الأماكن. ومن أهم هذه العناصر قبعة اليرمولك، وهو غطاء الرأس الصغير الذي أصبح السمة المميِّزة لأعضاء الجماعة اليهودية من المتدينين، بل ويرتديه غير المتدينين كذلك باعتباره طقساً من طقوس حفاظهم على هويتهم. ومن الملامح المميِّزة أيضاً لرداء يهود شرق أوربا قبعة خارجية تُسمَّى «الشترايميل». ومن الواضح أنها من أصول سلافية، فهي قبعة ثُبِّت في طرفها ذيول ثعالب، وكانت كثرة عدد الذيول من علامات الثروة. ويذهب آرثر كوستلر إلى أن هذه القبعة كان يرتديها يهود الخزر وأنهم نقلوها عن قبائل الكازاك.

أما النساء، فقد كن حتى منتصف القرن التاسع عشر يرتدين عمامة عالية بيضاء كانت نسخة طبق الأصل من «الجولوك» التي كانت تلبسها نساء الكازاك والتركمان. ومازالت الفتيات اليهوديات الأرثوذكسيات ملزمات، حتى اليوم، بأن يضعن عوضاً عن العمامة البيضاء العالية شعراً مستعاراً من شعورهن ذاتها،ثم ينزعنه عندما يتزوجن.

واحتفظ يهود شرق أوربا بهذا الزي بتنويعاته المختلفة. وبقيت لهذا الزي المميَّز وظيفته في مجال عَزْل أعضاء الجماعة اليهودية الوظيفية الوسيطة عن محيطهم (إلى جانب الرموز والأشكال الأخرى مثل اللهجة المميَّزة والعقيدة المختلفة). ولكن، مع التحولات العميقة في وسط أوربا وشرقها، ورغبة الدولة القومية المركزية في إنهاءعزلة اليهود وغيرهم من الجماعات والأقليات، طُلب إلى أعضاء الجماعة اليهودية التخلي عن هذا الزي وارتداء الأزياء الغربية، وصدرت قوانين تُحرِّم ارتداء أزياء خاصة بالجماعات اليهودية. لكن أعضاء الجماعة اليهودية رفضوا هذا التغيير القسري في بادئ الأمر، قبل أن يندمجوا في نهاية المطاف. ولا يحافظ على زي يهـود شـرق أوربا سـوى الجماعات الحسيدية، وهم قلة صغيرة.

ومنذ عام 1881 وحتى عام 1935، اشتغل كثير من اليهود في تجارة الرقيق الأبيض المشينة، وكان القوادون يرتدون الكفتان حتى أصبح الكفتان والبغاء مرتبطين تمام الارتباط في الذهن الشعبي في الغرب.

وفي الوقت الحاضر، ترتدي الغالبية الساحقة من أعضاء الجماعات اليهودية في العالم الأزياء السائدة في مجتمعاتهم ويتبعون آخر الموضات، إن سمح لهم دخلهم بذلك، وهم في هذا لا يختلفون عن معظم البشر في القرن العشرين.

أما في الدولة الصهيونية، فلم يُلاحَظ ظهور زي إسرائيلي أو يهودي خاص، وإن كان يُلاحَظ أنهم يرتدون الصندل (حتى أصبح إحدى العلامات المميِّزة لجيل الصابرا). ولكن ارتداء الصندل ليس تعبيراً عن هوية يهودية كامنة أو عن أي شيء من هذا القبيل، وإنما هو تعبير عن حرارة الجو في الشرق الأوسط، ومن ثم نجد أن الصندل منتشر في كل دول المنطقة! كما يُلاحَظ أن المضيفات في خطوط العال الإسرائيلية يرتدين زياً قريباً جداً من زي الفلاحات الفلسطينيات!

ولا يُوجَد زي خاص وموحَّد للحاخامات. فحاخامات يهود فرنسا يرتدون زي الوعاظ الهيجونوت، أما في إنجلترا فبعضهم يرتدي زي قساوسة الكنيسة الإنجليكانية، وفي الولايات المتحدة يرتدون الزي الغربي العادي، شأنهم في هذا شأن الوعاظ في كنائس البروتستانت، وفي الدولة العثمانية كان الحاخامات يرتدون زي الشيوخ أي جُبّة وقفطاناً وعنترية وعمامة.

الباب الثالث: الفنون التشكيلية والجماعات اليهودية

الفن اليهودي

Jewish Art

من الصعب الحديث عن «الفن اليهودي» بشكل عام، ولذلك فإننا نجد أن الحديث عن «فنون الجماعات اليهودية» أكثر دقة وتفسيرية. فعبارة «الفن اليهودي»، شأنها شأن عبارات أخرى، مثل «الثقافة اليهودية» و«الأدب اليهودي»، تفترض وجود هوية يهودية محدَّدة مستقلة وثابتة ومنفصلة عن التشكيلات الحضارية التي تُوجَد فيها، وتفترض وجود شخصية يهودية لها خصوصيتها المتميِّزة.

فنــــون الجمــــاعات اليهوديـــة

Arts of the Jewish Communities

نحن نذهب إلى أنه لا توجد هوية يهودية واحدة، وإنما هناك هويات عديدة تختلف باختلاف الزمان والمكان وباختلاف التشكيلات الحضارية التي يعيش أعضاء الجماعات اليهودية في كنفها. ومن ثم، لا يوجد فن يهودي ولا حتى فنون يهودية بشكل عام، وإنما يوجد فنانون عبرانيون وفنانون يهود تختلف طرقهم في الإبداع باختلاف التشكيلات الحضارية التي ينتمون إليها. ويظهر هذا في فن العمارة على سبيل المثال، فهيكل سليمان يتبع النماذج المصرية والفينيقية والآشورية. أما هيكل هيرود، فيتبع النمط الروماني السائد في ذلك العصر. وكانت مباني العبرانيين تتبع النمط السائد، ولذا كانت كنعانية في البداية ثم هيلينية ورومانية. وفي العالم الإسلامي، شُـيِّدت المعابد اليهودية حسب الطراز المعماري الإسلامي، كما تُشيَّد الآن في العالم الغربي حسب الطرز المعمارية السائدة فيه.

وقد أثار اكتشاف معبد ديورا أوروبوس، الذي بُني في العصر الهيليني، قضية تحريم التصوير والتماثيل في اليهودية (كما وردت في الوصية الثانية من الوصايا العشر). ويبدو أن هذا التحريم لم يُنفَّذ إبان حكم الممالك العبرانية. فتماثيل الكروب (الملائكة) فيه تدل لا على تقبُّل التصوير وحسب، وإنما تدل على بناء التماثيل أيضاً. كما أن تماثيل العجول التي كانت في هيكل المملكة الشمالية تدل على أن الكروب لم تكن استثناء فريداً، وإنما كانت نمطاً متكرراً. ولكن، بعد العودة من بابل، حدثت محاولة لتنفيذ هذا الحظر، وإن تم الاحتفاظ بتماثيل الكروب. وبمرور الوقت، ازداد تشبُّع اليهود بالحضارة الهيلينية، وبالتالي بدأ الاهتمام بالتماثيل إلى أن نُسي الحظر الديني تماماً، فنجد أن معبد ديورا أوروبوس تظهر فيه لوحات فسيفساء تمثل أنبياء العهد القديم وبعض الشخصيات الأخرى. وهناك لوحة تمثل ميلاد موسى وقد حملته أفرودَيت (فينوس) إلهة الجمال، في حين ظهر هارون في لوحة أخرى، وقد تبعه أحد الكهنة اللاويين، ويسير وراءهما عبد.

ولكن، ومن خلال التأثر بالحضارة الإسلامية، اكتسب الحظر شرعية جديدة، وتزايد ابتعاد يهود الحضارة الإسلامية عن التصوير. أما في إيطاليا، مثلاً، حيث ازدهر فن النحت، فإننا نجد أن جيتو روما كان يزينه تمثال نصفي لموسى. وكل هذا يبين أن عبارة «فن يهودي» بغير مضمون، والصحيح أن هناك فناً يبدعه فنانون يهود، أو فناً ذا مضمون يهودي، أو فناً موجهاً إلى جمهور يهودي يتبع التقاليد الحضارية السائدة في المجتمع المضيف.

ويمكن القول بأن مساهمة اليهود في الفن الغربي ظلت ضئيلة حتى القرن التاسع عشر، باعتبار أنهم كانوا جماعة وظيفية وسيطة منعزلة عن أعضاء المجتمع، لها لغتها الخاصة على الصعيدين اللغوي والحضاري. كما أن الدين كان مرتبطاً بالفن في المجتمعات التقليدية، ارتباطه بمعظم نشاطات الإنسان الأخرى، وهو ما كان يعني استبعاد اليهود كمنتجين لهذه الفنون، وضمور إبداعهم في مثل هذه المجالات.

وتغيَّر هذا الوضع تماماً، مع القرن التاسع عشر، بعد الإعتاق والانعتاق، وبعد علمنة المجتمع الغربي. ويُلاحَظ منذ ذلك التاريخ ظهور عدد من الفنانين الغربيين من أصل يهودي، ولكن إبداعهم كان يتم من خلال المصطلح واللغة الفنية السائدة في مجتمعهم وزمانهم ومكانهم. ومن أهم الفنانين من أعضاء الجماعات اليهودية الفنان الانطباعي كاميل بيسارو (الفرنسي) والفنان مارك شاجال (الروسي) وبن شان (الأمريكي) وأماديو مودلياني (الفرنسي)، وكلهم من الرسامين. وأهم النحاتين من أعضاء الجماعات اليهودية جاك ليبشيتس (الأمريكي). ويُوجَد عدد كبير من تجار الأعمال الفنية ونقاد الفنون من أصل يهودي. ولكن تظل نشاطات أعضاء الجماعات اليهودية، كفنانين مبدعين أو ناقدين للفن أو متاجرين فيه، نابعة من محيطها الحضاري، فهي تعبير عن المجتمعات التي ينتمي إليها أعضاء الجماعات اليهودية وعن تفاعلهم معها، وهذهالمجتمعات هي التي تحدِّد موضوعات هذه الفنون ولغتها الفنية.

ولننظر الآن إلى بعـض الأعـمال الفنية التي تُوصَف بأنها «يهودية»، وهي أعمال محفوظة في المتحف اليهودي في نيويورك باعتبارها نماذج من «الفن اليهودي». من هذه الأعمال ستار يُستخدَم في أكثر الأماكن قداسة في المعبد اليهودي، أي تابوت العهد الذي تُحفَظ فيه مخطوطات التوراة. والستار من تركيا وهو على الطراز العثماني في القرن الثامن عشر، تتوسطه صورة للمسجد الأزرق بمآذنه المُدبَبة، ويحيط بها عمودان ملفوفان على تاج كل منهما آنية للزهور، وهي طريقة للزخرفة شائعة في الفن العثماني آنذاك. ويظهر فيها تأثُّر الفن العثماني بالفن الأوربي. والواقع أنه لا يوجد شيء يهودي في هذا الستار سوى الكتابة العبرية في وسطه، وإن كانت هناك يد وسط الكتابة العبرية، هي كف عائشة (خمسة وخميسة عند المصريين)، وهذا يُشكِّل جزءاً من فلكلور المنطقة. ولننظر إلى هذا الوعاء النحاسي من العصر المملوكي، وهو مُطعَّم بالفضة والذهب. والوعاء مُقسَّم إلى مساحات طولية عليها كتابة بالعربية تقطعها أشكال دائرية تحوي زخارف. وداخـل هـذه الزخارف يُلاحَظ وجـود نجمة داود وكتابات بالعبرية. ويبدو أن هذه الآنية صمَّمها حرفي عربي يهودي من سوريا (ومن هنا معرفته بالحروف العبرية). ولكن طريقة الصناعة والطراز والبنية الجمالية كلها إسلامية، أي أن صانع هذا الوعاء قد يكون حرَفياً يهودياً ولكن ذوقه إسلامي مملوكي.

ومن بين مقتنيات المتحف اليهودي في نيويورك ميدالية من طراز إيطالي تعود إلى منتصف القرن السادس عشر، ونُحت عليها رأس دونا جراسيا ناسي. ولكن صانع الميدالية نفسه هو باستور ينو دي جيوفان ميشيل دي باستوريني (1508 ـ 1592)، وهو فنان إيطالي مشهور قام بصك عدة ميداليات، من أشهرها ميدالية لفرانسيسكوميديتشي. وفن الميداليات هو فن انتشر في إيطاليا في عصر النهضة، وهو محاولة لتقليد العملات القديمة (الرومانية وغيرها) بحيث يظهر الشخص المُحتفَى به، والذي تظهر صورته على الميدالية على هيئة أحد أبطال الرومان. وكانت الصورة تهدف إلى إبراز السمة الأساسية في الشخصية (باللاتينية: «فيرتو vertu») وتمجِّدها. ولكنالميدالية، مثل كل أنواع الفن الكلاسيكي، لم تكن تهدف إلى إبراز الشخصية كما هي، وإنما كما ينبغي أن تكون في أكثر لحظاتها سمواً ونبلاً. وتوجد حول رأس المُحتفَى بهنقوش. وربما كان العنصر اليهودي الوحيد هنا أن هذه النقوش كُتبت بالعبرية. وفن الميداليات، والمفهوم الكامن وراءه، هو فن يحاكي الفن الروماني، وله أبعاد وثنية عميقة كما هو الحال مع فن عصر النهضة وبدايات علمنة العقل الأوربي وكذلك علمنة رغبات وقيم الإنسان الغربي. فإذا كان الفن أوربياً (عصر النهضة) والفنان إيطالياً، والقيم الجمالية والخلقية وثنيةً، فبأي معنى يمكن تسمية هذا الفن «يهودياً»؟

ومن المقتنيات الأخرى، لوحة رمبرانت «اليهود في المعبد اليهودي». وهذه اللوحة الرائعة (وهي حفر على الورق) تبيِّن رؤية رمبرانت للجماعة اليهودية في عصره. فرغم أن اليهود كانوا أقلية صغيرة، فإنه هو نفسه كان يعيش في حارة اليهود. ويقول النقاد الفنيون إن رمبرانت في هذه اللوحة يدرس موضوع الغربة، وهو موضوع إنساني عام، فمركز اللوحة هو اليهودي الجالس على قطعة من الحجر، وقد أعطى المشاهد ظهره. ويُلاحَظ أن كل الأشخاص الآخرين في الصورة يتحدث الواحد منهم مع الآخر وجميعهم غير مكترث بوجوده، بل نجد أنهم ينظرون بعيداً عنه. ورغم أنه يُوجَد في بقعة التوتر (في الوسط تماماً)، فإن وجهه متجه نحو الظلمة. ويبدو أن أزياء اليهود قد اجتذبت انتباه رمبرانت (وهي أزياء لم تكن هـولندية، فقـد جاء الإشـكناز من بولندا، أما السـفارد فمن إسبانيا)، وأحضرت كل جماعة منهما أزياءها المحلية.

ومن الأعمال الفنية الأخرى، شمعدان المينوراه، وهو الشمعدان الذي يُشعَل في منازل اليهود وفي معابدهم. وهو على الطراز الألماني (من القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر). ومن الحقائق التي ينبغي ذكرها أن شمعدان المينوراه كان يُوجَد في بعض الكنائس في العصور الوسطى أيضاً (لأن الكنيسة كانت ترى نفسها إسرائيل الحقيقية التي حلَّت محل إسرائيل غير الحقيقية، أي الشعب اليهودي). ويُلاحَظ في المينوراه الألمانية وجود موضوعات ونقوش ألمانية مثل القاعدة التي اتخذت شكل أُسود، والتي تظهر في كثير من المينورات في الكنائس، وكذلك الفروع التي زُيِّنت بأوراق.

ويُوجَد في المتحف اليهودي قسم خاص بما يُسمَّى «كتوباه»، أي عقود الزواج. والكتوباه، شأنها شأن الأعمال الفنية اليهودية الأخرى، نابعة من التشكيل الحضاري الذي تُوجَد فيه. ومن أشهر عقود الزواج التي يحتفظ بها المتحف، عقد زواج من ليفورنو (إيطاليا) في القرن الثامن عشر، وكانت المدينة قد اختارت النحات إيزيدور باراتا (من كرارا) ليزِّين المعبد اليهودي بالزخارف، ويبدو أن صانع هذه الكتوباه تأثر بسفينة العهد التي صنعها الفنان الإيطالي، فاستخدمها إطاراً للكتوباه، وأضاف إليها ملاكين، أخذهما من إحدى اللوحات التي نقشها باراتا على الرخام، وهي لوحة «صلب بطرس الرسول». وزيَّن الكتوباه بعد ذلك بورود رائعة. وفي وسط الخرطوشة (شكل بيضاوي أو مستدير في وسطه اسم شخص مشهور)، يوجد منظر ذو مضمون ديني: يظهر إبراهيم وهو يُضحِّي بإسحق (بحسب رؤية اليهود)، ثم يصل الملاك بالرسالة من الخالق في اللحظة المناسبة.

ولكن أبطال العهد القديم يصبحون، في هذا العمل الفني، مثل الأبطال الوثنيين. ولذا، نجد أن التركيز يتجه نحو ملامحهم الجسدية. فصورة إبراهيم وإسحق تشبه صور أو تماثيل زيوس وأوربا مثلاً، ولا تعطي أي إحساس بالرهبة الدينية. والكتوباه خليط من فن الباروك والروكوكو. ويجب أن نذكِّر القارئ هنا بأن اليهودية تُحرِّم التصوير أساساً، فما بالك بتصوير أبي الأنبياء والأمم بهذه الطريقة (لفظة إبراهيم تعني في العبرية «أبو الأمم»)؟ ولعل أهمية هذه اللوحة بالنسبة لنا أنها تعطينا صورة عن كيفية إنتاج الفن الذي يُقال له «يهودي» من خلال اللغة الفنية والحضارية السائدة. فقد قام فنان مسيحي إيطالي في عصر النهضة الذي سادته الاتجاهات الوثنية بتزيين معبد يهودي، ثم تأثر حرفي يهودي بزخارفه فنقلها إلى الكتوباه. ويُلاحَظ أيضاً أن الحرفي أضاف زخارف أخرى قام الفنان الإيطالي نفسه بإبداعها لعمل فن مسيحي. وهكذا، لا يبقى سوى الكتابة العبرية في هذه الكتوباه. ولا ندري، هل كانت كتابة الخط شكلاً فنياً قائماً بين يهود إيطاليا، كما كان الحال ومازال عند العرب المسلمين، وعند كل المسلمين الذين يستخدمون الحرف العربي؟ في غالب الأمر سنجد أن الخط لم يكن مما يُعَدُّ من الفنون الجميلة في أوربا آنذاك.

وإذا تركنا عصر النهضة والباروك والركوكو ووصلنا إلى عصر العقل والفن الذي يُشار إليه باسم «نيو كلاسيكي»، فإننا سنجد لوحة لفنان أمريكي يهودي يُسمَّى توماس سللي (1783 ـ 1872)، واللوحة عبارة عن بورتريه لسالي إتينج، أي صورة شخصية لها. والفن النيو كلاسيكي يحاكي الفنون الرومانية واليونانية بشكل واع، وهو بهذا يُعَدُّ امتداداً لفن عصر النهضة الغربي. وهنا، فإن بطلة الصورة قد رُسمت على هيئة إحدى بطلات الرومان، فهي ترتدي زياً رومانياً، بل نجد أن تسريحة شعرها على الطريقة الرومانية. ومن الواضح أن انعكاس الضوء على وجهها وجسدها يهدف إلى تأكيد جمالها الجسدي ومثاليتها الخلقية، وستظل هذه هي أهم معالم الفن العلماني، حيث يحاول أن يصل إلى قيم مطلقة من خلال الجسد الإنساني والظاهرة الإنسانية. وقد كانت مثل هذه المحاولات مشُوبة دائماً بالتوتر، فهي تعبير عن نزعة مثالية ولكنها تظل حبيسة الجسد والمادة. ولا ندري هل نجح الفنان هنا في حفظ التوازن بين الحسي والمثالي؟ ولكن، وأياً ما كانت نتيجة المحاولة، إيجاباً أو سلباً، فالفن الذي نشاهده فن غربي نيو كلاسيكي، كما أن المشكلة التي يواجهها الفنان هي على وجه الحصر مشكلة لا يمكن أن تُوصَف بأنها يهودية. وإلى جانب ذلك، فإن المعالجة الجمالية الأخلاقية تنتمي إلى قواعد ذلك العصر. بل إننا، ابتداءً من الميدالية والكتوباه، نلاحظ بداية القيم العلمانية والموضوعات الوثنية في الفنون الغربية. ومن هنا، يمكننا القول بأنه، مع شيوع الفن النيو كلاسيكي، انتصر العنصر الوثني، وهو ما أفضى إلى اختفاء القيم المسيحية والدينية. وقد حدث الشيء نفسه بالنسبة للفنان اليهودي، إذ اختفت الحروف العبرية. كما توقفت أية محاولات، مهما كانت واهية واهنة، تتعلق بإقحام عنصر يهودي على العمل الفني. فنحن هنا في حضرة عمل فني غربي خالص، لا يُوجَد فيه حتى ادّعاء اليهودية.

ومن أشهر اللوحات التي وُصفت بأنها «يهودية»، اللوحة المسماة «عودة المتطوع اليهودي من حروب التحرير إلى أسرته التي لا تزال تعيش حسب التقاليد القديمة» للفنان موريتز دانيال أوبنهايم (1800 ـ 1882)، وهي تنتمي إلى الأسـلوبين الرومانتيكي والواقـعي في القـرن التاسع عشر. فأسلوب اللوحة رومانتيكي من حيث تأكيده العواطف والبُعد المثالي للمنظر، ولكنه واقعي من حيث اهتمامه المفرط بالتفاصيل. واللوحة تُعبِّر عن هذه النقطة التي بدأت فيها اليهودية التقليدية (الأرثوذكسية) تتفكَّك، وتحل محلها الصيغ اليهودية الجديدة المُخفَّفة، والتي لا يعترف بها الأرثوذكس، وهو ما أدَّى إلى طرح مشكلة من هو اليهودي؟ فالأسرة لا تزال أرثوذكسية، تقيم شعائر السبت كما هو واضح من الكأس والخبز على المائدة، والأب يقرأ من كتاب هو في الغالب كتاب أدعية وصلوات. ولكن الأسرة، مع هذا، بدأت تفقد شيئاً من أرثوذكسيتها، ويدل على ذلك وجود صورة في المنزل. ووصول الابن في ذلك اليوم يعني أنه سمح لنفسه بالسفر في يوم السبت، وهو الأمر الذي تُحرِّمه الشريعة اليهودية. ومن الواضح أن هؤلاء اليهود بدأوا يفقدون هويتهم الإثنية الدينية ويتحولون إلى مواطنين ألمان، ومن هنا فخرهم بقوميتهم. وربما كان وجه الأب الذي ينظر بشغف وزهو وحيرة إلىصدر ابنه هو رمز هذه اللحظة، فالأب ينظر إلى الصليب الحديدي، وهو رمز مسيحي قومي. وموضوع «رحيل المتطوعين» موضوع أساسي في الفن الرومانتيكي في القرن التاسع عشر، وإن كان أوبنهايمر جعله «عودة» المتطوع، ربما متأثراً بلوحة «عودة الأبناء» للفنان الألماني فيليب أوتو رانج.

وقد كان النقاد الفنيون اليهود يتحدثون، حتى عهد قريب، عن يهودية حاييم سوتين، ولكن الاتجاه الآن نحو دراسة صوره يتم داخل إطار تاريخ الفن في القرن العشرين ومشاكل الحداثة. وقد كوَّن مع موديلياني وأوتريللو وياسين جماعة تُسمَّى «الملاعين» أو «سيِّئو الحظ» (بالفرنسية: «مودي maudit») وكلهم يهود ماعدا ياسين. ولكن، هل لعبت يهوديتهم دوراً في تحديد رؤيتهم وأسلوبهم؟ أم أن تجربتهم تجربة أفراد يشعرون بالضياع والغربة في عالم القرن العشرين العلماني؟ (ولعل يهوديتهم تزيد حدة هذا الإحساس بالاغتراب، فمعدلات العلمنة بين اليهود، خصوصاً المثقفين، كانت أعلى منها بين بقية المجتمع). وقد رسم سوتين لوحته «وعاء زهور» عام 1930، واشتهر باللون الأحمر الذي استخدمه في هذه اللوحة وفي لوحاته الأخرى التي رسم فيها لحم حيوانات مخضباً بالدماء، (ويُقال إن هذه اللوحات احتجاج على قوانين الطعام اليهودية). ويتضح توتُّر سوتين وجرأته في هذه اللوحة التي تُعَدُّ إرهاصاً للتعبيرية التجريدية.

ومن أهم الأعمال الفنية التي يُقال لها «يهودية»، النصب التذكاري الذي نفذه جورج سيجال المولود عام 1924 لضحايا الهولوكوست أو الإبادة النازية، بناء على طلب بلدية سان فرانسيسكو. وتماثيل النصب مصنوعة من قالب جصى بالحجم الطبيعي لعدة جثث مرتبة على هيئة نجمة داود. وتمسك إحدى الجثث بتفاحة رمزاً لحواء، كما أن جثة أخرى تمد ذراعيها رمزاً للمسيح المصلوب. وهناك رجل عجوز وبجواره صبي، وهو يرمز إلى إبراهيم وإسحق. أما الرجل الواقف، فهو رمز البقاء (بقاء الشعب اليهودي)، ولكنه في حالة ذهول. ولذا، فهو يمسك بالسلك الشائك دون أن يشعر بالوخز، وربما كان ذلك رمزاً آخر للمسيح. والموضوع هنا يهودي بالمعنى الإثني لا الديني، لكن التناول صهيوني، وهو يؤكد بلا شك مركزية واقعة الإبادة النازية، ويتحدث عن تاريخ يهودي، عن معاناة يهودية. ولكن العمل مع هذا يظل عملاً أمريكياً غربياً حديثاً، لا يمكن فهم قيمه الجمالية إلا بالعودة إلى اللغة الفنية السائدة في الولايات المتحدة، وهي لغة تدخلها الرموز المسيحية. وهـذا أمر طبيعي، فقد صاغه فنان أمريكي ليعرضه على جمهور أمريكي. وإذا كان الموضوع يهودياً والفنان الذي تناوله يهودياً، فإن هذا لا يقلِّل من أمريكية العمل، إذ تظل اللغة الفنية لغة أمريكية غربية حديثة.

وفي عرضنا حتى الآن لما يُسمَّى «الفن اليهودي»، وجدنا أنفسنا ننتقل من الحضارة الإسلامية إلى الحضارة الغربية. ولو انتقلنا إلى الحضارة الصينية لندرس معمار المعبد اليهودي هناك، لوجدنا أنه لا يختلف كثيراً عن معمار المعابد الكونفوشيوسية. وفي دراستنا للأعمال الفنية اليهودية المختلفة، وجدنا أنفسنا نشير إلى فن عصر النهضة، وفن عصر العقل، وفن عصر الرومانسية، وفن العصر الحديث. وفي محاولة فهم هذه الأعمال، كان علينا أن نعود دائماً إلى تطوُّر الفكر والفن الغربيين، ونحن لم نجد عناصر يهودية إلا في الموضوع، وهو عنصر فرعي لا يحدِّد القيم الجمالية أو طريقة التناول. ومن هنا، نجد أن من الصعب التحدث عن «فن يهودي»، بينما يمكننا أن نتحدث عن فن غربي في محاولة لتصنيف الأعمال التي نشاهدها.

وإذا نظرنا إلى الفن الإسرائيلي، فإننا نجد أن الأمر لا يختلف كثيراً عما يُسمَّى «الفن اليهودي»، فهو فن ليست له شخصيته المستقلة، ولا معجمه الخاص. وقد يتبلور فن إسرائيلي له شخصية فنية مستقلة، ولكننا، حتى الآن، لا يمكن أن نزعم وجود مثل هذا الفن. وللدلالة على هذا القول، يمكننا أن ننظر إلى لوحة الفنان الإسرائيلي ريوفين روبين (1893 ـ 1974) المولود في رومانيا والذي هاجر إلى فلسطين واستوطن فيها. واللوحة من مقتنيات المتحف اليهودي في نيويورك، ولها عنوانان: «بائع السمك الملون»، و«الصياد العربي». والواقع أن إعطاء اسمين للوحة أمر ذو دلالة عميقة في السياق الصهيوني، فعنوان «الصياد العربي» محاولة أولية لتجريد العربي بحيثيصبح جزءاً من الطبيعة. ويظهر هذا في تشكيل اللوحة ذاته. فالصياد تحوَّل إلى شكل هندسي يقف متوازناً بين السمكة التي في يده والسمك الذي في الوعاء الذي يحمله،وعيونه ذاتها تشبه عيون السمك وتجعله هو نفسه يشبه السمك. ويداه: إحداهما تمسك بسمكة ملتوية بحيث تصبح متوازية مع جسده، والأخرى ممسكة بالوعاء، أما أصابعه فتكاد تسبح في الماء كالسـمك. وذراعـاه يشبهان الإطار، بحيث يأخذ الصياد شكل المربع، ولكنه مربع مليء بتموجات تذوب وتندمج في الخلفية المتموجة بحيث يندمج الفرد في الطبيعة تماماً. وثمة غنائية عميقة في اللوحة رغم ألوانها، ولكنها على أية حال ألوان أرض فلسطين التي يسميها الصهاينة «إرتس يسرائيل».

والعربي موضوع أساسي في الفن الصهيوني، وقد طرح الصهـاينة فكرة «أرض بلا شـعب»، أي فكـرة أن العرب لا وجود لهم. ولتفسير هذا التناقض، لابد أن نشير إلى عنصرين:

1 ـ المستوطنون الصهاينة الذين عاشوا في هذه الأرض وجدوا العربي في كل مكان، يسير حولهم ويعمل في الأرض قبل وبعد اسـتيلائهم عليها، آثاره في كل مكان حتى بعد أن طُرد منها. ولذا، لم يكن هناك مفر من أن يظهر العربي على شاشة الوجدان الصهيوني، مهما حاولت الأيديولوجيا المجردة أن تغيِّبه.

2 ـ يرفض الفكر الصهيوني يهود المنفى (أي كل يهود العالم ما عدا المستوطنين الصهاينة) على أساس أنهم شخصيات هامشية هزيلة تعمل بالربا والتجارة ولا يمكنها أن تقوم بالأعمال اليدوية المنتجة. وكانوا يضعون العربي مقابل يهودي المنفى باعتباره شخصية حيوية منتجة تعيش في وئام مع الطبيعة، فالعربي هنا هو نقيض يهودي المنفى، وعلى المستوطن الصهيوني أن يعيد صياغة شخصيته بحيث يكون مثل هذا العربي. ومن هنا، كُتبت مسرحيات وقصص كثيرة تدافع عن هذه الرؤية حتى اشتكى أحد النقاد الصهاينة في أوائل القرن من أنه لا يوجد عمل أدبي واحد يكتب في فلسطين إلا وفيه تمجيد للعرب. وقد كان الصهاينة يرتدون زي العرب ويحاولون أنيتصرفوا مثلهم.

ولوحة «الصياد العربي» هي نتاج هذا الموقف الذي استمر حتى أواخر العشرينيات، ثم اختفى بعد ذلك مع بداية انتفاضات العرب، الأمر الذى حوَّلهم من شخصيات رومانسية مندمجة في الطبيعة ملتحمة معها، ومن موضوع للتأمل، إلى شخصيات حقيقية تدافع عن أرضها. ولم يَعُد العربي مجرد مربع يشبه السمكة، ينظر في السمك،ويحمل الأسماك ويذوب في الأمواج، إذ أصبح من الصعب تجريده. ولعل هذا هو ما أدَّى إلى اختيار العنوان الثاني «بائع السمك الملون»، فهنا تتحوَّل عملية التجريد إلىتغييب كامل، فيصبح العربي مجرد بائع سمك مُلوَّن، وتصبح فلسطين أرضاً بلا شعب. واللوحة متأثرة بفن مودلياني والفن الساذج أو البدائي. وتحليلنا لمضمونها العقائديالعنصري لا ينفي عنها أنها عمـل فني جميل، لكن الجمال على كلٍّ ليس له علاقة كبيرة بالأخلاق، فالأعمال العنصرية والإباحية يمكن أن تكون على مستوى عال من الجمال والإبداع الفني.

أما العمل الثاني الذي سنختاره للتحليل، فهو للفنان الإسرائيلي جوشوا نيوشتاين، المولود في دانزيج بألمانيا، وهو بعنوان «سلسلة فايمار رقم 2»، وهو جزء من مجموعة لوحات عن جمهورية فايمار (1919 ـ 1933) في ألمانيا، والتي كان يحكمها نظام ليبرالي، وحقَّق فيها الألمان من اليهود بروزاً كبيراً، واتسم حكمها بالاضطرابات الاجتماعية والتضخم وعدم الاستقرار السياسي والبطالة والتنازلات المستمرة للحلفاء (إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة) الذين حققوا الانتصارات وأذلوا ألمانيا بمعاهدة فرساي. وقد أدَّى كل هذا إلى تحلُّل وسقوط هذا النظام، ثم ظهر هتلر والحكم الشمولي. وموضوع اللوحات هو التحلل والتآكل.

وينتمي نيوشتاين إلى حركة فنية تُسمَّى «التجريد المعرفي» ظهرت في الولايات المتحدة، وكانت لها أصداؤها في إسرائيل في أواخر الستينيات. ويشير اسم الحركة إلىنوع من الفن يتعامل مع طبيعة المعرفة والإدراك وكيفية فَهْم وإدراك الحقائق الفيزيقية الأساسية. ويتعين على مشاهد هذه الصورة أن يحاول رؤية عملية ثني الورق وتَشقُّقه ومحاولة إصلاحه، بل وأن يحاول أن يخمن ما تحت الورقة، هذا على الأقل هو رأي الناقد الفني روبرت بنكوس ويتن. كانت كل لوحات نيوشتاين، في البداية، رماديةخالية من اللون. ولكن، مع سلسلة فايمار هذه، لجأ نيوشتاين إلى الألوان الصاخبة وإلى ضربات الفرشاة ليعبر عن إحساسه بالإحباط، فهي محاولة لرسم صورة اللوحات، وهي على هيئة الحطام ذاتها. وكثيراً ما تُستخدَم ألفاظ، مثل: «هشّ»، و«مُمزَّق»، و«غير ثابت»، لوصف أعمال نيوشتاين. ويلجأ أعضاء هذه المدرسة في إسرائيل إلى عمليات تجريبية مادية، مثل تمزيق الورق ومسح الألوان والخربشة. والاختلاف العميق بين عدمية الفنانين الإسرائيليين واتجاه زملائهم الأمريكيين تبيِّن الفرق بين الاهتمامات القومية لكل من الفريقين، فهدم الإسرائيليين للمادة التي يستخدمونها هو تعبير عن وضع الدولة الصهيونية التي تخرج من حرب لتدخل أخرى.

وهذه الحركات الفنية داخل المُستوطَن الصهيوني تبدو كما لو كانت تنبع من حركة فنية أمريكية وجدت أصداء لها بين الفنانين الإسرائيليين. وقد يمكن القول بأنهم أضافوا نغمة إسرائيلية خاصة إلى أعمالهم، وأنهم جزء من حركة فنية عالمية هي حركة الحداثة (والتجريد والتجريب)، وأنهم في هذا لا يختلفون عن معظم فناني العالم في العصرالحديث.

الكنيســـة والمعـــبد

Ecclesia et Synagoga

موضوع أساسي في الفنون الكنسيَّة في العصور الوسطى في الغرب، وشكل متكرِّر متواتر أصبح جزءاً من اللغة الأيقونية. وكان هذا الشكل يمثل الكنيسة المسيحية المنتصرة على هيئة امرأة تنظر منتصرة إلى ما حولها وتحمل صليباً، أما اليهودية أو المعبد اليهودي فكان يُمثَّل على هيئة امرأة تشبه الأولى تماماً إلا أنها معصوبة العينين (رمز عدم إدراك اليهود المغزى الحقيقي للعهد القديم) تحمل عصا مكسورة (رمز الهزيمة) أو أحيـاناً لوحين كُتبت عليهما الوصايا العشر (رمز العهد القديم). وكان هذا الشكل الأيقوني يظهر إما بالحفر البارز أو على هيئة تماثيل، ومن أشهر هذه التماثيل ذلك التمثال الموجود في كاتدرائيات ستراسبورج وبامبرج. كما تُوجَد مثل هذه التماثيل في باريس وبوردو. أما في إنجلترا، فتُوجَد تماثيل الكنيسة والمعبد في روتشستر ولنكولن. ومن الطريف أن الفنانين من أعضاء الجماعات اليهودية قد تأثروا بهذه اللغة الأيقونية المسيحية لدرجة أنهم هم أنفسهم كانوا يستخدمون الرموز المسيحية في المخطوطات اليهودية.

نجمــــة داود

Magen David; Star of David

«نجمة داود» ترجمة لعبارة «ماجن ديفيد»، وهي عبارة عبرية معناها الحرفي «درع داود». ونجمة داود عبارة عن شكل مُكوَّن من مثلثين كل منهما متساوي أضلاع، ولهما مركز واحد، وهذان المثلثان رأس أحدهما إلى أعلى ورأس الآخر إلى أسفل. ويشكِّل المثلثان المتداخلان نجمة سداسية ذات ستة رؤوس تلمسها جميعاً محيط دائرة افتراضية. ويمكن دراسة تاريخ هذا الشكل على مستويات ثلاثة، أي باعتباره:

1 ـ شكلاً هندسياً زخرفياً.

2 ـ علامة أو شارة دنيوية دالة على اليهود.

3 ـ رمزاً دينياً لليهودية.

أولاً: النجمة السداسية بوصفها شكلاً هندسياً زخرفياً:

وُجدت النجمة السداسية في النقوش المصرية القديمة والهندوكية والصينية وفي نقوش حضارات أمريكا الجنوبية. وكانت أيضاً رمز خصب كنعانياً. كما وُجدت هذه النجمةعلى ختم عبراني يعود إلى القرن السابع قبل الميلاد، وعلى قبر عبراني في القرن الثالث، وعلى معبد يهودي في الجليل في القرن نفسه، وفي مقابر اليهود بالقرب منروما، وعلى حوائط القدس، وفي أحجبة عربية من القرن التاسع، وفي نصوص سـحرية بيزنطية، وفي كتب سـحر من العصـور الوسـطى الغربية، وفي الفلكلور الألماني، وفي آثار فرسان المعبد المسيحيين. ونجمة داود هي أيضاً إحدى شارات الماسونيين الأحرار، وقد وُجدت على مبنى المدينة القديمة في فيينا، وعلى كثير من الكنائس في ألمانيا. كما كانت تُوضَع على الحانات في جنوبي ألمانيا، إذ يُقال إن أتباع فيثاغورث كانوا يستخدمون هذه النجمة السداسية حين يتسولون لينبهوا رفاقهم إلى أنهم وجدوا في هذا المكان أهل سخاء وكرم. ولا يزال الشكل يظهر في زخرفة بعض المباني، وإن كان هذا نادراً الآن، لأن الشكل الهندسي المجرد فَقَد براءته الزخرفية واكتسب مضموناًدنيوياً أو دينياً محدداً.

وغني عن القول أن استخدام النجمة السداسية بوصفها شكلاً هندسياً، ليس ذا مضمون يهودي أو غير يهودي.

ثانياً: النجمة السداسية بوصفها علامة دنيوية:

مما تقدَّم، يمكن القول بأن النجمة السداسية لم تكن رمزاً يهودياً بل كانت شكلاً هندسياً وحسب. وهي حين ظهرت على بعض المباني اليهودية، لم تكن لها دلالة رمزية، وإنما كان الغرض منها أداء وظيفة زخرفية. وفي القرن الرابع عشر، سمح تشارلز الرابع للجماعة اليهودية في براغ بأن يكون لها علمها الخاص، فصُوِّرت علىه النجمة السداسية. ومن ثم أصبحت النجمة رمزاً رسمياً دنيوياً لليهود. واتخذها بعض طابعي الكتب اليهود في براغ علامة لهم وانتشرت منها إلى إيطاليا وهولندا. ويُلاحَظ أن النجمة السداسية كانت، حتى ذلك الوقت، مجرد علامة، لا رمزاً دينياً أو قومياً. وانتشر استخدام هذه العلامة من براغ إلى الجماعات اليهودية الأخرى. واستخدمها أعضاء الجماعة اليهودية في فيينا سنة 1655، وحينما طُردوا منها حملوها إلى مورافيا ووصلت منها إلى أمستردام. ويُلاحَظ أنها لم تنتشر في شرقي أوربا إلا مع بدايات القرن الثامن عشر، ففي هذا التاريخ بدأت النجمة السداسية تتحول إلى شارة لليهود. وفي أوائل القرن التاسع عشر، بدأت تظهر هذه النجمة في أدبيات معاداة اليهود رمزاً دالاً علىهم. وفي عام 1822، تبنت عائلة روتشيلد في النمسا هذه النجمة رمزاً لها، بعد أن رُفع بعض أعضائها إلى مرتبة النبلاء. كما استخدمها هايني، الشاعر الألماني المتنصِّر، للتوقيع على خطاباته.

ولم تحمل النجمة بالنسبة إلى كل هؤلاء أية دلالة دينية أو قومية أو إثنية، فليس لها امتدادات في تواريخ الجماعات اليهودية. ومن ثم، يمكن اعتبارها علامة ازدادت ارتباطاً ببعض الجماعات اليهودية في الغرب، وكان اختيار عائلة روتشيلد لها هو الذي منحها مكانة وشرعية.

ثالثاً: النجمة السداسية باعتبارها رمزاً دينياً:

يبدو أن عبارة «درع داود» لا تُستخدَم للإشارة إلى النجمة السداسية إلا في المصادر اليهودية، إذ تستخدم المصادر غير اليهودية عبارة «خاتم سليمان». ويبدو أن التسمية الأخيرة من أصل عربي إسلامي حيث كان يُشار إلى النجمة الخماسية (وهي المنافس الأكبر للنجمة السداسية) باعتبارها أيضاً «خاتم سليمان». ولكن كيف ارتبطت عبارة «درع داود» بالنجمة السداسية؟ يبدو أن النجمة كانت تُذكَر في الكتابات السحرية اليهودية (في الأحجبة والتعاويذ) جنباً إلى جنب مع أسماء الملائكة. وبالتدريج، أُسقطت الأسماء وبقيت النجمة درعاً ضد الشرور. واكتسبت النجمة السداسية هذه الصفة الرمزية كدرع ابتداءً من القرن الثالث عشر. ومع هذا، استمر استخدام عبارتي «درع داود» و«خاتم سليمان» للإشارة إلىها في الفترة ما بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر، كما كانت تُستخدَم عبارة «درع داود» للإشارة إلى شمعدان المينوراه. ولكن، بمرور الوقت، اقتصر استخدام هذه العبارة على الإشارة إلى النجمة السداسية وحدها. وكانت النجمة تُستخدَم في تميمة الباب (ميزوزاه)، فكانت تُكتَب علىها أسماء سبعة ملائكة، ويصحب اسم كل ملاك النجمة السداسية. وتتحدث القبَّالاه عن العالم العلوي والسفلي المتقابلين. وبهذا يصبح المثلثان (ورأس أحدهما إلى أعلى ورأس الآخر إلى أسفل) رمزاً لهذا التقابل ولحركة الصعود والهبوط، ومعادلاً رمزياً لعلاقة عالم الظاهر بعالم الباطن. وأصبحت النجمة كذلك رمزاً للتجليات النورانية العشرة (سفيروت) حينما تأخذ هيئة شجرة الحياة. وهي ترمز أيضاً إلى ظهور العالم الأصغر الميكروكوزم (أي الإنسان) من العالم الأكبر الماكروكوزم (أي الكون) وزائير أنبين من أبا وأما أي الأب والأم في القبَّالاه. وكانت النجمة ترمز أيضاً إلى ظهور الماشيَّح من صدر إبراهيم. ولذا، كان يشار أحياناً إلى النجمة السداسية باعتبارها درع داود وإبراهيم. وكانت أطرافها الستة، ترمز إلى أيام الأسبوع الستة. أما المركز فهو السبت. وكانت النجمة أيضاً رمزاً مشيحانياً يمثل برج الحوت (21 فبراير ـ 20 مارس)، وهو الوقت الذي كان يُفترَض أن يظهر فيه الماشيَّح. وأصبح درع داود رمز درع ابن داود، أي الماشيَّح. واستخدمه أتباع شبتاي تسفي وأصبح رمزاً سرياً للخلاص. وكانت النجمة السداسية مرسومة على الحجاب الشهير الذي كتبه يوناثان ايبيشويتس (الذي أثار ضجة بين يهود شرقي أوربا فيما يُسمَّى «المناظرة الشبتانية الكبرى») وكُتبَت عليه الأحرف الأولى لعبارة «درع ابن داود».

ولعل اكتساب الرمز لبعض الإيحاءات الدينية كان سبب انتشاره في زخارف المعابد اليهودية، مع بداية القرن السادس عشر، في الوقت نفسه الذي بدأ فيه انتشار القبَّالاهاللوريانية.

ولكن النجمة السداسية لم تتحوَّل إلى رمز ديني يهودي إلا بتأثير المسيحية وتقليداً لها. وهذه ظاهرة عامة عند كل من اليهود ومعظم الأقليات: أنهم يكتسبون هويتهم من خلال الحضارة التي يوجدون فيها. وتبنِّي نجمة داود مثل جيد على ذلك. فاليهودية باعتبارها نسقاً دينياً، على الأقل في إحدى طبقاتها الجيولوجية المهمة والرئيسية، معادية للأيقونات وللرموز، تماماً مثل الإسلام. ولكن يهود عصر الإعتاق أخذوا يبحثون عن رمز لليهودية يكون مقابلاً لرمز المسيحية (الصليب) الذي كانوا يجدونه في كل مكان. وحينما بدأت حركة بناء المعابد اليهودية على أسس معمارية حديثة، اتبع المهندسون، الذين كانوا في أغلب الأحيان مسيحيين، ذات الطرز المعمارية المتبعة في بناء الكنائس. ولذا، كان لابد من العثور على رمز ما، ومن هنا كان تبنِّي النجمة السداسية. ثم بدأت تظهر النجمة على الأواني التي تُستخدَم في الاحتفالات الدينية مثل كؤوس عيد الفصح. ولأن النجمة السداسية كانت شائعة في الأحجبة والتعاويذ السحرية، لم يعارض الأرثوذكس استخدام الرمز. ومن ثم، يمكن أن نقول إن انتشار الرمز في القرن التاسع عشر كان دليلاً على أن اليهودية الحاخامية بدأت تَضعُف وتفقد تماسكها الداخلي. ولذا، فإنها كانت تبحث عن رمز حتى يمكنها أن تعيد صياغة نفسها على أسس مسيحية.

وهنا ظهرت الصهيونية بوصفها أهم تعبير عن أزمة اليهودية الحاخامية. وحاولت هذه العقيدة السياسية أن تطرح نفسها بديلاً للعقيدة الدينية، فتبنَّت النجمة السداسية رمزاً لها، ذلك الرمز الذي ظهر على العدد الأول من مجلة دي فيلت التي أصدرها هرتزل في 4 يونيه 1897، ثم اختير رمزاً للمؤتمر الصهيوني الأول ولعَلَم المنظمة الصهيونية. والواقع أن اختيار الصهاينة للنجمة السداسية كان اختياراً ذكياً يُعبِّر عن غموض موقف الصهيونية من اليهودية. فالصهيونية ترفض العقيدة اليهودية ولكنها تريد في الوقت نفسه أن تحل محلها وتستولي على جماهيرها. ولإنجاز هذا الهدف، احتفظت الصهيونية بالخطاب الديني والرموز الدينية بعد أن أعطتها مضموناً دنيوياً قومياً. وقد احتفظت الصهيونية بفكرة القداسة الدينية، ولكنها خلعتها على الدولة والشعب وعلى تاريخ الأمة، أي أن ثمة تداخُلاً كاملاً بين الدنيوي والمقدَّس. والنجمة السداسية تتسم أيضاً بهذا التداخل، فهي رمز شائع بين اليهود وعلامة علىهم، أي أنها رمز قومي. ولكن هذا الرمز اكتسب إيحاءات دينية لا ترقى إلى مستوى المضمون الديني المُحدَّد، فهو يحمل قداسة ما ولكنها قداسة مرتبطة بالرمز الدنيوي. وقد يكون غموض مصدر القداسة عيباً من المنظور الديني، ولكنه من منظور صهيوني يشكِّل مصدر قوة، إذ كان الصهاينة يبحثون عن رمز يجسد فكرة قداسة اليهود لا قداسة اليهودية، وهذا ما أنجزته لهم نجمة داود.

وتبنَّى النازيون أيضاً نجمة داود رمزاً لليهود. وكان على اليهود ارتداؤها رمزاً للفولك أو الشعب اليهودي العضوي، ولتمييزهم عن الفولك الألماني العضوي. ولهذا، أصبحت النجمة مرتبطة في الوجدان اليهودي بالإبادة. ويري بعض اليهود أن العلامة التي ارتبطت في الأذهان بذُلّ اليهود وإبادتهم لم تَعُد تصلح لأن تكون رمزاً لهم، في حين يرى البعض الآخر أنها (لذلك) أصبحت رمزاً لتاريخ الشعب. ومهما كان الأمر، فإن الدولة الصهيونية اتخذت شمعدان المينوراه شعاراً لها، ولم تَعُد النجمة تظهر إلا على العَلَم.

ويستخدم الإسرائيليون نجمة داود حمراء مقابلاً للصليب الأحمر، أو الهلال الأحمر، وتُسمَّى هذه النجمة بالعبرية «ماجن ديفيد أدوم». وترفض منظمة الصليب الأحمر الدولي الاعتراف بالنجمة السداسية الحمراء رمزاً، ولذا فإنها لم تقبل إسرائيل عضواً في المنظمة الدولية، إذ أن إسرائيل تجعل انضمامها مشروطاً بذلك.

المدرسة اليهودية

Ecole Juive

مصطلح «المدرسة اليهودية» (بالفرنسية: إيكول جويف Ecole Juive) يُستخدَم للإشارة إلى مجموعة من الفنانين اليهود المهاجرين إلى باريس في أوائل القرن من أهمهم مارك شاجال، وجاك ليبشيتس، وأماديو موديلياني، وحاييم سوتين، ولحق بهم جيل آخر في العشرينيات والثلاثينيات. ومعظم هؤلاء الفنانين جاءوا من روسيا وشرق أوربا، وتجمَّعوا في مساكن رخيصة (استوديوهات) في باريس في حي لاروش واتبعوا أسلوب الحياة نفسه، وكان نفس النقاد يتابعون أعمالهم، وكانت لغة الحوار بينهم هي اليديشية والروسية.

ورغم استخدام مصطلح «المدرسة اليهودية»، إلا أن أعمال هؤلاء الرسامين ليست ذات مضمون يهودي واضح. ومع هذا، حاول عدد منهم أن يؤسسوا فناً يهودياً فكوَّنوا عام 1912 مدرسة باسم «ماكماديم». وقد عبَّر شاجال عن احتقاره لهذه المحاولة التي فشلت بطبيعة الحال.

مــوريــتز أوبنهــايم (1800 – 1882(

Moritz Oppenheim

رسَّام ألماني يهودي، يُعَدُّ أول فنان يهودي في العصر الحديث. يُسمَّى «روتشيلد الفنانين وفنان آل روتشيلد» لأنه حقَّق ثراءً كبيراً في حياته، ورسم صوراً لآل روتشيلد. وُلد بالقرب من مدينة فرانكفورت. تلقَّى تعليماً دينياً وعلمانياً، ثم التحق بأكاديمية الفنون في ميونخ حيث تدرَّب على فن الطباعة على الحجر (ليثوجرافي) وكان لا يزال فناً وليداً، ثم ذهب بعد ذلك إلى باريس وتدرب على يد أحد الفنانين الفرنسيين ثم قضى أربعة أعوام في روما. ورغم أنه ظل يهودياً أرثوذكسياً إلا أنه ارتبط بجماعة من الفنانين تُسمَّى «الناصريين» نسبة إلى مدينة الناصرة التي وُلد فيها المسيح. وتخصَّص أعضاء هذه المدرسة في رسم صور من العهد الجديد تتسم بالبساطة والسذاجة المتعمدة والمثالية المفرطة. حصل أوبنهايم عام 1823 على جائزة عن لوحة رسمها بعنوان « المسيح والمرأة السامرية عند البئر ».

رسم أوبنهايم صوراً للأباطرة الألمان (بتكليف من مدينة فرانكفورت) وللشخصيات التاريخية والأدبية الألمانية وبعض مشاهير أعضاء الجماعة اليهودية في ألمانيا مثل هايني وجابربيل رايسر. ومن أشهر لوحات أوبنهايم سلسلة اللوحات المعنونة « صور من الحياة اليهودية التقليدية » وهي تصوير لمشاهد الحياة اليومية لأعضاء الجماعة اليهودية، وحققت نجاحاً كبيراً واقتناها كثير من أعضاء الجماعات اليهودية في ألمانيا (وهو ما يبيِّن تصـاعُد معـدلات التـحديث والعلمنـة بينهم، والذي أدَّى إلى تحول الحياة التقليدية إلى مجرد صورة جميلة يحيطها إطار وتُعلَّق على الحائط لإشباع الحنين إلى الماضي وللزينة). وتبيِّن الصور بدقة بالغة دورة الحياة اليهودية وأعياد اليهود وشعائرهم بطريقة رومانسية حزينة باعتبار أنها نمط من أنماط الحياة آخذ في الاختفاء.

وأشهر لوحات أوبنهايم لوحة « عودة المتطوع اليهودي من حروب التحرير إلى أسرته التي لا تزال تعيش حسب التقاليد القديمة». ورسم أوبنهايم مجموعة من اللوحات الخيالية عن اللقاء بين بعض الشخصيات اليهودية والمسيحية (مندلسون ولافاتر ومندلسون وفريدريك الأعظم(.

ولا يمكن الحديث عن أوبنهايم كفنان يهودي، فمصطلحه الفني ألماني وموضوعات فنه ألمانية. بل إنه، حينما نظر إلى الموضوع اليهودي، نظر إليه من الخارج من خلال عيون ألمانية.

كاميـل بيســارو (1830 – 1903(

Camille Pissaro

فنان فرنسي وأحد مؤسسي المدرسة الانطباعية أو التأثيرية، وهو أول فنان حديث عظيم من أصل يهودي. وُلد لأسرة سفاردية (من أصل ماراني) هاجرت من بوردو إلى جزيرة سانت توماس (التي كانت تابعة آنذاك للدنمارك). تلقَّى تعليمه في إحدى الكنائس في الجزيرة. ثم انتقل إلى فرنسا لإكمال تعليمه ثم عاد عام 1847 إلى سانت توماس ليدير أعمال الأسرة التجارية، ولكنه قرَّر العودة إلى باريس عام 1855 ليكرس حياته للفن، وهناك تعرَّف إلى مونيه وسيزان، وقابل بازيل ورينوار وسيسلي. تزوج من جولي فيلاي، وهي فتاة صغيرة كاثوليكية كانت تعمل في المطبخ عند أسرته وظلت زوجته الوفية عبر حياتهما معاً وأنجب منها أطفاله الثمانية. كان بيسارو ملحداً ويؤمن بالفكر الفوضوي، وكان كوزمبولتانياً، يرى أنه مواطن عالمي ليست له أية جذور دينية أو عرْقية أو قومية. وهو لم يَختنْ أطفاله أو يعمِّدهم، ولم يرسم لوحة واحدة ذات مضمون يهودي.

انتقل بيسارو عام 1869 إلى مدينة لوفيسين وكان مونيه ورينوار يعيشان بالقرب منه، وكان جميعهم قد بدأوا تجاربهم في الرسم في الخلاء وبلورة أفكارهم التي أصبحت الأساس النظري للمدرسة الانطباعية. ومع اندلاع الحرب الفرنسية البروسية، اضطر بيسارو إلى أن يرحل هو وأسرته إلى إنجلترا، وعند عودته عام 1871 وجد أن كل أعماله الفنية التي رسمها عبر الخمسة عشر عاماً السابقة دُمِّرت أو سُرقت، ولكن هذا لم يَفُت في عضده.

انتقل عام 1872 إلى بونتواز واستقر هناك حيث رسم كثيراً من لوحاته والتي بلور من خلالها لغته الخاصة والتي تُعبِّر في الوقت نفسه عن الأفكار الأساسية للمدرسة الانطباعية ولغتها الفنية. ويمكن القول بأن الانطباعية هي الحقيقة الأساسية في حياة بيسارو الفنية والشخصية، ولذا يكون التعريف بها هو التعريف بفكره ولغته الفنية. والمدرسة الانطباعية تُعبِّر عن استجابة عدد من الفنانين الفرنسيين للحقائق السياسية والاقتصادية والاتجاهات الفلسفية والعلمية في عصرهم. ثار مؤسسو هذه المدرسة على التقاليد الأكاديمية والاتجاهات الواقعية والرومانسية، وحاولوا أن يُدخلوا على الفن دقة العلوم الطبيعية ومناهجها (تمركز حول الموضوع)، ولكنهم في الوقت نفسه كانوا يؤمنون بأن الواقع متغيِّر وأنه لا يبقى منه إلا ما ينطبع على مخيلة المدرك (تمركز حول الذات). وفنهم هو مزيج من هذين القطبين المتنافرين. حاول أتباع هذه المدرسة أن ينقلوا إلى لوحاتهم الجوانب المتغيِّرة للواقع المرئي بسرعة خاطفة كما تنعكس على وجدان الرسام في لحظة محدَّدة من خلال مواجهة مباشرة مع الطبيعة وتفاعُل إيجابي معها دون أية حواجز أو وسائط. ولذا، هجروا المراسم ليسجلوا انطباعاتهم المرئية المتغيِّرة في الخلاء لإبراز أثر الضوء على الألوان وتسجيله مباشرة وبسرعة حتى لا يتأثر الانطباع المباشر بتحركات الضوء المستمرة. ورسموا لوحاتهم بضربات الريشة اللونية السريعة وقاموا بتجارب مع الظلال الملونة وانعكاسات الضوء. وكان موضوع لوحاتهم هو الطبيعة ومناظر الحياة اليومية التي صوروها بطريقة غير رومانسية وغير عاطفية. ولكن الموضوع الأثير لديهم كان ما يمكن تسميته بالنقطة الحدودية، حيث تلتقي القرية بالمدينة واليابس بالماء والسماء بالأرض، وحيث ينعكس الضوء على الماء وتذوب أعمدة الكنائس في الأشجار والبشر في المناظر الطبيعية المحيطة بهم (ويُقال إن الرسوم اليابانية التي اكتشفها الأوربيون في ذلك الوقت كان لها تأثير عميق فيهم(.

ومن رواد هذه المدرسة مانيه ومونيه وسيزلي، وشارك فيها رينوار وديجا. وكان بيسارو أحد مؤسسيها، وكتب الميثاق القانوني للجماعة، كما كان العضو المؤسس الوحيد الذي قدَّم أعمالاً للمعارض الثمانية التي أقامها الانطباعيون بين 1874 و1886.

وفن بيسارو ينتمي إلى هذا التيار الانطباعي، فكان يستوعب الطبيعة داخله، ثم يعيد إنتاجها حسب إحساسه ومعرفته الخاصة بها وملاحظته « الموضوعية » لها. فكان يحاول أن يرصد تقلبات الجو وتحولات الضوء بكل دقة، فيرسم المنظر الواحد في لحظات مختلفة ومن زوايا رؤية مختلفة. لكل هذا، كان بيسارو يفضل رسم الطرق الملتوية منظورياً، وتلك التي تنحو جانباً، وكانت لوحاته تركِّز على العناصر البنائية والمعمارية للفضاء وتؤلِّف الظلال والأضواء المتعرجة وتجعل العين تُركِّز على وسط المسافة. وقد ركَّز على انسياب الضوء وانكسار أشعته على الماء المترقرق. وتبيِّن لوحاته رغبة حقيقية وعميقة في البحث عن النظام في الكون، وإحساساً أكثر عمقاً بحركيته وتنوع سطحه، ولذا نجده في معظم الأحيان يحاول أن يوجد توازناً بين المعمار والطبيعة، وأحياناً أخرى كان يمزج العناصر الحضرية والصناعية الحديثة بالعناصر الطبيعية، وكثيراً ما تظهر في خلفية المنظر الطبيعي مدينة صناعية. يظهر هذا في أعماله في فترة بونتوييز حيث يُبيِّن مدى تغلغل العنصر الصناعي في العصر الطبيعي، فدخان المصانع المتماوج يمتزج بالسحب، ومداخن المصنع تتوارى مع الأشجار العالية.

في عام 1885، قابل بيسارو بول سينياك الذي قدَّمه إلى جورج سيورا الذي كانت لوحته الشهيرة " عصر يوم الأحد في جزيرة جراند جات "، التي وضح فيها طريقته الجديدة في الرسم من خلال النقط الملونة، تُعَدُّ أساساً لما كان يُعرَف بالمدرسة التنقيطية (وهي أساساً تنويع على المدرسة الانطباعية). والتنقيطية هي أسلوب فني في استخدام نقط لونية صافية نقية بجوار بعضها البعض تكوِّن نسيج الصورة، فيكون ثمة امتزاج وهمي بين الألوان داخل عين الرائي، فكأن اللوحة في ذاتها ليست موجودة في الواقع ولا في عين الرائي وإنما يتم توليدها من خلال علاقة الرائي بالمرئي. والمدرسة التنقيطية هي امتداد للمدرسة الانطباعية، ولكنها أكثر حدةً وتطرُّفاً، ولذا نجد أن أعضاء المدرسة التنقيطية يبتعدون عن التلوين العابر والتكوين الفني الذي يسم المدرسة الانطباعية ويلجأون إلى المكونات الشكلية الصارخة، ولذا تُسمَّى هذه المدرسة أيضاً بالانطباعية الجديدة. وتبنَّى بيسارو هذا المنهج بعض الوقت بحماس بالغ باعتباره أكثر « علمية »، بل توقفت علاقته بعض الوقت مع أصدقائه الانطباعيين بين 1886 و1889 وتعمقت علاقته مع الانطباعيين الجـدد. ولكنه سَئم هـذه الجماعة بعد فترة. ومع مـوت سيورا، انتهت المرحلة التنقيطية وعاد مرة أخرى إلى الرسم في الخلاء. ولكن أسلوبه، مع هذا، تأثَّر بشكل دائم بمنهجهم في الرسم، بما في ذلك استخدام مجموعات من الألوان الصارخة، كما أن إحساسه بأهمية واستقلالية كل نقطة لون كان عالياً.

رسم بيسارو في الثمانينيات لوحات بها أشخاص، ولكنه فعل ذلك بطريقة جديدة. فالفلاحون في هذه اللوحات مُستوعَبون تماماً في أنفسهم ولا يحاولون أن يقصوا قصته. كما رسم بيسارو صوراً شخصية (بورتريهات) لأعضاء أسرته (زوجته وأمه). وفي عام 1894، أُصيب بيسارو بمرض في عينيه منعه من الرسم في الخلاء، ولكنه استفاد من مرضه هذا فكان يجلس في غرفة وينظر من النافذة إلى مناظر المدينة الحية وشوارعها فرسم الميناء والكباري والكاتدرائيات ومعمار المدينة، وكان يرسم المنظر الواحد عدة مرات في أوقات مختلفة (تماماً مثل مونيه في سلسلة لوحات « أكوام القش» التي رسمها في الفترة نفسها). وكان بيسارو يغيِّر محل إقامته حينما يشعر أنه استنفد المنظر الذي أمامه، وفي هذه الفترة (التي امتدت حتى نهاية حياته) رسم ما يزيد على 355 لوحة. ويعتبر بيسارو من مؤسسي فن الليثوجراف.

ويرى بعض النقاد أن أعمال بيسارو تتسم بعدم الاتساق في المستوى، فقد كان مضطراً لإنتاج الكثير من الأعمال حتى ينفق على أسرته الكبيرة المُكوَّنة من ثمانية أشخاص. وقال زولا عن بيسارو: « هذا الفنان يهتم بالحقيقة فقط، وحين يقف في إحدى زوايا الطبيعة، ينقل الآفاق بأوسع ما فيها من جهامة دون محاولة إضفاء أي شيء من تحويراته. لم يكن شاعراً أو فيلسوفاً، بل فناناً طبيعياً وحسب ينقل المشاهد الطبيعية.. تمتَّع أنت بحلمك إن شئت، أما هو فإنه يُريك ما يراه مباشرةً.. هذه الواقعية أرفع شأناً من الحلم ». وعبارة زولا هذه تُبيِّن هذا التأرجح الحاد بين الذات والموضوع الذي يسم الفلسفة الغربية والنظرية الجماليـة الغربيـة في القـرن التاسع عشر.

ومن الواضح أن بيسارو ثمرة خلفيته الفكرية والفنية التي اسـتقى منها أفكاره ولغته الفنية وقد سـاهم في تطوير هـذه الأفكار واللغة، فلم يكن متلقياً، وإنما كان فناناً ومفكراً عميقاً يستقي عظمته وعُمقه من المنظومة الفكرية واللغة الفنية السائدة في عصره. فتأثَّر بالفكر الفوضوي وبالأفكار العلمية عن السببية ونظريات الضوء واختراع الصور الفوتوغرافية، واستوعب الثورة الصناعية وآثارها العميقة في الإنسان والبيئة، وتأثَّر بالرسامين الإنجليز كونستابل وترنر، وبالفرنسيين كورو وكوربيه ومانيه ومونيه وسيرا. وأثَّر بدوره في سيزان (الذي كان يُعتبَر في منزلة أب له) وجوجان وفان جوخ. وهذا يفضي بنا إلى أن نطرح سؤالاً بشأن يهودية بيسارو. فاسمه يظهر في جميع الموسوعات اليهودية باعتباره فناناً يهودياً. وقد أشرنا من قبل إلى إلحاده وعدم تناوله موضوعاً يهودياً واحداً في لوحاته. ورغم كل هذا يبحث دليل بلاكويل للثقافة اليهودية وغيرها من الموسوعات عن عناصر تبرِّر تصنيفه باعتباره يهودياً.

1 ـ فدليل بلاكويل ـ على سبيل المثال ـ يرى أن هناك خصوصية يهودية لبيسارو، ولكنها تظهر « بطريقة أكثر اتساعاً وأقل طائفية ». ثم يستمر الدليل ليشير إلى بعض مظاهر هذه اليهودية المتسعة غير الطائفية، فيرى أن تبنِّي بيسارو المُثُل العليا اليسارية ومواقفه الإنسانية العميقـة والتي تُعبِّر عن نفسـها بشـكل فني في الصور التي رسمها للريف، هي من بين هذه المظاهر.

2 ـ ثم يشير الدليل بعد ذلك إلى ما يسميه « الجدية الأخلاقية التي نظر بها بيسارو للمشروع الانطباعي في محاولته أن يجعل حياة الناس العاديين موضوعاً مناسباً للفن ». ويؤكِّد الدليل أن العنصرين السابقين إن هما إلا تعبير عن يهودية بيسارو. وغني عن القول أن هذا أمر متهافت تماماً، إذ يصعب على المرء أن يرى أي ترادف موضوعي بين «اليهودية» و«الإنسانية العميقة» و«المُثُل العليا اليسارية»، أو بين «اليهودية» وبعض أهداف المدرسة الانطباعية.

3 - ثم يأتي الدليل بعنصر آخر يؤكد يهودية بيسارو. وهذا العنصر أكثر تهافتاً وكوميدية من سابقيه، إذ يشير الدليل إلى أن ملامح بيسارو كانت يهودية، ولذا كان معاصروه يقولون حينما يرونه: «ها هو موسى قد جاء يحمل لوحي الشريعة »، ولا ندري ما هذه الملامح اليهودية؟ وحتى لو كانت مثل هذه الملامح موجودة بالفعل، وحتى لو كان بيسارو ذا ملامح يهودية تجعله شبيهاً بموسى!! فهل هذا يجعل منه فناناً يهودياً؟!

4 ـ أما العنصر الرابع الذي يشير إلى يهودية بيسارو فهو أن الهجوم على أعماله الفنية، لم يكن ينطلق في واقع الأمر من الاعتبارات الفنية وإنما من العداء لليهود. ولم يُبيِّن لنا الدليل كيف أن عداء النقاد التقليديين لأعمال مانيه أو مونيه (التي استُقبلت استقبالاً عاصفاً غير حافل) عداءٌ فنيّ في حين أن عداءهم لأعمال بيسارو عداء عنصري!

5 ـ تذكر إحدى الموسوعات أن بيسارو كان مؤمناً ببراءة دريفوس، وأنه كتب لإميل زولا يؤيده في موقفه. وقد سبَّب هذا جفاءً بينه وبين ديجا ورينوار، فكأن هناك فنانين يهوداً مؤيدين لدريفوس وفنانين أغياراً معادين لليهود. وهذا تقسيم غير حقيقي بالمرة، فزولا لم يكن يهودياً، ولكنه كان مع ذلك أكثر رجالات الفن والأدب تأييداً لدريفوس، وقد كتب مقالاته الشهيرة إني أتهم دفاعاً عنه. كما أن معظم أبطال قصة دريفوس المدافعين عنه كانوا من غير اليهود.

6 ـ ذكرت دراسة صدرت عن المتحف اليهودي في نيويورك أن يهودية بيسارو تتضح في إستراتيجيته في فصل الدين عن الخلفيات الدينية والثقافية، وهي إستراتيجية تبنَّاها كثير من الفنانين اليهود تُعبِّر عن رغبتهم في الوصول إلى الأممية الحقة. ولكن هل هذه النزعة الأممية الكوزموبوليتانية كانت أمراً مقصوراً على اليهود أم أنه كان أمراً كامناً في مفهوم الإنسان الطبيعي وفي فكر حركة الاستنارة على وجه العموم؟ ولعل أعضاء الجماعات اليهودية أكثر تطرفاً في أمميتهم، ولكنهم لا يختلفون في هذا كثيراً عن أعضاء الأقليات الأخرى. ومع ذلك، فإن أممية بيسارو لم تكن متطرفة بأية حال.

7 ـ يمكن الإشارة إلى أن المدرسة الانطباعية، بتركيزها على النقط الحدودية المتوترة، وحيث ينفرج التوتر (التقاء الماء باليابس والسماء بالأرض والمدينة بالريف والمداخن بالأشجار والدخان بالسحاب)، تشبه إلى حدٍّ ما وضع اليهودي في المجتمع الغربي باعتباره عضو الجماعة الوظيفية. ولكن تهميش الإنسان وتوظيفه أصبح سمة أساسية في المجتمع الحديث ولم تعد مقصورة على اليهود (بعد تهويد المجتمع). ومهما يكن الأمر، فإن التركيز على النقط الحدودية جزء من لغة المدرسـة الانطباعية ككل وليـس مقصوراً على بيسـارو اليهودي. ولكل هذا، فإن الحديث عن بيسارو باعتباره فناناً يهودياً ليس ذا قيمة تفسيرية تُذكَر.

جيكـوب إبشتاين (1880-1959(

Jacob Epestien

نحَّات بريطاني يهودي من أهم النحاتين في القرن العشرين. وُلد في نيويورك في الحي الشرقي (إيست سايد). بدأ حياته الفنية حين طلب منه المؤلف (غير اليهودي) هتشينس هابجود أن يرسم صوراً لكتاب كان يُعدُّه عن الحي الشرقي يُسمَّى روح الجيتو، وكانت اللوحات التي أعدها إبشتاين على مستوى رفيع. ونجح في الاستمرار في دراسته (في باريس) من عائد هذا الكتاب، ومنها ذهب إلى لندن عام 1905 حيث استقر فيها بقية حياته، وأصبح من طلائع الحداثيين في عالم الرسم، كما أصبح عضواً في جماعة الدوامة (بالإنجليزية: فورتيسيتس Vorticists) بحماسها النيتشوي الفائق لحركيات عالم الآلة.

تأثر إبشتاين أيضاً بالنحت القديم وفنون ما قبل التاريخ والنحت الإفريقي والبولونيزي وفنون الأمريكتين قبل وصول كولومبوس. وكما أن جذوره الفنية متنوعة، نجد أن مصطلحه الفني أيضاً متميِّز ومرَّ بعدة مراحل، ففي بداية حياته الفنية أعد إبشتاين نحتاً بارزاً بعنوان « مولد الطاقة » لتزيين واجهة رابطة الطب في بريطانيا، واستخدم فيه أسلوباً طبيعياً كلاسيكياً مباشراً. وكان النحت يتضمن شخصيات عارية تم إبراز أعضائها الجنسية بشكل واضح الأمر الذي سبَّب احتجاج الكثيرين.

وفي عام 1913، أعد إبشتاين تمثالاً تجريدياً يُسمَّى « الحفر في الصخر» وهو تمثال يمجِّد قوة الآلة. وبعد تجربتين أخريين (فينوس Iوفينوس II) ترك إبشتاين التجريد لأنه (على حد قوله) لا فائدة منه في حد ذاته، ولكنه مع هذا يساعد الفنان على أن يعمِّق إحساسه بالشكل ويطوِّره. أما مقبرة أوسكار وايلد في باريس فكانت مختلفة تماماً، فهي شكل مركب له وجه إنسان وأجنحة تجعله يشبه الثيران المجنحة في النحت الآشوري، وقد تُوِّج وجهه بتاج يحمل الخطايا السبع المميتة.

وبعد الحرب العالمية الأولى، تبنَّى إبشتاين الأسلوب التعبيري الأمر الذي أثار مرة أخرى ضيق الناس بسبب تشويهه لكثير من الأشكال وتناوله لكثير من الموضوعات الدينية والمقدسة بطريقة كانوا يرون أنها فظَّة وبدائية. وكان هو يرى أن هذه هي الطريقة المُثلى للتعبير عن القوى الكونية، فتمثال « التكوين » (1931) هو صورة امرأة عارية بدائية حامل، فهي ليست فينوس اليونانية ولا ملكة من ملكات الفراعنة، فبطنها ممتلئة وشفتاها غليظتان ووجهها مستطيل يشبه الأقنعة الإفريقية وعيونها متجهة نحو اللاشيء، وأعضاء التأنيث، رغم محاولة تجريدها، واضحة، وفخذاها كتلتان سميكتان.

أما تمثال « آدم» فهو كتلة متماسكة رأسها غير واضح محني إلى الخلف واليدان مرفوعتان إلى أعلى ويشكلان جزءاً من الصدر والقدمان غليظتان والأعضاء التناسلية مرة أخرى واضحة. هذا هو الإنسان الكوني، الآدم قدمون.

أما « جيكوب والملاك » (1940 ـ 1941) فتُذكِّرنا بموضوع صراع هرقل مع أنتايوس أو صراع بروميثوس مع النسر. وهكذا تتحوَّل الرموز الدينية اليهودية في يديإبشتاين إلى رموز وثنية من خلال لغة التأيقن الحلولي (ولم يكن تناول إبشتاين للموضوعات المسيحية يختلف كثيراً عن تناوله لموضوعات العهد القديم).

وقد كرَّس إبشتاين طاقته الفنية بعض الوقت لرسم صُوَر لشخصيات على هيئة نحت بارز لتماثيل نصفية تُصَب في البرونز (وهو يُعَدُّ من أهم الفنانين في هذا المضمار). ومن أهم خصائص هذه الصور/التماثيل البرونزية أن سطحها خشن ليوحي بالقالب الفخاري الذي صُبَّ فيه البرونز. ورغم أن هذه الصور الشخصية البرونزية لم تكن تتسم بالحيوية نفسها التي تتسم بها تماثيله الأولى، إلا أنها تبيِّن مقدرة إبشتاين على الغوص في ثنايا النفس البشرية والإحساس بها والتعبير عنها، من خلال قَدْر من المبالغةالمقبولة مع تجاهل نسبي للملامح الجسمانية المباشرة. وهو بذلك يتبع تقاليد الصورة الشخصية في عصر النهضة في الغرب، حيث يقوم الفنان بتصوير الشخصية لا الوجه. وقد رسم صوراً من هذا النوع لبرناردشو وجوزيف كونراد وأينشتاين.

وفي نهاية حياته، تلقَّى إبشتاين عدداً من التكليفات المهمة من الكنائس المسيحية، ومن أهم أعماله تمثال « أليعازر» ويوجد في كنيسة نيوكوليدج في أكسفورد (1947) و« العذراء والطفل » (1953) في ميدان كافنـدش في لنـدن، و« المسـيح في جلاله » (1957) في كاتدرائية لانداف، و« القديس ميخائيل والشيطان » (1959) في كاتدرائية كوفنتري.

ويُعلـِّق دليل بلاكويل للثقافة اليهودية على هذا بقوله: « لا شك أنه لو قُدِّر للمعابد اليهودية أن تستفيد من موهبته، لكان هذا من أكبر مصادر غبطته » وهي جملة تهدف إلى اختلاق بُعد يهودي حيث لا يوجد مثل هذا البُعد. ولكن هذا البُعد ليس سوى تعبير عن أمل أو رغبة، لا علاقة له بمصادر إبشتاين الفنية ولا إمكانياته ولا الطريقة التي تحققت بها هذه الإمكانيات، ولا حتى تأثيره في غيره من الفنانين (ترك إبشتاين أثراً عميقاً في إريك جيل وهنري مور)، فإبشتاين لم يكن يهودياً متديناً أو إثنياً مع أن تجربته في الحي الشرقي تركت أثراً عميقاً فيه. وفي نهاية الحرب العالمية الثانية، تقبَّل المجتمع البريطاني إبشتاين ومُنح لقب «سير».

أماديـــو موديليـــاني(1884-1920)

Amadeo Modigliani

رسَّام ونحَّات إيطالي يهودي، وشقيق فيتوريو موديلياني الزعيم الاشتراكي الإيطالي. وُلد لأسرة يهودية سفاردية، وكان عليلاً منذ طفولته. درس الفن في فلورنسة والبندقية قبل أن يستقر في باريس عام 1906 حيث انضم لرواد الحداثة.

قام جاك لبشيتس بتقديم حاييم سوتن له وأصبحا صديقين حميمين. وكانت حياته الشخصية عاصفة، إذ أدمن الكحوليات والمخدرات وكان وضعه المالي غير مستقر بشكل دائم، وأصيب في نهاية الأمر بالسل ومات في إحدى المستشفيات الخيرية (وانتحرت عشيقته التي كان يعيش معها في اليوم التالي).

يقف فن موديلياني على الطرف النقيض من حياته، فقد كان فناً خصباً (20 تمثالاً ـ 500 لوحة ـ آلاف اللوحات بالألوان المائية)، يتسم بالحسيَّة يسري فيها حزن هادئ وقَدْر من الصفاء. ويتضح هذا أكثر ما يتضح في صور الأشخاص (البورتريهات) التي رسمها. وفي البورتريه النماذجـي عنـد موديلياني، يظهر رأس الشـخص أمـام خلفية غير محدَّدة، مائلاً قليلاً وفي حالة إعياء كامل وعزلة عما حوله وإحساس بالغربة، وأيدي الشخصيات، إن ظهرت، تكون متدلية منهكة. أما العيون، فهي عيون شاخصة لا ترى شيئاً وتُعبِّر عن فتور الهمة. وتتسم صور النساء عنده بأنها تشبه النبات الطويل الرأسي، والرقبة طويلة أسطوانية تربط الرأس بالجسد الذي يتسم بأكتاف عريضة.

ورغم تحرُّك موديلياني في أوساط رواد الحداثة الفنية، إلا أنه لم يتأثر بها كثيراً، وإن كان قد تأثَّر بمدرسة ما بعد الانطباعية (سيزان ـ جوجان ـ تولوز لوتراك). كما تأثَّر بفن عصر النهضة في الغرب، بخاصة البساطة الكلاسيكية للشكل. ومن المصادر الأخرى لفن موديلياني الفنون غير الغربية مثل النحت الإفريقي. ويظهر هذا في الوجوه المستطيلة لدى بعض نسائه التي تشبه الأقنعة البولينيزية أو الإفريقية. ولكن بعض النقاد يرون أن مثل هذه التشوهات مشتقة من التماثيل القوطية في العصور الوسطى المسيحية.

ولا يوجد أي أثر ليهودية موديلياني في فنه مع أنه كان دائماً معتزاً بإثنيته. وقد حاول بعض النقاد تفسير إحساسه العميق والمأساوي بالغربة على أساس يهوديته. ولكن هذا الإحساس بالغربة هو سمة عامة في الفن الحداثي ولا يوجد فارق في ذلك بين الفنانين اليهود والفنانين غير اليهود. ومصادر لغته الفنية إما مسيحية أو إفريقية أو بولينيزية.

مـارك شــاجال (1887-1985)

Marc Chagall

رسَّام روسي فرنسي، وُلد لأسرة حسيدية تقية (عائلة سيجال، ولكن شاجال غيَّر اسمه أو غيَّر طريقة نُطقه) في قرية فايتبسك في روسيا داخل منطقة الاستيطان، وهي القرية التي خلَّدها في أعماله والتي تشكِّل خلفية معظم هذه الأعمال. درس في عدة مدارس فنية في روسيا القيصرية، من بينها المدرسة الإمبراطورية لحماية الفنون ومدرسة سفانسيفا. ويُلاحَظ أن قراره بتعلُّم الرسم كان يُعَدُّ تحدياً صارماً للتقاليد الدينية اليهودية آنذاك.

انتقل إلى باريس عام 1910 حيث درس في عدة مدارس للفنون بشكل متقطِّع، ثم انتقل إلى لاروش. وبدأت تتحدَّد، في هذه المرحلة، ملامح فنه، إذ بدأت تظهر الألوان الفاقعة (متأثراً بالمدرسة الوحشية وجوجان) والمساحات الهندسية (متأثراً بالمدرسة التكعيبية)، لكن تكعيبيته لم تكن من النوع الهندسي الصارم، إذ أن المضمون يظل واضحاً والألوان تحتفظ بحيويتها على عكس التكعيبيين الذين ترجموا كل شيء إلى مكعبات وأشكال هندسية، بما في ذلك الأشكال منحنية الأضلاع، مع الابتعاد عن الألوان الطبيعية. كما بدأت تظهر موضوعات الطفولة، وعالم الأحلام المبهم والأشخاص الذين يطيرون في الهواء والرموز والوجوه والأجساد المقلوبة، وعالم الأساطير الذي يتحدَّى المنطق العملي المادي. كما تحدَّدت النغمة الأساسية لأعماله، وهي نغمة طفولية فلاحية تحاول أن تَنقُل عالم الباطن والأحلام وكأنه العالم الحقيقي الوحيد. وفي عام 1914، سافر شاجال إلى برلين لأول معرض منفرد له، ومن هناك سافر إلى قريته فايتبسك حيث اضطر إلى البقاء فيها بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى. وفي عام 1915، تزوج من بيلا روزنولد التي ظلت مصدر وحي له في فنه. وعُيِّن شـاجال قوميساراً للفنون في فايتبسك عام 1918. ولكن سرعان ما نشبت الخلافات بينه وبين الثورة، فانتقل هو وزوجته وابنته إلى موسكو عام 1920 حيث رسم عدة جداريات لمسارح الدولة التي تقدِّم مسرحيات يديشية، كما رسم جدارياته المشهورة لمسرحيات جوجول وتشيكوف.

ترك شاجال الاتحاد السوفيتي عام 1922، واستقر في باريس حيث انضم إلى جماعة الفنانين الروس اليهود المهاجرين فيما يُسمَّى «مدرسة باريس» أو «المدرسة اليهودية»، وكانت أعماله، في الفترة التي قضاها في روسيا، ذات طابع غنائي رقيق، وحسِّية إلى حدٍّ ما، ولكن أعماله بدأت في الثلاثينيات تأخذ شكلاً أكثر ظلمة بسبب الأحداث في أوربا، وقد استقر في الولايات المتحدة في الفترة من عام 1941 حتى عام 1948، ثم عاد واستقر في فرنسا، وعادت أعماله للغنائية القديمة. وبعد هذا التاريخ اتسع نطاق الموضوعات التي يتناولها والمواد والخامات التي يستخدمها، فرسم بألوان الماء والجواش والزيت والطباعة وأقام بعض التماثيل واستخدم السيراميك. ونفَّذ العديد من الأعمال بمعاونة الحرفيين، غير أن طفولته ظلت المصدر الأساسي لأعماله.

وعلاقة شاجال باليهودية مُركَّبة إلى أقصى حد، فهو لم ينكر قط أهـمية خلفيته اليديشـية، ولكنه صرَّح أكثر من مـرة بأنه ليس فناناً يهودياً، وإنما فنان يرسم لكل البشر. ولذا، فقد عارض شاجال محاولة بعض الفنانين اليهود المهاجرين (من روسيا إلى باريس) تأسيس مدرسة فنية يهودية. وعادةً ما كانت تصريحاته هذه تُقابَل باستهجان شديد من النقاد الفنيين اليهود. ولحسم القضية، يمكن العودة لأعمال شاجال ذاتها. فالمؤثرات الفنية في رسمه غربية، ولا يمكن فهمها إلا في إطار التطورات الفنية في العالم الغربي. بل نجد أنه، حتى على مستوى الموضوعات، يستخدم موضوعات وصوراً مسيحية، خصوصاً واقعة الصلب. ولعله، في هذا، تأثَّر بعمق بالمسيحية الأرثوذكسية التي تؤكد واقعة الصلب على حساب واقعة القيام، كما أنه يستخدم الصور المسيحية للتعبير عن الموضوعات اليهودية. فالمسيح المصلوب يصبح هو اليهودي المعذَّب. ولعل هذا يلقي ضوءاً على طريقة تناوله ليهوديته أو للموضوع اليهودي، فهو تناول لا يستبعد الأغيار، ولا يَسقُط في ثنائيات التفكير الحلولي الحادة، بل هو تناول يحوِّل اليهودي إلى نموذج إنساني يستطيع أي فرد أن يتعاطف معه لا أن يقف ضده. ولوحاته عن الزواج والحب تعبِّر عن احتفائه الشديد بهذه المواضيع الإنسانية. وقد أشار أحد النقاد إلى أن رسومات شاجال تشبه من بعض الوجوه الرسومات التركية أو الفارسية، وهو ما قد يشي بالأصول التركية (الخزرية) لفنه.

قام شاجال بتنفيذ الشبابيك الملونة (بالزجاج المعشق) لمعبد يهودي واحد (معبد مستشفى الهاداساه في القدس)، ولعدد كبير من الكنائس المسيحية (من بينها الكاتدرائية الكاثوليكية في متز، والكنيسة الكاثوليكية في آس في الألب الفرنسية، ونافذة ملونة ضخمة في الفاتيكان). ومن بين أعماله الأخرى، سقف أوبرا باريس، وجداريات دار الأوبرا التابعة للنكولن سنتر في نيويورك، وجدارية ولوحات قماشية وأرضية فسيفسائية للكنيست، ونافذة ملونة ضخمة في مبنى سكرتارية هيئة الأمم. وقد عاد شاجال إلى موسكو عام 1973 حيث قُدِّم له أول معرض منفرد. كما أُسِّس متحف لأعماله في جنوب فرنسا.

جــاك ليبشـيتس (1891-1973(

Jacques Lipchitz

نحَّات أمريكي/فرنسي يهودي، اسمه الأصلي حاييم يعقوب. وُلد في ليتوانيا لأسرة من المصرفيين الأثرياء. درس في باريس حيث غيَّر اسمه إلى جاك وأصبح مواطناً فرنسياً عام 1925. وفي عام 1930، أقام معرضاً يضم كل أعماله وأحرز شهرة واسعة. تعرَّف إلى النحت المسيحي القديم والوسيط وعلى الفنون غير الغربية، وبخاصة الإفريقية، كما تعرف إلى حاييم سوتين وأماديو موديلياني ودييجو ريفيرا وأعضاء المدرسة التكعيبية، خصوصاً براك وبيكاسو، وتأثر بأعمالهم حتى أصبح من أهم النحاتين التكعيبيين حتى منتصف العشرينيات. تركَّز فنه حول الموضوعات التي تناولها الفنانون التكعيبيون، كالمهرجين والموسيقيين والمستحمين والطبيعة الصامتة. وكانت معظم التماثيل حجرية تتسم بحوافها الحادة وسطحها المسطح وتقترب من التجريد الكامل. وبعد ذلك التـاريخ، اكتـسبت لغته الفنية أبعاداً تذكِّر المشـاهد بفن الباروك، فأصبحت خطوطه أكثر انسيابية وأشكاله دائرية، واتسع نطاق موضوعات فنه ليشمل موضوعات أسطورية وإنجيلية وموضوعات ذات دلالة رمزية عامة.

ومنذ منتصف الثلاثينيات، شعر ليبشيتس بجو الشمولية السائدة في أوربا آنذاك، فأصبح الموضوع الأساسي لفنه هو الكفاح الضاري ضد الوحوش الأسطورية: صراع بروميثيوس مع النسر واغتصاب أريادني عـلى يد زيوس. وفي عـام 1941، هاجر ليبشـيتس إلى نيويورك. وأصبح أسلوبه يميل إلى التفاصيل الثرية، كما بدأت تظهر نبرات دينية عميقة وإن كانت كامنة غير صريحة. وفي عام 1948، قبل تكليفاً ليقيم تمثالاً للعذراء فوافق شريطة أن يُكتَب على قاعدة التمثال العبارة التالية: « جيكوبليبشيتس، اليهودي، المؤمن بعقيدة أسلافه، صنع تمثال العذراء لينمي التفاهم بين البشر على الأرض، حتى تسود حياة الروح ». ولا شك في أن العبارة تُبيِّن مدى احترامليبشيتس لجذوره اليهودية، إلا أنها في الوقت نفسه تُبيِّن أنه يميل نحو اليهودية الإثنية (الموروثة) وليس الإيمان بالعقيدة اليهودية. كما أن العبارة لا تغيِّر على الإطلاق حقيقة أن التمثال الذي نحته هو جزء من التراث المسيحي، ولا ينتمي إلى عالم الفن اليهودي!

وحينما أقام ليبشيتس تمثالاً لجيكوب يصارع الملاك، فقد أعاد تفسير الواقعة في إطار بروميثي وثني وقال: إن التمثال هو عن صراع الإنسان مع الملاك. وأقام ليبشيتس تمثالاً بعنوان «الصلاة»، وهو عبارة عن يهودي يقوم بشعائر الكاباروت ولكنها هنا رمز ذبح اليهود. وعند تأسيس دولة إسرائيل، أقام تمثالاً بعنوان «المعجزة»، وهو عبارة عن شكل له أذرع مرتفعة يقف أمام لوحىّ الشريعة وينمو منها أفرع شمعدان المينوراه السبعة، وفي نهايتها يُوجَد شكل عبارة عن لهب صغير أو أوراق شجر صغيرة. وقد زار ليبشيتس إسرائيل عدة مرات وترك كل قــوالب تماثيله لمتحف إسـرائيل في مدينة القـدس التي دُفن فيها.

مـارك جرتلـر (1891-1939)

Mark Gertler

رسَّام بريطاني يهودي، وُلد في لندن لأسرة يهودية مهاجرة من جاليشيا تتحدث اليديشية في المنزل. حاول دراسة الفن ولكنه لم يتمكن من الاستمرار بسبب فقره المدقع، وبدلاً من ذلك، اشتغل صبياً تحت التمرين في ورشة لصنع الزجاج المعشق. وتعرَّف الرسام الإنجليزي اليهودي روثنشتاين على موهبته وأقنع إحدى المؤسسات اليهودية التعليمية بأن تساعده على الاستمرار في تعليمه. وأتاح له هذا أن يختلط بالأوساط الثقافية فتعرَّف إلى الدوس هكسلي و د. هـ. لورانس وأعضاء جماعة بلومزبري.

وتتسم الأعمال الأولى عند جرتلر بأنها تقليدية إلى حدٍّ كبير، تتبع التقاليد الفنية المتعارف عليها في الغرب آنذاك. ولكنه، ابتداءً من عام 1912، بدأ يتجه نحو الفن البدائي، واستخدم لغته الفنية بشكل واع. كما تأثَّر بالمدرسة الانطباعية، بخاصة سيزان ورينوار. اتجه نحو الفن التجريدي بعض الوقت ولكنه تركه بعد فترة قصيرة. تتسم أعماله بحرية التعبير في الشكل وبالاستخدام الأصيل للألوان.

وإذا كانت الجذور الفنية للغة جرتلر غير يهودية، فكذلك موضوعات لوحاته. فبعد مرحلة أولى في حياته، ركَّز على الموضوعات اليهودية (أسرته والجماعة اليهوديةبشكل عام) ورسم لوحات مثل « الحاخام والحفيد »(1913)، ثم ترك هذه الموضوعات تماماً بعد عام 1914، وبدأ يركِّز على تصوير جسـد الأنثى بطريقة حسـية زادت رواج أعماله. ولم تكن حياة جرتلر الخاصة سعيدة على الإطلاق. وقد انتحر عام 1939.

حـاييـم ســوتين (1893-1943)

Chaim Soutine

فنان فرنسي يهودي وُلد في ليتوانيا لأسرة أرثوذكسية فقيرة للغاية (كان أبوه يعمل رافياً للملابس). ويُقال إن سوتين طلب من حاخام قريته أن يجلس أمامه ليرسم صورته، فضربه ابن الحاخام ضرباً مبرحاً لدرجة أن الحاخام اضطر إلى أن يدفع للأم تعويضاً، وأن سوتين استخدم هذا التعويض في تمويل دراسته للفن في فلنا. ويُقال إن كل لوحاته في هذه الفترة كانت تتسم بالحزن المرضي (الدفن ـ الهجران ـ المعاناة). استقر سوتين بعد ذلك في باريس وعاش في فقر شديد حيث تعرَّف إلى موديلياني. وحينما مات هذا الأخير، رسم سوتين مجموعة من اللوحات تحتوي على الإشارات الدينية الوحيدة في أعماله الفنية الناضجة. وكانت حياته بائسة لدرجة أنه حاول الانتحار. وحقَّق بعض الاستقرار المالي بعد أن اكتشفه أحد جامعي اللوحات. وقد قضى سوتين الأعوام الثلاثة الأخيرة من حياته مختبئاً من النازيين، ولكنه مات في باريس لأسباب طبيعية.

تتكوَّن لوحات سوتين أساساً من لوحات للأصدقاء والشحاذين والشخصيات الهامشية في باريس، ومن طبيعة صامتة ونسخ من لوحات كبار فناني عصر النهضة في متحف اللوفر. وكان فنه يتسم بالتوتر الشديد، فكل ما في لوحاته مُشوَّه وينزف دماً ويشع عدمية (يُقال إن الدم هو احتجاج سوتين على قوانين الطعام اليهودية).

وحتى مناظره الطبيعية لا تتسم بالهدوء، فهي قلقة عاصفة. وقد دفع هذا البعض إلى الحديث عن الخصوصية اليهودية لدى سوتين، وهو أمر مناف للحقيقة، فالفن الحداثي الغربي تتواتر فيه مثل هذه الصور والموضوعات بغض النظر عن الجذور الإثنية أو الدينية للفنان.

بـــن شـان (1898-1969)

Ben Shahn

رسَّام أمريكي تخصَّص في فن الرسوم المطبوعة (بالإنجليزية: جرافيك آرتس graphic arts). وُلد في ليتوانيا لأسرة كان يعمل أعضاؤها في الحفر على الخشب والفخار، وكان معظمهم ينتمون للتيار الاشتراكي. فرّ أبو شان إلى أمريكا الجنوبية هرباً من الاضطهاد القيصري ومنها إلى الولايات المتحدة. وتعلَّم شان على يد فنان تخصَّص في فن الطباعة بواسطة الحجر، وتلقى أول تدريب له على عملية مزج الصورة والنص. تلقَّى تعليماً فنياً في جامعة نيويورك، ثم سافر إلى أوربا والمغرب العربي وفي جزيرة جربا (في تونس) سجل انطباعاته عن يهود هذه الجزيرة. رسم شان مجموعة من الصور عام 1920 عن حادثة دريفـوس، وكانت أول مجمـوعة صُـَور يهاجمفيها الظلم. وفي عام 1931، أصدر مجموعة ثانية عن حادثة ساكو وفانزيتي (بالجواش)، ثم مجموعة ثالثة بين عامي 1931 و1932 عن أحد القيادات العمالية اتُّهم ظلماً في حادث إلقاء متفجرات ثم بُرِّئ. وقد استأجره الفنان المكسيكي دييجو ريفيرا مساعداً في رسم جدارية " الإنسان في منعطف القرن " لمبني RCA في مركز روكفلر. وكانت الجدارية ثورية المنحى فأثارت غضباً شديداً وتم نقلها لمدينة مكسيكو سيتي.

الصفحة التالية ß إضغط هنا