المجلد السابع: إسرائيل.. المستوطن الصهيوني 8

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

الدعاية الصهيونية/الإسرائيلية

Zioinst-Israeli Propaganda

يُقصَد بالدعاية نشاط يهدف إلى التأثير في الآخرين لدفعهم لاتخاذ مواقف ما كانوا ليتخذوها لولا هذا التأثير. ويتصل بالدعاية مجموعة من المفاهيم الأخرى مثل الاتصال والإعلام والحرب النفسية. والدعاية الصهيونية/الإسرائيلية تشكل أحد المرتكزات الثلاثة التي تقوم عليها إستراتيجية المُستوطَن الصهيوني (الصراع المسلح ـ التخطيط الدعائي المنظم ـ الدبلوماسية النشيطة). والعلاقة بين هذه المرتكزات متداخلة، فأي منها يُعدُّ للآخر ويتابعه، فالدعاية تمهد للصراع المسلح وتلاحقه، ثم تأتي الدبلوماسية لتؤكد ما حققه كل منهما. ولا يمكننا الحديث عن دعاية إسرائيل (الدولة) بشكل منفصل عن الدعاية الصهيونية، فالعلاقة بينهما أكثر من تاريخية، فرغم وجود منظمات مستقلة خاصة بكل منهما فإن الدعاية الإسرائيلية هي بالأساس صهيونية، كما أن نشاط الدعاية الصهيونية هو بالأساس لحساب إسرائيل، ويتضح هذا التداخل القريب منالاندماج ليس فقط على مستوى المنطق الدعائي بل في تداخُل وتعاون أنشطتهما التي تأخذ أحياناً شكل مؤسسات ومنظمات مشتركة، ولذا سنتحدث عن دعاية صهيونية/إسرائيلية.

تنطلق الدعاية الصهيونية من الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة (شعب عضوي منبوذ ـ يُنقَل من الغرب إلى الشرق ـ ليتحول من عنصر طفيلي إلى عنصر نافع يقوم على خدمة المصالح الغربية في إطار الدولة الوظيفية ويقوم بتجنيد يهود العالم وراء الدولة الغربية الراعية). وهذا يعني ضرورة التوجه إلى عدة قوى وضرورة تطوير مستويات مختلفة من الخطاب الدعائي.

1 ـ يجب أن يتوجه الإعلام الصهيوني بالدرجة الأولى إلى الدولة الإمبريالية الراعية في غرب أوربا وأمريكا الشمالية التي ستقوم بدَعْم المشروع الصهيوني وتوفير موطئ قدم له مقابل أن تقوم الدولة الصهيونية على خدمة الدولة الراعية والدفاع عن مصالحها.

2 ـ يجب أن يتوجه الإعلام الصهيوني إلى المادة البشرية المُستهدَفة (أي اليهود ) لتجنيدهم لخدمة المشروع الصهيوني الوظيفي.

3 ـ يجب أن يتوجه الإعلام الصهيوني للمستوطنين الصهاينة حتى يمكنهم الاستمرار في حالة الحرب المستمرة التي فرضها عليهم المشروع الصهيوني.

4 ـ يجب أن يتوجه الإعلام الصهيوني إلى المادة البشرية الأخرى المُستهدَفة والتي لا يرد أي ذكر لها، أي عرب فلسطين والعرب ككل، وذلك حتى يمكن هزيمتـهم نفسـياً وإخفـاء عمليات القمـع ضـدهم أو تبريرها.

5 ـ يجب أن يتوجه الإعلام الصهيوني إلى شعوب آسيا وأفريقيا والعالم بأسره لتبرير المشروع الصهيوني.

ومن الواضح أن الوظيفة الدعائية عنصر مشترك في أداء زعماء الحركة الصهيونية. فهرتزل كتب كتابه الأرض القديمة الجديدة بهذا الهدف. وكان جابوتنسكي ينتقل من جنوب أفريقيا إلى أمريكا الشمالية للسبب نفسه. وكان وايزمان أحد زعماء الحركة الصهيونية وأول رئيس لإسرائيل يقول: "يجب أن نبني أعمالنا على أوسع مجال من عطف الرأي العام". وقد لعب زعماء الدولة الصهيونية وقيادتها دوراً مماثلاً.

وتظهر وظيفية الدعاية الصهيونية في تَلوُّنها السريع، ففي مرحلة ما قبل بلفور، على سبيل المثال، كانت الدعاية الصهيونية تركز على حاجة اليهود لوطن قومي في أي مكان في العالم. ومع تحدُّد الإستراتيجية الإمبريالية البريطانية، ومع قرار تقسيم الدولة العثمانية، أصبحت فلسـطين، وفلسـطين وحدهـا، البلـد الذي يمكن أن يعيـش فيه اليهود.

ويختلف الخط الإعلامي الصهيوني في ألمانيا النازية عنه في أوساط المثقفين الاشتراكيين أو في أوساط الرأسماليين الأمريكيين. ولعل هذه الصفة الحربائية (التي تدل على الكفاءة) تظهر أكثر ما تظهر في الدعاية الصهيونية الموجهة للعرب. فقبل عام 1948، كان الحديث عن ضرورة اقتسام فلسطين مع العرب. ولكن هذا الحديث يختفي تماماًبعد ذلك التاريخ، بل إن الدعوة إلى التقسيم أصبحت تطرفاً وإرهاباً وتهديداً للبقاء اليهودي. ومع هذا، يُلاحَظ أن الدعاية الصهيونية/الإسرائيلية اتخذت، حتى عام 1956،موقف الدفاع عن الذات اليهودية وعن الدولة اليهودية، ويتمثل هذا في عدم تشويه الطابع القومي العربي، بل لا تتردد هذه الدعاية في تذكير العرب بالأصل المشترك معاليهود. أما بعد حرب 1956، فقد انتقلت الدعاية إلى موقع الهجوم بتشويه الطابع القومي للعرب وتضخيم فضل العنصر اليهودي على العالم. وفي مرحلة 1967، انتقلت هذه الدعاية إلى أسلوب الاستفزاز بتأليه الطابع اليهودي والحديث عن السلام العبري وضرورة فرضه على المنطقة، والإلحاح على إسرائيل كدولة وظيفية قـادرة قوية وكـذراع للمصالح الغربية بالمنطقة ضد القومية العربيـة.

وفي المرحلة الممتدة من كامب ديفيد إلى أوسلو التي واكبت سقوط الاتحاد السوفيتي وتقهقُر القومية العربية وظهور منظمتي حماس والجهاد الإسلامي، بدأت إسرائيل تتبنى منطقاً إعلامياً جديداً وهو الدفاع عن النظام العالمي الجديد وتأكيد الروابط الاقتصادية بين إسرائيل ودول الشرق الأوسط (الدول العربية سابقاً) والهجوم على الحركات الإسلامية وإعادة إنتاج صـورة الإسـرائيلي باعتبـاره خبـيراً اقتصادياً مرناً متفاهماً، وباعتباره فنياً لا يكترث كثيراً بالأبعاد الأيديولوجية، بعد أن كان مقاتلاً في جيش ذي ذراع طويلة تمتد لتصل إلى الجميع.

ومع هذا، ثمة موضوعات أساسية في الدعاية الصهيونية نوجزها فيما يلي:

1 ـ إشاعة الاعتذاريات الصهيونية المختلفة عن أن اليهود شعب عضوي غربي أبيض، أو شعب يهودي خالص، أو شعب اشتراكي يدافع عن حقوق الإنسان... إلخ. ولكن الموضوع الأساسي في كل هذه الاعتذاريات هو أن الجماعات اليهودية هي في واقع الأمر "أمة يهودية" واحدة لابد من جَمْع شمل أعضائها لتأسيس دولة يهـودية في فلسـطين، مع التـزام الصمـت الكامـل حيــال العـرب لتغييبـهم أو محاولـة تشـويه صـورتهم إن كـان ثمــة ضرورة لذكرهم.

2 ـ ركزت الدعاية الصهيونية في الغرب (وبخاصة في مرحلة ما قبل بلفور) على محاولة إعادة إنتاج صورة اليهودي حتى يمكن توظيفه في خدمة المشروع الصهيوني. فاليهودي إنسان لا جذور له، طفيلي يشعر بالاغتراب ما دام خارج أرض الميعاد. وهو مُضطهد بشكل دائم عبر التاريخ (ابتداءً من طَرْد اليهود بعد هَدْم الهيكل على يد تيتوس إلى إبادتهم بأعداد ضخمة على يد هتلر). هذا اليهودي يصبح الإنسان العبري، القوي، المحارب، الذي يمكنه أن يدافع عن نفسه وعن مصالح الحضارة الغربية.

3 ـ توجَّهت الدعاية الصهيونية إلى الجماعات اليهودية تُبيِّن لها أن وجودها في عالم الأغيار يتهددها (ويتهدد هويتها) بالخطر. وركَّزت الدعاية الصهيونية على دعوة ال يهود للخروج من الجيتو والهجرة إلى إسرائيل للحفاظ على خصوصيتهم وهويتهم اليهودية.

4 ـ ركزت الدعاية الصهيونية على قضية العداء الأزلي لليهود وعلى الإبادة النازية لليهود والستة ملايين يهودي، وهي تهدف من هذا إلى ابتزاز العالم الغربي وتبريرعملية اقتلاع الفلسطينيين من بلادهم، كما أنها تقوي التضامن اليهودي في الوقت نفسه.

5 ـ من الموضوعات الأساسية التي تطرحها الدعاية الصهيونية قضية البقاء، فالدولة الصهيونية ليست دولة معتدية وإنما هي تحاول الحفاظ على بقائها وأمنها وحسب. وتختلف طبيعة هذا البقاء من حقبة لأخرى وحسب موازين القوى.

6 ـ أما بالنسبة للمستوطنين الصهاينة، فقد ركزت الدعاية الصهيونية على حقوقهم التاريخية المطلقة وعلى قضية الوعي اليهودي. كما طورت الدعاية الصهيونية رؤية مزدوجة للمُستوطَن الصهيوني باعتبار أن بقاءه مهدد دائماً من قبَل العرب ولكنه قوي جداً لدرجة أنه لا يمكن أن يتهدده أحد، فهو قادر على البقاء وعلى سَحْق أعدائه وضربهم في عقر دارهم. وقد ركزت الدعاية الصهيونية على قضية التنشئة الاجتماعية حتى تضمن دَمْج المهاجرين والأجيال الجديدة في المجتمع الاستيطاني.

7 ـ وقد حاولت الدعاية الصهيونية/الإسرائيلية تحويل مشاعر العداء للسامية من الفرع اليهودي إلى الفرع العربي. واستبدلت بصورة اليهودي التي سيطرت عليها صفات مثل الخيانة والبخل والعدوانية والخداع صورة على النقيض، فأصبح اليهودي: مسالماً ـ متحضراً ـ أميناً ـ ذكياً ـ صديقاً، ونجحت في ترسيخ صفات سلبية عن العربي، فقد أصبح: متخلفاً ـ بربرياً ـ جشعاً ـ عدوانياً بطبعه، وفي نهاية الأمر غائباً لا وجود له.

8 ـ تدخل الدعاية الصهيونية/الإسرائيلية الموجهة للعرب في إطار الحرب النفسية التي تهدف إلى تحطيم معنويات العرب بل تحطيم الشخصية القومية العربية وغَرْس مفاهيم مثل "جيش الدفاع الإسرائيلي الذي لا يُقهَر" و"السلام العبري". وقد أشرف على الحرب النفسية الإدارة النفسية العسكرية (التابعة للوكالة اليهودية) قبل عام 1948. فخلقت حالة من الذعر الجماعي بين السكان العرب وروجت أخبار الأوبئة الوهمية والمذابح ووزعت المنشورات واستخدمت مكبرات الصوت المحمولة على عربات مطالبة السكان بالخروج قبل 16 مايو باعتباره الوسيلة الوحيدة لتجنُّب مذبحة كبرى. وحتى حوادث العنف التي ارتكبها الصهاينة ضد العرب خُطِّطت بطريقة رشيدة جداً تراعي الجانب الدعائي، وذلك بتعمُّد ترك شهود أحياء يتمكنون من الفرار حتى يشيعوا الذعر في المناطق المجاورة.

وتشرف وزارة الدفاع وجهاز المخابرات الإسرائيلية على الأنشطة الدعائية في المناطق العربية المحتلة بعد عام 1948. ومن المؤسسات الأخرى الإذاعة الإسرائيلية منالقدس التي تبث إرسالها إلى عرب فلسطين والبلاد العربية، والقسم العربي بالهستدروت. وتركز الدعاية الصهيونية الموجهة للعرب على إشاعة التقسيمات الطائفية وعلى تقويض المقاومة ضد الاحتلال.

وتعتمد الدعاية الصهيونية/الإسرائيلية على مبدأ التضليل بصفة عامة. ويتم هذا لا من خلال الكذب المباشر إنما من خلال الاختصار والاعتماد على لغة الإبهام والغموض، كما يلجأ الصهاينة أحياناً للغش المصقول. وقد بيَّن أبا إيبان أن الدبلوماسية الإسرائيلية عادةً ما تختار حلاًّ للصراع العربي الإسرائيلي تعلم مسبقاً أن العرب لا يمكن أنيقبلوه، ثم تبدأ آلة الإعلام في التهليل له. وحينما يرفض العرب مثل هذا الاقتراح، فإن الصهاينة يتوجهون للعالم يعتصرهم الألم لرفض العرب اقتراحهم السلمي. ولما كانتالأهداف المتعددة تقتضي أساليب متعددة وأصواتاً متعددة فإن الدعاية الإسرائيلية توظِّف الأدوات بحيث يمكنها إصدار عدة أصوات مختلفة، فهناك صوت يساري معتدل وآخر يميني متطرف وصوت وسط يقف بين الاثنين ويُسمَح لكل الأصوات بأن تظهر فيما يشبه الجوقة على أن يصل لكل متلق الصوت الذي يحبه (ولذا يُطلَق على هذه الآلية «دبلوماسية الجوقة»).

ومن الآليات الأساسية التي لجأت لها الدعاية الصهيونية اعتماد أجهزة الدعاية الإسرائيلية على محترفين في الحرب الإعلامية يعلمون أسرار المهنة قلباً وقالباً.

وتُعتبَر أهم وسائل الإعلام الإسرائيلي ما يلي:

1 ـ مراسلو وكالات الأنباء الغربية والصحف وشبكات التليفزيون في إسرائيل وجميعهم من الإسرائيليين.

2 ـ إقامة علاقات اتصال مع شخصيات وجمعيات أمنية مؤثرة، سواء عن طريق الزيارات المتبادلة أو المراسلة وتوظيف ذلك دعائياً بما يخدم أهداف إسرائيل.

3 ـ تقوم المنظمات الصهيونية في كل أنحاء العالم بنشاطات إعلامية من خلال تجنيد شخصيات ومؤسسات ومراكز إعلامية ومراكز أبحاث تُزوَّد بمطبوعات ونشرات تتحدث عن إسرائيل بالتعاون مع الملحقيات الصحفية.

4 ـ تنشط المنظمات الصهيونية لإقامة جمعيات صداقة بين إسرائيل والدول التي توجد فيها جاليات يهودية كجمعيات التضامن والصداقة (طبية ـ اقتصادية ـ حقوقية... إلخ) وتضم هذه اللجان شخصيات يهودية وأخرى غير يهودية مهمتها الدعاية لإسرائيل.

5 ـ شبكة واسعة من الدوريات الصهيونية في أنحاء العالم كافة.

وتُعتبَر إدارة الإعلام التابعة لوزارة الخارجية المشرف على تخطيط الدعاية الإسرائيلية في الخارج. وتقوم السفارات والقنصليات ومراكز الإعلام الإسرائيلية (التابعة للسفارات) وأبرزها في نيويورك وباريس وبيونس إيرس وزيورخ بتنفيذ وتوجيه العمل الدعائي.

وتلعب المنظمة الصهيونية العالمية ـ كما أسلفنا ـ دوراً مهماً في نشاط الدعاية الصهيونية/الإسرائيلية. وكان عام 1969 عاماً حاسماً في تاريخ الوظيفة الدعائية للمنظمة حين اتُخذ قرار بتنظيم الوكالة اليهودية والفصل بينها وبين المنظمة الصهيونية العالمية واختصاص الأخيرة بكل ما يتصل بالدعاية الدولية. وتضم المنظمة مجموعة من المكاتب والإدارات المركزية التابعة لها للإشراف على العمل الدعائي الصهيوني. ولا تَخفَى الصلة الوثيقة بين المنظمة الصهيونية ومئات المنظمات الصهيونية التي تمارس الدعاية والمنتشرة في أنحاء العالم والتي تتخذ شكل منظمات مستقلة مثل النداء اليهودي الموحَّد والصندوق الاجتماعي بفرنسا.

وبالإضافة إلى مئات المنظمات التي تبدو مستقلة، تمارس العديد من المنظمات الإسرائيلية الدعاية بالخارج، ومنها فروع الأحزاب والهستدروت التي تضم إدارتين واحدة للعلاقات الخارجية وأخرى للتعاون الدولي تلعبان دوراً دعائياً بارزاً بالخارج باتجاه الجمهور العمالي والمنظمات العمالية الأجنبية.

ويرجع نجاح الدعاية الصهيونية إلى عدة عناصر:

1 ـ تعدُّد المنظمات الدعائية وتنوُّعها وضخامة عددها واعتمادها التخطيط العلمي.

2 ـ تقوم الدعاية الصهيونية بتوظيف أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب فهم يشـكلون جزءاً عضوياً داخل الجسـد الغربي (رغم اسـتقلاله النسبي)، ومن ثم تبدو الدعايةالصهيونية كما لو أنها ليست وجهة نظر دولة أجنبية وإنما تعبير عن مصالح أقلية قومية.

3 ـ غياب الدعاية العربية وفجاجتها في كثير من الأحيان.

ولكن السبب الحقيقي والأول هو أن إسرائيل دولة وظيفية أسَّسها التشكيل الحضاري والإمبريالي الغربي لتقوم على خدمته، ولذا فهي تحظى بكثير من التعاطف لأن بقاءها كقاعدة للاستعمار الغربي جزء من الإستراتيجية العسكرية والسياسية والحضارية للعالم الغربي.

المؤســسة العـسكرية الإســرائيلية وعســكرة المجتمع الإســـرائيلي

Israeli Military Establishment and Militarization of Israeli Society

المجتمعات الاستيطانية (سـواء في أمريكا الشـمالية أو في جنوب أفريقيا) مجتمعات ذات طابع عسـكري بسـبب رفض السكان الأصليين لها. وإسرائيل لا تشكِّل أيَّ استثناء من هذه القاعدة، فهي مجرد تحقُّق جزئي لنمط متكرر عام. وقد ظهرت منظمات ومؤسسات وميليشيات عسكرية قبل عام 1948 دُمجت كلها في مؤسسة واحدة، هي المؤسسة العسكرية الإسرائيلية التي أصبحت العمود الفقري للتجمُّع الاستيطاني الصهيوني.

ويتميَّز المجتمع الإسرائيلي بصبغة عسكرية شاملة قوية، فجميع الإسرائيليين القادرين على حمل السلاح رجالاً ونساءً يؤدون الخدمة الإلزامية. وينطبق على هذا المجتمع وصف «المجتمع المسلح»، أو «الأمة المسلحة» كما يصف الإسرائيليون أنفسهم.

وتتشكَّل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية من العناصر العسكرية في المجتمع الإسرائيلي، وتضم هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، والضباط المحترفين فيه، وأجهزة المخابرات المختلفة، ومعاهد الدراسات الإستراتيجية، ومختلف التنظيمات التي يمتد إليها إشراف الجيش، وأفواج الضباط السابقين المنتشرين في المناصب الإستراتيجية في مختلف أنحاء الدولة، بالإضافة لرجال الشرطة، والسياسيين الذين ارتبطت حياتهم ومواقفهم بدور الجيش. ومع هذا فمن العسير جداً تحديد حدود المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، بسبب استيطانية الدولة الصهيونية ولا تاريخيتها، وبالتالي حتمية لجوئها للعنف لتنفيذ أي مخطط، لهذا نجد أن إسرائيل هي دولة تأخذ معظم الأنشطة فيها صفة مدنية/عسكرية في آن واحد. وحيث إن معظم جيشها من قوات الاحتياط يصبح من الصعب التمييز بين المدنيين والعسكريين، ويصبح في حكم المستحيل العثور على حدود فاصلة بين النخبة العسكرية والنخبة السياسية، إذ يتبادل أفراد النخبتين الأدوار ويقيمون التحالفات في الأحزاب والهستدروت والكنيست وغيرها من المنظمات.

ولا تمثل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بالنسبة لإسرائيل مجرد آلة مسلحة لتحقيق أهدافها السياسية ومصالحها الحيوية، ولكنها تتغلغل في معظم أوجه الحياة السياسية، بدءاً بإقامة المستوطنات وتنظيم الهجرة إلى إسرائيل، وتحقيق التكامل بين المهاجرين إليها، وتنظيم البرامج التعليمية لأفراد الجيش، ومراقبة أجهزة الإعلام وتوجيهها،وتطوير البحث العلمي، إلى تحديد حجم الإنفاق العسكري بما يؤثر على عموم الأحوال الاقتصادية للدولة، والتأثير على مجال الصناعة وخصوصاً الصناعات الحربية والإلكترونية، ومجال القوى العاملة والتنمية الإدارية. وتقوم المؤسسة العسكرية بدور مهم في التأثير في وضع الأراضي العربية المحتلة وتحديد الأراضي التي يتم ضمها إلى إسرائيل، وطرد العرب من هذه الأراضي. ويُضاف إلى ذلك أن المؤسسة العسكرية تحتفظ بصلات وثيقة، بهدف التنسيق والمتابعة، مع معظم أجهزة الدولة مثل وزارات الخارجية والمالية والتجارة والصناعة والعمل والتربية والتعليم والشرطة والزراعة والشئون الدينية. وللمؤسسة العسكرية شبكة للعلاقات الخارجية تشمل الاتصالات من أجل الحصول على معلومات أو أسلحة، والقيام بعمليات سرية في الخارج، وتدريب أفراد من الدول النامية على القتال.

وتُشكِّل وزارة الدفاع الإسرائيلية وقمة جيش الدفاع مركزاً لقوة سياسية واقتصادية واجتماعية لا مثيل لها في العالم باستثناء بعض أنظمة الحكم الديكتاتورية العسكرية مثل جنوب إفريقيا (قبل سقوط النظام العنصري). فحجم التفاعلات التي تشترك فيها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تقدم نموذجاً خاصاً ومتميِّزاً لدور العسكريين، وهو الدور الناجم عن البُعد التاريخي للوظيفة العسكرية المصاحبة نشأة الكيان الاستيطاني الصهيوني، وهو ما جعل عسكرة المجتمع الإسرائيلي في جميع المجالات مسألة حتمية. وسنتناول في هذا المدخل الجانبين السياسي والاقتصادي وحسب، مع علمنا بأن العسكرة عملية أكثر شمولاً وعمقاً وبنيوية.

1 ـ عسكرة النظام السياسي:

إن هيبة ونفوذ المؤسسة العسكرية في النظام السياسي الإسرائيلي تنطلق من أن أهم المسائل في هذه الدولة هي مسائل الحرب والسلام، والوظيفة العسكرية للدولة تسيطرعلى الوجود السياسي سواء في فترات السلم نتيجة تعدُّد الوظائف التي تقوم بها، أو في فترات الحرب بسبب ضرورة حماية البقاء الذاتي للبلاد وفرض سطوتها.

ولذا نجد أن العسكريين الذين يعملون من خلال هيئة أركان عسكرية مركزية يهيمنون على التخطيط الإستراتيجي بل يحتكرونه. فهذه الهيمنـة هي التي تضـع التخطيط الإسـتراتيجي وتتخـذ الخطوات التكتيكية. وباستثناء العسكريين في الاتحاد السوفيتي السابق، يمكن أن يُقال إن الجيش الإسرائيلي هو المؤسسة العسكرية الوحيدة في العالم التي لديها سـلطة تامة تقريباً في المسـائل الإسـتراتيجية والتكتيكية. وقد تحولت وزارة الدفاع الإسرائيلية إلى أهم مركز من مراكز القوى في إسرائيل. وازدادت أهمية هذه الوزارة في أعقاب عدوان 1967، واقترنت في الغالب بقوة أعلى منصب رسمي في إسرائيل، أي منصب رئيس الوزراء، حيث إن كثيراً من رؤساء الوزراء يأتون عن طريق وزارة الدفاع وغالباً ما يحتفظون بها إلى جانب رئاسة الوزارة. ولعل مثال ذلك بن جوريون وتَمسكه بالمنصبين طوال حياته، وكذلك بيجين ثم إسحق رابين الذي اغتيل وهو يجمع بين المنصبين.

وتُعَد العلاقات بين الثالوث (رئيس الوزراء ـ وزير الدفاع ـ رئيس الأركان) محور العلاقات المدنية العسكرية، وأي انهيار فيها يؤدي إلى نتائج مأساوية. وقد حدث ذلك مرتين في تاريخ إسرائيل عام 1954 بين شاريت ولافون وديان، وفي عام 1981 ـ 1983 بين بيجين وشارون وإيتان. وهناك دلائل تشير إلى وجود توترات في العلاقة بين المؤسسة العسكرية ونتنياهو، كما سنبين فيما بعد. ولكن التنافس غالباً ما يكون بين وزير الدفاع ورئيس الوزراء، بينما يقوم رئيس الأركان بالميل لرأي أحدهما ليقويه أمام نده.

وقد سعت الأحزاب الإسرائيلية، وبصفة خاصة بعد حرب 1967، لضم القادة العسكريين اللامعين إليها بهدف الحصول على أكبر قدر ممكن من الأصوات، وهكذا كانت الاتصالات تجرى مع هؤلاء القادة قبل تركهم مناصبهم. وجاء قرار الكنيست عام 1973 بإباحة اشتراك القادة العسكريين في الانتخابات ليتوج الدور السياسي للقادة العسكريين.

وتُعدُّ المؤسسة العسكرية في إسرائيل مصدراً رئيسياً للتجنيد للمناصب الحكومية العليا والمناصب السياسة الحزبية حيث هذه المناصب الحزبية ممرات شبه إجبارية لتولِّي مناصب حكومية. وتؤكد الدراسات أن 10% من كبار الضباط المسرحين يتفرغون للعمل السياسي.

كما أن إدارة الوضع الأمني في المناطق المحتلة سواء بعد حرب 1967 أو بعد عملية إعادة الانتشار في أعقاب أوسلو (2) أو لمواجهة حركات المقاومة الإسلامية التي لم تضع سلاحها بعد (كحركتي حماس والجهاد الإسلامي) جعلت وزارة الدفاع والحكام العسكريين ومجموعة الاستخبارات العسكرية وقوات الشرطة في المناطق المحتلة بمنزلة حكومة عسكرية مُصغَّرة تقوم بمهام عسكرية وسياسية بارزة.

وتحمل السياسة الخارجية هي الأخرى بصمة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. فرئاسة الأركان والجهاز الأمني هما الجهتان الوحيدتان اللتان تتولَّىان منذ سنوات مهمة تقويم الوضع الأمني. وكما يقول شلومو جازيت، رئيس الاستخبارات الإسرائيلية السابق، إنه لا يوجد في الجهاز المدني هيئة مشابهة لرئاسة الأركان وشعبة الاسـتخبارات قادرة على تَفحـُّص المعطيات الأمنية وبلورة الوضع القومي.

2 ـ عسكرة الاقتصاد:

اتسم المجال الاقتصادي الإسرائيلي بالنزعة العسكرية وخصوصاً بعد حرب 1967، حيث تحوَّل الإنتاج العسكري إلى الفرع الإنتاجي القائد في بنية الإنتاج والتصدير.

ويؤكد ذلك جملة من المؤشرات لعل من أهمها:

* تزايد الإنفاق العسكري من 18% عامي 1985 ـ 1986 إلى حوالي ثلث الموازنة المالية (33%) مع تزايد التزامات إسرائيل العسكرية ومع زيادة تكاليف الصناعاتالعسكرية وتشعُّبها (صواريخ ـ أقمار صناعية ـ أسلحة نووية).

* تزايد حجم قطاع الصناعات العسكرية (سواء قطاع الصيانة أو قطاع الإنتاج) بحيث أصبح أكبر قطاع صناعي في إسرائيل سواء استناداً لمعيار رأس المال الثابت أو اليد العاملة حيث أصبحت تمثل 40% من إجمالي الصناعة في إسرائيل.

* دخول هذا القطاع في علاقات مشاركة مع كبريات الاحتكارات الأجنبية التي تمتلك فروعاً لها في إسرائيل ومع الشركات الإسرائيلية الأخرى الأمر الذي جعل القادة العسكريين من أول المستفيدين من العمولات، بل أصبح بعضهم من كبار الرأسماليين في المجتمع الإسرائيلي.

* تطور الصادرات العسكرية المطرد وتصاعُد نسبتها في الصادرات الصناعية، وهي تحتل في الوقت الحاضر المرتبة الثالثة من جملة عائد إسرائيل من العملة الصعبة بعد الماس والسياحة.

* تسريح كبار العسكريين لا يعني ملازمتهم للمنازل في المجتمع الإسرائيلي، بل يعني تولِّيهم إدارة شركات صناعة الأسلحة أو إدارات المصارف والمؤسسات الخاصة والحكومية والهستدروتية حيث يُشكِّلون، حسب بعض التقديرات، ثلاثة أرباع مديري الفعاليات الاقتصادية على اختلاف أنواعها.

ومنــذ قيامهـا تعطي إسرائيل الأولوية للإنفاق العسكري، طبقـاً للإسـتراتيجية الإسرائيلية الهادفة إلى المحافظة على بقاء الجيش الإسرائيلي أقوى قوة عسكرية في المنطقة، وهو ما يتطلب الحصول على أرقى الأسلحة المتطــورة، واستـيعاب مستجدات التكنولوجيا الحـديثة، فازداد حجــم الإنفــاق العســكري بصورة مطـردة. فقد كانت نسبة الإنفاق العسـكري من الناتج القــومي الإجمــالي أقل من 10% في مطلع الخمسينيات، ثم أخذت في التزايد مع كل حرب جديدة حتى بلغت 32.8% بعد حرب 1973، وهي أعلى نسبة في العالم، كما أن نسبة الإنفاق العسكري من الناتج القومي الإجمالي كانت أعلى من نسبته في سوريا أو في مصر، وهما البلدان اللذان تحملا العبء الأكبر في الصراع العربي الإسرائيلي. ولكن من المهم ملاحظة أن الازدياد الهائل في الإنفاق العسكري الذي بدأ مباشرةً بعد حرب 1967 اعتمد في الدرجة الأولى على المساعدات الأمريكية التي لولاها لعجز الاقتصاد الإسرائيلي عن تَحمُّل أعباء هذا الإنفاق الهائل.

وقد استمر معدل الإنفاق العسكري عالياً، حتى أن حكومة نتنياهو لم تف بوعودها بتخفيض الإنفاق العسكري بنحو 5 مليارات شيكل (1.6 مليار دولار) بل رفعت الإنفاق العسكري بأكثر من ملياري شيكل عام 1997، الأمر الذي يُعزِّز تمحور الدولة الصهيونية حول المؤسسة العسكرية. وقد ترافق الارتفاع الكبير في الإنفاق العسكري مع نمو صناعة السلاح التي أعطيت أولوية كبيرة كي تصبح إسرائيل مكتفية ذاتياً على صعيد التسلح، وكان أحد أسباب ذلك الحظر الفرنسي على بيع الأسلحة لإسرائيل بعد حرب 1967.

إن نمو صناعة السلاح وتطوُّرها الكبير قد أديا، أيضاً، إلى نمو ما يُسمَّى «المجمّع العسكري/الصناعي»، وذلك يعود إلى أن عدداً كبيراً من المنشآت الصناعية أصبح يعتمد اعتماداً أساسياً على العقود التي يحصل عليها من وزارة الدفاع، لذلك أصبح من مصلحة هذه المنشآت تعيين جنرالات وضباط سابقين في مراكزها القيادية. فالضباط في الجيش الإسرائيلي يتقاعدون في سن مبكرة نسبياً (40 عاماً)، الأمر الذي يُفسح لهم مجال مزاولة مهنة جديدة. ومن الطبيعي أن تكون تلك المهنة إدارة شركات صناعية تربطها علاقة بصناعة السلاح، ذلك أن لهم خبرة بالسلاح أولاً، ويستطيعون الاعتماد على علاقاتهم بالجيش ثانياً.

إن ظاهرة المجمّع العسكري/الصناعي موجودة في كل الدول الصناعية، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية. لكن الموضوع في إسرائيل يكتسب أهمية إضافية لأنه مكمل لظاهرة المجمّع العسكري/السياسي الموجود منذ قيام دولة إسرائيل؛ ذلك أن جنرالات الجيش الإسرائيلي يحتلون، بعد تَقاعُدهم، مراكز قيادية سياسية. فرئيس الدولة الحالي (وايزمان) كان قائداً لسلاح الجو، ورئيس الحكومة (رابين) كان رئيساً لأركان حرب الجيش، وأربعة آخرون من رؤساء الأركان (موشيه ديان ـ حاييم بار ـ بارليف ـ بيجال يادين ـ رفائيل إيتان) أصبحوا فيما بعد وزراء دفاع. وقد تركت عسكرة المجتمع الإسرائيلي ـ إضافة إلى الدور الوظيفي للدولة ـ آثارها على السياسة الخارجية للدولة،فأصبحت إسرائيل مصدراً للخبرات العسكرية والأمنية إلى مناطق تغطي مساحة شاسعة من العالم مثل دول أمريكا اللاتينية وبعض الدول الآسيوية وحتى بعض الدول الاشتراكية السابقة.

ورغم عسكرة المجتمع الإسرائيلي على المستويين السياسي والاقتصادي إلا أن مكانة المؤسسة العسكرية قد اهتزت قليلاً في الآونة الأخيرة. فرغم أن هذه المؤسسة تشكل وحدة متماسكة فإن العنصر الإشـكنازي هـو العنصر المهيمن فيها، هيمنته على الدولة الصهـيونية ككل. أما السفارد واليهود الشرقيون فوضعهم مترد. فرغم أن بعض اليهود الشرقيين قد تم تصعيدهم واحتلوا مناصب قيادية مهمة فإن معظم هذه المناصب القيادية تظل في يد الإشكناز بالدرجة الأولى. كما أن ثمة أبواباً خاصة تُفتَح لليهود الإشكناز والغربيين وحدهم في أسلحة بعينها مثل المخابرات والطيران وغيرها من الأجهزة الحساسة التي تفضي إلى وضع اجتماعي بارز بعد التسريح. كما أن الترقيات لا تُمنَح بيسر لغير الإشكناز والغربيين وهو ما يُعتبَر نوعاً من إغلاق أبواب الحراك الاجتماعي أمام السفارد، وهو ما يعني ترجمة التمييز العنصري لواقع طبقي، وتحوُّل المؤسسة العسكرية من بوتقة للصهر وآلية كبرى من آليات الاستيلاء على الأرض الفلسطينية وقمع أهلها إلى حلبة أخرى للصراع بين السفارد والإشكناز.

وإذا كان مناخ الحرب يساعد على استمرار ومركزية المؤسسة العسكرية في حياة الإسرائيليين، فإن ظهور مؤسسات أخرى تحمل صور الريادة (جماعات المثقفين ـ الشركات ـ معامل الأبحاث ـ الجامعات) خفَّف من انفراد المؤسسة العسكرية بهذه الصورة الريادية. وأدَّت هزيمة الجيش الإسرائيلي العسكرية في أكتوبر 1973 وفي جنوب لبنان وعجزه أمام الانتفاضة، إلى اهتزاز مكانة المؤسسة العسكرية والكثير من رموزها، وضرب نظرية الأمن الإسرائيلي.

وساهمت عملية التسوية الجارية للصراع العربي الإسرائيلي إلى إضعاف مكانة الجيش الإسرائيلي في الأوساط الإسرائيلية. كما أن تَصاعُد معدلات التوجُّه نحو اللذة والاستهلاك جعل كثيراً من الشباب ينصرف عن الخدمة العسكرية ويهرب منها.

وفي الآونة الأخيرة لوحظ تدهور وتأزم العلاقات بين المؤسسة العسكرية ورئيس الوزراء الإسرائيلي المنتخب بشكل مباشر بنيامين نتنياهو، ويعود هذا إلى سعيه لوضع إطار جديد لطبيعة الدور الذي تمارسه المؤسسة العسكرية في النظام السياسي الإسرائيلي لتصبح إحدى أدوات القوة الشاملة للدولة، وليس الفاعل الأساسي فيها، بمعنى أن يصبح الجيش الإسرائيلي "قوة احتراف" وليس "قوة ضغط سياسي". وهذا الموقف يتناقض مع إعلاء نتنياهو شعار "الأمن قبل السلام" الذي يفترض زيادة دور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية. ولكن نتنياهو يتحرك لإحداث تغيير في جوهر النظام السياسي الإسرائيلي ليكون أقرب إلى النظام الرئاسي (إنشاء بيت أبيض إسرائيلي)، فيقوم بالتشاور مع مجموعة موالية له شخصياً، ثم يتخذ القرارات كافة دون أن يكون للمؤسسات المعنية أي دور وضمن ذلك المؤسسة العسكرية. وقد أدَّت أحداث نفق الأقصى واتفاق الخليل إلى اهتزاز ثقة الجيش في قدرة القيادة السياسية على إدارة الأمور.

وعندما جاء نتنياهو إلى الحكم كان الجيش الإسرائيلي قد تكيف مع مقتضيات عملية التسوية وفق مبدأ مدريد، حيث أعاد رسم مواقع تمركزه وخطوط الاتصال في الضفة وغزة على نحو يتوافق مع عمليات إعادة الانتشار، ويعود ذلك إلى التوافق بين حزب العمل والجيش بشأن خطوات الاتفاق الأمني في الضفة وغزة والجولان.

ورغم سعي نتنياهو لمصالحة المؤسسة العسكرية بالموافقة على زيادة الإنفاق العسكري وتأكيده ضرورة الاهتمام ببناء وتطوير جيش الدفاع، إلا أنه سيستمر في سعيه لجعل الجيش الإسرائيلي يتجه نحو الاحتراف، وتهميش دوره السياسي.

لكن عسكرة المجتمع الإسرائيلي لا تعني هيمنة المؤسسة العسكرية عليه وتغلغل عناصرها في الهيكل السياسي والاقتصادي للدولة الصهيونية وإنما هو أمر أكثر عمقاً. ومن يدرس الظواهر الإسرائيلية ابتداءً من النظام التعليمي وانتهاءً بأكثر الأمور تفاهة، سيُلاحظ الأبعاد العسكرية خلفها. فالبُعد الاستيطاني مرتبط تماماً بالبُعد العسكري، والهاجس الأمني (أي محاولة قمع السكان الأصليين) يسيطر على السياسة العامة في كل القطاعات، وعلى سلوك الإسرائيليين، بل على أحلامهم وأمراضهم النفسية، فالمجتمع/القلعة لابد أن يكون مجتمعاً عسكرياً يحاول أن يحتفظ بالمادة البشرية في حالة تأهب عسكري دائم، إذ يُحتِّم البقاء حسب الشروط الصهيونية قَهْر العرب.

اليهود الشــرقيون (السفارد) والنظام السياسي الإسرائيلي

Oriental Jews (Sephard) and the Israeli Political System

أسس صهاينة شرق أوربا الإشكناز الجيب الصهيوني فهم الذين قاموا بالاستيلاء على أرض فلسطين وطرد سكانها وهم الذين أعلنوا قيام الدولة الصهيونية. ولكن الدولة شيء والمجتمع الاستيطاني شيء آخر. وحتى يتم تأسيس مجتمع متكامل، كان ضرورياً ضم مادة بشرية من العمال والفلاحين الذين يقومون بالأعمال الإنتاجية لشغل قاعدة الهرم الإنتاجي. وبما أنه كان هناك أعمال استنكف الإشكناز عن القيام بها قامت الحركة الصهيونية بتهجير اليهود العرب بالوعد أحياناً وبالوعيد أحياناً أخرى ليضطلعوا بهذه المهمة. وقد نجح الصهاينة في إنجاز هذا الجزء من مخططهم، إلى حدٍّ بعيد، بسبب عمالة بعض الحكومات العربية وجهل بعضها الآخر، وبسبب الوضع المبهم للجماعات اليهودية في العالم العربي بعد تأسيس الدولة الصهيونية التي ادعت أنها دولة يهودية تتحدث باسم كل يهود العالم وتمثلهم وتدافع عن مصالحهم!

وكان اليهود الشرقيون يشكلون في أواسط القرن التاسع عشر الأغلبية الساحقة من يهود فلسطين، لكن بعد تدفُّق الهجرة اليهودية الصهيونية من دول أوربا تقلصت نسبتهم فأصبحوا أقلية (أقل من 10%) من بين مجموع السكان اليهود قبل سنة 1948. ولكن التحول في الاتجاه الآخر تم بعد قيام إسرائيل حيث هاجر عدد كبير من اليهود الشرقيين (السفارد) في موجات شعبية واسعة، فازداد عددهم بصورة سريعة، وشكلوا في أوائل السبعينيات نحو نصف سكان إسرائيل اليهود. وأكبر الطوائف الشرقية فيإسرائيل هم اليهود المغاربة يليهم بالترتيب: العراقيون واليمنيون والإيرانيون. ولا يزال أبناء هذه الجماعات يحافظون، بصفة عامة، على كثير من عادات وتقاليد الأقطارالتي جاءوا منها فهم يفهمون لغاتها إضافة إلى تَكلُّمهم العبرية.

وتصنف الإحصاءات الإسرائيلية السكان اليهود وفقاً لبلد الأصل (أي وفقاً لمكان ولادة الشخص ومكان ولادة أبيه) إلى ثلاث جماعات إثنية رئيسية:

1 ـ الإشكناز: وهم المولودون في أوربا وأمريكا والمولودون في إسرائيل لآباء من مواليد أوربا وأمريكا.

2 ـ السفارد: وهم المولودون في آسيا وأفريقيا والمولودون في إسرائيل لآباء من مواليد آسيا وأفريقيا.

3 ـ يهود أبناء البلد: وهم يهود وُلدوا هم وآباؤهم في البلد (فلسطين المحتلة).

وقد استمر الإشكناز أغلبية حتى أوائل الستينيات بنسبة 52.1% عام 1961، ولكن في مطلع السبعينيات تفوقت عليها نسبة السفارد فصارت النسبة 44.2% من الإشكناز مقابل 47.4% من السفارد عام 1972.

وبقي الأمر على ذلك حتى تدفُّق هجرة اليهود السوفييت حيث رجحت كفة الإشكناز قليلاً، كما أن اليهود المولودين في البلد (فلسطين ثم إسرائيل) ارتفعت نسبتهم حتى أصبحوا أغلبية السكان بنسبة 60.9% عام 1993. (ويعود التناقض فى الأرقام إلى الاختلاف فى طريقة التصنيف والاحصاء).

وقد ظهرت أزمة التفرقة بين الإشكناز والسفارد فيما يتعلق بالتقسيم الطبقي أو التوزيع المهني، وبناء على ذلك المعيار يمكن التمييز بين خمس شرائح أو خمس جماعات تحتل درجات مختلفة في السلم الطبقي، ويمكن ترتيب هذه الشرائح من أعلى إلى أسفل كما يلي:

1 ـ مواليد البلد الغربيون (مواليد البلد لآباء من مواليد أوربا وأمريكا).

2 ـ يليهم المهاجرون الغربيون (مواليد أوربا وأمريكا)، وتمثل هاتان الفئتان الطائفة الإشكنازية.

3 ـ أبناء البلد (مواليد البلد لآباء من مواليد البلد).

4 ـ مواليد البلد الشرقيون (مواليد البلد لآباء من مواليد آسيا وأفريقيا).

5 ـ مهاجرون شرقيون (مواليد آسيا وأفريقيا). وهاتان الفئتان الأخيرتان تمثلان السفارد.

وبذلك فإن السفارد يحتلون مؤخرة السلم الطبقي بينما يحتل الإشكناز قمته. فالتقسيم الطبقي يتأثر ببلد الأصل أكثر من تأثره بالأقدمية في البلد، وذلك لأن اليهود الغربيين سواء كانوا من مواليد البلد أو من مواليد الخارج هم أعلى طبقياً من اليهود الشرقيين سواء كانوا من مواليد البلد أو من مواليد الخارج، أما المواطنون العرب فهم يشكلون الشريحة السادسة.

ومن المؤشرات التي تبرز التفاوت الاقتصادي والاجتماعي أن المدن والأحياء الفقيرة ما زال سكانها من السفارد وهي تعاني من البطالة أكثر من المعدل العام في إسرائيل. فنسبة البطالة في مدينة يوروحام في النقب (سفارد) حوالي 12.5% أي حوالي أربعة أضعاف نظيرتها في تل أبيب (إشكناز) وهي 3.5%. كما أن راتب اليهودي السفاردي يعادل 68% من راتب اليهودي الإشكنازي. ويبلغ عدد الطلاب في الجامعات من السفارد 25% فقط من المجموع العام، ونسبة من يحمل شهادة الدكتوراه من السفارد هي 18% مقابل 82% للإشكناز.

ومن جوانب التفرقة على الصعيد الثقافي أن من النادر أن تُمنَح جائزة إسرائيل في فروع المعرفة لأي سفاردي، ففي عام 1997 مُنحت الجوائز لـ 15 شخصاً ليس بينهم سفاردي واحد. فمنذ البداية رفض الإشكناز ثقافة السفارد الشرقية، وألصقوا بهم أحكاماً مسبقة سلبية، وتحفظوا على الارتباط بهم. لذلك يحتج السفارد بأن تاريخهم الذي يمتد لقرون طويلة في البلاد الشرقية لا يُدرَّس وإن دُرِّس فهو لا شيء بالنسبة إلى تاريخ الإشكناز في الكتب المقررة في المدارس التي تركز خصوصاً على تاريخ اليهود الحديث.

واليهود الإشكناز كانوا يريدون تأسيس الدولة والمجتمع على النمط الأوربي العلماني ليس للدين والتقاليد مكان فيها، ولذلك عندما أُدين زعيم حزب شاس الديني إرييه درعي في فضيحة بارعون دون غيره من السياسيين الإشكناز في مايو 1997 هاجم الحركة الصهيونية (فالهجوم عليها هو هجوم على الإشكناز) قائلاً: "إن الصهيونيةحركة هرطقة، تهدف إلى خلق يهودية جديدة، وهي مصممة على تدمير التوراة وتدمير ديننا وتدمير تراث اليهود السفارد".

وقال عوفادياه يوسف الزعيم الروحي للحزب مخاطباً الإشكناز: "متى تحررون أنفسكم من كره الدين وكره السفارد؟ وإلى متى تستمر معاناة السفارد؟". وتم تشبيه درعي بدريفوس، أي أن الإشكناز ـ حسب هذه الصورة المجازية ـ هم الأغيار، بل أطلق أحد الحاخامات صفة "نازي" على المدعي العام، وتم تنظيم المؤتمرات والمظاهرات احتجاجاً على القرار. ويشير كثير من السفارد إلى «الإشكي نازي» ليبينوا طبيعتهم العنصرية.

وقد ظهر السفارد في الحياة السياسية الإسرائيلية في الخمسينيات حين قاموا بالمظاهرات والاحتجاجات ذات الطابع السلمي، ولكنها في السبعينيات اتسمت بشيء من العنف. وكان انتخاب السفارد لحزب الليكود (رغم وجود الإشكناز على قمته) وإيصاله إلى السلطة لأول مرة أحد أشكال الاحتجاج المهمة، لأن حزب العمل هو حزب الإشكنازبامتياز. وقد وصل الاحتجاج ذروته في الثمانينيات وهي الفترة التي تأسَّس فيها حزب شاس، حيث تصاعدت قوته الانتخابية وحصل على 10 مقاعد في انتخابات عام 1996.

الحرس القديم

Old Guard

«الحرس القديم» مصطلح في الخطاب السياسي الإسرائيلي يشير إلى أعضاء النخبة الحاكمة الإسرائيلية من بين أعضاء الجيل المؤسس. ويمكن النظر إلى التجمُّع الصهيوني في فلسطين من منظور جيلي، فقد تعاقب على قيادة ذلك التجمُّع ثلاثة أجيال بينها كثير من الاختلافات والتشابهات في الفكر أو السلوك، وهو ما يفرز قيادات ذات رؤى مختلفة. وقد برز الصراع على السلطة بشكل واضح على أكثر من مستوى إثر قيام الدولة الصهيونية، وكان أحد هذه المستويات، ولا يزال، هو الصراع بين أعضاء الجيل المؤسس (أو «الآباء المؤسســين» أو «الرواد») ممن يُطلَق عليهم اسم «الحرس القديم»، من جهة، ومن جهة أخــرى، أعضـاء الجيل الذي يليه، (أو «جـيل بناء الدولة») ممن يُطـلَق علــيهم اصطلاح «الحرس الجـديد». ثم جـاء أخيراً أعضـاء «النخـبة الجديدة» (ويُطلَق عليهم أحياناً اسم «جيل القوة»).

تصدَّر الحرس القديم الحياة السياسية في المستوطن الصهيوني قبل إعلان الدولة الصهيونية وفي العقدين الأولين التاليين لتأسيسها. ويتسم أفراد الحرس القديم - الذين أتى معظمهم مع موجتي الهجرة الاستيطانية الثانية والثالثة - بصفات معينة وسمات بعينها. فهم جميعاً يعودون إلى أوربا الشرقية، من حيث الأصل الجغرافي، كما أن معظمهم حصل على تعليم متوسط فقط. وقد لعبت هذه الشخصيات الدور الحاسم في صياغة واتخاذ كل القرارات الإستراتيجية على امتداد ربع القرن الماضي. فقد قام كل من ديفيد بن جوريون وموشي شاريت بدور حكومة الاثنين (من 1948 - 1956)، بينما انفرد كل من إسحق سابير وليفي إشكول بمجال الاقتصاد، أما جولدا مائير فظلت تتولى مسئولية السياسة الخارجية لعقد كامل (1956 - 1966) إلى أن خلفها أبا إيبان. وإلى جانب انتماء كل أفراد الحرس القديم الأول إلى موجة هجرة واحدة، فإن الملاحظ أنه ليست هناك حدود فاصلة بينهم وأن تبادل الأدوار ظل مستمراً.

لكن لوحظ في منتصف السبعينيات أيضاً أنه قد ظهر تحالف يضم العسكريين والسياسيين المحترفين حل محل الحرس القديم، وهكذا قيل إثر استقالة جولدا مائير وتولِّي إسحق رابين رئاسة الوزارة عام 1974 إن أهمية هذا التطور تكمن في أنه يُعَد نهاية عصر بأكمله هو عصر الآباء المؤسسين، حيث تواجدوا على سطح الحياة السياسية الإسرائيلية. كما يُلاحَظ أنه تم استبعاد ممثلي الصهيونية التصحيحية تماماً، ولم تُتح الفرص أمام ممثلي اليهود الشرقيين للانضمام للنخبة الحاكمة. وتم تهميش العناصر الدينية.

ويمكن القول بأن النقطة الأساسية في رؤية وسلوك ذلك الجيل المؤسس هي حلم الدولة وضمان وجودها، فالدولة التي أسسوها ليست بالضرورة كياناً مضموناً مهما بلغت من قوة، ولذلك كانت تسيطر على أعضاء هذا الجيل هاجسيان أساسييان: الهاجس الأمني وهاجس التماسك الداخلي، فأيَّ خلل في تصوُّرهم كان من الممكن أن يؤدي إلى زوال الدولة والعودة إلى الدياسبورا من جديد. بل إن حالة الاستقرار يمكن أن تؤدي إلى تفكك المجتمع الصهيوني.

وقد عبَّرت تلك الهواجس عن نفسها لدى ذلك الجيل المؤسس في سلوكيات سياسية معينة كالإصرار على التوسع والإبقاء على حالة الحرب الدائمة، وخلق عدو مشترك على الصعيد الخارجي.

ديفـيد بـن جوريـون (1886 - 1973)

David Ben Gurion

زعيم صهيوني عمالي، وسياسي إسرائيلي من الحرس القديم، كان اسمه «ديفيد جرين» ثم غيَّره فيما بعد إلى «بن جوريون» أي «ابن الشبل». وُلد في بلدة بلونسك ببولندا التي تقع في منطقة الاستيطان اليهودي في روسيا. نشأ نشأة يهودية تقليدية، وقضى سني حياته الأولى يدرس التوراة والتلمود وكُتُب الصلوات المختلفة في المدارس الحاخامية. وفي طفولته هذه، سمع عن ظهور الماشيَّح المخلِّص في شخصية صحفي نمسوي يُسمَّى تيودور هرتزل سيعود بشعبه إلى أرض الميعاد، وكان أول كتاب عبري يقرؤه هو كتاب حب صهيون لمابو.

وقد بدأ بن جوريون نشاطه الصهيوني وهو بعد صبي في سن الرابعة عشرة، إذ كان أبوه عضواً في جماعة أحباء صهيون، وقد تأثر بن جوريون بأفكار بوروخوف، فانضم إلى جماعة عمال صهيون عام 1904، وكان من بين معـارضي مشـروع شـرق أفريقيا في مؤتمر الحزب. وقد حاول بن جوريون أن يُغيِّر اتجاه الحزب منالتركيز على الجماعات اليهودية في العالم (خارج فلسطين) (مركز الدياسبورا) إلى التركيز على المستوطنين الصهاينة في فلسطين (مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا). وبعد عامين، انضم إلى إحدى جماعات الدفاع اليهودية التي نُظِّمت في روسيا بعد حادثة كيشينيف. وقد هاجر إلى فلسطين عام 1906 حيث بدأت أفكاره الصهيونية في التبلور، فطالب بتأكيد مركزية المستوطنين اليهود في حياة الجماعات اليهودية. وقد كان بن جوريون من دعاة بعث اللغة العبرية وإهمال اليديشية. وفي عام 1912، التحق بن جوريون بجامعة إستنبول لدراسة القانون على أمل أن يُمكِّنه هذا من المساهمة في تحويل فلسطين إلى وطن يهودي داخل الإمبراطورية العثمانية، وبعد تخرُّجه عاد إلى فلسطين حيث بدأ حياته عاملاً زراعياً وحارساً ليلياً.

تَجنَّس بن جوريون بالجنسية العثمانية مع نشوب الحرب العالمية الأولى لكيلا يُطرَد لأنه رعية روسية ومعاد للعثمانيين. وحينما نفته السلطات التركية بسبب نشاطه الصهيوني الاستيطاني، رحل إلى مصر وقابل جابوتنسكي في الإسكندرية، وعارض في البداية فكرة الفيلق اليهودي على أساس أن هذا يُعرِّض اليهود الاستيطانيين في فلسطين لغضب العثمانيين وانتقامهم. وذهب إلى الولايات المتحدة حيث أسَّس جماعة الرائد وساهم في تكوين الفيلق اليهودي التابع للجيش البريطاني وعاد معه إلى فلسطين عام 1918 (ومعه مجموعة كبيرة من الاشتراكيين الصهاينة). وقد اشترك مع كاتزنلسون في تأسيس الهستدروت، واقترح ألا يكون الهستدروت نقابة عمال وحسب بل وسيلة استيطان كذلك. وقد تولَّى بن جوريون رئاسة الهستدروت من عام 1921 حتى 1932. وفي عام 1930، ساهم في إنشاء الماباي، كما انتُخب عضواً في اللجنـة التنفـيذية للوكالة اليهـودية عام 1937. وفي عام 1942، تبنَّت المنظمة الصهيونية، بمبادرة من بن جوريون، برنامج بلتيمور الذي كان هدفه المعلن إنشاء دولة إسرائيل. وفي عام 1948، أشرف على تكوين رئاسة الحكومة المؤقتة قبل إعلان نهاية الانتداب، وقام بنفسه بإعلان بيان قيام إسرائيل. وقد كان بن جوريون أحد الذين نصحوا بعدم الإشارة إلى حدود الدولة وعدم إعلان الدستور حتى لا يضع حداً لمطامع إسرائيل التوسعية (فالجيش الإسرائيلي وحده ـ حسب تصوره ـ هو الذي سيعين الحدود) حتى يمكن إرضاء العناصر الدينية التي تَحالَف معها الماباي لتشـكيل الوزارة، وطالـب بجعل القدس عاصمـة الدولـة الجديدة. وفي عام 1953، استقال وأعلن عزمه الاعتزال في النقب في مستعمرة سدي بوكر. ولكن بن جوريون تولَّى منصب رئيس الوزارة عدة مرات بعد ذلك كان آخرها عام 1963، وقد كانت فضيحة لافون مسئولة عن عودته عام 1955، بل اضطرته إلى دخول معارك سياسية مختلفة.

وقد استقال بن جوريون من الماباي وكوَّن حزب رافي هو وأعوانه عام 1965، وحينما انضم رافي للحكومة دخل بن جوريون هو وجماعة من أتباعه الانتخابات تحت اسم القائمة الرسمية، وقد فاز الحزب بأربعة مقاعد في الكنيست شغل بن جوريون أحدها، ولكنه استقال بعد سنة واحدة واعتزل السياسة.

ورغم ما عُرف عن بن جوريون في الغرب من ليبرالية واشتراكية، فإنه يرفض الصيغة الاندماجية ويصفها بأنها حل مضلل ويائس يشبه «الوباء». وتتسم كل أفكار بن جوريون بالتبسيط المتطرف والوضوح الشديد، فهو مثلاً يرى تاريخ اليهود على أنه عبارة عن صراع بين قوتين: الاستقلاليين الذين يقاومون خطر المؤثرات الأجنبية، والاندماجيون الذين يرضخون لها. أما الاندماجيون فكان نصيبهم النسيان والذوبان في الأمم الأخرى، ولم يبق سوى كتابات وتنبؤات أولئك الذين حافظوا على إيمانهم بإسرائيل، ورفضوا الاستسلام للقدر الذي أنزله بهم التاريخ (هذا تبسيط مخل، فلم "ينس" أحد أينشتاين أو فرويد وكافكا أو حتى فيلون). ورفض «الجالوت» أو المنفى هو نقطة بدء عند بن جوريون، ففي رؤيته الميلودرامية الأسطورية للواقع والتاريخ، والتي لا يوجد فيها سوى خير خالص يتصارع مع شر خالص، نجد أن المنفى والتشتت هما الجحيم، وأن أرض الميعاد هي بالطبع الفردوس المفقود أو الدائرة التي يجب أن يعود إليها اليهودي).

ومرض المنفى أو الجالوت الخبيث (الذي وقع بعد ثورة بركوخبا وبعد "طرد" اليهود من فلسطين [تدل الوقائع التاريخية والإحصاءات السكانية أن عدد اليهود في حوض البحر الأبيض المتوسط يفوق عدد اليهود في فلسطين، "قبل" ثورة بركوخبا، أي أن الخروج من فلسطين تم بملء رغبتهم وإرادتهم]) لا يصيب اليهود في أجسادهم فحسب (ومن الذي يقرر أنهم "مرضى"؟ لقد صدر كتاب هاوارد ساخار، المؤرخ الأمريكي اليهودي الصهيوني، بعنوان الدياسبورا، أي المنفى ولا يوجد فيه فصل عن أمريكا الشمالية، أم أنها ليست المنفى)، بل يصيبهم في أرواحهم ونفوسهم أيضاً. ولذا فقد ظن يهود الولايات المتحدة الحاصلون على حقوقهم السياسية والمدنية كاملة أنهم مواطنون أسوياء، ولكنهم في الواقع مرضى منفيون في داخل دولتهم. بل إن بعض الإسرائيليين الذين يعيشون داخل حدود الدولة اليهودية هم أيضاً منفيو الروح.

ويصف بن جوريون بشيء من التفصيل «مرض المنفى» (في إحدى محاوراته مع موشي بيرلمان الكاتب الإسرائيلي)، وأولى سمات الحياة في الدياسبورا ـ حسب تصوُّر بن جوريون ـ هو أن اليهود يعيشون كأقلية تعتمد بشكل أو بآخر على إرادة الأغلبية، عاجزين عن اتخاذ أي قرارا يتعذبون في أوربا وغير أوربا، شقاؤهم لم يبدأ بالنازيين ولم ينته بسقوطهم (إشكالية العجز وانعدام السيادة والمشاركة في السلطة التي تزعمها الأدبيات الصهيونية). وهم يعيشون حياة اقتصادية هامشية، إذ لا تجد بينهم عمالاً ولا فلاحين، بل يشتغل معظمهم في المدن بعيداً عن مراكز الحيوية في أي حضارة، وأنهم أمة من البقالين والموظفين الذين يعملون بالأعمال الفكرية. وأخيراً يقع يهود المنفى الراغبون في الحفاظ على يهوديتهم في صراع بين ولائهم لحضارة الأغلبية السائدة، وولائهم لحضارتهم اليهودية التي تمتد جذورها إلى الماضي، ولذا يعيش يهود المنفى في ازدواج دائم.

ويشير بن جوريون إلى التلمود الذي جاء فيه أن أي يهودي قادر على العودة لأرض الميعاد ويستمر في الحياة خارجها يُعَد كافراً ويكون كمن هجره الله، كما أنه يشير لحكماء اليهود القدامى الذين قالوا إن المكوث خارج أرض إسرائيل طواعية يُعدّ خطيئة دينية. ويخلص بن جوريون من كل هذا إلى أن حياة اليهود في الدياسبورا مستحيلة وأن "الحياة اليهودية الكاملة لن تتحقق إلا في دولة يهودية مستقلة، حيث يمكن للشعب اليهودي أن يصوغ حياته حسب حاجاته وقيمه، مخلصاً لشخصيته وقيمها، ولتراثها الماضي ولرؤيتها للمستقبل".

ويهاجم بن جوريون في برنامجه «الثوري» حالة الاتكال والسلبية التي تتسم بها حياة اليهود في الدياسبورا. فاليهودي في الدياسبورا، كما هو حال معظم اليهود، بطل، ولكن بطولته مع هذا بطولة سلبية تأخذ شكل الاستسلام للقدر، كما أنه يتملكه إحساس بالعجز الإنساني، وإيمان بأن الخلاص لن يأتي إلا عن طريق الخالق. إن المنفى بالنسبة لبن جوريون يعني الاتكال، الاتكال السياسي والمادي والروحي والثقافي والفكري "ذلك لأننا غرباء وأقلية محرومة من الوطن ومقتلعة ومبعثرة عن الأرض وعن العمل والصناعة الأساسية، واجبنا هو أن ننفصل كليةً عن هذا الاتكال وأن نصبح أسياد قدرنا، علينا أن نستقل". ويُلخص بن جوريون برنامجه الثوري في أنه لا يرفض الاستسلام للمنفى فحسب، بل يحاول أيضاً إنهاءه على التو، وهو يعتقد أن هذا هو حجر الزاوية: "القضية الحقيقية هي الآن كما كانت في الماضي تتركز فيما إذا كان علينا أن نعتمد على قوة الآخرين أم على قوتنا". على اليهودي من الآن فصاعداً ألا ينتظر التدخل الإلهي لتحديد مصيره، بل عليه أن يلجأ للوسائل الطبيعية العادية (مثل الفانتوم والنابالم مثلاً).

ولكن ماذا لو رفض يهود المنفى أرض الميعاد، وقرروا البقاء في منفاهم كما فعل هاورد ساخار ويهود الولايات المتحدة والغالبية الساحقة من يهود العالم؟ هنا يتحرك الزعيم الصهيوني ويقرر أنه لو كان الأمر بيده لأرسل بعض الشباب اليهودي متنكرين ليرسموا الصلبان المعقوفة على المعابد اليهودية، حتى يلقوا الرعب في نفوس اليهود الذين يتمتعون بالحياة في المنفى ليهاجروا إلى أرض الميعاد. وحينما كان بن جوريون وزيراً للخارجية وعضواً في المنظمة الصهيونية قام عملاء المنظمة بإطلاق النار على يهود العراق حتى يهاجروا منها إلى إسرائيل. ولكن متى تمت عودة اليهود للفردوس، لإسرائيل، سيكون كل شيء يهودياً: الكتب يهودية، والعمل يهودي، والأبحاث العلمية التي تدرس طبيعة الأرض يهودية. وقد خلق الصهاينة بالفعل في الفردوس الصهيوني الحقل اليهودي، والطريق اليهودي، والمصنع اليهودي، والمنجم اليهودي، والجيش اليهودي. بل إن كل القيم يهودية وكل الأفراد يهود في كل عضو في جسمهم، وكل خلجة في قلوبهم. (عرَّف نحمان بياليك، الشاعر الصهيوني، بأن تطبيع الشخصية اليهودية يعني ظهور البغيّ اليهودية والشرطي اليهودي!).

والانعتاق الذاتي من المنفى الداخلي والخارجي يكون عن طريق العودة للطبيعة وللأرض: "إن أية أمة مستقلة لابد أن تضرب جذورها في أرض الآباء، تزرعها بأصابعهاوتشارك في كل عمل يتطلبه وجودها" (وهذا هو الفكر القومي العضوي). وفي الطبيعة وحدها يمكن لليهودي أن يستعيد إنسانيته المهرقة، كما أنه يمكنه أن يسترجع قواه الخلاقة. ولن يقضي على شخصية اليهودي الهامشية التجارية، شخصية السمسار، سوى العمل العبري في الزراعة، ولذا يتخيل بن جوريون أن العودة لأرض الميعاد هي عودة للطبيعة تنم عن الرغبة في الاتحاد بالوجود يقول: "نهيق الحمير في الحظائر، نقيق الضفادع في البرك، رائحة الزهور المتبرعمة، همس البحر البعيد، ظلال البيارات الآخذة في الإظلام، سحر النجوم في السماء العميقة الزرقة، السماوات البعيدة والمتألقة في نعاس... كل شيء أصابني بالنشوة. آه إنني في أرض إسرائيل. طوال الليل جلست وناجيت السماء". وكل يهودي يبتعد عن تلك الأرض وعن هذه الطبيعة يحمل في قلبه ذكرى هذه الأرض. بل إن بن جوريون يعتقد أن هذه العودة للطبيعة وللبراءة هي المعنى الأساسي للصهيونية.

ولكن هل هذه الطبيعة حقاً بدائية؟ وهل هي حقاً أرض فراغ تنتظر الفيلسوف الصهيوني الرومانسي ليذهب إليها، لتشحذ قواه الخلاقة وليفرض إرادته عليها وليرغمها أن تمنحه ثمارها؟ وهل هي ـ في حقيقة الأمر ـ أرض بلا شعب؛ طبيعة عذراء تمكنه من التأمل في هدوء وتساعده على التركيز، وتدفعه إلى أن يفكر بشكل بسيط وواضح؟ كل هذه الأسئلة يجيب عليها بن جوريون بالإيجاب نظرياً، ولكن عملياً يعرف بن جوريون، كما يعرف غيره من الصهاينة، أن أرض الميعاد تمور بالعرب وأن على كل حجر توجد بصمة عربية ولذا كان لابد من التأمل ولكن لابد أيضاً من الزراعة المسلحة لابد من الحالوتسيم: الرواد.

الهجرة الشعبية (أي الاستيطانية) في تصوُّر بن جوريون لا تعمل حساباً للتاريخ بل تتجاهل الزمان تماماً وتنساب إلى المكان الذي خلقت فيه ظروف مواتية لاستيعابهم (أي مكان الاستيطان) وهكذا تحل صهيون الاستيطانية محل صهيون القلب. إن عدم أخذ التاريخ أو الظروف القائمة في الحسبان مسألة جوهرية بالنسبة لبن جوريون فهو يتحدث بإسهاب عن الإرادة ودورها ويصف الحالوتسيم بأنهم محاربون بناؤون يكرسون كل قواهم لتحقيق أهدافهم.

وتكتسب هذه العبارات الرومانتيكية معنى واضحاً للغاية، حين يقارن بن جوريون الرواد الصهاينة (أي المستوطنين الصهاينة الأول) بالمستعمرين الأول في أمريكا الذين ذهبوا إلى العالم الجديد مسلحين برؤية ظنوها إلهية، تماماً مثل الصهاينة. ثم يتحدث بن جوريون عن أحزانهم ومتاعبهم التي تحملوها، ثم عن المعارك الضارية التي خاضوها ضد الطبيعة الوحشية والهنود الأكثر وحشية، وعن التضحيات التي قدموها قبل أن يفتحوا القارة "للهجرة الشعبية" والاستيطان. والطريقة التي تحدث بها بن جوريون عن العالم الجديد تبيِّن أنه يعتبر أن الهنود إن هم إلا جمادات أو جزء من الخلفية الطبيعية التي يجب على الرواد هزيمتها وتعديلها لتلائم احتياجات المهاجرين من أنصاف الأنبياء.

ويعترف بن جوريون نفسه أنه منذ بدأ الاستيطان في أرض الميعاد، الخاوية الطبيعية البدائية، وهو مرتبط تمام الارتباط بالدفاع. ويكتب بن جوريون واصفاً حياة الرواد في هذه الكلمات: "كنا ننتظر مجيء الأسلحة ليلاً ونهاراً، ولم يكن لنا حديث إلا الأسلحة، وعندما جاءتنا الأسلحة، لم تسعنا الدنيا لفرط فرحتنا، كنا نلعب بالأسلحة كالأطفال ولم نعد نتركها أبداً... كنا نقرأ ونتكلم والبنادق في أيدينا أو على أكتافنا". ويبيِّن بن جوريون أنه حتى الآن في إسرائيل يتخذ التعليم الزراعي طابعاً عسكرياً إذ أن له هدفين: واحد زراعي والآخر عسكري، كما أنه يعلن الدور الذي يلعبه الجيش الإسرائيلي في عملية الريادة والاستيطان: "لقد أثبت الجيش كفاءته في عملية الريادة، فقد درب آلاف الشبان والشابات على الحياة في المزارع كما شيَّد الكيبوتسات على الحدود مع قطاع غزة وفي النقب والخليل".

والعنف عند بن جوريون يكتسب بُعداً خاصاً ويصبح غاية في حد ذاته، بل وسيلة بعث حضاري إذ يقول: "بالدم والنار سقطت يهودا وبالدم والنار ستقوم ثانية". وعبارة بن جوريون مبنية على تصور جديد للشخصية اليهودية على أنها شخصية محاربة منذ قديم الأزل: "إن موسى أعظم أنبيائنا هو أول قائد عسكري في تاريخ أمتنا"، ومن هنا يكون الربط بين موسى النبي وموشي ديان مسألة منطقية بل حتمية، كما أنه لا يكون من الهرطقة الدينية في شيء أن يؤكد بن جوريون أن خير مفسر ومعلق على التوراة هو الجيش، فهو الذي يساعد الشعب على الاستيطان على ضفاف نهر الأردن مفسراً بذلك ومحققاً لكلمات أنبياء العهد القديم. وكتابات بن جوريون تزخر بإشارات إلى بركوخبا (البطل اليهودي) والمكابيين والغزو اليهودي لأرض كنعان وبطولات اليهود عبر العصور. بل إن خطابات بن جوريون الخاصة تعبِّر عن أحلامه العسكرية فهو يذكر في رسالة إلى ابنه أن الدولة اليهودية المزمع إنشاؤها في فلسطين سيكون فيها أحسن جيش.

وكمحاولة لتحقيق هذه الأحلام حينما جاءت الساعة، بذل بن جوريون قصارى وسعه لإنشاء القوة العسكرية الصهيونية، فقد كان من المنادين بفكرة اقتحام الحراسة (والعمل والزراعة والإنتاج) وأسس لذلك جماعة الحارس ثم الهاجاناه، وكان من بين المنادين بتسليح المواطنين اليهود. ولكنه كان يحاول دائماً ألا يصطدم بالقوة الإمبريالية الحاكمة الراعية، أي إنجلترا. وحينما اضطر إلى أن يفعل ذلك، حاول أن يُبقي الاصطدام عند حده الأدنى لتيقُّنه من أن العرب هم العدو الأساسي. وحينما أُنشئت الدولة، قام بحل المنظمات العسكرية الصهيونية كافة، مثل الإرجون والبالماخ، وضمها إلى الهاجاناه وحوَّلها جميعاً إلى جيش الدفاع الإسرائيلي. وقد شغل بن جوريون منصب وزير الدفاع في جميع الوزارات التي رأسها، كما ساهم في صياغة سياسة إسرائيل الخارجية وتأكيد دورها كحارس للمصالح الإمبريالية نظير الحماية الإمبريالية التي تحصل عليها. وفي إطار هذا، عقد تحالفاً مع فرنسا عام 1955 وجهَّز لحرب عام 1956 ليضرب الحكومة المصرية التي كانت آنئذ تمدُّ الثوار في الجزائر بالمساعدة. وقد استمر هذا خط أساسياً للسياسة الخارجية الإسرائيلية حتى وقتنا الحاضر.

وقد لعب بن جوريون دوراً مهماً في مسألة المطالبة بالتعويضات الألمانية مثل الدور الذي لعبه إلى جانب غيره من العماليين في إفشال المعارضة اليهودية لاتفاقية الهعفراه المبرمة بين المنظمة الصهيونية العالمية والحكومة النازية، وقضى أيام حياته الأخيرة في كيبوتس سدى بوكر يكتب تاريخاً لليهود في العصر الحديث، وشرحاً للتوراة.

والمُلاحَظ أن بن جوريون كان متأرجحاً في أفكاره السياسية إذ كان يصرح أحياناً بضرورة التنـازل عن كل الأراضي المحتـلة نظير السـلام مع العرب، ولكنه في أحيان أخرى، بعد رؤية الانتصارات العسكرية الإسرائيلية، كان يصرح بوجوب الاحتفاظ بكل الأراضي. وتفسير ذلك أنه كان يستمد رؤيته للواقع والتاريخ والتوراة والتلمود من انتصارات الجيش الإسرائيلي. وينسى الكثيرون أن بن جوريون كان من أكبر الاشتراكيين الصهاينة وأن فكره "الاشــتراكي" الصهـيوني ملأ عدة مجلدات، ولكن اشتراكيته تنبع في الواقـع من إيمان عميق بتفوق الشعب اليهودي ومن أحلامه المشيحانية، وهي أحلام عنصـرية تستبعد غير اليهود وتجعل الاشتراكية وسيلة طيعة للاستيطان، لا مصدراً للقيم الإنسانية أو وســيلة للتعــامل مع الواقــع بكل أبعاده الطبيعــية والتاريخية. ولبن جــوريون عــدة مؤلفاـــت، من أهمها بعث إسرائيل ومصيرها (1952)، و إسرائيل: سنوات التحدي (1963).

مناحــم بيجـــين (1913-1992(

Menahem Begin

زعيم صهيوني تصحيحي، تلميذ هرتزل وجابوتنسكي، وزعيم حزب حيروت وتحالف ليكود، وسياسي إسرائيلي من الحرس القديم، وهو عضو الكنيست وزعيم منظمةالإرجون السابق. وُلد في بولندا، وتَخرَّج في كلية الحقوق بوارسو ثم انضم إلى منظمة بيتار، وقد اعتقلته السلطات السوفيتية عام 1940 ثم أطلقت سراحه وانضم إلى الجيش البولندي. وعند وصوله إلى فلسطين عام 1942، تولَّى قيادة فرع منظمة بيتار هناك. وفي أواخر عام 1943 تولَّى قيادة الإرجون التي اشتهرت بمذابحها ضد المدنيين الفلسطينيين.

وقد شكل بيجين منظمة الإرجون التي تميزت عملياتها بالسعي المتعمد لإرهاب العرب وإخراجهم قسراً من فلسطين، أما عملياتها ضد بريطانيا فكانت محدودة، ولكن بيجين، مع هذا، يضخمها ويجعل منها أساطير وملاحم. وقد سببت تصرفات الإرجون بقيادة بيجين ضد حكومة الانتداب بعض الحرج للوكالة اليهودية (ورجال الهاجاناه) فهؤلاء كانوا على اتصال بحكومة الانتداب البريطاني يتلقون مساعداتها وينسقون معها للاستيلاء على فلسطين. فالوكالة اليهودية كانت لا تمانع في ممارسة ضغوط ضد حكومة الانتداب ولكن بأساليب أخف مما كان بيجين يريد، وبشكل أكثر مراوغة وصقلاً.

ولكن التناقض الحقيقي بين الهاجاناه والإرجون لم يبدأ إلا حينما حاول بيجين إنشاء سلطة موازية لسلطة بن جوريون، فاستخدم بن جوريون القوة العسكرية المباشرة ضد الإرجون، ثم قام بضم مقاتليه إلى القوات النظامية للجيش الإسرائيلي.

وفي عام 1949، قام بيجين بتشكيل حزب حيروت الذي ورث شعارات بيتار والإرجون وليحي وفحواها أن الحد الأدنى لأرض إسرائيل هو ضفتا نهر الأردن، وأن القوة العسكرية هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا الحد الأدنى، فهذه هي اللغة الوحيدة التي يفهمها العرب. ودعا الحزب إلى الاقتصاد الحر وعدم تدخل الدولة في الانشاط الاقتصادي. وقد اعتمد الحزب على شخصية زعيمه مناحم بيجين وقدراته الخطابية الذي قاد المعارضة في إسرائيل وحصل منذ انتخابات الكنيست الثالثة على المرتبة الثانية من حيث القوة العددية، وأتيح له دخول الوزارة الائتلافية برئاسة ليفي إشكول عشية حرب 1967. ثم انضم بيجين ثانيةً إلى حكومة جولدا مائير الائتلافية عام 1969 ليشغل منصب وزير الدولة، ولكنه انسحب منها حين قبلت مبادرة روجرز في أغسطس عام 1970، وعاد من ثم إلى قيادة المعارضة مسجلاً تقدماً مطرداً. ثم صعد تكتل الليكود، الذي أسسه عام 1973، إلى المرتبة الأولى عام 1977 (بسبب تداعيات حرب 1973 وأصوات اليهود الشرقيين). وقد استمر في معارضته انسحاب إسرائيل من أيٍّ من الأراضي العربية التي احتلتها في حرب عام 1967.

وقد ظهر بجلاء رفض العالم لتاريخه الدموي أثناء زيارته لإنجلترا في يناير عام 1972، إذ أدانته الدوائر الإعلامية فيها نظراً للدور الذي لعبه في مذبحة دير ياسين. ومع هـذا، تَعلَّم العـالم الغربي الحـديث المرن كيف يتعامل مع بيجين، فقد استقبلته كل الدول بعد أن فاز حزبه بالانتخابات عام 1977 (على عكس ما حدث مع فالدهايم). وأثناء رئاسته، قام بتغييرات اقتصادية نتج عنها تصاعُد المعدلات الاستهلاكية في إسرائيل. وقد تبادل هو والرئيس السادات الزيارات، وتم توقيع اتفاق كامب ديفيد وصار بيجين بطلاً للسلام وتقاسم مع السادات جائزة نوبل للسلام بعد عامين من بلوغه سدة الزعامة في إسرائيل (في نكتة شهيرة لجولدا مائير قالت: إن السادات وبيجين يستحقان جائزة أوسكار للتمثيل لا جائزة نوبل للسلام). لقد التزم بيجين الفكرة الرئيسية التي التزمها القادة الصهاينة من قبل، وهي أن الصلح مع الدول العربية وفقاً للشروط الإسرائيلية مطلب إسرائيلي دائماً، وأن أساس هذا الصلح اعتراف العرب بالأمر الواقع ضمن ميزان القوة العسكرية القائم، ومضمون التعامل مع إسرائيل ككيان أصيل في المنطقة. فوافق بيجين على الانسحاب من سيناء مقابل انسحاب مصر من المواجهة مع إسرائيل والاعتراف بها اعترافاً كاملاً وتطبيع العلاقات. وأثناء حكومة بيجين تم ضرب المُفاعل النووي العراقي أثناء توليه رئاسة الوزارة.

وقد أصيب بيجين بالاكتئاب ثم استقال من الوزارة بسب تورُّطه في حرب لبنان («المستنقع اللبناني» على حد قول الصحف الإسرائيلية)، إذ يبدو أن شارون قد أقنعه أن القوات المسلحة الإسرائيلية ستقوم بعملية عسكرية صغيرة من النوع الجراحي الإجهاضي الذي تجيده! ولكن، كما هو معروف، لم تتمكن القوات المسلحة الإسرائيلية من إنجاز هدفها (تحطيم البنية التحتية لكل أعمال المقاومة الفلسطينية واللبنانية) ووجدت نفسها متورطة في حرب طويلة، وبدأت حركات الاحتجاج في إسرائيل. وقد خَلَفه شامير في الوزارة.

واستقالة بيجين تذكِّر باستقالة بن جوريون وجولدا مائير اللذين استقالا مفجوعين بواقعهما وبالصراعات التي دارت حول خلافتهما، فتفاعلات حرب لبنان أدت في النهاية إلى استقالة بيجين متأثراً بموجة الهياج العام ضده، إضافة إلى استمرار الصراعات حول خلافته بين كل من إسحق شامير رجل الاغتيالات القديم، وأريئيل شارون، سفاح قبية وصبرا وشاتيلا، وديفيد ليفي اليهودي المغربي الذي يشكل عامل الاستقطاب الرئيسي لأصوات اليهود المغاربة، وموشيه أرينز الذي خلف شارون في وزارة الدفاع.

ومن أبرز مؤلفات بيجين التمرد (1951) الذي تناول فيه قصة الإرجون وصرح فيه بفلسفته الداروينية النيتشوية،العلمانية الشاملة.

الحرس الجديد

New Guards

«الحرس الجديد» تعبير يُطلَق على مجموعة تتميَّز بأن أغلبها من الصابرا من جانب، أي أنهم نشأوا في المستوطن الصهيوني في فلسطين قبل عام 1948 (ولذلك يُطلَق عليهم أحياناً اصطلاح «صابرا ما قبل الدولة»)، كما أنهم من جانب آخر يتميزون بأنهم تولوا صياغة مفهوم الأمن القومي للكيان الصهيوني (الجنرالات يجال يادين وإسحق رابين وموشي ديان ويجال آلون وكذلك شيمون بيريز). ولذلك فإن معظمهم أسسوا مكانتهم السياسية استناداً إلى جهودهم وإنجازاتهم في هذا المجال، كما كان لهم تأثيرهم - من خلاله - على السياسة الخارجية (فشيمون بيريز مثلاً يوصف بأنه «مهندس» العلاقات الإسرائيلية الفرنسية والإسرائيلية الألمانية من خلال دوره في صفقات السلاح التي أبرمت لتلبية احتياجات المؤسسة العسكرية).

والتصور السائد هو أن الحرس الجديد كان أكثر برجماتية ومرونة من الحرس القديم، وأن ثمة صراعاً فعلياً قد نشب بينه وبين الحرس القديم، ولكن من المعروف أن كلا المجموعتين تنتميان لنفس العقلية أو الذهنية، أي عقلية الهجرة الصهيونية الاستيطانية الثانية. ورغم أن أعضاء الحرس الجديد يعترفون بالوجود العربي نظرياً على عكس أسلافهم، فإنهم يتبنون نفس أسلوبهم في الإصرار على التعامل مع العرب من مركز القوة. ولم يرتبط الذبول التدريجي للحرس القديم بتغير ملموس أو ملحوظ في تصورات النخبة السياسية، وما مواقف إسحق رابين ويجال آلون وشيمون بيريز وياريف إلا إعادة إنتاج لمواقف جولدا مائير وأبا إيبان وإسحق سابير في ظروف جديدة. وكل هذا يؤكد أن الحرس القديم قد صنع الإطار العقيدي للدولة الصهيونية وأن تأثيره يتجاوز مجرد الإمساك بمقاليد السلطة ويمتد إلى القيم والتقاليد والممارسات المستمرة، ويرتبط بالطبيعة الاستيطانية لذات الكيان الصهيوني.

هذا ويميِّز بعض الباحثين بين جيلين أو فريقين في الحرس الجديد، الجيل الوسط (موشي ديان - يجال آلون - شيمون بيريز) الذي نبتت صهيونيته واستيطانيته تحت ظلال الإمبريالية الأوربية، مقابل «جيل الأمريكيين» الذي كان يتزعمه إسحق رابين رئيس الوزراء السابق الذي كان ينادي بالاعتماد الكامل على الإمبريالية الأمريكية. وهو تمييز ليس له مقدرة تفسيرية عالية، كما بيَّنت الأحداث اللاحقة، فقد عمل شيمون بيريز بكفاءة عالية تحت المظلة الأمريكية.

وقد عاش أعضاء الحرس الجديد منذ البداية في الدولة وساهموا في بنائها سواء اقتصادياً أو حربياً ولكنهم لم يساهموا في صناعة الأيديولوجية الصهيونية، وإنما تشرَّبوها ورضعوها، فمحددات فكرهم وسلوكهم هما الصهيونية والحفاظ على الدولة. وقد شهد هذا الجيل ظهور الصهيونية التصحيحية مرة أخرى من خلال انقلاب عام 1977 وانتخاب مناحم بيجين. وقد صاحب هذا تصاعد صوت ممثلي اليهود الشرقيين ودعاة الصهيونية الإثنية ذات الديباجات الدينية. وهذا الجيل هو الذي دخل مفاوضات السلام مع العرب، حيث وجد نفسه بين خيارين، إما التمسك بالمبادئ العامة والأساسية للصهيونية القائمة على التوسع وأرض إسرائيل الكاملة أو الدخول في عملية سلام مع الدول العربية والشعب الفلسطيني، ولكن قيادات ذلك الجيل حاولت المزاوجة بين الخيارين بمعنى عدم التخلي الكامل عن فكرة أرض إسرائيل مع الاستفادة من الاعتراف العربي ونيل الشرعية والقبول. وحدث انقسام بين اليمين ودعاة الصهيونية العمالية، أو بين من يتمسك بالصهيونية القائمة على نفي الشعب الفلسطيني والتمسك بأرض إسرائيل الكاملة من جهة (صهيونية الأراضي)، ومن جهة أخرى الصهيونية العملية التي ترى استحالة استمرار الكيان الإسرائيلي في حالة حرب مستمرة ضد جيرانه ومن ثموجوب التوصل إلى حل وسط إقليمي (الصهيونية الديموجرافية أو السكانية). وأهم أعضاء الحرس الجديد هم رابين وبيريز وشارون.

يتسحاق رابين (1922-1995(

Isaac Rabin

زعيم سياسي وعسكري بارز ورئيس وزراء سابق، من الحرس الجديد. اسمه الأصلي إسحق رابينوفيتش، وهو من مواليد القدس. درس في مدرسة زراعية، وتلقى دورات تأهيل عسكرية في إطار البالماخ الذي التحق به عام 1940، ودرس لاحقاً مدة عام في الكلية الحربية للقيادة والأركان في بريطانيا. شارك في حرب 1948 كضابط عمليات، ثم قائد لواء عسكري، ثم ضابطاً للعمليات على الجبهة الجنوبية. وفي عام 1949 شارك في وفد إسرائيل في محادثات الهدنة مع مصر في رودس.

شغل خلال الأعوام العشرين التالية مناصب رفيعة في الجيش الإسرائيلي: قائد المنظمة الشمالية (1956 ـ 1959)، رئيس شعبة العمليات ونائب رئيس الأركان (1959ـ 1964)، رئيس الأركان (1964 ـ 1968) حيث قاد الجيش الإسرائيلي خلال حرب 1967. لكنه تقاعد من الجيش في مطلع عام 1968، وعُين في إثر ذلك سفيراً لإسرائيل لدى الولايات المتحدة، وشهدت فترة خدمته سفيراً في واشنطن تحولاً بالغ الأثر في العلاقات الإستراتيجية بين البلدين.

عاد إلى إسرائيل عام 1973، ونشط في صفوف حزب العمل. وفي ديسمبر 1973 انتُخب وزيراً للعمل في حكومة جولدا مائير. وعقب سقوط حكومة مائير، بسبب نتائج حرب 1973، انتخبه حزب العمل لرئاسة الحكومة. وفي يونيه 1974 نالت حكومته ثقة الكنيست. واختار إسحق رابين شيمون بيريز وزيراً للدفاع خشية انسحاب كتلة رافي من حزب العمل. واشتد الخلاف بين الرجلين واستفاد بيريز من حالة التوتر والإرهاق العصبي التي أصابت رابين، وصارت السياسة صراع مزايدات بينهما. وفي ظل هذه الحكومة تم التوصل بوساطة أمريكية إلى اتفاقات فصل القوات مع مصر وسوريا (1974)، وإلى الاتفاق المرحلي مع مصر (1975). كما تم، خلال عام 1975، توقيع أول مذكرة تفاهم بين إسرائيل والولايات المتحدة.

وقد انتهت حكومة رابين نهاية غير طبيعية عبر طرح الثقة في الحكومة وسقوطها، إثر قيام رابين باستقبال طائرات حربية جديدة من طراز إف - 15 قادمة من الولايات المتحدة في يوم السبت، وهو ما اعتبره حزب أجودات يسرائيل خرقاً لحرمته. كما تمكن بيريز من كشف فضيحة مالية لزوجة رابين (تدور حول احتفاظها بحساب بالدولار في الولايات المتحدة خلافاً للقوانين التي تحظر ذلك) الأمر الذي سد الباب أمام عودة رابين إلى رئاسة الحزب في تلك الفترة.

وتدل سيرة الخدمة العسكرية لرابين وشخصيته في ظاهرهما على الثقة والتماسك بل الصلابة، ولذلك فإن انهياره العصبي عشية حرب 1967 وإصابته بهستيريا الذعر وهو في قمة المناصب العسكرية، تدل على هشاشة التركيب المعنوي حتى للنخبة الإرهابية التي رُبيت في البالماخ، وتبيِّن الأساس الموضوعي لما يُسمَّى «الهاجس الأمني».

وقد ظل رابين في حزب العمل في مقدمة الصف الأول، وظل محور استقطاب كبير في أوساط الحزب، وإن استسلم أمام بيريز قانعاً بأن يصطف وراءه حتى حانت له الفرصة عام 1992 ليحتل منصب رئيس الحزب ورئيس الوزراء مرة أخرى. وقد بقي رابين بعد هزيمة حزب العمل في انتخابات عام 1977 عضو كنيست في المعارضة وشارك في عضوية لجنة الشئون الخارجية والأمن. وخلال غزو لبنان عام 1982 قدم دعمه العلني لوزير الدفاع آنذاك أريئيل شارون. وفي ظل حكومة الوحدة الوطنية (1984 ـ 1990) تولَّى رابين منصب وزير الدفاع، وقدم عام 1985 اقتراح انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان، وإنشاء الحزام الأمني في الجنوب اللبناني. ولدى نشوب الانتفاضة عام 1987 انتهج رابين ضدها سياسة قمعية بالغة العنف، متبعاً سياسة تكسير العظام التي قوبلت باستنكار دولي واسع.

وحانت الفرصة لرابين ليقود الحكومة الإسرائيلية في ظل أجواء عملية التسوية المنبثقة عن مؤتمر مدريد في أكتوبر 1991 ويُقال إثر احتدام الخلاف بين حكومة الليكود بقيادة إسحق شامير والإدارة الأمريكية بقيادة بوش حول موضوع الاستيطان. وفي الانتخابات الحزبية التي جرت قبيل انتخابات الكنيست عام 1992 فاز رابين على منافسه شيمون بيريز، وقاد حزب العمل إلى الفوز في انتخابات الكنيست، وألَّف حكومة عمالية احتل فيها منصبي رئيس الحكومة ووزير الدفاع. وخلال هذه الفترة أبرم اتفاق إعلان المبادئ (اتفاق أوسلو) ومن ثم الاتفاق المرحلي (اتفاق طابا)، كما أبرم خلال عام 1994 معاهدة السلام مع الأردن. وقد اغتيل رابين في تل أبيب يوم 4نوفمبر 1995 على يد أحد أعضاء اليمين الديني،المعارض لاتفاقات التسوية.

ويبدو أن موافقة رابين على توقيع اتفاقات تسوية الفلسطينيين بمنزلة تطوير في رؤيته للوجود العربي وإدراك منه لعمق الأزمة التي تواجه المشروع الصهيوني. ومع هذا يمكن القول بأن الانتفاضة والمقاومة التي أظهرها الشعب الفلسطيني جعلته يدرك أزمة الصهيونية وعدم قدرتها على الاستمرار في الاحتلال بنفس الأساليب القديمة، فكانت فكرة الحكم الذاتي التي تقوم على سيطرة إسرائيل على الأرض دون الشعب. فرابين - شأنه شأن معظم الزعماء الصهاينة من اليمين واليسار - كان يتمنى أن يستيقظ ليرى قطاع غزة وقد غرق في البحر من شدة أعمال المقاومة ضد الجيش الإسرائيلي فيه. وقد مكنته اتفاقات التسوية من الحصول على جائزة نوبل للسلام بالمشاركة مع كل من بيريز وعرفات.

شـيمون بيريـز (1923 ( –

Shimon Peres

رئيس وزراء عمالي سابق، ومن أبرز الشخصيات التي تتلمذت على يد بن جوريون، وهو من الحرس الجديد. وُلد في بولندا ثم هاجر إلى فلسطين عام 1934 (وهو بعد في العاشرة من عمره)، ودرس في إحدى المدارس الزراعية، ودرس لاحقاً في جامعة نيويورك ثم في كلية إدارة الأعمال في جامعة هارفارد. عيَّنه بن جوريون، خلال فترة 1947 ـ 1948، مسئولاً عن مشتريات الأسلحة والتجنيد في هيئة أركان الهاجاناه، ثم مسئولاً عن سلاح البحرية عام 1948، ورئيساً لبعثة وزارة الدفاع في الولايات المتحدة عام 1949. وقد شغل خلال فترة 1952 ـ 1953، منصب نائب المدير العام لوزارة الدفاع، ثم مديراً عاماً لها لمدة سبعة أعوام (1953 ـ 1959). وخلال هذه الفترة أعاد تنظيم وزارة الدفاع، وبادر إلى إنشاء الصناعات الجوية والمشروع النووي الإسرائيلي، وكان مسئولاً عن تطوير العلاقات الخاصة مع فرنسا. وفي عام 1959 انتُخب عضواً في الكنيست ثم عمل نائباً لبن جوريون في وزارة الدفاع من 1959 - 1965، حيث وضع الأساس للبنية التحتية العلمية للأسلحة النووية في إسرائيل. وقد قام، كذلك، بتطوير العلاقة بين الدولة الصهيونية وألمانيا الغربية لتزويد إسرائيل بأسلحة ألمانية.

ويُلاحَظ أن بيريز ظهر دائماً ضمن ثنائي يقف من ورائه بن جوريون، والأول في هذا الثنائي كان موشى ديان. وكان تعيين بيريز في منصب المدير العام لوزارة الدفاع راجعاً إلى أن بن جوريون كان يستهدف أن يضمن الولاء الشخصي لقيادته، فبيريز ليس من العسكريين أساساً، ولا من الأسماء اللامعة في المنظمة الصهيونية أو الوكالة اليهودية، ولكنه استمد خبراته من الحقل النقابي الطلابي ومن العمل الحزبي في نطاق حركة العمل. وقد تغلغل نفوذ بيريز في كل من المجتمع العسكري والمؤسسة العسكرية وصارت كلمته نافذة في الجيش، كما صارت له مكانة خاصة لدى بن جوريون وحزب الماباي أيضاً، الأمر الذي أثار تخوف القادة المخضرمين مثل ليفي إشكول وإسحق سابير وجولدا مائير.

وإثر انسحاب بن جوريون من حزب الماباي عام 1965، بسبب تداعيات فضيحة لافون، شارك بيريز مع بن جوريون وموشي ديان في تأسيس حزب رافي، وعُيِّن سكرتيراً عاماً للحزب. ولكن الحزب فشل في الحصول على أغلبية نسبية تمكنه من تشكيل الحكومة (10 مقاعد في انتخابات عام 1965). ولكن شخصية وطموحات كل من بيريز وديان جعلتهما يرفضان الانتظار في صفوف المعارضة. ومع تصاعد نذر حرب عام 1967 تم تشكيل حكومة وحدة وطنية عُيِّن ديان فيها وزيراً للدفاع. وفي أواخر عام 1967 قرر كل من ديان وبيريز أن يعودا إلى حزب العمل بعد أن أعلنا حل رافي تاركين بن جوريون في الفراغ. وعكف بيريز على العمل الدؤوب داخل الآلة الحزبية من أجل الاندماج من جديد في الحزب والتعبير عن ولائه بجهد يعوض اهتزاز ذلك الولاء سابقاً.

شغل بيريز مناصب وزارية مختلفة في فترة 1969 - 1977 منها وزير استيعاب وهجرة، ثم وزير المواصلات والاتصالات 1970 - 1974، ثم وزير الإعلام في مارس 1974، ثم وزير الدفاع في حكومة رابين في فترة 1974 - 1977 التي شهدت توقيع الاتفاق المرحلي مع مصر عام 1975، وقد شارك بيريز في المفاوضات المؤدية إليه. ثم شهدت هذه الفترة بداية الصراع بين بيريز ورابين منذ انتخاب رابين زعيماً خلفاً لجولدا مائير، وهو المنصب الذي كان بيريز يطمح إليه بعد تضعضع سلطة موشي ديان.

وفي عام 1977 انتُخب بيريز رئيساً لتجمع المعراخ. ولدى تأليف حكومة الوحدة الوطنية عام 1984، تولى بيريز فيها منصب رئيس الحكومة مدة عامين 1984 - 1986 ثم منصبي نائب رئيس الحكومة ووزير الخارجية (1986 - 1988). وخلال فترة ولايته كرئيس للحكومة انسحبت إسرائيل من جزء من الجنوب اللبناني (1985)، وطبقت خطة لتثبيت الاقتصاد الإسرائيلي. وفي حكومة الوحدة الوطنية الثانية (1988 - 1990) تولَّى بيريز منصبي نائب رئيس الحكومة ووزير المالية. وبعد انسحاب حزب العمل من الحكومة قاد المعارضة في الكنيست حتى عام 1992.

وقبيل انتخابات الكنيست عام 1992 نافس إسحق رابين شيمون بيريز على رئاسة حزب العمل في الانتخابات الداخلية في فبراير عام 1992، ولكن الفوز كان من نصيب رابين. وشهدت الفترة التالية هدوءاً داخلياً أسهم في فوز حزب العمل في انتخابات الكنيست، وتم تعيين بيريز وزيراً للخارجية في حكومة رابين التي ألفها في يونيه 1992، وأدَّى دوراً أساسياً في إبرام اتفاقي أوسلو وطابا مع منظمة التحرير الفلسطينية وفي توقيع معاهدة السلام مع الأردن. وإثر اغتيال رابين في نوفمبر 1995، شكَّل بيريز حكومة جديدة برئاسته واحتفظ فيها بمنصبي رئيس الحكومة ووزير الدفاع. ورغم هزيمة حزب العمل في انتخابات الكنيست عام 1996 استمرت طموحات بيريز في التمسك بالسلطة وذلك عبر مقترحات تشكيل حكومة وحدة وطنية بين العمل والليكود. ومع إجراء الانتخابات الداخلية للحزب في يونيه 1996 تمكن إيهودا باراك من الفوز برئاسة الحزب منتصراً على يوسي بيلين الذي يدعمه بيريز. وما يزال بيريز مصراً على الاستمرار في الساحة السياسية وعدم اعتزال العمل السياسي، ولتحقيق هذا الهدف أسس معهد بيريز للسلام ضم في مجلس أمنائه كلاً من كارتر وجورباتشوف.

ويُعدُّ بيريز المُنظر الأساسي للسوق الشرق أوسطية وفكرة إدماج إسرائيل في المنطقة عبر إنشاء نظام إقليمي للتعاون الأمني والاقتصادي. وقد طرح تلك الآراء في كتابه الشرق الأوسط الجديد، معتبراً فيه أن السلام والتعاون الاقتصادي كفيلان بحل بنية تحتية ومشاريع اقتصادية مشتركة تكفل الأمن لإسرائيل، بحيث تتم تحالفات بين إسرائيل والنظم العربية لمواجهة خطر الإرهاب وصعود الحركات الإسلامية.

ولكن التناقضات الداخلية لتلك الرؤية أسفرت في النهاية عن فشل بيريز في الفوز في انتخابات الكنيست عام 1996، رغم ارتدائه بزة الحرب وتنفيذ عملية عناقيد الغضب ومذبحة قانا في مارس 1996، ورغم الدعم الخارجي من قبَل الولايات المتحدة له ولحزب العمل.

أرييل شارون (1933 (–

Ariel Sharon

زعيم صهيوني من الحرس الجديد من مواليد كفار ملال. درس التاريخ وعلوم الاستشراق في الجامعة العبرية في القدس، وأكمل تحصيله الجامعي في كلية الحقوق في تل أبيب،ثم حصل على شهادة جامعية عام 1996. اسمه الأصلي أريئيل صموئيل مردخاي شرايبر، وهو من يهود بولندا أصلاً، وقد عاش أبوه بعض الوقت في القوقاز أيضاً، ثم هاجر إلى فلسطين وعمل مزارعاً في مزارع الموشاف، وأرسله والده إلى الكلية الزراعية ولكنه لم يكن راغباً في الدراسة. وقد اشترك في الحرب الصهيونية ضد العرب عام 1948 وأصيب في بطنه (بينما كان يحرق أحد الحقول) وكاد يُقتل لولا أن قام جندي شاب بنقله إلى مكان آمن (وقد أصبح ولاؤه أثناء القتال لا يتجه إلى الوطن ككل وإنما إلى المقاتلين معه وحسب. وقد صارت هذه إحدى العقائد الأساسية في الجيش الإسرائيلي(.

لم يبرز شارون إلا بعد عام 1948 كضابط في الوحدات الخاصة التي تعمل بإمرة الاستخبارات العسكرية للقيام بالأعمال الانتقامية ضد مخيمات اللاجئين والقرىالفلسطينية الحدودية حيث عهد بهذه الغارات إلى وحدة خاصة أُنشئت في أغسطس 1952 وأطلق عليها اسم «الوحدة 101». وقد اختار شارون أفراد الوحدة («شياطينها» كما كانوا يُدعون) بنفسه من مجرمين وأصحاب سوابق ولصوص وقتلة، فاتجه إلى قرية قبية العربية الفلسطينية التي تقع شمال القدس على بُعد كيلو مترين من حدود 1967، ثم طوقت قواته القرية وغمرتها بوابل من نيران المدفعية فدكت القرية دكاً على من فيها، ثم تقدم المشاة وأجهزوا على الباقين على قيد الحياة. وقد دلت مواضع الإصابات في أجسام الضحايا الذين سقطوا قرب أبواب بيوتهم من الداخل على أنهم لم يُعطوا فرصة مغادرتها (كما يقول تقرير قائد مراقبي هيئة الأمم مما يجعل قبية قريبة من قانا). وقد استعمل في هذا الهجوم جميع أسلحة المشاة من بنادق ورشاشات برن وستن وقنابل يدوية وقنابل حارقة ومتفجرات. ويتلخص «نجاح» شارون في هذه المذبحة فيما يلي:

1 - نسف 41 داراً للسكنى.

2 - قتل 69 شخصاً نصفهم من النساء والأطفال.

3 - قتل 20 رأساً من الماشية بينها بقر وخراف وماعز.

وقد أنكر بن جوريون - رئيس الوزراء الإسرائيلي آنئذ - علمه بالعملية وأكد أنه قام بتحقيق دقيق أسفر بما لا يقبل الشك عن أن جميع وحدات الجيش الإسرائيلي كانت في ثكناتها! وقد تنصل بن جوريون من هذا "النجاح" العسكري نظراً لدمويته، ولكن كتاب المظليين الإسرائيلي الصادر عام 1969 لم يتردد في التباهي بهذه العملية «الناجحة» التي غسلت عار الهزائم التي لحقت بجيش إسرائيل في غاراته الانتقامية السابقة.

ولكن يبدو أن "نجاح" عملية قبية الباهر لم يؤت أُكله إذ أننا نجد أن الجنرال يشترك في حروب "ناجحة" الواحدة تلو الأخرى دون توقف، وكأنه آلة حرب دقيقة الصنع تحرز نجاحات "عديدة متتالية". (ولكن ألا يثير تكرار "الحروب الناجحة" بعض الشك عن مدى نجاحها لأن الحرب "الناجحة" حقاً هي الحرب التي تحقق السلام والطمأنينة والأمن الدائم للمحارب وأهله وشعبه؟(.

عُيِّن شارون قائد لواء مدرع في العدوان الثلاثي على جبهة سيناء، واحتل ممر متلا مخالفاً بذلك الخطة العامة التي كانت تهدف إلى ترك حامية الممر تسقط من تلقاء نفسها حينما يتم تجاوزها وتصبح قوات العدو خلفها (فمن عادة شارون مخالفة الأوامر). ثم تلقى تعليماً عسكرياً في فرنسا بعد حرب 1956، ثم تم تعيينه قائد لواء مدرع (1962 ـ 1964)، ورئيس هيئة أركان المنطقة الشمالية (1964 ـ 1969)، وقائد المنطقة الجنوبية (1968 ـ 1973). وكان قائد القوات الإسرائيلية التي عبرت في حرب أكتوبر 1973 قناة السويس من سيناء إلى الضفة الغربية للقناة وفتحت ثغرة الدفرسوار وهو ما أكسبه سمعة عالية. وقد وصفه زملاؤه بأنه « شيء هادئ الأعصاب... لا يمكنك أن تعرف إن كنت تحبه أو تكرهه، وإن كنت تُعجب به أم تخاف منه».

وبعد "نجاح" 1967 (حين "انتصرت" القوات الإسرائيلية على القوات العربية) نجد أن شارون "ينجح" في طرد 600 بدوي من ديارهم في رفح ليحقق بعض الأمن في غزة (فقد كان قائد المنطقة الجنوبية) وتم دمج هذه الوحدة بقوات المظليين.

ولم يكد شارون يُحال إلى الاحتياط عقب الحرب حتى سارع إلى استثمار السمعة العسكرية التي جناها من الحرب لدخول الساحة السياسية، شأنه شأن كثير من الجنرالات الإسرائيليين. فشرع يشكل حركة سياسية بزعامته يتقدم بها إلى انتخابات عام 1977، مع ملاحظة أنه كان في شبابه عضواً غير نشيط في حزب الماباي ثم الحزب الليبرالي. وفي ظل صعوبة حصوله على أصوات كثيرة عمد إلى إجراء اتصالات مع جميع القوى السياسية حتى تلك التي تتبنى أفكاراً سياسية مختلفة تماماً مثل يوسيساريد، وأشار لهم بأنه مستعد لممارسة مرونة كفيلة بأن تدهشهم إذا هم قبلوا الانضواء تحت لواء قائمته. وتشير تجربة الغزو اللبناني إلى أن وزير الدفاع شارون لم يتغير عن قائد الوحدة 101، وأن سفاح صابرا وشاتيلا هو بعينه سفاح قبية، وعليه فإن تلويحه بالمرونة والاعتدال يجب أن يُفهم في سياق المناورة السياسية.

وجاءت نتيجة انتخابات 1977 لتفوز قائمة شارون بمقعدين، ثم انضم إلى تكتل الليكود شاغلاً مقعد وزير الزراعة ثم وزير الدفاع. وقد كان هو المحرك الرئيسي وراء غزو لبنان عام 1982. وقد اضطر شارون إلى الاستقالة من منصبه كوزير للدفاع عام 1983 إثر تقرير لجنة تحقيق رسمية حملته المسئولية غير المباشرة عن مذبحة صابرا وشاتيلا. وقد استمر شارون في الوزارات التي شارك فيها الليكود بعد ذلك، حيث شغل منصب وزير بلا حقيبة (1982 - 1984)، ثم وزير الصناعة والتجارة (1984 - 1988) ووزير البناء والإسكان (1988 - 1992).

ويكشف صعود شارون إلى مراكز السلطة بهذه السرعة، ومكوثه في الوزارة بعد أن تحمل خسائر حرب لبنان، ونجاحه في تثبيت مواقعه داخل الليكود، بل منافسة شامير نفسه على زعامة الحزب، يكشف ذلك عن الشعبية التي يتمتع بها العسكريون المتشددون في الكيان الصهيوني. تولَّى شارون منصب وزير البنية التحتية في حكومة الليكود برئاسة نتنياهو التي تم تشكيلها إثر انتخابات عام 1996، واستمر في السعي من أجل لعب دور أساسي في القضايا الإستراتيجية، حيث ضغط من أجل ضمه إلى المجلس الوزاري المصغر إلى جانب نتنياهو ووزيري الخارجية والدفاع (ديفيد ليفي وإسحق مردخاي)، واعترض الأخيران على ذلك.

التقى شارون بمحمود عباس (أبو مازن) في يوليه 1997 ليرد على منتقديه الذين رأوا أن دخوله مجلس الوزراء المصغر سوف يعقد المفاوضات مع الفلسطينيين مشيراً إلى أنه الوحيد الذي يعرف كيف يتعامل مع الفلسطينيين. وقد تنازل عن ذلك الذي ظل ينادي به لسنين طويلة، وهو حرمان الدولة الفلسطينية المستقبلية من أي استمرارية جغرافية (يعتقد شارون أن المحافظة على الاستمرارية والاتصال الدائم بين المستوطنات اليهودية داخل الأراضي الفلسطينية يمكن أن تتم خلال بناء الأنفاق تحت الأرض والجسور والطرق الالتفافية بدلاً من البقاء على الاتصال الجغرافي المباشر بين تلك المستوطنات). وقد عرض شارون خريطة على أبو مازن في 16 يوليه 1997 لأنه أراد كما قال "أن يعرف الفلسطينيون ولآخر مرة ما هو موقف إسرائيل من اتفاقية الوضعية النهائية، وما الذي يمكنها أن تفعله، وما الذي لا يمكنها أن تفعله أبداً، ولماذا". ومضى شارون ليقول: "هذه أمور لابد للفلسطينيين أن يفهموها لأنني أعتقد أن هذه هي المرة الأولى التي يسمعونها منا".

ويُعدُّ شارون من أهم أنصار نظرية الضم التدريجي للضفة الغربية. وفي مقال له بجريدة معاريف في نهاية عام 1981 تحت عنوان "المشكلات الإستراتيجية لإسرائيل في الثمانينيات" يتطلع شارون إلى وجوب أن تتخطى فكرة المصلحة الإستراتيجية لإسرائيل المجال المتمثل تقليدياً بالدائرة المحيطة بإسرائيل إلى مجالين جغرافيين آخرين لهما تأثيرهما الأمني:

1 - الدولة العربية البعيدة التي يضيف تعاظم قدراتها العسكرية بُعداً بالغ الخطورة للخطر المباشر الذي يتهدد إسرائيل، سواء عن طريق إرسال قوات خاصة إلى منطقةالمواجهة، أو عن طريق القيام بعمليات جوية وبحرية مباشرة ضد خطوط المواصلات الجوية والبحرية الإسرائيلية.

2 - تلك الدول التي يؤثر التوجه السياسي الإستراتيجي فيها على الأمن القومي الإسرائيلي مثل إيران وتركيا وباكستان ومناطق الخليج الفارسي وأفريقيا، ولا سيما دول أفريقيا الشمالية والوسطى.

وهذه الإستراتيجية لا ترى في الضفة وغزة إلا خطاً خلفياً يقع في قلب إسرائيل، الأمر الذي يتطلب المزيد من مصادرة الأراضي وتفريغها من السكان العرب.

ومن الواضح أن شارون سيكون له دور حاسم هذه الأيام. فهو مصمم على تقرير الضرورات الأمنية والجغرافية في قطاع غزة والضفة الغربية من خلال المحادثات مع الفلسطينيين. وقد أصبح شارون أهم دعاة المشاركة الإستراتيجية بين إسرائيل والمملكة الأردنية الهاشمية ملغياً بذلك الخيار الذي طالما نادى به كثيرون في إسرائيل وهو إقامة دولة فلسطينية في الأردن. كذلك قَبل شارون مبدأ السيادة الفلسطينية على أجزاء من الضفة الغربية وقطاع غزة (من دون القدس بالطبع). والتحدي الذي يراه شارون في التعامل مع الفلسطينيين هو إيجاد إطار سياسي ودبلوماسي ناجح يساعد على تحديد واحتواء صلاحيات الدولة الجديدة ومساحتها الجغرافية.

وتنقل مصادر عن شارون قوله: "يجب على إسرائيل أن تحتفظ في أي تسوية نهائية بمنطقة أمنية في الشرق لا يقل عرضها عن عشرين كيلو متراً وحزام أمني في الأجزاء الغربية من الضفة الغربية يتراوح عرضه بين 7 و10 كيلو مترات". وفوق ذلك يجب أن تبقى القوات الإسرائيلية بصورة دائمة في غور الأردن، وأن تهيمن على جميع الطرق والممرات الجوية والبحرية في الأراضي الفلسطينية.

ومن الواضح أن شارون يسعى إلى تحقيق ثلاثة أهداف أساسية هي:

أولاً: يريد شارون من الجميع أن يفهموا «الخطوط الإسرائيل الحمراء» مع إبداء رغبة في فهم المطالب الفلسطينية.

ثانياً: إعادة المصداقية والثقة إلى المواقف التفاوضية الإسرائيلية.

ثالثاً: تحقيق تنسيق ناجح بين الموقف الإسرائيلي والموقف الأمريكي.

وقد تم الاتفاق بين نتنياهو وشارون على تسوية مؤقتة يحق بموجبها لنتنياهو التشاور مع شارون في الشئون السياسية والأمنية دون أن يدخل مجلس الوزراء المصغر فعلاً. ورغم هجوم شارون على نتنياهو إلا أنه لم يصعِّد من خلافاته معه، مقابل تزايد دور شارون في الحكومة.

ديفيـد ليفـي (1937 - )

David Levy

وزير الخارجية السابق، ورئيس حزب جيشر، من أعضاء جيل الحرس الجديد من الناحية التاريخية، ولكنه من الناحية الفعلية تم استبعاده من صنع القرار، ولعل هذا هو الذي أدى به إلى الاستقالة.

وديفيد ليفي زعيم يهودي سفاردي، وهو من أصل مغربي. وُلد لأبوين محدودي الدخل، هاجر إلى إسرائيل عام 1957 مع من هاجر من السفارد (أي في سن العشرين) وعمل كعامل زراعي أجير في الكيبوتسات القريبة من بيت شان وبعد ذلك عمل في مجالات البناء. وهو ينتمي إلى هذا الجيل الذي يتحدى هيمنة الإشكناز على تأكيد الأمور. ويُقال إن أصوله الطبقية المتواضعة والسفاردية تحد من رغبته في تبوء زعامة حزب الليكود. انتُخب لمجلس بلدية بيت شان (1967) ثم رئيساً للمجلس. وكان رئيساً لحركة حيروت في الهستدروت في نفس الفترة. دخل الكنيست عام 1969 ثم أصبح وزيراً في حكومة الليكود عام 1977 (وزير الهجرة ثم وزير البناء والإسكان) وتطلع لرئاسة الحزب ولكنه فشل في مساعيه وانتهى به الأمر بالانشقاق عن الليكود وتأليف حزب جيشر.

ولكن نظراً لظروف انتخابات عام 1996، فقد خاض حزب جيشر الانتخابات في قائمة واحدة مع الليكود، حيث حصل تكتل (الليكود - جيشر - تسومت) على 32 مقعداً منها خمسة مقاعد لحزب جيشر، وتولَّى على أثرها ليفي وزارة الخارجية حتى استقالته منها في يناير 1998.

وكان ليفي متردداً في الخروج من الحكومة رغم تهميشه الواضح وذلك لحسابات انتخابية تتمثل في خشيته - مثل باقي أعضاء الائتلاف الحكومي - من إجراء انتخابات برلمانية جديدة غير مستعد لها في الوقت الراهن، مما زاد من ازدراء نتنياهو له وتجاهل مطالبه فيما يتعلق بالموازنة لصالح حركة شاس. ولكنه استقال في نهاية الأمر. بعد أن صرح بأن الحكومة توزع ملايين الشيقلات على القطاعات الحزبية المختلفة وتترك الطبقات الفقيرة دون أموال.

وفي موضوع الميزانية حدث تنافس حاد بين حركة ليفي وحزب شاس، فالأخير رسخ قواعد انتخابية وسط اليهود الشرقيين في إطار التشديد على هوية يهودية شرقيةتقليدية ذات ملامح دينية أرثوذكسية، وإرسال حزب إلى الكنيست يتصرف كأنه مجموعة مصالح تمثل قطاعاً سكانياً معيناً، وتستمد لدخول أي ائتلاف بشروطها طالما كان ذلك في مصلحة المجموعة السكانية التي تمثلها، وفي المقابل لم تنجح حركة جيشر في تأسيس هذا النوع من القواعد الجماهيرية، فتجاهل نتنياهو مطالب ليفي لصالح شاس، وتبين لليفي أن وجوده في حكومة نتنياهو لن يساعده على تثبيت وضعه جماهيرياً بل قد يعوقه.

النخبـة الجديدة

The New Elite

«النخبة الجديدة» مصطلح في الخطاب السياسي الإسرائيلي (ويمكن أيضاً تسميته «جيل القوة») يشير إلى جيل السياسيين الذي ظهر بعد الحرس القديم والحرس الجديد، وذلك بعد أن تفاقمت التناقضات في المجتمع الإسرائيلي في مختلف المجالات والمستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وظهرت التناقضات واضحة في علاقة الفرد بالمجتمع والدولة، ويحاول جيل النخبة الجديدة نقل المجتمع إلى مرحلة جديدة تتميَّز بالتحرر من الأيديولوجيا الصهيونية والسياسة المتصلة بالأعباء الجماعية. وهذا الجيل تطغي عليه الهوية الإسرائيلية، فهو عندما يعمل سواء في المجالين المدني أو العسكري فإنه لا يعمل بناء على دوافع أيديولوجية واضحة، كما كان الجيل السابق (الحرس القديم والحرس الجديد)، ولكن بناء على ضرورات الحياة وضرورة التعامل مع الواقع السياسي، فإذا كانت الأجيال السابقة تحكمها عقدة الضياع أو الخوف على الدولة، فإن ذلك الجيل قام ونشأ في ظل وجود الدولة وعاش فيها.

وأعضاء هذا الجيل، شأنهم شأن أعضاء الحرس الجديد، واجهتهم مشكلة التمسك بالاستعمار الاستيطاني الإحلالي من جهة، وصعوبة استمرار الكيان الصهيوني في حالة حرب وعداء دائم مع جيرانه في ظل حقيقة وجـود الشـعب الفلسـطيني واستحالة نفيه أو تغييبه من جهة أخرى. وقد عاش أعضاء هذا الجيل في الفترة التي أعقبت انتصار 1967 الذي لم يدم طويلاً مع حرب 1973، كما عاش ما مرت به إسرائيل من تطورات دعَّمت التناقضات داخل المجتمع مثل غزو لبنان والانتفاضة الفلسطينية. وقد شاهد أعضاء هذا الجيل تفاقم التناقضات داخل التجمُّع الصهيوني وأزمة الصهيونية.

ولذلك ينقسم أعضاء ذلك الجيل الجديد إلى فريقين رئيسيين في الموقف من عملية التسوية وإنهاء حالة الحرب وحلم إسرائيل الكبرى، فريق مندفع مع هذه العملية دون خوف بحافز من الثقة بالنفس ورسوخ الدولة من ناحية والرغبة في التمتع بمزايا السلام والأمن ومغريات الحياة من ناحية أخرى (ممثلو الصهيونية العمالية)، وفريق يرفض هذه العملية رفضا مطلقاً ويعتبرها تهديداً للدولة التي ثبتت أركانها، وتنازُلاً عن حلم أرض إسرائيل الكاملة، وهو تنازل عن حق ينبغي عدم التفريط فيه (ممثلوالصهيونية التصحيحية والصهيونية ذات الديباجات الدينية). ويرتبط بذلك الفريق الأخير تصاعد ونمو الروح القومية الصهيونية والدينية ممثلة في كل من اليمين العلماني واليمين الديني. وهناك تمايزات داخل كل فريق وخصوصاً الفريق الأول.

وكانت بداية التحول إلى الجيل الجديد في الليكود حيث انتصر السياسي الجديد بنيامين نتنياهو عام 1993 على خصومه واستطاع أن يحصل على لقب زعيم المعارضة ثم رئيس الوزراء بعد انتخابات الكنيست عام 1996. وقد تأخر الأمر بعض الشيء في حزب العمل، فرغم صعود الجيل الجديد ممثلاً في إيهود باراك وحاييم رامون ويوسي بيلين، إلا أن قيادات الحرس الجديد ممثلة في رابين وبيريز استطاعت الهيمنة على مقاليد الأمور رغم تمرُّد حاييم رامون وانسحابه من الحزب عام 1994 وتشكيله قائمة مستقلة في انتخابات الهستدروت. ولكن اغتيال رابين (نوفمبر 1995) وهزيمة الحزب في انتخابات 1996 عجلت بإنهاء سيطرة الحرس الجديد، ليفوز إيهود باراك برئاسة الحزب في يونيه 1996 مطيحاً بشيمون بيريز. وأهم أعضاء هذا الجيل دون منازع هما باراك ونتنياهو. ويمكن أن نضم لهما إسحق مردخاي.

إسحق مردخـاي (1944 (–

Isaac Mordechai

رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق. من أصل عراقي كردي، وهو مطلق وأب لاثنين من الأولاد، كان أبوه يعمل حاخاماً. هاجر إلى الدولة الصهيونية عام 1950 (أي وهو بعد في السادسة) فأقام هو ووالدته في أحد المعابر لمدة عشر سنوات (وهو أمر طبيعي بالنسبة ليهود العالم الإسلامي وحدهم) ثم انتقل إلى طبرية (التي يسكنها عدد كبير من يهود كردستان العراق). درس التاريخ في جامعة تل أبيب وحصل على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة حيفا وتخرج من كلية القيادة والتوظيف بإسرائيل.

انخرط مردخاي عند تقاعده في سلك السياسة (شأنه شأن كثير من الجنرالات الإسرائيليين مثل إيهود باراك وأريئيل شارون). وقد عُرف بطموحه وعناده واستقلاليته. كان مردخاي وليفي (قبل استقالة هذا الأخير) يكوِّنان جناحاً داخل الائتلاف الحاكم من أجل الالتزام باتفاق أوسلو، وتنفيذ مراحل إعادة الانتشار كما نصت عليها الاتفاقات. وإثر استقالة ليفي أشار مردخاي إلى أنه سيستقيل من الحكومة إذا لم يتم إعادة الانتشار. ويرى مردخاي تحريك المسار اللبناني وفصله عن المسار السوري، حيث أعلن التزام إسرائيل بالانسحاب من جنوب لبنان انسجاماً مع القرار 425، وفي محاولة من طرف مردخاي وشارون لبلورة خريطة مشتركة للتسوية الدائمة في الضفة الغربية.

والبُعد الأساسي الذي انطلق منه شارون ومردخاي بخصوص الانسحاب يعتمد على فكرة عدم اقتلاع أي مستوطنة يهودية تقع تحت سيادة السلطة الفلسطينية. وكان حزب العمل قد قرر إزالة 12 مستوطنة يسري عليها هذا الشرط، لذلك حرص شارون في خريطته على إيجاد تواصل جغرافي وديموجرافي بين المستوطنات، إضافة إلى خلق كتل استيطانية محاذية للخط الأخضر. ونتيجة لما وصفه شارون بـ «خريطة المصالح القومية» ستكون جميع المستوطنات تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، الأمر الذي يسمح له بالهيمنة على 62% من مناطق الضفة الغربية. ويبدو من مراجعة تفاصيل الخريطتين أن شارون ومردخاي يتفقان على الأهمية الإستراتيجية لغور الأردن وصحراء النقب، ويعتبران السيطرة عليها مصلحة أمنية عليا. وهما يتحدثان عن هذه المنطقة كعازل أو فاصل بين الأردن والكيان الفلسطيني بحيث تبقى فلسطين الصغيرة (أو «ميني - فلسطين» كما يسمونها) معتمدة اعتماداً كلياً على إسرائيل، كما يريان أن الدفاع الإسرائيلي بحاجة دائمة لقطاع بعرض عشرين كيلو متراً يُستخدم كمنطقة تدريب ومناورة.

ولعل أهم ما يميِّز خريطة مردخاي هو خلق تواصل بين الكانتونات الفلسطينية، وطرق تحقيق لإمكانية نقل مناطق صحراوية للسلطة الفلسطينية وهو ما رفضه شامير. وعلى صعيد الوزن السياسي تشير استطلاعات الرأي العام طوال عام 1997 إلى أن مردخاي هو المرشح الأوفر حظاً للفوز برئاسة الحكومة الإسرائيلية إذا أُجريت انتخابات عامة جديدة، وبإمكانه التغلب على كل من نتنياهو وباراك ذوي الأصل الإشكنازي.

إيهـود باراك (1942 (–

Ihud Barak

«باراك» بالعبرية تعني «البرق» وهو من زعماء النخبة الجديدة. وُلد عام 1942 (أي قبيل قيام دولة إسرائيل ببضع سنوات وحسب) وهو من خريجي الكيبوتسات (وُلد في كيبوتس هيشمار هاشارون، القريب من منتجع نتانيا، وهي مكان لتركز الصفوة الإشكنازية). ولا يختلف باراك كثيراً عن نتنياهو في التوجهات السياسية والاقتصاديةولذا يُسمَّى «توأم بيبي».

قضى باراك أهم سنوات حياته (تلك السنوات التي تتشكل فيها الشخصية) في الجيش بادئاً من أسفل السلم، لكنه ارتقى درجات الرتب سريعاً. وعندما تقاعد بعد 35 سنة من الخدمة العسكرية كان قد حصل على أوسمة شجاعة أكثر من أي إسرائيلي آخر. كانت شهرته داخل إسرائيل هائلة، فقد كان بطلاً باعتباره قائداً لفرقة «ساييريت ماتكال» المختارة. وقد شارك عام 1972 في عملية إنقاذ الرهائن من الطائرة البلجيكية التي اختُطفت إلى تل أبيب. وفي العام التالي وضع على رأسه شعراً مستعاراً وارتدى ثياب النساء ليتسلل إلى بيروت. وكان جزءاً من فريق أطلق النار وقتل محمد يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر من قادة منظمة فتح الفلسطينية وهم نيام. وفي الأشهر الأولى للانتفاضة في الضفة الغربية وقطاع غزة، كان باراك قائداً لجيش إسرائيل في الوقت الذي كان إسحق رابين وزيراً للدفاع، وقد أشرف باراك على الخطط التكتيكية التي كانت تُستخدم لمحاولة القضاء على الانتفاضة الفلسطينية حيث قام عام 1988 بإعادة بعث فرق المستعرفيم «أي المستعربين» التي تهدف إلى التسلل متنكرة في أزياء عربية إلى الأوساط الفلسطينية النشيطة في الضفة والقطاع واغتيال قياداتها. وكان أعضاء هذه الفرق يستقلون سيارات غير عسكرية تحمل لوحات خاصة بالضفة والقطاع ويرتدون ملابس مدنية أو ألبسة عربية عريقة، وبعد الانتهاء من عملياتهم كانت عربات الأمن الإسرائيلي تصل متأخرة. وكان باراك هو القائد الرئيسي والموجه لعمليةاغتيال القيادي الفلسطيني البارز أبو جهاد عام 1988 (لدوره في قيادة الانتفاضة(.

عمل باراك نائباً لقائد الجيش في منطقة البقاع في لبنان (أثناء غزو لبنان) ونال درجة الدكتوراه في الفيزياء والرياضيات من الجامعة العبرية (1986)، وعُيِّن رئيساً لقسم الاستخبارات في الجيش عام 1993 وعمل رئيساً لهيئة أركان الجيش الإسرائيلي في أبريل 1990 إلى حين تقاعده في يناير 1995. وبصفته قائداً للجيش شارك في مفاوضات السلام سواء مع الفلسطينيين أم السوريين أم الأردنيين.

كان باراك يلقى الاحترام الشديد خلال عمله في الجيش من الضباط الأقل مرتبة، وقد اشتهر بأنه يتمتع بأسلوب التفوق وبقدر كبير من الغطرسة مما أكسبه لقب «نابليون الصغير». دخل ساحة العمل السياسي في يوليه 1995، عندما عُيِّن وزيراً للداخليـة (في وزارة رابين). وبعد اغتيال رابين في 4 نوفمبر 1995 وبعد تسلُّم بيريز زعامة حزب العمل ورئاسة الحكومة، عُيِّن باراك وزيراً للخارجية، وبعد عامين من تركه البزة العسكرية، تم انتخابه زعيماً لحزب العمل في 3 يونيه 1996 منهياً بذلك ثلاثة وعشرين عاماً من احتكار الحرس الجديد (إسحق رابين وشيمون بيريز) هذا المنصب.

ويعبِّر انتخاب باراك عن تعطُّش حزب العمل إلى زعيم يملك شباب بنيامين نتنياهو وخبرة إسحق رابين العسكرية ليعيد الحزب إلى قيادة إسرائيل على طريقة رابين قبل اغتياله، فباراك هو الشخص القادر على إعادة حزب العمل إلى الحكم. وقد فاز برئاسة الحزب (50.33% من الأصوات) ضد يوسي بلين (الذي يُسمَّى «مهندس عملية السلام» وأحد المقربين من بيريز الذي حصل على 28.51%) والذي يقف وراء اتفاق أوسلو.

ومن المعارضين لقيادة باراك والذين رشحوا أنفسهم ضده هناك حاييم رامون زعيم الهستدروت، وشلومو بن عامي (السفاردي الذي ينتمي لحزب العمل والذي يربط بين السلام والرفاه الاجتماعي والازدهار الاقتصادي والذي حصل على على 14.11% من أصوات الناخبين). وكانت رسالة الناخبين واضحة: نريد زعيماً جديداً، ولكن ليس ممن كانوا يدورون في فلك إسحق رابين، ونريده سياسياً قوياً له سجل عسكري مشهود، أكثر منه منظراً ليبرالياً (أي نريده شخصاً اكتسب «الشرعية السياسية» التي يفتقدها بيريز). وقد انتخب باراك مجموعة غير متماسكة أو متماثلة (من النواحي السياسية والأيديولوجية). فعوزي برعام، الرجل الثاني في الكتلة التي انتخبت باراك، يعتبر من حمائم الحزب وأقرب في وجهة نظره إلى معارضي باراك، كما أن نواف مصالحه وصالح طريف (نائبان عن الكنيست عن الوسط العربي) دعما باراك في معركته الانتخابية مثل كثيرين من حزب العمل لاعتبار واحد، وهو أنهم يعتقدون أنه الأكثر قدرة على هزيمة نتنياهو في أية انتخابات مباشرة على رئاسة الوزراء. (أعلن باراك أن الفرصة الوحيدة لعودة حزب العمل تكمن في كسب ناخبي الوسط في الخريطة السياسية(.

إن كل هذا يُعدُّ دليلاً على أن الرأي العام الإسرائيلي لا يزال يؤمن بما يُسمَّى «السلام الإسرائيلي» القائم على التفوق العسكري والتوازن الإستراتيجي الذي يميل لصالح إسرائيل. ومما تجدر ملاحظته أن باراك لم يكن ذا صبغة حزبية محددة أثناء عمله في الجيش الإسرائيلي، فقد كانت فرص انضمامه إلى أيٍّ منها متساوية إلى حدٍّ كبير، وقد راهن على الغموض في تحديد التزامه الحزبي ومواقفه السياسية. ورغبةً منه في أن يصبح الزعيم الأوحد للحزب وقف باراك بشدة ضد مشروع قـرار بانتخاب بيريز رئيساً فخرياً للحزب، وقد حظى موقفه هذا بموافقة الأغلبية داخل مؤسسات الحزب. ولكن رغم انتصاره هذا فليس هناك ما يشير إلى احتمال أن يفرض باراك برنامجه السياسي بسهولة داخل الحزب، فما زال شيمون بيريز يصر على القيام بدور ما داخل الحزب. ومن جهة أخرى فإن جيل القيادات الشابة الذي صار مسيطراً على الحزب لا يقف موحداً خلف باراك. وقد وقَّع باراك اتفاق «بيلين - إيتان» مع حزب الليكود لإيجاد حد أدنى من الاتفاق بين الحزبين (انظر: «الإجماع الصهيوني القومي»(.

وبالنسبة لآرائه السياسية يشدِّد باراك على موضوع الأمن وله تحفظات على اتفاق أوسلو، وأثناء زيارته لإحدى المستعمرات/ المستوطنات الصهيونية (في رام الله) رفض فكرة الانسحاب إلى حدود 1967. ويتبنَّى باراك مشروع آلون وإن كان يرفض الخطة التي طرحها نتنياهو للحل النهائي على الفلسطينيين والمسماة آلون بلس Allon Plus، وذلك لأن الفلسطينيين يرفضونها مما قد يؤدي إلى انهيار عملية السلام (في تصوُّره)، الأمر الذي سيؤدي (بدوره) إلى زيادة أعمال العنف والإرهاب ضد إسرائيل، وزيادة موازنة الجيش، وزيادة التقلص في السياحة، وإلى هروب الاستثمارات الأجنبية، وإلى تعميق الركود الاقتصادي. وقد أدلى بصوته في الكنيست ضد آخر اتفاق رئيسي توصل إليه إسحق رابين مع الفلسطينيين في سبتمبر 1995. وأعرب عن تأييده لانتقادات أريئيل شارون أحد صقور الليكود ضد الاتفاق في يناير عام 1997 بسحب القوات الإسرائيلية من معظم أنحاء مدينة الخليل في الضفة الغربية. وقد تحاشى، متعمداً، أي اتصال مع ياسر عرفات، ورفض أن يُجر إلى الإعلان عن الأراضي التي يفضل إعادتها إلى الفلسطينيين.

يستخف باراك ببنيامين نتنياهو لأنه يرى إسرائيل حملاً وسط ذئاب بينما يرغب هو في أن يرى إسرائيل حيواناً مفترساً (أو ذئباً بين الجيران، إن صح التعبير). وهو يرى أن الحل الدائم للمشكلة الفلسطينية يتلخص في إنشاء دولة للفلسطينيين. ولكن بينما دعا بيلين (منافس باراك على رئاسة الحزب) إلى إقرار صيغة تعترف بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم لم يوافق باراك على ذكر كلمة «دولة فلسطينية». ولكنه لم يعارض في إقرار صيغة تعترف بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم (وقد وافق مؤتمر الحزب على "صيغة وسط"، وضعها شلومو بن عامي، تنص على أن يعترف حزب العمل بحق تقرير المصير للفلسطينيين، ولا يعارض إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة محدودة. كما يرى باراك ضرورة أن يشمل الحل النهائي القدس الموسعة والموحدة تحت السيادة الإسرائيلية، وكذلك معظم المستوطنات في الضفة الغربية، فضلاً عن وجود استيطاني وأمني في غـور الأردن، وضرورة عـدم مرابطة جيش أجنبي غرب نهر الأردن، وبقاء معظم المستوطنين تحت السيطرة الإسرائيلية، وأن تكون هناك سيطرة على المياه، وألا يكون هناك تطبيق لحق عودة اللاجئين الفلسطينيين. ويقدر باراك المناطق الواقعة خارج مجال السيطرة الإسرائيلية بـ 30% من مساحة الضفة الغربية وهو بذلك يكاد يقترب تماماً من خطط نتنياهو للحكم الذاتي في الضفة التي طرحها أيضاً تحت اسم مشروع آلون الموسَّع.

ويرفض باراك قيام دولة فلسطينية كاملة السيادة، ولكنه قد يوافق على دولة ناقصة السيادة منزوعة السلاح ترتبط كونفيدرالياً مع الأردن (وهذه هي نقطة الاختلاف الأساسية وربما الوحيدة بين المتطرفين والمعتدلين)، ويعتبر باراك أن إسرائيل الدولة الديموقراطية الوحيدة في غابة مملوءة بالأحراش. كما يؤمن بالارتباط الحميم بين القوة والدبلوماسية ولا يخفي نفوره من أساليب السياسيين التقليديين. وهو يعارض الانسحاب الكامل من الأراضي الفلسطينية المحتلة، بل يربط هذا الانسحاب الجزئي بمدى نجاح ياسر عرفات في قمع المقاومة الفلسطينية، كما يعترض باراك على الانسحاب من الجولان ("نحن نرغب في السلام، لكن ليس بأي ثمن، ويجب تحقيق السلام مع الدول المجاورة دون تعريض مصالحنا الأمنية للخطر. فسياسة التخويف التي يتبعها اليمين المتطرف، وسياسة العجز والانهزامية التي يتبعها أقصى اليسار لا يعبران عن واقع إسرائيل ووضعيتها الراهنة" حسب قوله). ولا يؤمن باراك بإسرائيل الكبرى جغرافياً (من النيل إلى الفرات) ولكنه يؤمن بإسرائيل العظمى اقتصادياً (من المحيط إلى الخليج) التي يمكنها تحقيق الهيمنة دونما حاجة إلى الدبابة والمدفع، فالبقاء لسلاح الاقتصاد وحده.

وفي تقييمه للمشروع الصهيوني من أجل الاستيلاء على فلسطين يؤكد باراك أنه متحرر من "الإحساس بالذنب إزاء الفلسطينيين". "فأنا على يقين من أن كل ما حدث كان ضرورياً، أؤمن من أعماق قلبي بأن العمل الصهيوني كان عملاً مهماً جداً وصحيحاً، وأنا أدرك أن تَمسُّكنا بالأرض هنا هو في أساسه حفاظ على الوجود، وينتج عنه نوع من الظلم، لكن على المستوى التاريخي، يبقى هذا الظلم الذي حل بهم [أي بالفلسطينيين] أقل من العدل الذي حصلنا عليه، أو لنقل أقل من الظلم الذي كان سيلحق بنا لو حُرمنا من هذا العدل". (العدل هنا الاستيلاء على فلسطين). وبذلك يبدو أن انتخاب باراك يعبِّر عن تَمسُّك إسرائيل بالمشروع الصهيوني ومبادئه القائمة على الاستيلاء علىالأرض، ويثبت أن التجمُّع الاستيطاني في فلسطين يتجه بصفة عامة نحو اليمين.

قدَّم باراك وحزب العمل «اعتذارهما» الرسمي لليهود السفارد ويهود العالم الإسلامي ("أطلب باسمي وباسم حزب العمال الصفح عن هؤلاء الذين سببوا لهم هذه المعاناة"). وقد علق بيريز على ذلك بقوله: "نعم ارتكبت أيضاً أخطاء، ولكنني أشعر بفخر حقيقي للجهود التي بذلتها إسرائيل في تلك السنوات الأولى لاستيعاب موجة المهاجرين". وقد وصف بعض الإشكناز هذا الاعتذار بأنه اعتذار ضمني عن جرم لم يرتكبوه، والاعتذار محاولة من جانب باراك للتقرب من اليهود السفارد ويهود العالم الإسلامي (من أكبر الكتل الانتخابية في الدولة الصهيونية) لا ندري مدى نجاحها أو فشلها، وإن كانت قد أدت إلى غضب بعض الإشكناز منه.

بنيامـــين نتنياهـــــو (1949 (–

Benjamin Netenyahu

زعيم صهيوني من أبرز زعماء النخبة الجديدة إن لم يكن أبرزهم جميعاً. وُلد في تل أبيب، وحصل على شهادة في المعمار وماجستير في إدارة الأعمال من الـ M. I.T. (معهد ماساشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة)، وهو يتباهى دائماً بالشهادات الجامعية التي حصل عليها من الولايات المتحدة. تزوج ثلاث مرات، الأخيرة منهن من سارة، وهي مضيفة قابلها في إحدى سفرياته (وقد اعترف بخياناته الزوجية المتكررة) وسلوك سارة نفسها أصبح موضوعاً متداولاً في الصحف الإسرائيلية. عيَّنه موشيه أرينز، حينما كان وزيراً للخارجية، الرجل الثاني في الوزارة، ثم سفيراً لإسرائيل في الولايات المتحدة، حيث أصبح شخصية تليفزيونية معروفة للإعلام الأمريكي وليهود الولايات المتحدة وأثريائها مثل رونالد لاودر، صاحب بيزنيس أدوات التجميل، وإرفنج موسكوفيتش، بليونير البنجو الذي يبني الآن المستوطنات "المحظورة" حول القدس (يعارض 85% من يهود أمريكا نتنياهو حسب بعض الإحصاءات). فكر نتنياهو أن ينخرط في سلك رجال الأعمال، ولكنه بدلاً من ذلك (وعند موت أخيه) هاجر إلى إسرائيل وخدم في إحدى وحدات الكوماندوز العسكرية تحت إمرة إيهود باراك. ثم أصبح نائباً لوزير الإعلام في مكتب رئيس الحكومة عام 1993 ومنها أصبح رئيساً لحزب الليكود ورئيساً للوزراء!

وعادةً ما تثار قضية أسرة نتنياهو، لذا يجدر بنا أن نذكر أولاً موت أخيه يوناثان في الغارة على مطار عنتيبي (يُقال إنه كان قائد الحملة). وكان يوناثان هذا هو كبير الأسرة وحامل لوائها، أما أبوه بنزيون نتنياهو (الذي بلغ السابعة والثمانين ولا يزال نشيطاً ثقافياً) فكان شخصية محافظة متسلطة، من أتباع الزعيم التصحيحي الفاشي فلاديمير جابوتنسكي. ولكنه اختلف مع بيجين وجماعته وقضى بقية حياته شبه منفي (بشكل طوعي) في الولايات المتحدة حيث عاش بالقرب من فيلادلفيا وقضى حياته يكتب دراسته عن محاكم التفتيش الإسبانية (عنوان كتابه هو: أصول التفتيش الإسباني في القرن الخامس عشر). وجوهر أطروحة دراساته هو أن اليهودي الذي يحاول الاندماج يُقابل دائماً بكراهية عميقة نحو شخصه ونحو الجنس اليهودي ككل. فاليهودي هو الهدف الأزلي لكره الأغيار، ولأنه لا يملك الهروب من هذا الوضع، لذا يجب عليه أن يحيط نفسه "بحائط فولاذي" (كما قال جابوتنسكي) وألا يعهد بأمنه للآخرين.

كل هذه الحقائق الذاتية في سيرة نتنياهو هي أيضاً حقائق موضوعية، ويمكن إثارة قضية خلفيته العائلية ومدى تأثيرها على تركيزه الزائد على الإرهاب. (بعد موت يوناثان نظم نتنياهو مؤتمراً عن الإرهاب وكتب عدة كتب عن الموضوع). ألا يوحي هذا بأن أباه، التصحيحي الكاره للأغيار، قد شكل رؤيته. وكما يقول أحد أعداء نتنياهو (يوري درومي، المتحدث الرسمي باسم الحكومة أيام رابين) "كيف يمكن أن تتكيف مع عملية السلام، إن كنت قد نشأت وترعرعت مع أفكار الصراع؟ إن اختفى الصراع، ماذا يبقى إذن؟". رغم كل هذا يحاول نتنياهو أن يتملص من ماضيه دائماً، وأن ينكر أن هذا الماضي قد ساهم في تشكيل آرائه بشكل جذري.

ونتنياهو هدف لنكت الكثير من أعضاء اليسار الإسرائيلي والمؤسسة الليبرالية، فقد قارنه شاليف (الكاتب بجريدة معاريف) بالرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، في مراوغته، ومقدرته على الاحتيال والهروب في الوقت نفسه. أما يوئيل ماركوس (من هآرتس) فهو يرى أن نتنياهو قد بدأ يتجه بإسرائيل نحو الكارثة، يساعده في ذلك معاونوه (استغنى نتنياهو عن خبراء الليكود وكوَّن مجموعة صغيرة من المستشارين).

وهناك من يتحدث عن "رئيس الوزراء التيفلون" (أي الذي لا يلصق بعقله شيء. وهي نكتة أُطلقت أول ما أُطلقت على الرئيس الأمريكي رونالد ريجان)، وهناك من يُسميه virtual prime minister. وكلمة «فرتشوال» أخذت من عالم الكمبيوتر، وتُستخدم للإشارة إلى virtual reality أي «ما يشبه الحقيقة»، فهو ليس برئيس وزراءحقيقي، وإنما «يشبه رئيس الوزراء» أو «يكاد يكون رئيس الوزراء» أو «رئيس الوزراء بالكاد». ولعل أسوأ الأوصاف هو الوصف الذي أُطلق عليه بعد فشل عملية عمان، أي محاولة اغتيال خالد مشعل إذ أطلق عليه أحدهم عبارة سيريال بلاندرر serial blunderer وهي تنويع على عبارة سيريال كيلر serial killer أي المجرم الذي يقتل حسب خطة مسبقة وتتبع جرائمه نمطاً محدداً. ونتنياهو بهذا المعنى ليس مجرماً وإنما "مخطئاً" يرتكب الأخطاء/الجرائم الواحدة تلو الأخرى، تماماً مثل المجرمين، وإن كان تصور أن هناك خطة محكمة للأخطاء أمر مشكوك فيه. (ولا ندري أي أسماء جديدة حصل عليها رئيس الوزراء المنكود بعد فشل عملية سويسرا؟).

ما هـذه الأخطــاء من وجهة نظــر اليسار الليبرالي الإشكنازي؟ أهم هذه الأخطاء هي إيقاف عملية أوسلو، الأمل الوحيد في سلام دائم بالنسبة لهم. واستمراراً لصورة serial blunderer يسأل هؤلاء المعلقون: هل فعل نتنياهو ذلك عمداً، أم من خلال الخطأ المستمر؟ هل هو ثعبان أم غبي؟ (على حد قول يوري أفنيري).

ولكن من نتنياهو هذا؟ ينطلق نتنياهو في كتابه مكان تحت الشمس وغيره من الدراسات من الرؤية الصهيونية القائمة على أحقية اليهود المطلقة فيما يُسمَّى «أرض إسرائيل التاريخية» ويساندها رؤية صهيونية داروينية تؤكد أن إسرائيل انتصرت في كل الحروب ضد العرب (الذين فقدوا التخلف الدولي القديم). ثم يأتي نتنياهو بالشواهد التاريخية والجيوسياسية والتلمودية التي تساند وجهة نظره. ثم وعلى عادة الصهاينة لا يكتفي نتنياهو بذلك بل يذكِّر الجميع بمأساة الشعب اليهودي والهولوكوست، ثم يؤكد، في الوقت نفسه، قدرة هذا الشعب على النهوض. ويعلن نتنياهو بلا مواربة أن العرب لا يفهمون سوى لغة القوة، وعقد سلام مع العرب مثل وضع سمك في صندوق من الزجاج، ثم تنتظر أن يتعلم هذا السمك ألا ترتطم رأسه بحائط الصندوق الزجاجي. واستخدام الصور المجازية المستمدة من الطبيعة للحديث عن العرب هو مسألة مألوفة في الخطاب الصهيوني بكل ما تحمل هذه الصور من حتمية وكل ما تنطوي عليه من تغييب للعرب. ويرى نتنياهو ضرورة إجبار العرب على الإذعان للاعتراف بوجودإسرائيل عبر استخدام سلاح الردع، فالسلام الوحيد الذي يمكن أن يُقام مع العرب هو «سلام الردع» مقابل «سلام الديموقراطيات» الذي لا يصلح مع العرب، فإسرائيل دولة ديموقراطية غربية في بيئة إقليمية معادية بدائية (وهذا يماثل كلام إيهود باراك عن ديموقراطية إسرائيلية وسط غابة من الأحراش)، ومستقبل إسرائيل يكون بالتحصن داخل «الستار الفولاذي» (عبارة جابوتنسكي التي اقتبسها بنزيون نتنياهو) وإعادة الأولوية لفكرة العمق الإستراتيجي الجغرافي وعدم الانفتاح على هذه البيئة، مع ضَبْطالتفاعلات في المحيط الإقليمي على النحو الذي يحقق مصالح إسرائيل الحيوية.

أعــــراض نتنياهــــو: الأســــباب

The Netenyahu Syndrome: Causes

ما الذي أتى بنتنياهو إلى سدة الحكم في الدولة الصهيونية عام 1996 ؟ للإجابة على هذا السؤال لابد أن نحيط بالقضية إحاطة كاملة وأن نأتي بمركب من الأسباب، لأن الإجابة أحادية البُعد لن تفي بالغرض، رغم أنها قد تكون مريحة للغاية.

1 - لا يمكن في البداية تجاهل الأسباب الإجرائية، أي تغيير طريقة الانتخاب ذاتها، فنتنياهو هو أول رئيس وزراء إسرائيلي يُنتخب بالاقتراع المباشر، وحسب طريقة الانتخاب المباشر هذه لا يمكن تنحية رئيس الوزراء إلا إذا وافق 81 عضواً في الكنيست (من مجموع 120 عضواً) على قرار عزله، على أن تُجرى انتخابات جديدة لرئيس الحكومة فقط خلال 60 يوماً. ويمكن سحب الثقة من رئيس الحكومة ومجلس الوزراء بأغلبية 61 عضواً في الكنيست على أن تُجرى انتخابات برلمانية جديدة خلال 60 يوماً (وهذا الإجراء الأخير لا يتطلب بالضرورة استقالة رئيس الوزراء). ولذا يرى البعض أن النظام السياسي الإسرائيلي أصبح نظاماً شبه ديكتاتوري، قزَّم الأحزاب والكنيست. وكان الهدف الذي ترمي إليه الأحزاب الكبيرة (العمل والليكود) التي مررت القانون الخاص بالانتخاب المباشر هو تحييد الأحزاب الصغيرة وتقوية رئيس الوزراء (في ظل التراجع المتزايد في قوة الحزبين الكبيرين). كان هذا هو الظن، ولكن الذي حدث هو العكس تماماً. فالأحزاب الصغيرة ازدادت قوة، وخصوصاً أن رئيس الوزراء أصبح غير مسئول أمام هيئة حزبه أو البرلمان، الأمر الذي جعله «حراً» من حزبه. ولكن في الوقت نفسه «أكثر اعتماداً» على الأحزاب الصغيرة، التي تشكل القوة الجديدة في المجتمع (من 68 مقعد في الكنيست، يستند إليها نتنياهو، هناك 36 مقعد للأحزاب الصغيرة: 10 منها لشاس، و9 للحزب الديني القومي، أي أن أكثر من النصف في حزبين اثنين، وهما حزبان دينيان). وهذه الأحزاب الصغيرة سعيدة جداً بهذا الوضع ولا تريد عقد انتخابات أخرى بعد أن حققت هذا النصر، وبعد أن وقع رئيس الوزراء في قبضتها. فشارانسكي، على سبيل المثال، يُسمَّى الآن "الأستاذ 10%" لأنه قال إنه لو ثبت أن 10% مما يدور من إشاعات حول نتنياهو وحول فضيحة بار أون (بخصوص طريقة تغييبه كبار الموظفين) صحيحة فإنه سيقدم استقالته على الفور. ولكنه اكتشف أن ناخبيه، الذين صوتوا لصالحه، لا يهتمون بمثل هذه الأمور. وغني عن القول أن الأحزاب الدينية هي الأخرى لا تود إعادة الانتخابات فهي قد حصلت على المقاعد الوزارية التي تطمح إليها ولا يكف نتنياهو عن رشوتها. وكما يقول جدعون سامت (المعلق السياسي الإسرائيلي) إن جوهر المسألة ليس الأخطاء التي يرتكبها نتنياهو، وإنما شركاؤه في التحالف الذين يحاولون الحفاظ عليه بأى ثمن، ودون الخوض في أية مشاكل اجتماعية. (أما الوحيدون الذين لا يخشون سقوط نتنياهو فهي الأحزاب العربية). وقد طرد نتنياهو بالفعل «أمراء» أو «نبلاء» حزب الليكود (أبناء مؤسسي الحزب صانعو الملوك «كينج ميكرز king makers» في الاصطلاح الأمريكي) أمثال داني زئيف بيجين (ابن مناحم بيجين) ودان ميريدور (ابن يعقوب ميريدور) طردهم دون أن يتزعزع أو يردعه أحد إزاء هذا الوضع، هناك مبادرة مطروحة لتعديل قانون الانتخابات بحيث يمكن عزل رئيس الوزراء من منصبه بأغلبية 61 صوتاً مع عدم التسبب في حل الكنيست (وحل الكنيست يستلزم إجراء انتخابات برلمانية مبتكرة، لا ترغب الأحزاب - كما أسلفنا - في دخولها حالياً) وعقد تحالفاته الخاصة مع شارون. ثم تجاوز شارون نفسه وعيَّن يعقوب نئمان وزيراً للمالية وعضواً في مجلس الوزراء المصغر.

إزاء هذا الوضع، هناك مبادرة مطروحة لتعديل قانون الانتخابات بحيث يمكن عزل رئيس الوزراء من منصبه بأغلبية 61 صوتاً مع عدم التسبب في حل الكنيست (وحل الكنيست يستلزم إجراء انتخابات برلمانية مبكرة لا ترغب الأحزاب - كما أسلفنا - في دخولها حالياً).

2 - لابد من الإشارة إلى ما سماه يهوشفاط هركابي «أعراض بركوخبا» وهي الحالة العقلية للإسرائيليين في مواجهة الأزمات. وقد توجَّه كثير من المفكرين الإسرائيليين إلى قضية الشخصية الإسرائيلية إبَّان الانتفاضة المباركة. وقد بعث بعض هؤلاء قضية عجز اليهود وافتقارهم للسلطة وذهبوا إلى أن الإسرائيليين، بل الشعب اليهودي بأكمله، يفتقرون إلى تقاليد الدولة، أي ممارسة الحكم (وهذا يعني افتقارهم إلى الحس التاريخي)، ويتسمون برفض معطيات الواقع دون أن يدركوا أن العدو له إرادة لابد أن تؤخذ في الحسبان، ويضعون سياستهم بشكل مجرد، حسب الاحتياجات الصهيونية وكأنهم يعيشون في فراغ [الأسطورة المعادية للتاريخ] ويتجاهلون النظام العالمي والأمن ومتطلباتهما من الآخرين. وكل هذا نابع من ضيق أفق يتعارض مع التاريخ.

3 - إسرائيل لم تعرف نفسها كمجتمع حرب ولا تعرف نفسها كمجتمع سلام ولا تريد أن تدفع مقابلاً للسلام وتدور في إطار الأسطورة التوراتية (كما يقول الأستاذ محمد حسنين هيكل في الجزء الثالث من كتابه المحادثات السرية). وكما يقول نتنياهو نفسه: "لقد انتخبني أغلبية الناخبين الإسرائيليين"، هل جنوا فجأة إذن؟ لو كانوا سعداء بأوسلو لما فعلوا ذلك. فأوسلو تحوي داخلها جرثومة هلاكها، فهي لا تمنح الإسرائيليين لا السلام ولا الأمن.

4 - ولكن من المفارقات التي تستحق التسجيل والملاحظة، أن هذا الجيل الجديد الذي يفر من الخدمة العسكرية ولا يكترث بها، هو جيل "أكثر عسكرية" كما يقول أفنيريشاليط (أستاذ العلوم السياسية بالجامعة العسكرية). ففي الأيام الأولى للاستيطان، كما يقول شاليط، كان الشعار السائد هو "فلتطلق النار ثم تذرف الدمع"، فالحرب كانتمفروضة على أبناء الجيل القديم (هكذا كان المستوطنون يظنون)، ولم تكن الحروب حروب اختبار. والحرب، كما كان الجميع يعرف، شيء رهيب. أما أعضاء الجيل الجديد، فقد خاضوا «حروب اختيار» كثيرة (غزو لبنان - قمع الانتفاضة)، أي حروب تمت بملء اختيار الإسرائيليين.

وقد وُلد أعضاء هذا الجيل فيما يُسمَّى «أرض إسرائيل» ولذا فهم يعتقدون تمام الاعتقاد أن الاحتلال بالقوة «مسألة طبيعية» وأن الضفة الغربية ليست أوكيوبايد occupied «أرضاً محتلة» وإنما هى أرض قومية توراتية ومن ثم هي أرض «متنازع عليها» disputed ديسبيوتيد (كما يقول المصطلح الأمريكي) وعلى اليهودالاحتفاظ بها ولا يحق لهم التنازل عنها أو التفاوض بشأنها. والعرب هنا هم «عرب يهودا والسامرة»، وبالتالي «خرق حقوقهم» لا يشكل مشكلة أخلاقية بالنسبة لهم.

وأعضاء هذا الجيل لا يختلفون كثيراً عن نتنياهو الذي صرح قائلاً: "ليس هناك أي نهر أو بحر يفصل الضفة الغربية عن باقي الأراضي الإسرائيلية. إنها جزء من دولةإسرائيل نفسها. إن الضفة الغربية هي مركز البلاد... إنها فناؤنا الخلفي وليست أرضاً غريبة عنا". بل أضاف قائلاً: "إن المناطق غير المأهولة أو ذات الكثافة السكانيةالقليلة ستشكل في إطار التسوية الدائمة مناطق أمنية ذات تواصل جغرافي وقرر ضرورة الحفاظ على ممرات أمنية وطرق تربط المستوطنات بعضها ببعض". واستخدام الصور المجازية المكانية يدل على ضمور الإحساس بالزمان والتاريخ عند نتنياهو (وهو في هذا لا يختلف عن أبناء جيله) الذين لا يرون إلا الأرض وأمن إسرائيل ولا يدركون الماضي أو المستقبل أو العرب من حولهم.

5 - من خصائص هذا الجيل أن أعضاءه لم يشعروا قط بالعداء للسامية،أي بالعداء لليهود (ومع هذا فهم جيل أكثر ميلاً لليمين). وقد نُشر مقارنة بين الشباب الألمان والشباب الإسرائيلي، وتبين أن الشباب الإسرائيلي أكثر عنصرية تجاه الأجانب من الألمان، وهم لا يهتمون بما يُسمَّى «عقلية المنفى» بل لا يفهمون يهود المنفى (أي يهود العالم) ولا يفهمون لغتهم أو خطابهم أو شكواهم. والمفارقة الناجمة عن هذا أن كثيراً من القضايا التي تهم يهود المنفى لا تهم أعضاء هذا الجيل من قريب أو بعيد. فهم لا يكترثون باليهودية أو هيمنة الأرثوذكس على أمور الدفن والطلاق والزواج والتهويد (فهم علمانيون شاملون عالميون، لا يهتمون بالقضايا المحلية ولا يكترثون بمثل هذه الأمور).

6 - اتهم نتنياهو اليساريين بأنهم نسوا "معنى أن يكون المرء يهودياً" (عبارة همس بها رئيس الوزراء في أُذن أحد الحاخامات). ولكن هل يعرف جيل نتنياهو معنى اليهودية؟ هل تعني اليهودية شيئاً له؟ إن تصور أن التجمُّع الصهيوني أصبح «أكثر يهودية» و«أكثر تقليدية» بظهور نتنياهو، هو - في رأينا - تصور خاطئ. فهو في واقع الأمر قد أصبح «أكثر انغلاقاً» دون أن يصبح أكثر تقليدية أو تديناً، والربط بين الواحد والآخر ليس بالضرورة له قيمة تفسيرية كبيرة. فما يحدث في التجمع الصهيوني، ليس محاولة للعودة للتقاليد بالمعنى المتعارف عليه، وإنما هي محاولة أعضاء هذا التجمُّع أن يجدوا جذوراً لهم «روتس roots» تبرر لهم وجودهم، وأرضية صلبة يمكنهم الوقوف عليها (وهو أمر شائع في كل المجتمعات الاستيطانية). ولذا قال كثير من المعلقين إن انتخابات 1996 لم تكن انتخابات خاصة بـ «المصالح السياسية» (الاجتماعية والاقتصادية) وإنما كانت انتخابات خاصة بالهوية (وهو قول قد لا نتفق معه، ولكننا نقتبسه بسبب دلالته). وقد وُصف أعضاء التحالف الجديد المؤيد لنتنياهو بأنهم «غرباء في بلادهم»، فهم قد يشكلون الأغلبية العددية إلا أنهم يعاملون معاملة الأقلية من قبل اليسار الإشكنازي، الذي يعتبر المستوطن الصهيوني وطناً له، وأرض أجداده.

اليمين الرخو

Soft Right

«اليمين الرخو» تعبير سكه إيهود سبرنزاك (أستاذ السياسة بالجامعة العبرية) ليصف القوى التي تتحكم في الدولة الصهيونية. ونحن (وبعض المعلقين السياسيين الإسرائيليين بشكل مباشر أو غير مباشر) نطلق عليه اصطلاح «السياسة الإثنية» (أي السياسة التي تستند إلى المصالح الإثنية الضيقة وليس إلى المصالح القومية أو اليهودية العريضة). ويسميها شلومو هاسون «القبلية الثقافية». وأعتقد أن «القبلية الثقافية» هذه هي صياغة علمية، مهذبة مصقولة، لمفهوم آخر هو مفهوم «روش قطان»، أي الرأس الصغيرة المركبة على معدة كبيرة، وهذا وصف جيد للمواطن الإسرائيلي بعد عام 1967، بعد أن تحول إلى حيوان استهلاكي محض. ويتحدث نفس الأستاذ (أي شلومو هاسون) وهو أستاذ للجغرافيا في الجامعة العبرية عن الأرخبيل الإسرائيلي للهويات المنفصلة Israeli archipelago، أي أنه يرى أن الخاصية الجيولوجية التراكمية (التي نرى أنها إحدى سمات العقيدة والهوية اليهودية) هي سمة أساسية للحياة السياسية في الكيان الصهيوني.

ويمكن تلخيص صفات «اليمين الرخو» فيما يلي:

1 - اليمين الرخو الجديد يختلف عن اليمين الصلب القديم في أنه لا يلتزم بالقيم السياسية ولا يعاني من المشيحانية الصهيونية التي تطالب بإيقاف تاريخ المنفى ليبدأ التاريخ الحقيقي: تاريخ المستوطنين في الجيب الصهيوني.

2 - اليمين الرخو قد يحتاج للسلام وقد يطلبه (لتحقيق المكاسب الاقتصادية)، ولكنه غير قادر على تحقيقه لأسباب عديدة من بينها أن اليمين المتطرف قادر (حتى وهو في المعارضة) على قطع الطريق عن أية اتفاقات تشمل أية انسحابات جوهرية، ولا يوجد أية كتلة في الداخل قادرة على فرض شعار "الأرض مقابل السلام" (رغم وجود قطاع هام في الرأي العام الإسرائيلي يقبل بقدر من سلام وتنازلات). كل هذا يعود إلى أنه لم يحدث تغيير جوهري في الثقافة والتقاليد السياسية المنبثقة عن الصهيونية فيمايخص دولة إسرائيل وعلاقتها بالعرب (وبالفلسطينيين على وجه التحديد).

3 - يمارس أعضاء اليمين الرخو إحساساً عاماً بالسخط على ما يُسمَّى «اليسار الإشكنازي» وهو مصطلح يضم كل من يؤيدون اتفاقية أوسلو والعلمانيين من خريجي الكيبوتسات.

4 - لا يتوحد أعضاء هذا اليمين من خلال عقيدة محددة وإنما من خلال هوية سلبية جوهرها الخوف من العرب ومن اليسار الإشكنازي (الذي أيد أوسلو).

5 - لكل هذا نجد أن اليمين الرخو يتكون من قوى اجتماعية وإثنية ودينية لا يربطها رابط ولكنها مع ذلك متماسكة تؤيد نتنياهو، ويبدو أنها قادرة على التماسك وأنها قد تظل تتحكم في الحياة السياسية الإسرائيلية حتى القرن القادم. ولذا فرغم أخطاء هذه الحكومة المتعددة إلا أنها أثبتت مقدرة على الاستمرار.

ويتكون هذا اليمين الرخو من عدة قوى وأحزاب أهمها ما يلي:

1 - اليهود السفارد الذين يضمهم حزب شاس (مؤيدو حزب ديفيد ليفي أعضاء حزب جيشر)

2 - المستوطنون الصهاينة في الضفة الغربية ومرتفعات الجولان.

3 - غلاة المتدينين من الأحزاب الأرثوذكسية.

4 - القوميون المتدينون (الحزب الديني القومي).

ويتهم المتدينون "اليساريين" بأنهم خرقوا كل الشعائر أثناء هيمنتهم على المجتمع الإسرائيلي، ويرى اليساريون (ومعهم الليبراليون) أن المتدينين يودون نزع الشرعية عنالنظام السياسي الإسرائيلي، وما قوانين التهود سوى بداية هذه العملية.

5 - القوميون العلمانيون في الليكود الذين رفضوا أمراء الليكود بالوراثة: داني بيجين (ابن مناحم بيجين) ودان ميريدور (انضم إليهم شامير وقدامى الليكود ليكونوا تحالفاًضد نتنياهو) ولم يصوتوا لصالح إيهود أولميرت عمدة القدس الذي اختطف منه نتنياهو رئاسة الليكود عام 1994.

6 - المهاجرون الروس من الصهاينة المرتزقة البالغ عددهم 700 ألف مهاجر، أي حوالي خُمس سكان إسرائيل. ويتهمهم اليسار الإشكنازي بأنهم أتوا بالجريمة المنظمة والبغاء إلى الدولة الصهيونية (وهي اتهامات في معظمها حقيقية) فمن المعروف أن الجريمة المنظمة جعلت من إسرائيل محطة انتقالية ومركزاً لغسيل الأموال. ومن المفارقات الأخرى أن المؤسسة الدينية لا تعترف بهم يهوداً حسب الشريعة اليهودية. ويعاني كثير منهم من البطالة، إذ يعمل في وظائف هو غير مؤهل لها.

الصفحة التالية ß إضغط هنا