المجلد الثانى: الجماعات اليهودية.. إشكاليات 11

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

ومما يُذكَر أن بيرجمان، شأنه شأن بويسكي، كان من كبار المساهمين في الأنشطة الصهيونية والأنشطة « الخيرية » اليهودية. وقد حرص بيرجمان على إقامة علاقات وثيقة بشخصيات سياسية أمريكية واسـتغلال هذه العلاقـات لتمرير بعض مشـاريعه أو التغاضي عن تجاوزاته، كما أنه لم يتردد في اتهام الهيئات أو الجهات المختصة التي عارضت مشاريعه بأنها معادية لليهود، وذلك في الوقت الذي كان يقوم فيه باستنزاف المسنين من اليهود وغير اليهود وإهدار آدميتهم تحت عباءة اليهودية. وقد بدأ التحقيق مع بيرجمان عام 1974 حيث أُدين بتهم الاحتيال والنصب على البرنامج الأمريكي للرعاية الصحية وبتهم الرشوة والتهرب الضريبي. وحُكم عليه بالسجن لمدة عاموأربعة أشهر وبغرامة كبيرة.

وإذا كان ميراث الجماعات اليهودية (باعتبارها جماعات وظيفية وسيطة داخل التشكيل الرأسمالي تعمل وتتركز في قطاعات التجارة والخدمات المالية والسمسرة) يفسر إلى حدٍّ كبير بروزهم في كثير من الفضائح المالية، فإن هذه الجرائم والانحرافات المهنية ذاتها هي جرائم وانحرافات شائعة في المجتمعات الرأسمالية، بين اليهود وغير اليهود، وانعكاس مباشر لآليات هذه المجتمعات التي تحكمها اعتبارات القوة والمال ويسودها الصراع والتنافس الشديدان وتَكثُر بها الثغرات التي يمكن استغلالها والتحايل من خلالها على القوانين والتشريعات لتحقيق المكسب والربح. ويجب ملاحظة أن جرائم الغش التجاري التي يرتكبها أعضاء الجماعات اليهودية لا يمكن تفسيرها بأنها جزء من المؤامرة اليهودية الأزلية لإفساد أخلاق الأغيار، فكثير من ضحايا جرائم الغش التجاري التي يرتكبها اليهود من اليهود (كما هو الحال في حالة جرافيير وبيرجمان)، فالغش التجاري في عصر الرأسمالية الرشيدة يتسم بالرشد وبعدم التمييز بين البشر على أساس الدين أو اللون أو الجنس، فهو غش مجرد لا شخصي، تماماً مثل رأس المال المجرد.

تهريب البضائع وأعضاء الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة

Smuggling and the Jewish Communities in the U.S.A.

يوليسيس جرانت (1822 ـ 1885) هو قائد الجيش الأمريكي الشمالي ضد الجنوب خلال الحرب الأهلية الأمريكية، والرئيس الثامن عشر للولايات المتحدة الأمريكية فيالفترة ما بين عامي 1869 و1877. أصدر عام 1862، خلال الحرب الأهلية، الأمر رقم 11 بشأن طرد أعضاء الجماعة اليهودية خلال أربع وعشرين ساعة من جميع المناطق الخاضعة لسلطاته العسكرية. ويُعتبَر هذا الأمر هو الوحيد من نوعه في التاريخ الأمريكي الذي شمل أعضاء الجماعة اليهودية على هذا النحو السلبي. وكان السبب الرئيسي وراء هذا الأمر هو تَورُّط بعض أعضاء الجماعة اليهودية في عمليات التهريب التي كانت جارية بشكل مكثف عبر الخطوط العسكرية بين قوات الشمال وقوات الجنوب. وقد كانت حكومتا الشمال والجنوب تتغاضيان إلى حدٍّ ما عن عمليات التهريب حيث كانتا تسدان من خلالها بعض احتياجاتهما، كما كان بعض ضباط الجيشين متورطين في هذه العمليات. إلا أن تزايد حجمها واتساع نطاقها أدَّى إلى إصدار هذا الأمر. ورغم أن كثيراً من الأدبيات اليهودية تفسر أمر جرانت هذا بأنه شكل من أشكال معاداة اليهود، وأنه أصدره استناداً إلى معلومات خاطئة زوَّده بها بعض التجار من غير اليهود الذين كانوا يقومون بعمليات تهريب (وكان متورطاً معهم فيها بعض ضباط الجيش)، إلا أن الدلائل تشير إلى أن أعضاء الجماعـة اليهودية كانوا بالفعل مُمثَّلين بشكل مـتزايد في عمليات التهريب، وربما كانوا يلعبون دوراً رئيسياً فيها. ويمكن فهم هذا الوضع في إطار إدراكنا لميراث الجماعة اليهودية كجماعة وظيفية وسيطة تتميَّز بخبراتها الواسعة في مجال التجارة ولا تتقيد بانتماءات أو ولاءات خارج إطار الجماعة نفسها. ومما يدل على هذا التورط المتزايد لأعضاء الجماعة اليهودية في التهريب ما عبَّر عنه بعض الحاخامات الأمريكيين في تلك الفترة من قلق وتخوف بالغ إزاء اشتراك أعضاء الجماعة في نشاط التهريب والذي اعتبروه (على حد قول الحاخام يعقوب بريز) تدنيساً لاسم الرب. وقد أشار هذا الحاخام في رسالة له لإسحق ليسر إلى أن أكثر من عشرين يهودياً كانوا في سجون مدينة ممفيس بتهمة التهريب. وقال إسحق ليسر نفسه في مقال له رداً على الأمر "إن جموع المغامرين الباحثين عن الربح والخسارة يحومون حول البلاد بطولها وعرضها، كما أن بعضهم من اليهود الذين يتظاهرون بأنهم يهود صالحون في حين أنهم ليسوا كذلك". كما قال ديفيد أينهورن: "إن على اليهود استئصال هذه الجرائم من بينهم لأنها لا تجلب سوى العار على الجماعة اليهودية بأكملها". كما يقول آرثر هرتزبرج في كتابه يهود أمريكا "ليس هناك مجال للشك في أن بعض الثروات اليهودية.. تعود جذورها إلى الأرباح التي تحققت عن طريق عمليات التهريب خلال الحرب الأهلية الأمريكية".

ومن ثم لا يمكن اتهام جرانت بمعاداة اليهود، وذلك باعتراف بعض اليهود أنفسهم حيث لم يبد جرانت، قبل هذا الحادث أو بعده، أي عداء تجاه أعضاء الجماعة اليهودية، بل عمل على تعيين يهود في مراكز مرموقة خلال فترة رئاسته. كما أن الجدل الذي أُثير داخل الكونجرس الأمريكي حول هذا الأمر، انتهى برفض مشروع قرار بإلغاء الأمر، وكان قوامه الخلافات الحزبية، وهو ما يعني أن الاعتبارات الرئيسية كانت اعتبارات سياسية واعتبارات تتصل بمصالح الشمال في حربه مع الجنوب.

وقد ألغى الرئيس لنكولن القرار، في نهاية الأمر، بعد الاحتجاجات الواسعة النطاق التي أثارها أعضاء الجماعة اليهودية ومن بينهم بعض المقرَّبين منه والمؤيدين له.

فضيحــة قنــاة بنـــما

Panama Canal Scandal

من أكبر الفضائح المالية والسياسية التي هزت المجتمع الفرنسي في أواخر القرن التاسع عشر. وهي فضيحة خاصة بانهيار شركة قناة بنما الفرنسية وما تكشَّف في أعقاب ذلك من تجاوزات وفساد مالي وسياسي. وقد تورط في هذه الفضيحة ثلاث شخصيات من أعضاء الجماعات اليهودية هم: البارون جاك دي رايناخ (مصرفي ومالي من أصل ألماني والوكيل المالي للشركة)، وكورنيليوس هرتز (طبيب أمريكي)، وليوبولد إميل أرتون (مغامر فرنسي).

وترجع بدايات الفضيحة إلى عام 1888، حينما واجهت شركة قناة بنما أزمة مالية حادة نتيجة جملة من العوامل الطبيعية والمشاكل الفنية وسوء الإدارة التي صاحبت عملية شق القناة. وكان المخرج الوحيد أمام الشركة هو طرح سندات يانصيب لجمع الأموال اللازمة. ولكن ذلك كان يستلزم الحصول على موافقة البرلمان الفرنسي في حين كانت بعض الدوائر تؤكد أن وضع الشركة والمشروع أصبح ميئوساً منه وأن طرح سندات اليانصيب لن يجدي فتيلاً.

ولذلك، لجأت الشركة إلى رشوة بعض أعضاء البرلمان الفرنسي الذين صوتوا بالفعل لصالح مشروع اليانصيب. وكان أداة الشركة في هذه العملية هو وكيلها المالي البارون جاك دي رايناخ. وكان رايناخ، الألماني الأصل، قد أقام مؤسسة مصرفية ومالية في فرنسا باسم «كون ورايناخ وشركاهما». وجمع ليوبولد ثروته من خلال المضاربة في السكك الحديدية الفرنسية وبيع الإمدادات العسكرية للحكومة الفرنسية. ويبدو أن بعض عملياته قد أحاطتها الشبهات وإن لم يتأكد أبداً أنه ارتكب أية انحرافات. وكانت مهمة رايناخ إقامة لوبي (جماعة ضغط) مؤيدة للشركة في الأوساط البرلمانية والسياسية والصحفية وتَلقَّى من الشركة ملايين الفرنكات لدفع الرشاوى وشراء الأصدقاء.

وقد قام رايناخ باستخدام ليوبولد إميل أرتون (1849 ـ 1905) ليقوم بتوزيع مليون فرنك على أعضاء البرلمان الفرنسي. والمعروف أن أرتون مغامر فرنسي وُلد لعائلة يهودية ألزاسية وعاش طفولة تعسة في فرانكفورت ثم انتقل إلى البرازيل حيث اعتنق الكاثوليكية وغيَّر اسمه من أرون إلى أرتون، وفي عام 1882 عاد إلى فرنسا والتحق بشركة الديناميت التي كانت مشاركة في عمليات شق قناة بنما. وبعد تَفجُّر فضيحة قناة بنما، فرّ أرتون من البلاد بعد أن اختلس مبلغ 4.6مليون فرنك من شركة الديناميت.

أما كورنيليوس هرتز (1845 ـ 1898)، فقد أبرم اتفاقاً سرياً مع قناة بنما استلم بموجبه 600 ألف فرنك مقابل استخدام نفوذه وعلاقاته لدى بعض الشخصيات السياسية الفرنسية المهمة لصالح الشركة. كما نص الاتفاق على أن يتسلم هرتز مبلغ عشرة ملايين فرنك فور إقرار مشروع اليانصيب في البرلمان على أن تتم عمليات الدفع كلها عن طريق رايناخ. وقد كانت شخصية هرتز شخصية مثيرة للريبة والتكهنات، فقد وُلد في فرنسا لأبوين ألمانيين ثم هاجرت أسرته إلى الولايات المتحدة. وعاد هرتز في شبابه إلى فرنسا لدراسة الطب، وانضم كمساعد جراح في الجيش الفرنسي أثناء الحرب الفرنسية البروسية في نيويورك ولكنه ترك الجيش بعد ثلاثة أشهر بعد أن اكتشف المسئولون في المستشفى العسكري أنه لم يتخرج من أية جامعة في فرنسا ولم يحصل على شهادة إتمام دراسة الطب. وقد انتقل هرتز بعد ذلك إلى سان فرانسيسكو حيث افتتح عيادة طبية، ولكنه سافر عام 1877 بشكل مفاجئ مع أسرته إلى فرنسا وتبين فيما بعد أنه احتال على بعـض مرضـاه وزملائه من الأطباء وأخذ منهم حـوالي 140 ألف دولار. وفي باريس، استثمر أمواله بمساعدة رايناخ في بعض المشاريع، وبدأ في بناء شبكة واسعة من العلاقات مع العديد من الشخصيات الفرنسية المهمة من بينها رئيس الدولة ورئيس الوزراء وجورج كليمنصو الذي ساهم هرتز في تأسيس وتمويل جريدته. وقد اتُهم هرتز بأنه كان عميلاً لبريطانيا، لكن ذلك لم يتأكد قط.

وقد رفضت الشركة أن تدفع له العشرة ملايين فرنك عقب تصويت البرلمان الفرنسي لصالح مشروع اليانصيب، بدعوى أن هرتز لم يلعب في ذلك دوراً يُذكَر. إلا أن هرتز نجح في أن يستنزف من الشركة ملايين الفرنكات من خلال ابتزاز رايناخ الذي يبدو أن هرتز كان على علم ببعض الأسرار المشينة في حياته ومنها ما قيل من أنه باع أسرار الدولة الفرنسية إلى إيطاليا أو بريطانيا.

وبرغم موافقة البرلمان على مشروع اليانصيب، فشل هذا المشروع عند طرحه في جمع الأموال اللازمة، وهو ما ساعد في نهاية الأمر على سقوط الشركة وتصفيتها عام 1889. وكان انهيار الشركة أكبر سقوط مالي في فرنسا حتى ذلك الحين، حيث أدَّى إلى ضياع أموال أكثر من 800 ألف من المواطنين الفرنسيين من المساهمين في الشركة.

ولم تتفجر فضيحـة قناة بنمـا إلا بعد سـقوط الشـركة بثلاث سنوات، حينما نشرت صحيفة لا ليبر بارول التي أسسها إدوارد درومون المعادي لليهود سلسلة من المقالات تحت عنوان « أسرار بنما» ادعى فيها كشف النقاب عن « المؤامرة اليهودية » وراء كارثة بنما واتهم رايناخ بالتورط في رشوة أعضاء البرلمان الفرنسي. وقد كان درومون أشد أعداء الرأسمالية المالية حيث اعتبرها « مرض فرنسا الحديثة وسبب مشاكلها ». ونظراً لارتباط أعضاء الجماعات اليهودية بالقطاع المالي والمصرفي بشكل وثيق، أصبح اليهود هدف هجومه اللاذع، حيث حمَّل « النظام الرأسمالي اليهودي » كثيراً من المشاكل التي تواجهها فرنسا الحديثة ومن ذلك كارثة بنما.

وكان من مفاجآت التحقيقات اللاحقة اكتشاف أن رايناخ (محور المؤامرة اليهودية) كان هو نفسه مصدر معلومات درومون، حيث تبين أنه في أعقاب تفجير القضية على صفحات الجريدة أبرم رايناخ اتفاقاً مع درومون يقضي بإخراج اسمه من موضوعات الصحيفة مقابل قيام رايناخ بتوفير جميع المعلومات المتصلة بالقضية وبتجاوزات الشركة. ومما يذكر أن الحملة التي أثارتها صحيفة درومون وغيرها من الصحف الفرنسية ضد شركة بنما كانت تتم في إطار الصراع السياسي القائم آنذاك بين القوىاليمينية والملكية من جهة والقوى الاشتراكية والنظام الجمهوري من جهة أخرى، خصوصاً أن كثيراً من رجال السياسة والدولة كانوا متورطين في الفضيحة بشكل أو بآخر.

وقد تُوفي رايناخ في نوفمبر 1892 بشكل مفاجئ مع بداية التحقيقات في القضية، وأُثيرت تكهنات حول مسألة وفاته حيث قيل إنه انتحر أو قُتل. أما هرتز، فقد فرّ منالبلاد إلى لندن حيث ظل فيها حتى وافته المنية وقد حُكم عليه غيابياً بالسجن لمدة خمس سنوات، بينما ظل أرتون هارباً إلى أن تم إلقاء القبض عليه عام 1895. ثم تُوفيمنتحراً عام 1905.

ومن العسير فهم فضيحة قناة بنما إلا في إطار حركيات الرأسمالية الفرنسية والنخبة الحاكمة الفرنسية والعلاقة بينهما في أواخر القرن التاسع عشر. وتُبيِّن أحداث الفضيحة وطأة الاستغلال الواقع على كلٍّ من جماهير الشعب الفرنسي وأعضاء الطبقة الوسطى. ومع هذا، تحولت الفضيحة إلى قرينة أخرى على المؤامرة اليهودية الأزلية، وأصبحت من أهـم الأحداث التي يشـير إليهـا المعادون لليهود في أدبياتهم. وقد ساعدهم في ذلك أن أبطال الفضيحة كلهم من أعضاء الجماعات اليهودية، اثنان منهم فرنسيان من أصل ألماني والثالث فرنسي هاجر إلى أمريكا، وإن كان من العسير الحديث عن شبكة يهودية عالمية تشمل فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل ينبع غشهم التجاري من يهوديتهم أم من وجودهم داخل مجتمعات فاسدة مستغلة تساعد الإمكانيات الفساد داخل الإنسان على التحقق؟

صمـويل صـنبـال (؟ -1782)

Samuel Sunbal

دبلوماسي مغربي يهودي عمل بالتجارة وحقق أرباحاً فيها. ثم دخل في خدمة السلطان المغربي مترجماً ومستشاراً للسلطان، وقام بتمثيل المغرب في جميع المفاوضات مع الدول الأوربية. ونظراً لأهمية مركزه، حرصت الحكومة الإسبانية على منحه علاوة سنوية إدراكاً منها أنه قد يصبح عنصراً نافعاً لها ولمصالحها. وقد أُرسل عام 1751 كسفير للمغرب في الدنمارك للقيام بمهمة خاصة. وكانت لصنبال مكانة متميِّزة داخل الجماعة اليهودية في المغرب، حيث كان يُنظَر إليه باعتباره رئيس اليهود (النجيد). وفي عام 1780، وُجِّهت له اتهامات بتهريب العملة إلى خارج البلاد وسُجن، ولكنه نجح في الفرار إلى جبل طارق حيث اشترك في توفير الإمدادات للقلعة التي كانت واقعة تحت الحصار آنذاك، ثم عاد فيما بعد إلى المغرب حيث تُوفي في طنجة.

أما ابنه يوسف حاييم صنبال، فقد نجح في تأكيد الحقوق والمطالب المالية لوالده في الدنمارك. وكان يتميَّز بشخصية غير عادية. وفي عام 1787، دعا إلى دين جديد يوفق بين المعتقدات الدينية المتعارضة. وقد استقر يوسف في لندن بعد ذلك حيث عُيِّن عام 1794 سفيراً للمغرب في إنجلترا. وفي عام 1797، تزوج يوسف من ممثلة وصحفية مشهورة اعتنقت اليهودية كما قامت بعد اقترانهما بتسجيل الجوانب المثيرة لحياتها في سيرتها الذاتية. وقد استقر صنبال في نهاية المطاف في هامبورج حيث تُوفي عام 1804.

ولا يمكن تفسير سلوك صنبال في إطار يهوديته وإنما يمكن تفسـيرها في إطار وظيفيته التي جعلته غـير متجـذر في أي مكان أو زمان. ويظهر هذا في سيرة ابنه ودعوتهإلى الدين الجديد.

موســـى أننبـــرج (1878-1942(

Moses Annenberg

مليونير أمريكي يهودي بدأ حياته بائع جرائد، ثم تدرَّج داخل شبكة توزيع الصحف لمؤسسة هيرش الصحفية، ولجأ في كثير من الأحيان إلى استخدام أساليب البلطجة ضد موزعي الصحف المنافسة. وقد نجح أننبرج في دخول مجال النشر الصحفي واشترى عام 1936 جريدة فلادلفيا إنكوايرر وهي أقدم جريدة يومية في الولايات المتحدة. وفي عام 1939، اتُهم أننبرج مع ابنه وولتر (1908ـ ) بالتهرب من الضرائب. ودخل الأب السجن بعد أن اعترف بالتهمة مقابل إسقاط التهم الموجهة ضد ابنه، واعتُبر بذلك أكبر متهرب من الضرائب في التاريخ الأمريكي. وقد تولى ابنه وولتر رئاسة مؤسسة تراينجل للنشر عام 1942. وأضاف إلى المؤسسة جريدة ديلي نيوز و6 محطات إذاعة وتليفزيون ومجلتين إحداهما مجلة دليل التليفزيون (تي. في. جايد) وهي أكثر المجلات توزيعاً في العالم وأكثرها ربحاً في الولايات المتحدة. وفي عام 1969، باع وولتر جريدتي فلادلفيا إنكوايرر وديلي نيوز. وتقدر قيمة مؤسسة تراينجل بحوالي 1.6 بليون دولار، ويمتلكها وولتر وشقيقاته الخمس.

وقد اهتم وولتر بالإنفاق الضخم على المشاريع والأنشطة الخيرية من خلال مؤسسة موسى أننبرج. ويُقال إن هذا الاهتمام يرجع في الأساس إلى محاولة وولتر إزالة ما لحق بسمعة العائلة من غبار بعد قضية أبيه. كما اهتم وولتر بدعم إسرائيل حيث قدَّم لها بعد حرب 1967 منحة قدرها مليون دولار. وقد عيَّنه الرئيس الأمريكي نيكسون عام 1969 سـفيراً للولايات المتحدة لدى بريطانيا. وظلت تربطهما علاقة صداقة، كما كان مقرباً من الرئيس الأمريكي السابق ريجان.

لســتر كـراون (1925 - ؟)

Lester Crown

مليونير أمريكي يهودي ينتمي إلى عائلة كراون الأمريكية اليهودية الثرية. وأبوه هو هنري كراون الذي وُلد لأسرة من المهاجرين من يهود اليديشية، وعمل في عدة مؤسسات تجارية وصناعية حتى أصبـح عـام 1921 مـديراً لشــركة ماتيريــل سـيرفس ثم رئيساً لمجلس إدارتها. وبعد الحرب العالمية الثانية، عمل هنري كراون مديراً لعدة مؤسسات كبيرة من أهمها شركة جنرال داينامكس التي تُعَدُّ أكبر شركة مقاولات أمريكية تعمل في مجال الدفاع.

ويمتلك هنري كراون مع ابنه لستر حوالي 23% من هذه الشركة، وتُقدر ثروتهما بحوالي 1.1 بليون دولار. وفي السنة نفسها، تورَّط لستر كراون عام 1974 في فضيحة رشوة. وفي عام 1985، اتجهت وزارة الدفاع الأمريكية إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة لسحب التصريح الأمني الخاص به بسبب إخفائه عنها تورطه في الرشوة. وقد تعرضت شركة جنرال داينامكس لعدد من قضايا وفضائح الفساد.

ومما يجدر ذكره، أن شركة جنرال داينامكس ترتبط بإسرائيل من خلال علاقة التعاون الوثيق بين الولايات المتحدة وإسرائيل في مجال الصناعات العسكرية الإسرائيلية. وفي عام 1986، خلعت إسرائيل على لستر كراون لقب «زميل شرفي للقدس» بعد أن تبرع بمبلغ غير معروف من أجل إقامة مركز ثقافي ضخم بالمدينة.

إيفان بويسكي (1917 - ؟)

Ivan Boesky

أحد أهم رجال المال اليهود في الولايات المتحدة. وهو ابن مهاجر يهـودي من روسـيا درس القانون في جامعـة ديترويت. بـدأ بويسـكي يتاجـر في الأسـهم في وول ستريت ابتداءً من عام 1966، ثم تخصـص في عمليات المضاربة على أسهم الشركات التي توشـك على التـوسع أو الاندماج مع شركات أخرى أو توشك أن تستولي عليها إحدى الشركات الأخرى. وعادةً ما ترتفع أسعار أســهم هـذه الشركات عـند إعـلان نوايا التوسع أو الدمج أو الاستيلاء.

ويُعَدُّ بويسكي من أهم الشخصيات في المؤسسة الصهيونية واليهودية في الولايات المتحدة، وكان يتبرع بالملايين للحركة الصهيونية والمؤسسات اليهودية؛ فقد ساهم بمليوني دولار للكلية اللاهوتية اليهودية من أجل تأسيس مكتبة بويسكي فيها، كما كان نشيطاً جداً في النداء اليهودي الموحَّد. وكان مارتن بيريتز، صاحب مجلة النيو ربابليك ذات الاتجاه الصهيوني، من كبار المستثمرين لديه.

وقد اكتُشف عام 1986 أنه كان يستغل مهنته التي يفترض فيها الحياد والأمانة الشديدان، فكان يعقد الصفقات بشراء وبيع أسهم الشركات بناءً على ما يرده من معلوماتقبل أن تُعلَن للجمهور ويحقق أرباحاً طائلة نتيجةً لذلك، وهي فضيحة من أخطر الفضائح، فقُبض عليه وحُكم عليه بالسجن وبدفع غرامة ضخمة.

الجزء الرابع: عداء الأغيار الأزلي لليهود واليهودية

الباب الأول: إشكالية معاداة اليهود

معـاداة السامية

Anti-Semitism

«معاداة السامية» ترجمة شائعة للمصطلح الإنجليزي «أنتي سيميتزم». ونستخدم في هذه الموسوعة عبارة «معاداة اليهود» للإشارة إلى هذه الظاهرة.

معــاداة اليهـــود : المصطلــح

Anti-Semitism: Terminology

«معاداة اليهود» ترجمة للمفهوم الكامن وراء العبارة الإنجليزية «أنتي سـيميتزم». والمعنى الحرفي أو المعجمـي للعبارة هو «ضـد السامية»، وتُترجَم أحياناً إلى «اللاسامية». وكان الصحفي الألماني اليهودي الأصل ولهلم مار (1818 ـ 1904) أول من استخدم هذا المصطلح عام 1879 في كتابه انتصار اليهودية على الألمانية ـ من منظور غير ديني. وقد صدر الكتاب بعد المضاربات التي أعقبت الحرب الفرنسية البروسية (1870 ـ 1871) والتي أدَّت إلى دمار كثير من المموِّلين الألمان الذينألقوا باللوم على اليهود. ولو أُخذت العبارة بالمعنى الحرفي، فإنها تعني العداء للساميين أو لأعضاء الجنس السامي الذي يشكل العرب أغلبيته العظمى، بينما يُشكك بعضالباحثين في انتماء اليهود إليه. ولكن المصطلح، في اللغات الأوربية، يقرن بين الساميين واليهود ويوحد بينهم، وهذا يعود إلى جهل الباحثين الأوربيين في القرن التاسع عشر بالحضارات الشرقية، وعدم تكامل معرفتهم بالتشكيل الحضاري السامي أو بتنوع الانتماءات العرْقية والإثنية واللغوية لأعضاء الجماعات اليهودية. وهذا المصطلح يضرب بجذوره في الفكر العنصري الغربي الذي كان يرمي إلى التمييز الحاد بين الحضارات والأعراق، فميَّز في بداية الأمر بين الآريين والساميين على أساس لغوي،وهو تمييز أشاعه إرنست رينان (1823 ـ 1892)، ثم انتقل من الحديث عن اللغات السامية إلى الحديث عن الروح السامية والعبقرية السامية مقابل الروح الآرية والعبقرية الآرية التي هي أيضاً الروح الهيلينية أو النابعة منها. ثم سادت الفكرة العضوية الخاصة بالفولك أو الشعب العضوي، ومفادها أن لكل أمة عبقريتها الخاصة بها ولكل فرد في هذه الأمة سمات أزلية يحملها عن طريق الوراثة، وانتهى الأمر إلى الحديث عن تفوُّق الآريين على اليهود (الساميين)، هذا العنصر الآسيوي المغروس في وسط أوربا، كما دار الحديث عن خطر الروح السامية على المجتمعات الآرية. وشاع المصطلح منذ ذلك الوقت وقام الدارسون العرب باستيراده وترجمته كما فعلوا مع كم هائل من المصطلحات الأخرى. وبدلاً من ترجمة المصطلح، فقد فضلنا هنا توليد مصطلح جديد هو «معاداة اليهود» لأنه أكثر دقة ودلالة، كما أنه أكثر حياداً ولا يحمل أية تضمينات عنصرية ولا أية أطروحات خاطئة، كما هو الحال مع مصطلح «أنتي سيميتزم».

لكن بعض الكُتَّاب الغربيين يميلون إلى التمييز بين «معاداة اليهودية» و«معاداة السامية» حيث إن معاداة اليهودية، حسب تصوُّرهم، هي عداء ديني للعقيدة اليهودية وحدها، وبالتالي كان بإمكان اليهودي أن يتخلص من عداء المجتمع له باعتناق المسيحية. أما معاداة السامية، فهي عداء لليهود بوصفهم عرْقاً، وبالتالي فهي عداء علماني لاديني ظهر بعد إعتاق اليهود وتزايد معدلات اندماجهم. وهذا النوع من العداء يستند إلى نظريات ذات ديباجات ومسوغات علمية عن الأعراق عامة، وعما يُقال له «العرْق اليهودي»، وعن السمات السلبية الافتراضية (الاقتصادية والثقافية) الثابتة والحتمية لليهود اللصيقة بعرْقهم! وتصحب مثل هذه الدراسات إحصاءات عن دور اليهود في التجارة والربا مثلاً، وفي تجارة الرقيق عامة والرقيق الأبيض على وجه الخصوص، ومعدلات هجرتهم، ثم يتم استخلاص نتائج عرْقية منها. وبالتالي، إذا كانت معاداة اليهودية تعبيراً عن التعصب الديني، فإن معاداة السامية، حسب هذه الرؤية، هي نتيجة موقف دنيوي بارد يستند إلى حسابات المكسب والخسارة وإلى الرصد "العلمي" لبعض السمات اللصيقة بما يُسمَّى «الشخصية اليهودية». ويرى المنادون بهذا الرأي أن معاداة السامية بدأت في القرن التاسع عشر (أساساً) وإن كان بعضهم يرى أن عداء الدولة الإسبانية ليهود المارانو (وهم اليهود الذين تنصَّروا) هو عداء ذو دافع دنيوي إذ أن هؤلاء المارانو، بحسب إحدى النظريات، كانوا مسيحيين بالفعل. ولكن مقياس النقاء العرْقي (نقاء الدم) الذي حُكم به عليهم، لم يكن مقياساً دينياً وإنما كان مقياساً عرْقياً، وكان الدافع وراء اضطهادهم هو رغبة الأرستقراطية الحاكمة، أو بعض قطاعاتها على الأقل، في التخلص من طبقة بورجوازية جديدة صاعدة كانت تتهددها. ومن هنا، مُنع المارانو من الاستيطان في المستعمرات البرتغالية والإسبانية لتقليل فرص الحـراك أمامهم. وهكـذا، كانت هـذه الحركة تعبِّر عن اتجاه دنيوي، ولكنها تستخدم الخطاب الديني لتبرير غاياتها.

ومن هذا المنظور الطبقي العرْقي، يصبح اليهودي المندمج هو أكثر اليهود خطورةً، فهو يهودي (أي بورجوازي) يدَّعي أنه مسيحي ليحقق مزيداً من الحراك والصعود الاجتماعي. ولذا، لابد من وقفه والحرب ضده برغم تبنيه العقيدة المسيحية.

وهذا الموقف يناقض الموقف القديم لمعاداة اليهود حيث كانت الكنيسة ترحب بمن تنصَّر. فالنبلاء البولنديون المسيحيون، على سبيل المثال، كانوا يتزوجون من أعضاء الأسر اليهودية المتنصرة حتى القرن الثامن عشر. وقبل ذلك، كان الوضع نفسه سائداً في مملكتي قشطالة وأراجون في القرن الخامس عشر. ومن المعروف أن الكنيسة وقفت ضد أي تعريف عرْقي لليهودي يخضعه للحتميات البيولوجية شبه العلمية، وبالتالي فتحـت أمامـه أبواب الخـلاص. ولتبسـيط الأمور، دون تسطيحها، سنستخدم عبارة « معاداة اليهود» ثم نضيف إليها عبارات تحدد مجالها الدلالي مثل «على أساس عرْقي» أو «على أساس ديني»... إلخ، إن استدعى السياق ذلك.

وقد اختلط المجال الدلالي للمصطلح تماماً في اللغات الأوربية بعد ظهور الصهيونية. وبعد سيطرة الخطاب الصهيوني على النشاط الإعلامي الغربي، لم تَعُد هناك تفرقة بين ظاهرة معاداة اليهود في الدولة الرومانية وظاهرة معاداة اليهود في العصور الوسطى المسيحية. ولم يَعُد هناك تمييز بين معاداة اليهود على أساس عرْقي وبين معاداة اليهود على أساس ديني. وأصبحت معاداة الصهيونية، بل والدولة الصهيونية هي الأخرى، تُصنَّف باعتبارها من ضروب معاداة اليهود. وحينما كانت دول الكتلة الشرقية تصوت ضد إسرائيل في هيئة الأمم المتحدة، كان هذا يُعدُّ أيضاً تعبيراً عن تقاليد معاداة اليهودية الراسخة فيها. وبالمثل اعتُبر قيام فرنسا ببيع طائرات الميراج لليبيا تعبيراً عن الظاهرة نفسها. بل ويذهب أنصار هذا الرأي إلى أن نضال الشعب الفلسطيني ضد الاستيطان الصهيوني تعبير عن الظاهرة نفسها. وهكذا اتسع المجال الدلالي للمصطلح واضطرب ليضم عدة ظواهر لا يربطها رابط، حتى أصبح بلا معنى، وأصبح أداة للإرهاب والقمع الفكريين.

المعـاداة البنيويـة للسـامية (أي لليهود واليهودية)

Structural Anti-Semitism

»المعاداة البنيوية للسامية» مصطلح يشير إلى بنية المجتمع حين تتشكل علاقاته بطريقة لا تسمح بوجود أعضاء الجماعات اليهودية، أي أن بنية المجتمع نفسها تلفظ اليهود، وتحولهم إلى شعب عضوي منبوذ، بغض النظر عن نية أعضاء المجتمع. ومما لا شك فيه أن علاقات مجتمع ما ممكن أن تتشكل بطريقة تجعل من العسير على أعضاء الجماعات اليهودية الاستمرار فيه، خصوصاً إذا كانوا أعضاء في جماعة وظيفية.

ويرى الصهاينة أن معظم أشكال معاداة اليهود أشكال بنيوية، أي لصيقة ببنية المجتمع. وتحاول الصهيونية العمالية أن تبرهن على وجود هذه المعاداة البنيوية للسامية من خلال تحليل علاقات الإنتاج في المجتمع لتصل إلى نتيجة مفادها أن المجتمعات البشرية لا تسمح لليهودي أن يعمل في القطاعات الإنتاجية وأن اليهودي من ثم محكوم عليه بالهامشية والطفيلية، وأن الحل الوحيد لهذه الهامشية البنيوية أن يؤسس اليهود لهم وطناً يمارسون فيه سيادتهم القومية ويشغلون فيه كل المواقع في الهرم الإنتاجي.

ويذهب الصهاينة إلى أن معاداة اليهود ليست لصيقة ببنية المجتمع وحسب، بل لصيقة ببنية النفس البشرية. وهذا ما عبَّر عنه شامير بشكل سوقي حين قال إن البولنديين يرضعون معاداة اليهود مع لبن أمهاتهم. ويرى الصهاينة أن العرب والمسـلمين يعـانون من الظاهرة نفسها، أي المعاداة البنيوية للسامية.

والعلاقة بين «المعاداة البنيوية للسامية» و«الصهيونية البنيوية» عـلاقة قوية، فإذا كـانت الأولى تعـني ظهـور بنية تلفظ اليهود وحسب، فإن الثانية تعني توظيف عناصر الطرد بحيث يتجه المهاجرون اليهود إلى فلسطين. ولعل ما حدث في العراق في الخمسينيات أنصع مثل لذلك. فحين أدركت الحكومة الإسرائيلية أن يهود العراق لنيهاجروا إليها وأنهم آثروا البقاء في وطنهم، أرسلت مبعوثيها فوضعوا المتفجرات في أماكن تجمُّع اليهود ومعابدهم، لإقناعهم بأن المجتمع العراقي يلفظهم، أي أنهم أعادوا تشكيل بنية العلاقات السائدة بين أعضاء الأغلبية وأعضاء الأقلية، بحيث يصبح المجتمع مجتمعاً طارداً لأعضاء الجماعة اليهودية. وهذه هي معاداة اليهود البنيوية. ولكن الحكومة الإسرائيلية كانت تعرف مسبقاً أن المجال الوحيد المفتوح أمام يهود العراق هو الهجرة إلى فلسطين المحتلة، وهذه هي الصهيونية البنيوية.

ويمكن القول بأن ألمانيا أسَّـست مجـتمعاً معادياً لليهـود بشـكل بنيوي، ولكن من خلال اتفاقية الهعفراه بين النازيين والصهاينة أصبحت المعاداة البنيوية للسامية صهيونيةبنيوية.

معـــاداة اليهـــود: الأســباب وتكــوين الصــور النمطــية

(Anti-Semitism (Causes and the Process of Stereotyping

يُفسِّر الصهاينة معاداة اليهود بأنها تعود إلى كُره الأغيار لليهود عبر العصور، وهو تفسير من العمومية بحيث لا يُفسِّر شيئاً البتة. فإذا كان كره الأغيار لليهود ظاهرةميتافيزيقية متأصلة، فإن المنطقي هو أن يُعبِّر هذا الكُره عن نفسه بشكل مطلق، أي بالطريقة نفسها بغض النظر عن الزمان والمكان. ولكن تاريخ عداء اليهود تاريخ طويلومتنوع ويفتقر إلى الاستمرار التاريخي كما تختلف دوافعه وأسبابه. ومن المعروف أن الجماعات اليهودية توجد داخل تشكيلات حضارية مختلفة، وكانت تنشأ توترات مختلفة بينها وبين أعضاء الأغلبية. وبرغم أن سائر أحداث التوتر هذه يُشار إليها بمصطلح «معاداة اليهود» على وجه العموم، فإن المصطلح يكتسب مضمونه الحقيقي والمحدد من خلال التشكيلات الحضارية المختلفة، ولذلك، فإن الدلالة تختلف من تشكيل إلى آخر. والواقع أننا لو أخذنا بالتفسير الصهيوني وجعلنا من مختلف الأحداث التي تُعبِّر عن العداء لليهود ظاهرة واحدة، لأصبح العنصر الثابت الوحيد هو اليهود، وحينذاك يصبح اليهود هم المسئولين عن الكراهية التي تلاحقهم والعنف الذي يحيق بهم، وهو تحليل عنصري مرفوض طرحه محامي أيخمان بشكل خطابي أثناء الدفاع عنه في إسرائيل. فاليهود يُشكِّلون جماعات مختلفة وغير متجانسة لكلٍّ منها ظروفها ومشاكلها.

ويمكن القول بأن العداء لليهود، بوصفه شكلاً من أشكال العداء للأقليات والغرباء والأجانب (و«الآخر» على وجه العموم)، هو إمكانية كامنة في النفس البشرية التي تنفر من كل ما هو غير مألوف، وبالتالي فهو إمكانية كامنة في كل المجتمعات. كما أن هناك بشراً في كل مجتمع لا يقنعون بما لديهم من ثروة أو رزق، ويرغبون دائماً في الاستيلاء على ما يملكه الآخرون، وبخاصة ما يمتلكه أعضاء الأقلية الذين لا يتمتعون عادةً بالحصـانات نفسها وبالاسـتقرار نفسه الذي يتمتع به أعضاء الأغلبية. ومع هذا، تظل هذه الأفكار والدوافع في حالة كمون ولا تعبِّر عن نفسها إلا من خلال أفعال عنف وكره فردية متفرقة أو من خلال أشكال من التحايل على أعضاء الأقلية أو من خلال أعمال أدبية أو قصص أو أساطير، مادام المجتمع مستقراً ولكل عضو فيه وظيفته. ولكن ثمة عناصر تؤدي إلى تحوُّل هذه الدوافع النفعية من حالة الكمون إلى حالة التحقق حيث تتعدد الأفعال الفردية وتصبح ظاهرة اجتماعية، وتتغلغل في بنية المجتمع ذاته.

ولعل من أهم الأسباب التي أدَّت إلى ظهور معاداة اليهود وانتقالها من حالة الكمون إلى مستوى البنية الاجتماعية أن معظم الجماعات اليهودية كانت تشكل جماعات وظيفية قتالية وتجارية في المجتمعات القديمة، وكذلك في المجتمع الغربي في العصر الوسيط حتى القرن التاسع عشر. وقد كانت الجماعات الوظيفية تتكون دائماً من عناصر بشرية غريبة عن المجتمع حتى يمكنها أن تضطلع بوظائف كريهة أو مشبوهة أو متميِّزة تتطلب الموضوعية وعدم الانتماء، مثل: التجارة والربا والقتال والبغاء. ولذا، نجد أن موقف أعضاء الجماعات الوظيفية من المجتمع يتسم بالحياد والنفعية، فهم ينظرون إلى مجتمع الأغلبية باعتباره سوقاً أو مصدراً للربح، كما ينظر أعضاء المجتمع إليهم باعتبارهم أداة لتنشيط التجارة أو القتال. وكان يُنظَر إليهم في المجتمعات التقليدية باعتبارهم وسيلة لا غاية وأداة من أدوات الإنتاج لا أكثر، ولذلك كان أعضاء الجماعة لا حرمة لهم في كثير من الأحيان (فهم غرباء) والغريب في معظم الأحوال مباح لا قداسة له. وفي العادة، يتركز أعضاء الجماعات الوظيفية الوسيطة في قطاعات اقتصادية بعينها يبرزون فيها، الأمر الذي يجعلهم مركزاً للكره والحسد. وعلاوة على ذلك، يدافع أعضاء الجماعة الوظيفية عن مراكزهم الاقتصادية هذه بشراسـة وضراوة غير عاديـة نظراً لعـدم وجود بدائل أخرى متاحة أمامهم، فهم عادةً ما يفتقدون الخبرة اللازمة للزراعة والصناعة، ولا يعرفون كثيراً من الحرف بسبب غربتهم وتنقلهم. كما أنهم يدافعون عن مراكزهم الاقتصادية عن طريق شبكة الأقارب والعائلات، الأمر الذي يثير حولهم الشائعات عن عمق بغضهم وكرههم لأعضاء الأغلبية («الأغيار» في مصطلح الجماعات اليهودية). وفي كثير من الأحيان، يحقق أعضاء الجماعات الوظيفية الوسيطة، اليهودية وغير اليهودية، تراكماً للثروة بشكل أسرع من أعضاء مجتمع الأغلبية، نظراً لاستعدادهم لحرمان أنفسهم من كثير من مباهج الحياة، فهم غير منتمين إلى المجتمع كما أن الثروة هي مصدر قوتهم ومبرر وجودهم. وفي حالة اليهود في بولندا، على سبيل المثال، كانت الأرستقراطية البولندية تؤكد مكانتها عن طريق الإنفاق والتبذير، وأصبح هذا هو المثل الأعلى لقطاعات الشعب البولندي كافة، الأمر الذي لم يشارك فيه أعضاء الجماعة اليهودية الذين كانوا يؤثرون الادخار وسرعة تراكم الثروة. وهذا الوضع يزيد، بلا شك، حسد الجماهير.

ولكن أعضـاء الجماعات الوظيفية الوسـيطة، برغـم غربتهم وتمـيزهم، كانوا يجدون أنفسـهم في قلب الصراعات المختلفة في المجتمـع، وبخاصة الصراعات الناشبة بين أعضاء النخبة الحاكمة وبين الطبقات الأخرى للمجتمع، خصوصاً الطبقات الشعبية، إذ أن قطاعات من النخبة الحاكمة كانت تستخدم أعضاء الجماعات الوظيفية الوسيطة لضرب بعض طبقات المجتمع لاستغلالها أو كبح جماحها. فأعضاء الجماعة هم سوط في يد الحاكم، أو هكذا كان يراهم المحكومون، ولكنهم أيضاً كبش الفداء الذي يتم التخلص منه عند الحاجة وأمام الهجمات الشعبية، فالأداة ليست غاية في ذاتها. ورغم أن هذه الهجمات على الجماعات اليهودية (الوظيفية) في الغرب تُعدُّ هجمات عنصرية، فيجب ألا نهمل الجانب الشعبي فيها وأنها تمثل جزءاً من تمرُّد الجماهير على عملية الاستغلال، وإن كان تمرداً قصير النظر، كما هو الحال عادةً مع الهبّات الشعبية. ولم تكن هذه الثورات ثمرة إدراك عميق لحركيات الاستغلال، ولذا اقتصرت على تحطيم الأداة الواضحة أمامهم والمباحة لهم. ويقابل الهجمات الشعبية ضدأعضاء الجماعات اليهودية الانفجارات المشيحانية بينهم، فهي انفجارات تُعبِّر عن ضيق قطاعات أعضاء الجماعات اليهودية بوضعهم الاقتصادي والوظيفي والنفسي.

لكن هذا الوضع ليس وضعاً عاماً ولا عالمياً ينطبق على كل اليهود في كل زمان ومكان، فهو ينطبق بالأساس على الجماعات اليهودية في العالم الغربي، وبالذات منذ بداية العصور الوسطى وحتى القرن الثامن عشـر كما ينطـبق على كثـير من الأقليــات الأخرى. ولـذا، فهـو يَصلُـح إطــاراً تفسـيرياً لمعظم جوانب ظاهرة معاداة اليهود باعتبار أن أغلبية يهود العالم كانوا يوجدون في أوربا مع نهـاية القـرن الثـامن عشر، وفي بولندا على وجه الخصوص.

والجماعة الوظيفية الوسيطة ـ كما أسلفنا ـ تضطلع بوظيفة مهمة في المجتمع. وبالتالي، فإن وجودها في حد ذاته لا يؤدي بالضرورة إلى تحوُّل العداء الكامن إلى هجوم شعبي. لكن مثل هذا التحول يحدث في ظروف معينة من بينها ما يلي:

1 ـ في المراحل الانتقالية، حينما تحل طبقة جديدة محلية أو عالمية محل الجماعة الوظيفية الوسيطة، أو حينما تطوِّر الدولة أجهزة مركزية تضطلع بوظائف هذه الجماعة.

2 ـ تزايد نصيب الجماعة الوظيفية الوسيطة من الثروة مع تزايد الفقر في المجتمع أو في بعض شرائحه.

3 ـ تزايد أعداد أعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة وهو ما يزيد من بروزهم.

4 ـ غياب الأعداء المشتركين للأغلبية ولأعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة، أو تحالف أعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة مع العدو الخارجي.

5 ـ وضوح أعضاء الجماعة وتميزهم بعلامات عرْقية أو ثقافية لا يمكن محوها مثل اللون أو شكل العيون أو اللغة.

6 ـ وجود تميز ثقافي أو ديني أو عرْقي أو اجتماعي يساهم في عزل الأقلية عن الأغلبية، فالعزلة هنا ليست على مستوى واحد وإنما على جميع المستويات.

ولتوضيح النقطة الأخيرة، يمكن الإشارة إلى وضع الصينيين في إندونيسيا، والهنود في جنوب أفريقيا، ويهود اليديشية في أوكرانيا حينما كانت تابعة لبولندا. فالنخبة الحاكمة كانت هولندية مسيحية في إندونسيا، إنجليزية مسيحية في جنوب أفريقيا، بولندية كاثوليكية في بولندا. وكانت الجماهير إندونيسية (جاوية) مسلمة أو وثنية في إندونيسيا، سوداء وثنية في جنوب أفريقيا، وأوكرانية أرثوذكسية في أوكرانيا. أما الجماعة الوظيفية الوسيطة التجارية، فكانت صينية كونفوشيوسية في إندونيسيا، هندية (هندوكية أو مسيحية أو مسلمة) في جنوب أفريقيا، يهودية في أوكرانيا. كما كانت تفصل الجماعة الوظيفية الوسيطة عن النخبة وعن الجماهير عدة سمات أخرى (لغوية وثقافية). وحينما يصل التدرج إلى هذه الدرجة من التبلور، وحينما تدعم الاختلافات الدينية والثقافية والعرْقية الاختلافات الطبقية، تصبح التربة مهيأة لانفجارات اجتماعية هائلة ذات أبعاد عرْقية كما حدث بالفعل في انتفاضة شميلنكي.

وقد كان يهود بولندا هم أغلبية يهود العالم في أواخر القرن الثامن عشر. وفي هذه المرحلة التاريخية، حدث بينهم أيضاً انفجار سكاني أدَّى إلى تزايد عددهم خمسة أو ستة أضعاف، ومن ثم زاد بروزهم العددي والاقتصادي. كما شهد المجتمع البولندي آنذاك بداية ظهور طبقات محلية بديلة وأجهزة قومية تحل محل الجماعة الوظيفية الوسيطة. وتزايد في هذه المرحلة فقر قطاعات كثيرة من المجتمع البولندي. وفضلاً عن ذلك، كان أعضاء الجماعة اليهودية يتحدثون اليديشية ويدينون بشيء من الولاء للثقافة الألمانية، بينما كان الألمان هم الأعداء التقليديون للسلاف والبولندين. كما أن أعضاء الجماعة اليهودية لم يشاركوا بشكل فعَّال في الحركة الوطنية البولندية التي كانت ذات تَوجُّه معاد لليهود لأسباب تاريخية مركبة (من أهمها اضطلاع اليهود بوظيفة جمع الضرائب وعوائد الضياع فيما يسمى بنظام «الأرندا»). لكل هذا، تفجرت معاداة اليهودية في بولندا وروسيا بشكل حاد.

ومن القضايا التي يجب أخذها في الاعتبار، أثناء دراسة ظاهرة معاداة اليهود، الإطار السياسي العام الذي يتم فيه هذا العداء. ويتضح هذا في موقف الإمبراطوريةالرومانية حين صبَّت جام غضبها على العناصر المتمردة في فلسطين التي كانت تهدد السيطرة الإمبراطورية، ولكنها تحالفت في الوقت نفسه مع أثرياء اليهود الذين كانتمصالحهم مرتبطة بمصلحة الإمبراطورية. ومما يجدر ذكره، أنه كان يوجد جيش يهودي بقيادة أجريبا الثاني يعمل تحت قيادة تيتوس قائد القوات الرومانية التي حطمتالهيكل. فالمسألة لم تكن إذن عداءً لليهود (أو حباً لهم) بقدر ما هي مسألة مصالح إمبراطورية.

ويتضح الشيء نفسه في موقف الإمبراطورية البريطانية التي قامت بتأييد مشروع الاستيطان الصهيوني ودعمه رغم وجود قطاع داخل أعضاء النخبة الحاكمة الإنجليزية (وبين الطبقات الشعبية) يكن الكراهية لليهود، خصوصاً المهاجرين. فالمصالح الإمبراطورية (لا حب اليهود) هي التي دفعت إنجلترا إلى تبنِّي المشروع الصهيوني. وفي فترة لاحقة، نشأ توتر بين المستوطنين الصهاينة والإمبراطورية الراعية (وهو أمر عادةً ما يحدث لأن مصالح الإمبراطورية تكون عادةً أكثر تركيباً وشمولاً واتساعاً من مصالح المستوطنين). فتعقبت السلطات الإنجليزية من سمّتهم «العناصر المشاغبة أو المتطرفة» بين المستوطنين، وقد فُسِّر ذلك بأنه عداء لليهود وهو أبعد ما يكون عن ذلك. ولعل أكبر دليل على هذا أن أعضاء الجماعة اليهودية داخل إنجلترا كانوا يتمتعون بجميع حقوقهم في ذلك الوقت. ولو أن الأمر كان عداء مطلقاً لليهود، لبدأت عملية التعقب في لندن لا في فلسطين.

ومن العناصر الأخرى التي يجب الانتباه إليها عند تحديد ظاهرة معاداة اليهود: مدى قرب أو بعد أعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة اليهودية من النخبة وما إذا كانت ظاهرة معاداة اليهودية ظاهرة رسمية أم شعبية. ويمكن الإشارة إلى أن أعضاء الجماعات اليهودية في التشكيل الحضاري الغربي كانوا دائماً تحت حماية النخبة الحاكمة حتى نهاية العصور الوسطى (وربما بعدها أيضاً). وفي روسيا القيصرية، على سبيل المثال، لم تشترك المؤسسة الحاكمة في اضطهاد اليهـود إلا بعـد عام 1882، مع دخول النظام القيصري أزمته، وبعد تَعثُّر التحديث، وهي فترة لم تدم طويلاً. وقد استؤنف التحديث مع ثورة روسيا عام 1905، ثم الثورة البلشفية، وأصبحت معاداة اليهود جريمة رسمية يُعاقب عليها القانون. وحتى قبل ذلك التاريخ، كانت تتم معاقبة من يقومون بالمذابح الشعبية، وكان التمييز ضد أعضاء الجماعات اليهودية يتم داخل إطار القانون (إن صح التعبير) ويهدف إلى ما كان يُسمَّى «إصلاح اليهود». كما كان هناك التمييز بين اليهود النافعين واليهود غير النافعين، وكان النافعون يُعطَون حقوقهم كاملة ويتحركون خارج منطقة الاستيطان. هذا على عكس المعاداة الشعبية لليهود والتي لم يكن ينتظمها إطار، وكانت عبارة عن تفجرات تُعبِّر عن الإحباط، ومذابح لا تهدف إلا للتنفيس عن الضغط. ويمكن النظر إلى الظاهرة النازية، من هذا المنظور، باعتبارها ظاهرة حديثة. فعملية الذبح والإبادة (هنا) مسألة منهجية، تتم تحت سمع وبصر الحكومة، وبحكم القانون، وعلى أسس علمية ومن خلال بيروقراطيات متخصصة. وقد يكون من المستحسن أن نرى هذا النوع من معاداة اليهود كجزء من سياسة ألمانيا الكولونيالية التي تهدف إلى إبادة الغجر والسلاف وكل من يعيشون في المجال الحيوي لألمانيا، وهذه عملية تشبه من بعض الوجوه عملية إبادة الجزائريين في فرنسا على يد الفرنسيين، وسكان الكونغو على يد البلجيك، والفلسطينيين على يد الصهاينة، فهي ليست استمراراً لتقاليد معاداة اليهود السابقة. واختلافها الوحيد عن عمليـات الإبـادة الكولونيـالية المشابهـة أنها تمت جغرافياً داخـل أوربا.

ومن الضروري أن تُدرَس العمليات الفكرية والذهنية التي يتعامل المعادون لليهود من خلالها مع الواقع الإنساني المركب. ويمكن القول بأن الفكر العنصري عامة، بما في ذلك فكر معاداة اليهود، فكر اختزالي ينحو نحو تجريد الضحية من خصائصها الإنسانية المركبة والمتعينة بوصفها كياناً إنسانياً له سلبياته وإيجابياته حتى تتحول إلى شيء مجرد يجسد سمة أو جوهراً معيَّناً. وقد يلجأ العنصري إلى اختلاق الحقائق والأكاذيب، ولكن هذا أمر نادر إذ أن الفكر العنصري، خصوصاً في عصر العلم، يحاول أن يُقدم قرائن وحججاً على صدق مقولاته يستخلصها من الواقع، من خلال عمليات فكرية تنحو نحو التجريد والتبسيط والتسطيح والاختزال، مثل:

1 ـ التركيز على عنصر من الواقع دون غيره، كأن يركز العنصري على إحدى سلبيات بعض أعضاء الجماعات اليهودية (كاشتغالهم بتجارة الرقيق الأبيض) وعزلهم عن إيجابياتهم (الحرب الشرسة من جانب الجماعات اليهودية ضد هذه التجارة).

2 ـ تعميم ما يرتكبه بعض أعضاء الجماعات اليهودية من جرائم أو أخطاء على كل أعضاء الجماعات اليهودية، ثم التركيز بعد ذلك على ما يُسمَّى «الشخصية اليهودية» بكل ما تتسم به من شرور وعنف مزعومين.

3 ـ فصل أعضاء الجماعات اليهودية عن سياقهم الاجتماعي والحضاري الذي قد يفسر سلوكهم السلبي، عدم الربط بين الجماعات اليهودية وغيرها من الجماعات البشريةالتي قد تشترك معها في الصفات السلبية نفسها، وذلك بهدف خلع صفة الإطلاق على صفات اليهود حتى تكتسب بعداً نهائياً وتبدو كأنها مقصورة عليهم دون سواهم من البشر.

4 ـ إسقاط عناصر عدم التجانس بين الجماعات اليهودية المختلفة وعناصر الاختلاف والصراع بين أعضائها وإسقاط واقع انقسامهم إلى طبقات وجماعات مختلفة، فيصبح اليهود كلاًّ واحداً متجانساً يُسمَّى «الشعب اليهودي» أو «اليهود».

ولنضرب مثلاً على هذه العمليات الفكرية الاختزالية الأربع بالتهمة التي عادةً ما توجَّه إلى أعضاء الجماعات اليهودية، أي الاشتغال بالرقيق الأبيض كقوادين أو بغايا. وهذه حقيقة مادية وإحصائية، ففي الفترة من 1881 وحتى 1935 كان ثمة وجود يهودي ملحوظ في هذه التجارة المشينة. ولكن العمليات الفكرية العنصرية تركز على هذاالعنصر السلبي وتعزله عن إيجابيات اليهود (فقد كانت أعداد كبيرة منهم تعمل في مهن شريفة، كما أن أعضاء الجماعات اليهودية في العالم ساهموا بكل قواهم في القضاء على هذه التجارة المشينة بين اليهود). ومن ناحية أخرى، يُطلق أعداء اليهود هذه الصفة على كل اليهود أينما كانوا مع أن نسبة اليهود المشتغلين بهذه التجارة قد تكون أعلىمن نسبة المشتغلين بها بين الأغلبية، ولكنها على أية حال كانت نسبة مئوية ضئيلة بالنسبة لعدد أعضاء الجماعة اليهودية. أما العملية الفكرية الثالثة، أي فصل اليهود عن سياقهم الاجتماعي والتاريخي، فهي أهم العمليات. وفي الواقع، فإنه لا يوجد أي ذكر للجماعات البشرية الأخرى التي اشتغلت بتجارة الرقيق الأبيض في الفترة نفسها، ولالواقع أن الجماعات اليهودية في أوربا كانت تتمتع حتى منتصف القرن التاسع عشر بمعدلات عالية من التماسك الخلقي والاجتماعي يفوق المعدلات السائدة بين أعضاءالأغلبية، حتى أن ظاهرة الأطفال غير الشرعيين كانت غير معروفة تقريباً بينهم قبل عمليات التحديث والعلمنة التي حدث بعدها الانحلال الخلقي. أما العملية الرابعة فهيكامنة وراء العمليات السابقة كافةً.

وكثيراً ما تنعكس هذه العمليات الفكرية في أساطير وصور إدراكية ثابتة تنسب إلى اليهود خصائص سلبية ثابتة. كما أن وجود مثل هذه الأساطير والصور يبلور الأفكار العنصرية الكامنة ثم يساعدها على التحقق. ويمكن أن تكون هذه الأنماط الثابتة متناقضة؛ كأن يتبع فريق داخل المجتمع نمطاً معيَّناً ويتبع فريق آخر نمطاً آخر يناقض النمط الأول، مثل نمطي اليهودي الجبان الذي يخاف من أي شيء واليهودي العدواني الذي لا يخشى شيئاً. وقد اتضحت هذه الظاهرة في العصر الحديث في الغرب، فاليهودي هو من كبار المموِّلين وهو أيضاً المتسول، وهو رمز الجيتوية والتخلف الديني والانفتاح المخيف والعلمانية المتطرفة، وهو رمز الرجعية والثورة والإقطاعية والليبرالية. فإذا كان كارل ماركس يهودياً وكان روتشيلد يهودياً ومائير كاهانا يهودياً ومارلين مونرو يهودية، وكذلك فرويد وأينشتاين ونعوم تشومسكي، فلابد أن هناك ما يجمع بينهم. وحينما يفشل الدارس في العثور على هذا العنصر، فإنه يكمله من عنده ويفترض وجود مؤامرة خفية تجمع بينهم وأنهم ولا شك يحرصون على إخفائها. ولكن التناقض، على كلٍّ، أمر لا يضايق العنصريين بتاتاً، فالإنسان العنصري إنسان غير عقلاني (فهو مرجعية ذاته) لا يقبل الاحتكام إلى أية قيم أخلاقية تتجاوزه وتتجاوز الآخر، فهو يؤمن بشكل قاطع بأن تميزه أمر لصيق بكيانه وكامن فيه تماماً مثل تَدنِّي الآخر، وبالتالي فإن العنصري يبحث دائماً عن قرائن في الواقع ينقض عليهـا كالحيوان المفترس أو الطـائر الجـارح فيلتقطها ويعممها ليبرر حقده. بل ويمكن أن يُوظِّف هذا التناقض ذاته بين الصور الإدراكية بحيث يشير إلى مدى خطورة المؤامرة اليهودية العالمية الأخطبوطية التي تسيطر على سائر مجالات الحياة، وتسيطر على اليمين واليسار، وعلى الشمال والجنوب والشرق والغرب.

ولابد أيضاً من دراسة نوعية الفلسفة الاجتماعية (أو العامة) السائدة في المجتمع. فوجود فلسفة اجتماعية عنصرية في المجتمع يخلق تربة خصبة للتفجرات العنصرية. كما أن وجود فلسفات بعينها ـ كأن تكون الفلسفة العامة في المجتمع رؤية علمانية إمبريالية تتحدث عن التفوق والغزو وإرادة القوة ـ قد يساعد أيضاً على إنبات بذور الفكر العنصري الكامن.

ويمكن القول بأن الفكر العنصري يُعبِّر عن نفسه من خلال أي نسق فكري متاح في المجتمع. فعلى سبيل المثال، من الثابت أن فلسفة نيتشه زودت العنصريين وأعداء اليهود بإطار فكري يتمتع بالاحترام والمصداقية. ولكن يمكن القول أيضاً بأن العنصريين كانوا سيجدون تسويغاً لفكرهم في أي مصدر وفي أي نسق فكري متاح. ولو لم يُقدِّم نيتشه فلسفته، لوجد العنصريون تبريراً لمواقفهم من خلال أنساق فلسفية أخرى يستولون عليها ثم يقومون بتطويعها وتوظيفها لخدمة رؤيتهم وأهدافهم. وفي هذا شيء من الحق، ولكن الأفكار العرْقية المتبلورة التي تأخذ شكل أساطير مثيرة وصور إدراكية ثابتة تظل، مع ذلك، تلعب دوراً مهماً. كما أن أنساقاً فلسفية، مثل التفكير النيتشوي (الدارويني) الذي يسقط حرمة المطلقات كافة، ومنها الإنسان، يمكن أن تطوَّع لخدمة الفكر العنصري أكثر من أنساق فكرية أخرى. ولعل المناخ الفكري العام الذي ساد أوربا في القرن التاسع عشر، بحديثه عن التفوق الآري ورسالة الإنسان الأبيض والبقاء للأصلح، قد خلق ارتباطاً اختيارياً وتربة خصبة لنمو معاداة اليهود. ومن الثابت الآن أن أكثر الكتب شيوعاً آنذاك، في أوربا، كانت الكتب العنصرية. كما أن محاولة تعريف الواقع بأسـره (بما في ذلك الإنسـان) على أسـاس مادي، ساعد على نمو النظريات التي تحاول تعريف الجماعات البشرية من منظور عرْقي. ولكن النظريات المادية نظريات حتمية، فتطور المادة غير خاضع لعقل الإنسان أو اختياراته، وإذا عُرِّف الإنسان على أسـاس عرْقي فهذا يعني أنه يُولَد بصـفاته ومن ثم فـهو غير مسئول عنها، ومن هنا فإن شخصيته وهويته في جسده لا في وضعه الاجتماعي. ولذا، يمكننا القول بأن النظريات البيولوجية التي تحاول تعريف الإنسان في كليته على أساس بيولوجي مادي تخلق قابلية داخل المجتمع للعنصرية والعداء لليهودية، إذ تصبح الصفات السلبية لليهودي شيئاً حتمياً لصيقاً بجوهره. وتجب الإشارة إلى أن الإيمان بالحتمية المادية ليس مقصوراً على النظريات البيولوجية بل هو كامن في كثير من الأنساق المعرفية التي سادت أوربا في القرن التاسع عشر. بل إن بعض المفكرين المسيحيين يذهبون إلى أن المصدر الأساسي، بل والنهائي، لمعاداة اليهود ليس المسيحية، كما قد يتبادر إلى الذهن، وإنما العداء للمسيحية وللدين بشكل عام، إذ أن مثل هذا العداء يحوِّل الآخر إلى شيء ويُنكر عليه إنسانيته ولا يفتح أمامه أبواب الخلاص (وقد لا يكون من قبيل الصدفة أن العنوان الفرعي لكتاب ويلهلم مار انتصار اليهودية على الألمانية هو: من منظور غير ديني). كما أن الحركة النازية، وهي الحركة التي بلورت معاداة اليهودية وأضفت عليها منهجية وشمولاً، كانت تعادي الكنائس كلها وأرسلت بالعشرات من رجال الدين المسيحيين إلى أفران الغاز وكانت تُحرِّم على أعضاء فرق الإس إس الخاصة الانضمام إلى أية كنائس مسيحية باستثناء الكنيسة القومية التي أسسها النازيون أنفسهم.

ولقد أشرنا من قبل إلى اتجاه العنصريين إلى تجريد اليهود واختزالهم عن طريق عزلهم عن سياقهم التاريخي وعن غيرهم من الجماعات البشرية. وهنا نضيف أن الصهاينة يفعلون الشيء نفسه في دراستهم لما يلحق اليهود من اضطهاد، فهم يقومون بعزل ظاهرة اضطهاد اليهود عن الظواهر المماثلة أو المختلفة في المجتمع. وبهذه الطريقة، يصبح هذا الاضطهاد شيئاً فريداً غير مفهوم ويصبح عداء الأغيار لليهود أمراً ثابتاً وتعبيراً عن الطبيعة الشريرة للأغيار. ولذا، فحينما يُدرَس الاضطهاد، فإنه لابد من وضعه في سياقه التاريخي حتى يمكننا أن نرى أثر هذا الاضطهاد على جماعات بشرية أخرى. ويمكن القول بأن اضطهاد اليهود في أوربا (بعد القرن الثاني عشر) لم يكن موجَّهاً إليهم باعتبارهم يهوداً وإنما باعتبارهم مرابين (جماعة وظيفية وسيطة)، كما أن المرابين من الكوهارسين واللومبارد الذين كانوا يحتلون المكان نفسه ويعملون الوظيفة نفسها كانوا يتعرضون أو لا يتعرضون للاضطهاد حسب مدى احتياج المجتمع إليهم أو عدم احتياجه. وبعد عصر الإعتاق والانعتاق، قامت الدولة الفرنسية الجديدة بمحاولة دمج كل الأقليات التي كانت تتمـتع بأية خصوصيـة لغوية أو دينية غير فرنسية، ولم تميِّز في ذلك بين اليهود والبريتون مثلاً. وحينما قامت الإمبراطورية الروسية (القيصرية) بمحاولة فرض الصبغة الروسية على أعضاء الجماعة اليهودية، كانت تفعل ذلك باعتباره جزءاً من سياسة إمبراطورية عليا كانت موجهة ضد كل الجماعات البشرية في الإمبراطورية، وبخاصة غير السلافية (الإيروسنتي). وقد تعرَّض المسلمون في الإمارات التركية السابقة لدرجة أعلى من الاضطهاد، فقد كانوا أقل تروُّساً، كما أن الانتماء الآسيوي للمسلمين الأتراك جعلهم أكثر ابتعـاداً عن الحضارة الروسـية من اليهود الذين كانوا أكثر قرباً منها. فرطانتهم اليديشية هي، في نهاية الأمر، رطانة ألمانية، كما أن نخبتهم الثقافية كانت جزءاً من التشكيل الحضاري الغربي. وبالمثل، كان الاضطهاد النازي اضطهاداً علمياً محايداً لا تمييز فيه ولا تحيُّز، وقد كان موجهاً ضد جميع العناصر « غير المفيدة » التي يصنفها المجتمع باعتبارها كذلك، مثل: العجزة، والأطفال المعوقين الذين صنِّفوا بوصفهم «أفواه تأكل لا نفع لها »، والغجر، والسلاف، واليهود. وهناك هولوكوست ضد البولنديين (على يد كلٍّ من السوفييت والنازيين) راحت ضحيته عدة ملايين.

ويُلاحَظ أن الجماعة الوظيفية الوسيطة الصينية في الفلبين كانت تُعامَل معاملة الجماعة الوظيفية الوسيطة اليهودية في بولندا تماماً، كما يُلاحَظ أن كل أشكال الاضطهاد التي تعرَّض لها يهود بولندا واجهها الصينيون في الفلبين.

ويمكن القول بأن معاداة اليهود، كظاهرة، لن تختفي تماماً من المجتمعات الغربية، فهي مجتمعات بشرية تتسم بقدر من التوتر والاحتكاك بين أعضاء الأغلبية وأعضاء الأقلية. ومع هذا، فعادةً ما تخف حدة معاداة اليهود حين يتحول أعضاء الجماعة اليهودية من جماعة وظيفية وسيطة متميِّزة تميُّزاً واضحاً، إلى أعضاء في الطبقة الوسطى تتميَّز بشكلٍّ أقل وضوحاً ولا تختلف في وظيفتها ولا في قيمها ولا في رؤيتها للعالم عن أعضاء الطبقة الوسطى في المجتمع ككل. وفي هذه الحالة، عادةً ما يأخذ التعصب الديني أو العرْقي ضد أعضاء الجماعة اليهودية شكل سلوك فردي، من أشخاص متعصبين حقودين، ولا يشكل ظاهرة اجتماعية تساندها مؤسسات حكومية أو غير حكومية.

الصور الإدراكية النمطية وكلاسيكيات وتاريخ معاداة اليهود حتى بداية القرن الثامن عشر

Anti-Semitic Stereotypes, Classics of Anti-Semitic Literature, and History of Anti-Semitism to the Beginning of the Eighteenth Century

لعل أول هجوم على جماعة يهودية سُجِّل في التاريخ هو هجوم المصريين على المعبد اليهودي في جزيرة إلفنتاين في القرن الخامس قبل الميلاد. وكان هذا الهجوم موجَّهاً إلى جماعة وظيفية قتالية عميلة من الجنود المرتزقة التي وطّنها فراعنة مصر هناك لحماية حدود مصر الجنوبية، ثم انتقل ولاء هؤلاء الجنود إلى الغزاة الفرس. ومن ثم، فإنه كان هجوماً على عملاء الفرس (الغازي الأجنبي)، هذا إن أخذنا بالرأي القائل بأنهم كانوا يهوداً، إذ يميل بعض المؤرخين إلى التشكيك في هذا الرأي.

وبعد دخول الشرق الأدنى القديم إلى محور الحضارة الهيلينية، نشأ وضع جديد في علاقة اليهود بمن حولهم. ويجب أن نشير ابتداءً إلى أن الرقعة الجغرافية التي تُسمَّى الآن «فلسطين» لم تكن مأهولة بالعنصر العبراني وحسب، إذ كانت المناطق الساحلية مأهولة بالعناصر الفلستية والفينيقية وغيرها، وكانت توجد داخل فلسطين أقوام سامية كثيرة، وكان العنصر اليوناني السائد يهيمن على التجارة ويتركز في المدن، أما العنصر العبراني اليهودي، فكان يعمل بالزراعة. وانضمت إلى العنصر التجاري اليوناني قطاعات كبيرة من النخبة اليهودية من كبار ملاك الأراضي وملتزمي الضرائب. وكانت فلسطين محور صراع بين الدولتين البطلمية والسلوقية، وكان اليهود أحد العناصر المهمة التي يدور حولها الصراع. ويمكن رؤية الهجوم على اليهود في هذه المرحلة باعتباره نتاج هذا المركب التاريخي. فسكان المدن من اليونانيين العاملين بالتجارة كانوا يصطدمون بالجماعة العبرانية اليهودية العاملة بالزراعة. وكانت الدولة السلوقية، في سعيها لدمج فلسطين بمساعدة النخبة اليهودية المتأغرقة، تحاول أن تقضي على العبادةالقربانية المركزية وعلى الطابع اليهودي في فلسطين. وفي الإسكندرية، كان السكان اليونانيون يرفضون السماح لليهود بدخول الجيمنازيوم (رمز الانتماء الكامل للبوليسأي المدينة) لعدم مشاركتهم في العبادة اليونانية الوثنية. وقد ساعد على تصعيد حدة معاداة اليهود، في كل الأحوال، أن ديانتهم كانت توحيدية تقف ضد عبادة الأصنام،وكانت بالتالي ديانة فريدة آنذاك من بعض الأوجه. وكان هذا التفرد يُفسَّر من قبل الوثنيين بأنه كُره للبشرية، خصوصاً وأن الطقوس الدينية اليهودية تنسج حول اليهودشبكة كثيفة من العزلة.

وقد ازدادت معاداة اليهود في بعض المناطق، مثل الإسكندرية، لأن أعضاء الجماعة اليهودية الذين كانوا يشكلون جماعة وظيفية وسيطة رحبوا بالغزو الروماني بل وقدَّموا له يد المساعدة. وقد نتج عن الغزو الروماني أن النخبة الهيلينية فقدت موقعها المتميِّز في المجتمع، الأمر الذي جعلها تلقي باللوم على أعضاء الجماعة اليهودية. ولذا، ظهرت مجموعة من الكتاب الهيلينيين في القرن الأول الميلادي، مثل: خايريمون (أستاذ نيرون)، وليسيماخوس (أمين عام مكتبة الإسكندرية)، وآبيون (الخطيب اليوناني) يعادون اليهود. وقد ألَّف آبيون كتاباً من خمسة فصول عن تاريخ مصر يضم جزءاً عن اليهود، أورد فيه بعض الآراء السائدة عن اليهود في العالم القـديم، من قبيل أنهم شعب بدوي متجول، وأنهم نُفوا من مصر لأنهم كانوا مجموعة من المصابين بالبرص الذين دنسوا المعابد المصرية وكان لابد من التخلص منهم، وقد فُسِّرت واقعة الخروج أو الهجرة من مصر على هذا الأساس. كما يورد آبيون أن العبرانيين كانوا موالين للملوك الرعاة (الهكسوس) الذين أذلوا المصريين، ومن ثم تم طردهم عقب طرد الهكسوس، فالتجأوا إلى أرض كنعان واحتلوها. وفي واقع الأمر، فإن هذه الأقاويل تهدف جميعاً إلى تقويض فكرة العلاقة الخاصة بين اليهود وفلسطين، والشرعية التي تتأسس على مثل هذه العلاقة. وقد أضاف آبيون تهماً أخرى، مثل أن اليهودية تُعلِّم اليهود كره الجنس البشري والعزلة عنه، وأنهم يذبحون فرداً غير يهودي كل عام ويذوقون أمعاءه، وأنهم يعبدون الحمار.

وإذا انتقلنا إلى روما، فإننا سنجد مستويين مختلفين تماماً لمعاداة اليهود: مستوى السياسة الإمبراطورية، ومستوى موقف الأرستقراطية الرومانية من يهود روما أساساً. أما الإمبراطورية الرومانية فلم تكن تهتم كثيراً بالأخلاق اليهودية أو الدين اليهودي إذ أن اهتمامها كان ينصب على تحقيق السلام الروماني وحسب. ولذا، نجد أن تيتوس الذي هدم الهيكل الثاني لم يعتبر نفسه قط عدواً لليهود، بل وكانت عشيقته بيرنيكي أختاً لأجريبا الثاني ملك اليهود. كما حارب في صفوفه جيش يهودي صغير. وقد رفض تيتوس أن يحمل لقب «تيتوس جودايكوس Titus judaocus»، أي «تيتوس هازم اليهود»، مثلما سُمِّي «تيتوس أفريكانوس Titus africanus» و«تيتوس جرمانيكوس Titus germanicus»، أي هازم الأفارقة والألمـان، وذلك بسبـب صداقته للـقـوم أو الإثنوس اليهودي. ولذا، اكتفى تيتوس بصك عملة ظهرت عليها عبارة «جوديا كابتا judea capta»، أي «هُزمت يهودا وأُسرت»، و«يهودا» هنا تشير إلى الأرض لا الشعب.

وكان عداء الأرسـتقراطية لليهود متبايناً في دوافعه، ولكنه كان على أية حـال يعود إلى سـببين أساسيين:

أولاً: رغبة بعض قطاعات من الأرستقراطية الرومانية في تحقيق مكاسب اقتصادية بالتخلص من منافس قوي مثل اليهود.

ثانياً: كان قطاع كبير من المثقفين الرومان يرون أن إصلاح حال روما لا يتم إلا بالعودة إلى الأصالة الأولى، واجدين أن التنوع الديني، وبالتالي انتشار اليهودية، يعوق هذا الاتجاه. ونجد هجوماً على اليهود في كتابات بعض المؤلفين الرومان، مثل: هوراس وشيشرون. لكنه لم يصبح هجوماً حاداً إلا بعد القرن الأول كما هو الحال في كتابات المؤرخ كورنيليوس تاسيتوس الذي ردَّد بعض أفكار آبيون عن اليهود واليهودية وبيَّن أن تهود الرومان سيؤدي بهم إلى احتقار أرباب أسلافهم وإلى رفض وطنهم وآبائهم وذريتهم وإخوتهم. ويُلاحَظ أن السياسة الإمبراطورية الرومانية ركزت اهتمامها على الجانب السياسي والأمني لفلسطين، بينما تاسيتوس، مثله مثل آبيون، يركز على الجانب الأخلاقي لليهودية التي يرى أنها الخطر الحقيقي على الإمبراطورية. وقد وجه جوفينال هجوماً على الأجانب (اليونانيين والسوريين وكذلك اليهود) لتقويضهم دعائم الفضيلة في المجتمع، وهو بذلك يتبع نمط آبيون وتاسيتوس نفسه. وبرغم الهجوم الحاد من قبل آبيون وتاسيتوس وجوفينال على اليهود واليهودية، فلا يمكن القول بأن أقوالهم هذه تشكل جزءاً من رؤية اليونان أو الرومان للكون، إذ ظلت هذه الرؤية وثنية تعددية عالمية تقبل تعدُّد الآلهة داخل إطار الوحدة الإمبراطورية. ولذا، وبرغم أحداث الطرد، ظل اليهود يتمتعون بحقوقهم ولم يشكلوا مركزية خاصة في نظرة اليونان أو الرومان إلى العالم.

فإذا ما انتقلنا إلى العصور الوسطى في الغرب، فإننا نجد أن مفهوم معاداة اليهود أخذ يكتسب معاني ومدلولات جديدة تماماً. فلم تَعُد اليهودية ديناً توحيدياً في تربة وثنية،وإنما أصبحت ديناً قديماً مهزوماً في تربة توحيدية يسودها دين جديد منتصر واثق من نفسه يرى أن العهد القديم هو أحد كتبه المقدَّسة يحمله اليهود دون أن يعوا معناهالحقيقي. وهو دين كان يرى أن اليهود يلعبون دوراً مركزياً في نظرته إلى الكون، فهم قَتَلة الرب، ولن تتم عملية الخلاص النهائية إلا بعد اعتناقهم المسيحية، أي أنهميشغلون موقعاً مركزياً في البداية والنهاية. وكان اليهود من جانبهم يكنون احتقاراً عميقاً للدين الجديد وينكرون أن المسيح عيسى بن مريم هو الماشيَّح. وقد تبدَّى الموقف المسيحي في مفهوم الشعب الشاهد، وفي جميع التشريعات والمراسيم المسيحية التي تؤكد لليهود حقوقهم، وفي ضرورة الحفاظ عليهم وعدم تنصيرهم بالقوة، مع الإبقاء عليهم في وضع هامشي ومتدن كشعب شاهد على أن الكنيسة على حق. فهم يحملون الكتاب المقدَّس الذي يتنبأ بمقدم المسيح ولكنهم لا يعون معنى ما يحملون، كما أنهم بضعفهم وذلتهم دليل على عظمة الكنيسة وانتصارها. وكان موقف الكنيسة يتمثل فيما يلي: « أن تكون يهودياً جريمة، ولكنها جريمة ليس بإمكان مسيحي أن ينزل بصاحبها العقاب لأن الأمر متروك للرب ». وقد اعتبرت الكنيسة نفسها إسرائيل الحقيقية (باللاتينية: إسرائيل فيروس Israel verus)، واعتبر المسيحيون أنفسهم شعب الرب. وكانت الكنيسة ترى نفسها أيضاً إسرائيل الروحية مقابل إسرائيل الجسدية (اليهودية). وقد تطورت صورة اليهود في الوجدان المسـيحي، فكان يُرمَز لهم بعيسـو (مقابل يعقـوب المسيحي)، وبقابيل الذي قتل أخاه هابيل وأصبح كذلك قاتل المسيح. كما ساعدت الشعائر الدينية اليهودية، المتمثلة في صلاة الجماعة التي تتطلب النصاب (المنيان) وقوانين الطعام والزواج، على زيادة عزلة اليهود. ولأن النظام الإقطاعي في الغرب كان نظاماً مسيحياً يستند إلى شرعية مسيحية ويتطلب يمين الولاء كشرط أساسي للانتماء إليه، فقد وجد أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب أنفسهم خارج كثير من المجالات السياسية والاقتصادية والمدنية المشروعة. وكانت هذه الظروف سبباً ونتيجة في آن واحد لتحوُّلهم إلى جماعة وظيفية وسيطة (أقنان البلاط أو يهود الأرندا أو يهود البلاط) تقوم بأعمال التجارة ثم الربا. وربما كان هذا الوضع (وضع اليهود) هو الذي حدَّد موقف أعضاء المجتمع منهم، فكان يُنظَر إليهم من أعلى باعتبارهم أداة يمكن استخدامها أو استبدالها إن دعت الحاجة، كما كان يُنظر إليهم من أسفل باعتبارهم وحوشاً لابد من ضربها، فهم الأداة الواضحة لاستغلال الجماهير التي لم يكن بوسعها فهم آليات الاستغلال والقمع. وتاريخ أعضاء الجماعات اليهودية في العالم الغربي، وكذلك العداء لهم، هو في معظمه تاريخ اليهود كجماعات وظيفية وسيطة تؤدي وظيفتها إلى أن تظهر قوى أخرى تحل محلها في المجتمع، مُمثَّلة في طبقة وسطى قوية، أو جهاز إداري مركزي، أو الدولة القومية الحديثة. كما أن صعود أو هبوط الجماعة اليهودية هو، في جوهره، تاريخ صعود أو هبوط الجماعة الوظيفية الوسيطة. فحينما كان اليهود أقنان بلاط، كانت شرائح من الطبقات الحاكمة تستفيد من الخدمات التي يؤدونها. وبالتالي، كان اليهود يُمنحون المواثيق التي تضمن لهم الحماية، وتعطيهم المزايا التي تجعل منهم أفراداً يتمتعون بمستوى معيشي أعلى من مستوى معظم طبقات المجتمع الأخرى. وكما قال أبراهام ليون، فإن وضع اليهود لم يتوقف عن التحسن منذ انهيار الإمبراطورية الرومانية عام 476، وبعد الانتصار الكامل للمسيحيين حتى القرن الثاني عشر. ويمكن القول بأن النخبة الحاكمة بكل فئاتها (الإمبراطور، والكنيسة، والملوك، والأمراء، والشريحة العليا من الأرستقراطية، وكبار رجال الدين، والبورجوازية الثرية المستقلة في المدن) كانت كلها تقف إلى جانب أعضاء الجماعات اليهودية لا ضدهم. وكانت هذه النخبة تحمي أعضاء الجماعات بسبب نفعهم لها، وترى الهجوم عليهم إخلالاً بهيبة النظام وتعويقاً لمساره. وكانت المواثيق التي يحصل عليها أعضاء الجماعات اليهودية تزيد بطبيعة الحال من حدة الغضب الشعبي، ومن ثم فيمكن النظر إلى الهجوم على اليهود باعتباره ضرباً من الثورات الشعبية. ولهذا نجد أن أعداء اليهود يأتون أساساً من الشريحة الدنيا من رجال الدين، وصغار التجار في المدن، والحرفيين. ولكن وصفنا لهذه الهجمات بأنها« ثورة شعبية » لا يخـلع عليـها صفة إيجابية. ونحن لا نرى أنها عـمل مقـبول أو شرعي، وإنما نقول إن هذه الهجمات تحركها جماهير تتصور أن اليهودي هو المستغل الحقيقي. وقد ظل أعضاء الجماعات اليهودية في الغـرب في هـذا الوضـع حتى حـروب الفرنجة في القرن الثاني عشر، حيث بدأت الحياة الاقتصادية في أوربا في الانتعاش وظهرت قوى مسيحية محلية قادرة على أن تحل محل اليهود كتجار دوليين ومحليين، فاتجه اليهود إلى الاتجار بالربا، وتحولوا بالتالي من جماعات وسيطة إلى جماعات وسيطة عميلة، وزادت غربتهم فيالمجتمعات التي وجدوا فيها.

وقد تزامنت هذه العملية مع تطوُّر فكري آخر وهو ظهور عقيدة التحوُّل (بالإنجليزية: ترانسبستانشيشن transubstantiation)، أي الإيمان بتحـول القربان (أي الخبز والخمر المقدَّسـين) إلى لحـم ودم المسيح. وأصبح التناول طقساً دينياً تحيطه هالة من الأساطير. وقد ساهمت هذه الطقوس في ظهور تهمة الدم، وتهمة تدنيس خبز القربان، وهي أساطير ساعد على انتشارها احتراف اليهود الربا وامتصاصهم (المجازي) لدم الآخرين، خصوصاً وأن العمليات التجارية والمالية كانت تؤدي إلى تزايد الثروة دون بذل الجهود (على عكس الفلاح الذي كان يبذل جهداً بدنياً ملحوظاً). وبالتالي، كانت هذه العمليات التجارية والمالية يُنظَر إليها كعمليات سحرية من قبَل ضحايا أعمال الربا ومن قبَل أعضاء المجتمع الزراعي الذين يكدحون ساعات طويلة ليحصلوا على قوت يومهم. وفي هذه الفترة، أصدرت المجامع اللاترانية مجموعة من القرارات أدَّت إلى ازدياد عزلة اليهود مثل تحريم الاشتغال بالربا على المسيحيين، وضرورة أن يرتدي اليهود شارة مميِّزة. وبدأت تظهر، في هذه الفترة، صورة سلبية عن اليهود، وهي في أغلبها أنماط إدراكية عنصرية تتواتر في معظم المجتمعات وترددها كل جماعة بشرية عن الآخرين؛ فاليهود يشبهون الشيطان أو لهم رائحة مميزة هي ما يُسمَّى «رائحة اليهود» (باللاتينية: الفويتورجودايكوس foetor judaicus) وهي خلاف رائحة القداسة. ومع القرن الثالث عشر، حيث كانت قد ظهرت بيوتات المال الإيطاليـة التي كانت أكثر كفـاءة في الاضطلاع بمهنة التجارة الدولية، بدأت ظاهرة طَرْد اليهود من إنجلترا وفرنسا وغيرهما من البلاد، كما بدأت تظهر صورة اليهودي التائه. وفي القرن الرابع عشر، بدأ اتهام اليهود بأنهم يسمِّمون الآبار. وكانت العروض المسرحية المسماة «آلام المسيح» (التي كانت تستغرق عدة أيام، وكانت من أكثر الأشكال الفنية الشعبية شيوعاً) تؤكد قسوة اليهود على المسيح وخيانتهم له، الأمر الذي كان يعمِّق كره اليهود في الوجدان الشعبي.

وكان كثير من اليهود المتنصرين يساهمون في التهييج ضد أعضاء الجماعات اليهودية، ويُعرِّفون القيادات المسيحية (وجماعات الرهبان) بما جاء في التلمود (وبعض الكتب الدينية اليهودية الأخرى) من هجوم شرس على المسيح والمسيحية وبعض عادات اليهود الأخرى التي تهدف إلى عزلهم عن مجتمع الأغيار. وكانت تُقام مناظرات بين اليهود والمسيحيين (يمثلهم عادةً يهود مُتنصِّرون) حتى يُثبت كل طرف قوة حججه الدينية. وغني عن القول أن الطرف اليهودي لم يكن حراً تماماً في مثل هذه المناظرات وأنه كان يضطر إلى التعبير عن وجهة نظره بطريقة أكثر حذراً الأمر الذي كان يفقدها كثيراً من قوتها. وعادةً ما كانت تنتهي هذه المناظرات " بانتصار " الطرف المسيحي، وإصدار الأوامر بإحراق التلمود وربما طرد أعضاء الجماعات اليهودية.

وقد استمرت النخبة الحاكمة (الكنيسة والنبلاء) في حماية اليهود، كما استمرت الثورة الشعبية ضدهم، وبخاصة في صفوف أعضاء الطبقة الوسطى، الندّ الحقيقي للجماعات الوظيفية الوسيطة والمنافس على القطاع الاقتصادي نفسه. ويُلاحَظ أنه أثناء حروب الفرنجة التي اكتسبت بعداً شعبياً، وهو ما جعلها مستقلة نوعاً ما عن الطبقات الحاكمة، كانت القـوات غير النظاميـة هي التي ترتكب المذابح ضـد اليهود. وفي المدن الحرة، في ألمانيا وغيرها من البلاد، كان الهجوم على أعضاء الجماعات اليهودية يبدأ بإسقاط الأقلية الثرية الحاكمة، ثم تحل محلها نخبة جديدة ذات جذور شعبية، ويعقب ذلك عمليات طرد وذبح اليهود. وقد انسحب معظم يهود أوربا إلى بولندا حيث لا توجد طبقة وسطى قوية. كما تم طردهم من إسبانيا بعد أن استكمل المسيحيون استرداد إسبانيا من المسلمين بعدة شهور، إذ اضطلعت الدولة الجديدة بوظائف الجماعة الوظيفية الوسيطة وأرادت أن تؤمِّن نفسها ضد العناصر الغريبة من المسلمين واليهود. ولهذا استمرت في ملاحقة من كانت تتصوَّر أنهم مسلمون أو يهود متخفون. ومع نهاية العصور الوسطى، كانت كلمة «يهودي» مرادفة في كثير من اللغات الأوربية لكلمـة «تـاجر» أو «مرابٍ»، ولكلمـات أخرى مثل «بخيل» أو «غشاش»، وهي الصورة الإدراكية التي ستتبلور في عصر النهضة على يد شكسبير في شخصية «شيلوك».

وشهد عصر الإصلاح الديني، في القرن السادس عشر، كسر الاحتكار الديني الكاثوليكي وتزايد التعددية. وبشكل عام، يُلاحَظ أن البروتستانتية، بتأكيدها أن الخلاص يتم خارج الكنيسة، تؤكد على أهمية الكتاب المقدَّس الذي يضم العهد القديم، الأمر الذي يعني نظرياً تزايد التعاطف مع اليهود، أهل هذا الكتاب وحَمَلته. ومع هذا، يُلاحَظ أن البروتستانتية اللوثرية اتجهت اتجاهاً معادياً لليهود (على عكس الكالفنية). وفي محاولة تفسير ذلك، يُقال إن الكالفنية أكدت المسئولية الشخصية للمؤمن، وذهبت إلى أن ثمرة الفعل الاجتماعي (الثروة مثلاً) قد لا تكون هي سبيل الخلاص، ولكنها تشكل قرينة مهمة عليه.وهذا،على عكس اللوثرية التي أكدت أن الخلاص من خلال الإيمان،الأمر الذي كان يعني رفض المسئولية المدنية أو الخلاص من خلال الأعمال.ومن ثم،فهناك استعداد عند أتباع كالفن لتقبُّل اليهود والحكم عليهم،لا من خلال ما يؤمنون به وإنما من خلال أفعالهم وثروتهم.فهم كعناصر تجارية نشطة،يحققون الشروط اللازمة لتقبلهم،على عكس اللوثريين الذين يركزون على الدوافع.وقد لعب اليهود المتنصرون في هذه الفترة دوراً كبيراً في بلورة الأطروحات الغربية الأساسية المتصلة باليهود واليهودية،كما ساهمو في صياغة صورة اليهودي في الوجدان الغربي.ومن أهم الشخصيات يوحانيس فيفركورن الذي دخل معركة فكرية كبرى شغلت أوربا بعض الوقت مع يوحانان ريوشلين.

ويُلاحَظ أن هذه الفترة شهدت بداية العقيدة الألفية أو الاسترجاعية التي تتحدث عن رؤية الخلاص وعودة المسيح، وهي رؤية ترتبط بعودة اليهود إلى أرض الميعاد. ومن ثم، تظهر صورة اليهودي كعنصر لا جذور له يمكن نقله من مكان إلى مكان. وهذه الصورة هي الصياغة البروتستانتية لفكرة الشعب الشاهد الكاثوليكية والتي تحولت فيما بعد إلى صورة الشعب العضوي المنبوذ، ويظهر اليهود كعنصر استيطاني وكجواسيس يمكن نقلهم وتحريكهم والاستفادة منهم، وهي الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة.

كما شهدت هذه الفترة ظهور الجيتوات في إيطاليا وفي بعض مدن وسط أوربا، الأمر الذي كان يعني تراجُع أعضاء الجماعات اليهودية وانكماش دورهم في المجتمع. ولكن هذه الفترة شهدت أيضاً بداية ظهور يهود الأرندا في بولندا واضطلاع اليهود فيها بدور مهم في الاقتصاد التجاري. وقد حصل اليهود على العديد من المزايا التي جعلت مستواهم المعيشـي يفوق كثيراً مسـتوى الأقنان وأعضاء الطبقة الوسطى البولندية، بل وصغار النبلاء. وفي عام 1648، اندلعت ثورة شميلنكي، وهي ثورة شعبية فلاحية شاملة ضد الحكم الإقطاعي البولندي الكاثوليكي الذي كان يمثله العنصر التجاري الوسيط اليهودي في وسط فلاحي أوكراني أرثوذكسي، فكان هذا الوضع وضعاً تاريخياً يتسم بالتلاقي الكامل بين العداء الطبقي من جهة والعزلة الاجتماعية والثقافية والدينية والعرْقية من جهة أخرى، وهو الوضع الأمثل للانفجارات العنصرية. وقد اكتسحت الثورة في طريقها الجيوب البولندية واليهودية. وفي الأدبيات الصهيونية، يُقرَن شميلنكي بهتلر، مع أن الأول زعيم ثورة شعبية فلاحية له تمثال في كييف باعتباره قائداًللثورة، والآخر زعيم نظام شمولي قام بعملية إمبريالية عنصرية.

وفي القرن السابع عشر، ظهر يهود البلاط في وسط أوربا، وفي غربها بدرجة أقل، حيث قدموا الخدمات التجارية والمالية للدول التي ينتمون إليها وحصلوا على مزايا عديدة، كما قاموا بحماية أعضاء الجماعات اليهودية. وبدأ استيطان اليهود السفارد في هولندا وفي بعض المدن في كلٍّ من فرنسا ووسط أوربا. وكان هؤلاء يتمتعون بحقوق ومزايا لا يتمتع بها كثير من أعضاء الطبقات الأخرى، كما أنهم كانوا يتحدثون باسم أعضاء الجماعة اليهودية لدى الحاكم ويقومون بدور الوسيط بينه وبين الجماعة، وبعملية المقايضة معه بحيث يحصل أعضاء الجماعة على المزيد من المزايا نظير تقديم المزيد من الخدمات، أو تثبيت ما حصلوا عليه من مواثيق نظير الاستمرار في الاضطلاع بدورهم. ويمكن القول بأنه، مع ظهور يهود البلاط ويهود الأرندا، واستيطان السفارد في أوربا، تنتهي العصور الوسطى ويبدأ العصر الحديث بكل مظاهره الجديدة.

أما وضع اليهود في العالم الإسلامي، فلا يمكن القول كما يدَّعي البعض بأنه كان عصراً ذهبياً واحداً طويلاً، وإن كان من الممكن أن نقول إن العالم الإسلامي لم تظهر فيه نظرة شاملة تضع اليهودي في مركز أحداث الخلاص باعتباره « الشيطان قاتل الرب ». كما أن العالم الإسلامي يتسم بوجود عدد هائل من الأقليات العرْقية والإثنية التي تفرض عليه قبول التعددية (وهي تعددية اعترف بها الإسلام وقننها في مفهوم أهل الذمة الذي حدد لأعضاء الأقليات مكانهم وواجباتهم وحقوقهم). كما أن أعضاء الجماعات اليهودية لم يتحولوا جميعاً إلى جماعات وظيفية وسيطة بل كانوا ممثَّلين في معظم النشاطات الاقتصادية والمهيمنة، فكان منهم الأطباء والوزراء والمترجمون والتجار والحرفيون. وحتى حينما اضطلعوا أحياناً ببعض وظائف الجماعة الوظيفية الوسيطة واكتسبوا خصائصها، فإن هذا الدور لم يكن مقصوراً عليهم إذ كانت هناك جماعات إثنية ودينية أخرى تشارك في نشاطهم الوظيفي، كما كان بين هؤلاء المسلمون. كما أن عدد الجماعات اليهودية في العالم العربي ظل صغيراً للغاية بالنسبة إلى عدد السكان. ولكل هذه العناصر المركبة، نجد أن عداء اليهود في العالم الإسلامي لم يكن بالحدة نفسها التي كان عليها في العالم الغربي الوسيط،كما أنه ظل في معظم الأحيان إمكاناً كامنـاً فـي نفـس بعـض أعضاء الأغلبية وداخل بعض القطاعات.

يوهانيــس فيفركــورن (1469-1521(

Johannes Pfefferkorn

ألماني يهودي مُتنصِّـر، ومن أشـهر المهيجين ضد الجماعات اليهودية. كان يعمل جزاراً وكان في الوقت نفسه متفقهاً في الدين اليهودي. يُقال إنه قُبض عليه بتهمة السرقة وأنه، بعد الإفراج عنه، تنصَّر هو وزوجته وأولاده في كولونيا عام 1504. كتب فيفركورن عدداً من الكتيبات المعادية لليهود: مرآة اليهود (الذي هاجم فيه تهمة الدم أيضاً) و الاعتراف اليهـودي وكتاب عيد الفصح و عدو اليهود. وقد نُشرت ترجمات لاتينية لكل هذه الأعمال فور نشرها. وقد طالب فيفركورن بحرق التلمود ومنع الربا وأن يعمل اليهود في الأعمال اليدوية الوضيعة وأن يُفرَض عليهم حضور المواعظ المسيحية وإلا طُردوا من المدن الألمانية التي يقيمون فيها.

وفي عام 1510، قام بعض المهيجين ضد الجماعة اليهودية في براندنبرج باتهام أعضاء الجماعة بتدنيس خبز القربان المقدَّس، كما وجهوا إليهم تهمة الدم. فشُكلت لجنة للتحقيق في الأمر برئاسة أسقف مينز الذي طلب المشورة من بعض كبار المفكرين الدينيين من بينهم يوحانان ريوشلين. وكان موقف ريوشلين لا يتفق مع موقف فيفركورن، فكتب هذا الأخير كتيباً بعنوان مرآة اليد يهاجم فيه ريوشلين الذي كتب رداً بعنوان مرآة العين. وبذلك بدأت واحدة من أكبر المعارك الدينية في عصر النهضة في الغرب. وكانت الحركة الإنسانية الهيومانية قد حققت قدراً كبيراً من الانتشار والإحساس بالقوة، فألقت بثقلها في صف ريوشلين. ومع أن إيرازموس لم يشترك في المعركة، إلا أنه وصف فيفركورن بأنه يهودي في غاية الإجرام أصـبح مسـيحياً في غاية الإجرام. ثم كتب فيفركورن موعظة ضد كتاب ريوشلين مرآة العين وضد الاتجاه الليبرالي المسيحي ككل. وقد استمرت المعركة بعض الوقت إلى أن أصـدر الإمـبراطور أمراً للطرفين بالتزام الصمت. وفي عام 1514، أصدرت محكمة بابوية قراراً يؤيد ريوشلين، فرفضه فيفركورن ونشر كتاباً آخر بعنوان جرس الإنذار. واستمرت المعركة بعض الوقت ولكنها تركت أثراً عميقاً في الكثيرين. وليس من قبيل الصدفة أن يعلن لوثر أطروحاته عام 1517 إبان الجدل الذي دار بين ريوشلين وفيفركورن.

والحقيقة أن ظهور فيفركورن وشيوع كتاباته هو مؤشر على أن المسـألة اليهودية كانت قد بدأت تطرح نفسـها، وبحدة، على الوجدان الغربي، وذلك مع نهاية العصور الوسطى في الغرب ومع ظهور الدولة المركزية وبداية تراجع أهمية دور الجماعات اليهودية الوظيفية. ومما يجدر ذكره أن ريوشلين، الطرف الآخر في المعركة، كان يطالب هو الآخر بإصلاح اليهود، أي بإعادة تعريف دورهم بما يتناسب مع المرحلة الجديدة، وكان يرى وجوب طردهم إن لم يصلحوا حالهم. وهكذا، فإنه لا يوجد اختلاف كبير في الرؤية والمقدمات بين فيفركورن وريوشلين إذ أن الاختلاف ينصرف إلى طبيعة الحل المطروح وحسب.

أنطـون مارجريــتا (1490 - ؟ (

Anton Margarita

كاتب ألماني يهودي وابن حاخام مدينة ريجنسبرج. تكثلك عام 1522 ثم أصبح بروتستانتياً بعد ذلك. عُيِّن محاضراً في اللغة العبرية في عدة جامعات ألمانية حتى عام 1537 حين عُيِّن في جامعة فيينا التي بقي يعمل فيها حتى وفاته. نشر أول كتبه المعادية لليهود عام 1530 والذي حاكى فيه أعمال اليهودي المتنصر فيفركورن حيث اتهماليهود بأنهم لا يعرفون سوى الكراهية وأنهم يهزأون بالمسيح والمسيحية في أدعيتهم وكتبهم.

عُقدت مناظرة (بأمر الإمبراطور تشارلز الأول) عام 1530 بينه وبين جوزيف من روشايم حيث أثبت الأخير زيف بعض ادعاءات مارجريتا، فأمر الإمبراطور بوضعهفي السجن.

تمتعت كتابات مارجريتا بالذيوع وتركت أثراً عميقاً في مارتن لوثر الذي اقتبس منها عدة مرات.

الصور الإدراكية النمطية المعادية لليهود منذ القرن الثامن عشر

Anti-Semitic Stereotypes since the Eighteenth Century

سادت العصور الوسطى في الغرب صور إدراكية ثابتة عن اليهود، منها أن اليهود شعب شاهد، ومنها أنهم مصاصو دماء، ومنها أنهم قتلة المسيح، وأنهم يدنِّسون خبز القربان ويسمِّمون الآبار. وغني عن القول أن معظم هذه الأفكار فقد كثيراً من البريق والشيوع، وحلت محله أفكار وصور إدراكية ثابتة أخرى سنكتشف أن معظمها ظهر من خلال علمنة الصور الإدراكية السابقة وإعطائها أساساً علمياً مادياً.

وينطلق فكر عصر الاستنارة (العقلانية المادية)، وهو إحدى أهم ركائز الفكر الحديث في الغرب، من فكرة المساواة الكاملة بين البشر ومن كفاية العقل للوصول إلى الحقيقة دون حاجة إلى وحي إلهي. وهذه المساواة تشمل المسيحي واليهودي وكل البشر، ولكنها في ذات الوقت مساواة لا تعترف بهوية أي منهم ولا تحترم أية خصوصية، أي أنها مساواة تتم في إطار فكرة الإنسان الطبيعي النافع حيث لا يشكل الإنسان إلا جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة (فهي تسوية أكثر منها مساواة). ومن ثم، دافع فلاسفة الاستنارة عن اليهود من منظور المساواة الكاملة ومن منظور نفعهم وإمكانية الاستفادة منهم بعد إصلاحهم وتقويمهم بما يتفـق مع المعايير العقلية الطبيعية الجديدة.

أما مفهوم الدفاع عن أعضـاء الجماعات اليهودية من منظـور نفعهم، فهو يتضمن قدراً كبيراً من رفضهم وعدم قبولهم باعتبارهم بشراً لهم حقوقهم الإنسانية المطلقة لأن العنصر النافع يجب التخلص منه إن فقد نفعه. وعلى أية حال، فإن هذا المقياس لم يُطبَّق على اليهود وحدهم وإنما طُبِّق على مختلف أعضاء المجتمع الذي تحكمه الدولة القومية العلمانية. بينما أدَّى إصلاح اليهود إلى ظهور أدبيات شرسة تشير إلى طفيلية اليهود وهامشيتهم وطرق إصلاحهم.

وكان كل هذا يتم في إطار فكرة القانون العام والطبيعة البشرية العامة، في وقت لم تكن الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية قد أحرزت التقدم الذي أحرزته في أواخر القرن التاسع عشر حيث سقطت فكرة الإنسان الطبيعي والإنسانية العامة وحل محلها إدراك تداخل العناصر التاريخية الخاصة مع الطبيعة البشرية ذاتها.

ومن ثم، طالب عصر العقل (الطبيعي المادي) اليهود (وغيرهم) بالتخلص من خصوصيتهم ليصبحوا بشراً بالمعنى العام (والطبيعي المادي) للكلمة. وكان يُنظَر إلى اليهود الذين يؤثرون الحفاظ على خصوصيتهم الدينية أو الإثنية باعتبارهم « دولة داخل دولة »، أو على أنهم جماعة قَبَلية في مجتمع تسود فيه مُثُل الليبرالية والعلمانية والاستنارة. ويجب التنبه إلى أن دعاة الانعتاق كانوا يعادون اللهجات المحلية كافة، ومختلف الخصوصيات الإثنية، بل ويُقال إن الكونت دي كليرمونت والأسقف جريجوار (وهما من دعاة إعتاق اليهود شريطة أن يتخلصوا من عزلتهم) كانا يبديان ضيقاً شديداً من الخصوصيات الفرنسية الإثنية واللغوية المحلية (البريتون والفلامنج والأوكستانيان والأوفيرنيان) أكثر من ضيقهم بالخصوصية اليهودية. إذ أن فكر الاستنارة كان يحوي هجوماً على اليهود بوصفهم جماعة لها هويتها، ويغطيه سطح مصقول من القبول العام لليهودي كإنسان طبيعي، وأي إنسان يتفق مع المواصفات القومية العلمانية الجديدة، فالتسامح هنا دعوة للتخلي عن الهوية وللقضاء عليها، وذلك باسم الهوية القومية العضوية الجديدة التي تتجسد في الدولة القومية المركزية. وأدَّى كل هذا في نهاية الأمر إلى ظهور اليهودي غير اليهودي.

وقد وجد اليهود أنفسهم وسط حلبة الصراع بين المسيحية والعلمانية، حيث كان العلمانيون يشيرون إلى اليهود باعتبارهم ضحية عصور الظلام المسيحية الوسيطة، أي أن اليهود تحولوا من شعب شاهد على عظمة الكنيسة إلى شعب شاهد على جبروتها وظلمها. وتحوَّل اليهودي، لذلك، إلى بطل من أبطال العلمانية. وأصبح بعض العلمانيين ينظرون إلى اليهودية باعتبارها دين العقل ودين الفلاسفة الذي يؤمن بالرب الواحد دون حاجة إلى طقوس مركبة أو معجزات، أي أن اليهود واليهودية أصبحا مقولة مجردة تُستخدَم لضرب المسيحية والكنيسة. وقد ولَّد هذا في نفوس المسيحيين صورة غير محببة لليهودي.

ولكن فريقاً آخر من دعاة الاستنارة كان يتبع إستراتيجية مخالفة تماماً، إذ أنهم بدلاً من أن يضعوا اليهودي مقابل الكنيسة كانوا يحولون اليهودي إلى رمز للدين، أيِّ دين، أو إلى ممثل لما كانوا يسمونه «المسيحية البدائية». وبالتالي، فإنهم بدلاً من الهجوم على الكنيسة والمسيحية بشكل مباشر، وهو أمر كانت تحفه المخاطر، كانوا يسددون سهامهم إلى اليهود واليهودية والعهد القديم في هجوم مقنَّع على المسيحية. وكان هذا الفريق يشير إلى تخلف اليهود والخرافات التي يؤمنون بها مثل تراث القبَّالاه، وإلى أن الدين اليهودي دين معاد للإنسان يشجع على العزلة وعلى عدم الولاء للدولة في وقت كان المجتمع فيه يتجه نحو العلمانية والتحرر.

لكل هذا، نجد أن عصر الاستنارة هو العصر الذي تم فيه وضع الأسس الفكرية لمعاداة اليهود (وللصهيونية في الوقت نفسه) في العصر الحديث، حيث نجد الأطروحات والصور الإدراكية النمطية الثابتة التي تنسب إلى اليهود قدراً كبيراً من الصفات المنفَّرة، وانطلاقاً من ذلك اقتُرح تهجيرهم إلى مكان آخر حلاًّ لهذا الوضع (أي أن الصيغة الصهيونية الشاملة يكتمل تبلورها في هذه المرحلة). ومن باب الهجوم المقنَّع على المسيحية، كان يُطرَح أن الكتاب المقدَّس وثيقة مزيفة، وأن أبطال العهد القديم أوغاد لا خلاق لهم (ومتعصبون ضيقو الأفق) مارسوا الاضطهاد الديني ضد الآخرين، وأن اليهود الذين أتوا بالعهد القديم (وهو أكثر أجزاء الكتاب المقدَّس توحشاً حسب رأيهم) شعب همجي؛ قاس وفاسد. وقام دعاة الاستنارة ببعث أطروحات الكنيسة ضد اليهود في محاولة ماكرة لاستخدام هذه الأطروحات لا ضد اليهودية وحسب وإنما ضد المسيحية (باعتبار أن اليهودية أم المسيحية) بل وضد كل الأديان الأخرى. ولهذا، لم يكن الهجوم الاستناري يُشَن على السمات اليهودية في النسق الديني اليهودي وحسب، وإنما كان يُوجَّه كذلك (وأحياناً بالدرجة الأولى) إلى تلك السمات المشتركة بين اليهودية والأديان السماوية الأخرى. وهذا ما فعله فولتير في معجمه الفلسفي (1756)، فهو في المدخل الخاص باليهود يعتبرهم عنصراً مستقلاًّ مستمراً منذ أيام العبرانيين القدامى، ويستبعد أن يكون المصريون القدماء أو الفرس أو اليونان قد أخذوا قوانينهم عن اليهود، مؤكداً أن اليهود (حين احتكوا بهذه الحضارات) لم يتعلموا غير فنون الربا، بل ويرى أنهم شعب جاهل تماماً جمع بين البخل والخرافات وكره الأمم التي تسامحت تجاههم. إلا أنه يضيـف: «ولكن يجب عدم حرقهم » وكـأن الإبادة بديل مطروح للنقـاش.

أما الفيلسوف المادي هولباخ، فقد اتهم موسى بأنه أوجد الشريعة التي فصلت اليهود عن سائر الأمم. وأوضح في هجومه أن اليهود لا يخضعون إلا لكُهانهم، ولذلك أصبحوا أعداء للجنس البشري بأسره يكنون الاحتقار لأخلاق الأمم الأخرى وقوانينها، إذ أن شريعتهم تأمرهم بأن يكونوا قساة لصوصاً خونة غادرين، ومثل هذه الأعمال تُعَدُّ في اليهودية عملاً يرضي الرب. ويُضيف هولباخ أن اليهود اشتهروا، في الواقع، بالخداع والغش في التجارة، ويمكن افتراض أنهم إذا أصبحوا أكثر قوة فسوف يبعثون المآسي التي كثيراً ما وقعت في بلادهم. وإن وُجد بعض اليهود الذين يتسمون بالأمانة والعدل، فهذا يعني أنهم رفضوا بكل وضوح مبادئ الشريعة اليهودية التي تهدف إلى خلق مثيري المتاعب والأشرار. وكما هو واضح، يرى هولباخ اليهود عنصراً أو شعباً واحداً.

ولكن فكر الاستنارة لم يكن البُعد الوحيد في الفكر الغربي الحديث. فمعاداة الاستنارة، والتمرد عليها، والرومانسية، كانت أبعاداً ثابتة وأساسية فيها، ولا تقل عن الاستنارة نفسها في الأهمية. وقد انعكست هذه الرومانسية تجاه اليهود في مواقف متناقضة أيضاً، فتم بعث فكرة اليهودي التائه وتمجيده باعتباره نموذج البطل الرومانسي الحق. ولكننا نلاحظ أن اليهودي التائه هو، في واقع الأمر، اليهودي الهامشي. حتى إذا كان بطلاً، فهو بطل عجائبي متجرد من صفات إنسانية متعينة. وبالتالي، فإن تمجيد اليهودي بوصفه بطلاً رومانسياً كان ينزع عنه صفاته الإنسانية وهي الخطوة الإدراكية الأولى نحو معاداة اليهود.

كما وجه فلاسفة الرومانسية النقد إلى اليهودية باعتبارها ديانة لاروح فيها. وقد يكون من المفيد هنا أن نشير إلى موقف عمانويل كانط (1724 ـ 1804) وهيجل (1770 ـ 1811) باعتبارهما ممثلين أساسيين للرؤية الغربية (شبه الدينية والعلمانية) للعقيدة اليهودية. يَصدُر كانط عن الإيمان بأن المسيحية هي أقرب الديانات إلى الديانة الأخلاقية الطبيعية التي بشَّر بها. وهي ديانة تستند هي وتعاليمها الأخلاقية والروحية إلى الحب الخالص. ويقف هذا على الطرف النقيض من اليهودية، فهي مجرد كيان قومـي سـياسي، وهي ديانة برانية تفتـقر إلى المثـالية الروحية؛ لا تنميّ الحس الخلقي الداخلي، وتتطلب الخضوع للقانون والشريعة بشكل جاف. وقد أشار كانط أيضاً إلى أن العقيدة اليهودية عقيدة دنيوية لا تعرف فكرة الخلود (وهي فكرة أساسية عند كانط)، وأن المشيحانية اليهودية نزعة قومية سياسية منغلقة وأنها حوَّلت الشعب اليهودي إلى عدو لكل الشعوب. وأشار كانط إلى يهود عصره فبيَّن أنهم يشتهرون بالغش والخداع ويشتغلون بالتجارة والربا. ولا يوجد حل للمشكلة إلا من خلال القتل الفكري الرحيم وذلك بالقضاء على اليهودية وإحلال دين صاف طاهر أخلاقي محلها (أي المسيحية). وقد استقى كانط هذه الفكرة الخاطئة من إسبينوزا ومندلسون. ولكن الموقف السلبي لكانط من اليهودية لم يؤثر على علاقته بمن عرفهم من أعضاء الجماعات اليهودية.

وقد تأثر الفكر الغربي برؤية كانط لليهودية وللدين بشكل عام (بما في ذلك المفكرون الغربيون اليهود)، فنجد أن كثيراً من مفكري عصر الاستنارة من اليهود يميزون بين الجوهر العقائدي لليهودية، وهو الجوهر العالمي الذي لا يتنافى مع العقل الإنساني والحس الخلقي من جهة، والشعائر التي تتسم بالخصوصية والقومية، من جهة أخرى. كما أن كثيراً من المفكرين الغربيين كانوا يفرقون بشكل ساذج بين المسيحية باعتبارها دين القلب والحس الديني الجواني، واليهودية بوصفها عقيدة العقل والتعاقد البراني (وهو تمييز امتد ليُطبَّق على الفرق بين المسيحية والإسلام). وقد ترك فكر كانط أثراً عميقاً في دعاة الاستنارة من اليهود مثل سولومون مايمون ولازاروس بنديفيد وماركوس هرتز، كما تأثر بفكره في مرحلة لاحقة هرمان كوهين وسولومون ستاينهايم وفرانز روزنزفايج (وإن كان تأثرهم به بدرجة أقل). وقد تأثر دعاة اليهودية الإصلاحية بكانط، حيث كانوا يرون أن اليهودية هي أساساً نظام أخلاقي، وهذا قريب للغاية من تصور كانط للدين المثالي.

وقد استمر هيجل في الاتجاه نفسه حيث تأثر هو الآخر برأي مندلسون القائل بأن اليهودية هي مجموعة من القوانين المُوحَى بها وليست حقيقة موحى بها. ويتسم موقف هيجل من اليهودية، بقدر من العداء في كتاباته الدينية الأولى، حيث كان يُفرِّق بين العقيدة الشعبية الوثنية اليونانية القديمة التي تتسم بالكهنوتية (باعتبار أن الإله كامن فيالجمال) من جهة، والمسيحية واليهودية من جهة أخرى، باعتبارهما عقائد تدور كلها حول كتاب مقدَّس يحتوي على قوانين تُفرض على الإنسان من الخارج في حالة اليهودية أو حول حقيقة مقدَّسة (واقعة الصلب) في حالة المسيحية.

ولكن هيجل تخلى عن موقفه هذا في مرحلة لاحقة وأخذ ينظر إلى تاريخ الأديان بطريقة يُقال لها جدلية. ويرى هيجل أن العقيدة تصبح برانية وجافة إن لم يتحد المقدَّس بالزمني، ولكنها تفتقر إلى الجدية إن لم يكن هناك انفصال بينهما. ومن ثم، فإن العبادة اليونانية والإحساس اليهودي بالقداسة يقفان على قدم المساواة، فالعبادة اليونانية للتماثيل الجميلة تنطوي على قدر من الحقيقة، فثمة قداسة في الجمال. ولكن الإنسان هو صانع هذه التماثيل، والإنسان متناه والتماثيل من ثم متناهية، ولكن تناهيها يجعلها زائفة رغم جمالها. ولذا، قامت الفلسفة القديمة بنزع القداسة من هذه التماثيل. وهذا أيضاً ما أنجزته اليهودية منذ البداية، فالإله في اليهودية متجاوز للطبيعة والإنسان ومن ثم تصبح التماثيل (وأشكال الجمال الطبيعي والمادي) غير مقدَّسة. ولكن هذا الإنجاز اليهودي له ثمنه الفادح، فهو يعني انفصال الإنسان عن الخالق ولا يمكنه أن يمتزج معه ويتحد به من خلال الحب. فعبادته للإله مبعثها الخوف والرهبة. وتأخذ التجربة الدينية اليهودية شكل الطاعة العمياء (البرانية) للقانون (الشريعة) والرغبة في الثواب ولا يوجد فيها أي أساس للروحانية، فهي تشكل انفصالاً كاملاً للموضوع عن الذات. ويرى هيجل أن هذا هو السبب في أن العالم الوثني الروماني كان يطرح مفهوماً عالمياًللحقيقة على عكس اليهودية التي تؤمن بإله عالمي ولكنها ظلت حبيسة خصوصيتها القَبَلية والقومية. ويرى هيجل أن المسيحية تحقق المثل اليوناني واليهودي معاً، إذ يخرج الإله من ذاته ليصبح إنساناً ومن ثم يصبح الإنسان إلهاً!

وموقف هيجل من اليهودية يدل على عدم معرفته باليهودية التلمودية والقبَّالية، التي يتم فـيها الاتحـاد الكامل بين الخالق والمخلوق، والتي لا تختلف كثيراً عن القبَّالاهالمسيحية والتصوف الحلولي المسيحي التي تأثر بها هيجل (من خلال أعمال جيكوب بومه وأوتينجر). وهذه الرؤية أثرت في كتابات فيبر من بعده (وأثرت كذلك في الموقف المسيحي الغربي من الإسلام، إذ قُرنت اليهودية بالإسلام). وقد أثر هيجل بشكل عميق في كثير من المفكرين اليهود مثل سمسون هيرش وصمويل هيرش وموسى هس وهنريسن جرايتس. وثمة مكون هيجلي قوي في الفكر الصهيوني، خصوصاً التصور الصهيوني للتاريخ.

ولا شك في أن هذا الوصف لليهودية لا يخلق جواً من التعاطف مع أتباع هذه العقيدة. ولكن فكر معاداة الاستنارة (الرومانسي) كان يشكل أساساً قوياً لمعاداة اليهود في جانب آخر من جوانبه. فهو فكر يرفض فكرة الإنسان الطبيعي العام ويؤكد الخصوصية. ويرى أن لكل أمة عبقرية خاصة وسمات أزلية يحملها من ينتمي إلى هذه الأمة عن طريق الوراثة والتنشئة، وهو ما سميناه بفكرة «الشعب العضوي» التي تبدَّت في تأكيد خصوصية اليهود كشعب عضوي منفصل عن غيره من الشعوب (وهذه علمنة لفكرة الشعب الشاهد)، فهو شعب ذو خصائص ثقافية واقتصادية ودينية فريدة وله علاقته العضوية بأرضه. ومن ثم، تنشأ فكرة ضرورة استرجاع اليهود إلى أرضهم (فلسطين) كي يحققوا الوحدة العضوية المطلوبة ويحققوا هويتهم.

ويُلاحَظ أن هذه الرؤية يكسوها سطح مصقول من حب اليهود والتحيز لهم، ولكنها تُضمر تضمينات معادية لهم أو تفترض أنهم شعب عضوي سامي آسيوي لا ينتمي إلى التشكيلات العضوية الآرية في الغرب، وأنه لو مكث داخل هذه التشكيلات لأصبح عنصراً مرضياً مخرباً مصاباً بازدواج الولاء، وبالتالي لا يمكن دمجه في المجتمعاتالتي يوجد فيها ولابد من طرده، وهو ما سميناه «الشعب العضوي المنبوذ». وقد تبنَّى دعاة النظريات العرْقية والقومية العضوية الرأي القائل بأن الصراع الحقيقي والحتميهو الصراع بين الأجناس والقوميات المختلفة وليس الصراع بين الطبقات والفئات المختلفة داخل التشكيل القومي الواحد. ومن ثم، أصبح اليهود، كشعب عضوي منبوذ،عنصراً مهماً، إذ أن الجماعة العضوية تحتاج إلى جماعة عضوية أخرى تكون بمنزلة الأداة حتى تحدد هويتها من خلال رفضها لها. كما أن اليهودي المندمج الذي يتقمصشخصية غير شخصيته، على نحو ما يتصور دعاة الفكر القومي العضوي، يقف بتفككه وفقدانه هويته شاهداً على تماسك الأمم العضوية.

وهكذا، نجد أن التيارين الأساسيين في الحضارة الغربية الحديثة ينطويان على قدر كبير من العداء لليهود: يتمثل الأول في دعوة اليهود إلى الاندماج بعد أن يفقدوا كل خصوصية وتميُّز، أما الثاني فيقرر ابتداءً أنهم لا يمكنهم الاندماج. ورغم اختلاف التيارين ظاهرياً، فإنهما يتفقان على رفض اليهودي.

وهناك عنصر آخر في الفكر الاجتماعي الغربي ساهم بدوره في صياغة الرؤية الغربية الحديثة لليهود، ويتمثل فيه هذا الانقسام الذي لاحظناه بين مفكري عصر الاستنارة، إذ كانت بعض العناصر البورجوازية الثورية تنظر إلى اليهود باعتبارهم عنصراً مهماً لاستمرار الوجود الإقطاعي. وكان كبار مموِّلي اليهود قريبين بالفعل من النخبة الحاكمة يشكلون جماعة وظيفية وسيطة تمد أعضاء هذه النخبة بما يحتاجون إليه من أموال وبضائع، وهو ما كفل لهم شيئاً من الاستمرار ويسَّر ضرب البورجوازيات الصاعدة. ولكن الفريق الأكبر من المفكرين (من اليمين واليسار) كان يرى أن اليهود مرتبطون عضوياً بالبورجوازية والاقتصاد الجديد والليبرالية السياسية. وكان روتشيلد هناك دائماً ينهـض دليـلاً عملياً محسـوساً يوهم بصدق هذه النظريات. وبطبيعة الحال، كانت قطاعات المجتمع المرتبطة اقتصادياً أو وجدانياً بالاقتصاد الزراعي القديم تهاجم اليهود كتجار يحملون قيم التنافس والتجارة والعلمانية. وكان دعاة القومية السلافية المعروفة بعدائها للغرب (المنحل) ولأفكار الرأسماليين (الماديين)، يرون اليهود بتكالبهم المفترض على الثروة وبتفككهم الاجتماعي (والذي كان حقيقة مادية بالنسبة لقطاعات كبيرة من أعضاء الجماعات اليهودية في نهاية القرن التاسع عشر) شاهداً حياً على هذه المادية.

ويجب أن نذكر أن فكر معاداة الاستنارة أفرز مناخاً معادياً لفكر المساواة والمثل الليبرالية والثورة، فهو يمجد العصور الوسطى وفكرة الجماعة العضوية المترابطة (الجماينشافت) مقابل الجماعة التعاقدية المفتتة (الجيسيلشافت)، وهو التمييز الأساسي الكامن في الفكر الألماني الاجتماعي وفي معظم الفكر الغربي الثوري والرجعي. وكان اليهود جماعة وظيفية وسيطة دينامية متحركة مرتبطة بالتجارة والمال، وبالتالي بالبورجوازية الصاعدة وبالمجتمع الجديد. وقد تمت علمنة اليهود بسرعة مذهلة ربما بسبب الأزمة التي كانت تجتازها اليهودية، كما أن أعداداً كبيرة من اليهود انخرطت بطبيعة الحال في الأحزاب الليبرالية والحركات الثورية، وهو ما جعل لليهود بروزاً غير عادي في هذه الحركات وربط بين اليهود والليبرالية والثورة.

وإذا كان هذا هو رأي اليمين، فإن عينات كبيرة أيضاً من اليسار ربطت بين اليهودي من جهة والرأسمالية والبورجوازية وماديتها الخسيسة من جهة أخرى. وكان العداء للرأسمالية، يأخذ في كثير من الأحيان شكل معاداة اليهود، كما هو واضح في كتابات فورييه وتوسونيل وماركس. وقد كتب سومبارت أطروحته المشهورة التي يبين فيها أن اليهود هم المسئولون عن ظهور الرأسمالية (وهذا في رأيه تعبير آخر عن فكرة الصراع بين الساميين والآريين). والساميون هنا (أي اليهود) هم التجار المتجوِّلون، والآريون هم الفلاحون المنتجون المرتبطون عضوياً بالأرض. وكانت الأطروحة الاشتراكية تكتسب، أحياناً، بُعداً قومياً متعصباً بحيث نجد أن بعض الكتاب الألمان، بتوقهم الرومانسي إلى العصور الوسطى العضوية (الجماينشافت)، كانوا يرون أن الرأسمالية ظاهرة غير ألمانية (دخيلة) أدخلها العنصر التجاري اليهودي الغريب، وأخذوا يدعون إلى العودة إلى حياة أكثر ألمانية وبساطة!

ويتضح هذا الخط بوضوح في كتابات دوهرنج الذي كان عداؤه لليهود يستند إلى عداء صريح لليبرالية السياسية والاقتصادية، إذ كان يرى أن اليهود استغلوا الجو الليبرالي السياسي والاقتصادي ليدمروا المجتمع الألماني المتماسك ويهيمنوا عليه. وقد ذهب دوهرنج إلى أن « جمجمة الإنسان اليهودي ليست جمجمة إنسان مفكر، فهي ملأى على الدوام بالربا والشئون التجارية ». ويؤلف اليهود في نظره « عرْقاً وضيعاً لا مثيل له ». وتكتسب فكرة الحفاظ على الشرف العرْقي بعداً اشتراكياً في كتاباته إذ يؤكد ضرورة إزاحة الهيمنة اليهودية من عالم المال لتحقيق هذا الهدف. ويجب أن نضيف أن ما دعم الصور النمطية الإدراكية هو وضع اليهود المتدني حضارياً واقتصادياً وثقافياً. فالجيتو كان من أقذر الأماكن في أوربا، كما أن المتسول اليهودي كان ظاهرة عامة. ومع نهاية القرن، كانت الجماعات اليهودية في الغرب في حالة انكسار وانحلال، بعد أن تم ضرب قيادتها الدينية التقليدية وبعد أن فُرض عليها التحديث والعلمنة بكل قسوة وسرعة. وكذلك، كان القَوَاد اليهودي والبغي اليهودية يمثلان حقائق مادية صلبة. وكانت الحركات الثورية تضم في صفوفها أعداداً كبيرة من الشباب اليهودي. وكان كثير من الفضائح المالية وأعمال الغش يرتكبها يهود. كل هذا يعني أن الصور الإدراكية كانت ذات أساس واقعي، ولكنه كان أساساً واقعياً مجرداً تماماً من سياقه التاريخي حتى بدا وكأنه حقيقة كاملة.

لكن العنصر الأساسي الذي ساهم في ترسيخ الصور الإدراكية الكريهة عن اليهود، وفي تصاعد الهجمات ضدهم، هو الظاهرة الإمبريالية. فقد كان القرن التاسع عشر هو عصر التوسع الإمبريالي الغربي الذي انتهى بالهيمنة على كل أنحاء المعمورة ووضع الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية موضع التنفيذ على مستوى العالم. وصاحب هذه العملية ظهور مجموعة من الأفكار والنظريات والصور الإدراكية العرْقية التي تحاول تسويغ سيطرة الإنسان الأبيض على بقية الأعراق. فضلاً عن أن الفلسفة النيتشوية كانت تكتسح أوربا، وهي فلسفة تنظر إلى الواقع باعتباره صراعاً لا يهدأ، صراع الجميع ضد الجميع، ويستند فيه البقـاء لا إلى الحـق والخير والجمـال وإنما إلى الحركية والقـوة والإرادة. كما سادت أوربا آنذاك الفلسفة الداروينية الاجتماعية، وهي أساساً رؤية للعلاقات الاجتماعية من خلال نموذج ينقل القيم التي زعم داروين أنه اكتشفها في عالم الطبيعة إلى المجتمع الإنساني.

وكانت هذه الداروينية من أهم مصادر الفكر الصهيوني بخاصة، والفكر الإمبريالي بعامة، فكان يتم تبرير إبادة الملايين في أفريقيا واستعبادهم في آسيا على أساس أن هذا جزء من عبء الرجل الأبيض ومهمته الحضارية، فهو يبيد الملايين ليؤسس مجتمعات متقدمة متحضرة! ولكن الرجل الأبيض هو أساساً الرجل الأقوى الذي لا يكترث كثيراً بالخير أو الشر. ولم يكن من الممكن إدراك الواقع بطريقتين مختلفتين: إحداهما ليبرالية خاصة بأوربا، والثانية إمبريالية عنصرية خاصة بالمناطق التي تقع خارجها. فالعنصرية رؤية متكاملة للإله والطبيعة والتاريخ والإنسان. وكان محتماً أن تقع أكبر الأقليات في أوربا، وأكثرها انتشاراً وبروزاً، ضحيةً لهذا التحول الإدراكي والاجتماعي.

تاريـــخ معــاداة اليهـــود منــذ القـــرن الثامـــن عشـر

History of Anti-Semitism since the Eighteenth Century

تتمثل السمة الأساسية في أدبيات معاداة اليهود في العصر الحديث أن تُنسَب إلى اليهودي صفات خفية ثابتة لصيقة به لا يمكنه التخلص منها إذا شاء أن يفعل. فبينما كان بوسع اليهودي في الماضي أن يتخلص من هويته تماماً عن طريق التنصر ودخول الكنيسة التي كانت تفتح له دائماً ذراعيها، فإن هذا البديل لم يَعُد مطروحاً في العصر الحديث، مع ظهور النظريات المادية التفسيرية (للإنسان والكون) التي تفسر الكون في إطار مجموعة من القوانين المادية الحتمية التي تخضع لها الظاهرة. إذ أن سمات اليهودي وخصائصه أصبحت خصائص وراثية وسمات بيولوجية ذات جذور مادية عرْقية ومن ثم لا يمكنه الفكاك منها مهما بذل من جهود. بل إن اندماج اليهود، ورغبة بعضهم في الهرب من يهوديتهم تشبُّهاً بالأغلبية، هما في الواقع (حسب الرؤية الحديثة لمعاداة اليهود) مؤشرات على نجاحهم في التخفي والتمسك بالهوية!

ويمكننا أن نقول إن ثمة أسباباً كثيرة أدَّت مجتمعة إلى تَفجُّر موجة معاداة اليهود في أواخر القرن الماضي:

1 ـ أدَّت الثـورة الصـناعية والثـورة الليبرالية، وظهـور الـدولة القـومية، إلى فقـد اليهـود لدورهم التقلـيدي كجماعة وظيفية وسيطة، إذ ظهرت طبقات محلية يمكنها أن تضطلع بهذا الدور. كما أن الدولة القومية استوعبت كثيراً من الوظائف التي كان يقوم بها أعضاء الجماعة. وقد تحوَّل معظم أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب إلى طبقة وسطى في نهاية الأمر، ولكن الفجوة الزمنية بين الفترتين أدَّت إلى تَفجُّر مشاعر الكراهية ضد قطاع بشري لم يَعُد له أي نفع ولم يكتسب وظائف جديدة بعد.

2 ـ تكتسب الدولة القومية شرعيتها من التاريخ المشترك والثقافة المشتركة. ويستند النقد الاجتماعي العلماني (للمجتمع الإقطاعي والديني) إلى هذين العنصرين، ومن ثم يتحدد الانتماء أو عدم الانتماء بمقدار مشاركة المواطن في هذا التاريخ والثقافة. وقد كانت الجماعات اليهودية عادةً ذات هوية مستقلة نوعاً عن محيطها الثقافي، الأمر الذي كان يجعلها تقع معنوياً خارج دائرة العقد الاجتماعي مع أنها كانت فعلياً داخل دائرة المجتمع، وهو ما ولَّد كثيراً من العداء تجاه أعضاء الجماعات اليهودية.

3 ـ تعثُّر التحديث في وسـط أوربا وشرقها في نهاية القرن التاسع عشـر.

4 ـ وجود أغلبية يهود العالم في أوربا الشرقية (يهود اليديشية) في بلاد لم تَسُد فيها المُثُل القومية الليبرالية، وفي مناطق حدودية مُتنازَع عليها، وفي روسيا (البلد الذي كانت تحكمه بيروقراطية متخلفة لا تفهم وضع اليهود).

5 ـ ارتباط اليهود بالحركات الثورية العلمانية اليمينية واليسارية. فقد كان اليهود رمزاً واضحاً للمجتمع الصناعي الرأسمالي الجديد، وبالتالي أصبحوا هدفاً للجماهير التي اقتلعها الاقتصاد الجديد وألقى بها في المدن والمصانع للعمل تحت ظروف غير إنسانية. ومن ثم أصبح اليهودي بالنسبة إلى البورجوازيات الصغيرة الضعيفة، في كلٍّ من ألمانيا وبولندا وروسيا، هو العائق الأساسي الذي يقف حجر عثرة في طريق نموها الاقتصادي لأنه غريم قوي. كما كان الجميع يرون في اليهودي يسارياً ثورياً يهدد المجتمع من أساسه. ويبدو أن عدداً كبيراً من أعضاء الجماعات اليهودية انضموا للأحزاب الشيوعية الحاكمة في روسيا وشرق أوربا، واشتركوا في عمليات قمع المعارضة التي قامت بها الأحزاب الشيوعية الحاكمة، فارتبط أعضاء الجماعات اليهودية في الذهن الشعبي بهذه النظم. ورغم عدم وجود يهود في كثير من بلاد أوربا الشرقية، إلا أن العداء لليهود لا يزال مستمراً بسبب العداء الراسخ للشيوعية.

6 ـ مع الإعتاق السياسي والاقتصادي لليهود، لم تعد الجماعة اليهودية جماعة وسيطة مغلقة تعيش في مسام المجتمع داخل الجيتو ويمكن التسامح معهما، بل خرج أعضاؤها إلى المجتمع ليلتحموا بالبناء الطبقي والاجتماعي والثقافي للمجتمع، وقد حققوا حراكاً اجتماعياً وطبقياً كبيراً، وانتشروا بأعداد كبيرة في أنحاء أوربا بسبب الانفجار السكاني الضخم بينهم. وأدَّى كل هذا إلى احتكاك واسع المدى بين أعضاء الجماعات اليهودية وبين بعض قطاعات المجتمع تحت ظروف لم تكن مواتية تماماً بسبب الثورة الصناعية التي حرمت الملايين من الأمن التقليدي الذي كانوا يتمتعون به في المجتمع الزراعي.

7 ـ انتشر اليهود في المجتمعات الغربية بعد أن ضعفت هويتهم وقيمهم الدينية، وبعد أن اقتُلعوا من محيطهم الثقافي المألوف لهم. ولذا، كانت تنتشر بينهم ظواهر مثل الغش والسرقة، الأمر الذي عزز من الصور الإدراكية السلبية عنهم.

8 ـ أصبح كثير من اليهود ممن يمكن تسميتهم «يهود غير يهود»، أي يهود ليس فيهم من اليهودية سوى الاسم، فقد تآكلت هويتهم الدينية والإثنيـة تماماً، ومع هذا اسـتمرت المجتمـعات الغربية في تصنيفهم يهوداً. وهذا أمر جعل الناس يشعرون أن اليهود يوجدون في كل مكان وزمان.

9 ـ هؤلاء اليهود غير اليهود كان لابد من تعريفهم بطريقة ما. وقد تم تعريفهم بطريقة عرْقية مجردة حيث كان التعريف الديني التقليدي غير ممكن. فالعنصر المشترك بين الشحاذ اليهودي من شرق أوربا والموسيقار اليهودي من غربها والتاجر اليهودي من وسطها، لم يكن الدين أو حتى هوية قومية بعينها، وإنما كان خاصية مادية عرْقية افتراضية كامنة غير ظاهرة ولا واضحة المعالم، وهي الخاصية البيولوجية اليهودية التي كان الجميع يفترضون وجودها برغم عدم ظهورها.

10 ـ من المفارقات التي تستحق التسجيل أنه مع تزايد الحقوق المعطاة لأعضاء أية أقلية يزداد العداء لها؛ ذلك لأن الأقلية حينما يتم حصرها تلزم مكانها، وحينما تتم عملية القمع بموجب القانون أو بحكم البنية الاقتصادية والسياسية للمجتمع، يقل العنف الفردي إذ تتكفل المؤسسات بعملية العنف. ومن هنا، لم تكن ثمة عمليات اختطاف وشنق للزنوج في جنوب أفريقيا في حين كانت هذه الظاهرة منتشرة في الولايات المتحدة، ومن هنا أيضاً كان خلو إسرائيل من العنف الشخصي (على الأقل حتى نشوب الانتفاضة). وقد تزايد الكره الفردي الموجه لليهود مع تزايد معدلات الإعتاق والعلمنة. كما تزايد الهجوم عليهم لأنه هجوم على خطر خفي غير ظاهر، إذ أن اليهودي المندمج لا يتصرف كما يتصرف اليهودي بشكل يسهل رصده، وإنما يتصرف بشكل " طبيعي " باعتباره فرداً عادياً في المجتمع، الأمر الذي يجعل من رصده عملية مستحيلة.

11 ـ ظهور الإمبريالية الغربية، والنظريات العرْقية والداروينية التي صاحبتها، والتي جعلت من الصراع حقيقة أساسية في الوجود الإنساني وقبلت القوة العضلية معياراً أساسياً.

12 ـ من أهم أسباب تزايد مشاعر العداء لليهود الانفجار السكاني بين يهود اليديشية في شرق أوربا في وقت سادت فيه أفكار مالتوس وزاد الحديث عن وجود فائض سكاني لابد من التخلص منه. وقد صدَّرت شرق أوربا ملايين اليهود إلى وسطها وغربها وإلى الولايات المتحدة. وكان يهود شرق أوربا كتلة متميِّزة متخلفة متحللة، وكان وصولهم يصعِّد مشاعر الكراهية ضدهم. وكان السكان لا يميِّزون بين اليهود الوافدين واليهود الأصليين إذ أن الجميع مجرد «يهود». ولم يكن الوافدون يهوداً وحسـب، وإنما أجانب وغرباء أيضـاً. وكان اليهـود مرتبطين أحياناً بالعدو، كما هو الحال في فرنسا، وخصوصاً في الألزاس واللورين، فاليديشية التي كانوا يتحدثون بها كانت رطانة ألمانية.

13 ـ أدَّى ظهور وسائل الإعلام الحديثة إلى وجود قنوات تنقل الفكر العنصري بسهولة ويسر إلى ملايين الناس وتشيعه بينهم.

14 ـ تزامن كل هذا مع الكساد الاقتصادي في أواخر القرن، الأمر الذي زاد من حدة التوتر الاجتماعي.

وقد أدَّت كل هذه الأسباب مجتمعةً إلى تحوُّل كُره اليهود من مجرد عواطف إنسانية كامنة إلى حركات سياسية. ويعود التاريخ الحديث لمعاداة اليهود على أساس عرْقي إلى عام 1873 (في وسط أوربا)، وذلك مع انهيار البورصة التي كان لبعض المموِّلين اليهود ضلع فيها، ومع الصعوبات الاقتصادية التي بدأت تطل برأسها. وقد أسس قس البلاط الألماني، أدولف ستوكر، حزباً مسيحياً اجتماعياً عام 1878، وتوجه إلى البورجوازية الصغيرة وكذلك إلى المهنيين الذين كانوا يتصورون أنهم ضحية هيمنة الرأسمالية اليهودية على الاقتصاد. وطرح الحزب مفهوماً عضوياَ للقومية يستبعد اليهود ويراهم خطراً على الأمن. وفي هذه الفترة، ظهرت كتابات دوهرنج وترايتشكه وغيرهما. وفي عام 1880، أُسِّست في برلين عصبة المعادين لليهود. وقدَّم المعادون لليهودية عريضة للحكومة الألمانية موقعة من 225 ألف شخص تطلب إلى الحكومة أن توقف جميع أشكال الهجرة اليهودية التي كانت تتدفق من الجيب البولندي وأن تصدر تشريعات لاستبعاد اليهود. وقد عُقد أول مؤتمر دولي لمعاداة اليهود في عام 1882وضم ثلاثة آلاف مندوب.

وفي عام 1893، حققت الأحزاب المعادية لليهود في ألمانيا أكبر نجاح انتخابي لها حين حصلت على ستة عشر مقعداً بعد أن نالت ربع مليون صوت. أما في النمسا، فقد شهد عام 1871 نشر كتاب عن التلمود من تأليف أوجست رولنج، ترك أثراً عميقاً في حركة معاداة اليهود.

وفي عام 1895، تم انتخاب كارل ليوجر زعيم أعداء اليهود رئيساً للبلدية في فيينا. وقد حاول الإمبراطور أن يوقف تعيينه ورفضت الحكومة المصادقة على التعيين، ولكنه تقلَّد منصبه في نهاية الأمر عام 1897 بعد أن أعيد انتخابه ثلاث مرات. وظل العداء لليهود يتصاعد إلى أن وصل إلى ذروته مع انتخاب هتلر ووصول النازيين إلى الحكم.

وقد كانت معاداة اليهود في فرنسا سلاحاً مهماً في يد بعض العناصر الملكية والكنسية المعادية للثورة الفرنسية ومُثُلها. وشهدت هذه الفترة نشر كتاب درومون فرنسا اليهودية. وفي أواخر عام 1892، وقعت فضيحة قناة بنما التي لعب فيها بعض المموِّلين اليهود دوراً ملحوظاً. وشهد عام 1894 حادثة دريفوس أحد ضباط الأركان العامة للجيش الفرنسي والذي اُتهم بأنه خان بلاده وسلم بعض المعلومات المتعلقة بأمنها إلى ألمانيا. وقد دافعت عنه القوى الليبرالية، في حين وقفت القوى المحافظة والمعادية لليهود ضده.

وشهدت روسيا أشكالاً مختلفة من معاداة اليهود، وبخاصة بعد اغتيال القيصر ألكسندر الثاني عام 1881 حيث صدرت قوانين مايو (1881)، وانتشرت موجة من المذابح من أشهرها مذبحة كيشينيف عام 1903. وبعد عام 1905، ظهرت جماعات المائة السود بدعم خفي من الحكومة كما يُقال، وقامت بالهجوم على اليهود في عدة مدن، كما وُجِّهت تهمة دم ضد بيليس عام 1911 وبُرِّئ منها.

أما في بولندا، فإن الطبقة الوسطى الصاعدة ناصبت الجماعة اليهودية الوسيطة العداء بسبب احتفاظها بهوية غربية مستقلة (يديشية) وبسبب تاريخ التحالف الطويل بينها وبين النخبة الإقطاعية الحاكمة. وقد نظم البولنديون حركات مقاطعة ضد اليهود في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وكانت الحكومة تتفاوت في موقفها من التأييد لحركات العداء أو محاولة وقفها. ثم قام النازيون بإبادة أعضاء الجماعة اليهودية في بولندا ضمن من أبادوا من ملايين أخرى.

وبعد الثورة البلشفية في الاتحاد السوفيتي، تغيرت بنية المجتمع ومؤسساته وتوجيهاته. وواجه أعضاء الجماعات اليهودية شيئاً من التمييز العنصري، ولكن هذا لم يكن نابعاً من سياسة الدولة التي كانت تُجرِّم معاداة اليهود، وإنما كان أمراً عادياً يسم علاقة الأقلية بالأغلبية. ولعل أكبر دليل على تَراجُع معاداة اليهود تَزايُد معدلات الاندماجوالزواج المختلط.

ومع هجرة يهود اليديشية وحرب البوير (1899) التي وقف ضدها كثير من قطاعات الرأي العام في إنجلترا، شهدت إنجلترا موجة من العداء لليهود، وقيل إن المصالح المالية اليهودية كانت وراء دخول إنجلترا هذه الحرب. وقد ازداد الحديث عن الخطر اليهودي بشكل مبالغ فيه، وصدرت قوانين الغرباء عامي 1902 و1905 لمنع دخولالأجانب، أي اليهود.

أما في الولايات المتحدة والدول الاستيطانية الأخرى، مثل: جنوب أفريقيا وكندا وأمريكا اللاتينية، فلم يجابه اليهود أية معاداة إلا في جنوب أفريقيا وأمريكا اللاتينية، بخاصة في الثلاثينيات، ولكنها تلاشت بمرور الوقت وبتناقص عدد أعضاء الجماعة.

ويمكننا تقسيم بلاد العالم الغربي، من منظور معادة اليهود، إلى أربعة أقسام:

1 ـ بلاد التحديث الحر، مثل: إنجلترا، وهولندا، وبلجيكا، وفرنسا (إلى حدٍّ ما). وكلها بلاد لها مستعمرات يُصدَّر لها الفائض البشري والتوترات الاجتماعية، وفيها طبقة رأسمالية قوية وحكومات ليبرالية منتخبة. وتتسم الجماعات اليهودية فيها بقلة عدد أعضائها. وهذه البلاد لا توجد فيها ظاهرة معاداة اليهود بشكل حاد أو مستمر.

2 ـ بلاد التحديث الشمولي (تحت رعاية الدولة) - ألمانيا أساساً ـ وهي بلد ليس لها مستعمرات، إذ أُجهضت تجربتها الاستعمارية وتحالفت الطبقة الرأسمالية فيها مع الطبقات الإقطاعية لتضمن لنفسها النجاح. وبرغم قلة أعضاء الجماعات اليهودية، فقد كان لهم بروز واضح في المجالات الاقتصادية والثقافية والإعلامية. وقد ظهر فيها العداء لليهود بشكل واضح.

3ـ بلاد التحديث المتعثر، مثل: روسـيا وبولنـدا وبعـض بلاد وسـط أوربا. وهي بلاد لم يكن لها مستعمرات، ولم يكن اقتصادها متقدماً، وكان القطاع الرأسمالي فيها ضعيفاً،كما كانت هذه البلاد تتسم بأنها تضم جماعات يهودية كبيرة. وقد تعثَّر التحديث في هذه البلاد، وتفشت فيها ظاهـرة عـداء اليهود. ومع استئناف التحديث على النمطالاشتراكي، اختفت الظاهرة أو ضَمُرت، واتجهت المؤسسات نحو دمج أعضاء الجماعات اليهودية. وكانت الدعاية الصهيونية تتهم الاتحاد السوفيتي بمعاداة اليهود المتمثلةفي محاولة دمج اليهود، بل وأُطلق على ذلك «هولوكوست الاندماج». ولكن معاداة اليهود تبدو دائماً في شكل النظر إلى اليهود باعتبارهم عنصراً غريباً لا يمكن دمجه،وبالتالي لابد من طرده أو على الأقل تشـجيعه على الهجرة. أمـا في الاتحاد السوفيتي، فقد كان الوضع على عكس ذلك تماماً، إذ حاول المجتمع دمجهم فيه بينما كانت القوىالصهيونية هي التي تحاول إخراجهم منه. وإذا كانت أعداد كبيرة من أعضاء الجماعات اليهودية قد تلاشت أو انصهرت، فإن هذا يرجع إلى آليات اجتماعية وبنيوية مركبة.

4 ـ المجتمعات الاستيطانية، مثل: الولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا، وجنوب أفريقيا. وهذه مجتمعات لم يعرف معظمها ظاهرة العداء لليهود، ربما باستثناء أمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا. وقد استقر اليهود في هذه البلاد وواجهوا المصاعب التي تواجهها أية جماعة مهاجرة. ومن الطريف أنه برغم وجود عداء لليهود في صفوفالحزب الحاكم في جنوب أفريقيا، فإن الحكومة لم تلجأ قط إلى تشجيع اليهود على الهجرة، كما يفعل المعادون لليهود عادةً، وذلك لأن مجتمع جنوب أفريقيا مجتمعاسـتيطاني في حاجة ماسة إلى العنـصر البشـري الأبيض. ومن ثم، تُعَدُّ الهجرة إلى إسرائيل أو إلى أي بلد آخر « خيانة وطنية ».

ويُثير ظهور الدياسبورا الإسرائيلية في الولايات المتحدة قضية مهمة تتصل بالعداء الموجه إليهم من قبل المنظمات الصهيونية التي ترفض مد يد المساعدة لهم في عملية الهجرة والاستقرار هناك. والشيء نفسه ينطبق على المتساقطين، وهم المهاجرون الروس الذين كانوا يهاجرون من الاتحاد السوفيتي بحجة الذهاب إلى إسرائيل، ثم يتجهون إلى الولايات المتحدة بدلاً من ذلك. فهل يُعتبَر العداء لمثل هؤلاء وعدم مساعدتهم على الهجرة والاستيطان أينما شاءوا، بل وإغلاق أبواب الهجرة إلى ألمانيا والولايات المتحدة أمامهم، ضرباً من معاداة اليهود؟!

أما في العالم العربي الإسلامي، فقد تناقص عدد اليهود بشكل ملحوظ، كما أن أغلبيتهم العظمى حصلت على جنسيات أجنبية في فترة الهيمنة الاستعمارية، حتى يتسنى لهم التمتع بالمزايا التي تمنحها القوانين المختلطة للأجانب. ومع ظهور الحركة الصهيونية، تشابك مصير من تبقَّى من أعضاء الجماعات اليهودية في العالم العربي مع الدولة الصهيونية، وانتهى الأمر بتصفية كل هذه الجماعات تقريباً باستثناء المغرب الذي بقيت فيه أقلية صغيرة.

وقد ظهرت في العالم العربي ترجمة للوثيقة المسماة بروتوكولات حكماء صهيون وكتب عن تهمة الدم، وهي أفكار تضرب بجذورها في التشكيل الحضاري الغربي، ومع هذا يتردد صداها الآن في صفوف بعض العناصر المحبة للإثارة والتي لا تتوانى عن استخدام أنصاف الحقائق لإحراز سبق صحفي أو ذيوع إعلامي. أما مراكز البحوث العربية، فلا تعير مثل هذه الوثائق، المشكوك في أمرها، أي اهتمام.

ولا يمكن فصل تاريخ معاداة اليهود عن تاريخ الصهيونية، فكلاهما ثمرة آليات وحركيات توجد داخل التشكيل الحضاري الغربي وتنبع منه. والواقع أن مفهوم الشعب العضوي المنبوذ هو القاسم المشترك الذي يصل بين الظاهرتين (معاداة اليهود والصهيونية)، وكل ما هنالك هو أن عداء اليهود الذي كان يهدف إلى تدمير اليهود أصبح أكثر عقلانية ورشداً. وبعد ظهور مفهوم نفع اليهود، أصبح الهدف هو توظيفهم، فظهرت الصيغة الصهيونية الأساسية ثم الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة، والتي تم تهويدها حتى يتمـكن اليهـود من اسـتبطانها. وليـس من قبيل الصـدفة أن ألمانيا، مهد الفكر العضوي العرْقي والنظرية النازية هي ذاتها مهد الفكر الصهيوني.

كلاســيكيات العـداء لليهــود منــذ القـرن الثــامن عشــر

Classics of Anti-Semitism since the Eighteenth Century

وُلدت الأفكار الحديثة لمعاداة اليهود، وكذلك صورها الإدراكية، داخل هذا الإطار. ومن أهم وأول الإسهامات الغربية في هذا المضمار استخدام التمييز بين الآريين والساميين ونقله من المجال اللغوي إلى المجال الحضاري ثم العرْقي. وهذا ما فعله الكونت جوبينو في كتابه مقال في التفـاوت بين الأعـراق الإنسـانية (1853 ـ 1855)، فبسَّط النظريات السائدة، وقسَّم البشر إلى أعراق: أبيض (آري) ، وأصفر، وأسود. وذهب إلى أن الجنس الآري الأبيض هو مؤسس الحضارة، وأن السمات المتفوقة لهذا العرْق لايمكن الحفاظ عليها إلا عن طريق النقاء العنصري. وأكد جوبينو أن التيوتونيين هم أرقى العناصر الآرية لأنهم وحدهم الذين احتفظوا بنقائهم.

وتوالت بعد ذلك الأعمال العرْقية الغربية المعادية لليهود، ومن أهمها كتاب ولهلم مار (1818ـ1904) انتصار اليهودية على الألمانية: من منظور غير ديني (1862). وكان مار مواطناً ألمانياً (يُقال إنه كان يهودياً)، ثم انضم إلى جماعة فوضوية إلحادية في سويسرا بعد فشل ثورة 1848. وقد طُبعت من الكتاب اثنتا عشرة طبعة حتى عام 1879. وتحل في كتابه كلمتا «سامي» و«سامية»، محل «يهودي» و«يهودية». وهو الذي أشاع مصطلح «أنتي سيميتزم»، أي «معاداة السامية»، في اللغات الأوربية، وبيَّن في دراسته ما زعم أنه الهيمنة اليهودية على الاقتصاد والثقافة، كما أسس جماعة تضم أعداء اليهود عام 1879.

ومن أهم الشخصيات التي أضفت كثيراً من الاحترام على النظريات العرْقية المعادية لليهود الموسيقار الألماني ريتشارد فاجنر (1813 ـ 1883)، وكان صديقاً لجوبينو، وتأثر بكتابات مار. وقد طبع فاجنر كتابه أضوء على اليهود في الموسيقى (1850، ثم 1869)، مصوراً إياهم باعتبارهم تجسيداً لقوة المال والتجارة، ومنكراً علىهم أي إبداع في الموسيقى والثقافة. ثم نشر سلسلة مقالات بعنوان: « الفن الألماني والسياسة » طرح فيها فكرته الخاصة برسالة الشعب الألماني (الخالص) المعادية للمادية الفرنسية واليهودية. وقد اتهم فاجنر اليهود بالهيمنة على الحياة الثقافية في ألمانيا وطالب بحرمانهم من حقوقهم السياسية، كما تحدث عن دمار أو إبادة أو اختفاء (بالألمانيــة: أونترجانج Untergang) اليهود، أي تخليص الحياة الثقافية من اليهود بالقوة، أو دمجهم تماماً عن طريق الفن والموسيقى. وقد تركت أفكار فاجنر أثراً عميقاً في هتلر، ومن ثم كانت ذات مكانة خاصة في التجربة النازية (ولهذا، كانت موسيقى فاجنر ممنوعة حتى عهد قريب في إسرائيل).

وكان لإسهام المفكر السياسي والمستشرق الألماني بول أنطون دي لاجارد (1827ـ 1891) أبعد الأثر في تضخيم الهالة الثقافية والعلمية حول معاداة اليهود. كان لاجارد يحن إلى حضارة العصور الوسطى التيوتونية الخالصة (العضوية)، كما كان يؤمن بالشعب العضوي (الفولك) الألماني وتفوُّقه على الشعوب الأخرى، ويرفض مبدأ المساواة. بل وكان يرى أن الليبرالية مؤامرة عالمية خطيرة. ولم يشأ التعبير عنها بأي من اللونين الأحمر أو الأسود، فهما لونان لهما شخصيتهما، بل وقع اختياره على الرمادي، وانتهى به المطاف إلى اكتشاف وجود الأممية الرمادية التي استنكرها لأنها تشكل حجر عثرة في سبيل تحقيق خلاص الأمة الجرمانية وأداء رسالتها « نحو العلم»، على حد قوله، كما تقطع الطريق على الأماني والأطماع الجرمانية الرامية إلى إخضاع أوربا الوسطى للسيطرة الألمانية، والتخلص من إمبراطورية هابسبورج، وإجلاء السلاف عن البلاد بالقوة لأنهم ليسوا من سكانها الأصليين. وبطبيعة الحال، ربط لاجارد بين الليبرالية الأممية الرمادية واليهود، الذين وصفهم بأنهم يشكلون عبئاًكريهاً ولا مغزى تاريخي لهم، يهدِّدون رسالة ألمانيا ووحدتها القومية. ولم تكن أفكار لاجارد عنصرية سوقية وإنما كانت عنصرية أكاديمية تستخدم ديباجات علمية، فقدكان يؤكد أنه لا يكن أي عداء لليهود كأفراد وإنما يعادي أمة سامية وثنية غريبة يُعرْقل وجودها (الموضوعي) اتحاد أوربا الوسطى تحت قيادة ألمانيا، ولذا فلابد من طرد أعضائها أو ترحيلهم بالقوة.

ومن الشخصيات التي ساهمت في إشاعة هذه الأفكار المعادية لليهود على أساس عرْقي، المؤرخ والسياسي الألماني هنريش فون ترايتشكه (1834 ـ 1896) الذي كان يُعَدُّ من أهم المفكرين الألمان في عصره، وهو ما أكسب هذه الأفكار قدراً كبيراً من المصداقية والاحترام. وصف ترايتشكه الهجوم على اليهود بأنه هجوم وحشي، ولكنه رد فعل طبيعي للمشاعر القومية الألمانية ضد عنصر غريب (الشعب العضوي في مواجهة الشعب العضوي المنبوذ)، ثم طرح الشعار المشهور « اليهود مصيبتنا ». وحذر الألمان من التدفق اليهودي من الخزان البولندي (إشـارة إلى الانفجار السـكاني بين يهود بولندا)، وهو تدفُّق لا ينضب، « جمع من الشباب الطموحين بائعي الملابس القديمة الذين سيسيطر أطفالهم وأطفال أطفالهم يوماً ما على سوق الأوراق المالية والصحف في ألمانيا ». وقد تبدَّى هذا الرفض لليهود في شكل تعاطُف مع المشروع الصهيوني.

ومن الشخصيات الأخرى التي أشاعت الفكر العرْقي المعادي لليهود هيوستون ستيوارت تشامبرلين (1855 ـ 1927)، وهو بريطاني المولد فرنسي النشأة ألماني بالاختيار، فقد كان معجباً بالثقافة الألمانية إعجاباً عميقاً. وقد تصادق مع فاجنر وتزوج ابنته، وتأثر بأفكار جوبينو ولاجارد، وألَّف أهم كتب العنصرية الغربية أسس القرن التاسع عشر (1899). وقد آمن تشامبرلين بتفوُّق الإنسان النوردي الأشقر، وبأن قدر التيوتونيين هو قيادة الإنسانية جمعاء، فكل ما هو عظيم في العالم من إبداعهم. وأكد تشامبرلين أن اختلاط الأجناس هو سبب التخلف. واليهود، بحسب رأي تشامبرلين، يشكلون عرْقاً هجيناً متحركاً هامشياً طفيلياً لاجذور له. وهم غير قادرين على الإبداع، ولا يوجد لديهم إحساس ديني، بل إن وجودهم ذاته جريمة ضد الإنسانية. وذهب تشـامبرلين إلى أن الشـخصيات المهمة في بدايـات التـاريخ اليهودي، مثل داود والأنبياء والمسيح، من أصل ألماني! وتنبأ بالمواجهة الحتمية بين الساميين والآريين.

ومن الملاحَظ أن معظم كتب معاداة اليهود (وأكثرها حدة) ألمانية. ولعل هذا يعود إلى مجاورة ألمانيا للجيب البولندي، وإلى وجود عنصر يهودي قوي في عالم الاقتصاد الألماني، وإلى دخول ألمانيا إلى الساحة الإمبريالية متأخرة من الناحية الزمنية، الأمر الذي أثر في مساحة الرقعة الجغرافية التي استعمرتها. ومن هنا، اضطرت ألمانيا إلى أن تنفث سمها العنصري في أوربا (ضد اليهود والسلاف) لا خارجها (ضد الأفارقة والآسيويين والمسلمين). ومع هذا، فليس بإمكاننا إنكار أن معاداة اليهود ظاهرة غربية تشمل شتى دول العالم الغربي، شأنها في هذا شأن الصهيونية. ولهذا، لم تقتصر كُتب معاداة اليهود على ألمانيا. وقد أشرنا من قبل إلى جوبينو الفرنسي، ويمكن أن نشير الآن إلى إدوار أدولف درومون ( 1844 ـ 1917)، وهو أيضاً فرنسي، وقد ضمن أفكاره كتاب فرنسا اليهودية (1886) الذي طُبع أكثر من مائة طبعة، وكان من أكثر الكتب الأوربية رواجاً ومبيعاً في القرن التاسع عشر. وقد ألف درومون كتباً أخرى تتضمن الأفكار نفسها والرؤية نفسها.

وكان درومون يرى أن يهود فرنسا عنصر أجنبي غريب يستغل النظام الاقتصادي الفرنسي لتحقيـق منافعه الخاصة وبسط سيطرته على العالم، وأنهم عنصر تجاري بطبيعته، يسيطر على المشاريع التجارية والصناعية الكبرى التي تعوق نمو الطبقة الوسطى المسيحية الناشئة، فهم يركزون الثروة في أيديهم (مثل روتشيلد) ويشكلون خطراً على مستقبل الطبقة العاملة في البلاد. وهم يتسمون بخصائص وميزات عرْقية منحطة وغير نقية، ويعملون على إفساد الروح الفرنسية، وتقع عليهم تبعة الانهيار والانحطاط السائدين في فرنسا بطولها وعرضها. واليهود يؤلفون « دولة داخل دولة » و« أمة داخل أمة »، ولذلك فإن اندماجهم ليس ممكناً، كما أن اختلاطهم بالشعب الفرنسي عن طريق التزاوج أمر غير مرغوب فيه. وهم بلا وطن حقيقي، ولا يخضعون لأية روابط فعلية، بل سيبقون إلى الأبد كما كانوا دوماً عنصراً غريباً في جسم الأمة يختلف بصورة جوهرية عن الفرنسيين، ويجب معاملتهم على الأسس التي يقترحها هو والنظر إليهم من تلك الزاوية. فهم لا يستحقون التحرر مطلقاً، بل يجب وقفتحرُّرهم ومصادرة ممتلكاتهم وأموالهم على أن يُسـتخدَم ذلك لإيجاد وسـائل إنتاجية للطبقة العاملة التي لا تزال مُستَغَلة. وقد ساهم كتاب درومون في صياغة رؤية كثير من المفكرين اليهود وغير اليهود للمسألة اليهودية ومنهم هرتزل.

ومن المفكرين الإنجليز الذين بادروا إلى معاداة اليهود، المؤرخ والمصلح التربوي البريطاني جولدوين سميث (1823 ـ 1910)، فقد نشر عام 1878، مع بدايات هجرة يهود اليديشية من روسيا إلى إنجلترا، عملاً حاول فيه أن يبرهن على استحالة أن يصبح اليهود مواطنين في دول أوربا المضيفة، كما حاول أن يبرهن على أن وجودهم يشكل خطراً سياسياً على بلده. أما اليهودية، فهي في رأيه دين عنصري يتمسك به اليهود بضراوة ويحل فيه العنصر أو العرْق محل البلد الذي فقدوه. الأمر الذي جعلهم يرفضون الاختلاط بالناس ويجلب عليهم بُغض الشعوب. ولهذا السبب، نادى سميث بحل صهيوني للمسألة اليهودية.

وقد ظهرت أعمال أدبية أخرى، مثل بروتوكولات حكماء صهيون، تردد الأفكار نفسها التي وردت في الكتب السابقة. والواقع أن بروتوكولات حكماء صهيون تصوِّر الأفكار السابقة بطريقة شعبية تصل إلى وجدان البسطاء بسرعة وتجسد المخاطر، التي تحدَّث عنها تشامبرلين أو ترايتشكه، في شكل مؤامرة عالمية متعيِّنة، واجتماعاتعقدها الحاخامات للسيطرة على العالم، أي أن البروتوكولات تشيع الأفكار نفسها بأسلوب يشبه أسلوب صحافة الإثارة والجريمة والجنس.

التحامـــل علــى اليهـــود

Prejudice Against the Jews

«التحامل على اليهود» ـ حسب رأي الحاخام أبا هليل سيلفر ـ يختلف عن «التعصب ضد اليهود». فالتعصب هو الرفض الجذري والنشط الذي يمارسه بعض أعضاء الأغلبية ضد أقلية إثنية أو دينية ما. وفي حالة أعضاء الجماعة اليهودية، فإن التعصب يترجم نفسه إلى «معاداة اليهود» وما يصاحبها من أنماط إدراكية ثابتة قد تتحوَّل إلى هجوم شرس عليهم. أما التحامل، فهو أقرب ما يكون إلى مزاج سلبي ضد أعضاء أقلية ما وعدم تقبُّل لهم، وهو لا يترجم نفسه إلى إرهاب وعنف بل يأخذ شكل نكتة ساخرة أو تمييز خفيف يتعلق بالتفاصيل وليس بالجوهر والحقوق. والتحامل ظاهرة موجودة في كل المجتمعات البشرية وليس من المحتمل أن تزول إلا في نهاية التاريخ، فعلاقة الأغلبية بالأقلية سيشوبها دائماً نوع من التوتر.

والتحامل على أعضاء الجماعات اليهودية أمر موجود بطبيعة الحال في معظم المجتمعات التي يوجدون فيها، ولكن ما يحدث أن كثيراً من الصهاينة يخلطون بين التحامل على اليهود والتعصب ضدهم وتصبح كل الأمور بالنسبة لهم « عداءً للسامية ». والهدف من هذا هو تأكيد عزلة اليهود وتأكيد أن مجتمعات الأغيار تنبذهم بطبيعتها، ومن ثم لا يوجد حل سوى الحل الصهيوني. وقد بين العالم الإسرائيلي موردخاي ألتشولار أن ما يواجه يهود روسيا وأوكرانيا في الوقت الحالي ليس هو العداء الشرس لليهود وإنما هو شكل من أشكال التحامل عليهم وحسب (ولكنه لم يستخدم المصطلح). وقد شبه ألتشولار يهود روسيا بيهود الولايات المتحدة، فاليهود المتعلمون الباحثون عن النجاح المادي والمهني منهم مستعدون للتعايش مع قدر غير محسوس من معاداة اليهود أو التحامل عليهم، أي إذا لم يكن هذا العداء ملموساً في حياتهم اليومية ولا يعوق تقدُّمهم واندماجهم.

معاداة السامية الجديدة

New Anti-Semitism

«معاداة السامية الجديدة» (أي «معاداة اليهود الجديدة») مصطلح ظهر مؤخراً في المعجم الصهيوني يشير إلى عدة مدلولات من أهمها ما يلي:

1 - ما يزعم الصهاينة أنه أشكال جديدة من معاداة السامية، هي في حقيقة الأمر إعادة إنتاج للأشكال القديمة. ويضربون مثلاً لهذا بالعداء للدولة الصهيونية. فحينما ترتكب الدولة الصهيونية مذبحة مثل قانا فتدمغها معظم دول العالم، وحينما تُبنَى مستوطنة جديدة في القدس أو على حدودها وتصدر هيئة الأمم المتحدة قراراً بإدانتها، فإن هذا يكون تعبـيراً عن النمط القـديم: عـداء الأغيار الأزلـي لليهود.

2 - يُستخدَم المصطلح أيضاً للإشارة إلى ما يسميه الصهاينة «معاداة السامية الإسلامية»، أي عداء المسلمين لليهود. وهم يرون أن هذا النوع من العنصرية آخذ في التزايد حيث ينظر المسلمون إلى اليهود باعتبارهم "أعداء الله"، وأن إسرائيل تعبير عن المؤامرة اليهودية الأزلية.

الباب الثانى: بعض التجليات المتعينة لمعاداة اليهود

بعــض التجليـــات المتعيِّــنة لمعـــاداة اليهــــود

Some Concrete Manifestations of Anti-Semitism

يمكن تفسير ظاهرة معاداة اليهود من خلال نموذج تفسيري وتصـنيفي واحد مركب تتفرع عنه عدة نماذج فرعية تتـبدَّى، هي بدورها، في أحداث ووقائع ومؤلفات بعينها، مثل: اضطرابات فيتميلخ، وحادثة دريفوس، وتهمة الدم، وبروتوكولات حكماء صهيون. وفي كل مدخل، سنحاول أن نعرض لموقف كلٍّ من الرؤية العرْقية المعادية لليهود والرؤية الصهيونية من الظاهرة أو القضية موضوع الدراسة ثم نحاول أن نقدم تفسيراً أكثر تركيباً وأقل اختزالية.

طـــرد اليــــهود

Expulsion of Jews

يُشير مصطلح «طرد اليهود» في الكتابات الصهيونية إلى مجموعة من الوقائع التاريخية التي حدثت في مجتمعات وتشكيلات حضارية مختلفة تحت ظروف مختلفة لا يربطها أي رابط. والواقع أن الحديث عن «طرد اليهود»، كما لو كان ظاهرة تاريخية واحدة، هو تعبير عن الإيمان بوجود تاريخ يهودي واحد يُعبِّر عن هوية يهوديةواحدة (منبوذة من الأغيار)، وأن اليهود شعب عضوي منبوذ.

وفيما يلي بعض تواريخ الطرد المهمة:

724 ق.م التهجير (النفي) الآشوري.

586 ق.م التهجير (النفي) البابلي.

139 ق.م القاضي (برائيتور) ، هسبالوس يطرد اليهود من روما.

19 ق.م تايبريوس ينفي الأجانب (ومن بينهم اليهود).

50 م كلوديوس يأمر بطرد اليهود من روما.

70 م هدم الهيكل على يد تيتوس وطرد اليهود من فلسطين (وتعد هذه هي أهم حادثة طرد من المنظور اليهودي والمسيحي).

94م دوميتان يطرد المسيحيين واليهود .

135 م طرد اليهود من القدس وتحريم دخولها عليهم.

415 م الطرد من الإسكندرية

624 - 628 م الطرد من الجزيرة العربية أيام الرسول .

1467 م الطرد من تلمسان

ولكن أهم وقائع الطرد توجد داخل التشكيل الحضاري الغربي في العصور الوسطى وبعدها:

1290 م إنجلترا

1492 م إسبانيا

1306 - 1394 م فرنسا

1495 م ليتوانيا

1367 م المجر

1497 م البرتغال

وقد شهد القرنان الرابع عشر والخامس عشر حوادث طرد من مدن إيطاليا وألمانيا:

1426 م كولونيا

1453 م برسلاو

1439 م أونسبرج

1648 م ثورة شميلنكي في أوكرانيا

واستمر الطرد حتى العصر الحديث:

1744 - 1752 م بــراغ

وبعد ذلك التاريخ، تأسَّست منطقة الاسـتيطان، وهو ما كان يعني:

1772 م الطرد من بقية روسيا

1891 م الطرد من موسكو

وقام الروس بعد الثورة البلشفية، والنازيون بعد استيلائهم على الحكم، بنقل أعداد من اليهود من أماكن إقامتهم إلى أماكن أخرى. كما هاجر يهود البلاد العربية إلى إسرائيل وأوربا بعد عام 1948. وتُصنِّف الموسوعة اليهودية هذه الأحداث التاريخية كافة باعتبارها « حوادث طرد ». وتذكر أنه يمكن تصنيفها على أسس مختلفة إلا أن الدافع الجذري وراءها جميعاً هو كُره اليهود «ومعاداتهم »!

وغني عن القول أن هذه الوقائع لا يربطها رابط، فالتهجير الآشوري والبابلي شملا أقواماً عديدة أخرى لضمان أمن منطقة عبر النهر، أي منطقة الشام. وفي كثير من الأحيان، لم يكن الحكام الآشوريون أو البابليون يعرفون شيئاً عن العبرانيين، فكانت تَصدُر الأوامر بهدم منطقة أو تهدئتها، الأمر الذي كان يعني إخلاءها من معظم سكانهاوأقوامها، وبخاصة من أعضاء النخبة. وقد شهد عام 139 ق.م أول عملية طرد لأعضاء إحدى الجماعات اليهودية، بالمعنى الحرفي للكلمة، حيث إنها لم تكن تهجيراً كالتهجير البابلي مثلاً، وليست فراراً كما حدث مع ثورة شميلنكي. ويبدو أن سبب عملية الطرد من روما هذه هو الخوف من تحوُّل المواطنين الرومان إلى العقيدة اليهودية. ويبدو، بالفعل، أن كثيراً من الرومان المتعلمين كانوا يعجبون باليهودية نظراً لطبيعتها التوحيدية بالقياس إلى التعددية والشرك اللذين يسمان العبادة الوثنية في روما. أماطرد اليهود عام 19 ميلادية، فقد تم بتحريض من سيجانوس رئيس الحرس الإمبراطوري، غير أن الإمبراطور تايبريوس الذي أصدر أمر الطرد عاد وألغاه بعد اثنى عشر عاماً، وأمر بألا يُساء إلى اليهود أو إلى شعائرهم الدينية، وأعلن أن سيجانوس كان قد ضلله لتحقيق مآربه الخاصة. ورغم أن روما اتسمت بالتسامح، فإن التهود بأعداد كبيرة كان يهدد سلطة الدولة، ذلك أن شرعية الدولة تستند إلى العبادة الوثنية، كما أن كثيراً من الوظائف الإدارية كان مرتبطاً بهذه العبادة، وبالتالي فإن التهود كان يعني ضعف الولاء وأزمة الشرعية، كما كان يهدد ثبات موارد الهياكل المقدَّسة من هبات وقرابين. ويبدو أن رجال المال الرومان كانوا أيضاً وراء طرد اليهود، حيث كانوا يمارسون الربا بالتحايل على القانون ويودون التخلص من المرابين اليهود الذين يشكلون منافساً قوياً لهم.

أما طرد اليهود من القدس، فلم يكن جزءاً من سياسة روما الداخلية وإنما جاء في إطار سياستها الإمبراطورية وكمحاولة لتهدئة المنطقة. وكان طرد اليهود من المدينة المنورة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يعود إلى أسباب خاصة بحركيات الدين الجديد ومحاولة الدولة الإسلامية الجديدة تأمين مركزها وقلبها بضمان عدم وجودأقليات لا تدين لها بالولاء. وحينما قام شميلنكي بالهجوم على الجماعات اليهودية، فإنه كان يفعل ذلك في إطار حركة تحرُّر وطني وثورة فلاحية ضد المستغلين البولنديينالذين تَصادَف وجود اليهود كوكلاء لهم. وحينما كتب شميلنكي إلى كرومويل، في محاولة لتوحيد القوى الأرثوذكسية والبروتستانتية ضد الكاثوليكية، فإنه لم يذكر اليهود منقريب أو بعيد.

وإن أردنا أن نجد نمطاً متكرراً في ظاهرة طرد اليهود، فإننا لن نجده على صعيد العالم وإنما داخل التشكيل الحضاري الغربي، وبخاصة في العصر الوسيط.وسنجد أن السبب وراء طرد اليهود لم يكن كُرههم وإنما كونهم جماعة وظيفية وسيطة تشكل عنصراً استيطانياً غريباً، يُوطَّن (أي يُستورَد) ويُصدَّر ولا يضرب بجذوره في أي مكان،تماماً مثل الجنود المرتزقة.والجماعة الوظيفية الوسيطة تلعب دورها،ثم يستغنى عنها المجتمع فينبذها،فتنتقل إلى مجتمع آخر،وهكذا. وعادةً ما تستغني المجتمعات عن الجماعة الوظيفية الوسيطة حينما تظهر هياكل مركزية للإدارة (وهذا ما حدث في حالة إنجلترا عام 1290 وفي فرنسا في أواخر القرن الرابع عشر وفي إسبانيا في أواخر القرن الخامس عشر) أو حينما تظهر طبقات محلية بديلة (وهذا ما حدث في معظم أوربا بالتدريج ابتداءً من القرن الثاني عشر).

والجدير بالملاحظة أن المدن في العصور الوسطى كانت صغيرة للغاية وأن عدد أعضاء الجماعات اليهودية في كل مدينة كان صغيراً ولا يُُعتد به من الناحية الإحصائية. إذ كان عدد يهود إنجلترا لا يزيد، حسب إحدى الروايات، على أربعة آلاف. وكانت أية جماعة يهودية لا تزيد على ألفين، وكانت الجماعة اليهودية تُعدُّ كبيرة إن زاد عدد أعضائها على بضع مئات. ومن هنا، فإن الحديث عن الطرد هو حديث عن طرد بضع مئات من التجار الغرباء. وكان الاستثناء الوحيد من القاعدة هو طرد اليهود من شبه الجزيرة الأيبيرية، حيث بلغ عددهم مائة وخمسين أو مائة وعشرين ألفاً، وقد طُردوا مع مئات الألوف (ويُقال أكثر من مليونين) من المسـلمين الذين رفضـوا التنصر وفاقت أعدادهم أعداد اليهود. ويُلاحَظ أن اليهود كانوا، في كثير من الأحيان، يُطردون أو يفرون لبضعة أشهر ثم يعودون إلى مواقعهم مرة أخرى. ولابد من الإشارة إلى أن اليهود لم يكونوا الجماعة الوحيدة التي يتم طردها، فقد كان يتم طرد مختلف أعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة الأخرى، مثل اللومبارد والكوهارسين. وأحياناً، كان يتم طرد إحدى الجماعات لتحل محلها جماعة أخرى تقدم شروطاً ائتمانية أفضل، فهذه الجماعات لم يكن يُنظَر إلى أعضائها باعتبارهم بشراً وإنما كان يُنظَر إليهم كأدوات إنتاج يمكن أن تحل الواحدة محل الأخرى.

وقد عمَّقت عمليات الطرد عدم تجذر اليهود في الحضارة الغربية وزادت هامشيتهم، وهي التي حددت إدراك العالم الغربي لهم. وتبدَّى هذا الإدراك في صورة «اليهودي التائه». ومن هنا، فإن الحل الصهيوني للمسألة اليهودية (الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة) يَصدُر عن قبول فكرة طرد اليهود من أوربا وحتميتها. ويُعَدُّ وعد بلفور النقطة التي اتفقت فيها أوربا مع قيادات الجماعة اليهودية على أن يتم نقل اليهود من العالم الغربي إلى فلسطين (أي طردهم بطريقة سلمية مؤسسية) باعتبارهم عنصراً نافعاً يمكنه الاضطلاع بوظيفة قتالية دفاعاً عن المصالح الإمبريالية الغربية داخل إطار الدولة الوظيفية. كما أن الإبادة على يد النازيين، هي الأخرى، شكل من أشكال الطرد (من العالم الغربي إلى العالم الآخر) أخذ شكل التصفية الجسدية، وذلك بسبب عدم وجود مستعمرات ألمانية يُطرَدون إليها، وبسبب رفض بولندا السماح بدخول قطارات اليهود المطرودين إليها.

ويتضح قبول الطرد، كنقطة انطلاق في صهيونية يهود الغرب التوطينية، من واقع أن اللجان (الأليانس وغيرها) كانت تُشكَّل لنقل اليهود إلى أي مكان في العالم ماعدا المكان الذي استوطنوا فيه بالفعل (في بلاد غرب أوربا). وقد أيد يهود الغرب الصهيونية الاستيطانية من منظور توطيني. كما أن المنظمات الصهيونية مازالت تشجع اليهود على الهجرة من روسيا وأوكرانيا بدلاً من الدفاع عن حقوقهم السياسية والمدنية وحقهم في التمتع بحياة كريمة في أوطانهم. ومن ثم، يمكن أيضاً تصنيف ذلك على أنه تقبُّل لحتمية خروج أو طرد اليهود من تلك البلدان، ويمكننا تصنيف الصهيونية على أنها حركة طاردة لليهود من أوطانهم المختلفة بهدف تجميعهم في بلد واحد، ويُطلَق على هذه العملية مصطلح «تجميع المنفيين».

ومما يجدر ذكره أن أعضاء الجماعات اليهودية أنفسهم اشتركوا، أحياناً، في عملية طرد اليهود. وكان ضمن حقوق الجيتوات، في العصور الوسطى، ما يُسمَّى «تحريم الاستيطان» (بالعبرية: حيريم هايشوف)، أي تحريم استيطان أي يهودي غريب على الجيتو فيه. ومن ثم، كانت هذه الجيتوات تطرد اليهود الغرباء منها. كما كانت هناك حالات في القرن الثامن عشر طالب فيها اليهود بطرد جماعات يهودية أخرى. فقد قدم يعقوب رودريجيز في عام 1760 التماساً إلى لويس الخامس عشر لطرد اليهود الألمان (الإشكناز)، وأيده في ذلك الطلب المفكِّر والمموِّل اليهودي السفاردي إسحق دي بنتو. ووافقت الحكومة الفرنسية على الطلب ونُفِّذ الاقتراح في العام التالي.

ومن الظواهر التي تُفسَّر على أنها طرد لليهود، نتيجة العداء الكامن تجاههم، خروج اليهود من بلاد تأخذ بالنمط الاشتراكي في التنمية. ولعل أكثر الأمثلة بروزاً في هذا المجال هو كوبا. فبعد استيلاء كاسترو على الحكم، خرجت أعداد هائلة من اليهود حتى أوشكت الجماعة اليهودية على الاختفاء الكامل. وقد حدث الشيء نفسه في البلاد العربية التي نحت منحى اشتراكياً.

وإذا وضعنا هذه الظاهرة في سياقها التاريخي، يمكننا أن نفسر خروج اليهود بالأسباب التالية:

1 ـ يُلاحَظ أن النمط التنموي الاشتراكي يلجأ إلى تأميم قطاعات من الاقتصاد مثل المصارف ومنافذ التسويق حتى يمكنه التحكم في آليات السوق. ومثل هذه القطاعات هي التي يتركز فيها عادة أعضاء الجماعات الوظيفية الوسيطة، ومن بينهم أعضاء الجماعة اليهودية بطبيعة الحال. كما أن الوضع نفسه ينشأ حينما تظهر الطبقات المحلية الوطنية وتشارك في العملية الاقتصادية وتُسيِّرها كما ترغب.

الصفحة التالية ß إضغط هنا