المجلد السادس: الصهيــونيــــة 6

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

الباب الرابع: صهيونية غير اليهود العلمانية

صهيونية غير اليهود العلمانية

Gentile Secular Zionism

«صهيونية غير اليهود» اصطلاح نستخدمه للإشارة لما يُسمَّى «صهيونية الأغيار» ونضيف أحياناً كلمة «علمانية» حتى نميِّزها عن صهيونية غير اليهود ذات الديباجة المسيحية، وإن كنا عادةً لا نفعل ذلك ونكتفي بالحديث عن «صهيونية غير اليهود» من قبيل إطلاق العام والشائع على الخاص. وقد تدثرت الصيغة الصهيونية الأساسية بديباجات مسيحية عندما ظهرت في الغرب في القرن السابع عشر. ومع تزايد معدلات العلمنة، ابتداءً من القرن الثامن عشر، ومع انتشار الفلسفات النفعية والعقلانية، بدأت الديباجة المسيحية في الضمور والتواري وتم تسويغ الصهيونية انطلاقاً من الرؤية المعرفية الإمبريالية وأطروحاتها المادية. ومع هذا، فعادةً ما كانت الديباجات العلمانية والدينية تختلط، ولذا كانت تطرح ضرورة توطين اليهود في فلسطين لتحقيق الخلاص ولحماية الطريق إلى الهند.

ويُلاحَظ أنه في الفترة الممتدة من القرن الثامن عشر حتى نهاية القرن التاسع عشر، بدأت صهينة الوجدان الغربي فبلور الفكر الألماني الرومانسي فكرة الشعب العضوي (الفولك)، وأصبح هناك «شعب عضوي ألماني» و «شعب عضوي إنجليزي» و «شعب عضوي يهودي». ويرد اليهود في كتابات هردر وكانط وفخته باعتبارهم شعباً عضوياً. كما تتواتر الفكرة نفسها في كتابات المؤلفين الرومانسيين الغربيين، وخصوصاً في بريطانيا (مثل بايرون وولتر سكوت مثلاً). ولكن الشعب العضوي اليهودي لا ينتمي إلى أوربا ولا للحضارة الغربية، فهو شعب عضوي منبوذ لابد من نَقْله. وقد تبلورت في أوائل هذه المرحلة فكرة نَفْع اليهود وإمكانية إصلاحهم وتوظيفهم، أي أن الصيغة الصهيونية الأساسية زادت تبلوراً ووضوحاً. وقد عبَّر فلاسفة حركة الاستنارة، مثل جون لوك وإسحق نيوتن، عن نزعة صهيونية أساسية في كتاباتهم.

وفي كتاب له صدر عام 1749 صنَّف الفيلسوف ديفيد هارتلي اليهود ضمن الهيئات السياسية باعتبارهم "كياناً سياسياً موحداً ذا مصير قومي مشترك رغم تَشتتُّهم الحالي". وقد تبنَّى الحجج الدينية النبوئية الشائعة وأضاف لها تفسيرات دنيوية. كما أن جوزيف بريستلي صوَّر فلسطين أرضاً "غير مأهولة بالسكان، أهملها مغتصبوها الأتراك ولكنها مشتاقة ومستعدة لاستقبال اليهود العائدين". ولم يكن الفكر الرومانسي أقل حماسة من الفكر الاستناري، بل يمكن القول بأن الفكر الرومانسي أعطى دفعة جديدة للصهيونية فتزايد الحديث عن العبقرية اليهودية والعرْق اليهودي. وقد نادى روسو (الذي ينحدر من أسرة بروتستانتية) بإعادة اليهود لدولتهم الحرة. وكان الفكر الألماني الرومانسي، الذي وُلدت في أحضانه فكرة الشعب العضوي، يتسم بنزعة صهيونية (معادية لليهود) كما يتضح في كتابات هردر وكانط وفخته. كما توجد أصداء صهيونية في أشعار بايرون وروايات وولترسكوت.

ويُلاحَظ تزايد الاهتمام باللغة العبرية، كما بدأ الفنانون الغربيون يتناولون الموضوعات اليهودية والعبرية بكثير من الألفة لم تكن معروفة من قبل. وقد نشر دزرائيلي روايتيه ديفيد الراوي (1833) وتانكرد (1847)، وهما روايتان لهما نزعة صهيونية واضحة. وقد ظهرت رواية جورج إليوت دانيل ديروندا (1876) أهم وثيقة أدبية صهيونية غير يهودية وهي التي تُعدُّ أهم وثيقة أدبية صهيونية غير يهودية والتي وُصفت بأنها مقدمة أدبية لوعد بلفور. ونُشر في الفترة بين 1840 و1880 ما يزيد على 1600 كتاب من كُتب أصحاب الرحلات إلى فلسطين، وقد ساهمت هذه الكتب في تدعيم صورة فلسطين كأرض مُهَملة، وصورت العرب (المسلمين أو البدو) كمسئولين عن هذا الخراب. وأُسِّس صندوق استكشاف فلسطين عام 1865 وكان مركزاً لمؤيدي الاستيطان الصهيوني. ومن أهم العلماء الأثريين فيه سير تشارلز وارن الذي قام بالعديد من الاكتشافات الأثرية وتنبأ بقيام حكم اليهود في فلسطين. كما قام كلود كوندر (1848 ـ 1910) بكتابة دراساته الجغرافية التي كانت تنشرها الصحافة الصادرة بالعبرية.

وقد ظلت النزعة الصهيونية في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر تأخذ طابعاً فكرياً تأملياً أو عاطفياً لأن أوربا كانت في حالة انتقال. كما أن المشاريع الاستعمارية المختلفة كانت متوقفة أو لا تزال في حالة التفاف حول الدولة العثمانية التي كانت قد بدأت في التآكل من الداخل، وإن كانت لا تزال قوية قادرة على حماية رعاياها.

ويمكن القول بأن ظهور محمد علي وقَلْبه موازين القوى وتهديده للمشروع الاستعماري الغربي ووضعه حداً لآمال الدول الغربية التي كانت تترقب اللحظة المؤاتية لاقتسام تركة رجل أوربا المريض، أي الدولة العثمانية، يُشكِّل نقطة تحوُّل في تاريخ فلسطين وتاريخ الصيغة الصهيونية الأساسية، إذ تساقطت الأردية الدينية وظهر الواقع المادي النفعي. ويشرح الزعيم الصهيوني حاييم سوكولوف الموقف فيقول إن أوربا عام 1840 اضطرت محمد علي إلى التوقيع على «معاهدة لندن لتهدئة الشرق»، وبعد ذلك أصبح المنطق السائد في أوربا آنذاك على النحو التالي:

"إذا اتفقت الدول العظمى الخمس على تسوية المسألة الشرقية على أساس استقلال سوريا... واسترجاع اليهود لها... حاملين معهم عُدة الحضارة وأجهزتها، بحيث يكونون نواة لخلق مؤسسات أوربية... تحت رعاية القوى الأوربية الخمس... فإن ذلك سيساهم في أن تسترجع الدولة العثمانية قوتها... ومما لا شك فيه أن حالة سوريا محفوفة بعديد من المصاعب نظراً لانقسام سكانها إلى قبائل منفصلة. ولكن هذا لا يُثبت سوى ضرورة إدخال «مادة جديدة». حتى يتم صَهْر الطبقات كلها في جماعة مترابطة متوازنة. وإذا ما سلمنا بضرورة إدخال مادة جديدة في نسيج سوريا الاجتماعي، فإننا سنسلِّم بالتالي بأن هجرة اليهود إلى سوريا ستزودنا بأكثر المواد قبولاً. وسيتبع ذلك إقامة مؤسسات أوربية. وستجد إنجلترا حليفاً جديداً سيثبت أن الصداقة معه في نهاية الأمر ذات نفع لها في التعامل مع المسألة الشرقية".

ويُلاحَظ أن البُعد الجغراسي (الجيوبوليتيكي) الكامن للفكر الصهيوني بين غير اليهود أخذ يزداد حدة وتحدداً، بل أصبح البُعْد الرئيسي. ولم يعد الحل الصهيوني مجرد فكرة فلسفية أو تطلُّع عام. "فالتطورات السياسية [على حد قول سوكولوف] أدَّت إلى ظهور خلفية جديدة للصهيونية. إن قضية استرجاع إسرائيل التي كانت قضية أثيرة لدىالعاطفيين وكُتَّاب المقالات والأدباء... وكل مؤمن بالإنجيل وكل صديق للحرية، أصبحت قضية حقيقية مطروحة [على المستوى السياسي]". وكما قالت التايمز عام 1840، فإن المسألة أصبحت مطروحة بشكل جدي، بمعنى أن الصهيونية لم تَعُد فكرة هامشية تُتداوَل في الأوساط التبشيرية الإنجيلية وحسب، فعام 1840 هو عام ولادة المسألة الشرقية وهو أيضا عام ولادة الحل الصهيوني للمسألة اليهودية! وقد طُرحت مشاريع صهيونية عديدة في كل مكان في أوربا (في روسيا وبولندا وفرنسا وألمانيا وإنجلترا)، فمع بدايات المشروع الاستعماري الألماني قام مولتكه (الضابط في الحرس الملكي البروسي) عام 1939 بنشر كتاب ألمانيا وفلسطين يقترح فيه إنشاء مملكة صليبية هناك لتشجيع اليهود والمسيحيين. وقد وضع بندتو موسولينو، الإيطالي الجنسية، خطة في عام 1851 لتأسيس دولة يهودية في فلسطين. وشهد منتصف القرن التاسع عشر بعثاً مؤقتاً للمشروع الاستعماري الفرنسي المستقل إبّان حكم نابليون الثالث. فقد حصلت فرنسا على امتياز شق قناة السويس عام 1854 ثم جردت حملة عسكرية فرنسية عام 1860 ـ 1861 إلى جبل لبنان عقب الحرب الأهلية بين الدروز والموارنة، وهي الحرب التي كانت في واقع الأمر حرباً على النفوذ بين الإنجليز والفرنسيين. ويُقال إن الهدف من الحملة كان الضغط على السلطان العثماني للموافقة على امتياز قناة السويس. وفي هذا الإطار، ظهرت عدة كتابات فرنسية في الموضوع، أهمها دعوة لاهارن (سكرتير نابليون الثالث) لليهود بالعودة إلى فلسطين حتى يكونوا بمنزلة الوسطاء الذين سيفتحون الشرق للغرب لتأسيس دولة يهودية في فلسطين. وكان هنري دوتان (1820 ـ 1910)، مؤسس الصليب الأحمر الدولي، مهتماً بالمشروع الصهيوني، حيث حاول منذ عام 1863 حتى عام 1876 إثارة اهتمام الجماعات اليهودية باقتراحاته دون جدوى. وقد أسَّس جمعية الاستعمار الفلسطينية في لندن، واتصل بنابليون الثالث والحكومة العثمانية لعرض فكرته، كما حضر المؤتمرات الدولية للدفاع عنها واشترك في بعض المؤتمرات الصهيونية.

ويُلاحظ سوكولوف أن الكتابات الفرنسية في موضوع الصهيونية تتسم بأنها مجردة أكثر من اللازم. وبدلاً من أن يبيِّن أصحـاب هـذه الكـتابات بشـكل محـدد الإجراءات التي يجب اتخاذها، فإنهم يكتفون بالتعبير عن الآمال الفارغة ويصوغون اقتراحات ودعاوى غامضة. ولعل هذا يعود إلى أن الفكر الصهيوني في فرنسا لم يكن وراءه لا تاريخ طويل ولا مصالح محددة كما كان الحـال مع الفـكر الصهيوني في إنجلترا. كما أن فرنسا الكاثوليكية، برفضها التفسير الحرفي للعهد القديم، لم تكن متعاطفة مع هذه الرؤية لليهود.

ويُلاحَظ أن صهيونية غير اليهود صهيونية غربية بمعنى الكلمة (روسي ـ بولندي ـ ألماني ـ فرنسي ـ هولندي ـ إنجليزي) وقد أصدرت معظم هذه الدول وعوداً بلفورية أو ما يشبه الوعود البلفورية، ولكن صهيونية غير اليهود تظل ظاهرة بريطانية وبروتستانتية بالدرجة الأولى. والواقع أن أكبر عدد من الصهاينة غير اليهود ظهر بين صفوفهم، مثل الكولونيل جورج جاولر وجيمس فين ووليام بلاكستون وجوزيف تشامبرلين وإيان سمطس وجوسيا ودجوود، ولكن لورد شافتسبري ولورانس أوليفانت يعتبران أهم هؤلاء. وفي محاولة تفسير ذلك، يمكن القول بأن إنجلترا كانت أكبر قوة استعمارية، وأنها البلد الذي انتشر فيه التفسير الحرفي للكتاب المقدَّس، وأنها أخيراً البلد الذي لم يكن فيه يهود حتى أواخر القرن السابع عشر، فكان من الممكن ـ لكل هذه الأسباب ـ تجريد اليهود وتحويلهم عقلياً (ثم فعلياً) إلى وسيلة. كما يُلاحَظ أن هجرة أعضاء الجماعات اليهودية كانت تتم في إطار الاستعمار الاستيطاني الغربي ككل، والأنجلو ساكسوني على وجه الخصوص، ولذا نجد أن معظم المهاجرين اليهود استوطنوا في بلاد مرتبطة بالمشروع الاستيطاني الأنجلو ساكسوني (الولايات المتحدة ـ نيوزيلندا ـ جنوب أفريقيا ـ إسرائيل) .

وازدادت الفكـرة الصهيونيـة مركزية في الوجـدان السـياسي الغربي، ولعل أكبر دليل على هذا أن المفكرين الصهاينة من غير اليهود أصبحوا قريبين من صانع القرار. ويمكن أن نذكر في هذا المضمار وزير البحرية البريطانية هنري إنس (الذي كتب مذكرة عام 1839 موجهة إلى كل دول شمال أوربا وأمريكا البروتستانتية، قام اللوردبالمرستون، رئيس الوزراء، برفعها إلى الملكة فيكتوريا). كما يمكن أن نذكر في هذا المجال، جورج جولر حاكم جنوب أستراليا. وقد نشرت جريدة جلوب اللندنية (القريبة من وزارة الخارجية) مجموعة مقالات عام 1839/1840 تؤيد فيها مسألة تحييد سـوريا (وضمنها فلسـطين) وتوطين أعـداد كبـيرة من اليهـود فيها. وقد حازت المقالات موافقة اللورد بالمرستون. وقد نوقش في مؤتمر القوى الخمس الذي عُقد في لندن عام 1840 مسألة تحديد مستقبل مصر. وفي ذلك العام، كتب بالمرستون خطابه إلى سفير إنجلترا في الأستانة يقترح فيه إنشاء دولة يهودية حماية للدولة العثمانية ضد محمد علي. وقدَّم الكولونيل تشرشل عام 1841 مذكرة لموسى مونتفيوري يقترح تأسيس حركة سياسية لدعم استرجاع اليهود لفلسطين لإقامة دولة محايدة (أي في خدمة الدول الغربية).

وفي عام 1845، ظهر كتاب جورج جولر تهدئة سوريا والشرق حيث طرح خطوات عملية لعملية توطين اليهود في فلسطين. كما أن جولد سميد صاحب موسى مونتفيوري في رحلته إلى فلسطين عام 1849، بل أسَّس عام 1852 واحدة من المنظمات الصهيونية الأولى وهي منظمة تشجيع الاستيطان اليهودي في فلسطين التي قدمت المساعدة للقنصل الإنجليزي في القدس في عملية تدريب اليهود المحليين على الزراعة. كما نشر أيضاً اقتراحات عملية تتصل بتأسـيس صناعـات ترمي إلى زيادة النفـوذ الإنجـــليزي في سوريا. وبعد انتهاء حرب القرم (1853 ـ 1856)، قُدِّمت إلى مؤتمر القوى العظمى الذي عُقد في باريس مذكرة بشأن توطين اليهود في فلسطين. وقدَّم بنجامين دزرائيلي (الذي تقلَّد رئاسة الوزارة عام 1874) مذكرة غفلاً من اسم واضعها موجهة إلى المندوبين في مؤتمر برلين 1878 تتضمن اقتراحاً ذا طابع صهيوني لحل المسألتين اليهودية والشرقية، ولكن لم يتم توزيعها بسبب معارضة بسمارك (وقد قام المفكر الصهيوني الروسي بيرتس سمولنسكين بترجمة المذكرة إلىالعبرية ونشرها).

وفي عام 1887، قدم إدوارد كازالت اقتراحاً بتوطين اليهود تحت حماية إنجلترا، وقد دافع عن الفكرة في كتابه وخطبه أثناء حملته الانتخابية حينما رشَّح نفسه للبرلمان. ويمكن القول بأن المشروع الصهيوني كانت ملامحه وأجزاؤه قد تكاملت في عقل كازالت، ولذا نجده يتوجـه للتفاصيل الدقيقـة وإلى الطابع اليهودي الإثني للاستيطان اليهودي، وإلى قضية الوعي اليهودي ككل، فكان أول من فكَّر في إنشاء جامعة عبرية. وفي نهاية السبعينيات، قام هو وأوليفانت، وانضم إليهما ممثلون عن جماعة البيلو، بالتفاوض مع الدولة العثمانية بشأن مشروع الاستيطان الصهيوني في فلسطين.

وفي ذلك الحين، كانت الولايات المتحدة (بتوجُّهها البروتستانتي الحرفي) تمور بالمفكرين الصهاينة غير اليهود مثل مانويل نواه (صاحب مشروع أرارات) ووليام بلاكستون. كما ظهرت فيها جماعات صهيونية مسيحية بعضها متعاطف مع اليهود والبعض الآخر يُكِّن له الحقد والاحتقار من أهمها جماعة شهود يهوه والمورمون. كماكانت توجد جماعة صهيونية مسيحية كان لها مشروعها الاستيطاني المستقل هي جماعة فرسان الهيكل الألمانية.

ومن الأمور المهمة والجديرة بالذكر أن كل هؤلاء الصهاينة غير اليهود توصلوا إلى الصيغة الصهيونية الأساسية، وأضافوا لها الديباجات لتبريرها، وخططوا المشروعات لوضعها موضع التنفيذ دون أية مؤثرات يهودية (فكرية أو غيرها). وفي كثير من الأحيان، كان ذلك يتم دون أيِّ احتكاك باليهود أو أية معرفة بهم، ففكرهم وُلد من داخل النموذج الحضاري الغربي، وهو ثمرة بنية الحضارة الغربية نفسها ونتاج حركياتها وتطوُّر مصالحها الإستراتيجية. وقد أعلن أحد المؤتمرات الصهيونية أن أبا الصهيونية (الحقيقي) هو الصهيوني غير اليهودي بلاكستون، وهو وصف دقيق ومباشر وليس فيه أية أبعاد مجازية. ولنا أن نلاحظ أن معظم المفكرين الصهاينة غير اليهود كانواشخصيات غريبة الأطوار، إن لم تكن شاذة ومهزوزة، ومع هـذا فإن أفكـارهم كانت تجد صدى في الأوساط السياسية الغربية، وهو ما يدل على أن هذه الأفكار تعبِّر عن شيء أصيل وكامن في الحضارة الغربية آنذاك، يتجاوز شذوذ وغرابة أطوار حَمَلة هذا الفكر.

ورغم كل هذه النشرات والمقالات والمذكرات، إلا أن هناك إشكالية أساسية كامنة في صهيونية غير اليهود وهي أنها مهما بلغت من تحدُّد وتبلور وحدّة فهي لا تكترث بيهودية اليهود، فما يهمها هو المصالح الإستراتيجية للعالم الغربي (المسيحي) والاعتبارات العملية والنتائج الملموسة. ولذا، كان الصهاينة من غير اليهود ينظرون إلى اليهود من الخارج كأداة تُستخدَم وحسب، وكانوا يتحركون في العالم الغربي لا داخل المحيط اليهودي، ولم يكن بوسعهم بالتالي الوصول إلى المادة البشرية المستهدفة التي كانت تنظر بكثير من الشك إلى عـالم الأغـيار الذي كان يحـاول أن يقضي عليها في الماضي بالذبح، ويحاول الآن القضاء عليها بالإعتاق والعلمانية.

وحديث هؤلاء الصهاينة غير اليهود عن عودة اليهود لم يلق صدىً لدى أعضاء المادة المُستهدَفة إذ أن اليهودية الحاخامية الأرثوذكسية قامت بتحويل فكرة العودة إلى أمر يتحقق في آخر الأيام، أي إلى ضرب من الحلم الديني الذي لا يتحقق إلا في مجال التاريخ المقدَّس لا على مستوى التاريخ الزمني. ولذا، كان اليهود ـ وبخاصة يهود العالم الغربي ـ يرفضون التورط في مشاريع العودة التي تطلق على نفسها اسم «مشاريع قومية». ولم تلق دعوة نابليون إلى يهود الشرق بالاستيطان آذاناً صاغية. وقد رفض مجلس مندوبي يهود إنجلترا الاقتراح الذي تقدَّم به الكولونيل تشارلز تشرشل لتوطين اليهود في فلسطين والذي حمله السير موسى مونتفيوري إلى المجلس نيابة عنه.

وقد شهد منتصف القرن التاسع عشر ظهور اليهودية الإصلاحية بتأكيدها المُثُل الاندماجية ورفضها فكرة العودة الفعلية إلى فلسطين رفضاً تاماً. وعُقد عام 1845 مؤتمر فرانكفورت الشهير الذي حذف من كتب الصلوات جميع التوسلات للعودة إلى أرض الآباء وإحياء دولة يهودية. وحينما عُقد المؤتمر اليهودي الأول عام 1872 لبحث مشكلة يهود رومانيا، لم يتطرق هذا المؤتمر إلى الهجرة اليهودية إلى فلسطين باعتبارها حلاًّ للمسألة اليهودية.

ومن أطرف التعليقات اليهودية على المشاريع الصهيونية غير اليهودية ما نشرته مجلة يهودية ألمانية (ذات طابع اندماجي) إذ قارنت المشاريع الصهيونية الإنجليزية التي نُشرت في الجلوب والتايمز بالمشاريع الفرنسية، وبينت أن الشاعر لامارتين (1790 ـ 1869) الذي كان يشغل منصباً حكومياً آنذاك يقترح تأسيس مملكة مسيحية عند منابع نهر الأردن، وأنه ينوي، إذا ما وقعت القدس تحت الهيمنة الفرنسية، أن يترك العالم بأسره لإنجلترا. ولكن الغريب في الموضوع ـ كما تقول المجلـة ـ أن اللـوردبالمرسـتون قد اختار البقعة نفسها لإنشاء دولة يهودية، فبينما كان الشاعر الشهير يحلم بإقامة دولة مسيحية في القدس كان اللـورد بالمرسـتون ينوي إقامة جمهـورية يهـودية فيها (وحولها)، وقد حذَّرت المجلة الشباب اليهودي من مثل هذه الدعاوى الصهيونية.

ويبدو أن الصهاينة غير اليهود أدركوا أن المادة البشرية المستهدفة لمشاريعهم ترفض مثل هذه المشاريع التي تهدف إلى اقتلاعهم من أوطانهم، ولذا فقد بذلوا جهداً في التوجه إلى الجماعات اليهودية وفي التقارب معها. فكتب الكولونيل كلود كوندر يشجع جهود أحباء صهيون على التسلل إلى فلسطين. ونشر هنري ونتورث مونك (كندي الجنسية) عدة مقالات صهيونية ظهرت في جويش كرونيكل بين عامي 1859 و 1896، وأسهم في تأسيس أولى المستوطنات اليهودية في فلسطين. وعقد مؤتمر للمسيحيين البارزين في مايو 1882 لمناقشة مسألة توطين المهاجرين اليهود من رومانيا وروسيا في فلسطين. وشهدت الفترة نفسها كتابات الأب إغناطيوس التي نُشرت على صفحات مجلة دي فيلت الصهيونية والتي ناشد فيها اليهود الانضمام إلى الحركة الصهيونية.

وكان شافتسـبري (أهـم الصـهاينة غير اليهود) صديقاً لمونتفيوري، أما أوليفانت (أكثرهم دينامية ونشاطاً) فقد اتصل ببعض الجمعيات اليهودية الاستيطانية لتشجيعها، وذهب بنفسه إلى فلسطين للاستيطان فيها بصحبة سكرتيره اليهودي نفتالي هرتز إمبر (مؤلف نشيد الهاتيكفاه). وبدأت تظهر شخصيات تقف بين الجماعتين اليهوديةوالمسيحية: مثل دزرائيلي (اليهودي الذي تنصَّر ليدخل الحضارة الغربية). ويمكننا الإشارة إلى الواعظ البروتستانتي هشلر الذي كان من أكثر الناس حماسة لإرجاع اليهود، فقدَّم العون لهرتزل وساهم في تقديمه للدوق بادن الذي قدَّمه بدوره إلى قيصر ألمانيا.

ولكن، ومهـما ازداد التـقارب بين الصـهاينة غير اليهود واليهود، فإن ذلك لم يكن له جدوى وكان ضرورياً أن يحدث شيء تاريخي ضخم يتجاوز حركات الأفراد، وقد كان هذا الشيء هو تعثُّر التحديث في شرق أوربا وتَوافُد الآلاف من يهود اليديشية على غرب أوربا، الأمر الذي أدَّى إلى ظهور هرتزل الذي طوَّر الخطاب الصهيوني المراوغ وجعل بإمكان يهود الغرب قبول العقد الصهيوني الصامت وهو الأمر الذي كُلِّل بإصدار وعد/عقد بلفور.

ويمكن تلخيص إسهام صهيونية غير اليهود كما يلي:

1 ـ تمت صياغة الفكرة الصهيونية بمعظم أبعادها وديباجاتها. ولذا، فإن المفكرين الصهاينة من اليهود حينما ظهروا كانت الصياغات الأساسية جاهزة، وكذلك معظم الديباجات والمشاريع.

2 ـ صهيونية غير اليهود ذات الديباجة المسيحية والرومانسية حوَّلت فلسطين ومن عليها إلى مكان خارج التاريخ، فهي مجرد أرض ليس فيها أي أثر للتاريخ الحقيقي. وبالتالي، فقد أهدرت حقوق سكان فلسطين الفعليين، وأصبحت فلسطين في الوجدان الغربي مكاناً خاوياً ينتظر سكانه الأصليين.

3 ـ خلقت صهيونية غير اليهود (الدينية والعلمانية) المناخ السياسي الملائم لرؤية الأهمية الجغراسية لفلسطين.

4 ـ وضعت صهيونية غير اليهود الأساس للحل الاستعماري الغربي للمسألة اليهودية في شرق أوربا.

5 ـ طرحت صهيونية غير اليهود تفسيراً حرفياً لأحداث التاريخ وافترضت استمراراً حيث لا استمرار. وقد أثَّر ذلك في رؤية اليهود لفلسطين وأسهم في تحويل المفاهيم اليهودية الدينية التقليدية (المجازية) إلى مفاهيم استيطانية استعمارية.

6 ـ حينما ظهرت مشكلة المهاجرين اليهود من روسيا وبولندا ورومانيا في أواخر القرن التاسع عشر لم يُنظَر إليها باعتبارها مشكلة إنسانية تتطلب عملية التحديث السريعة، وإنما نُظر إليها باعتبارها مشكلة شعب عضوي مختار أو كتلة بشرية مستقلة أو مادة بشرية فعالة يمكن توظيفها في عملية الخلاص المسيحية أو المشاريع التجارية والاستعمارية الغربية المختلفة.

7 ـ ربطت صهيونية غير اليهود بين المسألتين الشرقية واليهودية وطرحت تصوراً مفاده أن إحدى المشكلتين يمكن حلها من خلال الأخرى.

وأهم الصهاينة غير اليهود هو اللورد بلفور (صاحب الوعد المشهور) الذي كان يستخدم كلاًّ من الديباجات الدينية والديباجات العلمانية.

ومن الأمـور الجـديرة بالذكر أن تيـودور هرتزل، مؤسِّس الصهيونية، لم يكن يميِّز بين الصهاينة اليهود وغير اليهود، بل كان يرى الجميع جزءاً من التاريخ الغربي. ولذا، فهو يشير إلى دزرائيلي وجورج إليوت وموسى هس وليو بنسكر باعتبارهم صهاينة دون تمييز أو تفرقة بين اليهود منهم وغير اليهود.

صنـدوق اسـتكشاف فلسـطين

Palestine Exploration Fund

جمعية أُسِّست عام 1864 تحت رعاية الملكة فكتوريا ملكة إنجلترا، وكان رئيس الجمعية أسقف يورك. وساهمت وزارة الحرب البريطانية بخدمات بعض الضباط، وخصوصاً من المهندسين مثل الكابتن كلود كوندر والكابتن تشارلز وارين (الذي اشتهر فيما بعد في جنوب أفريقيا) والملازم هـ. كتشنر (وهو اللورد كتشنر الذي عُيِّن فيما بعد معتمداً بريطانياً في مصر واشتهر في السودان)، وت. إ. لورنس.

وقد أعلن الصندوق أنه مؤسسة تهتم بالبحث الدقيق والمنظم في الآثار والطوبوجرافيا والجيولوجيا والجغرافية الطبيعية والتاريخ الطبيعـي وعـادات وتقاليـد الأرض المقدَّسة بهدف «التوضيح التوراتي»، والعبارة الأخيرة مبهمة إلى أقصى حد ولكنها تعني في نهـاية الأمر أن البحـث العلمـي قد وُظِّف في خـدمة الأهـداف التوراتية، أي «الأهداف الإسترجاعية العسكرية». وهذا ما وضحه كتاب المدنية والأرض الذي أصدره الصندوق، وهو يتألف من مجموعة من الدراسات كان من أهمها دراسة لوولتر بيسانت بيَّن فيها أن هدف الصندوق هو "الاستعادة": استعادة مجد فلسطين في عهد هيرود، واستعادة بلاد داود بحيث يمكن استعادة أسماء المدن التي دمرها القائد العظيم يوشع بن نون. وكذلك استعادة مكانة القدس ومجدها وأبهتها، واستعادة أسماء الأماكن المذكورة في التوراة (وكل هذا يبين مدى قوة العقيدة الاسترجاعية).

ويظهر تلاقي البُعْد التوراتي والبُعْد العسكري في الإشارة إلى يوشع بن نون وفي قول المؤلف: "عندما وُضعت الأسماء في أماكنها، أصبح في وسعنا تتبُّع سير الجيوش فيزحفها" (ويمكن أن نضيف: وأصبح بإمكان جيوش الغزو الإمبريالي ـ البريطاني والصهيوني ـ أن تعرف طريقها). وقد ساهم كوندر بمقال في الكتاب نفسه ذي طابع صهيوني ديني عسكري.

وقد لَعب الصندوق بالفعل دوراً عظيم الأهمية في مجال تزويد الساسة والعسكريين البريطانيين بالمعلومات الجغرافية والتاريخية والسياسية التي كانوا يحتاجون إليها لمد نفوذهم الاستعماري في المنطقة ولدراسة جدوى المشروع الاستعماري في فلسطين. وقد اعتمد الصندوق في ذلك على العديد من خبراء الآثار والتاريخ والجغرافيا والجيولوجيا والمناخ. وكانت غالبية التقارير والدراسات الصادرة عن الصندوق ذات طابع صهيوني إذ كانت تشير إلى أهمية فلسطين وضرورة عودة اليهود إليها وإقامة كيان استيطاني لهم فيها تحت الحماية البريطانية. فالكابتن وارين نشر عدة مجلدات من أهمها إحياء القدس ومذكرات عملية مسح فلسطين، وذلك بالإضافة إلى كتاب أرضالوعد الذي دعا فيه إلى أن تتولَّى شركة الهند الشرقية تنمية موارد فلسطين، وخصوصاً مواردها الزراعية والتجارية، كما دعا إلى تدريب المستوطنين اليهود على إدارة شئونهم تمهيداً لتَسلُّمهم حكم فلسطين وإدارة شئونها (وهو المخطط الذي نُفِّذ فيما بعد من خلال حكومة الانتداب والوكالة اليهودية). وشارك الكابتن ويلسون في عدة عمليات بَحْث وتنقيب في بعض المناطق السورية واللبنانية، ولكن جهود الصندوق تركزت في النهاية على مرج ابن عامر ونابلس والقدس والخليل باعتبارها الأماكن التي شهدت تنقلات واستقرار "شعب إسرائيل" (كما ورد في تقريره للصندوق).

وقد أصدر الصندوق، بالإضافة إلى العدد الكبير من الكتب والتقارير، خريطتين دقيقتين: إحداهما لفلسطين الغربية (1880) والثانية لفلسطين الشرقية (1884). وقد حملت الخرائط الأسماء الحـديثة والقـديمة بالإضـافة إلى إبراز تضـاريس البلاد وطبيعتها المناخية. وقد بلغت الخريطتان من الدقة حداً كبيراً حتى سَهُل استعمالهما في عملية تحريك الجيوش البريطانية وانتقالها عبر تلك الأراضي في الحرب العالمية الأولى. وللصندوق متحف في لندن، وهو ينشر مجلة علمية ربع سنوية منذ عام 1869 (أصبحت سنوية منذ عام 1904)، كما نشر مؤلفات كتشنر وكوندر وغيرهما.

ولم يكن صندوق استكشاف فلسطين الوحيد من نوعه، فبعد خمس سنوات من تأسيسه أسَّس الأمريكيون الجمعية الأمريكية لاستكشاف فلسطين. وفي العام نفسه، أُسِّست جمعية الآثار التوراتية في إنجلترا. وأنشأ الألمان جمعيتين: الجمعية الألمانية للدراسات الشرقية (1897) والجمعية الألمانية للأبحاث الفلسطينية (1877). وأسس الفرنسيون أيضاً مدرسة لدراسة الآثار. وقد كان الحافز وراء الدراسة في كل هذه الجمعيات توراتياً (صهيونياً).

هـنري فينش (1558 ـ 1625(

Herny Finch

صهيوني غير يهودي استخدم ديباجات مسيحية. عضو في البرلمان البريطاني، وقانوني بارع. كان مهتماً جداً بالدراسات الدينية ودرس العبرية بتعمُّق.

من كتاباته غير المتصلة بالقانون كتاب شرح نشيد الأنشاد (عام 1615) الذي ناقش فيه ما أسماه «أورشليم الجديدة». وكتب في عام 1621 أحد كلاسيكيات الصهيونية المسيحية وهو كتابه المعنون بـ الاستعارة العظيمة للعالم أو دعوة لليهود حيث دعا اليهود إلى التمسك بحقهم في الأرض الموعودة وطالب الملوك المسيحيين بأن يصغوا إلى مطالبهم ويرسلوهم إليها. واشترط لتحقيق هذا أن يتحول اليهود إلى المسيحية.

وقدَّم فنش تفسيراً حرفياً لنصوص العهد القديم وأعاد تعريف إسرائيل، فتخلى عن التفسير المسيحي بأن إسرائيل هي مفهوم روحي وطرح مفهوماً عرْقياً ("إسرائيل التي انحدرت من صلب يعقوب"). وقد أثارت تلك الآراء انتقاداً شديداً وأدَّت إلى سجنه مع ناشر الكتاب حتى تنصلا من هذه الآراء واعترفا بخطئهما. وقد اعتبر الملك جيمس الأول أن هذا الكتاب إهانة للذات الملكية. ولنا أن نلاحظ أن بنية أفكاره قبَّالية تماماً وتبحث في كيفية تخليص العالم من اليهود من أجل خلق العالم الجديد والتمهيد لعودة المسيح والعهد الألفي الثاني.

فـــيليب دي لانجالـــري (1656-1717)

Philippe De Langallerie

صهيوني غير يهودي استخدم ديباجات مسيحية وعلمانية، وهو جنرال فرنسي مغامر كان يحلم بإقامة دولة يهودية. وقد تقلَّب دي لانجالري في الجيوش الأوربية فخدم تحت إمرة النمساويين ثم البولنديين بعد أن عمل في جيش فرنسا، ثم قدَّم عام 1716 عرضاً للأتراك (من خلال سفيرهم في لاهاي بهولندا) بأن يقود جيشاً من الحجاج المتنكرين إلى روما ثم يقتحم الفاتيكان ويلقي القبض على البابا ويسلم روما للأتراك. ومقابل ذلك، يأخذ أحد جزر البحر المتوسط التي كانت تحت سيطرة الأتراك (أو فلسطين الأرض المقدَّسة إن أمكن) من أجل توطين القبائل اليهودية المبعثرة والتائهة في هذه الأرض.

وقد ناشد دي لانجالري التجمعات اليهودية في أمستردام وهامبورج والطونا وغيرها من المدن التجارية في أوربا تعبئة وتجهيز جيش من 10 آلاف رجل . وقد أُعجب القبَّالي ألكسندر سوسكند المتزي بهذا المشروع وعرض على دي لانجالري أن يصير أمين خزانة مشروعه المسمَّى «الحكومة الدينية للكلمة المقدَّسة».

وفي 1716، أُلقي القبض على دي لانجالري بالقرب من هامبورج، وحوكم في فيينا حيث مات في سجنه. وتوضح سيرة حياة هذا الرجل فكرة الارتباط بين الأفكار القبَّالية والمشيحانية من جهة والنزعات الاستعمارية والمادية التي كانت قد بدأت تسود أوربا في تلك الفترة من جهة أخرى.

جـوزيف سـلفادور (1796-1873(

Joseph Salvador

طبيب ومفكر فرنسي ذي أب من أصل يهودي إسباني وأم كاثوليكية فرنسية. وُلد في مونبييه حيث درس الطب، لكنه استقر في باريس حيث اشتهر بدراساته في تاريخ الأديان. استخدم سلفادور المنهج النقدي التاريخي في دراساته الدينية الكثيرة، وخصوصاً في دراساته عن المسيح. وقد حاول سلفادور في دراسته المعنونة باريس وروما والقدس أو المسائل الدينية في القرن التاسع عشر أن يضع فكراً تصالحياً يجمع بين اليهودية والمسيحية في نسق ديني إصلاحي تقدُّمي. وقد حرَّمت الكنيسة الكاثوليكية كلاالكتابين. وكان سلفادور يحلم بأن تكون القدس مركز ديانته التجميعية الجديدة. وقد أدَّى تأكيده أهمية القدس ومركزيتها إلى أن يعتبره عدد من المؤرخين الصهاينة، مثلناحوم سوكولوف وغيره، من أسلاف الصهيونية. بيد أن سلفادور كان يعتقد في قدس روحية سماوية تمثل مركزاً دينياً لحضارة كونية لا بؤرة استقطاب لشعب منبوذ/مختار في آن واحد. وقد تأثر سلفادور في أفكاره بأفكار سان سيمون.

من بين كتبه الأخرى: شريعة موسى أو النسق الديني والسياسي للعبرانيين (1822) و تاريخ السيطرة الرومانية على يهوذا وتدمير القدس (1846(.

جــورج جاولــر (1796-1869)

George Gawler

صهيوني غير يهودي يستخدم ديباجات مسيحية وعلمانية. وهو قائد عسكري بريطاني أخذ على عاتقه نشر الأفكار المرتبطة باستقرار اليهود في فلسطين. شارك في معركة ووترلو وصار بعدها حاكماً لمستعمرة جنوب أستراليا (1838 ـ 1841).

وكان الخطاب الديني يختلط بالخطاب السياسي والعسكري في وجدانه، فقد كان يرى أن فلسطين ملك لرب إسرائيل وأن اليهود هم شعبه القومي، وكان يذهب إلى أن العناية الإلهية وضعت سوريا ومصر بين إنجلترا من جهة وبين أعظم مناطق إمبراطوريتها ومراكز تجارتها في الهند والصين، أي أن الوضع الجغراسي (الجغرافي السياسي) المتميز لسوريا ومصر والذي يُمكِّن الإمبراطورية الإنجليزية من توظيفه والاستفادة منه هو جزء من المخطط الإلهي، وكأن الإمبراطورية الإنجليزية امتداد للتاريخ التوراتي المقدَّس. والوضع نفسه ينطبق على الشعب المختار إذ سيتحول إلى مادة استيطانية أو حرس يهودي قومي "ثم يقف على جبال إسرائيل في مستوطنات زراعيةعسكرية مزدهرة تحميها ضد المعتدين".

وكان جاولر يعتقد أن توطين اليهود ("أبناء الأرض الحقيقيين") في فلسطين يمثل الحل الأمثل لمشكلة عدم الاستقرار في الشرق الإسلامي، وهو الأمر الذي تنبهت له بريطانيا بشدة بعد الحروب النابليونية، كما يمثل الحل الأمثل للمشكلة اليهودية في أوربا. وقد ربط جاولر بين هذه المستوطنات وبين المصالح البريطانية في المنطقة في كتيبه تهدئة سوريا والشرق: ملاحظات واقتراحات عملية للإسراع بإقامة مستعمرات يهودية في فلسطين وهو العلاج الناجع والمعقول لمآسي تركيا الآسيوية (1845). وفي كتيبه الآخر تحرير اليهود ضرورة لحفظ الطبيعة البروتستانتية للإمبراطورية ومن أهم دعائم الأمة البريطانية (1847).

وكان جاولر يعتقد، بسبب تجربته الأسترالية، في إمكانية توطين فلسطين (التي كان يراها أرضاً بلا شعب) في غضون بضعة أعوام. وسافر مع السير موسى مونتفيوري إلى فلسطين عام 1849 ونجح في الحث على المشروع وفي بناء مستوطنات زراعية قرب يافا، وقد رفض معظم اليهود البريطانيين أفكار جاولر الاستيطانية. ويُعتبَر جاولر مثالاً كلاسيكياً للصهيونية غير اليهودية التي انتشرت في أوربا مع بداية عصر الاستعمار، وخصوصاً مع نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر. ومن الواضح أنه كان يهدف لحماية المصالح البريطانية في الهند وفي المستعمرات الجديدة عن طريق خَلْق منطقة دفاع من المستوطنين اليهود الموالين للإمبراطورية لمواجهة أعداء الإمبراطورية.

واردر كريســـون (1798-1860(

Warder Cresson

صهيوني مسـيحي يهودي، وشـخصية محورية في تاريخ الصهيونية. كان كريسون شخصية قلقة، فهو بالمولد من أتباع طائفة الكـويكر ثم أصبح من المورمون، وانضـم إلى فـرق بروتستانتية أخرى، وبدأ اهتمامه باليهودية بعد أن قابل الحاخام الإصلاحي إسحق ليزر.

بذل كريسون جهوداً كثيرة حتى عُيِّن أول قنصل للولايات المتحدة في فلسطين. ولكنه اتُهم بالجنون فأُلغي تعيينه. ولكن القرار لم يَصدُر إلا بعد أن كان كريسون قد رحل إلى فلسطين!

كتب كريسون عدة مقالات ضد جماعة لندن لتنصير اليهود. وفي عام 1848، مع نهاية خدمته كقنصل، اعتنق اليهودية وغيَّر اسمه إلى ميخائيل بوعاز إسرائيل.

وحينما عاد كريسون إلى الولايات المتحدة عام 1849 ليسوي أموره تمهيداً للاستيطان النهائي في فلسطين، حاولت أسرته أن تُوقفه بحجة أنه مجنون، ولكنه كسب القضية المرفوعة ضده. واستوطن فلسطين عام 1851 حيث حاول تأسيس مستوطنة في وادي رفائيم بمساعدة موسى مونتفيوري وآخرين ولكنه فشل في مسعاه. وقد كان كريسون يرتدي ملابس اليهود السفارد الشرقية وتزوج من يهودية سفاردية وعاش حسب التعاليم الأرثوذكسية.

ومن مؤلفاته الشاهدان: موسى وإلياهو، وشجرة الزيتون الطيبة، والقدس مركز العالم بأسره ومصدر فرحه (وقد نُشرت جميعاً عام 1849). كما نشر عام 1852 كتاباً بعنوان مفتاح داود: داود الماشيَّح الحق. وقد بيَّن في كل مؤلفاته أن الوجود اليهودي في فلسطين لابد أن يكون ذا طابع زراعي. وقد تنبأ كريسون بكثير من المشاكل التي واجهها الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، ثم الدولة الصهيونية، مثل معارضة الحاخامات الأرثوذكس إنشاء دولة يهودية ومعارضة السكان الأصليين. وعلى هذا، اقترح إقامة مستوطنات زراعية مسلحة قادرة على القتال وعلى الدفاع عن نفسها (وهذا ما نفَّذه الصهاينة فيما بعد).

آدم مكيفتـــــــش (1798-1855)

Adam Mickiewicz

صهيوني نصف يهـودي نصف مسيحي يسـتخدم ديباجات مسـيحية. وهـو شـاعر بولندي من أصـل يهودي (فرانكي) وُلد في ليتوانيا. انخرط في نشاط الحركات الطلابية القومية في جامعة فلنا، فطُرد من البلاد وأُبعد إلى روسيا. وفي عام 1829، سُمح له بالسفر إلى الخارج وبدأ في التنقُّل من بلد أوربي إلى آخر حتى وفاته. كتب كبرى مسرحياته دزيادي (3 أجزاء) عام 1832 حيث نُشرت بالإنجليزية تحت عنوان ليلة الأسلاف (1928)، وقد رسم فيها صورة لمنقذ بولندا في المستقبل (ويُقال إنه كان يشير إلى نفسه) إذ رأت إحدى الشخصيات في المسرحية في الرؤيا أن المخلِّص سيكون ابن أم أجنبية ويجري في عروقه دم الأبطال القدامى، واسمه «أربع وأربعون». وكانت أم مكيفتش من أسرة من أتباع جيكوب فرانك، والقيمة الرقمية لهذا الاسـم (هـي 44. وهذه جميعاً أفكار قبَّالية تعرَّف عليها مكيفتش لا من القبَّالاه اليهودية وإنما من القبَّالاه المسيحية (من أعمال المتصوف المسيحي لوي كلود دي سان مارتن ومن كتابات سويدنبورج(

ويرى مكيفتش في أحد أعماله كتب الأمة البولندية والحج البولندي (1842) أن اليهود والبولنديين شعب مختار. ولذا، فإن اليهودي المثالي في ملحمة مكيفتش بان تاديوس (1834) هو وطني بولندي مفعم بالحماس لبولندا. وقد عبَّر مكيفتش عن تعاطفه مع اليهود وعن تطلُّعهم للعودة في موعظة ألقاها في المعبد اليهودي في باريس.

وكان مكيفتش يحلم بتنصير اليهود ولكنه لاحَظ أن يهود فرنسا يتركون اليهودية ويندمجون في المجتمع العلماني ولا يتنصَّرون. وحينما نشبت حرب القرم توجَّه مكيفتش إلى القسطنطينية ليساعد الفرق البولندية للحرب ضد الروس. وحاول تنظيم فرقة يهودية تُقيم الشعائر اليهودية، وكان مساعده الأساسي في ذلك طبيب فرنسي يهودي، وكان هو ومساعده يتصوران أن مثل هذه الفرقة اليهودية قد تكون بمنزلة الخطوة الأولى نحو بَعْث الأمة اليهودية. ولكن مكيفتش مات قبل أن يُكمل مهمته. والواقع أن مكيفتش مثل جيد لتداخل التراث القبَّالي اليهودي والتراث المسيحي بحيث تصبح التفرقة بين أيٍّ منهما مستحيلة، كما أنه يبين كيف أن النزعة الفرانكية المشيحانية العسكرية تحوَّلت إلى مشروع استيطاني.

إرنســت لاهــاران ( ؟ - ؟ (

Ernest Laharanne

صهيوني غير يهودي يستخدم ديباجات علمانية. وكان محرراً لصحيفة جمهورية النزعة أيَّدت فكرة التجارة الحرة وعمل كأمين لنابليون الثالث. وقد انتعشت الصهيونية غير اليهودية أيام إمبراطورية نابليون الثالث (1852 ـ 1870) عندما تجددت النشاطات الاستعمارية على نطاق أشد. وكان لنابليون الثالث طموحات في الشرق الأوسط. وقد أقحم فرنسا في حرب القرم مع روسـيا متذرعاً بحمـاية الرهـبان الكاثوليك في الإمـبراطورية العثمانية. وقد شاع أن نابليون الثالث كان يفكر في تنصيب أحد أفراد أسرة روتشيلد ملكاً على القدس (ولكن رد فعل صحافة أعضاء الجماعة اليهودية لهذه الشائعة كان سلبياً إلى أقصى حد).

كتب لاهاران كتيبه المعنون بـ المسألة الشرقية الجديدة ـ إمبراطورية مصر والعرب: إعادة تكوين القومية اليهودية عام 1860 يخبر فيه اليهود بأن فرنسا قد حررتهم وجعلتهم مواطنين وإخوة ويخبرهم أيضاً أنهم شعب ذو شخصية عبقرية مستقلة، فهو شعب عضوي لم يندمج في الحضارة الغربية لأنه مرتبط بالشرق حيث يجب أن يذهبوا حاملين "أنوار أوربا" ليكونوا بمنزلة الوسطاء الذين سيفتحون الشرق للغرب عن طريق تكوين دولة يهودية في الأرض الواقعة بين مصر وتركيا، تحت رعايةفرنسا، وبمؤازرة رجال البنوك والتجار اليهود في العالم، ويجرى اكتتاب مالي يهودي عام يتيح لليهود المجال "لشراء وطنهم القديم" من الدولة العثمانية. وقد بيَّن لاهاران الفوائد التي ستعود على الغرب من توطين اليهود في فلسطين: "طريق جديد ومُعبَّد للحضارة الغربية وأسواق جديدة للصناعة الغربية". وقد استمر لاهاران في الدعوة لهذه الفكرة بحماس شديد وربط بينها وبين الأفكار القومية التي كانت تلاقي إعجاب نابليون الثالث ورجال بلاطه الاستعماريين.

ولاهاران، شأنه شأن كل دعاة المشروع الصهيوني، يهاجم العرب (سكان فلسطين الأصليين) ليبرر عملية الغزو (ومع هذا كان لاهاران أحد ضيوف الشرف لدى الخديوي إسماعيل في حفل افتتاح قناة السويس عام 1869).

ولاهاران نموذج للمفكر الاستعماري المليء بالمتناقضات الذي يحاول بشتى الطرق العملية الوصول لهدفه الأوحد وهو السيطرة والغزو وتحقيق أقصى منفعة مادية على حساب الآخرين وباستغلال الآخرين عرباً كانوا أم يهوداً.

وهو أيضاً مثال للارتباط بين الفكر القومي الأوربي في القرن التاسع عشر والفكر الاستعماري، وللرؤية القومية في إطار التوسع والغزو والإمبراطورية العظمى التي كانيمثلها نابليون الثالث. وقد قرأ المفـكر الصـهيوني العـمالي موسى هــس كتاب لاهاران وأُعجب به.

لــورد شافتسـبري (1801-1885(

Lord Shaftesbury

هو أنتوني أشلي كوبر، لورد شافتسبري السابع. واحد من أهم الشخصيات الإنجليزية في القرن التاسع عشر، ومن أهم المصلحين الاجتماعيين. يقول عنه المؤرخ الإنجليزي تريفليان إنه كان يُعَدُّ أحد أهم أربعة أبطال شعبيين في عصره. وقد كان شافتسبري، بالإضافة إلى هذا، شقيق زوجة رئيس الوزراء بالمرستون الذي كان يثق فيه تماماً ويأخذ بمشورته. وقد كان شافتسبري زعيم حزب الإنجيليين. ولذا، فإننا نجد أن اليهود كانوا أحد الموضوعات الأساسية في فكره كما كانوا محط اهتمامه الشديد. وكان خطاب شافتسبري خليطاً مدهشاً من العناصر الاجتماعية والأساطير الدينية حيـث تَداخَل في عـقله الوقت الحاضر والزمان الغابر والتاريخ المقدَّس، وقد كان هذاالخطاب يَصدُر عن فكرة الشعب العضوي المنبوذ بشكل لم يتحقق كثيراً في كتابات أي صهيوني آخر (يهودياً كان أم غير يهودي). ينظر شافتسبري إلى اليهود من داخل نطاق العقيدة الألفية والاسترجاعية بعد علمنتها تماماً، فاليهود يكوِّنون بالنسبة إليه شعباً عضوياً مستقلاًّ وجنساً عبرياً يتمتع باستمرار لم ينقطع، ولكنهم لهذا السبب أصبحوا جنساً من الغرباء (المنبوذين) المتعجرفين سود القلوب المنغمسين في الانحطاط الخلقي والعناد والجهل بالإنجيل. وهم ليسوا سوى "خطأ جماعي". ولكل هذا، عارضشافتسبري مَنْح اليهود حقوقهم المدنية والسياسية في إنجلترا.

ولكن ثمة علاقة عضوية بين هذا الشعب وبين بقعة جغرافية محددة هي فلسطين. ولهذا، فإن بَعْثهم لا يمكن أن يتم إلا هناك. كما أن عودتهم إلى هذه البقعة أمر ضروري حتى تبدأ سلسلة الأحداث التي ستؤدي إلى العودة الثانية للمسيح وخلاص البشر. وبرغم الديباجات الدينية فإن شافتسبري، شأنه شأن مسيحيي عصره العلمانيين، كان يؤمن بأن الوسيلة الإنسانية يمكن أن تحقق الأهداف الربانية (وهذا عكس الموقف المسيحي واليهودي التقليدي). وقد عبَّر شافتسبري عن هذه الازدواجية في الخطاب في عبارته: "إن أي شعب لابد أن يكون له وطن، الأرض القديمة للشعب القديم"، وهي صيغة علمانية خافتة لشعار "الأرض الموعودة للشعب المختار". ثم طوَّر هذا الشعار ليصبح "وطن بلا شعب لشعب بلا وطن"، فهو إذن صاحب الشعار الصهيوني الشهير.

وقد نشر شافتسبري عام 1838 في مجلة كوارترلي ريفيو (وهي من أكثر المجلات نفوذاً في ذلك العصر) عرضاً لكتب أحد الرحالة إلى فلسطين. وقد بدأ المقال بالديباجة الدينية المعتادة عن قضية اليهود ثم تناول بعد ذلك تربة فلسطين ومناخها باعتبارها مناسبة لنمو محصـولات تتطلـبها احتيـاجات إنجـلترا مثل القطن والحرير وزيت الزيتون. ويبين شافتسبري أن كل المطلوب لإنجاز هذه العملية هو رأس المال والمهارة، وكلاهما سيأتي من إنجلترا، وخصوصاً بعد تعيين قنصل لإنجلترا في القدس إذ سيؤدى وجوده إلى زيادة أسعار الممتلكات. ثم يقترح عند هذه النقطة توظيف اليهود على أن يكون القنـصل البريطـاني الوسـيط بينهم وبين الباشــا العثمـاني، حتى يصبـحوا، مرة أخــرى، مزارعين في يهوذا والجليل. وهذا الاقتراح يحوي بعض عناصر الصيغة الصيهونية الأساسية (شعب عضوي منبوذ ـ نافع ـ ينقل خارج أوربا ـ لتوظيفه لصالحها(

ولكن أهم وثائق الصهيونية غير اليهودية وأكثرها شفافية (إذ تتضح فيها الصيغة الصهيونية الأساسية بكل وضوح وجلاء) هي الوثيقة التي قدَّمها شافتسبري إلى بالمرستون (25 سبتمبر 1840) لاسترجاع اليهود وحل المسألة الشرقية وتطوير المنطقة الممتدة من جهة الرافدين حتى البحر الأبيض المتوسط (وهي البلاد التي وعد الإله بها إبراهيم حسب أحد تفسيرات الرؤية التوراتية). ويؤكد شافتسبري في مقدمة المذكرة أن المنطقة التي أشار إليها آخذة في الإقحال بسبب التناقص في الأيدي العاملة، ولذا فهي تتطلب رأس مال وعمالة. ولكن رأس المال لن يأتي إلا بعد توفير الأمن. ولهذا، فلابد أولاً من اتخاذ هذه الخطوة، ثم يشير بعد ذلك إلى أن حب اختزان المال والجشع والبخل ستتكفل بالباقي، فهي من أهم دوافع الإنسان (الوظيفي)، ولذا فهي ستدفع به إلى أية بقعة يمكن أن يحقق فيها أرباحاً (ومثل هذه الضمانات ستشجع كل محب للمال عنـده الحمـاس التجـاري، أي أعضاء الجماعات الوظيفية(

كل هذه المقدمات العامة تقود شافتسبري إلى الحديث عن «العنصر العبري» أو الشعب العضوي المنبوذ (باعتباره جماعة وظيفية استيطانية) ثم يقترح أن القوة الحاكمة في الأقاليم السورية (دون تحديد هذه القوة) لابد أن تحاول وَضْع أساس الحضارة الغربية في فلسطين وأن تؤكد المساواة بين اليهود وغير اليهود فيها. وتحصل هذه القوة على ضمانات الدول العظمى الأربع عن طريق معاهدة ينص أحد بنودها على ذلك، وسوف يشجع هذا الوضع الشعب اليهودي العضوي المعروف بعاطفته العميقة نحو فلسطين حيث يحمل أعضاؤه ذكريات قديمة في قلوبهم نحوها. وهذا الشعب اليهودي العضوي "جنس معروف بمهاراته وثروته المختبئة ومثابرته الفائقة. وأعضاء هذا الجنس يمكنهم أن يعيشوا في غبطة وسعادة على أقل شيء، ذلك أنهم ألفوا العذاب عبر العصور الطويلة. وحيث إنهم لا يكترثون بالأمور السياسية، فإن آمالهم تقتصر على التمتع (بالأموال) التي يمكنهم مراكمتها... إن عصوراً طويلة من العذاب قد غرست في هذا الشعب عادتي التحمل وإنكار الذات". ويضيف شافتسبري: "إذا رأينا عودتهم في ضوء استعمار فلسطين، فإن هذه الطريقة هي أرخص الطرق وأكثرها أمناً في الوفاء بحاجات هذه المناطق غير المأهولة بالسكان. وهم سيعودون على نفقتهم الخاصة دون أن يُعرِّضوا أحداً ـ سوى أنفسهم ـ للخطر"، أي أنهم أداة آمنة كفء وسيخضعون للشكل القائم للحكومة، فهم لم يصوغوا أية نظرية سياسية مُسبَقة يهدفون إلى تطبيقها. وقد تم ترويضهم في كل مكان تقريباً على الخضوع الضمني (الهادئ) للحكم المطلق ولا تربطهم رابطة بشعوب الأرض، ولذا لابد لهم من الاعتماد على قوة ما… وسيعترف اليهود بملكية الأرض لأصحابها الحقيقيين… حيث سيكتفون بالحصول على الفائدة من خلال الطرق المشروعة مثل الإيجار والشراء، ولن يتطلب المشروع أية اعتمادات مالية من القائمين على المشروع، ولهذا فإن ثمرتها ستعود على العالم المتحضر (أي الغربي) بأسره.

ورغم أن هذه المذكرة قد كُتبت قبل عشرين عاماً من ميلاد هرتزل، فإن كل ملامح المشروع الصهيوني موجودة فيها، وخصوصاً فكرة توظيف وضع اليهود الشاذ داخل المجتمعات الغربية لخدمة هذه المجتمعات، وذلك عن طريق نَقْلهم ليصبحوا كتلة عضوية واحدة لا تخدم دولة غربية واحدة وإنما الغرب بأسره.

وفي عام 1876، كتب شافتسبري مقالاً آخر يطرح فيه مرة أخرى أفكاره الصهيونية بدقة ووضوح بالغين، فقد أكد أن سوريا وفلسطين ستصبحان شديدتي الأهمية من الناحيتين الجغرافية والتجـارية بعـد فترة وجيزة. وبعد الحديث عن الأمجاد الغابرة القـديمة، يتسـاءل شافتسبري فيقول: من تجـار العالم بالدرجة الأولى؟ والسؤال مجرد سؤال خطابي، لكن الإجابة معروفة، ثم يستطرد: "إن فلسطين في حاجة إلى السكان ورأس المال، وبإمكان اليهود أن يعطوها الشيئين معاً، وإنجلترا لها مصلحة في استرجاعهم لأنها سـتكون ضربة لإنجـلترا إن وُضع منافسـوها في سوريا. لكل هذا، يجب أن تحتفظ إنجلترا بسوريا لنفسها كما يجب أن تدافع عن قومية اليهود وتساعدهم حتى يعودوا فيكونوا بمنزلة الخميرة لأرضهم القديمة. إن إنجلترا أكبر قوة تجارية وبحرية في العالم، ولهذا فلابد لها أن تضطلع بدور توطين اليهود في فلسطين... وهذه ليست تجربة مصطنعة... إنها الطبيعة... إنه التاريخ".

ويُلاحَظ أن الديباجة الدينية هنا قد اختفت تماماً وأن الديباجة الجغراسية (موازين القوى ـ الإمبراطورية ـ الموقع الجغرافي ـ الأهمية التجارية العسكرية) هي الأهم.

وقد قام شافتسبري بعدة محاولات لتحويل صهيونيته الفكرية إلى صهيونية سياسية، فتحدَّث مع بالمرستون عن استخدام اليهود كرأس حربة لبريطانيا في الشرق الأوسط. ففتح بالمرستون قنصلية في القدس (وهذه بداية الصهيونية الاستيطانية) بناءً على إلحاحه على ضرورة مقاومة مصالح الدول الأخرى وحتى تجد بريطانيا من تحميه (فقد كانت فرنسـا تحـمي الكاثوليك وكانت روسـيا تحمي الأرثوذكس). وعُيِّن وليام ينج قنصلاً لتقديم الحماية لليهود والطوائف المسيحية، وهكذا قُدِّمت الحماية (أي التبعية لإنجلترا) لأي يهودي دون التثبت من أصله. وقد وافق الروس بين عامي 1847 و 1849 على أن يقوم الإنجليز بحماية اليهود الروس، المادة البشـرية التي ستـستخدمها الصهيونية الغربية. وكما يقول سوكولوف، فإن حماية اليهود جزء من اهتمام إنجلترا السياسي بالمسألة الشرقية.

كما أن شافتسبري حث بالمرستون على أن يكتب للسفير البريطاني في إستنبول عن فكرة الدولة اليهودية. وقد تحرَّك بالمرستون بناء على نصيحة شافتسبري وأرسل خطاباً بهذا المعنى. وحتى بعـد أن ترك بالمرسـتون الوزارة، اسـتمر شافتـسبري في نشاطه. وبدأ في وَضْع الأساس العملي لتحقيق حلمه في استرجاع اليهود إلى فلسطين تحت رعاية إنجلترا البروتستانتية، فساهم في جهود تأسيس أسقفية ألمانية إنجليزية تهدف إلى استرجاع اليهود. وقد اختير حاخام يهودي مُتنصِّر أسقفاً لها. وكان شافتسبري يَعُدُّ هذا تتويجاً لجهود جمعية اليهود، ذلك أن تأسيس الأسقفية كان بمنزلة العلامة على ابتداء عودة اليهود.

وقد أصبح شافتسبري رئيساً لصندوق استكشاف فلسطين. ورغم أنه يؤكد في كتاباته دائماً أن روح العودة موجودة عند اليهود منذ ثلاثة آلاف عام، وأن الأمة اليهودية أمة عضوية تحن إلى وطنها ولابد أن تحصل علىه، إلا أنه يُلاحَظ أن اليهود الحقيقيين الذين يقابلهم في الحياة تنقصهم الوحدة التي يفترض هو وجودها حسب رؤيته الإنجيلية الحرفية. وعلى كلٍّ، فإنه يذكر في أحد خطاباته إلى بالمرستون أن اليهود "غير متحمسين للمشروع الصهيوني، فالأغنياء سيرتابون فيه ويستسلمـون لمخـاوفهم، أما الفقراء فسيؤخرهم جَمْع المال في بلاد العالم، وسوف يفضل بعضهم مقعداً في مجلس العمـوم في بريطانيا على مقعـد تحت أشـجار العنب والتين في فلسطين. وقد تكون هذه أحاسيس بعض الإسرائيليين الفرنسيين، أما يهود ألمانيا الكفار فيُحتَمل أن يرفضوا الاقتراح".

وعلى هذا، فإن شافتسبري قد اكتشف المشكلة الأساسية في الصيغة الصهيونية الأساسية وهي أن المادة البشرية المُستهدَفة لن تخضع بسهولة لأحلامه الإنجيلية الحرفية الاستيطانية ولن تقبل ببساطة أن يتم انتزاعها من أوطانها.

جيمــس فين (1806-1872 (

James Finn

صهيوني غير يهودي كان يعمل قنصلاً بريطانياً في القدس من 1845 حتى 1862. كان من رواد الدعوة لتوطين اليهود في فلسطين واعتاد مصادقة اليهود ووَضْعَهم تحت الحماية البريطانية. ففي عام 1849 أقنع وزارة الخارجية البريطانية بأن تزود يهود روسيا (في فلسطـين) بالحـماية بعد أن رفضـت الدولة الروسـية أن تفعــل ذلك. وقد انفق أموالاً كثيرة على تمويل مزارع ومشروعات استيطانية يهودية، ولكنه أفلس بعد فترة، كما اشترك في نشاطات تبشيرية وحاول توطين بعض اليهود المتنصرين في قرية بيت لحم لكنه تخلى عن هذا المشروع عام 1864 بسبب رفض اليهود المشاركة في أيٍّ من هذه المشاريع. وكانت زوجته هي الأخرى متحمسة للمشروع الصهيوني، ولذا أسست جمعية تشجيع العمل الزراعي اليهودي في الأرض المقدَّسة.

ألَّف فين عدة كتب عن اليهود نشرتها زوجته منها تقليب الأزمنة (1876)، و يهود الصين (1849)، و مستعمرة اليهود اليتيمة في الصين (1872)، والسفارد (1841(

تشــارلز تشرشــل (1807-1869(

Charles Churchill

ضابط إنجليزي صهيوني من أوائل من دعوا إلى عودة اليهود إلى فلسطين. وهو من أسرة تشرشل الإنجليزية الشهيرة التي عملت في خدمة التاج البريطاني فترة طويلة، سواء في الجيش البريطاني أو في شركة الهند الشرقية.

وُلد في مدراس بالهند عام 1807، والتحق بالجيش البريطاني منذ شبابه المبكر (1827) وخدم في البرتغال وإسبانيا في الفترة بين عامي 1827 و 1836 حيث شارك في الحروب الأهلية التي اندلعت في شبه جزيرة أيبريا، وترقَّى في سلك الجندية سريعاً.

شهدت تلك الفترة صعود قوة مصر إبان عهد محمد علي حيث ساعدت القوات المصرية السلطان العثماني على إخماد ثورة اليونان رغم تَعرُّض الأسطول المصري حديث العهد للغرق في نافارين بعد هجوم أساطيل الدول الأوربية عليه. وبعد انتصار القوات المصرية على القوات العثمانية عام 1838 وتسليم فوزي باشا قائد الأسطول العثماني سفنه لمحمد علي، اجتمعت الدول الأوربية في لندن وأرسلت إنذاراً لمحمد علي للانسحاب من الأراضي العربية التي كانت تابعة لتركيا في سوريا والحجاز وكريت واليمن. وقد رفض محمد علي الإنذار، فأرسلت الدول الأوربية مجتمعة حملة على بيروت عام 1840. وفي 3 نوفمبر 1840، سقطت عكا، وكان تشارلز هنري تشرشل أحد الضباط المشاركين في الحملة. وقد تزامنت هذه الأحداث مع قضية داخلية صغيرة، إلا أن ما يدور في المنطقة نفسها جعلها قضية كبيرة ألا وهي الحادثة التي سُمِّيت بـ «قضية دمشق». فقد اختفى راهب كاثوليكي وخادمه، وقام القنصل الفرنسي المعادي لليهود بإثارة حاكم دمشق ضد مجموعة من العائلات اليهودية على اعتبار أن اليهود قد قتلوا الراهب وخادمه، ووجهت لليهود تهمة الدم.

وقام شريف باشا حاكم دمشق بسَجْن هؤلاء اليهود. وقد أرسلت بريطانيا بعثة برئاسة سير موسى مونتفيوري لمصر حيث نجحت تلك البعثة في تحرير السجناء بالضغط على محمد علي، وخصوصاً مع وصول القوات الأوربية إلى الشام.

وفي هذه الأثناء أيضاً، قام روبرت بيل ولورد بالمرستون (عضوا البرلمان البريطاني) بالدعوة لإرسال اليهود إلى فلسطين، وخصوصاً بعد تحرير الأراضي المقدَّسة من أيدي المسلمين. وانتشرت في إنجلترا الدعوة إلى إعادة "شعب إسرائيل إلى أرض إسرائيل" سواء من منطلق استعماري أو من منطلق ديني أصولي (حرفي) حيث تُعتبر عودة اليهود بداية الخلاص.

وقد لاقت تلك الدعاوى هوى في نفس تشرشل. ومع عودة مونتفيوري، تقابل الرجلان في مالطة. وأعرب تشرشل في هذه المقابلة عن إحساسه العميق بأن الأقدار قد رتبت هذا اللقاء في هذا المكان بالذات في إشارة واضحة لفرسان حملات الفرنجة وغزوهم فلسطين. وقد حمَّله مونتفيوري رسائل وخطابات أمان إلى يهود دمشق. وفي دمشق دعاه رئيس الجماعة اليهودية التاجر والمالي الكبير روفائيل فارحي إلى حفل استقبال كبير حيث ألقى تشرشل كلمة عبَّر فيها عن رغبته وأمله بل يقينه في أن "هذه الوديان والسهول الجميلة التي يقطنها الآن العرب الجوالون وبسببهم تعاني من الخراب بعد أن كانت مثالاً للوفرة والرخاء وتملأ أرجاءها أغاني بنات صهيون، ستعود لإسرائيل في ساعة قريبة حيث إن اقتراب الحضارة الغربية من هذه الأرض يمثل فجر نهضتها الجديدة. فلتستعد الأمة اليهودية مكانتها بين الشعوب، وليُثبت أحفاد المكابيين أنهم مثل أسلافهم العظماء".

وقد كتب تشرشل خطاباً لمونتفيوري في الفترة نفسها يطلب فيه أن يأخذ اليهود زمام الموقف في أيديهم وأن يبادروا باتخاذ الخطوات الأولية نحو الاستيطان وأن على جميع اليهود تأييد مشروع الاستيطان، وخصوصاً أن القوى الأوربية ستساعدهم في مساعيهم. كما بيَّن تشرشل في خطابه أن مساندة إنجلترا للدولة العثمانية هو زيفٌ كبير وأنه يجب إنقاذ فلسطين من براثنهم. ويمكن القول بأن خطاب تشرشل يشبه إلى حدٍّ كبير خطاب نابليون بونابرت لليهود عام 1799، وهذا طبيعي فقد كان الكولونيل البريطاني الشاب معجباً للغاية بالكورسيكي المغامر وكان يرى في نفسه أحياناً المقدرة على تحقيق هذه الطموحات التي لم يحققها نابليون، وخصوصاً مع إحساسه بأن البريطانيين قد حققوا ما فشل فيه الفرنسيون ألا وهو غزو عكا. من ثم، فقد تكلَّم باسم حكومة جلالة الملكة مستخدماً خطاباً قريباً من خطاب نابليون. ومع هذا، يمكن القول بأن خطاب تشرشل أكثر علمانية من خطاب نابليون إذ يُلاحَظ أن الديباجات الدينية فيه خافتة وباهتة للغاية.

وقد أثارت كلمة تشرشل ضجة كبيرة في الأوساط السياسية اليهودية الأوربية نشرتها جرائد يهودية ألمانية ووصفها البعض بأنها "بداية حقبة جديدة وخاتمة سعيدة لملحمة دمشق". وكثُر ظهور أفكار مشابهة في كل أنحاء أوربا داعية شعب صهيون للنهوض وإقامة الهيكل في شكل أفخم من ذي قبل.

وبدأ تشرشل على الفور في اتخاذ خطوات عملية تتعلق بتنفيذ رؤيته، فنصَّب نفسه (وهو القائمقام البريطاني) حامياً لليهود في دمشق حيث بدأ يعاملهم بوصفهم نواة الأمة اليهودية المُتخيَلة. ولأنه لم يقابل نجاحاً وسط صفوف يهود سوريا والشام عامة، توجَّه إلى يهود أوربا فأرسل خطاباً للسير مونتفيوري طالباً منه المساعدة لإنقاذ اليهود من آلامهم وتعبئتهم للهجرة إلى فلسطين باعتبار هذا حلاًّ سعيداً للمسألة الشرقية. ووضع في هذا الخطاب خطة توطينية استيطانية كاملة حيث يساهم يهود أوربا الأغنياء في توطين أقرانهم الفقراء في فلسطين، وأوضح أنه في مثل هذه المشروعات الضخمة يضحي المرء بكل عزيز لديه من مال ونفس. كما أكد أن البدو والأعـراب قاطني هذه المنـطقة لن يشـكلوا عـقبة كبيرة في وجه المشروع، بل إن المشروع سيمثل قلعة تدرأ خطر هجمات البدو أو أطماع الطامحين أمثال محمد علي.

ورغم أن مونتفيوري تحمَّس شخصياً للمشروع إلا أن مجلس ممثلي يهود بريطانيا تغاضى عنه. وفي هذه الأثناء، انعقد مؤتمر لندن لتقرير مصير الشرق حيـث قــرر قصرحكم محمد علي على مصر فقط، وعودة الشام وباقي الأراضي العربية للحكم التركي. وكانت قرارات مؤتمر لندن مخيبة جداً لآمال تشرشل الذي كان قد أصبح قنصل بريطانيا في دمشق. ورغم خيبة أمله وإحباطه، إلا أنه استمر في أداء دوره كحام لليهود ومدافع عنهم، الأمر الذي أثار حفيظة حاكم دمشق التركي، وظهر العداء بينهما بوضوح في خطاب أرسله تشرشل للقنصل البريطاني في بيروت أعرب فيه عن اعتقاده بأن عودة الترك لحكم دمشق والشام هو انتصار للرجعية المسلمة.

وبالمقابل، اتهمه الحاكم التركي بسوء السلوك وإثارة الاضطرابات والتخابر مع الدروز، وقد أدَّى هذا إلى إعادته إلى إنجلترا. ولكن هذا أتاح له فرصة أخرى للقاء السير مونتفيوري الذي اعتذر بأن مؤتمر لندن عرْقل خطة عودة اليهود لفلسطين التي اقترحها تشرشل. لكن تشرشل أخبره بأن ثمة خطة بديلة لها. وأرسل تشرشل للسير مونتفيوري خطاباً مفصلاً يتضمن هذه الخطة اقترح فيه خَلْق منصب خاص لمعتمد بريطاني لشئون اليهود، كما طالب يهود أوربا وبريطانيا بالضغط لخلق مثل هذا المنصب، ودعا إلى تكوين منظـمة يهـودية خاصـة تمثل الشــعب اليهودي تمثيلاً دبلوماسياً وسياسياً. كما عبَّر تشرشل عن أمله في أن يؤدي هذا إلى الإسراع بخلاص الشعب اليهودي. وكان رد مونتفيوري على هذه المقترحات سلبياً جداً حتى أنه لم يذكرها في مذكراته بل لم يُشر إليـها. في المقـابل، عندما أبدى تشرشـل رغبــته في العودة إلى الشام، سلمه مونتفيوري، وهو المالي الكبير، مبلغاً من المال لمساعدة يهود الشرق. لكن هذا الرفض المؤدب من قبَل مونتفيوري الاندماجي لخطط تشرشل التوطينية كان نهاية المشاريع الصهيونية عند تشرشل.

وعاد تشرشل إلى بيروت عام 1842 وتزوج سيدة لبنانية واستقر هناك حيث عمل بالتجارة والمضاربات العقارية. وكانت له علاقات طيبة مع الدروز والمارونيين وتزوجت بناته من أفراد من أسرة شهاب الشهيرة.

وألَّف تشرشل كتاباً بعنوان جبل لبنان عام 1852 دعا فيه الحكومة البريطانية لمسـاعدة اللبنانيين على التخلص من الحكم التركي.

وتَدخَّل تشرشل في السياسة الداخلية اللبنانية والصراعات بين الدروز والمارونيين مُتقلِّباً بين الفرقتين حسب قوة كل منهما. ومع مذابح عام 1860، أصدر تشرشل كتاباً آخر بعنوان الدروز والمارونيون تحت الحكم التركي من 1840 حتى 1860 اتهم فيه الدول الأوربية بالتقاعس عن أداء مهمتها لإنقاذ المنطقة من حكم الأتراك. وقد تعرَّف تشرشل في هذه الآونة إلى شخصية كان لها أثر كبير فيما بقى له من أيام هي الأمير عبد القادر الجزائري الذي ساهم بجهد كبير في إنهاء مذابح الشام عام 1860. وألَّف تشرشل عنه كتابه الأخير حياة عبد القادر الذي نُشر عام 1867 بإهداء للإمبراطور نابليون الثالث. وكان هذا الإهداء محيراً للجميع، فعبد القادر الجزائري كان عدو فرنسا اللدود كما كان تشرشل نفسه. ولكن يبدو أن خيبة أمل تشرشل في مشاريعه التوطينية والاستعمارية على يد البريطانيين هي التي دعته لهذا الإهداء. وتُوفي تشرشل عام 1869 في لبنان.

وتُمثِّل شخصية تشرشل وحياته الصاخبة نموذج عصره أصدق تمثيل، حيث اختلطت الأحلام الاستعمارية بالرؤى المشيحانية.

ولكن، لم يكن بإمكان تشرشل أن يحقِّق أحلامه وطموحاته المشيحانية الاستعمارية والدولة الإسلامية العثمانية ما زالت موجودة وقوية إلى حدٍّ ما. إلا أن هذا لم يمنعه من الاستقرار في الشرق ومواصلة محاولة لعب دور داخل في سياسته

.

والجدير بالذكر أن الصهاينة المحدثين يعتبرون تشرشل أحد الآباء الأوائل للحركة الصهيونية، وهو بالفعل كذلك، فخطبه وكتاباته تضم كل أبعاد الفكر الصهيوني، أما تحركاته الدبلوماسية فتحمل كل سمات التحركات الصهيونية فيما بعد، من إدراك ضرورة البحث عن راع استعماري للمشروع الصهيوني إلى ضرورة ضرب الدولة العثمانية. كما أنه أدرك الطبيعة الوظيفية للدولة الصهيونية، وضرورة محاولة الاستفادة من الأقليـات في المنطقة، وأدرك أيضـاً ضرورة أن يكون هناك صهيونيتان: صهيونية استيطانية وصهيونية توطينية.

بنـــديتو موســـولينو (1809-1885(Benedetto Musolino

صهيوني غير يهودي يستخدم ديباجات علمانية، وسياسي إيطالي ورجل دولة تنبأ بعودة اليهود إلى فلسطين. وُلد في بيزو، وعاش شبابه منفياً، ثم انضم لجيش غاريبالدي وخدم كعضو في برلمان إيطاليا منذ عام 1861. ألَّف سبعة كتب في الفلسفة والقانون والعدالة الاجتماعية. زار فلسطين أربع مرات وحرَّر كتاباً بعنوان القدس والشعب العبراني (1851) حث فيه بريطانيا على إقامة إمارة يهودية في فلسطين تحت التاج العثماني، وذلك كحل للمسألة اليهودية في أوربا. وقام موسولينو بصياغة دستور نظام حكم هذه الإمارة حيث العبرية لغتها الرسمية واليهودية ديانتها، وهو يمنح حق الانتخاب لأولئك المتكلمين بالعبرية فقط، كما تُمنَح الجنسية لليهود الذين يستوطنون هذه الإمارة، وكذلك لغير اليهود الذي يطلبون ذلك. وتضمن الإمارة حق العمل وحرية التعبير، وتشرف شركة قومية على توطين اليهود فيها. وقد حاول موسولينو أن يثير اهتمام عائلة روتشيلد بمشروعه دون جدوى.

جـورج إليوت (1819-1880(

George Eliot

صهيونية غير يهودية تستخدم ديباجات عضوية رومانسية، واسمها الحقيقي هو ماري آن إيفانس. تدل كتابات جورج إليوت الأولى على أنها، مثل معظم الصهاينة غير اليهود، بدأت حياتها الفكرية برفض اليهود وتراثهم، فهي ترى أن "كثيراً من أساطيرهم الأولى، وكذلك كل أحداث تاريخهم، تعاف النفس منها إلى أقصى مدى... إن كل شيء يهودي هو شيء وضيع على وجه الخصوص" (من خطاب لها عام 1848).

ومن الواضح أن جورج إليوت تنطلق من مفهوم الشعب العضوي المنبوذ. ولذا، فقد نشرت رواية دانيل ديروندا (1876) وهي رواية ذات طابع صهيوني عن يهودي يكتشف هويته (أو بتعبير أدق ما يتصوره جذوره العرْقية اليهودية) ويرى أن لا خلاص له إلا من خلال الحل الصهيوني، أي من خلال الهجرة وتأسيس دولة يهودية. وتقدِّم الرواية صورة إدراكية جديدة لليهودي باعتباره بطلاً لتحل محـل الصـورة الإدراكية القديمة لليهودي باعتباره تاجراً أو مرابياً. وقد جاء في الرواية دعوة إلى مشروع صهيوني يموِّله أغنياء اليهود ويتم الإعلام عنه بكفاءة، بحيث ينظم اليهود أنفسهم بهدف "تأسيس كيان يهودي... مركز عضوي للعرْق اليهودي". يتم ذلك عن طريق هجرة عظمى ثانية تتحرك من خلالها روح الإنجاز السامية، ليصبح اليهود أمة مثل كل الأمم. وهذا هو المشروع الصهيوني لإفراغ أوربا من اليهود عن طريق تهجيرهم خارجها، وهو، في جوهره، مشروع معاد لليهود. وبطل القصة قد تم ـ على ما يبدو ـ رسم شخصيته بوحي من شخصية الضابط البريطاني جولد سميد الذي اكتشف هويتهاليهودية في العشرينيات من عمره وذهب إلى فلسطين "ليحيي المركز العضوي" لشعبه!

والواقـع أن دانيل ديروندا من أهـم وثائق الصهيونية غير اليهودية، ربما لا يعادلها في الأهمية سوى مؤلف أوليفانت أرض جلعاد. ومن الأهمية بمكان أن نشير إلى أنكلاسيكيات الصهيونية غير اليهودية تسبق كلاسيكيات الصهيونية اليهودية بسنوات. وقد أثرت هذه الرواية تأثيراً عميقاً في رواد الفكر والأدب الصهيوني مثل بن يهوداوبيريتس وسمولنسكين وجوردن وليلينبلوم، وقد تُرجمت القصة إلى العبرية وانتشرت بين يهود ألمانيا وغيرهم من الجماعات اليهودية. ووُصفت بأنها "وعد بلفور الأدبي". لكن معظم النقاد يرون أن هذه الرواية ليست من أعظم روايات إليوت، وأن مضمونها الصهيوني متضخم إلى حدٍّ كبير. كما أن كثيراً من أعضاء الجماعة اليهودية في إنجلترا رفضوا فكرة العودة القومية، إذ كانوا يرون أنفسهم شعباً بالمعنى الروحي وحسب.

جولدوين سميث (1823-1910(

Goldwin Smith

مؤرخ ومصلح تربوي بريطاني، وهو نموذج جيد لليبرالي الصهيوني غير اليهودي المعادي لليهود. كتب سميث مقالاً عام 1878 بيَّن فيها أن اليهودية دين قَبَلي منغلق، وأن تمسُّك اليهود باليهودية في شتاتهم زادهم تعصباً. وأضاف أن هذا الدين فَقَد مضمونه الأخلاقي ولم يبق منه سوى العنصر، أي أن تمسُّك اليهود بدينهم هو في واقع الأمر تعصُّب للعرْق. واليهود شعب عضوي متماسك، ولكنه شعب عضوي منبوذ فهو محط بُغض الشعوب. وليس بإمكان اليهود أن يصبحوا مواطنين صادقين في انتمائهم لأوطانهم في دول أوربا التي تستضيفهم. ولذا، يشكل وجودهم خطراً سياسياً على البلد الذي يحلون فيه (وهذه أطروحة أساسية في الأدبيات الصهيونية والمعادية لليهود(

وكمعظم صهاينة عصره (من اليهود وغير اليهود) كان سميث يرى أن المسألة الشرقية يمكن حلها من خلال رَبْطها بالمسألة اليهودية. فهو يرى إمكانية أن يعود بعض اليهود «شديدي العزلة» (أي يهود اليديشـية) من شــرق أوربا إلى فلسـطين. وستنجز هذه العمـلية أمرين:

1 ـ سيساعد انسحاب الفائض البشري اليهودي المجتمعات الغربية على دَمْج العنصر اليهودي الأكثر اندماجية في المجتمع الأوربي.

2 ـ سيتحدد وضع اليهود كقومية منفصلة منعزلة (كما هو الحال في اليونان) تقوم بملء الفراغ الذي سيخلقه حل الدولة العثمانية.

ولنا أن نلاحظ أن سميث قد اكتشف ظاهرة الصهيونيتين التوطينية والاستيطانية، وأنه وضع يده على كثير من الأطروحات الصهــيونية الأساسـية وذلك قـبل أن ينشــر هرتزل كتـابه دولة اليهود.

إدوارد كازالـــت (1827-1883(

Edward Cazalet

صهيوني غير يهودي يستخدم ديباجات علمانية وهو رجل صناعة بريطاني. كان يمتلك عدة مصانع في روسيا القيصرية، ولكنه كان على معرفة بمسألة يهود شرق أوربا اليهودية فألَّف كتيباً بعنوان سياسة إنجلترا في الشرق: علاقتنا مع روسيا ومستقبل سوريا (1879) بيَّن فيه كيف يمكن حل المسألة الشرقية والمسألة اليهودية من خلال الربط بينهما. وقد بيَّن كازالت أن السكان العرب غير صالحين من الناحية الحضارية والخلقية لأن يكونوا أسياد مصيرهم. وهذه هي الحجة الإمبريالية التقليدية لإثبات أن ثمة فراغاً في الشرق العربي، يمكن أن تملأه القوة الإمبريالية بمعرفتها. وبالفعل، اقترح كازالت أن تقوم الإمبراطورية الإنجليزية بتوطين اليهود في فلسطين وسوريا تحتالحماية البريطانية باعتبارهم مادة بشرية يمكن من خلالها تنمية المنطقة اقتصادياً.

وقد أرسل كازالت عام 1881 يهودياً يُدعى جيمس ألكسندر للقسطنطينية ليتفاوض على إقامة خط سكك حديدية من سوريا إلى بلاد ما بين النهرين على أن تُخصَّص الأراضي المجاورة للخط الحديدي للاستيطان، وكانت خطته هي استقدام عمال يهود وتوطينهم في تلك الأراضي. وقد حصل كازالت على دعم دزرائيلي لمشروعه بهدف تفويت الفرصة على كلٍّ من الألمان والفرنسيين الذين كانوا يطمعون في القيام بهذه المهمة. واستمرت المباحثات عدة أعوام، ولكنها مع الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882 انتهت إلى لا شيء حيث لم تَعُد هناك حاجة لمثل هذه الخطة مع استقرار الطريق للهند بعد احتلال مصر.

لورانــس أوليفانــت (1829-1888(

Laurence Oliphant

صهيوني غير يهودي، ومفكر يستخدم ديباجات علمانية. وهو أحد أصدقاء لورد شافتسبري السابع. عمل في السلك الدبلوماسي البريطاني بعض الوقت (في الشئونالهندية)، كما كان عضواً في البرلمان الإنجليزي. وينطلق أوليفانت، شأنه شأن معظم الصهاينة، من فكرة الشعب العضوي المنبوذ ليدور داخل نطاق الفكر الألفي الاسترجاعي، فاليهود جنس مستقل يتسم أعضاؤه بالذكاء في الأعمال التجارية وبالمقدرة على جَمْع المال، ولكن وجودهم داخل الحضارة الغربية أمر سـلبي لأن جـذورهم في فلســطين.

وكان أوليفـانت (منطلقاً من الصـيغة الصــهيونية الأساسية) يرى، مثل كثير من السياسيين البريطانيين في عصره، ضرورة إنقاذ الدولة العثمـانية من مشـاكلها المستعصية حتى تقف حاجزاً ضد التوسع الروسي. ويمكن أن يتم ذلك عن طريق إدخال عنصر اقتصـادي نشـيط في جسدها المتهاوي ووجد أن اليهود هم هذا العنصر. ولذلك، دعاأوليفانت بريطانيا إلى تأييد مشروع توطين اليهـود لا في فلـسطين وحســب وإنما في الضفة الشرقية للأردن كذلك. وكان المشروع يتلخص في إنشاء شركة استيطانية لتوطين اليهود برعاية بريطانية وبتمويل من الخارج على أن يكون مركزها إستنبول (وقد لاحَظ بن هالبرن ـ وهو أحد مؤرخي الصهيونية المُحدَثين وأحد المؤيدين لها ـ أوجه الشبه بين هذه الخطة واقتراحات هرتزل فيما بعد(

وكانت صهيونية أوليفانت تتسم بالعملية والحركية إذ لم يكتف بطَرْح أفكاره، بل اتجه إلى فلسطين للبحث عن موقع مناسب للمُستوطَن المُقتَرح، واختار منطقة شرق الأردن شمالي البحر الميت (وتُسمَّى هذه المنطقة «جلعاد» في العهد القديم) ثم اتجه إلى إستنبول مع إدوارد كازالت (المموِّل الإنجليزي) لعَرْض مشروع سكة حديد وادي الفرات، وقدما طلباً إلى السلطان بإعطاء اليهود قطعة من الأرض بعرض ثلاثة كيلومترات على حافتي الطريق المقترح.

وكانت تربط أوليفانت علاقة بعدد من الزعماء الصهاينة من اليهود في شرق أوربا مثل بيرتس سمولنسكين وأهارون ديفيد جوردون. وقد حضر مؤتمر فوكساني فيرومانيا، الذي عُقد في 30 ديسمبر 1881 لمناقشة هجرة اليهود واستيطانهم في فلسطين. وكان لظهوره فعل السحر، وانتشرت آراؤه بشأن توطين اليهود في فلسطين بدلاً من الولايات المتحدة حيث كان اليهود يتهددهم الاندماج. وقام أعضاء جماعة البيلو بالاتصال به، وكتب له بعض أحباء صهيون يخبرونه بأن الخالق وحده هو الذي وضع في يده صولجـان قيادة اليهــود، وسموه «المخلِّص الماشيَّح» أو «قورش الثاني». ويبدو أنه لم يكن بعيداً عن تأسيس جماعة بيلو. وقد قام أوليفانت بطرح مشروع جماعة البيلو على السلطان العثماني للحصول على قطعة أرض في فلسطين، وحضر أحد مؤتمرات جماعة أحباء صهيون، كما عارض الجهود التي كانت تبذلها جماعة الأليانس لتهجير اليهود إلى الولايات المتحدة لإنقاذهم، وقام بجَمْع توقيعات من اليهود على عريضة يؤكدون فيها رغبتهم في الهجرة إلى فلسطين لا إلى غيرها من البلدان. وبالفعل، نجح أوليفانت في تهجير سبعين يهودياً من أصحاب الحرف إلى فلسطين.

وفي عام 1880، نشر أوليفانت كتابه أرض جلعاد الذي نادى فيه بضرورة توطين اليهود في فلسطين، كما شرح أبعاد فكره الصهيوني الذي أسلفنا الإشارة إليه. ومن القضايا الأساسية في الكتاب، مشروعه الخاص بسكان البلاد من العرب. فبعد أن عبَّر أوليفانت عن عدم تعاطفه مع العرب باعتبارهم مسئولين عن إفقار فلسطين، قسَّمهم إلى قسمين: بدو وفلاحين. واقترح طرد البدو ووَضْع الفلاحين في معسكرات مثل معسكرات الهنود في كندا، على أن يتم استخدامهم كمصدر للعمالة الرخيصة تحت إشراف اليهود. وقد ترجم سوكولوف الكتاب إلى العبرية عام 1886 ووزع منه 12 ألف نسخة، وهو رقم قياسي بالنسبة إلى المنشورات العبرية في ذلك الوقت، بل يُقال إنه كان أكثر الكتب المكتوبة بالعبرية شيوعاً. وقد عاد أوليفانت إلى فلسطين واستقر فيها مع سكرتيره اليهودي نفتالي إمبر مؤلف نشيد «هاتيكفاه»، أي «الأمل» (وهو نشيد الحركة الصهيونية الذي أصبح النشيد الوطني الإسرائيلي فيما بعد). وكان أوليفانت يهدف إلى مساعدة المستوطنين الصهاينة وإلى كتابة مجموعة من المقالات عن المستوطنات الصهيونية. وقد ألَّف بالفعل كتاباً آخر بعنوان حيفا أو الحياة في فلسطين الحديثة، ومات في هذه المدينة الفلسطينية عام 1888 (أما سكرتيره الصهيوني اليهودي فلم ترق له الحياة في فلسطين وهاجر منها إلى الولايات المتحدة(

ولا يعبِّر أوليفانت عن كرهه للشعب العضوي المنبوذ ولا عن رغبته في التخلص منه عن طريق التشهير به أو التبشير بين أعضائه كما كان شافتسبري يفعل أحياناً، وإنما عن طريق طَرْح مشروع متكامل للتهجير يتبناه اليهود بأنفسهم. كما أنه عمل على تخليص صهيونية غير اليهود من ديباجتها الدينية وإعطائها ديباجاتها العملية العلمية العلمانية، بحيث أصبح بالإمكان تداولها بين أكبر عدد ممكن من المسيحيين واليهود والعلمانيين. كما أن أوليفانت نجح في التمييز بين النزعات الصهيونية التوطينية الخيرية التي قام بها يهود الغرب المندمجون لإنقاذ يهود الشرق والتخلص منهم وبين الرؤية الصهيونية الاستيطانية التي لا تحاول إنقاذ اليهود كبشر وأفراد وإنما تنطلق من فكرة الشعب العضوي المنبوذ الذي لا مكان له في العالم الغربي ويمكن توظيفه وحوسلته لصالح الغرب عن طريق توطينه في فلسطين (وقد مرّ على هرتزل عدة سنوات وعلى يهود شرق أوربا عدة عقود قبل إدراك هذه الحقائق(

وتتميَّز صهيونية أوليفانت عن صهيونية شافتسبري باقترابها من اليهود ومحاولة التوجه إليهم وتجنيدهم. ولعل ظروف المرحلة قد ساعدته على ذلك باعتبار أن محاولات التحديث في شرق أوربا كانت في أربعينيات القرن، حينما بدأ شافتسبري نشاطه، لا تزال في بدايتها الناجحة ولم تكن قد تعثَّرت بعد، بينما بدأ أوليفانت نشاطه الصهيوني مع بدايات التعثر. وتجدر ملاحظة أن أوليفانت يتحرك في صفوف اليهود بألفة شديدة لم نشهدها من قبل بين الصهاينة غير اليهود.

دانييـل موردوفتسيف (1830-1905(

Daniel Mordovtsev

كاتب روسي صهيوني غير يهودي بشَّر بعودة اليهود لفلسطين. وموردوفتسيف أحد قادة الحركة القومية الأوكرانية المعروفة بعدائها العميق لليهود لأسباب تاريخية من أهمها اشتغال اليهود بالأرندا. عمل حتى عام 1866 في وظائف حكومية مختلفة، وبعدئذ انخرط في كتابة الأعمال الأدبية. زار فلسطين عام 1881 وقابل عدداً من المهاجرين اليهود الذين هربوا من مذابح أوديسا وطالب دول العالم مراراً وتكراراً بإعادة اليهود إلى فلسطين، وقد ازدادت نشاطات موردوفتسيف في هذا الصدد بعد مذابح أوائل الثمانينيات وتعثُّر التحديث. وقد ألَّف موردوفتسيف عدة قصص عن اليهود منها لماذا؟ و بين المطرقة والسندان، و هيرود. وقد أبدى تأييداً شديداً للحركة الصهيونية عند ظهورها.

فيــليب نفلينســكي (1841-1899(

Philippe Newlinski

صهيوني غير يهودي، بولندي الجنسية. كان يعمل صحفياً (رغم أصوله الأرستقراطية) ودبلوماسياً. ومن خلال عمله في السفارة النمساوية المجرية في القسطنطينية تعرَّف إلى العثمانيين وعرف الوضع في تركيا ودول البلقان. عاد إلى عمله الصحفي عام 1880 وأسس في فيينا جريدته الخاصة رسالة الشرق. وقد تعرَّف إلىه هرتزل عام 1896 وجنده للدعوة إلى الأهداف الصهيونية، وكان يدفع له لقاء جهوده وتعبه، ولكنه بعدئذ تحمَّس للدعوة الصهيونية وأصبح مستشار هرتزل الموثوق به. حاول نفلينسكي أن ينظم لقاءً بين هرتزل والسلطان العثماني لكنه فشـل، ونجـح فقط في أن يجعل البلاط العثماني يُقلِّد هرتزل نيشاناً. ولكنه نجح في تنظيم لقاء بين ولي عهد بلغاريا وهرتزل، وكذلك نجح في مقابلة ملك صربيا وإقناعه بفكرة توطين اليهود في فلسطين. وحاول أن يكسب تأييد الفاتيكان وبسمارك للقضية الصهيونية.

لم يحضر نفلينسكي المؤتمر الصهيوني الأول (1897) بسبب المرض، لكنه حضر المؤتمر الثاني (1898) وخصص عموداً في جريدته الأخبار الصهيونية. أرسله هرتزل عام 1899 لمقابلة السلطان العثماني ولكنه مات أثناء عودته من المهمة. ولم يلاق نفلينسكي أية صعوبة في مقابلة الشخصيات الأوربية المهمة وإقناعها بالمشروع الصهيوني، إذ كانت أوربا والغرب في أواخر القرن التاسع عشر وبداية التقسيم الإمبريالي للعالم على استعداد تام لتَقبُّل الأفكار الصهيونية. فالمشاكل الاجتماعية الداخلية كانت آخذة في التفاقم وأعداد اليهود كانت آخذة في التزايد، وكان الاستعمار آخذاً في التوسع والتوحش وكانت الدولة العثمانية على وشك السقوط.

ويلـــيام بلاكســتون (1841-1935)

William Blackstone

صهيوني غير يهودي، يستخدم ديباجات مسيحية وعلمانية، وهو رجل أعمال أمريكي من شيكاغو. أنفق الملايين على التبشير، وتزَّعم حملة لعودة اليهود إلى فلسطين تمهيداً لعودة السيد المسيح وبداية العهد الألفي الذهبي. وكان لكتابه يسوع قادم (1878) أثر كبير في الأوساط الشعبية البروتستانتية الأمريكية الإنجيلية، وكان من أكثر الكتب رواجاً إذ بيع منه أكثر من مليون نسخة وترجم إلى 84 لغة منها العبرية. وكان عدد الزعماء المسيحيين الذين أثار الكتاب انتباههم يفوق عدد من أثَّر فيهم أي كتاب آخر نُشر طوال عشرات السنين. وتعود أهمية بلاكستون إلى أنه نقل الصهيونية ذات الديباجة المسيحية من عالم التبشير والعقيدة إلى عالم الممارسة السياسية.

زار بلاكستون فلسطين عام 1888/1889 ونظم بعدئذ اجتماعاً يهودياً مسيحياً من أجل نشر الأفكار الصهيونية. وأرسل عام 1891 مذكرة (التماساً) إلى الرئيس هاريسون بعنوان "فلسطين لليهود" يحثه فيها على إعادة فلسطين لليهود باعتبار أن هذا هو الحل الرئيسي لمشكلة مذابح واضطهاد اليهود في روسيا القيصرية وتَزاحُم المهاجرين اليهود في البلاد الأوربية. وقد طلبت المذكرة من الرئيس الأمريكي أن يستخدم وساطته مع الدول الغربية والدولة العثمانية لعقد مؤتمر دولي لمناقشة حق اليهود في فلسطين. وقد وقع على الالتماس 413 شخصية يهودية ومسيحية مرموقة في الولايات المتحدة. ويُعَدُّ هذا بداية تشكيل جماعة الضغط الصهيونية في الولايات المتحدة، ومما له دلالته أن صهيونياً غير يهودي هو العقل المدبر وراءها. وقد احتج الحاخام الإصلاحي إميل هيرش على هذا الالتماس وأعلن أن اليهود المحدثين لا يودون أن يعودوا إلى فلسطين ليكونوا أمة يهودية. ويبدو أن بلاكستون كان يتوقع مثل هذا الاحتجاج، ولذا ضمَّن مذكرته (التماسه) تحذيراً من اليهود الاندماجيين الذين يدعون للاندماج في مجتمعاتهم. وقد أرسل بلاكستون (عام 1916) مذكرة مماثلة للرئيس ويلسون. واشترك عام 1918 في مؤتمر اتحاد الصهاينة الأمريكيين في فيلادلفيا، الذيأعلن أن بلاكستون هو "أبو الصهيونية". وقد كان أعضاء المؤتمر محقين تماماً في ذلك، فنشـاطه الصهـيوني يسـبق نشـاط هرتزل ومؤلفاته كثيراً.

ويلــيام هشــلر (1845-1931(

William Hechler

صهيوني مسيحي وُلد في الهند حيث كان أبوه يعمل مبشراً مسيحياً إنجيلياً. عمل عام 1871 مبشراً في نيجيريا، ثم عمل عام 1874معلماً لأطفال فريدريك دوق بادن الأعظم عم القيصر فيلهلم الثاني قيصر ألمانيا. اشترك هشلر عام 1882 في اجتماع عقده بعض المسيحيين المرموقين لمناقشة إمكانية توطين المهاجرين من يهود اليديشية في فلسطين ثم ارتحل إلى القسطنطينية حاملاً رسالة إلى السلطان العثماني من الملكة فيكتوريا تطلب فيها السماح بتوطين يهود روسيا في الأراضي المقدَّسة.

تعرَّف إلى هرتزل من كتابه دولة اليهود وهو واعظ بالسفارة البريطانية في فيينا، فأرسل خطاباً إلى دوق بادن يوصيه فيه بهذا الكتاب قائلاً: "إنه أول محاولة عملية وموضوعية وجادة لتعليم اليهود كيف يتحدون من جديد لتكوين أمة في أرض الميعاد التي وعدهم الإله بها". وبعدئذ كرَّس هشلر جهوده لإقامة علاقة بين هرتزل وكلٍّ مندوق بادن والقيصر.

وثمة بُعد آخر لصهيونية هشلر، فقد كان مولعاً بالحسابات الرامية إلى تحديد نهاية العالم وبداية العهد الذهبي الألفي وتحوُّل اليهود إلى المسيحية. وقد ضمَّن هذه الحسابات كتابه استرجاع اليهود لفلسطين حسب تعاليم الأنبياء (1884). ومن خلال حسابات الأرقام وما تصوَّره من قوة الحروف الرقمية في بعض النبوءات التوراتية والقبَّالية، توصَّل إلى أن عودة اليهود ستكون بين عامي 1897 و 1898. وقد كتب مقالاً مطولاً في جريدة دي فيلت الصهيونية حول استنتاجاته النهائية والحاسمة عن الخلاص الأبدي الوشيك، وأكد اقتناعه بأن الصهيونية هي الحل النهائي للوصول إلى الخلاص.

حضر هشلر المؤتمر الصهيوني الأول (1897)، وشكره هرتزل علناً على هذا ثم سافرا سوياً إلى فلسطين عام 1898 حيث قابلا قيصر ألمانيا وقدم له هشلر ألبوماً مصوراً عن المستوطنات اليهودية. وقد فشلت جهود هشلر للوساطة بين هرتزل وألمانيا نظراً للعلاقة الوثيقة والتحالف القائم بين الإمبراطورية العثمانية والألمان. ومن ثم، فقـد أراد إقامـة جســر آخــر بين الصهاينة وبين الحكومات الأوربية، فحاول تنظيم مقابلة لهرتزل مع قيصر روسيا (عدو العثمانيين اللدود) من خلال شقيق زوجة القيصر.

كان هشلر يحتفظ في منزله بمتحف صهيوني من مقتنياته عربة مونتفيوري، وبعد موته أوصى بالمتحف لمتحف أرض إسرائيل. وقد تم نَقْل المتحف وعُرض في القدس.

ونلاحظ أن هشلر هو التجسيد الكامل للفكر الصهيوني ذي الديباجة المسيحية، فتربيته المسيحية القبَّالية تجعله يعتقد في القدرة السحرية للأفكار، وضرورة التنفيذ الحرفي للنبوءة، فالعهد القديم لا يحوي صوراً مجازية أو مجاز، وإنما هو نص مقدَّس لابد من تنفيذه حرفياً، وكان اهتمامه باليهود من قبل الخطوات التمهيدية للتخلص منهم، فلابد من عودتهم إلى أرض الميعاد ليأتي المسيح ثانيةً ويخلِّصهم من الشر الكامن فيهم عضوياً.

ونلاحظ أيضاً أن الجو العام في أوربا كان مهيئاً جداً لسماع الأفكار الغيبية المشيحانية (البلهاء) عند هشلر، وقد كان من السهل عليه مقابلة ملكة إنجلترا وقيصر ألمانيا وقيصر روسيا بل الحصول على وعود منهم. ومن ثم، فإننا نستطيع أن نرى بوضوح طبيعة هذه الفترة في تاريخ الحضارة الغربية التي سادها خليط من الأفكار العرْقية والعلمية والقبَّالية هيمنت فيها الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية التي تجعل الآخر أداة وضحية.

تشارلز سـكوت (1846-1932(

Charles Scott

صهيوني غير يهودي وصحفي بريطاني وُلد في اسكتلندا، وكان يمتلك صحيفة المانشستر جارديان ويعمل رئيساً لتحريرها، وكان عضواً ليبرالياً في البرلمان (1895 ـ 1906). قابل ايزمان عام 1914 وقدمه للويد جورج وهربرت صمويل وعدد آخر من الساسة البريطانيين، ومن ثم فقد ساعد وايزمان وأصدقاءه في مداولاتهم مع الحكومة البريطانية التي أدَّت إلى صدور وعد بلفور.

كتب سكوت خطاباً لهاري ساخر يشرح فيه موقفه من الصهيونية فقال: "يجب أن نجعل اليهودي يهودياً كاملاً [وهو ما يعني أن وجوده في أي بلد خارج فلسطين يجعله يهودياً ناقصاً، فهو عضو في شعب عضوي منبوذ]. ولا يمكن إنجاز هذا الأمر إلا بأن يُحسِّن صورته في عينيه وفي عيون العالم [وهو ما يعني أن صورته غير مرضية على الإطلاق بالنسبة للعالم وبالنسبة لنفسه، أي أنها غير مرضية بشكل موضوعي]". ويرى سكوت أن الوقت قد حان لتنفيذ هذا المشروع. وبعد أن دخلت تركيا الحرب العالمية الأولى، أكد سكـوت أهمية فلسـطين بالنســبة للمصالح البريطانية (الدولة الوظيفية(

كلـــود كونـــدر (1848-1910)

Calaude Conder

ضابط بريطاني كان مسئولاً عن عملية مسح شمال فلسطين بالنيابة عن صندوق استكشاف فلسطين (وكان يُعَدُّ أحد مؤسسيه) مع تشارلز وارين. وقد ألَّفا معاً كتاباً من عدة أجزاء عنوانه مسح فلسطين الغربية. وقد قام العرب بالهجوم عليه وإصابته بالقرب من صفد عام 1875. وفي دراسته السابقة ركز كوندر على دراسة مصادر المياه فيها والتثبت من أماكن هذه المياه وحجمها، فقام هو والملازم كتشنر (اللورد كتشنر فيما بعد) بمَسْح منطقة الخليل.

لم يكن نشاط كوندر (أو سير تشارلز وارين) علمياً محايداً، ولم يَقصُر نشاطه على التنقيب، بل كانت له ميول صهيونية واستعمارية واضحة. فقد أبدى اهتماماً بمشاريع السكك الحديدية المرتبطة تماماً بالمشروع الاستعماري. وكان يذهب إلى أن الهدف من تأسيس صندوق استكشاف فلسطين هو توضيح ما جاء في التوراة، وهي عبارة تعني عادةً التفسير الحرفي العسكري للتاريخ المقدَّس الذي ورد في التوراة. ومن أهداف الصندوق الأخرى ـ حسب تصوُّره ـ مساعدة اليهود الذين سيكونون سكان البلاد في المستقبل، إذ سـيزودهم الصنـدوق بالحـقائق الثابتة عن طـــاقات وإمكانيات البلاد. وقد تَعاوَن كوندر بالفعل مع أحباء صهيون ولورنس أوليفانت. وساهم في عملية بعث التسميات التوراتية القديمة وتحديد مواقعها الحديثة. وفي عام 1892 قام بحملة تأييد للاستيطان اليهودي في فلسطين وذلك لتخفيف أثر ازدياد هجرة يهود شرق أوربا إلى إنجلترا. أما سير تشارلز وارين فكان ينادي بأن فلسطين تصلح لاستيعاب عشرة ملايين مستوطن يهودي (من فائض أوربا اليهودي ولا شك)

كَتب كوندر عدة كُتب، من أهمها كتاب عن تاريخ المملكة اللاتينية ُينوِّه فيه بأن الحملات الصليبية (أي حملات الفرنجة) حملات متحضرة وإلى أن مملكة القدس كانت نموذجاً للحكم العادل والمعتدل (تماماً مثل الحكم البريطاني في الهند)، أي أنه وضع حملات الفرنجة في إطارها الاستعماري. وكان يذهب إلى أن الاستعمار الإنجليزي قدأكمل ما فشل فيه الفرنجة، فقد عادت قبرص إلى الأمة التي غزتها أيام ريتشارد قلب الأسد، ونجح الإنجليز فيما أخفق فيه الملك لويس باحتلالهم مصر، ولم يَعُد الشرققادراً على صد الهجمات التجارية أو العسكرية الغربية، أي أن الوقت قد حان لعودة اليهود إلى فلسطين مع انتشار الاستعمار الغربي الأنجلو ساكسوني!

وقد أصدر صندوق استكشاف فلسطين كتاباً بعنوان المدينة والأرض (1892) ساهم فيه كوندر بدراسة عنوانها «مستقبل فلسطين» يعرض فيها مشروعاً صهيونياً مؤكداً فيه أن العنصر الفعال الوحيد القادر على النهوض بفلسطين وبمدينة القدس هم اليهود. وأشار إلى أن نهضة يهودية قد بدأت في الأرض المقدَّسة، فبعد أن كان عدد اليهود لا يتجاوز المئات عام 1793 أصبح عددهم أربعين ألفاً عام 1892، ولم يعودوا أقلية مضطهدة جبانة وإنما أصبحوا يسيطرون على التجارة في القدس. وتنبأ كوندر بزيادة المستوطنات الزراعية اليهودية. وكلما ازداد رأس المال الأوربي والمستوطنون الأوربيون ازداد استقلال فلسطين عن الدولة العثمانية وسيعود اليهود باعتبارهم عرْقاً مستقلاً يعتمد على نفسه وهي عودة لا تعارضها الحكومات الغربية وإنما تنظمها. وإن أعاق أحد هذه العودة فينبغي حلها في قرقميش ومجدو (هرمجدون)، أي بقوة السلاح. وهكذا تلتقي التوراة بالسيف، كما هو الحال دائماً في الخطاب الصهيوني ذي الديباجات المسيحية.

إيان سمطس (1870-1970(

Jan Smuts

صهيوني غير يهودي وسياسي ومحارب ومفكر من جنوب أفريقيا. شارك في حرب البوير (1904 ـ 1905) ثم شارك في حكومة الحرب البريطانية في الحرب العالمية الأولى. كان صديقاً شخصياً لحاييم وايزمان وداعية صهيونياً كبيراً. عمل على استصدار وعد بلفور لتحويل فلسطين إلى وطن لليهود وعلى فرض الانتداب على فلسطين. وكان سمطس يَعتبر وعد بلفور أعظم ما خرجت به الحرب من إنجازات. وقد ساعد على إنشاء الفيلق اليهودي وقال لجابوتنسكي عام 1917: "إن أحسن فكرة سمعتها في حياتي هي أن على اليهود أن يحاربوا من أجل أرض إسرائيل". وكان سمطس يعتقد أن الحركة الصهيونية تجسيد جديد لدولة جنوب أفريقيا التي حارب من أجلها عام 1904. وكان سمطس عنصرياً عنيفاً شرساً حين تولَّى رئاسة الوزارة في جنوب أفريقيا (1919 ـ 1924، 1939 ـ 1948)، فطبَّق أشد قوانين العزل العنصري قسوة وذُبح على يديه الآلاف من السود والملونين (فجنوب أفريقيا أرض بلا شعب، تماماً مثل فلسطين بالنسبة للصهاينة). اعترف سمطس بدولة إسرائيل فور إعلانها. ولا نستطيع أن نقول إن ثمة فكراً محدداً لسمطس، ولكن يُلاحَظ أن عنصريته التي تترجم نفسها إلى رفض للآخر (الذي يقع خارج نطاق القداسة) تضرب بجذورها في نسقحلولي عضوي، فهو يأخذ بالتفسيرات الحرفية للعهد القديم ويوظفها في تبرير استيطان الرجل الأبيض في أفريقيا واليهودي في فلسطين.

جوســيا ودجــوود (1872-1943(

Josiah Wedgwood

سياسي بريطاني صهيوني غير يهودي، وهو أول بارون من أسرة ودجوود. كان عضواً في البرلمان عن حزب الأحرار منذ 1906 وحتى 1919، ومنذ 1919 عن حزب العمال، وكان صديقاً لجابوتنسكي. شارك في الجهود السياسية التي أدَّت إلى وعد بلفور، وكان يرى أن الصهيونية حركة ستعيد لليهود "تلك الثقة القومية الجماعية التي يبدو أنهم يفتقرون إليها".

وأثَّر ودجوود في البعثة الأمريكية في مؤتمر السلام في فرساي وسافر بين الحربين في عدة مهمات صهيونية. ورأى ودجوود أنه ينبغي إقامة دولة يهودية حدودية على ضفتي الأردن.. تصير عضواً في الكومنولث البريطاني. وقال: لو تخلت الحكومة البريطانية عن الصـهيونية لإرضـاء العــرب، فسوف يكون هذا ضد مصالحها الحقيقية، وعلى اليهود أن يحاربوا هذا بكل الطرق المتوافرة لديهم، مشروعة كانت أم غير مشروعة.

في عام 1926، قام ودجوود بجولة في الولايات المتحدة من أجل الصندوق التأسيسي الفلسطيني، وقد نشر فيما بعد أحاديثه هناك في كتيب بعنوان فلسطين: الحرب من أجل الحرية والمجد اليهوديين. وفي عام 1928 نشر كتابه فلسطين: الحكم السابع دعا فيه إلى إقامة سلطة يهودية ذات إدارة ذاتية في فلسطين، على أن تكون جزءاً من الإمبراطورية البريطانية. وفي عام 1929، أسَّس لجنة الحكم السابع التي انضم إليها عدد من أعضاء البرلمان.

عبَّر ودجوود الأفكار الصهيونية ودافع عنها في مجلسي العموم واللوردات، كما شجع الهجرة غير الشرعية إلى فلسطين من أجل توطين أبناء "موسى والأنبياء" فيها. ومن أغرب الجوانب في فكر ودجوود نظرته للصلة بين البريطانيين واليهود. فكلاهما ـ في رأيه ـ يعمل بالربا، وأعضاء الشعبين "يتجولون" بين الشعوب الأخرى تجاراً، ويكنون الاحتقار لمن يتعاملون معهم. ومن ثم، فهم لا يتمتعون بمحبة الآخرين، وعلى استعداد دائم لاستخدام كتبهم المقدَّسة لتبرير كل ما يحتاجون إلى تبريره في علاقتهم بالجنس البشري. ويُلاحَظ أن أفكار ودجوود رغم حماسها الشديد في تأييد الصهيونية لا تخلو من نظرة احتقار لليهود.

هربــرت ســايدبوثام (1872-1940(

Herbert Sidepotham

صهيوني غير يهودي. توصَّل إلى الصيغة الصهيونية الأساسية دون معرفة سابقة بأي يهود، كان يعمل محرراً في المانسشتر جارديان مع تشارلز سكوت. نشر عدةمقالات في المجلة كانت أهمها في 22 نوفمبر 1915 حيث بيَّن أهمية فلسطين، وقد كتب هذه المقالات في وقت بدأ فيه التفـكير في تقـسيم الدولة العثمانية، فأبرز أهميةفلسطين. وقد اشترك في تأسيس مجلة فلسطين التي كانت تهدف إلى تعريف أعضاء النخبة في إنجلترا بفلسطين. وقد أثارت مقالاته في الجارديان انتباه وايزمان الذي التقى به عام 1916. ويدور فكر سايدبوثام في إطار فكرة الشعب العضوي المنبوذ، فهو يستخدم اصطلاحي «يهودا» و « السامرة» للإشارة إلى فلسطين. والواقع أن هذا ينبع من تصوُّره أن فلسطين ليس لها وجود قومي أو جغراسي مستقل عن اليهود. وبالنسبة إليه، فإن فلسطين ليست مهمة بالنسبة لليهود الذين يعيشون فيها وحسب، وإنما هي كذلك بالنسبة لكل يهود العالم ـ أي الشعب اليهودي ـ هذا الشعب القديم العريق صاحب الحضارة المرتبطة عضوياً بفلسطين. بل إن حضارة هذا الشعب هي الحضارة الطبيعية الوحيدة التي يمكن أن تنشأ هناك، الأمر الذي يعني هامشية الحضارة العربية غير اليهودية. ولذا، يذهب سايدبــوثام إلى أن بلفـور، حين أطلق مصطلح «وطن قومي» على فلسطين، فهو لم يكن يعطي اليهود شيئاً يخص شعباً آخر.

هذا هو الشعب العضوي، ولكن الشعب العضوي المرتبط بفلسطين شعب منبوذ. فحضارته هي وحدها التي يمكن أن تحل محل الحضارة التركية، وهذا هو سر نَفْع اليهود إذ يمكن توطينهم داخل إطار الدولة الوظيفية في فلسطين ذات الأهمية الإستراتيجية والسياسية بالنسبة لإنجلترا.

ولكل هذا، يلخص سايدبوثام مواقف صهيونية غير اليهود بشكل مدهش في قوله: "إن الحجة من أجل الصهيونية قوية جداً بالنسبة لأمتنا (الإنجليزية) حتى أن الواجب ليدعونا أن نوجدها لو لم تكن موجودة بيننا"، وهو يعني هنا أن اليهود كمادة استيطانية شيء يوجد في عقل أوربا وفي رؤيتها الإمبريالية للكون واليهود.

وماذا عن السكان الأصليين، أي العرب؟ يُلاحَظ تغييب العرب تغييباً تدريجياً في مصطلح سايدبوثام. وفي حديثه عن علاقة الشعب العضوي بفلسطين تتقرر نهاية العرب المحتومة حينما يشير سايدبوثام إلى ما يسميه عرب فلسطين البدائيين... فهم جنس أكثر ضعفاً وتنوعاً من "عرب اليمن والحجاز" (وكلمة «تنوع» هنا تعني «عدم التجانس»، وعدم التجانس كان يُعدُّ عيباً أكيداً من منظور القومية العضوية(

رينهـــولد نيبـــور (1892-1971(

Reinhold Niebuhr

رجل دين بروتستانتي أمريكي له دراسات اجتماعية مهمة. صاغ نيبور أفكاره الأخلاقية والدينية في الفترة هي 1941 ـ 1943 في مجموعة مقالات ومحاضرات أهمها طبيعة ومصير الإنسان أو ما عُرف باسم»محاضرات جيفورد«

وقد أعلن نيبور غير مرة أن واقعيته ذات الطبيعة المشيحانية قد غذتها قراءات أقوال الأنبياء العبرانيين، وقال: "لقد عملت كرجل دين مسيحي على تقوية المحتوى العبراني النبوءاتي للمنهج المسيحي". وعبَّر نيبور عن مفهومه لليهودية ورفضه الحاسم للنشاط التبشيري المسيحي بين اليهود في الفصل السابع من كتابه أمريكا التقية والعلمانية (1958). وقد دعا، منذ عام 1941، لإقامة وطن قومي لليهود، وخصوصاً اللاجئين الأوربيين، وذلك رغم ترحيبه باللاجئين في أمريكا. وقد منحته الجامعة العبرية في القدس درجة الدكتوراه الفخرية عام 1967. ويطلق عليه تشومسكي "مُنظِّر العنصرية الأمريكية الأول".

تشـارلز وينـجيت (1903-1944(

Charles Wingate

ضابط بريطاني صهيوني مسيحي، وُلد في الهند لعائلة ذات تاريخ في عمل الإرساليات المسيحية. بعد انضمامه للجيش في سن العشـرين أُرسـل عام 1927 إلى السـودان حـيث بقي حتى عام 1933، وتعلَّم أثناء ذلك اللغة العربية ولكنه لم يستطع قط التغلب على كراهيته العميقة للإسلام والقرآن، وكان جده مبشراً. وفي عام 1936، نُقل إلى فلسطين كضابط مخابرات، لدراسة الموقف السياسي والعسكري، وهناك ظهر حماسه الشديد للصهيونية، ولكنه كان كمعظم الصهاينة غير اليهود ممن يفسرون أحداث العهد القديم تفسيراً حرفياً عسكرياً كأنها حدثت بالأمس (على حد قول بن جوريون). وقد أشرف على تنظيم وتدريب الفرق الليلية الخاصة التابعة للهاجاناه وكانت له دراية خاصة بأساليب التعذيب وحصل لقاء ذلك على وسام الخدمة المتميِّزة البريطاني. كما ساهم في تطوير عمل المخابرات الصهيونية حيث أمد مصلحة المعلومات ببيانات وافية عن أوضاع الفلسطينيين وأبرز قياداتهم المناهضة للاستيطان الصهيوني والاحتلال البريطاني. وقام وينجت بدور مهم في تطوير الأساليب التي استخدمها الصهاينة في حملاتهم الإرهابية ضد الفلاحين الفلسطينيين، وقد تركت أساليبه غير التقليدية بصمات واضحة على العمل العسكري الصهيوني فيما بعد. وبلغ اعتناقه الصهيونية درجة إعرابه عن ضيقه لعدم اتخاذ الحركة الصهيونية مواقف أكثر تحقيقاً لأهدافها، ولهذا أطلق عليه الصهاينة اسم «الصديق» و«لورانس يهودا».

وفي ربيع 1938، أدلى وينجت بشهادة أمام لجنة ودهيد في القـدس فذكر أن أي تَقدُّم قام به العـرب في فلسـطين إنما يرجـــع لليهود، وأن دولة صهيونية صناعية حديثة تحت الحماية البريطانية سوف تحمي الوجود البريطاني في المنطقة، وستمثل خير أمل للعالم الغربي. وقد نُقل وينجت من فلسطين عام 1939، وعند عودته إلى بلاده التقى بعدد من كبار القادة العسكريين البريطانيين وعبَّر لهم عن رأيه بأن الطريقة الوحيدة أمام بريطانيا لاستعادة السلام في فلسطين هي أن تَتبنَّى سياسة ممالئة للصهيونية.

ومع نشوب الحرب العالمية الثانية، رغب وينجت في تولِّي قيادة جيش يهودي وعرض تكوين جيش من 60.000 مقاتل يهودي يتولَّى طرد إيطاليا من شمال أفريقيا، إلا أن عرضه لم يلق موافقة. وقد عمل وينجت عامي 1940 و 1941 قائداً لقوات خاصة في إثيوبيا، ثم أُرسل إلى الهند لتنظيم فرقة تتولَّى القيام بعمليات خلف الخطوط اليابانية في بورما. وقد قُتل وينجت في حادث طائرة ببورما، ويُطلَق اسمه الآن على عدة أماكن في إسرائيل (قرية للأطفال ـ كلية التربية البدنية ـ ميدان في القدس ـ غابة أقامها الصندوق القومي اليهودي).

الباب الخامس: الصهيونية التوطـينية

الصهـيونية التوطينيــة: تعـريف

Settlement Zionism: Definition

»الصهيونية التوطينية« هي صهيونية اليهودي الذي يرفض الهجرة إلى فلسطين والاستيطان فيها، ومع هذا يستمر في الادعاء بأنه صهيوني وتأخذ "صهيونيته" المزعومة شكل دَعْم الدولة الصهيونية مالياً وسياسياً والمساهمة في توطين اليهود الآخرين. ونحن نضع «الصهيونية التوطينية» مقابل «الصهيونية الاستيطانية». وتاريخ الصهيونية التوطينية منفصل إلى حدٍّ كبير عن تاريخ الصهيونية الاستيطانية، كما أن جماهير الأولى مختلفون بشكل جوهري عن جماهير الثانية. وترجمة كلمة «توطينية» باللغة الإنجليزية صعبة بعض الشيء ويمكن أن تكون «ستلنج Settling» بمعنى «من يقوم بتوطين آخر»، ولكننا ترجمناها بكلمة «ستلمنت Settlement» نظراً لسلاستها، ونظراً لأنها استُخدمت بهذا المعنى في أسماء المنظمات الصهيونية التوطينية على أن نترجم كلمة «صهيونية استيطانية» بـ «ستلركولونيال زايونيزم Settler Colonial Zionism».

الصهـيونية التوطينيـة: تاريـخ

Settlement Zionism: History

»الصهيونية التوطينية« مصطلح قمنا بسكه لنشير إلى الصهيوني الذي يؤمن بأن الصيغة الصهيونية الأساسية (َقْل بعض أو كل يهود أوربا خارجها) تنطبق على يهودي أو صهيوني آخر ولا تنطبق عليه هو شخصياً. وتقف صهيونية مثل هذا الصهيوني عند حد الدعم المالي والسياسي للمشروع الاستيطاني دون الهجرة بنفسه، أي أنه يتخلى عن التطبيق الفعلي لأحد أهم جوانب الصهيونية (الاستيطانية) دون التخلي عن تأييده ودعمه. ولذا، فإن الصهيونية التوطينية هي أهم أشكال التملص اليهودي من الصهيونية. والواقع أن تاريخ الصهيونية التوطينية مواز تماماً لتاريخ الصهيونية الاستيطانية وينقسـم إلى مرحلتين أيضـاً: مرحــلة ما قبل هرتزل وبلفور وما بعدها.

المرحلة الأولى: مرحلة ما قبل هرتزل وبلفور.

1 ـ صهيونية غير اليهود: وهي صهيونية توطينية بطبيعتها، إذ أن المادة البشرية المُستهدَفة هي اليهود وهم جماعة لا ينتمي إليها الصهيوني غير اليهودي.

2 ـ صهيونية الأثرياء اليهود المندمجين وتُسمَّى أيضاً الصهيونية الخيرية: تبنَّى بعض أثرياء الغرب الصيغة التوطينية بهدف إبعاد يهود اليديشية المهاجرين إلى بلدهم. وقد أُسِّست مؤسسات توطينية لهذا الهدف.

ثم ظهر هرتزل وطوَّر الخطاب الصهيوني المراوغ وطرح صيغته الصهيونية والعقد الصهيوني الصامت الذي يسمح للصهاينة التوطينيين من الغرب والاستيطانيين من يهود اليديشية من الشرق بالانخراط في حركة سياسـية واحـدة (رغم تباين الأهداف) تحت مظلة الإمبريالية الغربية. ويتبنَّى الجميع (الصهاينة اليهود والصهاينة غير اليهود التوطينيون والاستيطانيون) الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة، ويُسقط عليها اليهود منهم الخطاب الحلولي الكموني العضوي. وقد أخذ وعد بلفور في الاعتبار هذا الانقسام حين أسقط كلمة «الجنس اليهودي» وحين أكد أن الوعد لم يخل بالحقوق والأوضاع القانونية التي يتمتع بها اليهود في أية دولة أخرى.

المرحلة الثانية: مرحلة ما بعد هرتزل وبلفور.

أصبحت الصهيونية التوطينية هي صهيونية الشتات أو الدياسبورا إذ تحوَّلت الصهيونية التوطينية من صهيونية الأثرياء إلى صهيونية كل صهاينة العالم الغربي، وأصبحت مهمتهم العمل من أجل دعم المُستوطَن الصهيوني (مالياً وسياسياً). وقد كانت هناك توترات بين الاستيطانيين والتوطينيين في هذه المرحلة ولكنها ظلت تحت السطح بسبب حاجة المستوطنين للتوطينيين، وبسبب انشغالهم في قضية الاستيطان وطَرْد العرب وبسبب عجزهم عن الحركة بسهولة بين أعضاء الجماعات اليهودية في العالم وفيأروقة الحكومات الغربية. وبعد عام 1913 (المؤتمر الصهيوني الحادي عشر)، تتغير الصورة بعض الشيء، إذ يصبح الاستيطانيون (من شرق أوربا) قادة الحركة الصهيونية بلا منازع وتكتسب صهيونية الدياسبورا مضموناً جديداً وهو قضية الهوية إذ يصبح تقسيم العمل كما يلي: يدعم الصهاينة التوطينيون المُستوطَن الصهيوني ويصبح هو مركزاً للهوية اليهودية وركيزة أساسية لها.

وفي هذه الموسـوعة، حينـما تكون الإشـارة للصهيونية التوطينية، فإن الإشارة تكون عادةً للمرحلة الثانية التي تتضمن الدعم المالي والضغط السياسي من أجل المُستوطَن الصهيوني وتدعيم هوية يهود الخارج. وينقسم الصهاينة التوطينيون إلى اثنيين دينيين وإثنيين علمانيين.

الصهيوني اليهودي غير اليهودي

Non-Jewish Jewish Zionist

«الصهيوني اليهودي غير اليهودي» مصطلح قمنا بصياغته لوصف بعض زعماء الحركة الصهيونية في مرحلة تأسيسها، كما يمكن استخدامه لوصف كثير من جماهيرالصهيونية في الوقت الحالي. و«اليهودي غير اليهودي» هو يهودي فقد الإيمان الديني، ومن ثم فإنه لا يمارس شعائر دينه، كما أنه اندمج تماماً في مجتمعه بحيث لم يَعُديتسم بأية سمات إثنية يمكن أن يُطلَق عليها «يهودية» إذ لم يبق من هذه الهوية إلا قشرة رقيقة لا أهمية لها، ولكنه رغم ذلك يُصنَّف باعتباره يهودياً إما لأن الآخرينيقومون بتصنيفه كذلك رغماً عنه أو لأنه يدَّعي ذلك.

ونحن نذهب إلى أن مؤسسي الحركة الصهيونية من ذوي الخلفية الألمانية (هرتزل ونوردو ونوسيج) هم يهود غير يهود فقدوا كل ما يربطهم باليهودية، ولكنهم وجدوا أنفسهم، بسبب هجرة يهود اليديشية، قد أُعيد تصنيفهم كيهود. وبدأ الهمس بشأن تهديد «اليهود» للأمن القومي، ولذا فقد بدأ هؤلاء في البحث عن حل لمسألتهم اليهودية التي فُرضت عليهم فرضاً. وقد كانت الصيغـة الصهيونية الأساسـية مطروحة في أوربا، فقام هرتزل باكتشافها واكتشاف الإمبريالية كآلية لتنفيذها وطوّر صياغته الهرتزلية المراوغة التي جعلت بإمكان يهود شرق أوربا قبول الصيغة الأساسية الشاملة وتهويدها. وكان بإمكان هرتزل اليهودي غير اليهودي أن يلعب هذا الدور لأنه كان يُعَد يهودياً في نظر عالم غير اليهود (بسبب القشرة اليهودية المتبقية)، كما كان يُعَد غربياً من قِبل يهود شرق أوربا إذ لم يروا فيه شيئاً يهودياً. ولذا، أمكن هرتزل أن يقوم بدور الجسر الموصل بين هذين العالمين.

ورغم الاختلاف بين هرتزل وأثرياء الغرب المندمجين، فإن هؤلاء أيضاً كانوا صهاينة يهوداً غير يهود وجدوا أنفسهم مشغولين بحل المسألة اليهودية رغم أنفهمومتورطين في الحلول الصهيونية. ويُلاحَظ أن القيادة الصهيونية اليهودية غير اليهودية كانت دائماً مشغولة بإفراغ أوربا من اليهود وفي أسرع وقت وكانت لا تكترث إلا قليلاً بطبيعة الدولة الوظيفية المزمع إنشاؤها بتوجهها الإثني أو الديني أو العقائدي.

ويمكن القول بأن صهيونية هؤلاء اليهود غير اليهود لا تختلف كثيراً عن صهيونية غير اليهود، فكلاهما ينظر للمادة البشرية المُستهدَفة من الخارج، وكلاهما يحاول تخليص أوربا منها وتوظيفها لصالحها ولا يرى لها أية قيمة في حد ذاتها. وحينما تم تهويد الصيغة الصهيونية الأساسية واستبطنتها المادة البشرية، استولت القيادات من يهود شرق أوربا على المنظمة الصهيونية وتخلَّى الصهاينة اليهود غير اليهود عن القيادة بالاستمرار في الدعم المالي والمعنوي، شأنهم في هذا شأن دول العالم الغربي.

وبعد تأسيس الدولة، وبعد استيلاء الصهيونية على مقاليد الأمور بالنسبة للجماعات اليهودية والغرب، حَدَث تطوُّر من نوع آخر إذ ظهر في الغرب اليهودي غير اليهودي مدَّعي اليهودية. وقد انضمت أعداد كبيرة من هؤلاء للحركة الصهيونية للحفاظ على بقايا هويتهم. وقد قبلتهم الحركة الصهيونية حتى يمكنها الاستمرار في ابتزازهم مالياً وتوظيفهم في دعم المُستوطَن الصهيوني وفي الضغط السياسي من أجله. ومثل هؤلاء الصهاينة اليهود غير اليهود على استعداد تام للقيام بهذه المهمة ما دامت لا تؤدي إلى وضع ولائهم لأوطانهم موضع الشك وما دامت لا تضطرهم إلى الهجرة، وهو ما يعني أن نشاطهم الصهيوني يدور في نطاق المصالح الغربية والعقد الاجتماعي الغربي. ولذا، يمكن القول بأن صهيونية اليهود غير اليهود (رغم اختلاف جذور اليهودية المزعومة من القسر الخارجي إلى الادعاء الذاتي) لم تتغيَّر، وهي امتداد غربي داخل اليهود واليهودية وليست امتداداً يهودياً داخل الحضارة الغربية.

صهيونية الصالونات

Salon Zionism

«صهيونية الصالونات» اصطلاح سكه المفكر الصهيوني العمالي بوروخوف، ويشير إلى صهيونية أعضاء الطبقة الوسطى اليهود الذين لا يوجد لديهم حافز قوي لتأسيس الدولة الصهيونية، ولذا فهم يتحدثون عنها ولكنهم، بسبب موقعهم الطبقي، لن يبحثوا بشكل جذري عن طريقة عملية لتأسيسها. ولم يجد المصطلح رواجاً ولم يستخدمه أحد في الأدبيات الصهيونية رغم أهميته، وهو يكاد يرادف مصطلح «الصهيونية التوطينية».

صهيونية أثرياء الغرب اليهود المندمجين (لتوطينية(

Settlement Zionism of the Assimilated Wealthy Jews of Western Europe

«صهيونية أثرياء الغرب» شكل من أشكال الصهيونية التوطينية (بين اليهود في مرحلة ما قبل هرتزل وبلفور) ظهرت بين أثرياء الغرب اليهود المندمجين. وقد كان هؤلاء الأثرياء بمنزلة قيادة ليهود العالم بسبب نفوذهم المستمد من ثروتهم وتواجدهم في مواقع مهمة داخل التشكيل الحضاري الغربي، فهم كانوا لا يزالون يلعبون دور الوسيط (شتدلان) التقليدي، ويتشفعون لأعضاء الجماعات اليهودية عند الحكام والسلطات الرسمية. ولعل حادثة دمشق وتدخُّل موسى مونتفيوري من أهم الأمثلة على ذلك.

ومع النصف الأخير من القرن التاسع عشر، تدفَّق يهود اليديشية من شرق أوربا على غربها وتحوَّلت القضية بالتدريج من مجرد تشفُّع لهذا اليهودي أو تلك الجماعة إلى قضية توطين اليهود في أماكن متفرقة من العالم، أي أنها أصبحت قضية الصهيونية التوطينية. والواقع أن تبنِّي أثرياء الغرب المندمجين أحد أشكال الصهيونية ينم عنتناقض عميق، إذ أن طبيعة وضعهم في مجتمعاتهم كان يستند إلى تصوُّر أنهم أعضاء أقلية دينية وحسب لا يربطهم بأعضاء الجماعات اليهودية الأخرى سوى رباط واه، وأن ولاءهم يتجه لأوطانهم بالدرجة الأولى والأخيرة، وأن هويتهم القومية (الإنجليزية أو الفرنسية مثلاً) لا علاقة لها بانتمائهم الديني ولا تتأثر به. وهم في اندماجهم هذايُعدُّون مثلاً حياً لانتصار المُثُل الليبرالية وعلى مدى عظمة الحضارة الغربية. ولكنهم بتورُّطهم في مشروع صهيوني (حتى لو كان توطينياً)، يقرون ضمناً بوحشيةالحضارة الغربية التي تقتلع أعضاء الأقليات التي تعيش بين ظهرانيها وبفشل المُثُل الليبرالية ومُثُل الاندماج والتحديث. ولكن أثرياء الغرب المندمجـون وقعـوا في هـذاالمأزق لأسباب خارجة عن إرادتهم، فرغم عدم تَماثُل تجربة أثرياء الغرب مع التجربة اليديشية الحضارية والسياسية، ورغم أن مصير أعضاء كل جماعة كان مرتبطاً تماماً بالحركيات التاريخية لمجتمعهم، ومع تعثُّر التحديث في شرق أوربا (وهو تعثُّر صاحَبه انفجار سكاني حاد بين أعضاء الجماعات اليهودية) خرج مئات الألوف بل الملايين من اليهود الفائضين من شـرق أوربا ووصـلت جحـافلهم إلى النمـسا وفرنسا وشواطئ بريطانيا. وقد هدَّد هؤلاء اليهود المواقع الطبقـية والمكـانة المتميِّزة الجديدةالتي كان يشغلها يهود الغرب المندمجون. بل يُقال إنهم كانوا يهددون الأمن الاجتماعي للدول التي يهاجرون إليها. وهنا حدث التشابك بين «مصير» يهود شرق أوروبا وأثرياء يهود الغرب (و«تشابك المصير» يختلف عن وحدة المصير التي يتحدث عنها الصهاينة)، فيهود الغرب نظروا إلى القادمين على أنهم (على أسوأ تقدير) خطر يتهددهم أو على أنهم (على أحسن تقدير) إخوة في الدين سيئو الحظ يستحقون الإحسان. وقد عبَّر ذلك عن نفسه من خلال مشاريع صهيونية توطينية يمولها يهود الغرب لإغاثة يهود الشرق وللتخلص منهم في الوقت نفسه.

وقد كان أثرياء اليهود في الغرب، مثل روتشيلد وهيرش ومونتفيوري، على استعداد لتمويل مشروعات لتوطين يهود شرق أوربا في أية بقعة خالية (أو يُتصوَّر أنها خالية) خارج أوربا (مثل الأرجنتين) وظهرت المؤسسات التوطينية اليهودية المختلفة التي كان يدعمها هؤلاء الأثرياء (مثل الأليانس وجمعية الإغاثة التي كانت تهدف إلى توطين اليهود في مختلف أنحاء العالم وإلى تحسين أحوال أعضاء الجماعات اليهودية، وخصوصاً في شـرق أوربا في أوطـانهم بما يكفُل عدم هجرتهم). وكانت هذه المؤسسات تقوم بتدريب أعضاء الجماعات اليهودية حتى يمكنهم إما التكيف مع الأوضاع الاقتصادية الجديدة في أوطانهم الأصلية أو العمل في مهنة جديدة تحتاج إليها الأوطان الجديدة التي وُطِّنوا فيها.

ويجب تأكيد أن هذه المشاريع والمساعدات التي يمكن أن نطلق عليها «الصهيونية الخيرية» أو «صهيونية الإغاثة والإنقاذ» كانت تتسم بما يلي:

1 ـ قلّصت الصهيونية التوطينية نطاق اهتمامها، فهي لا تهتم باليهود ككل، وإنما بيهود شرق أوربا وحسب، وخصوصاً الفقراء الذين يتم توجيه عملية الإنقاذ والإغاثة إليهم وحدهم (أما يهود الغرب أنفسهم فيتم إنقاذهم من يهود اليديشية. وقد لاحَظ هرتزل أن الصهيونية التوطينية تتضمن نزعة معادية لليهود(

2 ـ تتم عملية الإنقاذ بشكل عملي برجماتي خارج أي مشروع قومي أو سياسي يهودي مستقل، فالصهيونية التوطينية معادية لما يُسمَّى «القومية اليهودية»، ولذا فإن مشاريعها لم تكن مرتبطة بفلسطين أو أرض الميعـاد ولا بالأفكـار الدينية اليهـودية التقـليدية ولا باللغة العبرية، وكانت الأليانس (على سبيل المثال) تدافع عن استخدام الفرنسية.

3 ـ يُلاحَظ أن كل شخصية، وكل جمعية صهيونية خيرية، كانت تتبع في نشاطها الدولة الأوربية التي تنتمي إليها، فالأليانس كانت تتبع فرنسا وتحاول الدفاع عن المصالح والثقافة الفرنسية، على عكس جمعية الإغاثة التي كانت تحاول الدفاع عن المصالح والثقافة الألمانية، وبهذا يؤكد الصهاينة التوطينيون انتماءهم الكامل لأوطانهم.

4 ـ لا يمكن إنكار أن روتشيلد، أو غيره من أثرياء الغرب، استفادوا كأفراد من نفوذهم في العالم الغربي ومن علاقتهم مع الحكومات الاستعمارية المختلفة في عملية شراء الأرض لتوطين الفائض اليهودي من شرق أوربا. ولكن هذا لا يغيِّر بتاتاً التوجُّه الكلي ذا الطابع الخيري الإغاثي الذي ينفر من الإطار العقائدي الصهيوني.

5 ـ لما كانت عملية التوطين عملية إنقاذ وإغاثة بدون ديباجة قومية، فإنها ستتم في أية بقعة من العالم )لأرجنتين أو شرق أفريقيا أو فلسطين)، وبشكل قانوني عن طريق شراء الأرض. ولم يول صهاينة الغرب المندمجون مشكلة السكان الأصليين أي اهتمام لأن الأمر لم يكن يعنيهم كثيراً، ولأن اهتمامهم كان ينصب بالدرجة الأولى على تخليص أوربا من فائضها اليهودي وتوطينه في أي مكان وبأية شرط (تجدُر الإشارة هنا إلى أنه، على مستوى الممارسة، كان مندوبو روتشيلد وجماعة أحباء صهيون يشترون الأرض في فلسطين ويطردون سكانها منها ويوطنون فيها اليهود(

ويمكننا أن نقول إن أولى الاتجاهات الصهيونية بين اليهود هي صهيونية الأثرياء المندمجين في غرب أوربا. وقد توجَّه إليهم صهاينة شرق أوربا التسلليون. ويمكن أن نضع داخل هذا الإطار محاولات السير موسى مونتفيوري، والبارون موريس دي هيرش المليونير اليهودي الذي ساهم بتبرعات سخية للأليانس وموَّل مشروعات توطين اليهود في الأرجنتين وغيرها من البلدان وأسَّس جمعية الاستيطان اليهودي (إيكا) لهذا الغرض، وإدموند جيمس دي روتشيلد، وجمعية الإغاثة اليهودية في ألمانيا، وجمعية الأليانس، والمحاولات المختلفة الرامية إلى توطين اليهود في الأرجنتين والبرازيل.

وقد ظهرت عدة مؤسسات توطينية استمرت في نشاطها حتى الحرب العالمية الثانية. بل لا يزال بعضها يمارس نشاطه في الوقت الحالي رغم اعتراض المنظمة الصهيونية العالمية.

ورغم أن يهود الغرب وأثرياءهم هم الذين مولوا عمليات التوطين الأولى، فإنهم لم يكونوا قط مرشحين لقيادة الحركة الصهيونية لعدة أسباب:

1 ـ لم يوافق هؤلاء اليهود قط على المضمون القومي للتوطين الذي كان يهود الشرق يحاولون فرضه.

2 ـ بعد أن أصبح المشروع الصهيوني جزءاً لا يتجزأ من المشروع الاستعماري الغربي، رضخ يهود الغرب للأمر الواقع. ولكنهم آثروا، مع هذا، الاحتفاظ بمسافة بينهم وبينه، فهم في نهاية الأمر مستفيدون من المُثُل الليبرالية السائدة في مجتمعاتهم، وهي مُثُل تتناقض مع المُثُل التي ينطلق منها المشروع الصهيوني.

3 ـ لم يكترث يهود الغرب بيهودية المشروع الصهيوني، فما كان يعنيهم أساساً هو إبعاد يهود شرق أوربا عنهم. وهم، في هذا، كانوا أقرب للصهاينة غير اليهود منهم للصهاينة من اليهود، ولذا فهم صهاينة يهود غير يهود.

4 ـ لم تكن هذه القيادات تعرف شيئاً عن المادة البشرية اليهودية المستهدفة التي كان يُراد نَقْلها إلى فلسطين، كما لم تكن تدرك لغتها ولا طموحاتها أو آلامها، ولذا فقد كانتتنظر إليها من الخارج شأنها في هذا شأن صهيونية غير اليهود.

5 ـ كانت قوة أثرياء الغرب في نهاية الأمر محدودة، فقد كانوا يملكون أن يتوسطوا لدى السلطان العثماني ليُحسِّن أحوال اليهود أو ليمنحهم قطعة أرض، ولكن لم يكن بوسعهم أن يطلبوا لليهود أرضاً ينشئون عليها دولة، كما أنهم لم يكن عندهم أي إدراك لحتمية الاستعانة بالإمبريالية في أية عملية توطينية.

وحينما ظهرت الصهيونية التسللية، حاول الصهاينة التسلل إلى فلسـطين لإنشـاء دولة يهودية دون مظلة إمبريالية (أي أن التسلليين ـ رغم اختلاف مقاصدهم عن مقاصد أثرياء اليهود في الغرب ـ وقعوا في الخطأ نفسه، فقد نظروا إلى قضية الاستيطان دون إدراك حتمية الاستعانة بالإمبريالية). ولذا، فقد توجَّهت الصهيونية التسللية إلى روتشيلد وغيره طالبة منهم العون. ولعل عدم إدراك حتمية الاستعانة بالإمبريالية في عملية الاستيطان والتوطين هي الرقعة المشتركة بين التسلليين وأثرياء الغرب المندمجين، وذلك رغم أن التسلليين استيطانيون والأثرياء توطينيون. ثم ظهر هرتزل الذي أدرك حتمية الاستعانة بالإمبريالية الغربية لإنشاء الدولة اليهودية، فتخطى يهود الغرب وأثرياءهم وتسلليي الشرق، وتوجَّه إلى الدول الاستعمارية مباشرةً فسقطت القيادة في يده منذ البداية.

ويتفق هرتزل مع أثرياء الغرب التوطينيين في عدم اكتراثه بمشاكل الهوية والوعي، فهو ينظر إلى يهود اليديشية من الخارج تماماً كما ينظر إليهم أثرياء الغرب. ولكنه، مع هذا، طوَّر الصيغة المراوغة التي تركت الباب مفتوحاً أمامهم ليلقوا بالصدقات على الاستيطانيين دون أن تطأ أقدامهم أرض الميعاد نظير ألا يهاجمـهم أحد أو يتهمـهم بالتنكر ليهوديتهم. والواقع أن هذا جزء من العقد الصهيوني الصامت.

ومع صدور وعد بلفور، دخلت الصهيونية التوطينية مرحلة جديدة تماماً، فقد سقطت تهمة ازدواج الولاء إذ تحولت الصهيونية نفسها إلى مشروع تابع للحضارة الإمبريالية الغربية، وتأييد مثل هذا المشروع يمكن أن ينبع من الولاء للوطن الأم ولا يتناقض مع وطنية المرء، وهذا ما كان يعنيه برانديز حين قال: "كي أصبح مواطناً أمريكياً صالحاً، يجب أن أصبح يهودياً أفضل، وكي أصبح يهودياً أفضل يجب أن أصبح صهيونياً"، ذلك أن الصهيونية واليهودية والوطنية الأمريكية أمور مترادفة بالنسبة له ولصهاينة الغرب التوطينيين، ومن ثم أصبح بالإمكان اندماج الصهيونية الدبلوماسية الاستعمارية وصهيونية الأثرياء المندمجين لتظهر صهيونية الشتات التوطينية.

موسـى مونتفيـوري (1784-1885(

Moses Montefiore

ثري ومالي بريطـاني يهـودي، زعيم الجماعة اليهودية في إنجلترا، ومن كبار المدافعين عن الحقوق المدنية لليهود في إنجلترا والعالم. وُلد في بريطانيا لأسرة إنجليزية ذات أصول إيطالية سفاردية استقرت في إنجلترا في القرن الثامن عشر. وبدأ عمله كسمسار في بورصة لندن حيث حقق ثراءً سريعاً. وقد ارتبط بعائلة روتشيلد المالية الثرية من خلال المصاهرة، الأمر الذي ساعده في مجال أعماله. وقد كان مونتفيوري من أوائل المشاركين في تأسيس البنوك الصناعية بالتعاون مع المؤسسة الإنجليزية ـ الأمريكية العاملة في مجال الماس والمال والتي اشترك في تأسيسها إرنست أوبنهايمر اليهودي الثري رجل الصناعة والمال في جنوب أفريقيا. وقد حقق مونتفيوري ثروة طائلة من خلال أعماله، وهو ما مكَّنه من اعتزال العمل عام 1824. وقد كان مونتفيوري ثاني يهودي يتولى منصب عمدة لندن وأول يهودي يحصل على لقب «سير».

وقد كرَّس مونتفيوري جهوده بعد ذلك للقضايا المرتبطة بأوضاع الجماعات اليهودية في شرق أوربا والعالم الإسلامي، وزار فلسطين سبع مرات، وقدم لمحمد علي باشا عام 1838 خطة لتوطين اليهود في فلسطين تتضمن توفير وضع متميِّز لليهود وقدر كبير من الاستقلال الذاتي وتنمية المشاريع الزراعية والصناعية في فلسطين حتى يحقق اليهود الاعتماد على الذات. وفي المقابل، اقترح مونتفيوري تأسيس البنوك في المدن الرئيسية في المنطقة لتقدِّم التسهيلات الائتمانية للمنطقة بأكملها. وقد ساهممونتفيوري في تأسيس بعض المستوطنات الزراعية في الجليل ويافا، وأسَّس أول حي يهودي خارج أسوار مدينة القدس القديمة، كما أسس بعض المشاريع الصناعية. وقد التقى بمحمد علي مرة أخرى في القاهرة عام 1840 لبحث قضية دمشق، إلا أن مشاريعه في فلسطين تعثرت بعد خروج محمد علي من فلسطين تحت ضغط القوى العظمى في تلك الفترة. ومع ذلك، نجح في إقناع السلطان العثماني بمنح الامتيازات التي كان يتمتع بها الأجانب لليهود في جميع أرجاء الإمبراطورية العثمانية، وهو ما ساهم بدون شك في تحويلهم إلى عنصر أجنبي منبتّ الصلة بالمنطقة وذي قابلية خاصة للتحول إلى جماعة وظيفية استيطانية .

وقد اهتم مونتفيوري أيضاً بأوضاع الجماعات اليهودية في شرق أوربا، فزار روسيا عامي 1846 و1872 لبحث حالتهم مع الحكومة القيصرية، كما زار المـغرب عـام 1863 ورومانيا عام 1867 للغرض نفسه.

وقد اكسبته جهوده لصالح الجماعات اليهودية، ومهاراته وحنكته الدبلوماسية، وقدرته على الوصول إلى الحكام المناسبين، مكانة واحتراماً كبيراً، خصوصاً لدى الحكومة البريطانية حيث كان كثير من نشاطاته متفقة مع السياسات الاستعمارية البريطانية. وكان تأييده للاستيطان اليهودي في فلسطين، شأنه شأن معظم الأثرياء اليهود المندمجين في الغرب، يهدف إلى تحويل تيار الهجرة المتدفق من شرق أوربا على غربها بعيداً عنها، لأن هذا التيار كان يهدد وضعه الطبقي والحضاري في إنجلترا. ولذلك، كان من أهم اهتماماته تحويل اليهود إلى قطاع اقتصادي منتج، عن طريق رَبْطهم بالأرض ومهنة الزراعة وإنشاء المستوطنات الزراعية وإدخال العلوم العصرية في المدارس اليهودية في شرق أوربا.

وقد واصل ابن أخته يوسف سيباج مونتفيوري (1822 ـ 1903) نشـاط خاله في فلسـطين، وتولَّى منصب نائب رئيـس حركة أحباء صهيون. وقد أُعيد دفن جثمان مونتفيوري وزوجته في إسرائيل عام 1973.

موريـس دي هـيرش (1831-1896(

Maurice de Hirsch

ثري ألماني يهودي، ومؤسس جمعية الاستيطان اليهودي، وأول من فكر في إعادة توطين اليهود على نطاق واسع. وقد وُلد هيرش لعائلة يهودية ثرية ومرموقة وكان والدهمن يهود البلاط. وقد تلقى في صباه دراسة دينية وتعلَّم العبرية. وفي بروكسل، اشتغل في مؤسسة مصرفية كبيرة مملوكة لعائلة يهودية مالية ذات مكانة مرموقة في بلجيكا، هي عائلة بيسخوفشايم. وقد ارتبط هيرش بهذه العائلة من خلال الزواج، وهو ما سهَّل له البدء في مشاريع تمويل بناء السكك الحديدية في تركيا والنمسا ودول البلقان. وقد كان للمموِّلين اليهود بصفة عامة (في القرن التاسع عشر) دور مهم في تمويل بناء السكك الحديدية في أوربا وهو مجال كان لا يزال في بداياته، وبالتالي كان ينطوي على كثير من المجازفة. إلا أن تراث اليهود كجماعة وظيفية، وتَشعُّب خبراتهم وعلاقاتهم المالية، أهَّلهم لدخول هذه المجالات الجديدة وتحقيق قدر كبير من النجاح. وقد حققهيرش من خلال نشاطه في هذا المجال، وأيضاً من خلال نشاطه في المضاربات على سلعتي السكر والنحاس، ثروة طائلة في عام 1890، وإن كانت الشبهات تحيط بمصادر الجانب الأعظم من هذه الثروة. وليس أدل على ذلك من الفضيحة المالية التي تفجرت عقب نجاح هيرش عام 1869 في إبرام صفقة مع الدولة العثمانية للحصـول على امتيـاز إنشـاء وتشـغيل شــبكة خطوط حديدية في البلقان، حيث كُشف النقاب آنذاك عن الأساليب الملتوية التي لجأ إليها هيرش للحصول على الصفقة، ثم أشكال التلاعب في تنفيذ المشروع نفسه.

وقد كان هيرش واعياً بالمسألة اليهودية في شرق أوربا، فاهتم بنشاط الأليانس إسرائيليت يونيفرسل التعليمي، وتبرع لها بمبلغ مليون فرنك، ثم خصص لها صندوقاً يوفر لها عائداً سنوياً كبيراً. كما قدم للحكومة الروسية مبلغ مليونين من الجنيهات لإنشاء نظام تعليمي حديث، إلا أن تبرعـه رُفض نظراً لإصراره على فرض الوصاية على هـذا المشروع. فقام بتأسيس جمعية الاستيطان اليهودي (إيكا) برأسمال قدره مليونين من الجنيهات دفعها كلها تقريباً. وكانت الجمعية تهدف إلى تهجير وتوطين اليهود في كندا والولايات المتحدة والأرجنتين والبرازيل وتحويلهم إلى قطاع اقتصادي منتج عن طريق تعليمهم الزراعة والحرف المختلفة. ويمكن فَهْم اهتمام هيرش سواء بتعليم يهود شرق أوربا أو بإعادة توطينهم في ضوء حقيقتين: أن الهجرة من الشرق كانت تهدد وَضْع يهود الغرب المندمجين، وهو ما دفع هؤلاء إلى محاولة إبعاد هذه الهجرة منأوربا إما عن طريق إعادة توطين اليهود في دول أخرى، ومن ناحية أخرى عن طريق إعادة تعليمهم حتى يكتسبوا خبرات صناعية وزراعية تؤهلهم للانضمام للمجتمع الأم الذي لم يَعُد بحاجة إلى اليهودي بخبراته القديمة. كما أن حركة توطين اليهود كانت تتم في إطار اهتمام أوربا بإنشاء مجتمعات استيطانية في الدول المختلفة في آسـيا وأفريقيا وأمريكـا الجنـوبية كجـزء من سياسة التوسع الاستعماري.ـ

وقد حاول أحباء صهيون وهرتزل أن يطلبوا من هيرش العون لمشاريعهم ولكنه اعتبر محاولة إنشاء دولة صهيونية في فلسطين مجرد وهم كبير. ومع ذلك، فقد ظل على إيمانه بإمكانية تحويل يهود أحياء الجيتو في شرق أوربا إلى شعب زراعي. وقد استمرت جمعية الاستيطان اليهودي في نشاطها بعد وفاته، لكن صندوقها تحوَّل لخدمة الاستيطان في فلسطين. وفي عام 1923، تم دَمْج مؤسستي روتشيلد وهيرش تحت اسم بيكا (هيئة الاستيطان اليهودي في فلسطين) وبلغ مجموع ما امتلكته هذه المؤسسة الموحَّدة خلال ربع قرن (1922 ـ 1948) ما مساحته 45 ألف دونم، أو ثلث ما كان بحوزة اليهود من أراض عند إعلان قيام إسرائيل.

بنــيامــين بيشــوتـو (1834-1890(

Benjaminn Peixotto

محام ودبلوماسي أمريكي يهودي. وُلد في نيويورك لعائلة يهودية سفاردية هاجرت إلى الولايات المتحدة في أوائل القرن التاسع عشر قادمة من أمستردام. عاش في كليفلاند، واشتغل في تجارة الملابس، كما درس القانون ونشط في السياسة وساهم بالافتتاحيات السياسية في إحدى صحف كليفلاند المحلية. كما نشط في مجال شئون الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة، فانضم إلى منظمة أبناء العهد (بناي بريت) عام 1863 وانتُخب رئيساً للمحفل الأعلى في العام نفسه واحتفظ بهذا المنصب لمدة أربع دورات. وكان بيشوتو وراء جهـود المحـفل لإقامة ملجأ للأيتام اليهود في كليفلاند عام 1869. كما كان من مؤسسي اتحاد الطوائف الأمريكية العبرية وجريدة منوراه منثلي. وتعود أهمية بيشوتو إلى أنه اختير أول قنصل عام أمريكي لدى رومانيا بعد أن رشحه الرئيس الأمريكي يوليسس جرانت لهذا المنصب عام 1870 وذلك بإيعاز من بعض أثرياء اليهود الأمريكيين، وخصوصاً عائلة سليجمان المالية الثرية. وقد جاء ذلك بعد تدهور أوضاع الجماعة اليهودية في رومانيا وتزايد حدة الاضطهاد ضدهم، فكان الغرض من إرسال بيشوتو الضغط على الحكومة الرومانية لإعتاق اليهود وتحسين أوضاعهم. ونظراً لأن الحكومة الأمريكية لم توفر التكاليف المادية لهذا المنصب، فقد تكفَّلت بها مجموعة من الأثرياء اليهود الأمريكيين ومنظماتهم الإسرائيلية وعدد من الشخصيات اليهودية الفرنسية والإنجليزية البارزة وعلى رأسهم سير فرانسيس جولد سميد. وفي رومانيا، نجح بيشوتو في إقامة علاقة طيبة مع الأمير شارل حاكم البلاد. وبادر بتأسيس مدارس يهودية وجمعيات ثقافية. كما حاول بيشوتو توحيد يهود رومانيا داخل إطار واحد، فأسَّس منظمة «جماعة صهيون» التي ارتبطت فيما بعد بمنظمة أبناء العهد (بناي بريت). وخلال السنوات الخمس التي أمضاها بيشوتو في رومانيا، تقلَّص عدد الهجمات ضد اليهود وكذلك القوانين المناهضة لهم. كما لعب بيشوتو دوراً مهماً بالتعاون مع بعض الشخصيات اليهودية الأوربية البارزة في الدعوة إلى انعقاد مؤتمر بروكسل عام 1872 الذي بحث أوضاع الجماعات اليهودية في دول البلقان.

والواقع أن إرسال بيشوتو إلى رومانيا وجهوده فيها، والدعم المادي والسياسي الذي توافر له من قبَل كبار الشخصيات اليهودية الأمريكية والأوربية، لم يكن بدافع إنساني محض أو بدافع إنقاذ بني جلدتهم من يهود رومانيا ودول البلقان، فقد كان الدافع الأساسي والأهم تحسين أوضاع الجماعات اليهودية في رومانيا وفي شرق أوربا بشكل عام في ظل التدهور الاقتصادي والاجتماعي الذي كانت تشهده هذه المنطقة حتى لا تتدفق هجرتهم إلى غرب أوربا والولايات المتحدة بما قد يسفر عنه ذلك من تهديد للأوضاع الطبقية والمراكز الاجتماعية لأثرياء اليهود المندمجين. وتأكيداً لذلك، عندما اقترح بيشوتو فَتْح باب الهجرة أمام يهود رومانيا إلى الولايات المتحدة قوبل بهجوم شديد من المجموعات اليهودية الغربية التي كانت تدعمه ثم أعلنت رفضها التام والقاطع لهذه السياسة. كما أن يهود رومانيا أنفسهم عارضوا مثل هذا القرار الصهيوني لأنه يضع حقـوقهم السـياسية في وطـنهم موضع التـساؤل. وبطبيعة الحال، كانت القوة الوحيدة التي أيَّدت جهود بيشوتو هي الحكومة الرومانية المعادية لليهود.

الصفحة التالية ß إضغط هنا