المجلد السادس: الصهيــونيــــة 10

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

الباب الحادى عشر: الصهيونية العمالية

الصهيونية الاشتراكية

Socialist Zionism

«الصهيونية الاشتراكية» اصطلاح مرادف لاصطلاح «الصهيونية العمالية». وقد أخذنا بالمصطلح الثاني لأنه أكثر حياداً. وقد أثبتت ممارسات الصهاينة العماليين أن انتماءهم الاشتراكي مجرد وهم، فقد قاموا باحتلال الأرض الفلسطينية وطردوا بعض أهلها بالتعاون مع قوى الاستعمار، ويُشكِّلون الآن الصفوة الحاكمة في إسرائيل، قاعدة الاستعمار الغربي في المنطقة العربية.

أما اصطلاح «الصهيونية العمالية» فهو على الأقل يصف الانتماء الطبقي الفعلي لبعض قطاعات المستوطنين الصهاينة، كما أن كلمة «عمالي» لا تزال تُستخدَم للإشارة إلى مجموعة من الأحزاب الإسرائيلية.

الصهيونية العمالية

Labour Zionism

«الصهيونية العمالية» تيار صهيوني يَقْبل الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة بعد تهويدها وإدخال ديباجات اشتراكية عليها، وهو تيار استيطاني بالدرجة الأولى. وقدنشأت الصهيونية العمالية في صفوف المثقفين اليهود في شرق أوربا ممن سقطوا ضحية تعثُّر التحديث في روسيا. ويتلخص إنجاز الصهيونية العمالية فيما يأتي:

أولاً: نجاحها في التوصُّل إلى صيغة صهيونية مقبولة لدى الشباب اليهودي الثوري في أواخر القرن التاسع عشر. فقد شهد الشتتل ومنطقة الاستيطان اليهودي صراعاً طبقياً حاداً بين العمال والفقراء اليهود من جهة وأصحاب العمل (اليهود أساساً) من جهة أخرى. وكان 30% من جملة المقبوض عليهم لجرائم سياسية عام 1900 من اليهود. وكتب وايزمان في خطاب له يشكو من أن شباب اليهود ينخرطون في سلك الاشتراكية وكأن الحمى قد أصابتهم، ولعله كان يشير إلى أخيه الذي انخرط في صفوف الثوريين آنذاك. وقد نظمت اتحادات نقابات العمال اليهودية في الفترة 1895 ـ 1904 ما لا يقل عن 2276 إضراباً ضد أصحاب العمل، وانضم إليهم عمال غير يهود. ومن هنا كانت شعبية البوند وانتشاره.

وقد تَأسَّس البوند في العام نفسه الذي أُسِّست فيه المنظمة الصهيونية (1897). ومع هذا، نجحت الصهيونية العمالية في خداع بعض هؤلاء وأقنعتهم بإمكان تحسين مستواهم المعيشي في فلسطين. وساعد على ذلك وجود إحساس عام بين المستوطنين بأنهم سيصبحون ملاكاً للأرض لا مجرد أُجراء زراعيين أو عمال صناعيين، أي أن الاسـتيطان كان يشـكل صعوداً أكـيداً في السلم الطبقي وليس هبوطاً فيه. بل يمكننا أن نقول إنه لولا الصهيونية العمالية لما قُدِّر للمشروع الصهيوني أي نجاح، فهي التي نقلت جزءاً من الكتلة البشرية اليهودية اليديشية إلى فلسطين.

ثانياً: نجحت الصهيونية العمالية (صهيونية ساحة القتال الاستيطانية) في التوصل إلى صيغة تَحُل إشكالية خصوصية الاستيطان الصهيوني وإحلاليته. وقد اكتشف الصهاينة العماليون أن الصيغة الجماعية (ذات الديباجة الاشتراكية) هي الصيغة المُثلى الكفيلة بتحقيق الاستعمار الصهيوني بجانبيه الاستيطاني والإحلالي. فالدولة الراعية لم يكن لديها استعداد لمد المشروع الصهيوني بما يحتاج إليه من تخطيط شامل وجهد بشري وتمويل كثيف لتوطين المهاجرين من أوربا وتهويد فلسطين سكانياً. والمادة البشرية المهاجرة من شرق أوربا لم تكن تملك رأس المال اللازم. ومن هنا، كان الشكل الجماعي (التعاوني الاشتراكي) حيث تقوم المنظمة الصهيونية والصهاينة التوطينيون في الخارج بجمع رأس المال القومي اللازم من أعضاء الجماعات اليهودية (ولا سيما الأثرياء) في الغرب، ثم تقوم بإعطائه للوكالة اليهودية في الداخل، التي تقوم بتوظيفه بشكل تعاوني على أرض مملوكة ملكية جماعية. ويقوم العنصر البشري الدخيل بتنظيم نفسه على هيئة وحدات جماعية تمارس الزراعة والقتال لأن المجهود الفردي لا يمكن أن يُكتَب له النجاح (وهو أمر اكتشفه المستوطنون البيض الأوائل في الولايات المتحدة أثناء حرب الإبادة ضد الهنود بدون مساعدة من أي فكر اشتراكي).

أما الشق الإحلالي من الاستعمار الصهيوني، فقد تكفلت به المفاهيم الاشتراكية الخاصة بنُبل العمل اليدوي. وقد نادت الصهيونية العمالية بأن يذهب يهودي المنفى إلىفلسطين ليعمل بنفسه ويزرع أرضها بيديه، فيزيل ما علق بذاته في الشتات، ويكون آخر اليهود وأول العبرانيين (كما قال جوردون). وهكذا، فإن اليهودي إذا استأجر عاملاًعربياً فقد هدم الفكرة الصهيونية من أساسها. ومن هنا طرح جوردون فكرة اقتحام العمل، أي أن يعمل اليهودي بنفسه، ثم اقتحام الأرض، أي أن يزرعها بنفسه، وأخيراً اقتحام الحراسة، أي أن يحرسها بنفسه (وهذا ما نسميه «الزراعة المسلحة»). ورغم أن الديباجات المُستخدَمة ديباجات ثورية شعبوية تتسم بشيء من الجمال والجاذبية، فإنها في واقع الأمر تترجم نفسها إلى إحلالية. فهذه المفاهيم تعني في واقع الأمر تغييب العربي، والاستيلاء على الأرض بعد إخلائها من سكانها العرب مصدر العمالة الرخيصة التي كانت تتهدد المشروع الصهيوني من أساسه، وإحلال المستوطن الصهيوني محله. وبذلك تكون الصهيونية العمالية قد نجحت في التوصل إلى الصيغة التي تسمح بترجمة أهم عناصر الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة (أي توطين الفائض اليهودي في فلسطين بعد التخلص من العرب) إلى برنامج عملي وممارسة فعلية.

ويبدو أن أعضاء البورجوازية اليهودية المندمجة أو شبه المندمجة في الغرب ووسط أوربا (والتي جاء من صفوفها كثير من زعماء الصهيونية السياسية مثل هرتزل ونوردو) كانوا واعين بحقائق الموقف وبصعوبات الاستيطان. كما أنهم لم يكن يعنيهم، من قريب أو بعيد، شكل الدولة الصهيونية ما دامت تؤدي الأغراض المطلوبة منها مثل إبعاد يهود شرق أوربا عنهم والقيام بدور المدافع عن المصالح الإمبريالية. ولذلك، لم تمانع هذه القيادات البورجوازية في اتخاذ قرارات «اشتراكية» ثورية عديدة. فالنقطة الأولى في برنامج بازل تدعو إلى توطين اليهود في فلسطين بالوسائل اللازمة دون تأكيد أي محتوى طبقي أو نمط إنتاجي معيَّن. وبمرور الزمن، اكتشف جميع الصهاينة بشكل برجماتي أن الاستيطان الجماعي والعمالي هو أهم أشكال الاستيطان، فعملية تمويل المشروع الصهيوني كان لابد أن تتم بشكل جماعي أو قومي، كما أن المستوطنين اضطروا إلى التجمع على هيئة جزر متماسكة في وجه الرفض العربي. لكل هذا، نجد أن المؤتمرات الصهيونية الأولى (التي سيطرت علىها الطبقات الوسطى والحاخامات) وافقت على مبدأ تأميم الأرض باعتباره أهم أُسس الدولة الصهيونية في المستقبل، كما اتخذت هذه المؤتمرات كثيراً من القرارات الثورية الأخرى. وكان وايزمان (الصهيوني العملي البورجوازي) يعطف كثيراً على النشاط الصهيوني العمالي ولم يكن يأبه باعتراضات المموِّلين اليهود اعتقاداً منه أن الصهيونية العمالية ستَخدم، في نهاية الأمر، المشروع الصهيوني.

وتجدُر ملاحظة أن الصهيونية العمالية الاستيطانية لا ترفض اليهودية الحاخامية وحسب وإنما تقدم نقداً عميقاً للشخصية اليهودية في المنفى باعتبار أنها تود أن تُسبغ مركزية على المُستوطَن الصهيوني فتزيد من شرعيته وتضمن تَدفُّق الدعم المالي والسياسي عليه. وكان التصور أنه كلما زاد هذا النقد عمقاً زادت الشرعية وزاد الدعم، بل إن النقد العمالي الاستيطاني وصل إلى درجة رفض ما يُسمَّى «الهوية اليهودية» تماماً واعتبارها من مخلفات الماضي، ومن ثم نشأت الدعوة إلى أن يكون المستوطنون آخر اليهود وأول العبرانيين، وأصبحت الدعوة للهوية اليهودية من أمراض المنفى.

وتؤمن الصهيونية العمالية بأزلية معاداة اليهود وإن كانت تعطي تفسيراً اجتماعياً مادياً لهذه الظاهرة. وتتلخص المشكلة، حسب التصور الصهيوني العمالي، في أن التركيب الاجتماعي والحضاري لليهود يختلف عن التركيب الاجتماعي والحضاري للشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها، فاليهود الذين يُحرَّم عليهم ممارسة مهنة الزراعة كانوا يعيشون أساساً في المدن، أما العمال منهم فهم لا يشكلون بروليتاريا صناعية وإنما ينتمون إلى قطاع البروليتاريا الرثة ومُحرَّم عليهم ممارسة كثير من الحرف والأعمال، أما أثرياء اليهود فإنهم يشتغلون بالتجارة والربا أو ببعض الصناعات الاستهلاكية. وهذا كله دليل على تَشوُّه البناء الطبقي عند اليهود وعلى هامشيتهم. وقد عبَّر بوروخوف عن هذه الفكرة بصورة الهرم المقلوب: فكل شعب يتكون من فئات اجتماعية تأخذ شكل الهرم الذي يتكون من قاعدة عريضة تُسهم في العمليات الإنتاجية الأساسية، وكلما بَعُدت العمليات الاقتصادية عن هذه العمليات الأساسية قلَّ عدد العاملين حتى نصل إلى قمة الهرم. ويجد بوروخوف أن هذا الهرم مُشوَّه تماماً عند اليهود ففي صفوفهم عدد كبير، من المحامين والأطباء والمفكرين وغيرهم، يشاركون في العمليات الإنتاجية الهامشية وينتمون إلى الطبقة الوسطى وإلى قمة الهرم، مع قلة قليلة من الفلاحين، إن وُجدت، وبروليتاريا صغيرة الحجم نسبياً ممن ينتمون إلى قاعدته.

وقد نتج عن هذا الوضع المتميز شيئان:

أولاً: أن كل الطبقات اليهودية في المجتمع ـ رأسماليين كانوا أو عمالاً ـ كانت تشكل وحدة متميزة مرفوضة من بقية المجتمع بسبب هامشيتها (وبسبب تراثها الفكري الديني القومي). وهذا يعني أن معاداة اليهود شيء موجه ضد كل اليهود بجميع طبقاتهم، وهي تكاد تكون مرضاً أزلياً لأن المجتمعات الاشتراكية اللا طبقية غير قادرة على حل هذه القضية لعدم إدراكها خصوصية وضع اليهود.

ثانياً: أُصيبت الشخصية اليهودية بالذبول والطفيلية لأنها فقدت علاقتها بالأرض الزراعية وبأي عمل منتج. وقد ازداد هذا الوضع حدَّة وتفاقماً، بسبب ظهور طبقة رأسمالية محلية (في روسيا وبولندا) تُنافس الرأسماليين اليهود وترفض استئجار العمال اليهود وذلك بسبب التعصب الديني ولأن العامل اليهودي في معظم الأحيان كان لا يمتلك الخبرات. ولقد راحت هذه الرأسمالية المحلية الجديدة تؤلب الجماهير المسيحية المُستغَلة ضد كل من الرأسماليين والعمال اليهود، حتى لا تعرف هذه الجماهير مستغليها الحقيقيين، وتحليل أوضاع اليهود بعد سقوط الجيتو على هذا النحو فيه كثير من الجدة والصدق. ويشترك الصهاينة العماليون في الإيمان بأن اليهود فقدوا كثيراً من الصفات القومية وإن كانوا مع هذا يشكلون أمة مستقلة أو أمة لها سمات الطبقة، وبأنها منبوذة في الغرب للأسباب التي ذُكرت آنفاً.

وبالتالي، فإن الحل الذي يطرح نفسه هو إخلاء أوربا من يهودها وتصفية الجماعات اليهودية (وإن كان بوروخوف يرى إمكان استثمار مثل هذه الجماعات وبالتالي وجوب الدفاع عن حقوقها السياسية). وتتم عملية التصفية من خلال نقل الكتلة البشرية اليهودية إلى فلسطين، أي تحويل الهجرة التلقائية (إلى الولايات المتحدة وغيرها من البلدان) إلى استعمار استيطاني في فلسطين حيث ستُؤسَّس دولة صهيونية تُجسِّد القيم القومية اليهودية وتساهم في تطبيع الشخصية اليهودية وتُطهِّرها من أدران المنفى من خلال العمل اليدوي.

وقد طالب العماليون بأن تُجسِّد هذه الدولة القيم الاشتراكية والثورية وكل القيم التقدمية المطروحة آنذاك في أوربا، ولا يخلو أي برنامج صهيوني عمالي من الحديث عن وحدة الطبقة العاملة. وفي الماضي، كان العماليون يتحدثون كذلك عن الأممية والتضامن البروليتاري العالمي وما شابه من شعارات. ولكن، داخل هذه الوحدة البنيوية الأساسية، توجد بنَى فرعية مختلفة. ولعل أهم هذه البنَى تيار بوروخوف الذي حاول توظيف المنهج الماركسي في خدمة رؤيته الصهيونية، فأكد الأساس الطبقي والاقتصادي للصهيونية، وخَلُص من تحليله إلى حتمية الحل الصهيوني كوسيلة لتزويد كل الطبقات اليهودية الهامشية بقاعدة للإنتاج. أما تيار سيركين، فقد ركز علىالعنصر الأخلاقي ووحدة الرؤية بين اليهود، ولذلك فهو يؤكد التعاون والأخوة ويُقلِّل أهمية الصراع الطبقي. وقد انصرف جل اهتمام جوردون إلى الجانب النفسي، ولذلك فقد ركز على فكرة اقتحام الأرض والعمل كوسيلة للتخلص من آفات المنفى وكوسيلة للولادة الجديدة وتحويل اليهود إلى قطاع اقتصادي منتج. وقد كُتب لأفكار جوردون وسيركين الشيوع في الأوساط العمالية الصهيونية.

ويعود ظهور الاتجاه العمالي إلى المؤتمر الصهيوني الثاني عام 1898، لكنه قوبل برفض شديد من أغلبية المشاركين بزعامة هرتزل وكان الرافضون يقدِّمون الصهيونيةآنذاك على أنها طريقة لتحويل الشباب اليهودي عن طريق الثورة. وبعد ذلك، عُقد مؤتمر في لاهاي عام 1907 لجماعات عمال صهيون بقيادة بوروخوف، ثم انضمت لهم جماعات أخرى، مثل العامل الفتي (هابوعيل هاتسعير) والفتي الحارس (هاشومير هاتسعير) واتحاد العمل (أحدوت هعفودا(

ويمكن القول بأن الموجة الثانية من الهجرة اليهودية (1905 ـ 1914) هي التي أتت بالمادة البشرية الاستيطانية العمالية. فالمهاجرون اليهود في الموجة الأولى من الهجرة كانوا في معظمهم من أبناء الطبقة الوسطى، ولذا فقد استقروا في المدن الفلسطينية، ولم يعمل منهم في الزراعة سوى 5% فقط. أما مهاجرو الموجة الثانية فكانوا ـ لاعتبارات تتعلق بانتماءاتهم الطبقية والأيديولوجية على حدٍّ سواء ـ مصرين على العمل الزراعي الذي رأوه مفتاحاً لحل المسأة اليهودية وإصلاح الهرم الاجتماعي المقلوب عند اليهود.

لقد تمت هذه الموجة " الثانية " من الهجرة في سنوات الهجرة اليهودية الكبرى من روسيا وأوربا الشرقية إلى أمريكا، وحدثت نتيجة فشل ثورة 1905وازدياد معاداةاليهود في روسيا القيصرية نتيجة تعثُّر التحديث. ولقد كانت الأقلية العقائدية هي التي هاجرت إلى فلسطين بدلاً من أمريكا. كانت هذه الأقلية في معظمها من الشبان (77% كانوا في سن دون 25 عاماً)، ولا يملكون أية مدخرات، ومتشبعون بالأفكار الشعبوية الروسية (المعادية للصناعة) وبالأفكار الثورية الاشتراكية. ولذا استخدموا هذهالديباجات في تبرير الاستيلاء على الأرض العربية وطَرْد سكانها، ولذا بدلاً من المنطق الاستعماري التقليدي الذي يقوم بطرد السكان الأصليين وإبادتهم لأنهم من أجناس مُلوَّثة لجأ هؤلاء المهاجرون إلى تبرير عمليات الطرد والإبادة من خلال ديباجات اشتراكية ملتهبة. فاستولوا على الأرض بحجة أن الأرض لمن يزرعها، وطردواأصحابها منها بحجة أن إنتاجيتهم ضعيفة.

وقد تحوَّلت الصهيونية العمالية في المؤتمر الصهيوني الثاني عشر (1933) إلى أكبر أجنحة المنظمة الصهيونية العالمية وأكثرها تأثيراً على الصعيدين السياسي والعملي. ويعود هذا إلى نجاحها في مجالين أساسيين:

أولاً: نجحت الصهيونية العمالية فيما فشلت فيه كل الاتجاهات الصهيونية الأخرى، أي تجنيد المادة البشرية الأساسية للعملية الاستيطانية.

ثانياً: نجحت الصهيونية العمالية في تنفيذ القسم الأكبر والأهم من عمليات الاستيطان الصهيوني في فلسطين المحتلة من خلال صيغ وأشكال مختلفة.

والبناء الاقتصادي السياسي في المُستوطَن الصهيوني نتاج نشاطات الصهيونية العمالية بالدرجة الأولى. فالهستدروت والكيبوتس والهاجاناه والبالماخ هي الأدوات التي استخدمها الصهاينة لتحويل جزء من فلسطين إلى مُستوطَن صهيوني تحكمه دولة صهيونية وظيفية، وهي مؤسسات أوجدتها وسيطرت عليها الصهيونية العمالية التي لا تزال لها اليد الطولى في إسرائيل.

إن الصندوق القومي اليهودي الذي أسسه الممولون من أعضاء الجماعات اليهودية كان سيصبح مؤسسة بلا هدف بدون المادة البشرية وبدون المؤسسات العمالية التي حققت لها البقاء والاستمرار. ولذا ليس من الغريب أن تعرف أن أموال الصندوق القومي اليهودي ما بين سنة 1921 وسنة 1945 كانت تذهب، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، إلى الاقتصاد العمالي. فالبند الوحيد الذي كان لا يخضع لسيطرة شبكة الأحزاب والمؤسسات العمالية هو بند الإسكان في المدن البالغ 6.8% فقط من مجموع الإنفاق. أما باقي المصاريف، فكان يذهب مباشرةً إلى العمال، كمصاريف المستعمرات الزراعية والهجرة والتدريب والإسكان، كما كان يذهب بصورة غير مباشرة إلى مؤسسات يُشرف العمالي عليها، كالمصاريف المتعلقة بالثقافة والأمن والصحة.

وقد تحوَّلت «الصهيونية العمالية» في المؤتمر الصهيوني الثاني عشر (1933) إلى أكبر أجنحة المنظمة الصهيونية العالمية وأكثرها تأثيراً على الصعيـدين السـياسيوالعملي الخاصين بالمشروع الصهيوني. ويُلاحَظ أنه مع تزايد اعتـماد الدولة الصـهيونية على يهود العالم، ومع تزايد خفوت النبرة الاشتراكية في صفوف الصهاينةالعماليين، اختفى النقد الراديكالي للهوية اليهودية، بل استوعبت الصهيونية العمالية ديباجات الصهيونية الإثنية العلمانية وأصبحت الهوية اليهودية الرقعة المشتركة بين يهود الدولة الصهيونية ويهود العالم.

موسى هـس (1812-1875)

Moses Hess

رائد الصهيونية العمالية. وُلد في ألمانيا من أب بقَّال وأم كان أبوها حاخاماً. وانتقل هس، وهو بعد في التاسعة، إلى منزل جده حيث تلقَّى على يديه تعليماً دينياً وتعلَّم العبرية. ورغم ذلك، لم يُبد هـس أي اهتمـام بالقــضايا اليهودية إلا في مرحلة متقدمة من عمره. وقد اهتم هس بدراسة التاريخ وكان شديد الإعجاب بالفيزياء والأدب الفرنسي ودرس الفلسفة في الجامعة ولكنه لم يحصل على درجة علمية. وقد استقر هس معظم حياته في باريس حيث تزوج من فتاة أمية مسيحية تعمل بالدعارة، ولكنه أجَّل الزواج إلى ما بعد وفاة والده بعام واحد أي عام 1852 لكي يضمن حقه في الميراث. وكان لهس اتصال بالأوساط والمجالات الاشتراكية، كما كان صديقاً لكارل ماركس وفردريك إنجلز، ولكنه اختلف معهما بعد فترة قصيرة، كما كان عضواً في أحد المحافل الماسونية، وساهم بعدة مقالات في المجلات الماسونية. وقد أظهر إعجاباً شديداً في مقتبل حياته بالدين المسيحي والحضارة الغربية، وخصوصاً في ألمانيا، ولذلك فقد كان يؤكد أهمية ألمانيا مثل نوردو وجابوتنسكي، واشترك في الثورة الألمانية عام 1848 وحُكم عليه بالإعدام. وقد كان هس واقعاً تحت تأثير روسو وإسبينوزا وماتزيني، ولكن أهم مصادر تفكيره هي الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية.

نشـر هــس عـام 1862 كتاباً كان عـنوانه الأصـلي حياة إسرائيل، ولكنه عدَّل هذا الاسم وسماه روما والقدس. وتَردُّده بين الاسمين ذو دلالة، فالعنوان الأول ديني حلولي صريح وله بُعْد يهودي خالص، أما الثاني فهو حلولي غربي استعماري. وروما التي يشير إليها هس هي روما الثالثة التي كان يشير لها ماتزيني والتي ستُؤسَّس عن طريق بعث القومية الإيطالية، فهو يرى أن ثمة علاقة بين بعث روما في أوربا وبعث القدس في الشرق، ويرى أن ثمة علاقة بين الحركة القومية العضوية والحركة الصهيونية. ويتحدث الكتاب عن الثورة الفرنسية كمَعْلَم أساسي في تاريخ الغرب، فهي تشكل بعثاً اجتماعياً سيؤيد المشروع الاستعماري الصهيوني في الغرب، أي أن هس قام في البداية بتصنيف الصهيونية تصنيفاً صحيحاً لا باعتبارها حركة تنبع من داخل ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» وإنما باعتبارها ظاهرة تنبع من حركيات التاريخ الغربيالاستعماري. والكتاب عبارة عن اثنتي عشرة رسالة إلى سيدة حزينة على فَقْد إنسان تحبه، ولعل هذا يفسر عدم ترابط الأفكار كما يفسر العاطفية الزائدة، وهو كتاب سطحي بشكل عام في أطروحاته ورؤيته السياسية.

يتفق هس مع النقد المعادي لليهودية ولما يسمَّى «الشخصية اليهودية». وقد صرَّح في بداية حياته بأن شريعة موسى ماتت وأن اليهود إذا كان عليهم أن يختاروا ديناً فهو المسيحية فهي أكثر ملاءمة للعصر الحاضر، فهي دين يهدف إلى توحيد كل الشعوب وليس توحيد شعب واحد (كما هو الحال في اليهودية). ورغم أن هس لم يَتنصَّر إلا أنه لم يكن معارضاً تماماً لفكرة التعميد، فالدين اليهودي أصبح، على حد قول هايني، مصيبة أكثر منه ديناً خلال الألفي عام الماضية. بل إن كل الأديان إن هي إلا خطأ إنساني جماعي والدين إن هو إلا تعبير عن حالة مرضية.

ولا يختلف موقف هس من اليهود عن موقفه من اليهودية. ففي أول كتاب له التاريخ المقدَّس للإنسانية، وهو كتاب ذو صبغة مسيحية رومنتيكية، يقول فيه إن اليهود قد أنجزوا مهمتهم الروحية بظهور المسيح برؤيته العالمية. وقد قدَّم تقسيماً لمراحل التاريخ يدور في إطار مسيحي: المرحلة الأولى هي مملكة الإله الأب (التي سادتها المسيحية)، أما المرحلة الثانية والأخيرة فهي مملكة الروح القدس (وهي مرحلة نهـاية التاريخ التي سـيتحقَّق فيها خلاص الجنـس البـشري بأسره)، وينشأ مجتمع اشتراكي كامل تُلغَى فيه الملكية الخاصة وحق الميراث وحكم مامون إله المال ويؤكد التضامن الإنساني نفسه دون أية عوائق، ومن ثم فهو مجتمع يحقق رسالة اليهودية القديمة ولكن في إطار علماني. وليس بإمكان اليهود الآن إلا أن ينضموا كأفراد إلى الحضارة العالمية، تماماً كما فعل إسبينوزا نبي اليهودية الحقيقي. بل إن اليهود سيعودون تحت راياته وسيُنفَخ في الشوفار اليهودي الذي نُفخ فيه حين طُرد إسبينوزا من حظيرة الدين. والقدس الجديدة بهذا المعنى ستبقى هنا في قلب أوربا وليس في فلسطين.

وفي مخطوطة أخرى بعنوان البولنديون واليهود تنتمي للفترة نفسها (1840)، يرى أن البولنديين لهم مستقبل أما اليهود فلا مستقبل لهم لأنهم يعانون من نقص مطلق في الوعي القومي، والبولنديون لن يستسلموا قط لحقيقة تقسيم بولندا على عكس اليهود الذين استسلموا لحقيقة طردهم من فلسطين. ويذهب هس إلى أن اليهود والصينيين حفرية تاريخية لها ماض وليس لها مستقبل، بحيث أصبح الصينيون جسداً بلا روح وأصـبح اليهـود روحاً بلا جسد. ولذا فهو يرى أن الشعب المختار لابد أن يختفي إلى الأبد،فمن اختفائه قد تظهر حياة جديدة ثمينة.

وقد صدرت له كراسة عن رأس المال (1845)، وهي تزخر بالإشارات المعادية لليهود (ويبدو أن ماركس قرأها قبل أن تُنشر وتأثر بها). يقول هس في هذه الكراسة إن أعضاء جماعة يسرائيل كانوا شعباً من الوثنيين، ربهم الأساسي هو مولك الذي كان يطلب منهم دم الضحايا. ولكنهـم، بمـرور الزمن، عبروا من مرحلة قرابين الدم (بالعبرية: دم) إلى مرحلة قرابين النقود (بالعبرية: داميم أي «رسـوم») وهـذه هي أصـول عبادة اليهـود للنقود إذ حلَّت محل مولك. وفي هذه الكراسة، يشير هس لإله يسرائيل باعتباره يهوه ـ مولك. ويصف شلومو أفنيري هذه العبارات بأنها "فرية دم جماعية" لا نظير لها في أدبيات معاداة اليهود.

ويُعَدُّ هذا الرفض المبدئي لكل من اليهودية واليهود إحدى المقولات الأساسية الصريحة في صهيونية اليهود وغير اليهود وبُعْداً أساسياً في الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة.

ثم يذكر هس حقيقة ظهور القومية العضوية كإطار مرجعي في الغرب، فيقول: إن حركة التنوير دعوة للعالمية والإخاء ولكنها يصاحبها زيادة الوعي القومي (في أوربا) وزيادة الإحساس بأن الأمة كيان عضوي متماسك. ومصدر التماسك العضوي للشعوب العضوية هو العرْق، فهو القيمة الحاكمة الكبرى، وهو محرك التاريخ. فالتاريخ إن هو إلا ساحة للصراع العرْقي والطبقي، بل إن الصراع العرْقي هو الغالب. ولذا، تفشل كل محاولات الإصلاح لأنها تتجاهل عنصر العرْق. وهذا التركيز على العرْق أغلق أبواب الغرب تماماً أمام اليهود، إذ لم يَعُد بوسعهم الحصول على تأشيرة دخول الحضارة الغربية عن طريق التنصُّر (كما فعل هايني).

ثم يذكر هس الحقيقة الأساسية في أوربا في عصره وهي أن الشعوب الأوربية اعتبرت وجود اليهود بينها شذوذاً، ولذا سيبقى اليهود غرباء أبداً لا يمكنهم الالتحام العضوي بأوربا، شعباً منبوذاً ومُحتقَراً ومُشتَّتاً؛ شعباً هبط إلى مرتبة الطفيليات التي تعتمد في غذائها على الغير؛ شعباً ميتاً لا حياة له (والمُلاحَظ أن الصور المجازية العضوية تتواتر في كتابات هس كما هو الحال في معظم الأدبيات الصهيونية والنازية والمعادية لليهود).

المخْرَج من هذا الوضع هو الصيغة الصهيونية الأساسية التي تطرح فكرة الشعب العضوي المنبوذ، الذي يمكن حل مشكلته عن طريق توظيفه في خدمة الحضارة الغربية التي نبذته. ويبين هس أن اليهود عنصر حركي نافع، فمبدؤهم الرئيسي أن "موطن المرء حيث ينتفع". هذا هو دينهم، وهو أعظم من كل ذكرياتهم القومية إذ يرى أن اليهود متميزون باجتهادهم الصناعي والتجاري. ولذا، فقد أصبحوا مهمين للأمم المتحضرة التي يعيش فيها اليهود. وأصبحوا أمراً لا يمكن الاستغناء عنه لتقدُّم هذه الأمم (وهذا هو وَصفُنا للجماعة الوظيفية).

ولكن اليهود ليسوا جماعة وظيفية وحسب، إذ يجب أن يُعاد إنتاجهم على هيئة شعب عضوي حتى تتمكن أوربا من أن تجد لهم مكاناً في الأرض وتشرف على مشروعهم الاستعماري. ولذا، فهو يرى اليهود باعتبارهم قوماً ينقصهم الوعي القومي. وحيث إن القومية والعرْق أمران مترادفان في عقل هس وفي وجدان أوربا في القرن التاسع عشر (فالعرْق هو مصدر الوحدة العضوية وهو القيمة الحاكمة المرجعية)، وحيث إن الانتماء القومي هو في جوهره انتماء عرْقي، نجد أن هس يشير إلى العرْق اليهودي باعتباره من العروق الرئيسية في الجنس البشري التي حافظت على وحدتها رغم التأثيرات المناخية عليها، كما حافظت السمة اليهودية على نقائها عَبْر العصور. وقد قسَّم هس العالم إلى جنسين أساسيين (السامي والآري) يهدف الأول إلى إضفاء الأخلاق على الحياة ويهدف الثاني إلى إضفاء الجمال عليها (وهو التقسيم الذي قبلته أوربا وقبله النازيون فيما بعد).

ولكن التعريف العرْقي ليس التعريف الوحيد وإن كان هو الأساس. والواقع أن ثمة إشارات في الكراسة تدل على أنه يرى أن الوحدة بين اليهود إثنية (ثقافية) أيضاً على طريقة القومية العضوية، فهو يقول إن هويته القومية ترتبط بتراث أسلافه وبالأرض المقدَّسة وبالمدينة الخالدة. ويرى هس أن ثمة ترابطاً عضوياً عميقاً بين الهوية اليهـودية والدين اليهودي، فالدين أهم أشكال التعبير عن هذه الهوية، أي أنه يرى الدين مكوناً إثنياً وشكلاً من أشكال الفلكلور. ولذا، فقد اقترح هس عدم إدخال أية تغييرات عليه. واستنكر محاولات اليهود الإصلاحيين تحويل اليهودية إلى شيء عالمي أو إلى نسخة ثانية من المسيحية، فهي محاولة محكوم عليها بالفشل لأن اليهودية الإصلاحية لا تُبدي أي شكل من أشكال الاحترام للمقومات الأساسية للقومية الدينية التي تشكل جوهر الدين. فاليهودية دين عقيدة ودين عبادة قومية (على عكس المسيحية)، ولذا فهو يشير دائماً إلى «دين اليهود التاريخي»، أي دين يتبدَّى في الحياة القومية والتاريخية لليهود، والذي لا وجود له كمجموعة من القيم المطلقة المُتجاوزة لهذه الحياة المُنزَّهة عنها.

ويَقرن هس بين الروح المقدَّسـة والعبـقرية الخلاقة للشـعب ويُوحِّدهما، فالواحد هو الآخر. وقد نبعت منها كل من الحياة الإثنية والعقيدة اليهودية، أي أن القومية العضوية أوروح الشعب أسبق من الدين، وما الدين سوى تعبير عن الروح القومية، وهذا يعني أن هس يَصدُر عن صورة مجازية حلولية عضوية ترى ترادفاً بين الدين والقومية، وتجعل الشعب المركز الوحيد للحلول والكمون، ومن ثم فهي حلولية بدون إله. وهكذا تكون قد تمت إعادة إنتاج الجماعة اليهودية في الغرب على هيئة شعب عضوي لا تقبله أوربا، أي شعب عضوي منبوذ.

وطرح المشكلة على هذا النحو يشير إلى الحل وهو نقل الشعب الذي نبذه العالم الغربي وتوطينه في الشرق ليقوم على خدمة الغرب ومن ثم يصبح اليهود جزءاً من التشكيل الاستعماري الغربي بعد أن فشلوا في الانتماء إلى التشكيل الحضاري الغربي. ويشير هس إلى أنه قد تم تعبيد طريق الحضارة في الصحراء بحفر قناة السويس ومد الخطوط الحديدية التي تصل أوربا وآسيا، أي أن طرق المواصلات جعلت الشرق مفتوحاً أمام الغرب. ثم يشير إلى أن الظروف السياسية في الشرق (أي المسألة الشرقية) بدأت تتهيأ لدرجة تسمح بتنظيم عودة الدولة اليهودية للحياة. ولذا، يمكن أن تقوم إحدى الدول الغربية الاستعمارية (فرنسا الحبيبة مثلاً، المُخلِّص الذي سيعيد لشعبنا مكانته في التاريخ العالمي) بتشييد مستعمرات في أرض الأجداد. "فالأمم المسيحية لا تعارض عودة الدولة اليهودية إلى الحياة لأنهم بهذه الطريقة سيتخلصون من شعب غريبيعيش بينهم بعد أن كان شوكة في جنبهم". والدولة اليهودية يجب أن تكون دولة مستقلة مُعترَفاً بها من القانون الدولي (أي القانون الاستعماري الغربي) كدولة متحضرة (أيكدولة استيطانية وظيفية تدور في فلك الغرب الذي يضمن بقاءها واستمرارها وتدافع هي عن مصالحه)

ويَتوصَّل هس لفكرة الدولة الوظيفية، فاليهود سيذهبون إلى أرض الأجداد داخل إطار الحضارة الغربية الاستعمارية. لكل هذا، يرى هس أن اليهـود ينبغي علىهم ألا يطالبوا الإله بأرض الأجـداد من خـلال الصلاة، وإنما يجب عليهم أن يتحلوا بالشجاعة ويطلبوا هذه الأرض من الإنسان الغربي، وأن ينسلخوا عن اليهودية وينخرطوا في التشكيل الاستعماري الغربي (ذلك أن هس صهيوني يهودي غير يهودي). ويبين هس مدى نفع الدولة الوظيفية الجديدة، فاليهود يُكوِّنون "مركز اتصال بين القارات الثلاث... [وهم] حملة الحضارة إلى شعوب لا تعرفها... الوسيط بين أوربا وآسيا البعيدة، وذلك كي يمهدوا الطرق التي تقود إلى الهند والصين، لكل المناطق المعزولة التي يجب أن تُعرَّض للحضارة ". كما أنهم سيعطون الدولة العثمانية بعض المال الأمر الذي سيحد من تداعي الإمبراطورية (وهو ما كان يُهم فرنسا آنذاك)

ويَتوصَّل هس إلى مفهوم الصهيونيتين، فيميز بين يهود الشرق ويهود الغرب، فالمشروع الصهيوني لا يعني أن يهاجر يهود الغرب كلهم إلى فلسطين، ذلك أن أغلبية اليهود الذين يعيشون في بلدان متمـدنة في الغـرب لابد أن يبقـوا في بلادهـم بعد تأســيس دولة يهودية، فقد نجحوا في شق طريقهم بجهد بالغ وحققوا لأنفسهم مركزاً اجتماعياً وسوف لن يتخلوا عن أي نجاح حققوه. ولكنهم، مع هذا، سيساندون الشعب اليهودي من شرق أوربا (أي يهود اليديشية) في مهمته التاريخية، أي أنه حدد لهم دورهم في الحركة الصهيونية باعتباره صهيونية توطينية. "أما في تلك البلاد التي تؤلف الخط الفاصل بين الغرب والشرق، أي روسيا وبولندا وبروسيا والنمسا وتركيا، فالملايين من إخواننا يتضرعون إلى الإله بحماس كي يعيد المملكة اليهودية. لقد حافظ هؤلاء اليهود على بذرة الحياة اليهودية [الحياة الجيتوية] بإخلاص أكثر من إخواننا في الغرب".

لقد توجَّس هس خيفة من البداية من أن المادة البشرية المطلوبة للمـشروع الاسـتعماري قد لا تكون طيـعة وقد لا تهاجر، ولذا فهو يقول: "إن عدد اليهود الذين سيسكنون الدولة ليس أمراً مهماً، فاليهود عبر تاريخهم يعيشون في كل مكان، وكل دولة مستقلة لها مواطنون يعيشون في أرض أجنبية" أي أنه لا يطالب بتصفية الدياسبورا.

هذه هي الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة. ولكن هس كان مدركاً أنها في حد ذاتها لا تكفي، ولذا فلابد من زيادة مقدرتها التعبوية بإضافة ديباجات وأبعاد مختلفة، يقولهس إن دولة اليهود الجديدة ستوفر لهم الكرامة والاحترام والشرف، وسيتم تطبيعهم إذ سيُحوِّلهم حصولهم على أرض إلى أفراد، عمال نافعين، وسيُسهم رأسمالهم وعملهم في إعادة الحياة للأرض القاحلة، أي أنهم سيتحولون إلى مادة استيطانية ناجحة بيضاء. ثم يستخدم هس ديباجات إثنية دينية، فيؤكد أن هذا البعث القومي سيؤدي لا إلى إصلاح اليهود وحسب وإنما إلى إصلاح اليهودية نفسها، فعبقرية اليهود الدينية لن يعيدها إلا نهضة قومية (والقومية على كلٍّ أسبق من الدين). كما أن هذا الجفاف الديني سيختفي عندما تستيقظ الحياة الوطنية المنطفئة. وعندما يتغلغل تيار التطور الوطني القومي التاريخي الحر ثانيةً داخل تلك الشكليات الدينية المتزمتة. "فإذا حققنا هذه الخطوة الرئيسية لأمكننا التغلب على الصعوبات مهما بلغت.... ويمكننا بهذه الروح الوطنية تحرير الشعب اليهودي من الشكليات المميتة للروح". بل إن البعث القومي سيغير شكل التعبير الديني ذاته في المستقبل، فمن المؤكد أن اليهود سيختلفون في تعبيرهم الديني عما هو عليه في الحاضر وعما كان عليه في الماضي. بل إن هس يتنبأ بأنه بعد البعث القومي، وإنشاء دولة يهودية، سيقام سنهدرين منتخب يقوم بتعديل الشريعة اليهودية حسب احتياجات المجتمع الجديد (وهو الأمر الذي حَدَث بالفعل)

وإلى جانب الديباجة الإثنية، هناك الديباجة العمالية الأممية الإنسانية، "واليهودية القومية لا تستبعد النظرة العالمية، بل العكس هو الصحـيح، فالعــالمية هي النتيـجة المنطقيةلصفات اليهود القومية". بل إنه "لا يوجد شعب غير اليهود له دين يربط العناصر القومية والعالمية والتاريخية معاً، فاليهود إذن هم وحدهم شعب الإله". ولقد أصبح تاريخ الإنسانية مقدَّساً من خلال اليهودية. فالتاريخ أصبح تطوراً عضوياً ومُوحَّداً يعود في أصله إلى حب الأسرة. وسوف لا يتم هذا التطور إلا إذا أصبحت الإنسانية كلها أسره واحـدة يتحـد أعضـاؤها بالروح القـدس وبإبداع التاريخ العبقري. والواقع أن هناك حتمية وراء اختيار اليهود لطريق العدالة في مجتمعهم، فهم طفيليون منبوذون يشعرون بالحاجة إلى ظروف عمل عادلة وصحيحة. ولذا، فهم بحاجة إلى أرض حتى يتحولوا من طفيليين هامشيين إلى عمال نافعين، ووجود مثل هذه الأرض التي ستشكل الوطنالمشترك شرط أساسي لإدخال علاقة صحيحة بين رأس المال والعمل عند اليهود. وسيزداد تحقيق العدالة في المجتمع إن اعتمد على اسـتغلال الإنسـان للطبيعة بدلاً مناسـتغلال الإنسان للإنسان، وسيتحقق هذا من خلال التقدم العلمي. ففي الماضي، كانت الندرة مصدر الصراع الطبقي والعرْقي. ولذا، ومع تحقيق الوفرة من خلال تَقدُّم وسائل الإنتاج والعلم، ستختفي هذه الصراعات وستزول الحاجة لاستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وسيختفي العداء بين الطبقة الرأسمالية والطبقة المنتجة، بل ستختفيالاختلافات بين النظرة الفلسفية والبحث العلمي، وسيتحد الذات والموضوع تماماً. وسيصبح الفاعل الفلسفي هو نفسه القانون العلمي، أي أن التاريخ والطبيعة سيتحدانوتتحقق الواحدية المادية الكونية في لحظة نهائية مطلقة في سبت التاريخ أي نهايته. ومن الواضح أن المشيحانية تحوَّلت هنا إلى عقيدة هيجلية علمانية.

وفيما يتصل بالسكان الأصليين، فهناك ما يشبه الصمت بشأنهم، وحينما تحدَّث هس عن الأعراق في أوربا، فقد تحدَّث عن اختلافها لا عن تفاوتها، ولكنه حينما انتقل إلى الشرق فإنه يؤكد التفاوت فيما بينها حتى يُكسب مشروعه الصهيوني الشرعية الغربية الإمبريالية اللازمة. فاليهود سيجلبون الحضارة للمتخلفين وعليهم أن يعملوا على تثقيف القطعان العربية المتوحشة والشعوب الأفريقية وأن يجعلوا القرآن والإنجيل يتحلقان حول التوراة.

وقد سـمع هس، قبل نشر كراسـته، عن كتـابات كاليــشر فنوَّه بها وبيَّن أنها علامة على البعث القومي الجديد، كما كان يرى ذلك في الحسيدية (فرَفْضُها الاندماج علامة على حيوية اليهودية الحديثة).

وقد وصـف الزعيم الإصلاحي أبراهـام جايـجر كتابات هـس بأنها "ليست الولادة لعصر جديد، بل القبر المفتوح لعهد مضى". وقد ساهم هس في بعض الأعمال التمهيدية للاستيطان، فاشترك في تحقيق مشروع المدرسة الزراعية قرب يافا والذي تبنته الأليانس.

وقد تُوفي هس عام 1875، ونُقلت رفاته إلى إسرائيل. وإلى جانب الدراسات التي أسلفنا الإشارة إليها، كَتَب هس في الاشتراكية وله كتاب المادية الدينامية يضم آراءه العلمية المقتبسة عن النظرة الحيوية.

أهارون جوردون (1856-1922)

Aharon Gordon

أحد مفكري الصهيونية العمالية وأحد أعمدة الاستيطان الصهيوني في فلسطين. وُلد في بودوليا (روسيا) في بيئة زراعية تركت أثرها العميق فيه، وقد تلقَّى تعليماً دينياً ثم علمانياً، وعمل محاسباً حتى عام 1903. وفي تلك الفترة، فَقَد إيمانه باليهودية وبحركة التنوير، وتأثر بأفكار تولستوي والحركة الشعبوية الروسية، وتبنَّى رؤية آحاد هعامالصهيونية ووثنيته اللادينية. وتعرَّف خلال ذلك إلى جماعة أحباء صهيون وأصبح من أتباعها المتحمسين. وحينما بيعت الضيعة التي كان يعيش ويعمل فيها عام 1904، هاجر إلى فلسطين حيث اشتغل عاملاً زراعياً يدوياً في المستوطنات اليهودية هناك (وكان عمره آنذاك 48 سنة على عكس الأكثرية الساحقة من مهاجري الهجرة الثانية). أنجب جوردون سبعة أطفال لم يبق منهم سوى اثنين. وقد حاولت أسرته أن تُثنيه عن عزمه على الاستيطان ولكنه نجح في إحضارها إلى فلسطين إلا ابنه الأكبر الذي عاد إلى حظيرة الدين اليهودي وانفصل عن أبيه. وفي عام 1909، نشر جوردون في مجلة العامل الفتي مجموعة من المقالات يشرح فيها أفكاره وهي مجلة جماعة عمالية معارضة لجماعتي عمال صهيون واتحاد العمل.

ينطلق جوردون من نقد عميق للجماعات اليهودية ولليهودية التي قضت تاريخها معزولة عن الطبيعة، مسجونةً داخل أسوار المدينة، ففقدت حب العمل. فالتلمود يقول إنه عندما ينفذ اليهود إرادة الإله سيقوم الآخرون بتنفيذ أعمالهم نيابةً عنهم، وهكذا تحوَّل اليهود إلى شعب طفيلي ميت. وإلى جانب هذا، فَقَد اليهود أيضاً مقومات الشخصية القومية المستقلة. فهم طفيليون لا في العمل المادي وحسب وإنما في المنتجات الثقافية كذلك، فهم يعتمدون على الآخرين مادياً وروحياً. إن الجماعات اليهودية في العالم سلبية في تَلقِّيها واستهلاكها حضارة الآخرين، فكل الشعوب تعيش من ثمرة عملها إلا اليهود. والحضارة كما يرى نتاج عملية تَطوُّر طبيعية لم يساهم فيها اليهود. ولذا، فإن اليهود المندمجين في حضارة غير يهودية سيكتسبون هوية غير يهودية جديدة ويتحولون بذلك إلى أشخاص غير طبيعيين ناقصين ومنشطرين داخلياً.

والحل الذي يطرحه جوردون هو الحل الصهيوني، أي إسقاط اليهودية كدين وتحويل اليهود إلى مادة استيطانية، ولكنه يضيف إلى هذا المشروع ديباجته الخاصة. يذهبجوردون إلى أن اليهود يوجد أمامهم طريقان لا ثالث لهما: إما الاستمرار في حياة المنفى المريضة أو الخوض في طريق الحياة القومية الصحيحة، والواقع أن اختيار أحدهما يعني استبعاد الآخر. ولذا، يقترح جوردون على الرواد الصهاينة في فلسطين أن يكونوا آخر اليهود وأن يصبحوا رواد أمة عبرانية جـديدة تتكـون من رجــال ونساء تربطهم علاقة جديدة بالطبيعة. وهو يدعو إلى تصفية الدياسبورا (الجماعات اليهودية) تماماً. وإن تم الاحتفاظ بهم، فيجب أن يكونوا بمنزلة المستعمرات في علاقتهم بالوطن الأم، يزودونه بالمادة البشرية المطلوبة والدعم المالي والسياسي.

وينطلق جوردون من إيمان بالواحدية المادية الكونية، ولذا فهو يرى أن ثمة وحدة كونية بل تماثلاً كاملاً بين الإنسان والطبيعة. غير أنه إذا كان الإنسان مجرد جزء عضوي من الطبيعة، فإن العقل الإنساني يفقد أهمـيته (فالعقل مركز الذاكرة ووسيلتنا للوصول إلى المعرفة التاريخية). بل إن العقل ـ حسب تصوُّر جوردون ـ يصبح حينئذ مصدر اغتراب الإنسان عن مصادر حياته، لأن المعرفة العقلية تقف على طرف النقيض من الحياة الكونية (وهنا يتضح تأثير نيتشه العميق). وإذا كان العقل هو مصدر اغتراب الإنسان، فإن المعرفة الحدسية هي التي تقلِّل غربته، وهي التي تجعله قادراً على الامتزاج بالطبيعة وبالقوة الكونية. إن حياة الإنسان مرتبطة بالحياة الخفية للكون (كما كان يزعم القبَّاليون). لكن الإنسان الذي ينبغي أن يعود جزءاً من الطبيعة عليه أن يتخلى عن العقل وعن أية حدود تفصل بينه وبين الطبيعة والقوة الكونية التي تسري فيها وفيه، وعليه أن ينغمس في تجربة دينية صوفية حلولية. وهنا نجد أن الدين لا يعلو على الطبيعة وإنما هو جزء لا يتجزأ منها. ونحن، هنا، نجد الثالوث الحلولي وقد تحوَّل إلى ثالوث عضوي: فمن الإله والإنسان والطبيعة ننتقل إلى قوة الكون التي تسري في كلٍّ من الإنسان والطبيعة وتُوحِّدهما.

هذا الحديث الرومانسي عن الطبيعة والكون يُخفي كل المفاهيم الصهيونية الأساسية، فهو يعني أولاً رفض الدين اليهودي، فالحياة الطبيعية الجديدة هي بالنسبة لجوردون بمنزلة الدين لليهودي الورع المخلص، أي أنه سيُسقط المثل الدينية ويتبنَّى المثل الإثنية المطلقة المكتفية بذاتها، أي أنها حلولية موت الإله حيث تصبح الذات الإثنية هي العبد والمعبود والمعبد. ويقول في تعريفه العامل الكوني: إنه الانتماء العرْقي، وهو مجموعة من القوى العقلية والجسدية التي تؤثر في شخصية كل فرد من أفراد مجموعة هذا الجنس. والواقع أن هذا التعريف هو نفسه الفكرة الجرمانية والسلافية للشعب العضوي. ولذا، فهو يؤكد أن هذا العنصر الكوني لا يمكن أن يتحقق بالنسبة لليهود إلا في فلسطين حيث يرتبط الدم بالتربة، أما في المنفى "فالذات العرْقية تنكمش على نفسها بدون أي مصدر للحياة".

ثم نأتي أخيراً للمفهوم المحوري، مفهوم دين العمل، وهي فكرة تستند إلى بعض أفكار الشعبويين الروس، كما أن لها جذوراً في الفكر الحسـيدي وتراث القبَّالاه وبالوضع الاقتصادي في منطقة الاستيطان، وقد أضفى جوردون عليها غلالة عصرية لتصبح إطاراً جيداً للمشروع الصهيوني. إن دين العمل عند جوردون إن هو إلا وسيلة من وسائل العودة للطبيعة الكونية والاتحاد بها، فعن طريق العمل اليدوي يُنشئ الإنسان علاقة عضوية مع الطبيعة (مثل علاقة الرسام بالصورة وليس علاقة المشتري بها) ويصبح العمل الزراعي (وحَرْث الأرض بالذات) عـملاً روحـانياً وقيمـة أخــلاقية في حد ذاته. ولكن الأساسات الصهيونية توجد وراء الحديث الكوني، إذ يقول جوردون إن حياة الإنسان الإبداعية والأخلاقية لا يمكن أن تتم على نحو فردي، بل لابد أن تتم على نحو قومي. فالقومية هي العنصر الكوني فينا، والطبيعة خلقت الشعب كحلقة وصل بين الكون والفرد، إذ أن الشعب هو جماعة طبيعية تُجسِّد علاقات كونية حية. والبعث القومي، حسب تصوُّر جوردون، لا يمكن أن يتم عن طريق إعادة التنظيمالاجتماعي ولا من خلال الحركات الجماهيرية وإنما من خلال جماعة متحدة بشكل عضوي وذات علاقة عضوية بالطبيعة. فالصهاينة لم يأتوا للصراع الطبقي وكُره الطبقات ولا من أجل الاشـتراكية أو باسـمها وإنما أتوا باسـم الشعب العضوي اليهودي. ولذا، فإن مضمون الصراع قومي صرف، بالمعنى العضـوي للكلمة الذي يسـتبعد الآخرين تماماً. وإن كان ثمة اشتراكية، فهي اشتراكية عضوية (إن صح التعبير) مقصورة على اليهود وحدهم. لكل هذا، يرى جوردون أن البعث القومي اليهودي لن يتم إلا عن طريق دين العمل الجماعي على الأرض المملوكة ملكية جماعية حيث يعود الشباب اليهودي للأرض المقدَّسة ليحرثوها ويزرعوها بأنفسهم دون أن يسمحوا لأي عامل عربي بأن يدخلها لأن العامل اليهودي أو العبري سيعمل بشكل ذاتي في مزارعه أو مصانعه الخاصة. أما إذا عاد ليعمل في مصانع أو مزارع الآخرين دون استقلالية، فإنه سيفشل في تحقيق أهداف المشروع الصهيوني. والعمال اليهود، إلى جانب ذلك، لن يعيدوا بَعْث أنفسهم وتطبيعها وغَسْل أدران المنفى عنها إن لم يعملوا بأنفسهم، فالشخصيـة اليهـودية التي أحضـروها معـهم لابد أن يتم التخلص منهـا.

وإن لم يعمل اليهود بأنفسهم، فإنهم لن يحلوا محل الغريب. ولو حصل الصهاينة على كل سندات ملكية الأرض التي يطالب بها الصهاينة الدبلوماسيون (الاستعماريون)، أو براءة الاستيطان الدولية التي يطالب بها الصهاينة السياسيون، فإن البلد مع هذا سيظل في يد من يعمل فيه، أي في يد العرب. ولذا، لا ينبغي الاكتفاء بشراء الأراضي من العرب وإنما يجب إحلال اليهود محلهم، فبدون العمل العبري سيظل المُستوطَن الصهيوني في أيديهم. ولهذا، يرى جوردون أن الطبقة العاملة اليهودية هي عماد المشروع الصهيوني. ولا شك في أن منطق جوردون الرومانسي في مجال تأليه العمل لعب دوراً كبيراً في تجنيد شباب اليهود الثائرين في أوربا، ولكن جوردون في مَعرضمواجهته مع العرب لا يكتفي بالمنطق الرومانسي وإنما يتحدث كذلك عن حق اليهود الأبدي في الأرض الفلسطينية، وهو حق ينسخ كل الحقوق الأخرى، ثم يضيف: وخصوصاً أن العرب لم يخلقوا أي شيء طوال فترة استيلائهم على الأرض المقدَّسة، أي أنه ينظر إلى العربي من خلال مقولة العربي المتخلف كي يبرر الاستيلاء الصهيوني على الأرض.

وقد كان جوردون من أوائل من نظَّموا الإضرابات ضد المزارع اليهودية التي استأجرت عرباً، وكان من بين سكان مستوطنة داجانيا التي نظـمت إضـراباً وطـلبت عزل المــدير الذي عينته المنظمة الصهيونية. وقد استجابت المنظمة لمطالب المضربين وتمت إدارة المزرعة على أساس تعاوني وأخذت الحياة فيها شكلاً جماعياً، وكانت هذه بداية الحركة الكيبوتسية. وقد قضى جوردون آخر أيامه في داجانيا. وبرغم أنه لم يشغل أي منصب رسمي في الحركة الصهيونية، إلا أنه أثَّر فيها تأثيراً عميقاً.

جُمعت آثار جوردون في عدة مجلدات تحت عنوان كتبي . وقد أُطلق اسمـه على المتحـف الإقليمي للطـبيعة والزراعـة في داجانيا، كما سُمِّيت باسمه حركة جوردونياللشباب التي تنتمي لحركة العامل الفتي والتي نشطت بين الحربين العالميتين.

نحمــن ســيركين (1868-1924(Nachman Syrkin

أحد مفكري الصهيونية العمالية. وُلد في روسيا لعائلة من الطبقة الوسطى عُرفت بالتدين، وتلقَّى تعليماً تقليدياً ثم دخل مدرسة روسية ودرس بعد ذلك الاقتصاد في ألمانيا. انضم في شبابه لجماعة أحباء صهيون، وحضر المؤتمر الصهيوني الأول (1897) ولكنه ظل من دعاة الصهيونية الإقليمية حتى عام 1909.

رجع إلى أحضان المنظمة الصهيونية ممثلاً عن حزب عمال صهيون. وقد هاجر إلى الولايات المتحدة حيث استقر وكتب العديد من المقالات، كما أصدر مجلات باللغتين اليديشية والعبرية للدعوة للأفكار الصهيونية، ونشر رسالته للدكتوراه عام 1898 في كراس بعنوان المسألة اليهودية ودولة اليهود الاشتراكية. وقد ساهم سيركين خلال الحرب العالمية الأولى في تأسيس المؤتمر اليهودي الأمريكي وفي الدعوة له، وأيد فكرة الفيلق اليهودي وسافر كعضو في لجنة الوفود اليهودية إلى مؤتمر السلام في فرنسا عام 1917.

تبنَّى سيركين الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة وأدخل عليها ديباجة اشتراكية، فطرح رؤية للتاريخ اليهودي تستند إلى افتراض أن اليهود كانوا يكوِّنون دولة مستقلة ذات تاريخ مستقل. ويبدأ التاريخ اليهـودي سيرته الحـزينة من المنفى حين وجـد اليهــود أنفسهم في الجيتو، ولكنهم مع هذا حافظوا على هويتهم القومية المستقلة داخله وهو ما أدَّى إلى ازدواج الشخصية اليهودية. فهناك شخصية للخارج يتعامل اليهودي من خلالها مع الأغيار، وأخرى للداخل يتعامل من خلالها مع اليهود (وازدواجية المعايير هي إحدى أهم سمات الجماعات الوظيفية(

ثم فُرض الانعتاق فجأة على اليهود، الأمر الذي أدَّى إلى اندماجهم وتنازلهم عن هويتهم القومية، وأصبح اليهود جزءاً من الحركة الليبرالية التي تدافع عن حقوقهم. ولكنالبورجوازية خانت الُمُثل الليبرالية بعد ذلك وتراجعت عنها، وزادت حدة الصراع الطبقي، الأمر الذي أدَّى إلى زيادة حدة كُره اليهود، وخصوصاً بين الفلاحين والطبقات الوسطى. فالفلاحون مهددون بالاختفاء من المجتمع الإقطاعي ويرون اليهودي طليعة المجتمع الجديد الذي يتهددهم. أما الطبقات الوسطى، فهي مهددة بالهبوط في السلم الاجتماعي، كما أنها تنتمي إلى طبقات الملاك ولكنها لا تملك شيئاً ولا حتى عملها، وهي طبقة لا شخصية لها. ولذا، فإنها برغم عدائها للرأسمالية تناضل نضالاً ثورياً يأخذ شكل كُره عنصري لليهود. والطبقة الحاكمة والكنيسة ورأس المال على استعداد لاسـتخدام هـذا الاتجـاه بين الفلاحين وأعضاء الطبقة الوسطى ولصالحهم، ومن هنا فإن معاداة اليهود كانت موجهة على الدوام من قبَل معظـم طبقات المجتـمع ضد الفـئات اليهــودية كافة وبدرجة واحدة.

وقد كان الحل الاشتراكي المنطقي يتمثل في أن ينضم اليهود للبروليتاريا التي ستُنهي الصراع الطبقي فتنتهي بالتالي ظاهرة معاداة اليهود. وهنا يطرح سيركين عدة أسباب صهيونية ذات ديباجة اشتراكية ليبيِّن استحالة هذا الحل:

1 ـ لاحَظ سيركين أن الأحزاب الاشتراكية لا تأخذ الظروف الخاصة بالمسألة اليهودية بعين الاعتبار ولذلك فهي عاجزة عن أن تطرح حلولاً لها. بل إن بعض الأحزاب الاشتراكية تتبنى مواقف معادية لليهود.

2 ـ يُورد سيركين أسبابه الأخرى لطرح الصهيونية (أو «الاشتراكية اليهودية» كما يسميها) كحل وحيد للمسألة اليهودية وكلها تدور حول فكرة الخصوصية أو التفرُّد اليهودي.

3 ـ ينتقد سيركين الاشتراكيين اليهود الذين تبنوا المُثُل الاندماجية أو الأممية كما ينتقد طرحهم لهويتهم القومية. ولكنه، حين يحاول تحديد هذه الهوية القومية اليهودية، يلاحظ أن اليهود سُلبَت منهم الخصائص القومية الظاهرية، فهم مشتتون يتحدثون جميع اللغات واللهجات ويعيشون بدون ملكية وطنية، ثم يضيف أنهم مع هذا كانوا (في الماضي) أمة مميَّزة "كان مجرد وجودها سبباً كافياً لأن تكون".

4 ـ يذهب سيركين إلى أن الوجود اليهودي هو رمز الضمير الإنساني، وبذا تصبح القومية اليهودية قيمة في ذاتها.

5 ـ يرى سيركين أن اليهودي هو البروليتاري الأزلي. ومن هنا، فإن الاشتراكية اليهودية ليست معادلة للاشتراكية المسيحية وإنما هي معادلة للاشتراكية البروليتارية، والخصوصية اليهودية هي في جوهرها اشتراكية. ولذا، فإن الصهيونية بطبيعتها هي حركة احتجاج يهودية ثوريـة كبرى يقـوم بها كل اليهود، ولذا فهي ملك للجميع. ومن وجهة نظره، يؤكد سيركين أن الصهيونية لا تتعارض مع الصراع الطبقي وإنما تتجاوزه وحسب. فهي ستفيد الطبقة العاملة أساساً ولكنها تتبنَّى الطبقات الأخرى كافة، وخصوصاً أن التاريخ اليهودي يجسد كثيراً من القيم الثورية.

ثم يتوجَّه سيركين إلى طبيعة المجتمع الصهيوني الاستيطاني ليبين أن ثمة ظروفاً خاصة تجعل من الضروري أن يتخذ هذا المجتمع شكلاً اشتراكياً:

1 ـ يُشير سيركين إلى وضع المهاجرين اليهود الطبقي فهم بقالون وباعة متجولون وحرفيون غير قادرين على التكيف مع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الجديدة في روسيا، ولذا فإن هذه الجماهير تفكر في الهجرة بحثاً عن عمل وعن بناء اقتصادي اجتماعي جديد. ولجذب هذه الجماهير، لا يمكن أن يُطرَح عليها مجتمع مَبني على التفاوت لأن هذا سيعني عقداً اجتماعياً للعبودية الاجتماعية الجديدة. وبالتالي، لابد أن يكون المجتمع الجديد الذي يطمحون إليه مبنياً على المساواة، وخصوصاً أن هذه الجماهير كانت متجهة إلى الولايات المتحدة حيث توجد الفرص الاقتصادية النادرة ونوع من الحراك الاجتماعي الأكيد.

2 ـ ستسود دولة اليهود الاشتراكية ثقافة لا دينية تنبع من الإثنية اليهودية، ولذا فستكون بمنزلة الحصن الذي يحمي القومية اليهودية المهـددة بالتآكل في المجتـمع الاشــتراكي والغــربي باتجاهاته الاندماجية. إن الثقافة البروليتارية اليهودية ستُمثِّـل تحدياً لليهودية الإصلاحــية (ومع هذا، لم يذكر سـيركين شــيئاً عن بعث اللغة العبرية). وهذه الثقافة العمالية ستربط بين الطموح العالمي لدى العمال ورؤى الأنبياء اليهود في العهد القديم.

3 ـ يضيف سيركين إلى كل هذه الأسباب المؤدية إلى «حتمية» الصهيونية العمالية سبباً أخيراً هو أن اليهود المتأثرين برؤية الأنبياء لم يُصلُّوا طيلة حياتهم من أجل العودة ليؤسِّسوا دولة مثل كل الدول، أي أن حتمية الاشتراكية الصهيونية تضرب بجذورها في أحلام اليهـود عبر التاريـخ وتصبـح مثل العهـد مع الرب علامة تميُّز وانفصال.

4 ـ يبين سيركين أن طبيعة المشروع الاستيطاني الصهيوني تتطلب أن يتم هذا المشروع بالطريقة الاشتراكية الجماعية لأن مشروعاً ضخماً لتغيير اقتصاد فلسطين وتركيبها السكاني يتطلب وَضْع خطط بعيدة المدى، والمشروع الحر بطبيعته لا يمكنه أن يقوم بذلك.

5 ـ ويتطلَّب هذا المشروع الضخم تمويلاً كبيراً لا يستطيع رأس المال اليهودي الصغير أن يقوم به. ولذا نادى سيركين بما سماه «التراكم الاشتراكي»، أي أن تقوم المنظمة الصهيونية بتمويل المشروع الاستيطاني عن طريق تجميع رأسمال قومي، وتظل ملكية الأراضي ملكية عامة وتُوظَّف الأموال لا للربح وإنما للاستثمار الاجتماعي وعلى أساس التعادل.

6 ـ ثم يقدم سيركين ديباجة اشتراكية أيضاً للطبيعة الإحلالية للمشروع الصهيوني باعتباره مشروعاً استيطانياً غربياً أبيض، فدولة يهودية رأسمالية تعني أن آليات السوق والعرض والطلب ستتحكم فيها، الأمر الذي سيؤدي إلى انخفاض الأجور " إلى درجة تجعل قبول أي يهودي أوربي لها مستحيلاً "، ولذلك سيقوم العمال من المواطنين الأصليين (أي العرب) بملء الفراغ، وسيقضي هذا على الجانب الإحلالي من المشروع الصهيوني.

7 ـ يربط سيركين بين حركة التحرر القومي والاشتراكية، وبالتالي بين الصهيونية والاشتراكية، ويرى أن الصهاينة سيشكلون حركة هجرة ذات طابع تقدُّمي وسيتصلون بالحركات القومية المماثلة بين الشعوب غير الإسلامية في الدولة العثمانية التي يجب تقسيمها على أسس قومية بحيث تكون فلسطين من نصيب اليهود. كما يرى أن "إرتس يسرائيل" قليلة السكان ويمكن تفريغها من سكانها حتى يتسنى توطين اليهود الذين تود الدول الغربية التخلص منهم. وإذا قاوم العرب عملية التفريغ فسيكون هذا أكبر علامات تخلُّفهم ورفضهم الوعي البروليتاري ورفضهم أيديولوجيا تقدمية اشتراكية، الأمر الذي يعني أحقية نقلهم.

وبرنامج سيركين هو نفسه الصيغة الصهيونية الأساسية مع إضافة الديباجة الاشتراكية، ذلك أن قبول ظاهرة معاداة اليهود وحل المشكلة اليهودية عن طريق الاستعمار، وتفريغ أوربا من يهودها، وتفريغ فلسطين من عربها، والاعتماد على الأثرياء اليهود، والتحالف مع القوى الإمبريالية وضرورة اللجوء للعنف، وغير ذلك من الثوابت، موجود بعد إضافة ديباجات اشتراكية وإثنية.

وقد قام سيركين بزيارة فلسطين في العشرينيات، وكانت المقاومة العربية للغزوة الصهيونية قد بدأت، وقبل موته في نيويورك سمع عن الإضرابات العنيفة التي وقعت عام 1924. وقد أثَّر فكر سيركين في كثير من الصهاينة الاشتراكيين والأحزاب الصهيونية العمالية.

جوزيــف ترومبلــدور (1880-1924(Joseph Trumpeldor

زعيم صهيوني أصبح رمزاً للجيل القديم من الصهاينة الرواد المقاتلين الذين جاءوا إلى فلسطين. كان أبوه جندياً في الجيش الروسي وقد التحق جوزيف بمدرسة دينية قبل أن يدرس طب الأسنان. وأثَّرت فيه أفكار تولستوي، وامتزجت بالأفكار الصهيونية حيث بدأت تتبلور لديه فكرة المستعمرات الصهيونية المسلحة في فلسطين. وقد جُنِّد في الجيش الروسي عام 1902، وفَقَد ذراعه اليسرى في الحرب الروسية ـ اليابانية، ورُقِّي وحاز عدة أوسمة ثم أُعيد إلى الجبهة بناء على طلبه فأسره اليابانيون وفي الأسر قام بتنظيم مجموعة صهيونية من الأسرى. وقد درس ترومبلدور الزراعة ثم القانون، وأخذ في تنظيم مجموعة من الصهاينة في أوكرانيا عام 1911 حيث قرروا الهجرة إلى فلسطين. عمل في مستوطنة داجانيا ثم حضر المؤتمـر الصهـيوني الحادي عشـر (1913). وعند عــودته إلى فلسطين، رحَّلته السلطات التركية إلى الإسكندرية حيث شارك في تكوين فرقة البغالة الصهيونية وأصبح نائباً لقائدها. وبعد اشتراك هذه الفرقة في القتال مع البريطانيين، سافر مع جابوتنسكي إلى لندن من أجل تكوين الفيلق اليهودي. وفي منتصف عام 1917، سافر إلى روسيا لإقناع السلطات هناك بتكوين قوة عسكرية يهودية تُرسَل للقوقاز وتقاتل هناك حتى تصل إلى فلسطين. وبعد نجاح مبدئي، فشلت هذه المهمة وأُلقي القبض عليه فتحوَّل إلى تكوين حركة الرائد في روسيا. وفي 1919، سافر إلى فلسطين حيث عرض على أللنبي إلحاق قوات يهودية قوامها 10 آلاف جندي بالقوات البريطانية، غير أن عرضه رُفض. وكان قد اقترح من قبل غزو فلسطين بجيش قوامه 100 ألف يهودي! وقد أسَّس مكتباً للاستعلامات لقاعدة اليهود القادمين من روسيا وشارك في الدفاع عن المستعمرات الصهيونية في الجليل الأعلى حيث قتله العرب عام 1920. وقد جاءت حركة بيتار المسماة باسمه (بريت ترومبلدور) بعد ذلك لتركز على النواحي العسكرية الصهيونية في فكره. ولا تزال منظمات الشباب الصهيونية ترفعه إلى مرتبة المثل الأعلى.

دوف بوروخــوف (1881-1917(Dov Borochov

أهم منظري الحركة الصهيونية العمالية ومؤسس حركة عمال صهيون وزعيمها. وُلد في روسيا وتلقى تعليماً علمانياً، وكانت نشأته في مدينة كان يُنفَى إليها الثوريون الروس، وكان أبوه عضواً في جمعية أحباء صهيون، الأمر الذي ترك أثراً عميقاً فيه، فقد ظل طوال حياته يحاول الجمع بين الصيغة الصهيونية الأساسية والديباجات الاشتراكية. وكان عضواً في الحزب الاشتراكي الديموقـراطي، ولكنه اســتقال عام 1906 ليُكوِّن حزب عمال صهيون. وفي العام نفسه، نشر بوروخوف مقاله الشهير "برنامجنا". كما وضع برنامج الحزب بالاشتراك مع إسحق بن تسفي (وهذا الحزب هو أول حزب صهيوني يصل للصيغة الصهيونية التي تجعل الاشتـراكية الأداة الوحيدة للاستيطان). وقد قُبض عليه عام 1907، وحينما أُفرج عنه ذهب إلى لاهاي حيث أسَّس الاتحاد الدولي لأحزاب عمال صهيون، وشغل منصب الأمين العام للاتحاد حتى وفاته. وقد تَنقَّل في أنحاء أوربا داعياً لصهيونيته ذات الديباجة الاشتراكية، كما شرح معظم أفكاره في كتاب الحركة العمالية اليهودية في أرقام (1918)، أجرى أبحاثاً في اللغة اليديشية ودراسات اجتماعية عديدة. وقد انتقل إلى الولايات المتحدة بعد اندلاع الحرب العالمية حيث قام بنشاط فعال لا في صفوف حزبه وحسب بل في صفوف المؤتمر الأمريكي اليهودي. وقد ساهم في تأسيس الفيلق اليهودي مع كلٍّ من بن جوريون (العمالي) وجابوتنسكي (اليميني)، وظل طوال حياته يتعاون مع كل الصهاينة بغض النظر عن انتمائهم الطبقي أو العقائدي.

وعندما قامت ثورة كيرنسكي، عاد بوروخوف ليشارك في مؤتمر الأقليات متخذاً موقفين متعارضين يعبِّران عن التناقض المبدئي في تفكيره. ففي أغسطس 1917، طالب في مؤتمر لحزب عمال صهيون في روسيا بتوطين اليهود في فلسطين على أُسس اشتراكية! ولكنه في سبتمبر من العام نفسه، قدَّم بحثاً أمام مؤتمر الشعوب في كييفعنوانه «روسيا: كومنولث الأمم».

ويتلخص إنجاز بوروخوف الفكري في أنه زاوج بين الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة وديباجات اشتراكية ثورية مُستمدة من الأفكار اليسارية السائدة في شرق أوروبا بين صفوف المثقفين والعمال. ويُقسِّم بوروخوف البشرية من وجهة النظر الاجتماعية والاقتصادية إلى أمم ثم طبقات، ويرى أن الأمم ككيانات حضارية عضوية تتسم بقدر عال من الثبات وتوجد قبل الطبقات. ولذا، فإن الأمم باقية أما الطبقات فتتغير. وقد تعرَّضت الأمم إلى تأثيرات وتغيرات شتى، والأمة العضوية هي النقطة المرجعية النهائية والقيمة الحاكمة الكبرى وهي تظل دون تغيُّر يُذكَر في أساسياتها الحضارية.

ويفسر بوروخوف مسألة انقسام البشر إلى أمم وطبقات على أساس وجود علاقات إنتاج تُقسِّمهم إلى طبقات، وظروف إنتاج تُقسِّمهم إلى أمم. وظروف الإنتاج هي الاختلافات الجغرافية والأنثروبولوجية والتاريخية بين المجموعات البشرية المختلفة. كما أن عملية تطوُّر قوى الإنتاج نفسها يمكن أن تأخذ عدة أشكال تبعاً لاختلافات ظروف الإنتاج.

يَنتُج عن هذا أن ثمة أمماً تخضع للاضطهاد، فهي لا تسيطر على ظروف الإنتاج الخاصة بها. وسيُلاحَظ في هذه الحالة أن الرموز القومية والجوانب الثقافية الخاصة بهذه الأمة ستكتسب، مستقلة، أهمية بالغة، ويُوجِّه جميع أعضاء هذه الأمة جهودهم نحو تقرير المصير (أي السيطرة على ظروف الإنتاج الخاصة بهم، وهذا طرح عمالي لإشكالية العجز بسبب انعدام السيادة) بدلاً من الصراع الطبقي (أي التناقضات داخل علاقات الإنتاج). وكل طبقة، داخل الأمة، لها اهتمامها الخاص بظروف الإنتاج، وخصوصاً عنصر الأرض (فهي القاعدة الإستراتيجية للصراع الطبقي). حينئذ تظهر حركة قومية ثورية تستوعب التركيب الطبقي للمجتمع ولكنها لا تَحجُب بالضرورة الوعي الطبقي، ويسميها بوروخوف «قومية الطبقة التقدمية الحقيقية» أو «قومية البروليتاريا الثورية المنظمة للشعوب المضطهدة»، وتطرح برنامج الحد الأدنى الذي يهدف إلى ما يلي:

1 ـ تأكيد ظروف الإنتاج الطبيعية للأمة.

2 ـ تأمين قاعدة طبيعية لعمل البروليتاريا وللنضال الطبقي. وبالتالي يظهر تركيب طبقي صحيح وصراع طبقي سليم، وبعدها تقوم البروليتاريا بنضالها الثوري على أساس سليم داخل التشكيل القومي الجديد.

ثم ينصرف بوروخوف لتعريف المسألة اليهودية داخل هذا الإطار، فيقرر أن ما يميِّز اليهود كشعب (أو نصف شعب أو شبه شعب) هو أنهم شعب «لا أرض له». وكمايرى بوروخوف، فإن هذا الوضع الشاذ نتج عنه ما سماه بنظرية «الهرم المقلوب»، فكل شعب يتكون من فئات اجتماعية وطبقات تأخذ شكل الهرم الذي يتكون من قاعدة عريضة تساهم في العمليات الإنتاجية الأساسية. وكلما بَعُدت العمليات الاقتصادية عن هذه العمليات الأساسية، قلَّ عدد العاملين فيها حتى نصل إلى قمة الهرم. ويجد بوروخوف أن هذا الهرم الاجتماعي مُشوَّه تماماً عند اليهود إذ يوجد في صفوفهم عدد كبير من المحامين والأطباء والمفكرين وغيرهم ممن ينتمون إلى الطبقة الوسطى والعمليات الإنتاجية الهامشية، مع قلة قليلة (إن وُجدت) من الفلاحين بالإضافة إلى بروليتاريا صغيرة الحجم نسبياً. وكل هذا يرجع إلى عدم وجود ظروف أو أحوال إنتاج خاصة باليهود، ولذا فهم يظلون بمعزل عن بعض قطاعات الإنتاج التي تظل حكراً على الأمة التي تستضيفهم. وبظهور الرأسمالية وازدياد التطور الصناعي والتنافس الرأسمالي، بدأت الجماهير اليهودية تتحول من حرفيين إلى بروليتاريا. ولكن، بسبب وجودهم المنعزل، وبسبب ظاهرة معاداة اليهود المنتشرة في صفوف البورجوازية والبــروليتاريا المسـيحية، كـان العامـل اليهـودي لا يجـد عمـلاً إلا عنـد الرأسمـالي اليهــودي الذي كان يستثمر رأسماله عادةً في الصناعات الاستهلاكية (لأسباب أوضحها بوروخوف(

ولكل ما تقدَّم، فإن تحوُّل الحرفيين اليدويين اليهود إلى بروليتاريا صناعية كان يتم ببطء شديد وأحياناً كان يتوقف كليةً. ونظراً لأن البروليتاريا اليهودية كانت تعمل فيالصناعات الاستهلاكية فحسب، فلم يكن بإمكانها أن تشل الاقتصاد إن قامت بإضراب عن العمل. وبالتالي، لم يكن بإمكانها الدفاع عن نفسها أو المطالبة بحقوقها.

واستجابة لهذا الوضع الشاذ، طُرحت حلول عديدة من بينها الاندماج والديموقراطية السياسية أو الثورة البورجوازية. ولكن بوروخوف بيَّن أنها عملية مركبة تؤدي إلى إعتاق اليهود في المرحلة الأولى، ثم تزيد من حدة المنافسة القومية في مرحلة لاحقة الأمر الذي يزيد حدة معاداة اليهود. ولهذا، رفض بوروخوف الاندماج كحل للمسألة اليهودية.

ثم يقدم بوروخوف تحليله لاستجابة الطبقات اليهودية المختلفة للمسألة اليهودية وللحل الصهيوني:

1 ـ طبقة البورجوازية الكبيرة في الغرب: وهي طبقة لا تَحصُر نفسها في السوق المحلية، وليست لها أية مشاعر قومية، فهي ذات نظرة عالمية ويمكنها حل مشكلتها عن طريق الاندماج. ومع هذا، يُشكِّل تَدفُّق يهود شرق أوربا الفقراء على غرب أوربا مصدراً كبيراً لقلقهم، فهو يهدد عملية الاندماج التي يطمح إليها أعضاء هذه الطبقة بل يهدد مواقعهم الطبقية ومكانتهم الاجتماعية. وهذه الطبقات الغنية القوية تمقت الجماهير اليهودية الضعيفة ولكن معاداة اليهود تُذكِّرها بقرابتها لها، وهو ما حَوَّل المسألة اليهودية بالنسبة لها إلى عبء مفروض عليها. ولذا، فهي تبذل جهداً غير عادي لتَجد مخرجاً أميناً يبعد هذه الجماهير عنها. وتبحث عن حل يهودي للمسـألة اليهــودية كوسيلة للتخلص من الجماهير اليهودية. ولكل هذا، تكمن داخل صدر اليهودي الغربي المندمج نفسان: نفس الأوربي المعتز بنفسه، ونفس اخوانه اليهود الشرقيين (دون أن يكون هناك خيار في ذلك).

2 ـ يهود أوربا الشرقية من البورجوازيين الكبار: وهؤلاء مختلفون عن أقرانهم من أثرياء الغرب لأنهم يتأثرون بشكل أكثر مباشرة بحالة اليهود الراهنة.

3 ـ الطبقة الوسطى: وهي طبقة أكثر ارتباطاً بالدعوة القومية لأن مصالحها تعتمد على السوق التي تستطيع الجماهير اليهودية ارتيادها امتداداً للغة القومية والمؤسساتالثقافية، وعلى هذا، فإن هذه الطبقة تُعتبَر سنداً للصهيونية الإثنية وهي لذلك لا تبحث عن حل جذري بل تَقْبل الحلول الليبرالية، وتدافع عن الثقافة اليهودية بل عن الدولة اليهـودية. ولكنـها، ما دامت تحافظ على مواقعها الطبقية، تبقى خارج الدائرة اليهودية.

4 ـ البورجوازية الصغيرة المنهارة والبروليتاريا: وهذه طبقة معزولة وتبحث عن سوق يحررها من عزلتها، ومشكلتها هي "مشكلة شعب منفي يبحث عن مكان يجد فيه أمناً اقتصادياً"، أي أن هذه الطبقة وحدها هي الشعب العضوي المنبوذ الذي يشكل جوهر المسألة اليهودية.

من هنا كانت الهجرة اليهودية. وقد بدأت الجماهير اليهودية بالفعل تهاجر بأعداد كبيرة إلى الولايات المتحدة. ولكن الهجرة، كما قال هرتزل من قبل، لا تحل المسألة اليهودية، فهي تترك اليهود عاجزين في بلاد غريبة وهم يضطرون إلى التجمع لتسهيل عملية التكيف مع البيئة الجديدة. ولكن التجمع يعزلهم مرة أخرى ويعرْقل عملية التكيف ويفرض علىهم المحافظة على تقاليدهم الاقتصادية السابقة (ميراثهم الاقتصادي) ويتركزون فيها، ويتحولون بسبب ذلك إلى المراحل الأخيرة من الإنتاج وهو قطاع البضائع الاستهلاكية (أي أنهم يتحولون مرة أخرى إلى ما يشبه الجماعة الوظيفية). ومن ثم، فإنهم يظلون عاجزين عن الهيمنة على ظروف الإنتاج ويكونون أول ضحايا الأزمة الرأسمالية، ولذا فإن حاجة اليهود لتنمية قواهم الإنتاجية المستقلة تظل مسألة قائمة تتطلب حلاًّ.

ويقترح بوروخوف الحل، وهو في جوهره الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة حيث تتحول الهجرة إلى استعمار واستيلاء على الأرض. ولكن بوروخوف يضيف ديباجة اشتراكية إذ يصبح الاستيلاء على الأرض هو حصول الشعب اليهودي على قاعدة إستراتيجية وعلى ظروف إنتاج مقصورة عليه وحده وخصوصاً الأرض، الأمر الذي سيُمكِّنه من أن يتواجد في المستويات الدنيا من العملية الإنتاجية وأن يعيد الهرم المقلوب إلى وضعه الطبيعي على قاعدته. وهذا المطلب تشترك فيه كل الطبقات اليهودية من أعضاء الأمة اليهودية العضوية التي تعاني من عدم السيطرة على ظروف الإنتاج.

ثم يُورد بوروخوف المزيد من الأسباب الدالة على حتمية الحل الاشتراكي الصهيوني للمسألة اليهودية، أي ضرورة الاستيلاء على أرض واستعمارها حتى تشكل قاعدة للإنتاج. أما بالنسبة للاشتراكية، فيُورد بوروخوف أن المشروع الصهيوني يحتاج إلى قوى تقوم بتنظيم حركة الجماهير اليهودية المهاجرة وتوجيهها، وهو أمر مُلقى على عاتق البروليتاريا اليهودية. ولكنه مع ذلك كان يعترف بأن الهدف النهائي للصهيونية هدف بورجوازي، وهو إيجاد حكم سياسي إقليمي ذاتي، وإيجاد دولة يهودية يتم دمجها في المجتمع الدولي، كما أنه كان يدرك أن بناء الدولة لا يمكن أن يتم إلا بأموال بورجوازية وتنازلات سياسية ومساندة دولية (إمبريالية) لا يمكن إلا للبورجوازية اليهودية وحدها أن تحصل عليها. ولكنه، مع هذا، كان يجد أن ذلك يشكل خطوة نحو الاشتراكية، على اعتبار أنه سيُطبِّع ظروف الإنتاج والصراع الطبقي بالنسبة للطبقة العاملة اليهودية، كما أن دور العمال يمكن أن يتركز في حماية الدولة الصهيونية وفي محاولة فرض سمات تقدمية عليها.

ولكن، إذا كان المطلوب هو الأرض، فلماذا فلسطين بالذات (وكان بوروخوف من معارضي مشروع شرق أفريقيا)؟ يجيب بوروخوف عن هذا السؤال بديباجات اشتراكية مصقولة. فالعمال اليهود ـ حسب قوله ـ ينظرون إلى استعمار فلسطين ونمو البروليتاريا كظاهرتين متلازمتين ومرتبطتين إحداهما بالأخرى، فالوعي الطبقي "لعمالنا" لا ينطلق من المصالح الأنانية الضيقة التي تتعارض مع مصالح الأمة في مجموعها، ولذا فهم طليعة الشعب اليهودي. ويضيف بوروخوف الأسباب التالية لضرورة الاستيلاء على أرض فلسطين دون أي أرض أخرى:

1 ـ هـذا البلد لا يمثـل أي إغـراء بالنسـبة للمهاجرين من شعوب أخرى، ولذا فهو لن يجذب سوى المهاجرين الكادحين من اليهود.

2 ـ يجب أن تكون الأرض التي سيتم الاستيلاء عليها مغرية بالنسبة للرأسمالي اليهودي الصغير والمتوسط بحيث يجد فيه وفي البلاد المجاورة سوقاً لمنتجاتها.

3 ـ يجب أن يكون هذا البلد متخلفاً شبه زراعي.

4 ـ يجب أن يكون البلد ذا مستوى ثقافي متدن وذا نمو سياسي منخفض.

ومن وجهة نظر بوروخوف، فإن فلسطين تتوافر فيها هذه المواصفات المادية، فهي بلد شبه زراعي، كما أن الشعب الذي يقطنها ليس ذا طابع اقتصادي أو حضاري مستقل فهم منشقون ومفتتون، كما أنهم لم يتبلوروا في كيان اجتماعي متماسك الأمر الذي يجعلهم غير قادرين على التنافس مع رأس المال اليهودي والطبقة العاملة اليهودية. كما يمكن استيعابهم وصهرهم في الشعب اليهودي، فبإمكانهم الوقوف أمام قوى التقدم الاشتراكية.

وفلسطين، علاوة على كل هذا، جزء من الإمبراطورية العثمانية وهو ما يعني أن المستوطنين اليهود سيدخلون حرباً تقوم ضد السلطان التركي المتخلف. وقد كان بوروخوف يتصور أن رأس المال اليهودي سيهاجر إلى " الأرض" بشكل عفوي، وذلك ليبني هناك صناعة راسـخة، ثم تهاجـر في أعقــابه آلاف مؤلفة من العمال اليهود.

وعملية الاستيطان هذه هي التي ستحل مرض "الطاقة الفائضة" عند اليهود، مأساة البروليتاريا اليهودية ومصدر عذابها. ويبدو أن موقف بوروخوف من الجماعات اليهودية في العالم يشبه موقف هرتزل، فهو يرى ضرورة إفراغ أوربا من فائضها، ولكن ذلك لن يؤدي بالضرورة إلى تصفية الدياسبورا تماماً. ولذا، نادى بوروخوف بأن يقوم الصهاينة بالصراع على جبهتين: في الداخل (أي في فلسطين) ضد الأتراك والسكان الأصليين، وفي الخارج لتحسين أحوال اليهود. وفي عام 1917، وفي خطبة له أثناء انعقاد مؤتمر الفرع الروسي لعمال صهيون في كييف، عمَّق بوروخوف الديباجات الإثنية، فأكد أهمية الجوانب الحضارية اليهودية مثل "العودة إلى أرض الآباء" و"أساس النشاط الخلاق" للبعث اليهودي.

ورغم أن كتابات بوروخوف كانت تتسم أحياناً بشيء من الصدق والذكاء، وخصوصاً إذا كانت في مجال الوصف المباشر، إلا أن معظم تحليلاته وتفسيراته غير دقيقة. وعلى سبيل المثال، لم يهاجر رأس المال اليهودي بشكل تلقائي إلى فلسطين وإنما كان يهاجر في فترات الركود الاقتصادي في أوربا وحسب (كما هو الحال دائماً مع رأس المال)، كما كان ينزح عن فلسطين حينما تتاح له فرصة اقتصادية أفضل خارجها. وهذه الهجرة لم تتم إلا بعد سقوط فلسطين في فلك الإمبريالية الإنجليزية، ولذا فقد كان رأس المال اليهودي جزءاً من رأس المال العالمي. ولم يهاجر العمال اليهود إلى فلسطين، كما تصور بوروخوف، فمعظم المهاجرين كانوا من البورجوازيين أو من البورجوازيين الصغار وهو ما اضطر كثيراً منهم إلى التحول إلى عمال. ومن الواضح أن التطور في روسيا وبولندا لم يكن نحو مزيد من انفصال الطبقة العاملة اليهودية، فاشتراك اليهود في الثورة البلشفية كان بنسبة عالية جداً تتخطى نسبتهم القومية. كما أن اليهود نجحوا في الاندماج في المجتمع الأمريكي رغم تركُّزهم في مستويات الإنتاج العليا وعدم سيطرتهم على ظروف الإنتاج الخاصة بالمجتمع الأمريكي. ولعل الخلل الأساسي في أطروحات بوروخوف يرجع إلى إصراره على وحدة اليهود القومية بدلاً من رؤيتهم كجماعات مختلفة تخضع لحركيات تاريخية وظيفية ودينية مختلفة.

ولعل أكبر خطأ وقع فيه بوروخوف هو استهانته بالوجود العربي في فلسطين واكتفاؤه بالإشارات العابرة إليه، وهو في هذا كان ضحية التجريد الصهيوني الذي كان دائماً يشير إلى «الأرض» (أو الأرض المقدسة أو إرتس يسرائيل) التي تنتظر ساكنيها الغائبين آلاف السنين وكأن التاريخ توقَّف كليةً. وقد قُدِّر لهذه المشكلة التي كان يُتصوَّر أنها هينة وعرضية أن تترك أثرها العميق لا في الدولة الصهيونية فحسب بل في يهود العالم جميعاً. بل يمكننا أن نقول إن طريقة حسم هذه المشـكلة العرضية هي التي سـتحدد مصير المسـتوطنين اليهـود في المنطقة

بيرل كاتزنلسـون (1887-1944(Berl Katzenelson

صحفي وزعيم صهيوني عمالي، وابن تاجر روسي. وقع تحت تأثير الجماعات اليهودية الاشتراكية الروسية منذ شبابه، وتأثر على وجه خاص بفكرة شذوذ الهيكلالاقتصادي لأعضاء الجماعات اليهودية. كان من دعاة الصهيونية الإقليمية، ولكنه هاجر عام 1909 إلى فلسطين ضمن أفراد الهجرة الثانية حيث اشتغل كعامل زراعي في عدة مستوطنات، كما ساهم في تأسيس عدة تنظيمات زراعية استيطانية (إيماناً منه بدين العمل الذي كان يبشر به صديقه جوردون). وقد أصبح من أهم الشخصياتالصهيونية بين المستوطنين وفي صفوف الحركة الصهيونية العالمية. وأثناء الحرب العالمية الأولى، انضم إلى الفيلق اليهودي. وقد أثَّر كاتزنلسون في بن جوريون ونال منه لقب «المعلم»، واشترك معه في تأسيس حزب اتحاد العمل ثم حزب الماباي فيما بعد. كما ساهم في إنشاء الهستدروت، وكان ممثلاً للهستدروت ولاتحاد العمل في عدة مؤتمرات محلية ودولية. رأس عام 1921 أول لجنة للهستدروت تتوجه إلى الولايات المتحدة، وشارك في تأسيس بنك العمال ومركز شباب الهستدروت، وأسس صحيفة دافار عام 1925، ورَأَس تحريرها حتى وفاته، كما ساهم في تأسيس دار النشر التابعة للهستدروت. وقد عارض اقتراحات التقسيم لإصراره على إقامة دولة يهودية خالصة على أرض إسرائيل (فلسطين). وكان كاتزنلسون يؤمن بأن الصندوق القومي اليهودي هو أهم عنصر في بناء المجتمع العمالي، وقد عُيِّن مديراً له.

وقد ساعد كاتزنلسون على الهجرة الإحلالية غير الشرعية، وقاوم الكتاب الأبيض الصادر عام 1939. وتعبِّر معظم كتاباته عن فكرة «الاستيطان الصهيوني الاشتراكي» حيث يحاول أن يمزج بين ما يُسمَّى «القومية اليهودية» وتقاليدها من جهة والاشتراكية من جهة أخرى (وذلك انطلاقاً من أفكار سيركين). وكان كاتزنلسون من أكبرالمدافعين عن التقاليد اليهودية، كما كان من الأصوات العمالية الأولى التي نادت بتنفيذ القوانين الخاصة بالطعام ويوم السبت، أي أنه كان يحاول المزج بين الصهيونيةالعمالية والصهيونية الإثنية العلـمانية والدينــية، وهـي الصيغة التي قُدِّر لها النجاح في نهاية الأمر. وقد نُشرت كتاباته في 12 جزءاً في الفترة 46 ـ 1960.

يتســحاق تابنكــين (1887-1973(Yetzhak Tabenkin

زعيم صهيوني عمالي، وأحد مؤسسي حركة الكيبوتس الموحَّد ومن أهم منظريها. وُلد في روسيا وتلقَّى تعليماً دينياً في طفولته ثم تلقَّى تعليماً علمانياً في وارسو وفيينا. استوطن فلسطين عام 1912 وكان من أوائل منظمي الزراعة المسلحة فيها وكان من مؤسسي الهستدروت (1920) والماباي (1930). وقد عارض تابنكين الاتفاق المبرم بين بن جوريون والتصحيحيين، كما عارض قرار التقسيم وطالب بأن يكون الاستيطان في كل إرتس يسرائيل. وحينما انقسمت الحركة العمالية عام 1944، كان تابنكين أحد مؤسسي حزب المابام. وكان عضواً فى كل مؤتمر صهيوني عُقد بعد الحرب العالمية الأولى حتى عام 1959. وبعد عام 1967، كان من المطالبين بأن تحتفظ إسرائيل بكل الأرض التي ضُمَّت وأن تصبح جزءاً لا يتجزأ من دولة إسرائيل. له عدة مؤلفات عن الكيبوتس.

حاييــم أرلوسوروف (1899-1933(Hayyim Arlosoroff

زعيم صهيوني وأحد قادة الحركة الصهيونية العمالية. وُلد في أوكرانيا حيث كان جده حاخاماً بارزاً، وانتقل مع والديه إلى ألمانيا عام 1905 حيث درس الاقتصاد في جامعة برلين وساعد في إنشاء جماعة العامل الفتي. وقد حاول أرلوسوروف مَزْج الأفكار الاشتراكية بالصهيونية في كتيب الاشتراكية الشعبية اليهودية (1919)، ولفت الأنظار إليه بتقديمه أفكاراً جديدة لتمويل المستعمرات الصهيونية. وقد انتقل أرلوسوروف إلى فلسطين عام 1924، ومثَّل صهاينة فلسطين في عصبة الأمم، وزار الولايات المتحدة في هذه الفترة وكتب عن الجماعة اليهودية هناك واتصل بجماعـات الطـلبة اليهـود الأمريكية كممثل للمنظمة الصهيونية العالمية. وقد انتُخب عضواً في اللجنةالتنفيذية للمنظمة ورئيساً للإدارة السياسية بها عام 1931، واشترك أرلوسوروف في عقد اتفــاق الهعفــراه بين المنظمـة الصهيونية وحكومة ألمانيا النازية لتسهيل هجـرة اليهـود الألمــان إلى فلسـطين. وفي نهــاية حياته، دعا أرلوســوروف إلى اتبـاع سـياسة متشــدِّدة في فلسـطين خشية ألا يتــم تحقــيق قيــام الدولة الصهيونية بسبب موقف بريطانيا المُتقلِّب وغير المأمون نتيجة ظروف الحرب العالمية الثانية. وقد قُتل عام 1933 بطريقة غامضة، فاتهم الصهاينة العماليون بعض الصهاينة التصحيحيين بقتله، فحُوكموا وأُدين أحدهم. غير أن الدفاع أصر على أن العرب هم الذين قاموا بالحادث. وقد تسبَّب الحادث في المزيد من الانشقاق في الحركة الصهيونية بين العناصرالصهيونية التصحيحية والعناصر الصهيونية العمالية. وقد ادعى التصحيحيون أن الحادث أُلصق بهم، وطالب مناحم بيجين بفتح باب التحقيق في الموضوع من جديد. وقد نُشرت أعمال أرلوســوروف بعد مـوته، وهـي تتضمن تحليلات سياسية واقتصادية وتأريخاً للاستعمار في العالم وقطعاً شعرية بالإضافة إلى مذكراته.

الباب الثانى عشر: الصهـيونية الإثنية الدينيـة

الصهيونية الثقافية

Cultural Zionism

«الصهيونية الثقافية» مصطلح شـائع في الأدبيات الصهيونية. وهـو، مثل كثير من المصطلحات الصهيونية، غير دقيق ويرادف مصطلح «الصهيونية الروحية».

وتذهب الصهيونية الثقافية إلى أن المشروع الصهيوني لابد أن يكون ذا بُعْد ثقافي إثني وروحي (بالمعنى العلماني للكلمة). ونقترح اصطلاح «صهيونية إثنية علمانية» بديلاً لهذا المصطلح، لأن الصهيونية الإثنية تجعل الإثنوس اليهودي (أي الشعب اليهودي أو روحه) بمنزلة اللوجوس أو المطلق الكامن في النسق.

الصهيونية الروحيـة

Sprititual Zionism

«الصهيونية الروحية» مصطلح شائع في الأدبيات الصهيونية، وهو مرادف لمصطلح «الصهيونية الثقافية». وهو أيضاً، مثله مثل معظم المصطلحات الصهيونية، غير دقيق. وتذهب الصهيونية الروحية إلى أن المشروع الصهيوني لابد أن يعبِّر عن روح الأمة اليهودية (أي إثنيتها). ولذا، فنحن نشير إليها بمصطلح «الصهيونية الإثنية العلمانية».

الصهيونية العلمانية

Secular Zionism

نستخدم أحياناً مصطلح «الصهيونية العلمانية» بدلاً من «الصهيونية الإثنية العلمانية» من قبيل الاختصار. وما نعنيه بطبيعة الحال هو المصطلح الثاني.

الصهـيونية الدينية

Religious Zionism

«الصهيونية الدينية» مصطلح يشير إلى التيار الصهيوني الذي يرى ضرورة أن يكون المشروع الصهيوني مشروع إحياء ديني، وأن رسالة الصهيونية هي إحياء اليهودية (لا اليهود)، ونحن نفضل مصطلح «الصهيونية الإثنية الدينية» لأن هذه الصهيونية تنظر إلى الدين من منظور حلولي عضوي يساوي بين الشعب والإله، ويجعل الشعب (والإثنية اليهودية) في منزلة الإله. وعلاوة على ذلك، فإن مصطلح «الصهيونية الإثنية الدينية» يؤكد العلاقة بين هذا التيار الصهيوني وتيارالصهيونية الإثنية العلمانية، فهما تياران متشابهان في كثير من الأطروحات الجوهرية، وينحصر الاختلاف في مصدر القداسة التي يتمتع بها الإثنوس أو الشعب اليهودي. ومع هذا نستخدم مصطلح «الصهيونية الدينية» أحياناً من قبيل الاختصار. وما نعنيه بطبيعة الحال هو «الصهيونية الإثنية الدينية».

الصهـيونيـة الإثنيـة (الدينيـة والعلمانية(

Ethnic Zionism (Religious and Secular)

»الصهيونية الإثنية» تيار صهيوني يتعامل مع المادة البشرية اليهودية من منظور الهوية والوعي ومعنى الوجود. وقد ساهم هذا التيار في تهويد الصيغة الصهيونيةالأساسية الشاملة عن طريق إسقاط المصطلحات الحلولية العضوية عليها وهي تتفرع إلى اتجاهين أو تيارين: صهيونية إثنية دينية وصهيونية إثنية علمانية. والصهيونية الإثنية الدينية تدور في إطار الحلولية في مرحلة وحدة الوجود الروحية، أما الصهيونية الإثنية العلمانية فتدور في إطار الحلولية في مرحلة وحدة الوجود المادية (فهيحلولية بدون إله(

ويرى أصحاب التيار الأول أن الدين اليهودي هو أساس القومية اليهودية ولا يمكن أن تقوم لها قائمة بدونه، أما أصحاب التيار الثاني فيذهبون إلى أن الدين اليهودي إن هو إلا أحد أبعاد القومية اليهودية. وكلا الفريقين يدعو إلى الإثنية اليهودية ولا يختلفان إلا في مصدر هذه الإثنية: أهو العقيدة اليهودية أم ما يسمونه «التاريخ اليهودي» و«الثقافة اليهودية».

ويجدر التنبيه إلى أن هناك وحدة بين تياري الصهيونية الإثنية وتماثلاً في الاتجاه، فكلاهما يجعل الشعب اليهودي شيئاً مطلقاً مقدَّساً يتسم بالوحدة العضوية. ولكن، بينما يُفسِّر التيار الإثني الديني هذا التماسك العضوي على أساس ميتافيزيقي (حلول الإله في الشعب)، يفسر الفريق العلماني التماسك على أساس مادي (العملية التاريخية) أو روح الشعب (أو ما نسميه حلولية بدون إله). وقد وصل بن جوريون فيما بعد إلى صيغة توفيقية حين صرح بأنه إذا كان الإله قد اختار الشعب فإن الشعب قد اختار الإله. وعلى كل حال، فإن الحاخام إسحق كوك كان كثيراً ما ينسى صيغته الحلولية ويستخدم الصيغة العضوية دون حياء أو ديباجات. وقد اختتم إحدى مقالاته قائلاً: "ستتحقق عودتنا فقط إذا ما رافقت عظمتنا الروحية العودة إلى الجسد من أجل خلق جسم صحيح قوي وعضلات قوية تغلف روحاً ملتهبة"، وهذه العبارات تليق بنيتشه وآحاد هعام.

ويمكن القول بأن ثمة تقسيماً واضحاً بين تيارات الصهيونية الثلاثة الأساسية. فتتركز مهمة الصهيونية الدبلوماسية ثم العامة (التوطينية) في ضمان الدعم الإمبريالي وتجنيد أعضاء الجماعات اليهودية وراء المُستوطَن الصهيوني وترحيل الفائض منهم. وكانت مهمة الصهيونية العمالية (الاستيطانية) هي توطين هذا الفائض في فلسطين من خلال مؤسسات استيطانية مختلفة ذات طابع زراعي عسكري. وعلى هذا، فإن لكل صهيونية منها برنامجاً سياسياً واقتصادياً يغطي مجالها ونشاطاتها. أما الصهيونية الإثنية، بشقيها الديني والعلماني، فلم يكن يعنيها كثيراً التوجه الاقتصادي أو السياسي، ذلك أنها كانت تتعامل مع مستوى التعبير والوعي ومعنى الوجود. وقد حدَّدت مجالها بأنه "اليهود" أينما كانوا في الداخل والخارج، فهم شعب متميِّز ذو تاريخ متميِّز، وحددت وظيفتها بأنها الإتيان بالعلاج الناجع لمشاكل اليهود الروحية (مشكلة المعنى)، وخلق الوعي اليهودي، وتطهير الفكر الصهيوني من المفاهيم الاندماجية كافة، وتعميق مفهوم الشعب اليهودي بالإصرار على هوية يهودية محددة للمشروع الصهيوني بحيث لا يكون هدفه أن يصبح اليهود شعباً مثل كل الشعوب، له دولة مثل كل الدول، وإنما يهدف إلى تعميق الهوية والوعي اليهوديين وإلى إضفاء معنى يهودي على الوجود اليهودي سواء في فلسطين أو خارجها.

والدولة التي ستُؤسَّس ـ من منظور الصهيونية الإثنية ـ يجب ألا تكون دولة يهود وحسب وإنما يجب أن تكون دولة يهودية شكلاً ومضموناً. ويهدف هذا التيار إلى فرض العزلة الإثنية على اليهود في الخارج حتى يمكن تجنيد أعضاء الجماعات اليهودية وراء المُستوطَن وإعطاء المستوطنين في الداخل إطاراً عقائدياً ذا بعد زمني بحيث يمكن إضفاء القداسة على الرموز القومية فتتحول فلسطين إلى مركز روحي (بالمعنى الإثني الديني أو بالمعنى الإثني العلماني(

كما تَجدُر ملاحظة أن دعاة الخطاب الإثني باتجاهيه الإثني الديني والإثني العلماني، نظراً لتركيزهم على مشاكل الهوية، لم يكن لهم فكر سياسي أو اقتصادي مستقل. فقد تركوا هذه الصياغات لبنسكر وهرتزل وبوروخوف وجابوتنسكي وغيرهم من الصهاينة، وركزوا هم على الديباجـات الإثنية أكثر من تركـيزهم على الأمور السياسـية أو الاقتصادية، فهم يتحدثون عن لغة الدولة القومية ونوعية القوانين التي ستسود فيها (من منظور إثني) وعلاقتها بالتراث اليهودي ومدى توافق سلوك مستوطنيها مع القيم الإثنية (الدينية أو العلمانية) اليهودية. وقد اهتموا كذلك بالمشاريع الثقافية التي تُوحِّد وعي يهود العالم، وبعلاقة يهود العالم بالدولة المزمع تشييدها.

ولا يعني هذا أنهم لم يكونوا ملتزمين بالصيغة الأساسية الشاملة (ولا بالإيمان بأزلية معاداة اليهود أو بفكرة الشعب أو الاعتماد على الدول العظمى). فكل فكرهم ينطلق منه ويفترضه ويستند إليه. وإذا كان آحاد هعام قد تَذبذَب لفترة قصيرة بشأن ضرورة إنشاء الدولة الصهيونية، إلا أن هذا التذبذب لم يَدُم طويلاً، كما أنه لم يعارض قط فكرة نَقْل الفائض اليهودي من شرق أوربا إلى فلسطين. وإذا كان ذبح العرب قد سبَّب له بعض القلق لبعض الوقت، فإنه استمر في دعم المشروع الصهيوني وإسداء النصح لوايزمان في الفترة التي سبقت وعد بلفور. وقد استوطن هو نفسه فلسطين في نهاية الأمر دون أن يبين كيف يمكن تنفيذ المشروع الصهيوني دون التخلص من العرب. أما بالنسبة إلى المتدينين، فإن الأمر لا يختلف كثيراً. وأثناء ثورة 1929 في فلسطين، اتهم كوك البريطانيين بالتقاعس عن حماية اليهود، كما اتخذ موقفاً متشدداً أثناء الانتفاضة التي قامت دفاعاً عن البراق (حائط المبكى(

وبالنظر إلى عدم تَعارُض مجال الصهيونية الإثنية مع مجالات الصياغات الصهيونية الأخرى، فإننا نجد أن معارك دعاة هذا التيار كانت تدور إما فيما بينهم، أو بينهم وبين قيادة أحباء صهيون ودعاة الصهيونية الدبلوماسية فيما يختص بالقضايا الدينية والثقافية وحدها. وقد وقع أحد التصادمات بين الإثنيين الدينيين وقيادة جماعة أحباء صهيون عام 1888 ـ 1889، وهي سنة سبتية يُحرَّم فيها على اليهود زراعة الأرض حسب التعاليم الدينية اليهودية. ولا يسري هذا التحريم إلا بعد عودة اليهود إلى أرض الميعادواستعادتهم إياها، كما أنه لا يسري إن كانت الأرض ملكاً للأغيار. ولكن المستوطنين اليهود استمروا مع هذا في زراعتها رغم ملكيتهم لها. وقد تَطوَّع الحاخام موهيليفروأفتى بإمكانية بيع الأرض إلى أحد الأغيار، فتعود إلى غير اليهود، ويحل لليهود بالتالي زراعتها (وهو أمر استمر حتى الوقت الحاضر إذ تقوم الدولة الصهيونية ببيع أرض إسرائيل كل ست سنوات إلى أحد المواطنين غير اليهود ثم تشتريها منه مرة أخرى بعد انتهاء السنة السبتية!). وقد حاول المتدينون عزل بنسكر في مؤتمر جماعة أحباء صهيون الذي عُقد في دروسكينكي (1887)، ففشلوا في ذلك ولكنهم نجحوا في تعيين ثلاثة حاخامات في اللجنة التنفيذية.

وقد حدث أيضاً حوار ساخن بين الإثنيين العلمانيين وصهاينة أحباء صهيون التسلليين عندما كتب آحاد هعام إحدى مقالاته "ليس هذا هو الطريق" ليبين أن المتسللين إلى فلسطين فقدوا هويتهم اليهودية واستوعبتهم عملية البقاء المادي وأهملوا عالم الروح والهوية. ثم تَحوَّل هذا الحوار الساخن إلى نقد صريح لمشروع هرتزل وفكره فيما بعد. وقد بلغ رفض آحاد هعام الصيغة الهرتزلية مداه حينما اقترح في مؤتمر منسك (الذي عقده الصهاينة الروس عام 1902) الانشقاق عن المنظمة الصهيونية لتأسيس منظمة صهيونية ثقافية مستقلة تدافع عن الخطاب الإثني بين اليهود أينما كانوا.

وقد احتدم النزاع كذلك بين دعاة اتجاهي الخطاب الإثني. ولذا، فقد اضطر العلمانيون حينما ازداد نفوذ الدينيين في مؤتمر فلنا (1889) إلى تأسيس جماعة بني موسى (على غرار المحافل الماسونية) ولكنها حُلَّت عام 1897.

وقد حُسم الصراع بين الصهاينة الإثنيين والصهاينة الذين لا يهتمون كثيراً بالإثنية مع صدور وعد بلفور. ومع استيلاء العناصر اليهودية من شرق أوربا على المنظمة، وتقسيم العمل بين التوطينيين والاستيطانيين، وقد أصبحت الهوية اليهودية الرقعة المشتركة بين الجميع، وتَقبَّل الصهاينة التوطينيون فكرة الهوية اليهودية ما دامت لا تتعارض مع ولائهم لأوطانهم. ولكن الصراع داخل التيار الإثني استمر بين الدينيين والعلمانيين (إذ أن الصراعات الأخرى بين التيارات الصهيونية الأخرى تتم على المستوىين السياسي والاقتصادي). ومن أهم الصراعات التي تدور بين الاتجاهين، الصراع بشأن الهوية اليهودية (من هو اليهودي؟).

وكما أسلفنا، فقد نشبت الخلافات عدة مرات بين الفريقين الإثني الديني والإثني العلماني، وتم تعليق الخلاف في برنامج بازل. وأثناء إعداد وثيقـة إعـلان الدولة (التي يُقال لها وثيقة «إعلان استقلال إسرائيل»)، نشب خلاف بين الصهاينة الدينيين والصهاينة العلمانيين حول عبارة "واضعين ثقتنا في الإله" التي أصر المتدينيون على ذكرها في الديباجة. وقد حُلَّ الخلاف عن طريق صياغة صهيونية مراوغة، ألا وهي عبارة «تسور يسرائيل» التي تعني حرفياً «صخرة إسرائيل»، وهي عبارة غامضة تؤدي معنى لا دينياً لللادينيين ومعنى دينياً لدعاة الصهيونية الدينية. ويبدو أن الدينيين حاولوا كذلك أن تشير الديباجة إلى الوعد الإلهي لجماعة يسرائيل ولكنهم أخفقوا. ولكي يتمإرضاؤهم، جاءت الديباجة مبهمة تحمل كل المعاني الممكنة: "إرتس يسرائيل هي المكان الذي وُلد فيه الشعب اليهودي، وهنا اكتسبت هويتهم الروحية والدينية والسياسيةشكلها، وهنا شيَّدوا أول دولة لهم وخلقوا قيماً حضارية ذات مغزى قومي عالمي، وأعطوا العالم كتاب الكتب الأزلي".

والإشارة هنا إلى ميلاد الشعب اليهودي الذي يمكن تعريفه دينياً أو علمانياً، وإلى هويته التي يمكن تعريفها على أسس روحية (والكلمة تعني في الأدبيات الصهيونية «إثنية لادينية» إذ تجري الإشارة إلى صهيونية آحاد هعام على أنها «صهيونية روحية») أو على أسس دينية أو سياسية عامة. و«كتاب الكتب الأزلي» أي «الكتاب المقدَّس» يُشار إليه باعتباره الكتاب الذي أعطاه الشعب اليهودي للعالم (دون تحديد ما إذا كان جزءاً من فلكلور هذا الشعب أو مُرسَل من الإله). ونجد في برنامج القدس (1968) استمراراً للصيغ المبهمة نفسها، فإسرائيل قامت على أساس رؤية الأنبياء للعدل والسـلام التي يمـكن أن تكــون مُرسَلة من الإله أو تكون من صنع البشر. كما يشير البرنامج إلى ضرورة الحفاظ على هوية الشعب اليهودي من خلال تشجيع التربية اليهودية والعبرية والقيم الروحية والثقافية اليهودية. ولعل الإشارة إلى التربية اليهودية والعبرية هي في واقع الأمر إشارة إلى التربية الإثنية الدينية والعلمانية.

الصهيونية الإثنيـة الدينية

Religious Ethnic Zionism

»الصهيونية الإثنية الدينية» تيار صهيوني يتقبل معظم مقولات الصهيونية الأساسية الشاملة بعد إدخال ديباجة إثنية دينية عليها. وحينما ظهرت الصهيونية برفضها العميق لليهود واليهودية تَصدَّى لها كثير من المتدينين (الأرثوذكس والإصلاحيين)، باعتبارها هرطقة وكُفراً وإلحاداً ونكوصاً. وإذا كان الصهاينة قد أعلنوا عزمهم غزو الجماعات اليهودية، فإنهم قد قرروا أن يُغيِّروا اليهودية نفسها ويعلمنوها من الداخل حتى ولو لم يعلنوا عن ذلك. ولعل مما يسَّر هذه العملية عدة عوامل من أهمها أن اليهودية نفسها في أواخر القرن التاسع عشر كانت تمر بأزمة حادة بعد خروجها من الجيتو. فعالم الأغيار في الغرب قد أثبت جاذبيته الشديدة، كما أن اليهودية كانت قد أجادت التعامل مع العالم من داخل أسوار الجيتو والعزلة، ولكنها لم تكن بعد قد أجادت التعامل معه في إطار الإعتاق والاستنارة والمساواة.

ولعل زيادة علمنة المجتمع الغربي وانتشار العلم والتكنولوجيا قد جعلا استمرار اليهودية صعباً، وخصوصاً أن اليهودية الحاخامية كانت قد تجمدت وأصبحت مثل القشرة اليابسة. وقد تهاوت مع اليهودية المؤسسات التقليدية التي ساعدت الحاخامات وأثرياء اليهود على إحكام قبضتهم على جماهير اليهود، مثل القهال. وقد ساهمت حركة التنوير في خلق جيل جديد من شباب اليهود الذي كان يتحـرك بيُسر بين عالـم اليهـود وعـالم الأغيار ويجيد علوم الغـرب، وأصبحت القــيادة الحاخامية معزولة عن هذا الوضع الجديد. ومما زاد الأمور سوءاً أن اليهودية نفسها كانت منقسمة بحدة إلى المؤسسة الحاخامية التقليدية والحركة الحسيدية التي اكتسحت شرق أوربا، وهي حركة حلولية متصوفة تمثل احتجاجاً على وضع اليهود، وعلى جفاف العقيدة التلمودية. وقد أحست المؤسسة الدينية بأن الوضع آخذ في الانهيار. وربما كان أكبر دليل على ذلك انتشار اليهودية الإصلاحية وما تبع ذلك من زيجات مُختلَطة، حتى أن الحديث عن اختفاء اليهود كان مطروحاً بين علماء الاجتماع في الغرب.

في هذا السياق، كان للعقيدة الصهيونية في صياغتها المراوغة (المتمثلة في برنامج بازل) بريقها. فهي، رغم هجومها على اليهود واليهودية، قد استخدمت كل الرموز التقليدية من عودة إلى صهيون والأرض المقدَّسة والشعب المقدَّس. ودولة اليهود التي تحدَّث عنها هرتزل تُشبه في نهاية الأمر الجيتو والقهال من بعض الوجوه، فهي دولة بدون أغيار. وكان أعضاء المؤسسة الدينية يدركون مدى حدة معاداة اليهود في أوربا عامة، وأكثر من هذا مدى خطورة الاندماج والعلمانية. ولذا، فلم يكن من العسير عليهم أن يأخذوا بالصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة المُهوَّدة (بعد صهينة اليهودية(

وعلى كلٍّ، فإن هرتزل نفسه لم يمانع في إنشاء حزب ديني بل رحب به قبل فاته، وقام بتمويل حزب مزراحي، حيث أدرك أنه لا تعارض حقيقياً بين صهيونيته الدبلوماسية التي تهدف إلى إخلاء أوربا من يهودها وبين الخطاب الإثني الديني. كما أن دعاة الصهيونية الدبلوماسـية وجـدوا أنه قد يكون من المفيد اسـتخدام الدين لتجنـيد اليهود، بلإزالة الفوارق بين الصهيونية واليهودية في نهاية الأمر بحيث يتم تهويد الصهيونية وصهينة اليهودية. وقد اتخذ المؤتمر الصهيوني الخامس (1901) قراراً بتأسيس حركة دينية تُسهم في تثقيف اليهود بروح القومية اليهودية، أي تُظهر التلاحم الكامل بين القومية والدين.

وقد طوَّر الصهاينة الدينيون هذا البرنامج، فطرحوا الأفكار الدينية التقليدية كافة بعد تفريغها من بُعدها الأخلاقي وتأكيد بُعدها الإثني، فأعادوا صياغة فكرة العودة بطريقة تتفق مع متطلبات الاستيطان الصهيوني، فتم تفسير الاستيطان (أو العودة الجسدية الفعلية إلى فلسطين) الذي كان يُعَدُّ هرطقة من المنظور الديني التقليدي باعتباره مجرد إعداد لعودة الماشيَّح. بل إن فكرة القومية العضوية نفسها تم التعبير عنها من خلال الصيغة الحلولية، فالصهاينة الدينيون يرون أن اليهود أمة ولكنهم أمة تختلف عن بقية الأمم لأن الإله هو الذي أسسها بنفسه، فهم يدورون في إطار المفهوم الحلولي الخاص بوحدة التوراة والأمة وأن اليهود كشعب لا يمكنه الاستمرار بدون التوراة. وأن هذه الوحدة، مع هذا، لا يمكن أن تأخذ شكلها الكامل خارج فلسطين، أي أن عناصر الثالوث الحلولي: الأمة والكتاب والأرض لابد أن تلتحم، وبالتحامها تنبجس عبقرية الأمة كالينبوع الذي تعود له الحياة فجأة، والذي لا تملك البشرية الخلاص دون فيضه السخي. وهذه الفكرة هي فكرة القومية العضوية نفسها بعد أن اكتسبت ديباجة دينية حلولية.

بل إن مفكري الصهيونية الدينية كانوا من المؤمنين بأن علمانية الصهيونية الظاهرة هي مجرد وهم، وأنها مجرد إطار ساهم هو نفسه في إحكام قبضة القيم الإثنية الدينية على الوجدان اليهودي، وأن المشروع الصهيوني سَيسقُط في يد الصهاينة الدينيين. وبهذا، تكون الصهيونية الدينية قد سوَّغت الصهيونية للمتدينين ولكنها تكون في الوقت نفسه قد قامت بصهينة الدين اليهودي حتى أصبح لا يختلف كثيراً عن الصياغة الإثنية التي طرحها آحاد هعام والتي لا تتعارض بأي شكل مع الصياغة الدبلوماسية التي طرحها هرتزل.

وكما هو مُتوقَّع، نشب صراع حاد بين الصهاينة الإثنيين الدينيين والصهاينة الإثنيين العلمانيين، فهم يتحركون في المجال نفسه، منطقة الوعي وإدراك الهـوية ومعنى الوجود. وقـد كان الصراع حـاداً منذ البداية، منذ أحباء صهيون، واستقرت حدته بعد ظهور هرتزل داخل المؤتمرات الصهيونية المختلفة، وقد هدأت الأمور قليلاً بعد وعد بلفور وتقسيم مناطق النفوذ بين الصهيونية العمالية التي تبنت الصيغة الإثنية العلمانية والصهيونية الدينية التي مُنحت الإشراف على المدارس الدينية وعلى المحاكم وبعض المؤسسات الأخرى. ومع ظهور أزمة الصهيونية وظهور مشكلة الشرعية داخل المُستوطَن الصهيوني بعد عام 1967، بدأ الاتجاه الإثني الديني يتغلب على الاتجاه الإثني العلماني حتى بدأ كثير من أعضاء النخبة الحاكمة في إسرائيل يدَّعي التدين ويستخدم مصطلحاً إثنياً دينياً، وأخيراً ظهر مائير كهانا وهو من أكبر دعاة الصهيونية الإثنية الدينية وهي صهيونية مُفرَّغة تماماً من أي مضمون خلقي أو ديني.

والصهيونية الدينة في الوقت الحاضر هي العمود الفقري لليمين الصهيوني، والأرثوذكس هم طليعة الاستيطان في الضفة الغربية ودعاة صهيونية الأراضي بعد أن أصبحت الأرض هي مركز القداسة ، وأصبح التنازل عن أي شبر منها كفر وهرطقة (على عكس الأرثوذكس في الماضي الذين كانوا يرون العودة للأرض باعتبارها كفراً وهرطقة(

وأهم مفكري الصهيونية الإثنية الدينية هما موهيليفر وكوك. وتسيطر المؤسسة الصهيونية الدينية الآن على جمهور ثابت في الشارع الإسرائيلي عن طريق توليها شئون الدين والزواج والطلاق وشبكة واسعة من المدارس والمعاهد الدينية والمؤسسات المالية وحركات الاستيطان التابعة لها.

والمشكلة الكبرى التي تواجهها الصهيونية الإثنية الدينية الآن أن أغلبية يهود العالم الساحقة ليست أرثوذكسية، كما أنها تعيش في مجتمعات علمانية تحقق لها قسطاً كبيراً من الحرية، ولذلك يصدمهم سلوك هذه المؤسسة التي تصر على الخطاب الإثني الديني وعلى تطبيق مقولاته، وتظهر المشكلة دائماً في شكل سؤال: من هو اليهودي؟

مزراحي (حركة(

Mizrahi

»مزراحي» هو مزج لكلمتي «مركز» و«روحاني»، وهما كلمتان عبريتان تطابقان في النطق والمعنى مثيلتيهما العربيتين. وقد طرحت الحركة شعار "أرض يسرائيللشعب يسرائيل حسب شريعة وتوراة يسرائيل"، كما لُخِّص الشعار في عبارة «توراه وعفوداه»، أي «التوراة والعمل»، ومعناها أن على الصهيوني الحق المتدين أن يتعلمالشـريعة اليهـودية وأن يعمل بنشـاط من أجــل إعادة بناء إسرائيل.

وقد أُثيرت قضية الدين في المؤتمر الصهيوني الثاني (1898). وكان رد القيادة السياسية (العلمانية) هو أن الدين مسألة شخصية وأن المنظمة الصهيونية العالمية ليس لديها موقف رسمي منه. وقد كان هذا الموقف مقبولاً من المتدينين طالما لم يتوجه المشروع الصهيوني إلا للقضايا السياسية والاقتصادية، وهي قضايا تقع خارج نطاق الإثنية والعقيدة. ولكن حينما تَقرَّر (بناءً على طلب العصبة الديموقراطية) في المؤتمر الخامس (1901) أن تُشرف المنظمة على برنامج تربوي يقوم بعملية تعليم اليهودروح القومية (الإثنية) اليهودية بالمعنى العلماني الذي حدده آحاد هعام ودعاة الصهيونية الإثنية العلمانية، شعر المتدينون بأن هذا قد يؤدي إلى القضاء على اليهودية. وهنا قرر الحاخام يعقوب راينس عام 1902 تأسيس حزب ديني قوي داخل المنظمة الصهيونية.

وفي العام نفسه، عُقد مؤتمر منسك الذي نظمه اليهود الروس وقد تم فيه الاعتراف بالاتجاهين الإثنيين: الديني والعلماني. وحينما اندلع الخلاف بينهما، تم حسمه عن طريق إقامة لجنتين متوازيتين إحداهما إثنية دينية والأخرى إثنية علمانية. وعندئذ قرَّر الصهاينة المتدينون إنشاء منظمة تُدعَى مزراحي. وقد قرَّرت مزراحي القيام بنشاط ديني داخل المنظمة وفي إطار الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة المتهودة (برنامج بازل)، وهذا بمقتضى القرار الذي صدر في المؤتمر الخامس الذي سمح بتكوين اتحادات مستقلة داخل المنظمة. وعقدت منظمة مزراحي أول مؤتمر لها عام 1903، وعبَّر فيه بعض المتدينين عن اعتراضهم على قرارات منسك التي تضمنت الاعترافبالصهيونية الإثنية العلمانية.

وفي عام 1904، عُقد أول مؤتمر عالمي لحركة مزراحي ضم 100 مندوب، وهناك تمت صياغة برنامج الحركة الذي نص على الالتزام ببرنامج بازل وبالتوراة وبتنفيذ الأوامر والنواهي والعودة إلى أرض الآباء والبقاء داخل المنظمة الصهيونية ونشر الوعي الديني الإثني. ثم تم نقل مقر الرئاسة إلى فرانكفورت عام 1905، وهو العام الذي تم فيه الاعتراف بالمزراحي كتنظيم مستقل داخل المنظمة الصهيونية.

وقد بدأت مزراحي نشاطها التثقيفي الواسع فنقلت نشاطها إلى فلسطين، وأنشأت أول مدرسة دينية عام 1908. وحينما أُثيرت قضية النشاط الصهيوني الثقافي في المؤتمر العاشر (1911)، انسحب وفد مزراحي منه، ولكن تقرَّر بعد ذلك معارضة النشاط الثقافي دون الانسحاب من المنظمة.

وانتقل مركز مزراحي إلى الولايات المتحدة عام 1913 ـ 1914، فتَوقَّف نشاطها لبعض الوقت في أوربا ولكنها عاودت النشاط مرة أخرى بعد وعد بلفور وأصبح لها فرع استيطاني. وقد تم تنظيم دار الحاخامية الأساسية والمحاكم الدينية اليهودية التي تسيطر عليها مزراحي، ثم تم تأسيس عمال مزراحي (هابوعيل هامزراحي) في القدس عام 1921، وأصبح للحركة بالتالي منظمتها الاستيطانية فأقامت أول مستوطنة تعاونية (موشاف) تابعة للحركة عام 1925 وأول مستوطنة جماعية (كيبوتس) عام 1930. وتمكنت الحركة من مد نفوذها عن طريق استيعاب أولاد المهاجرين وإيوائهم في المدارس الفنية والزراعية التابعة للحركة. وتتميَّز حركة مزراحي بالمقدرة على التنازل في الأمور الدينية، وهو ما أتاح التعاون بسهولة بينها وبين الصهيونية العمالية.

ولحركة مزراحي فروع في كل العالم، ولها تنظيم نسائي وآخر شبابي. وترجمت الحركة نفسها في الداخل إلى أحزاب دينية تتبعها منظمات شبابية ونسائية. والمؤتمر العام للحركة يتكون من مجلس مزراحي العالمي (الذي يمثل يهود الخارج) واللجنة التنفيذية المشتركة لمزراحي وهابوعيل هامزراحي (الذي يمثل يهود الداخل). ويتبع الحركة في الداخل عدة مدارس ومعاهد تعليمية وجامعة بار إيلان وعدد من المزارع الجماعية ومذابح شرعية ومؤسسات مالية مثل بنك هامزراحي وبنك هابوعيل هامزراحيوشركات بناء مساكن.

وقد اندمج حزبا مزراحي وهابوعيل هامزراحي وكونا حزب المفدال (الحزب الديني القومي) الذي اشترك في كل الحكومات الائتلافية في إسرائيل. وكان الحزب،حتى عام 1967، قد حصر اهتمامه في استصدار التشريعات التي تمس الجوانب الدينية وحسب. ولكن بعد ذلك التاريخ سيطرت عليه تلك العناصر التي تدافع عن الاحتفاظ بأرض إسرائيل الكاملة، وهو الأمر الذي أدى إلى توسيع نطاق اهتمام الحزب بحيث أصبح يشمل كل السياسات الداخلية والخارجية.وقد انضم الحزب إلى وزارة الليكود عام 1977 و1981 وأيَّد سياسات مناحم بيجين،أي أن الحزب القومي الديني أصبح عنصراً أساسياً في اليمين الديني.

أجودات إسرائيل

Agudat Israel

تأسَّست حركة أجودات إسرائيل عام 1912 كتنظيم ديني يضم جميع الجماعات الدينية الأرثوذكسية في ألمانيا وبولندا وليتوانيا (كمجموعة متحدة) ضد الحركة الصهيونيةلمحاولة تغيير بنية ومضمون الحياة اليهودية. كما تصدَّت الحركة للحركات العلمانية الأخرى كافة، مثل البوند واليهودية الإصلاحية. وبعد بداية متعثرة اتخذ المؤتمر الصهيوني العاشر (1911) قراراً بضم مشاريع ثقافية (علمانية) ضمن برامجها، مما أدى إلى انسحاب بعض المندوبين الألمان وانضموا لجماعـة أجودات إسـرائيل، الأمر الذي أعطاها قوة دفع شديدة.

وقد تكونت الحركة من خلال ثلاثة عناصر أساسية:

1 ـ الأرثوذكسية الجديدة الألمانيةمن أتباع سمسون هيرش،وهؤلاء كانوا يحاولون تنفيذ كل التعاليم الدينية وإقامة كل الشعائر مع شيء من التكيف مع البيئة غير اليهودية التي يعيش فيهااليهود.

2 ـ الأرثوذكسية المجرية.

3 ـ الأرثوذكسية البولندية.

وهذان الفريقان الأخيران كانا يضمان العناصر الحسيدية وحاخامات الأكاديميات الليتوانية،وكانا يعارضان تبني المعارف الغربية . وكان أتباع الأرثوذكسية الألمانية والمجرية يرون أن الجماعات الأرثوذكسية يجب أن تفصل نفسها تماماً عن الجماعات اليهودية غير الأرثوذكسية، على عكس أتباع الأرثوذكسية البولندية وبعض قيادات الأرثوذكسية الألمانية فكانوا يرفضون هذا الموقف.

وقد أعلنت الحركة أن برنامجها هو توحيد شعب إسرائيل حسب تعاليم التوراة بجميع مظاهر الحياة الاقتصادية والسياسية والروحية. وقد أسس المؤتمر التأسيسي ما يُسمَّى مجلس القيادات التوراتية، مهمته التأكد من عدم جنوح تنظيم أجودات إسرائيل عن تعاليم التوراة. وأقامت الجمعية فرعاً لها في فلسطين عام 1919، كما أقامت عام 1922 حركة عمالية في بولندا لمنع العمال من الانضمام للأحزاب الصهيونية. وقد أخذت الحركة شكلاً عالمياً عام 1927 حين افتتحت فروعاً في نيويورك ولندن والقدس. كما عارضت الحركة الاستيطان في فلسطين باعتباره تحدياً للأوامر الإلهية، ذلك أن تجميع المنفيين لا يمكن أن يتم إلا بمشيئة الإله وفي الوقت الذي يحدده.

وقد قامت الجمعية بنشاط ضد الاستعمار الصهيوني والإنجليزي بالاشتراك مع العرب والمستوطنين اليهود المتدينين، وقامت بحملة إعلامية ضد الاستعمار الصهيوني إلى أن سقط أحد قوادها (جيكوب دي هان) صريعاً برصاص الصهاينة.

ولم تـعترف المنظمة بالمُسـتوطَن الصهيوني ولا بالحاخاميـة الأساسية، وكان لها محاكمها الحاخامية الخاصة، وطالبت السلطات البريطانية بالاعتراف بها كجماعة دينية يهودية مستقلة ولكن رُفض هذا الطلب.

ومع الثلاثينيات، شهدت فلسطين وصول أعداد كبيرة من أعضاء الجمعية من بولندا. وقد وجد هؤلاء أن من الصعب عدم الاشتراك في النشاطات الصهيونية السياسيةوالاقتصادية، كما وصل يهود من الأرثوذكس الجدد ومن العناصر العلمانية من ألمانيا.

وقد تم التحول عام 1937 في مؤتمر الجمعية إذ تَغلَّب التيار الصهيوني الذي يعارض عودة اليهود إسماً ولكنه يرى مع هذا ضرورة العودة لفلسطين للإعداد لمقدمالماشيَّح. وتعاونت حركة أجودات مع المنظمة الصهيونية، فظهر مندوبوها أمام اللجنة الملكية (لجنة بيل وشو) وصرحوا بأن وعد بلفور والانتداب يتفقان مع روح الوعد الإلهي بالخلاص، أي أنها تبنت الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة بعد إلباسها الديباجة الأرثوذكسية.

وفي عام 1944، أقام حزب أجودات إسرائيل مزرعة جماعية (كيبوتس) بأموال الصندوق القومي اليهودي، وانضم أعضاء الحزب إلى منظمة الهاجاناه. ثم تعمَّقت العلاقة بهذا الاتفاق الذي صاغه بن جوريون وهو الاتفاق المعروف باسم «اتفاق الوضع الراهن» الذي بموجبه حصلت الحركة الصهيونية على تأييد الصهاينة المتدينين شريطة أن تحافظ الدولة الصهيونية الجديدة على "الوضع الراهن" كما هو في الأمور الدينية. وعشية قرار التقسيم بدأت أصوات مؤيدة لقيام إسرائيل ترتفع أكثر وأكثر داخلمعسكر الأجوداه. وقد فسرت قرارات الأمم المتحدة وتعاطف المجتمع الدولي مع اليهود بأنها من مظاهر العناية الإلهية. وبدأ التوجه العام في أوساط اليهودية الأرثوذكسيةينتقل بالتدريج إلى موقف متوازن: الاعتراف الواقعي «دي فاكتو de facto» بالدولة بدون منحها اعترافاً قانونياً «دي جوري de jure»، أي الرفض الأيديولوجي للدولة والتعامل مع مؤسساتها في آن واحد، أي أن الدولة الصهيونية لم تعد لها أية دلالة دينية خاصة، فهي مجرد مؤسسة يحكم عليها بمقدار ما تقرب الشعب إلى الإله والتوراة. واشترك حزب أجودات في المجلس المؤقت وفي العملية السياسية. ومع هذا، استمرت أجودات إسرائيل في التمحك بالمصطلح الديني الرافض للصهيونية، ورفضت التحدث عن الدولة فكانت تشير لها بأنها «السلطات اليهودية في فلسطين».

ويشير عزمي بشارة إلى أنه عندما ثار نقاش بين قيادة أجودات إسرائيل في فلسطين وقيادتها في الولايات المتحدة، التي عارضت الانضمام إلى الحكومة المؤقتة، كان تبرير القيادة المحلية لمشاركتها منطلقاً من موقف الضعف، موقف الأقلية المضطرة إلى الانضمام إلى الحكومة لتأمين مصالحها ـ لكن التطور استبدل منطق الضعف بمنطق القوة،منطق السلطة والتأثير فيها فيما بعد، لا لتأمين الحريات الدينية وإنما من أجل فرض الشرائع الدينية على الحياة اليومية للأكثرية العلمانية، ومن أجل تأمين المصادر المالية لمؤسسات الحركات الدينية من مدارس دينية وجمعيات خيرية ومراكز صحية وغير ذلك.

ثم تزايدت معدلات الصهينة بعد عام 1967 حينما أصبح اليهود الأرثوذكس من غلاة المدافعين عن الاحتفاظ بأرض إسرائيل الكاملة ومن دعاة صهيونية الأراضي (انظر: «صهينة العناصر الدينية الأرثوذكسية بعد عام 1967»)

وقد ترجمت الحركة نفسها إلى حزب أجودات إسرائيل وعمال أجودات إسرائيل في الداخل، وينصب اهتمامها على الشئون الثقافية والتربوية. وقد شهد التيار الديني الصهيوني بعض الانقسامات داخل الدولة الصهيونية فتم تأسيس حزب ديغل هتوراه (لواء التوراة) الذي يمثل الطوائف اللتوانية (المتنجديم)، ويوجد كذلك حزب شاس الذي يمثل السفارد. وقد تحوَّلت حركة أجودات إسرائيل المناوئة للصهيونية إلى حركة عنصرية ذات ديباجة دينية تلعب دوراً خطيراً في تنشئة الأجيال الجديدة في إسرائيل على كره العرب وتفرض عليها الخطاب الإثني الديني. ولا يزال هناك جناح صغير من أجودات إسرائيل يتمسك بموقفه الديني القديم ويناوئ الصهيونية ألا وهو جماعة الناطوري كارتا.

إلياهــو جوتماخــر (1795-1874(Elijah Guttmacher

حاخام صهيوني وُلد في بوزن. درس القبَّالاه وعمل كحاخام في عـدة أماكـن من بينها جراتز في النمسـا (منذ عام 1840 إلى تاريخ وفاته)، حتى أن العديد من اليهود كانوا يحجون إليه. وقد كان جوتماخر من الحاخامات القلائل الذين قاموا بصهينة الفكرة المشيحانية.

رفض جوتماخر فكرة انتظار الماشيَّح، ودعا إلى توجيه كل الجهود من أجل الإسراع بالخلاص وذلك عن طريق العمل البناء في أرض إسرائيل تمهيداً لمجئ الماشيَّح. وقد أعلن أنه "يجب على الأغنياء من شعبنا أن يشتروا الأرض في فلسطين لتوطين فقراء اليهود هناك، فتلك المسألة هي حجر الأساس للخلاص الكامل". وقد كانت فكرة استخدام أموال الأغنياء اليهود لتوطين فقراء اليهود في فلسطين هي الفكرة التي بُنيت عليها جمعية أحباء صهيون التي عارضت الحاخامات الأرثوذكسيين الاندماجيين.

تسـفي كاليشـر (1795-1874(Tzvi Kalischer

حاخام بولندي روسي، ومن أوائل دعاة الصهيونية. وُلد في مدينة ليسا، وهي مدينة بولندية ضمتها بروسيا. ومع أن غالبية السكان كانت تتحدث البولندية، فإن الأقلية الألمانية كانت مهيمنة. وكانت السلطات البروسية تصنف اليهود الذين يتحدثون اليديشية على أنهم ألمان لزيادة عدد الأقلية الألمانية. وكان هذا مصدر غبطة لليهود الذين كانوا ينظرون إلى ألمانيا باعتبارها وطنهم الروحي، وقد أدَّى ذلك إلى التوتر بين اليهود والبولنديين، ولذا فقد كانت حركات التحرير البولندية القومية تنظر إلى اليهود باعتبارهم أقلية عميلة. وكانت المقاطعة أيضاً في منطقة حدودية بين يهود ألمانيا المندمجين ويهود اليديشية، ولذا فقد كانت حياة أعضاء الجماعة اليهودية فيها خليطاً من الحياة التقليدية السائدة في شرق أوربا والحياة اليهودية العصرية السائدة في غرب أوربا. وقد بدأت الحياة الفكرية عند كاليشر مع بدايات اليهودية الإصلاحية، فهاجمها مدافعاً عن القيم التقليدية، وخصوصاً فكرة الماشيَّح وأرض الميعاد.

وكتاب كاليشر السعي لصهيون (1862) هو أول كتاب ظهر في شرق أوربا عن موضوع الاستيطان الزراعي وفلسطين، وهو مكتوب بالعبرية التقليدية الجامدة.

ينطلق كاليشر من الرؤية الحلولية العضوية، فيقترح على اليهـود أن يطـرحوا الفكرة الدينية التقليدية جانباً ويأخذوا بزمام الأمور. وبدلاً من الانتظار السلبي للماشيَّح عليهم أن يعودوا بأنفسهم، فالعودة لن تتم بهجرة فجائية وخلاص إسرائيل سيأتي بأناة. والخلاص على الطريقة الحديثة سيبدأ بعودة بعض اليهود واستيطانهم الأرض المقدَّسة، على أن يتم ذلك بدعم الأمم وبموافقتها وبدعم المحسنين من أثرياء الغرب الذي سيحاولون الحصول على براءة من السلطان العثماني. ويمكن أن تُرسَل الصدقات (حالوقاه) لليشوف (المُستوطَن الديني التقليدي في فلسطين)، ولكن يجب أن تتكون مؤسسة هدفها تشجيع الاستيطان في الأرض المقدَّسة يمولها أثرياء اليهود وتقوم بشراء المزارع والكروم وجني ثمارها.

ويثير كاليشر قضية تطبيع الشخصية اليهودية ودمج اليهود في مجتمع الأمم. فبعد الاستيطان سيتحمس المستوطنون للعمل في الأرض بأيديهم، كما ستعمل سياسةالاستيطان على كسب احترام الأمم الأخرى لليهود، فهم سيقولون إن أعضاء جماعة يسرائيل لديهم الإرادة أن ينقذوا أرض أجدادهم التي أصبحت قاحلة ومهجورة. ثم يطلب كاليشر في نهاية المقال من اليهود أن يقتدوا بالأغيار "لماذا يضحي شعب إيطاليا وشعوب العالم من أجل أرض آبائهم ونحن لا نعمل شيئاً؟ لنقتد بالإيطاليين والبولونيين والمجريين [أصحاب القوميات العضوية] الذين ضحوا بكل شيء من أجل الاستقلال".

إن الإطار هنا زماني دنيوي، فالعودة ستتم في الزمان وستستخدم آليات زمانية لتحقيق أهداف زمانية كتطبيع اليهود، وتحسين صورتهم، والحصول على أرض الأجداد. ولكن كاليشر، على طريقة الصهاينة الدينيين، يتدارك ويضيف ديباجة إثنية دينية، فاليهود يجب أن يكافحوا من أجل أرضهم لأن هدفهم ليس إحياء مجد الأسلاف وحسب وإنما العمل على إحياء مجد الإله الذي اختار صهيون.

ويقول كاليشر أيضاً: "إذا قدَّمنا الخلاص للأرض بهذه الطريقة الدنيوية، فسوف تظهر لنا علامات الخلاص تدريجياً وسيسمع الإله للمستوطنين وسيسرع بيوم خلاصهم". وقد تَوصَّل كاليشر إلى صيغة الصهيونيتين، فقد أدرك من البداية أنه لن يهاجر سوى بعض اليهود وسيبقى الكثيرون في الخارج، وسيقوم المحسنون الأثرياء منهم بدعم المستوطنين. بل يبدو أن كاليشر اكتشف أيضاً الديباجات العمالية إذ يقول: "وشكل الاستيطان سيكون تعاونياً إذ سيتجمع يهود من روسيا وبولندا وألمانيا [وليس من الغرب المندمج] ويتلقون أجورهم من الشركة اليهودية ويتعلمون الزراعة تحت إشراف معلمين تعينهم الشركة. وبعد أن يتعلم الفرد منهم الزراعة سيُعطَى قطعة من الأرض يزرعـها وسـتموله الشــركة وستمول العملية كلها".

وكتاب كاليشر من الوثائق الصهيونية الأولى التي حاولت تغييب العرب. فبعد أن استوطن فلسطين، اقترح أن يقوم المستوطنون بتنظيم جماعات حراسة تجمع بين العمل الزراعي والعسكري للدفاع عن النفس. ونجد في كتابات كاليشر الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة ونجد الملامح الأساسية للديباجة الإثنية الدينية والعلمانية بل العمالية، ولكن المشكلة الأساسية بالنسبة له (وبالنسبة لكل الرواد الصهاينة) أنهم كانوا يخلطون بين المشروع الذي يقترحونه، وهو مشروع استعماري، وبين مشاريع يهود الغرب لتوطين اليهود. فيهود الغرب لم يكونوا مهتمين بالمشروع الصهيوني إلا كمشروع لإنقاذ شرق أوربا والتخلص منهم. أما المضمون السياسي لهذا المشروع، فقد كانوا يرفضونه تماماً. كما أن كاليشر لم يدرك حدود الحركة، فأثرياء الغرب يمكنهم التوسط لدى حكوماتهم أو لدى الدولة العثمانية للإفراج عن اليهود أو رعاية أحوالهم، ولكنهم لم يكن في مقدورهم أن يطلبوا من حكوماتهم أن تتوسط لدى الباب العالي ليأذن لليهود باستيطان فلسطين.

وقد وقع هرتزل في هذا الخطأ في البداية، ولكنه تدارك الأمر وطرح مشروعه على الدول الاستعمارية مباشرةً. وقد ساعدته الظروف التاريخية إذ أن الدولة العثمانية كان قد تقرَّر تقسيمها. وقد قرأ هس عن كتاب كاليـشر، بعد أن كان قد فــرغ من مؤلفـه، فنوَّه بــه.

بدأ النشاط العملي عند كاليشر عام 1836 بالكتابة إلى عميد الأثرياء اليهود في العالم (روتشيلد) في برلين ليشرح له نظريته الجديدة عن الخلاص دون انتظار الماشيَّح. وحين تأسست جمعية رعاية الاستيطان اليهودي في فلسطين في ألمانيا، انضم إليها. وفي عام 1864، كان كاليشر المسئول عن تأسيس اللجنة المركزية لاستعمار فلسطينفي برلين. ثم ساهم في إقامة بعض الجمعيات الزراعية الاستيطانية، كما ساهم في توجيه نشاط الأليانس نحو إنشاء مدرسة زراعية (مكفاه إسرائيل) في فلسطين عام 1870.

يهــودا القلعـــي (1798-1878(Yehudah Alkalai

حاخام ورائد من رواد الفكر الصهيوني. وُلد في سيراييفو (في البوسـنة والهرسـك) والتي كانت جــزءاً من الدولة العثمانية آنذاك، وفي وقت كانت فيه شبه جزيرة البلقان تمور بالصراعات القومية الحادة بين الصرب والبلغار والرومانيين. وكانت يوغسلافيا تُعَدُّ النقطة التي يلتقي فيها السفارد بالإشكناز، وتقع داخل الدولة العثمانية على مقربة من الإمبراطورية النمساوية وكلتاهما كانت إمبراطوريات تتعدد فيها الجماعات الإثنية والدينية.

عمل حاخاماً للسفارد في ريمون، وكان متأثراً منذ صباه بالنزعات الصوفية القبَّالية، فكان من المؤمنين بأن عام 1840، وهو عام مؤتمر لندن الذي وضع حداً لآمال محمد علي في الاستقلال، سيكون بداية الخلاص المشيحاني. ولكن النبوءة لم تتحقق، فاضطر إلى أن يُعدِّل من موقفه من فكرة الماشيَّح.

ولا تتسم كتابات القلعي بالتماسك أو التحدد أو التبلور، فقد كان يكتب بالعبرية التقليدية، وهي لغة شديدة الجمود، كما أن إطاره الفكري كان تقليدياً إلى أقصى حد. ومع هذا، فإن كتاباته هذه تشكل جزءاً من التراث الفكري الصهيوني في مرحلته الجنينية.

إن نقطة انطلاقه، شأنه شأن كل الصهاينة الإثنيين الدينيين، هي رؤية حلولية عضوية تجعل الإله يحل في الشعب والأرض ومؤسساته القومية بحيث يصبح هو مصدر التماسك العضوي بينهما. فاليهود لا يليق بهم أن يُلقَّبوا «يسرائيل» إلا إذا كانوا في أرض يسرائيل، وبذلك تكون الرؤية الحلولية قد اقترنت بفكرة القومية العضوية السائدة في أوربا خارج إنجلترا وفرنسا.

لهذا، لم يجد القلعي صعوبة كبيرة في المزاوجة بين الرؤية العضوية العلمانية والرؤية الحلولية الدينية. يذهب القلعي إلى أن اليهود يجب أن يتدخلوا بأنفسهم في مسار الأحداث بدلاً من انتظار عودة الماشيَّح، ويقوموا بتحديد الطريقة المناسبة للعودة وزمانها. واستناداً إلى بعض النصوص الحلولية وطرق التأويل المختلفة مثل الجماتريا، يقول القلعي إنه كخطوة أولى "يجب أن نعمل على إعادة اثنين وعشرين ألفاً إلى الأرض المقدَّسة. فهذه تهيئة ضرورية لحلول دلالات أخرى". فالخلاص لا يمكن أن يتم فجأة، والأرض يجب أن تُبنَى وتُعَدُّ وتُجَهَّز بالتدريج. وحتى يضفي شرعية على رؤيته الجديدة، فإنه يشير إلى عقيدة الماشيَّح الأول (المسيح بن يوسف) الذي سيشترك في حرب يأجوج ومأجوج وسيحاول تحرير أرض يسرائيل من الكفرة ولكنه سيَسقُط في المعركة، وبعد هذا سيأتي الماشيَّح الثاني والنهائي (المسيح بن داود). وهو يفسر وجود الماشيَّح الأول بأنه يعني ضرورة أن يسبق العصر المشيحاني النهائي إعداد دنيوي إنساني. ثم يضيف أنه يجب النظر لرؤية الماشيَّح بن داود على أنها مجــاز، فهي عملية ستأخذ في الأزمنة الحديثة شكل قيادة سياسية، ولذا سيبدأ الخلاص باليهود أنفسهم، هؤلاء الذين يجب أن يملكوا زمام أمورهم بأنفسهم ويُعجِّلوا بالنهاية (وهذا الموقف يُعَدُّ من المنظـور الحاخــامي التقليدي شكلاً من أشكال الهرطقة والتجديف(

وعملية تغيير متتالية الخلاص التقليدية (الماشيَّح ـ العودة ـ الخلاص) إلى متتالية جديدة (العودة للإعداد لوصول الماشيَّح ـ الماشيًَّح ـ الخلاص) هي الطريقة التي لجأت إليهاالصهيونية الإثنية الدينية لصهينة أو تحديث اليهودية، ومن ثم أصبح بإمكان الصهاينة الملحدين أن يُسمُّوا أنفسهم يهوداً إذ أنهم يشاركون في عملية الاستيطان الصهيوني التي أصبحت عملية دينية هدفها الإعداد لمقدم الماشيَّح.

وقد تَوصَّل القلعي لفكرة الصهيونيتين، فبيَّن أن بعض اليهود الفقراء سيهاجرون إلى فلسطين (صهيونية استيطانية) وسيبقى يهود عديدون في الخارج في أرض الشتات بعض الوقت "لمساعدة المستوطنين الأوائل في فلسطين"، أي أنه قام بتقسيم يهود العالم حسب الدور الذي سيلعبونه في الحركة الصهيونية. كما أنه تَوصَّل إلى أهمية إدخال الصيغة الإثنية على الصيغة الصهيونية. ويواكب ذلك بعث اللغة العبرية، فكـل جاليـة يهودية تتكلم لغة تختـلف عن الأخرى ولكل منها عادات مختلفة. وهو يرى أن العبرية يجب أن تكون أساس عملنا التعليمي بمعنى أنها ستكون لغة الدنيا لا لغة الدين كما كان يصر المتدينون.

ثم يقترح القلعي تعيين مجلس من الوجهاء أو الحكماء يأخذ شكل مجلس يهودي عالمي أو منظمة يهودية عالمية للإشراف على عملية الهجرة وللحصول على تصريح من السلطان. ويقترح أيضاً تنظيم شركة على غرار شركات التأمين وشركات السكك الحديدية لاستئجار فلسطين من السلطان. ولا شك في أن هذه الشركة، بعد أن يعاد تسميةفلسطين باسم «إسرائيل»، ستثير حماس يهود العالم فيساعدون هذه الشركة بكل وسيلة.

وبعد إدراك ضرورة الحصول على التأييد المالي والسياسي لمشروعه، سافر القلعي إلى العواصم الأوربية (1851 ـ 1852) ووجَّه النداءات إلى كبار المموِّلين اليهودأمثال مونتفيوري وأدولف كريمييه، ونشر في لندن كتيباً يحمل أفكاره وأسس فيها أيضاً جمعية استيطانية لم تُعمَّر طويلاً.

والتحق القلعي بجمعية استيطان فلسطين التي أسَّسها لورج في ألمانيا وقام بنشاط بارز في صفوفها. وفي عام 1871، زار فلسطين وأسَّس هناك جمعية استيطانية ما لبثت أن توقفت. ثم استقر نهائياً في فلسطين عام 1874. وقد قام بعض أتباعه بعد وفاته مباشرة بشراء أرض بتاح تكفا حيث أُقيمت أول مستعمرة يهودية زراعية في فلسطين. ويُلاحَظ أن القلعي تَوصَّل إلى الصيغة الصهيونية الأساسية، وإلى معظم الديباجـات الإثنية الدينية والعلمـانية، ولكن فكره لم يكـن حديثاً بقدر كاف، فلم يكتشف حتمية الاستعانة بالإمبريالية الغربية لوضع الفكرة الصهيونية موضع التنفيذ، ولذا، فقد تَحرَّك داخل نطاق الجماعات اليهودية وحسب، كما توجَّه إلى أثرياء اليهود وبعض الساسة اليهود في الغرب.

صمــويل موهيليفـر (1824-1898(Samuel Mohilever

حاخام روسي، وأحد مؤسسي حركة أحباء صهيون. تلقَّى ثقافة دينية. وتعمَّق في دراسـة القبَّالاه والحسـيدية وتـواريخ الجماعات اليهودية، كما كانت له معرفة أيضاً بالرياضيات واللغات الروسية والألمانية والبولندية. وقد اشتغل بالتجارة بعض الوقت قبل قيامه بأعماله ومهامه الدينية التي قَبلْها كارهاً، ثم ذاع صيته كعالم تلمودي. وهو من أهم المدافعين عن التعليم اليهودي وممارسة الأعمال اليدوية والزراعة. وقد ساهم موهيليفر في تنظيم الهجرة إلى فلسطين، وأقنع كلاًّ من هيرش وروتشيلد بأن يساهما في تمويل ومساعدة الاستيطان اليهودي لفلسطين (التوجُّه إلى أغنياء اليهود هو دائماً الخطوة الأولى في أي عمل صهيوني(

وقد استمر موهيليفر نشيطاً في حركة أحباء صهيون رغم علمانيتها الواضحة، وحينما نشب الخلاف بين العلمانيين من أحباء صهيون ومناوئيهم، عُهد إليه بأن يعمل في أوساط المتدينين، وسمَّى مكتبه آنذاك «المركز الروحاني» ومنه جاءت كلمة «مزراحي». وقد كان من الداعين لمؤتمر كاتوفيتش، وحاول أكثر من مرة الاستيلاء علىقيادة أحباء صهيون دون جدوى.

لم يتمكن موهيليفر من حضور المؤتمر الصهيوني الأول (1897) ولكنه بعث رسالة تؤيد برنامج المؤتمر وتَوجُّهه الدبلوماسي. ويبدو أنه لم يكن يدرك أن الصهيونية قد تَحوَّلت من مجرد حركة استيطانية لإنقاذ بعض اليهود إلى حركة استعمارية استيطانية، أي جزء من المشروع الاستعماري الغربي. ولذلك، فإن خطابه يتحدث عن ضرورة التدخل لدى الحكومة التركية " لكي تسمح لشعبنا بأن يشتري الأرض ويبني البيوت". وهو يرى ضرورة التعاون مع العلمانيين لأن وضع اليهود يشبه حال من تلتهم النيران بيته. ولذا، فهو يَقْبل مساعدة كل من يمد له يد العون. وقد طلب من المؤتمر تقديم الشكر "للمحسن الكبير البارون إدموند دي روتشيلد" الذي أنفق عشرة ملايين فرنك على الاستيطان. وطالب المؤتمر بألا يمس أموال الصدقة التي تُعطَى لفقراء اليهود والقدس بدافع التقوى الدينية. وهو، بموقفه هذا، كان يعبِّر تعبيراً دقيقاً عن مشاكل حركة أحباء صهيون التي لم تدرك قط حتمية الاعتماد على الإمبريالية الغربية لوضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ.

ولكنه، مع هذا، بدأ يساهم في عملية التحديث بترويض اليهودية، فطالب بالتعاون مع اللادينيين ودعا إلى العودة للإقامة في فلسطين وشراء الأراضي وتعمير البيوت وزَرْع البساتين وفلاحة الأرض، بل يشير إلى أن العودة إحدى الوصايا الأساسية في التوراة وأن الحكماء اعتبروا هذه العودة بمنزلة الناموس الإلهي. وقد وجد موهيليفر سنداً لرؤيته التوفيقية هذه في التلمود الذي جاء فيه أن الإله يفضل أن يعيش أبناؤه في أرضهم، حتى ولو لم يُنفِّذوا تعاليم التوراة، على أن يعيشوا في المنفى ويُنفِّذوا تعاليمها (ولم يذكر الحاخام الصهيوني أن عكس هذا القول أيضاً ورد في التلمود(

ويذكر في خطابه كذلك أن القومية لا تتناقض مع عقيدة الماشيَّح، فالماشيَّح سيأتي ويجمع إسرائيل المشتتة ليسكن أبناؤها في بلدهم بدلاً من أن يظلوا هائمين على وجه الأرض يتنقلون من مكان إلى آخر.

وقد بدأ موهيليفر تلك السلسلة الطويلة من الحاخامات الصهاينة الذين أصدروا الفتاوى لتذليل الصعاب أمام عملية الاستيطان. وحينما واجه المستوطنون اليهود مشكلة حلول السنة السبتية، كان موهيليفر ضمن الحاخامات "التقدميين" الذين أفتوا بإباحة بيع الأرض للأغيار بيعاً صورياً حتى يتمكن اليهود من زراعتها.

موسى جلازنــر (1856-1924(Moses Glazner

حاخام صهيوني أرثوذكسي وأحد القادة المؤسسين لحركة مزراحي في المجر ورومانيا. هاجم الأرثوذكس بشدة في المؤتمر التأسيسي لحركة مزراحي، كما نشر الأفكارالصهيونية بين الدوائر الأرثوذكسية، وألَّف عدة كتب في الشريعة اليهودية.

هاجر إلى القدس عام 1923 ليشارك في النشاطات التعاونية والتربوية لحركة مزراحي، وتُوفي هناك عام 1924.

أبراهــام كــوك (1865-1924(Abraham Kook

أهم مفكري الصهيونية الإثنية الدينية وأول حاخام أكبر لليهود الإشكناز في فلسطين. وُلد في شمال روسيا، وتلقى تعليمه الديني في إحدى المدارس التلمودية العليا، ثم هاجر إلى فلسطين عام 1904 واستقر فيها. وقد تَعرَّف كوك إلى تقاليد القبَّالاه وسعى وراء تجارب الإشراق الداخلية، والواقع أن كتاباته كلها مفعمة بروح قبَّالية وإيمان بالحلول الرباني في الشعب اليهودي. وتتلخص سيرة حياته ونشاطاته القومية الدينية في محاولة تقريب الصهيونية إلى المتدينين وتقريب المتدينين من الصهيونية.

ويأخذ كوك بالصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة ويقوم بتهويدها تماماً من خلال ديباجته الدينية الصوفية الحلولية. فهو أولاً يرى أن المنفى حالة غير طبيعية، على عكس الرؤية التقليدية التي ترى المنفى جزءاً لا يتجزأ من التجربة الدينية عند اليهود فهي أمر الإله والعقاب الذي حاق باليهود نتيجة الذنوب التي اقترفوها. وحسب تصوُّره، لا يستطيع اليهودي أن يكون مخلصاً وصادقاً في أفكاره وعواطفه وخيالاته في أرض الشتات. فاليهودية في أرض الشتات ليس لها وجود حقيقي.

وكما هو متوقَّع، لا يرفض كوك اليهودية التقليدية بشكل صريح، فهو يقوم بترويضها وتحديثها وعلمنتها من الداخل من خلال الديباجات الدينية وذلك عن طريق تغليب الطبقة الحلولية داخل تركيب اليهودية الجيولوجي التراكمي وتجَاهُل الطبقة التوحيدية تماماً حتى تتفق اليهودية قلباً وربما قالباً مع الصهيونية. ويطرح كوك رؤية حلوليةللأمة اليهودية (حلولية بدون إله تقترب إلى حدٍّ كبير من فكرة القومية العضوية بل تترادف معها)، فالإله يحل في الإنسان والمادة (الشعب اليهودي والأرض اليهودية) فيوحدهما في وحدة حلولية عضوية، والقومية الدينــية والدين القومي هما في واقع الأمر القومية العضوية بعد أن يحل الإله في المادة ويصبح كامناً فيها تماماً.

يؤكد كوك أن اليهود شعب، شعب واحد، واحد كوحدانية الكون (واحدية كونية). ولكنه شعب من نوع خاص، فاليهودية دين قومي وقومية دينية. ولذا، فهو يهاجم دعاةالعضوية الذين يتحدثون عن "روح الأمة" أو "روح الشعب العضوي" (بالألمانية: فولكس جايست Volksgeist ، وبالعبرية: رواح ها أما) ويقول إنهم يخدعون أنفسهم، فما يـسري في الأمة ليـس قوة طبيعيـة عضوية وحسـب، وإنما روح الإله نفسه. ولكن كوك يهاجم أيضاً المتدينين التقليديين الذين ينادون بأن مفهوم الأمة حسب العقيدة اليهودية لا علاقة له بالتعريفات القومية العلمانية الغربية الجديدة. يُسمِّي كوك هؤلاء «الانشطاريين»، فريق منهم يحاول إسقاط العنصر الديني تماماً، والثاني يحاول إسقاطالعنصر القومي تماماً أيضاً، أما كوك نفسه فيزيل كل الثنائيات ويرى أن ثمة تمازجاً كاملاً بين المطلق والنسبي وبين الخالق والمخلوق وبين القومية والدين، فكل عامل منعوامل الروح اليهودية يضم بشكل حتمي جميع جوانب نفسية الشعب اليهودي. ومن ثم، فإن فصل القومية عن الدين تزييف لكليهما، فثمة مادة إلهية تسري في جماعة يسرائيل تجعل روحها ملتصقة بروح الإله، بل إن روح يسرائيل وروح الإله شيء واحد (فهما من مادة واحدة). هذا الإله الذي يكمن داخل الشعب هو مصدر روحهم القومية. ولذا، يجب على أعضاء هذا الشعب أن يدركوا حقيقة الإله الموجود داخلهم، ويدركوا من ثم حقيقة قوميتهم، فروح الإله تسري في الأرض سريانها في الشعب (وهنا يكتمل الثالوث الحلولي وهو نفسه الثالوث العضوي: الأرض والشعب والرابطة العضوية بينهما). وكل ممتلكات اليهود القومية من أرض ولغة وتقاليد وتاريخ هي عروق تجري فيها روح الإله. ولذا، فإن أرض إسرائيل ليست شيئاً منفصلاً عن روح الشعب اليهودي، إنها جزء من جوهر الوجود اليهودي القومي ومرتبطة بحياة الوجود وبكيانه الداخلي ارتباطاً حلولياً عضوياً.

والوحي المقدَّس لا يمكن أن يكون نقياً إلا في أرض إسرائيل (أما خارجها، في المنفى، فهو مُشوَّش ومُلوَّث وغير نقي). فالتجسد الإلهي من خلال الشعب لا يمكن أن يتم إلا على الأرض المقدَّسة (وفي هذا عودة للوثنية القديمة وللعبادة القربانية المركزية)، وكلما ازداد تعلُّق الشخص بأرض إسرائيل، زادت أفكاره طهارة، والطهارة هنا هي نتيجة التعلق بشيء مادي وهو الأرض وليس نتيجة فعل الخير.

لكل هذا، تصبح العودة إلى الأرض المقدَّسة هي حل المسألة اليهودية، فهذا هو مصدر تميُّز اليهودية ولا أمل ليهود المنفى إلا بإعادة زَرْع أنفسهم في فلسطين والاعتماد على ينبوع الحياة الحقيقي المقدَّس الموجود في أرض إسرائيل وحدها. وإن عاد هذا الشعب ظهرت قدسيته الحقيقية، فهذا هو الطريق الوحيد لإعادة ولادة هذا الشعب (وهكذا يتحول الخطاب الاسترجاعي البروتستانتي والخطاب الاستيطاني الإمبريالي إلى خطاب صهيوني حلولي تجسدي)

وكما هو الحال مع المنظومات الحلولية، فبعد أن يتعادل المطلق والنسبي، والكل والجزء، والخالق والمخلوقات، تَرجَح كفة المخلوقات المادية على الخالق، فينسى كوك الروح الإلهية ويتحدث بدلاً من ذلك عن القومية العضوية دون أية إشارة إلى إله أو دين. ولذلك فهو يشير إلى اليهود في أرض الشتات باعتبارهم جماعة أدارت ظهورها للحياة الطبيعية ولتطوير الأحاسيس، وأهملت كل ما له علاقة حسية بحقيقة الجسد، ينقصها الإيمان بقدسية الأرض التي لا تختلف عن قدسية الجسد، فأخذوا يتحللون بشكل مخيف (وليُلاحَظ أن المرجعية النهائية هنا هي الطبيعة والجسد). والبعث القومي (الصهيوني) هو الحل، وبعدها ستقوم الحياة الحسية (الطبيعية) مرة أخرى، وسينشط الحلمالذي بدأ ينال منه التعب.

ولكن القداسة هنا قداسة كامنة في المادة لا تتجاوزها، ومن ثم فهي لا تختلف عن القداسة التي يبحث عنها أهارون جوردون وغيره من الصهاينة العمـاليين الملحدين. ويقتبـس كوك من المشـناه العبارة التالية: "إن الإيمان يمكن التعبير عنه بقوة الحياة في الزرع، فالإنسان يمكن أن يبرهن على إيمانه بالحياة الأزلية عن طريق الزراعة". ثم ينهي كوك مقاله بعبارة دالة: "ستتحقق عودتنا فقط إذا ما رافقت عظمتنا الروحية عودة إلى الجسد من أجل جسم صحيح قوي وعضلات قوية تُغلِّف روحاً ملتهبة". وهذا الحديث لا يختلف البتة عن حديث داروين أو نيتشه، كما أنه لا يختلف عن الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية. وفي مثل هذه الأنساق، تتحول وحدة الوجود إلى علمانية إلحادية صريحة.

في هذا الإطار الحلولي المادي التجسيدي، يصبح البعث السياسي وإنشاء الدولة اليهودية هو نفسه العصر المشيحاني. ويقدم كوك تاريخاً للدولة اليهودية ولاشتراك اليهود في معترك السياسة الدولية (وهي إشكالية العجز وانعدام السيادة)، فيلاحظ أن قوى خارجية (وليس الإله) جعلت اليهود يضطرون إلى ترك هذه الحلبة، ولكن يبدو أن الانسحاب تم أيضاً برضاً تلقائي فقد كان العالم آثماً وقذراً ويتخلل الحياة السياسية فيه الكثير من الآثام. ولكن اليوم الذي سيصبح فيه العالم أكثر لطفاً قد دنا، ولذا يجب على اليهود أن يهيئوا أنفسهم ليحكموا دولة خاصة بهم. ثم يعطي كوك هذه الدولة طابعاً مشيحانياً حين يقـول: "إن تأمين نـظام العـالم الذي تمزقـه الحروب اليهـودية يتطلب بناء الدولة اليهودية. وجميع الحضارات ستتجدد بولادة شعبنا من جديد".

ومن الواضح أن هذه الأفكار إعادة إنتاج لفكرة مشاركة الشعب اليهودي للخالق في إصلاح الكون (تيقون) وفي استعادة الخالق لوجوده وكليته الروحية.

وبعد ترويض اليهودية على هذا النحو، وبعد توليد الإلحاد من وحدة الوجود، لم يَعُد من الصعب تَبنِّي الصهيونية كعقيدة، وعقد الزواج بينها وبين اليهودية، مع افتراض أناليهودية الحلولية هي التي ستحقق الانتصار النهائي. وقد كان كوك على يقين من أن جيل المستوطنين الصهاينة في فلسطين هو الجيل الذي تتحدث النبوءة عنه وعن أنه ينتمي إلى عصر الماشيَّح، وأن الرواد (بغض النظر عن علمانيتهم) كانوا ينفذون تعاليم الدين باستيطانهم الأرض في فلسطين. ولتسهيل مهمة الرواد، حاول كوك أن يصل إلى صيغ دينية يمكن أن تتسع للمتدينين والعلمانيين، وحاول أن يصبغ الصهيونية بالشرعية الدينية التي كانت تفتـقر إليهـا في نظر الأرثوذكـس على الأقـل. وقـد نادى بالتحـالف مع "اللادينيين" لأنه كان على ثقة من أن جميع المستوطنين، الديني منهم والعلماني، سيرضخون في نهاية الأمر للصيغة الحلولية، لأن القومية اليهودية (على حد قوله) قومية مقدَّسة لا يستطيع العلمانيون مقاومة تيارها الأساسي. كما أنه كان يرى أن كل اليهود، ومنهم العلمانيون، تسري فيهم روح القداسة رغماً عنهم.

وقد شرح كوك موقفه وتصوُّره في صورة مجازية تفسيرية شهيرة قال فيها: حينما كان الهيكل المقدَّس قائماً، كان محظوراً على الأجانب أو حتى على أي يهودي عادي أن يدخل قدس الأقداس، وكان الكاهن الأكبر وحده هو المُصرَّح له بالدخول مرة واحدة في يوم الغفران. ومع هذا، فحينما كان الهيكل في دور التشييد، كان بإمكان أي عامل مشترك في البناء أن يدخل الحجرة الداخلية مرتدياً الملابس العادية.

ومن الواضح أن الهيكل في هذا التشبيه هو الدولة الصهيونية، والرواد هم العمال (أو لعلهم الصهاينة العماليون)، أما الكهنة الحقيقيون فهم ولا شك اليهود الأرثوذكس الذين سيسيطرون على الهيكل بعد بنائه.

ولتسهيل مهمة البناء، حاول كوك أن يزيل المصاعب التي تقف في طريق النشاط الاستيطاني ويذللها للمستوطنين اليهود، فأصدر فتاوى متسامحة تُسهِّل لهم الحياة في فلسطين. وعلى سبيل المثال أصدر فتوى تبيح زراعة الأرض في سنة شميطاه أو السنة السبتية على أن تباع أرض الميعاد بشكل صوري للأغيار، كما صرَّح بلعب كرة القدم يوم السبت على أن تُباع التذاكر يوم الجمعة.

ويبدو أن كوك، انطلاقاً من رؤيته العضوية الحلولية، كان لا يرى مكاناً للعرب، فهـم يقفـون خارج دائرة القداسـة. فأثناء ثورة عام 1929، اتهم كوك البريطانيين بالتقاعس عن حماية اليهود، واتخذ موقفاً متشدِّداً أثناء المعركة التي دارت حول حائط المبكى. وكان كوك قريباً من حركة مزراحي، ومع هذا فقد حضر مؤتمراً من مؤتمرات أجودات إسرائيل ليعرض وجهة النظر الصهيونية الدينية.

وسافر كوك إلى أوربا عام 1914، لكن الحرب حالت دون رجوعه فعمل حاخاماً في سويسرا ثم في لندن، وعاد إلى فلسطين عام 1917 حيث أسَّس مدرسة تلمودية لغة الدراسة فيها هي العبرية وكان يُدرِّس فيها ما يُسمَّى «الفلسفة اليهودية» إلى جانب الشريعة اليهودية. وقد نشر كوك بحوثاً في كل جوانب المعرفة الحاخامية والتصوفاليهودي والفلسفة والشعر، ونُشرت رسائله في عدة مجلدات، كما أن له العديد من الفتاوى.

ويمكننا أن نقول إن اليهودية الحاخامية الأرثوذكسية تختفي تقريباً في أعمال كوك وتصبح صهيونية حلولية عضوية تطالب بضم كل أرض إسرائيل وبطرد العرب وبالحد الأقصى الصهيوني. وقد نجحت صيغته في الهيمنة على اليهودية الأرثوذكسية بحيث لم يبق سـوى أقلية أرثوذكسـية (الناطـوري كارتا) هي التي تعارض الصهيونية.

مـائير بـار إيـلان (برلين (1880-1949)(

Meir Bar Ilan (Berlin)

زعيم صهيوني ديني، من عائلة برلين، غيَّر اسمه بعد قيام إسرائيل فصار يُعرَف باسم «بار إيلان». وُلد في فولوجن (روسيا) وتلقَّى تعليمه الديني هناك، وساهم في إنشاء حركة مزراحي. وفي عام 1905، شارك للمرة الأولى كمندوب في المؤتمر الصهيوني السابع. ومنذ 1910، استقر في برلين وأسس مجلة أسبوعية بالعبرية. وفي عام 1911، اختير عضواً باللجنة التنفيذية لحركة مزراحي العالمية ثم سكرتيراً عاماً لها عام 1912 بعد أن افتتحت مكتبها المركزي بالعاصمة الألمانية.

وأثناء الحرب العالمية الأولى، سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهناك قام بدور بارز في النشاط الصهيوني وفي الأوساط اليهودية، فساهم في تطوير المجموعات المحلية لمزراحي وتولى رئاسة منظمة مزراحي من عام 1916 إلى عام 1926 حيث أصبح رئيساً شرفياً لها. وعمل بار إيلان بنشاط من خلال اللجنة اليهودية الأمريكيةالمشتركة للتوزيع وغيرها من المنظمات التي عملت على مساعدة اليهود من لاجئي الحرب في شرق أوربا. ثم استقر في فلسطين عام 1926، وتزعَّم حركة مزراحي العالمية منذ ذلك الحين وحتى وفاته، فيما عدا بعض الانقطاعات القصيرة. كما شغل عدة مناصب قيادية في المنظمة الصهيونية العالمية، وكان من دعاة التشدد مع العربوالبريطانيين، فعارض عام 1937 المشروع البريطاني لتقسيم فلسطين، وانسحب من مؤتمر سان جيمس بلندن عام 1939 عندما ظهرت بوادر خطط بريطانية معارضة للصـهيونية في نظـره. وبعد نشـر الكتاب الأبيض عـام 1939، نادى بسياسة المواجهة مع السلطات البريطانية في فلسطين ورفض أي تعاون معها. كما كان بار إيلان من أنصار الحرب على مظاهر عدم التدين بين المستوطنين الصهاينة.

وبوصفه خطيباً مُفوَّهاً، قام بار إيلان بعدة جولات وزيارات للمراكز اليهودية في أنحاء العالم من أجل إلقاء الخطب وعقد الندوات التي تدور حول الدعوة للأفكارالصهيونية. وقد نشر عدة مقالات صحفية، وألف عدة كتب من بينها: من فولوجن إلى القدس، وهو سيرة ذاتية في جزءين، و معلم في إسرائيل. وقد أسَّس بار إيلان صحيفة هاتسوفيه وكان أول رئيس لتحريرها. وقد أُطلق اسمه على إحدى الجامعات في إسرائيل.

صمويل لانــداو (1892-1928(Samuel Landau

حاخام بولندي الأصل، وزعيم صهيوني ديني، ومؤسِّس جماعة عمال مزراحي. نشأ في بيئة حسيدية في بولندا حيث تلقَّى تعليماً دينياً تقليدياً في المدرسة التلمودية وأصبح حاخاماً في سن الثامنة عشرة، ثم قرأ بنفسه الكتب غير الدينية وانخرط في سلك حركة مزراحي في بولندا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. وكتب لانداو عدة مقالاتهاجم فيها موقف اليهود الأرثوذكس السلبي من الصهيونية. وفي عام 1926، هاجر إلى فلسطين حيث تابع نشاطه الصهيوني.

وينطلق لانداو من رؤية حلولية عضوية، ولذا فإنه يشدِّد في كتاباته على أهمية الاستيطان في الأرض، فالإقامة في الأرض المقدَّسة هي أحد الأوامر والنواهي (متسفوت) لأن القبس الإلهي لا يؤثر في الشعب اليهودي إلا وهو في أرضه، أي أنه يدور في إطار الثالوث الحلولي العضوي (الإله ـ الأرض ـ الشعب). وهو يُطعِّم هذه الفكرة الحلولية العضوية بفكرة العمل وزراعة الأرض وبالديباجات الصهيونية العمالية الأخرى، ولكنه يبيِّن أنها قيَم مرتبطة في نهاية الأمر بالتوراة والوجود اليهودي المنفصل.

كما أنه يشير إلى أن هذه القيم العمالية اليهودية لا علاقة لها بمسألة النظام الاقتصادي أو بالعدالة الاجتماعية وإنما ترمي إلى خلق البدايات الأولى للحياة القومية، فالبعثالقومي هو القيمة المطلقة الحاكمة وما عدا ذلك مجرد تجليات لها.

الصفحة التالية ß إضغط هنا