المجلد السادس: الصهيــونيــــة 8

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

الباب السابع: الصهيونية الاستيطانية (العملية(

الصــهيونية الاســــتيطانية: تعــريف

Settler Colonial Zionism: Definition

«الصهيونية الاستيطانية» مصطلح نستخدمه للإشارة إلى الصهيونية التي يؤمن أصحابها بأن الجانب الاستيطاني في الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة لابد أن يوضع موضع التنفيذ، وأنهم على استعداد للاضطلاع بهذه الوظيفة. والاستيطان جوهر الصهيونية. والاستعمار الصهيوني هو استعمار استيطاني إحلالي لا يأخذ شكل جيش يقهر أمة ويحتل أرضها ليستغل إمكاناتها الاقتصادية والبشرية لصالح البلد الغازي وحسب وإنما يأخذ شكل انتقال الفائض البشري اليهودي من أوطان مختلفة إلى فلسطين للاستيلاء عليها وطرد سكانها الأصليين والحلول محلهم.

ونحن نُميِّز في هذه الموسوعة بين «الصهيونية التوطينية» و«الصهيونية الاستيطانية»، فالصهيونية التوطينية هي صهيونية يهود العالم الذين يشجعون استيطان اليهود في فلسطين لسبب أو آخر ولكنهم هم أنفسهم لا يهاجرون إليها قط، أما الصهيونية الاستيطانية فهي صهيونية من يستوطن في فلسطين بالفعل.

وقد ظهرت الصهيونية الاستيطانية بعد الصهيونية التوطينية إذ أن المادة البشرية المُستهدَفة، أي يهود شرق أوربا، لم يتبنوا الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة إلا بعد قرون من تبنِّي الأوساط المسيحية البروتستانتية والأوساط الاستعمارية العلمانية للصيغة الصهيونية.

وقد كان ما نطلق عليه «الصهيونية التسللية» أول أنواع الصهيونية الاستيطانية، ثم أعلن بعد ذلك وعد بلفور واستمر الاستيطان وتصاعدت وتيرته تحت رايات الاستعمار البريطاني، في الهجرات الصهيونية الاسـتيطانية المختلفـة (انظر: «الهجرة الصهيـونية الاسـتيطانية [تاريخ[»(

والصهيونية الاستيطانية هي الصهيونية التي تعمل في فلسطين فتنشئ المؤسسات الاستيطانية (الاقتصادية والعسكرية) وتنظم المستوطنين داخل التنظيمات الزراعية العسكرية، وتتعاون مع الدولة الراعية، وتضع الخطط الكفيلة بالقضاء على مقاومة السكان الأصليين بل سَحْقها تماماً، وتقوم بالمهام التي توكلها إليها الدولة الراعية. ولا يتدخل الصهاينة الاستيطانيون، ما وسعهم عدم التدخل، في شئون صهاينة الخارج التوطينيين، ما دام الدعم المالي والسياسي مستمراً وما دام صهاينة الخارج لا يتدخلون بدورهم في شئون المُستوطَن.

والصهيونية الاستيطانية، شأنها شأن الصهيونية التوطينية، قادرة على امتصاص أيِّ مضمون سياسي أو ديني. فهناك مؤسسات استيطانية ذات ديباجات اشتراكية إلحادية،وأخرى ذات ديباجات دينية أو ليبرالية أو فاشية. ولكن يمكن القول بأن الصهيونية العمالية هي التي قامت بتجنيد أعضاء الفائض اليهودي من شرق أوربا وزودتهم بإطارنظري، ثم زرعتهم في فلسطين، وقادت عمليات الإرهاب ضد العرب، إلى أن طردت غالبيتهم. وكانت مؤسساتها الاستيطانية المختلفة وتنظيماتها الثقافية والعسكرية هي المهيمنة تماماً على عملية الاستيطان. وكانت مشاركة الأحزاب الأخرى ـ مثل الأحزاب الدينية والأحزاب الصهيونية ذات الديباجة الليبرالية (الصهاينة العموميون) أو الفاشية (حيروت) ـ مشاركة ضئيلة بالقياس إلى ما أنجزه العماليون. وبعد إعلان الدولة، ظل العماليون مسيطرين على الصهيونية الاستيطانية، إلى أن استولى الليكود على الحكم وقاد المُستوطَن الصهيوني وبدأ يشارك مشاركة أكيدة وفعالة في صياغة سياساته وتوجهاته.

وبعد تأسيس الدولة الصهيونية، نشب صراع بين الصهاينة التوطينيين والصهاينة الاستيطانيين إذ ظن التوطينيون أنهم سيستمرون في الإشراف على الدولة والاشتراك في توجيه سياساتها (أوليسوا هم أيضاً أعضاء في الشعب اليهودي وجزءاً من قياداته؟ أوليست الدولة مدينة بوجودها لهم ولجهودهم؟). ولكنهم لم يدركوا أن الدور القيادي الذي لعبوه كان دوراً مؤقتاً بسبب وجودهم في الغرب (راعي المشروع الصهيوني) وتمتُّعهم بحرية الحركة، وبسبب انشغال الاستيطانيين بعمليات تأسيس المؤسسات الاستيطانية وإرهاب العرب. وكان الصهاينة الاستيطانيون يرون من البداية أن الجماعات اليهودية في الخارج بمنزلة كوبري (جسر) للوطن القومي، أو لبنات في بنائه، أو حتىمستعمرات تُوظَّف في خدمته. وانطلاقاً من هذه الرؤية، وصف بن جوريون المنظمة الصهيونية بأنها كالسقالة التي استُخدمت لبناء الدولة. ولذا، لم يَعُد هناك أي مبررلوجودها بعد إعلان الدولة، أي أنه عرَّف المنظمة الصهيونية كمجرد أداة وعرَّف علاقة الدولة بالمنظمة على أنها علاقة نفعية مالية وليست عضوية. فالسقالة ليست جزءاًعضوياً من البناء، ولذا يمكن الاستغناء عنها بعد الانتهاء من عملية البناء. وقد كسب الصهاينة الاستيطانيون هذه المعركة وتحوَّلت المنظمة الصهيونية إلى سـقالة دائمة؛خادم خاضع قانع بدور الأداة الطيعة في يد صاحبها الذي يستخدمها في ابتزاز يهود العالم وامتصاص أموالهم.

ومن أهم قادة الصهاينة الاستيطانيين قبل عام 1948 جوزيف ترومبلدور وبن جوريون، أما بعدها فقيادات الاستيطان هم قيادات المستوطن الصهيوني.

الصهيونية العملية

Practical Zionism

«الصهيونية العملية» اصطلاح يُطلَق على أحد الاتجاهات الصهيونية في فترة ما قبل هرتزل وبلفور، وهو مصطلح غير دقيق، وسنسميه «الصهيونية العملية التسللية» أو «الصهيونية التسللية» وحسب. والواقع أن كل الحركات الصهيونية حركات عملية مغرقة في العملية، لكن تسللية هذا الاتجاه (مقابل إمبريالية الاتجاهات الأخرى) هو مايميِّزها.

المشاريع الاستيطانية الصهيونية الخيالية

Zionist Utopias

ظهرت في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر مجموعة من الأعمال الأدبية أو شبه الأدبية التي كتبها مؤلفون يهود تتناول بشكل روائي خيالي المجتمع الصهيوني أو الدولة الصهيونية حيث يتم حل كل مشكلات اليهود. ولم يكن ثمة حد فاصل بين الخيال والواقع في هذه الكتابات، كما أنها لم تكن فريدة في هذا المجال وإنما كانت تعبِّر عن اتجاه أساسي داخل الحضارة الغربية في ذلك الوقت.

1 ـ فهي، ابتداءً، حضارة تَصدُر عن مفهوم التقدم اللا متناهي وعن الإيمان بإمكانية التحكم في كل شيء والتوصل لحل نهائي لكل المشاكل وإقامة الفردوس الأرضي فينهاية التاريخ.

2 ـ ساعد التقدم العلمي المذهل في هذه المرحلة على تدعيم هذا الوهم حتى أصبحت نهاية التـاريخ في اعتـقاد الكثيرين توجـد على بُـعْد خطوات.

3 ـ ويمكن القول بأن انتصار الإمبريالية الغربية وتقسيمها للعالم قد عمَّق إحساس الإنسان الغربي بأنه قادر على حل كل مشاكله الاجتماعية عن طريق تصديرها، وكانالاستعمار الاستيطاني الآلية الكبرى لذلك، فكانت المستعمرات تقام لتوطين المتطرفين دينياً وسياسياً البيوريتان والفوضويين (أمريكا الشمالية) والمجرمين (أستراليا) والذين فشلوا في تحقيق الحراك الاجتماعي في مجتمعاتهم (معظم الجيوب الاستيطانية) والفائض البشري اليهودي (الدولة الصهيونية)

4 ـ سادت التفسيرات الحرفية والمشيحانية للعهد القديم، سواءٌ في الأوساط المسيحية البروتستانتية أو في الأوساط اليهودية، مع تصاعد الثورة العلمية وزيادة معدلات الترشيد والعلمنة في المجتمع (وهي مرتبطة بتصاعُد الحلولية التي تسد الثغرة بين الدال والمدلول وبين الظاهر والباطن بحيث لا يُقبَل سوى التفسير الحرفي المباشر وتُرفَض التفسيرات الرمزية أو المجازية). ويظهر هذا أكثر ما يظهر في موقف الوجدان الغربي (المسيحي واليهودي) من إرتس يسرائيل إذ بدأت تتحول من مكان روحي يتطلع إليه المؤمن ليؤسس فيه مملكة الرب في آخر الأيام (ليخرج منها النور للعالمين) إلى بقعة ذات أهمية إستراتيجية يلقى فيها بالفائض اليهودي وتخرج منها الجيوش التي تؤدب الدول المجاورة.

5 ـ يُلاحَظ أن هذه الأعمال شبه الأدبية تتسم بنهاياتها السعيدة ووصولها إلى نهاية التاريخ، وهي بهذا تنتمي إلى الكتابات الطوباوية المماثلة في القرن التاسع عشر والتي كانت لا تزال تدور في إطار الرؤية السطحية التفاؤلية التي طرحها فكر الاستنارة والتي تَصدُر عن إيمان تافه بحتمية التقدم (والحتميات المختلفة) وإمكان تغيير كل شيء، بما في ذلك الطبيعة البشرية نفسها، بما يتفق مع متطلبات العلم الحديث! فهي رؤية ترى إمكانية أن يتجسد المثل الأعلى على هيئة حقيقة اجتماعية في التاريخ. هذا على عكس الطوباويات الأوربية والغربية التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين والتي تغلب عليها الروح التشاؤمية نظراً لتعمق الرؤية البشرية وإدراكها أن التحكم الكامل في الكون أمر مستحيل، وأنه لو تحقق بالفعل لكانت الكارثة.

وفي هذا الإطار، تمت كتابة هذه الأعمال الأدبية التي لا تتمتع بقيمة أدبية كبيرة، فهي ذات قيمة تاريخية أو حتى ذات قيمة تأريخية محضة، وتصف المشاريع الاستيطانية الصهيونية بشكل خيالي. وتسـمي المراجع الصهيونية هذه الأعمال باليوتوبيات (جمع «يوتوبيا» أي المدينة الفاضلة) وهي اسم على غير مسمَّى للأسباب التالية:

1 ـ تأخذ العديد من تلك الكتابات شكل البرنامج التفصيلي العملي المحدد، فهي مشروع استيطاني لا يختلف كثيراً عن تلك المشاريع التي تم وضعها موضع التنفيذ بالفعل، أما العنصر الخيالي فهو ينصرف إلى بعض التفاصيل وحسب. ولعل هذا هو الذي دفع هرتزل لأن يقول: "أستطيع أن أؤكد أن ما نراه ليس يوتوبيا. لقد ظهرت العديد من اليوتوبيات قبل بعد توماس مور، لكن لم يفكر أي شخص عقلاني منطقي في وضع هذه الأفكار موضع التنفيذ، إنها أفكار مسلية لكنها ليست عملية". وقد وضع هرتزل يده على جانب مهم من الحقـيقة، وهو حـرفية ما يُسمَّى باليوتوبيات الصهيونية، إذ أدرك أن هذه اليوتوبيات لا علاقة لها بعالم الحلم المتجاوز وإنما تضرب بجذورها في أرضالمشروعات المادية الصلبة. أما الجانب الذي فشل هرتزل في إدراكه، فهو أن يوتوبيا سير توماس مور ليست مسلية وإنما هي عمل فني واع بمثاليته المتجاوزة، واع بأنالمدينة الفاضلة بطبيعتها يستحيل تنفيذها، وإنما هي صورة مجازية، شكل من أشكال المجاز، يحاول الكاتب عن طريقها التعبير عن تطلُّع إنساني إلى عالم من المثالياتيتجاوز عالم المادة والحسابات الضيقة والتي يعرف الكاتب مسبقاً أنها مثاليات. ومن هنا نبرته المتهكمة أحياناً، ومن هنا إصراره على تقديم هذا العالم باعتباره عالماً مثالياً، فهو ليس فردوساً أرضياً، وإنما فردوس قلبي يعبِّر عن شيء أزلي في الإنسان، وهذا ما فشل هرتزل (الصحفي النمساوي من الدرجة الثانية) في أن يدركه.

2 ـ تلتزم هذه الأعمال شبه الأدبية الخيالية الصمت الكامل حيال كثير من المشاكل مثل: ماذا لو رفض اليهود الانتقال إلى المدينة الفاضلة المزعومة؟ والأهم من هذا، ماذاسيحدث لسكان الأرض التي ستقام عليها المدينة الفاضلة؟ هل سيمتد العدل ليشـملهم أم أن السـكين تنتظرهم؟ ويمكن الاحتجاج بالقول بأن الأعمال الأدبية الخيالية لا تتعرض لمثل هذه التفاصيل ولا تتناولها بالسلب أو الإيجاب. ولكن الرد على مثل هذا القول هو أن هذه الأعمال الصهيونية تتوجه إلى كثير من التفاصيل، كما أن الخطاب الصهيوني الهلامي المراوغ قد لجأ إلى الحيلة نفسها فيما بعد، وهو عدم ذكر السكان الأصليين من قريب أو بعيد وتغييبهم تماماً.

ومن القصص الطوباوية الصهيونية الأولى قصة صورة العودة لإدموند أيسلر (1850 ـ 1942) وهو يهودي سلوفاكي كتب قصته عام 1882 ونشرها بدون اسم عام 1885. وتتحدث القصة عن هجرة جماعية لليهود من أوربا بسبب اضطهاد عام وجماعي لليهود فيها. وتقوم تلك الجماعة المهاجرة بإقامة دولة في فلسطين يحكمها ملك هو ألفريد (وهو اسم غير يهودي) الذي تنبأ بهذه الهجرة. وتدخل هذه الدولة حروباً مستمرة مع جيرانها وتنتصر عليهم جميعاً ثم يستقر السلام بعد ذلك.

وقد ألهمت هذه القصة تيودور هرتزل كتابة قصته الأرض القديمة الجديدة (التنيولاند) . يتصور هرتزل أن اليهود سيؤسسون مجتمعاً مثالياً عام 1923 في الأرضالمقدَّسة. وسيدير المجتمع الجديد مؤسسة تعاونية. وستبدأ التجربة الجديدة بتأسيس شركة استعمارية استيطانية تقوم بنقل اليهود من أوربا ومن أماكن أخرى إلى أرض خاصة بهم. وستحصل الشركة (المساهمة) على ميثاق من السـلطات التركية (فهي شـركة ذات براءة) تعـطي اليهـود الحكم الذاتي، وسيتلقى الأتراك مقابل ذلك مبلغ مليوني جنيه إسترليني كل سنة، وربع الريع الذي تحققه الشركة الاستعمارية، وتظل السيادة القومية في يد الأتراك ثم تقوم الشركة بعد الحصول على الميثاق بحملة دعائية ضخمة بين اليهود وتتفاوض مع الحكومات المختلفة لضمان خروج اليهود بأمن من أوطانهم وتصفية ممتلكاتهم. وسيكون شكل الحكومة ديموقراطياً وتُؤسَّس الدولة الجديدة على أسس تكنولوجية متقدمة ونظام كفء للري. وستزدهر مدن كثيرة، وتصبح القدس على هيئة متحف. وإلى جانب التكنولوجيا، يوجد الاقتصاد التعاوني حيث تختلط الأشكال الرأسمالية وحرية الملكية بالأشكال الاشتراكية التي تضع بعض الحدود على حركة رأس المال. ورغم أن المجتمع الجديد مجتمع يضم أغلبية يهودية، إلا أنه لا يستبعد غير اليهود، فهو مجتمع غربي، حضارته أوربية يعتمد على التعددية اللغوية، وليس له أية ملامح يهودية خاصة (فهو صهيون بلا صهيونية). وهذا يتفق تماماً مع رؤية هرتزل، فهو صهيوني يهودي غير يهودي. وقد هاجم آحاد هعام هذه الرواية لخلوها من المضمون اليهودي.

ورواية الأرض القديمة الجديدة لا تختلف كثيراً عن دولة اليهود، فهي مكتوبة بالطريقة المراوغــة نفسـها التي تسـم الخطــاب الصهيــوني . بل يمكن القــول بأن المراوغــة في الروايــة (وخصوصاً بالنسبة للسكان الأصليين) أكثر صقلاً وعمقاً، فبينما يكتـب هرتـزل عن اشتراك السكان الأصليين في المجتمع الجديد وعدم استبعادهم، كان يدوَّن في مذكراته الطرق التي سيتم بها طردهم. ولكن الرواية كانت للنشر الواسع، بينما كانت المذكرات مُستودَع الأفكار الحقيقية والأمنيات التي تعبِّر عن الرؤية.

وقد تأثرت معظم الكتابات الطوباوية الصهيونية بمؤلَّف الكاتب الأمريكي إدوارد بيلامي (1850 ـ 1898) المسمَّى النظر للخلف 1887 ـ 2000 الذي يضع يوتوبيا اشتراكية. ومن الكُتَّاب الصهاينة الذين تأثروا بهذا الكتاب ماكس أوستربرج فيراكوف ـ وهو كاتب من أصل يهودي، كتب قصة اسمها الدولة اليهودية عام 6000 (2441) ونشرها عام 1893. والقصة تتحدث عن إقامة دولة يهودية في فلسطين وعلاقتها بالدول الخارجية التي اضطهدت اليهود، وعلاقة اليهود في تلك الدولة بيهود الشتات. وقد تأثر الحاخام الإنجليزي الأمريكي هنري منديس برواية بيلامي وألَّف على منوالها قصته النظر للأمام (1899) ـ حيث تصوَّر الدولة اليهودية وعاصمتها القدس كمركز لسلام العالم وكمدرسة لتعليم البشرية كيفية التصرف السليم. وهي تتصور أيضاً حركة طرد/هجرة يهودية جماعية من أوربا إلى فلسطين.

ومن القصص الطوباوية الطريفة في هذا الصدد قصة معاداة الأغيار في صهيون لليهودي الجزائري جاك باهار عام 1898. وقد كان الكاتب ممثلاً للجماعة اليهودية الجزائرية في المؤتمر الصهيوني الأول (1897). يتخيل الكاتب وجود دولة تتم فيها محاكمة شخص غير يهودي بتهمة تماثل تهمة دريفوس في فرنسا، ويؤكد الطابع المتسامح للدولة اليهودية على عكس الدولة الكاثوليكية في فرنسا.

وثمة قصتان مهمتان أيضاً، الأولى للكاتب البولندي اليهودي إسحق فرنهوف (1868 ـ 1919) حيث تصوَّر (في رواية تُسمَّى فكر) دولة يهودية في فلسطين تحمل اسمدولة إسرائيل كفكرة خيالية تعارض واقع اليهـود البائس الذي عـايشه الكاتب في بولنـدا وأوكرانيا. أما القصة الثانية فهي قصة لم تكتمل نُشرت مسلسلة في مجلة اللحظة اليديشية، واسم القصة هو في دولة إسرائيل عام 2000، وكتبها المؤلف والصحفي اليهودي البولندي هيليل زيتلين (1871 ـ 1942) بدأ نشرها عام 1919 تحت تأثير النشوة التي حدثت وسط الجماعات اليهودية والمتعاطفين مع الصهاينة نتيجة وعد بلفور. وهذا العمل يتحدث عن دولة يهودية ويصف دستورها ومؤسساتها. والكاتب من أسرة حسيدية وقد أهتم في صباه بآراء إسبينوزا ونيتشه ثم تحوَّل من العلمنة الكاملة إلى الصوفية الحلولية في اليهودية، ومن ثم فهو يبدي تعاطفاً واضحاً مع الجانب الغنوصي في اليهودية.

وقد ظهرت بعض المؤلفات التي تدور حول المشاريع الاستيطانية والخيالية بالعبرية أثناء فترة الانتداب البريطاني تحدثت عن دور العمل الصهيوني والكفاح ضد الانتدابوما إلى ذلك من أفكار الصهاينة الاستيطانيين. ومن بين هذه المؤلفات قصة النحات بوريس شلتر (1924) التي تتحدث عن مشاكل المستوطنين وتتوقع حلها مع إقامة الدولة التي ستلغي كل القوانين الظالمة. ونلاحظ تنوُّع اللغات التي كُتبت بها هـذه المؤلفـات: الألمانية واليديشـية والفرنســية والعبرية. لكن معظم هذه القصــص كُتبت كـرد فعل لأحـداث محليـة، مثل مذابح كشينيف في روسيا التي كانت المحرك الأول لقصة أيسلر، وقضية دريفوس التي كانت المحرك الأول والنموذج المثالي لقصة باهار.

الصهيونية العملية (التسللية(

Practical Zionism

«الصهيونية العملية» اصطلاح يُطلَق على أحد التيارات الصهيونية التي وُجدت قبل ظهور هرتزل وبلفور، وهو تيار يَصدُر عن الصيغة الصهيونية الأساسية (شعب عضوي ـ منبوذ ـ نافع ـ يمكن توظيفه خارج أوربا لصالحها). ولكن ديباجاتها كانت تنطوي على بعض الخلل، إذ تصوَّر التسلليون أن حل المسألة اليهودية لا يمكن أن يتم إلا عن طريق جهود اليهود الذاتية والانعتاق الذاتي والعمل على تحقيق أمر واقع في فلسطين وذلك عن طريق التسلل إلى فلسطين بالطرق السرية أو بالوساطات الخفية غير المباشرة (على حد قول هرتزل) أو عن طريق الاستيطان القائم على الصدقات، أي بمساعدة أثرياء الغرب المندمجين دون اللجوء لمساعدة أية قوى عظمى أو المناورات الدبلوماسية (مع الدول الغربية الاستعمارية) ولا عن طريق الضمانات الدولية. وقد كان وايزمان من أهم قادة هذه الاتجاه العملي، ومن أهم مفكريه ليون بنسكر وموشيه ليلينبلوم. وكانت الثمرة العملية لهذا الاتجاه جماعة أحباء صهيون الذين كانوا يحاولون استيطان فلسطين عن طريق التسلل وترسيخ أقدامهم فيها عن طريق العمل البطيء والمثابرة.

واصطلاح «الصهيونية العملية» مثل معظم المصطلحات الصهيونية مضلل وغير دقيق، ولذا فنحن نطرح بدلاً منه اصطلاح «الصهيونية العملية التسللية» أو «الصهيونية التسللية». فالمتسللون كانوا يتحركون داخل إطار يهودي (شرق أوربي) محض وينظرون للأمور من خلال منظار يهودي محض ويتصورون واهمين إمكانية استيطان فلسطين عن طريق التسلل.

ومعظم التسلليين كانت تجربتهم تقليدية محدودة وكانوا يدورون في إطار الجماعة الوظيفية التي تمارس قيادتها السيطرة الكاملة عليها، وتقوم بدور الوسيط (شتدلان) بين الجماعة اليهودية والقوة الحاكمة. والقيادة اليهودية كانت دائماً مجموعة من الحاخامات والأثرياء. ولكن بات من الواضح للجميع أن الحاخامات كانوا قد فقدوا كل صلة بالواقع الغربي الحديث، وأن ثقافـتهم التلمـودية وجهلـهم بلغة البلد قد زادهم عزلة. ولذا، لم تَعُد الحـكومات تخاطـبهم في أمور اليهـود كما كان يحدُث في الماضي. أما أثرياء شرق أوربا فكان عددهم صغيراً، وكانوا ضعـفاء جداً وفي حالة هلع شديد للحفاظ على مواقعهم الطبقية الجديدة، ولذا كانوا يؤثرون الحفاظ على مسافة كبيرة بينهم وبين الجماهير اليهودية في بلادهم.

وحيث إن يهود اليديشية لم يدركوا أهمية الإمبريالية لأنهم كانوا من شرق أوربا، خاضعين للرقابة في الإمبراطورية القيصرية، وهي إمبراطورية لم يكن لها مشروع استعماري استيطاني في فلسطين أو حولها (إذ أخذ مشروعها الاستعماري شكل التوسع من خلال ضم المناطق المتاخمة لحدودها)، لذا نجدهم يتحركون نحو الغرب (مركز القوة). وكان في هذا تحديث للحركة، ولكنهم كانوا لا يتوجهون إلى حكوماته وإنما إلى أثرياء اليهود في الغرب (بدلاً من أثرياء اليهود في الشرق) كي يقوموا بتمويل نشاطهم الاستيطاني والتسللي. ولعل توجُّههم للأثرياء بدلاً من الحكومات هو نفسه نتاج تجربتهم مع الدولة الروسية التي لم تكن تتمتع بعد بالمركزية والهيمنة التي كانت تتمتع بها نظيراتها في أوربا الغربية.

وقد تم النشاط الاستيطاني التسللي بشكل هزيل وعملي، خارج نطاق أي فكر أيديولوجي، وظل محتفظاً بطابعه البرجماتي الإغاثي المباشر، ولم يتجاوز إقامة مزارع صغيرة لا قيمة لها. وقد استفاد التسلليون من نفوذ قناصل الدول الغربية (الذين كانوا يتنافسـون على حمــاية اليهود، أي تحويلهم إلى عنصر وظيفي عميل). وهذا يشير إلى أن التسلليين كانوا يتحركون عملياً وموضوعياً داخل إطار صهيوني بالمعنى الاستعماري الاستيطاني للكلمة، حتى ولو لم يدركوا هم ذلك. ولكنهم وضعوا أولوياتهم بطريقة أدخلتهم طريقاً مسدوداً (تسلُّل استيطاني ـ دعم الأثرياء ـ إنشاء دولة) إذ جعلوا الاستيطان مقدمة وهو في واقع الأمر نتيجة للآلية الكبرى الإمبريالية. ولذا، فقد سقطوا في نهاية الأمر في يد روتشيلد وأصبحوا موظفين لديه، يقومون بابتزازه ويقوم هو بتمويلهم وزجرهم والتحكم فيهم.

وكان التسلليون، بسبب طبيعة نشأتهم في شرق أوربا، يهتمون بمسائل الهوية اليهودية (اليديشية) وبعملية إصلاح اليهود واليهودية. ثم جاء هرتزل وحدد الأولويات بطريقة مختلفة تماماً، فبدلاً من جهود التسلليين الصغيرة طرح رؤيته الخاصة بما سماه «الاستيطان القومي» الذي يضمنه القانون العام، أي الدول الغربية الاستعمارية الكبرى. والواقع أن هرتزل، من خلال صهيونيته الدبلوماسية الاستعمارية، حدَّد أولويات الحركة بطريقة مغايرة تماماً للطريقة التي حددتها بها الصهيونية التسللية: موافقة استعمارية ثم استيطان، وهي صيغة تتفق مع الظروف التاريخية السائدة في أوربا وفي العالم ومع موازين القوى الفعلية التي جعلت من الحتمي على المشروع الصهيوني (وعلى أي مشروع استيطاني آخر) الاستعانة بالقوى الإمبريالية حتى يخرج إلى حيز الوجود. وقد كان هرتزل محقاً تماماً في موقفه، فافتقاد المتسللين لأساس القوة جعلهم بالضرورة مفتقدين للاستقلال والسيادة، الأمر الذي جعل استيطانهم عديم الفائدة، خاضعاً لرحمة أو غضب أي باشا ويبقى دائماً عُرضة لفرض القيود عليه (على حد قول نوردو). كما أن هرتزل لم يكن يهتم كثيراً بالمسائل الإثنية لأنها لم تكن تعنيه كثيراً، فهي لا تعني الدول الكبرى التي يتوجه إليها طالباً الدعم والشرعية.

ويمكن القول بأن هرتزل قام بتحديث مسألة أوربا اليهودية بأن نَزَع القداسة عن اليهود وجعلهم مادة وظيفية استيطانية، ثم قام بتدويل المسـألة اليهـودية بأن توجَّه إلى أوربا بأســرها، صاحبة المشكلة، وأخبرها أنها هي أيضاً صاحبة الحل والمستفيد الأول إن قبلت رؤية اليهود على طريقته. وبدلاً من النظر إلى يهود أوربا بوصفهم شحاذين أو فقراء يحتاجون إلى الصدقات أو شخصيات غريبة ذات تراث إثني فريد، فإن على أوربا (وأثرياء اليهود في الغرب) أن ينظروا لهم باعتبارهم شعباً له نفعه (وتحويل كل شيء إلى مادة نافعة يمكن الاستفادة منها هو جوهر التحديث)، كما أن له وظيفته التي يمكن أن يضطلع بها، ولذا فهو لا يحتاج إلى الصدقات وإنما إلى الدعم مقابل الخدمات التي سيؤديها. والدعم سيأتي من الدول الاستعمارية التي تحتاج إلى «إسفين» في الشرق والتي ستضمن "وجودنا بالمقابل". ولعل حداثة الصيغة الهرتزلية تظهر في العبارة الأخيرة التي تدل على أنه يستخدم منطقاً تعاقدياً نفعياً. وبدلاً من جماعات أحباء صهيون الصغيرة المتفرقة في الشرق والغرب، طوَّر هو صيغة مراوغة ورؤية متكاملة لعقد صهيوني صامت يُوقَّع بين الحضارة الغربية ويهود الغرب وإطار تنظيمي ينتظم الجميع.

وقد ظهرت الخلافات بين التسللين وهرتزل في المؤتمر الصهيوني الأول (1897)، ولكن هرتزل اكتسح الجميع بسبب دقة أولوياته وحداثة طَرْحه، وخطابه المراوغ، فانضموا هم إلى المنظمة ولم ينضم هو إلى جماعاتهم الكثيرة رغم أنه كان مجرد صحفي كتب كراسة عن المسألة اليهودية وكانوا هم عدة تنظيمات يضمون في صفوفهم كثيراً من المفكرين وبضعة آلاف من الأعضاء. ثم صَدَر برنامج بازل، وقد قبل التسلليون الصهيونية الدبلوماسية الاستعمارية وقبلوا قيادتها للمنظمة. ومنذ تلك اللحظة، سقطت عنهم الصفة التسللية بإدراكهم حتمية الاسـتعانة بالإمبريالية الغربية لوضع المشـروع الصـهيوني موضع التنفيـذ.

ورغم هذا، استمر الخلاف بين ما يمكن تسميته «الصهيونية العملية (الاستيطانية)» مقابل الصهيونية الدبلوماسية (التوطينية)، فقد شهدت الفترة الواقعة بين عامي 1897و1905 تبلور معارضة الصهاينة الاستيطانيين الذين طالبوا بالتركيز على البند الأول من برنامج بازل الخاص بتشجيع عملية الاستيطان في فلسطين، بينما انصرف اهتمام تيار هرتزل الدبلوماسي إلى تحقيق البند الرابع من البرنامج وهو الخاص بالحصول على ضمان أو اعتراف من الدول الاستعمارية الرئيسية لحماية مشروع إقامة الكيان الصهيوني في فلسـطين. ولم تكن الخــلافات بين العــمليين (الاستيطانيين) من جهة، والدبلوماسيين (التوطينيين) من جهة أخرى، سوى خلافات ناجمة عن سوء الفهم من جانب العمليين الذين لم يكونوا قد أدركوا بعد أهمية الدولة الاستعمارية الراعية للمشروع الصهيوني، رغم قبولهم إياها، ومن جانب الدبلوماسيين التوطينيين الذين لم يدركوا أهمية سياسة خَلْق الأمر الواقع في فلسطين وضرورة تبنِّي ديباجات إثنية لتجنيد المادة البشرية المُستهدَفة. ومع هذا، بدأت عملية التقارب، إذ بدأالاستيطانيون يدركون بالتدريج تفاهة فكرة الاعتماد على الذات، ولذا أصبح النشاط الاستيطاني في مرتبة ثانوية بالنسبة لمنظمة هرتزل الصهيونية، كما بدأوا يدركونأولوية الجهود الدبلوماسية الاستعمارية على الجهود الاستيطانية. وربما لهذا السبب لا نسمع كثيراً عن جهود استيطانية مكثفة في هذه المرحلة. ونظراً لسطحية الاختلاف،لم يكن من العسير التوفيق بين الاتجاهين. فمن البداية أعربت المنظمة الصهيونية عن استعدادها للاعتراف بالاستيطان الذي يتم بناء على ترخيص مسبق من الحكومة التركــية، وأعلنت عن اسـتعدادها لتقديم المساعدة لمثل هذا الاستيطان، بل أقامت المنظمة لجنة خاصة لشئون الاستيطان.

وقد تم، في نهاية الأمر، التوصل إلى صيغة توفيقية في المؤتمر السابع (1905)، فرُفض الاستيطان التسللي (الذي يعتمد على الصدقات وعلى الحصول على قطعة أرض) نهائياً. ومع هذا، قررت المنظمة الصهيونية أن تشجع العمل الزراعي والصناعي الاستيطاني هناك، وتم انتخاب لجنة تنفيذية جديدة تضم ثلاثة من العمليين الاستيطانيين وثلاثة من الدبلوماسيين التوطينيين. وفي المؤتمر الثامن (1907)، أكد وايزمان أهمية المزج والتوفيق بين الاتجاهين وطَرَح ما سماه «الصهيونية التوفيقية»، أي الصهيونية التي تجمع بين النهجين العملي الاستيطاني والسياسي الاستعماري الخارجي.

وفي المؤتمر الصهيوني العاشر (1911) انتخب المؤتمر ووربورج ومعه 4 أعضاء آخرين في اللجنة التنفيذية، وكانوا من العمليين الاسـتيطانيين، وظلت المؤسـسات الماليــة في يد العمليين الاستيطانيين.

وفي المؤتمر الصهيوني الحادي عشر (1913) أحكم الاستيطانيون السيطرة على كل المؤسسات الصهيونية. وقد كان هرتزل ـ شأنه شأن صهاينة الغرب عامة ـ يعتقد أن صهاينة شرق أوربا غير قادرين على قيادة الحركة الصهيونية "بل كان يعتقد أننا سنكون أداة تستفيد منها الحركة الصهيونية الغربية" على حد قول وايزمان. ولكن مسار التاريخ قَلَب تقسيم العمل المقترح تماماً، فأمسك الشرقيون من يهود اليديشية بزمام الأمور في المنظمة الصهيونية وتولوا قيادتها، وهو أمر منطقي ومتوقَّع. فالاستيطانيون (العمليون) كانوا من شرق أوربا، والمشروع الصهيوني كان ـ حسب تصوُّرهم ـ أمراً حيوياً، بل مصيرياً بالنسبة لهم، فهم ممثلو الفائض اليهودي والقادرون على التحدث باسم هذه الكتلة البشرية المرشحة للنقل إلى فلسطين وبلُغتها، على عكس يهود الغرب الصهاينة الذي كان يهمهم التخلص من الفائض وإبعاده عن بلادهم وحسب، وكانوا غير قادرين على تَفهُّم لغته وآماله.

وقد ساعـدت صياغـة هرتزل المراوغـة على امتصـاص كل الخلافات، فتعلَّم الصهاينة أن يعيشوا مع التناقض والصراعات ما دام ثمة اتفاق على الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة وعلى الأولويات الإجرائية.

ولعل كلمات الزعيم الصهيوني الروسي مناحيم أوسيشكين هي أدق تلخيص لصهيونية ما بعد هرتزل بمقدرتها الامتصاصية الفائقة، فقد اقترح العودة لا إلى صهيونية أحباء صهيون (التسللية الاستيطانية) ولا إلى الصهيونية الدبلوماسية (صهيونية هرتزل)، وإنما إلى مزيج من هذه التيارات الثلاثة، وبلغة أخرى إلى الصهيونية السياسية كما نص عليها برنامج بازل، أي أنه اقترح العودة إلى صهيونية هرتزل!

ولكن الذي حَسَم الخلاف تماماً بين الفريقين لم تكن المؤتمرات الصهيونية وإنما التطورات الدولية. فبعد اتخاذ قرار تقسيم تركيا، ومع اهتمام إنجلترا المتزايد بالبُعْد الجيوسياسي لفلسطين، لم يكن أمام الصهاينة (العمليين أو السياسيين أو خلافهم) سوى انتظار الدولة الراعية التي سترعى مصالحهم والتي ستوفر لهم الأرض والضمانات الدولية اللازمة. والصهيونية التي لم يكن لديها أية جماهير لم تكن تملك سوى الانتظار والتلقي، وبذا يكون الاستعمار الغربي في واقع الأمر مصدر الوحدة بين الاتجاهات الصهيونية المختلفة.

ويظهر التمازج الكامل بين الاتجاهات الصهيونية المختلفة عام 1917، إذ نجد أن وايزمان (زعيم الصهيونية العملية الاستيطانية) هو أيضاً الذي سعى إلى استصدار وعد بلفور، قمة جهود الصهيونية الدبلوماسية الاستعمارية، وكان آحاد هعام (زعيم التيار الصهيوني الإثني العلماني) يقدم له المشورة.

ويمكن تلخيص إنجازات صهيونية يهود شرق أوربا في النقاط التالية:

1 ـ رفض التسلليون (الدينيون منهم واللا دينيون) الموقف الديني التقـليدي الذي يطـلب من اليهـود الانتـظار إلى أن يبعـــث الإله الماشيَّح، وطلبوا من اليهود عدم انتظار مشيئة الإله والإمساك بزمام الموقف واتخاذ الخطوات اللازمة لتحقيق العودة. وبعد أن توصَّل التسلليون إلى أن الحل ليس في السماء، اكتشفوا أنه في غرب أوربا متمثلاً في أثرياء الغرب وقناصل دولهم في فلسطين، أي أنهم بدأوا يتحسسون الطريق نحو التحالف الذي سيحوِّل الحلم الصهيوني إلى حركة ومنظمة واستيطان.

2 ـ قبل التسلليون مقولة أن وضع اليهود داخل الحضارة الغربية وضع شاذ وهامشي، وأن الفائض اليهودي لا يمكنه أن يندمج في المجتمع. وقد خلصوا من ذلك إلى أن اليهود لا مكان لهم داخل المجتمعات الغربية، وحولوا معاداة اليهود إلى إحدى الدعائم النظرية للفكر الصهيوني، وركزوا على نَقْد الشخصية اليهودية. وقد توصَّل التسلليون إلى واحد من أهم ملامح الحل الصهيوني، وهو حل مسألة الفائض اليهودي عن طريق نَقْله إلى خارج أوربا، وقاموا بأول محاولة فعلية لوضع الحل موضع التنفيذ.

3 ـ اكتشف التسلليون أن الزراعة وسيلة أساسية للاستيطان في أرض أجنبية معادية، كما أدركوا طبيعة المشروع الصهيوني الإحلالية.

4 ـ اكتشف التسلليون إمكانية توظيف الخطاب الصهيوني المراوغ لحل التناقضات العقائدية، فأدركوا إمكانية التعاون مع أثرياء الغرب المندمجين وإمكانية ابتزازهم ما داموا لا يفرضون عليهم الصيغة القومية ولا يشهِّرون بهم لرفضها. كما أدركوا إمكانية تعايش العلمانيين والمتدينين داخل صيغة مبهمة تسمح لكل فريق بأن يفرض المعنى الذي يراه.

5 ـ ظهرت طلائع المفكرين الذين صاغوا الخطاب الصهيوني الإثني (الديني والعلماني) وهو الاتجاه الذي هوَّد الصيغة الشاملة، فعمَّق فكرة الشعب اليهودي وأضفى عليها أبعاداً تاريخية ودينية ونقاها من بقايا الفكر الاندماجي العلماني. وهذا الاتجاه هو الذي أسبغ على الصهيونية شرعية يهودية تُخفي الأبعاد العملية والنفعية التي توصَّل إليها الصهاينة غير اليهـود والصهاينة اليهـود غير اليهـود الذين لا يكترثون بمشاكل الهوية. وقد كانت هذه الشرعية ضرورية للجماهير اليهودية المتدينة في شرق أوربا، وللجماهير التي فَقَدت إيمانها التقليدي وظلت تبحث عن هوية خاصة.

لكل هذا، يمكن القول بأن صهيونية شرق أوربا أسهمت في تطوير فكر صهيوني ذي ديباجة يهودية يحاول حل مشكلة اليهود واليهودية، ويطرح نفسه بوصفه المعبِّر عن آمال وآلام جماهير شرق أوربا، وهي المجموعة البشرية المطلوب تجنيدها لتنفيذ المشروع الصهيوني. وبذا، تكون صهيونية يهود أوربا قد بدأت بالسير نحو حل مشكلة الصهيونية في الحضارة الغربية، فلأول مرة، يظهر مفكرون من داخل صفوف هذه المجموعة البشرية ينظرون إليها من الداخل، ويستخدمون مصطلحها ورموزها، وينظمون بضعة آلاف منها، بل يقومون بتجارب استيطانية قد تكون متفرقة وهزيلة ولكنها تمثل مع هذا نقطة البداية نحو نَقْل اليهود من أوربا وتشكل إطاراً يجعل الحوار مع الغرب غير اليهودي ممكناً.

أحباء صهيون

Hibbat Zion

«أحباء صهيون» اسم يُطلَق على مجموعة من الجمعيات الصغيرة في روسيا (التي كانت تضم أكبر جماعة يهودية) وبولندا ورومانيا، والإمبراطورية النمساوية المجريةوألمانيا وإنجلترا والولايات المتحدة. وكانت جمعيات أحباء صهيون في غرب أوربا تضم أساساً اليهود والمهاجرين من شرق أوربا وبعض العناصر المحلية القلقة من هذه الهجرة اليهودية، وكان لهذه الجمعيات أسماء كثيرة تحمل معنى حب صهيون أو الرغبة في العودة، كما كان هناك جمـعيات تحمـل أسـماء مثل البيلو وقديما وجمعية بني موسى (السرية). وكان أهم هذه الجماعات جماعة زروبابل في أوديسا التي كان يترأسها بنسكر وليلينبلوم أهم مفكري الحركة (ويمكن أن نضيف إليهما سمولنسكين)

ورغم تعدُّد الأسماء والجمعيات، إلا أن هذا يجب ألا يؤدي إلى تصوُّر أن أحباء صهيون كانت حركة جماهيرية اكتسحت يهود شرق أوربا، فهي قد ظلت حتى النهاية تنظيمات صغيرة من المثقفين والبورجوازيين الصغار، وكانت كل جمعية تضم حوالي 100 إلى 150 عضواً، وكان عددها 12 جمعية عام 1882 ووصل إلى 138 جمعية بين عامي 1889 و1890، وتراوحت العضوية بين تسعة آلاف وأربعة عشرة ألفاً عام 1885 من مجموع يهود العالم البالغ حينذاك عشرة ملايين تقريباً، وقد آثر ما يقرب من مليونين منهم الهجرة إلى الولايات المتحدة، ولعل هذا يفسر أن هرتزل كان غير مدرك لوجودهم، وحينما أدرك وجودهم فإنه لم يعاملهم باحترام شديد وقرر توظيفهم في مخططه.

ويعود ظهور هذه الجمعيات إلى تعثُّر عملية التحديث في روسيا وشرق أوربا، وإلى تناقُص فرص الحراك الطبقي أمام بعض قطاعات اليهود هناك. وتصدُر هذه الجمعيات عن الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة بعد تهويدها من خلال بعض المفاهيم اليهودية أو شبه اليهودية، مثل: رَفْض الاندماج، والإيمان بأن معاداة اليهود ظاهرة أزلية، ورَفْض الانتظار السلبي للماشيَّح، وكذلك حل المسألة اليهودية، هنا في الأرض وفي هذه الأيام وليس هناك في السماء أو في آخر الأيام.

وقد اكتشف أعضاء أحباء صهيون أن الحل ليس في الأرض بشكل عام وإنما في العالم الغربي وبين أثرياء اليهود هناك على وجه التحديد. وكانت هذه الجمعيات تسعى إلى حل مشكلة يهود شرق أوربا عن طريق ما يُسمَّى "جهودهم الذاتية"، أي دون الاعتماد على الدول الغربية، وذلك لتهجـير من يريد منـهم إلى أية بقعة في العالم وتوطينه فيها، ثم استقر الاختيار على فلسطين.

وحركة أحباء صهيون هي أهم ممثلي التيار الصهيوني التسللي (الذي يُسمَّى «العملي») والذي تصدَّى لهرتزل. وقد دعي بنسكر وليلينبلوم و34 شخصية يهودية إلى اجتماع في منزل بنسكر في أكتوبر 1883. ولعل وظائف المدعوين تعطي صورة عن التكوين الطبقي للجمعية فحوالي النصف كانوا من التجار، وكان هناك أيضاً صاحب بنك وسمسار في البورصة وأربعة أطباء وصيدلي وكبير حاخامات أوديسا، وكان المجتمعون يعرفون أن أثرياء اليهود في شرق أوربا سيعارضونهم (إذ أنهم كانوا من دعاة الاندماج). ولذا قرروا أن يكون التوجه للطبقة الوسطى.

وقد عقدت جمعية أحباء صهيون أول مؤتمر لها في كاتوفيتش عام 1884، وألقى بنسكر خطاباً تحدَّث فيه عن مساعدة المستوطنين اليهود "أينما كانوا"، وطالب بإنشاءجمعية مونتفيوري لتطوير الزراعة بصورة خاصة بين المستوطنين في فلسطين. وقد بذل بنسكر قصارى جهده للابتعاد عن أية ديباجة قومية حتى لا يخيف يهود الغرب الذين كان يطلب عونهم: "ففكرة الدولة اليهودية... لا تزال بالضرورة بعيدة المنال، وهي تحتاج لجهد يفوق طاقة جيلنا، وهــو جهــد صعب بشـكلٍّ خاص في البلاد المتحضرة [أي بلاد غرب أوربا] التي تحدد الإيقاع في أوربا بأسرها". ولعله كان يخشى أيضاً خَلْـق جـو من التــوتر بين الدولة العثمانية والمستوطنين الصهاينة.

ثم عُقد مؤتمر آخر في دروسكينكي 1887 حيث ظهر الخلاف بين المتدينين والعلمانيين، وقد فشل الفريق الأول في عزل بنسكر ولكنهم نجحوا في تعيين ثلاثة حاخامات في اللجنة التنفيذية، ولم تختلف قرارات هذا المؤتمر عن سابقه. وقد ازدادت الخلافات بين الفريقين اتساعاً عام 1888/1889 لأنه عام سبتي لا يُباح فيه لليهود زراعة الأرض، ولكن المستوطنين مع هذا استمروا في زراعتها. وعُقد مؤتمر ثالث عام 1889 في فلنا وزاد النفوذ الصهيوني الديني فيه الأمر الذي اضطر العلمانيين إلى تأسيس جماعة بني موسى السرية (على غرار المحافل الماسونية)

وعُقد المؤتمر الرابع في أوديسا عام 1890 بعد اعتراف النظام القيصري بالجمعية. وقد حصلوا على الاعتراف من خلال بارون روسي يهودي توسَّط لهم لدى الحكومة، وسُـمِّيت الجمعية رسمياً باسم «جمعية تقديم المساعدات للمستوطنين اليهود الزراعيين وأصحاب الحرف اليدوية في سوريا وفلسطين». وبعد أن رفعت السلطات العثمانية الحظر عن الاستيطان اليهودي في فلسطين تم فتح مكتب في يافا. وقد وقع انقسام وخلاف بين القيادة في روسيا واللجان المحلية في فلسطين، فكان شراء حصان على سبيل المثال يتطلب مناقشة لجان عديدة والحصول على الموافقة من روسيا. ولم تفهم لجنة أوديسا الطبيعة الخاصة للزراعة الاستيطانية، والعلاقة مع العرب. وقد تملَّكالمستوطنين إحساس بالعجز التام أمام العثمانيين وبأن الباب العالي لن يعطيهم أية تنازلات. وقد أُغلق مكتب يافا عام 1891 بعد أن أصيب بخسائر مالية فادحة، وبعد أننجح العرب في إيصال معارضتهم للأستانة. وتوقفت الحركة عن إنشاء مستوطنات جديدة، وقصرت جهودها على مساعدة المدارس العبرية والمستوطنات القائمة بالفعل.

ومع هذا، قامت الجمعية بالإشراف على وضع بذور الاستعمار الاستيطاني الصهيوني. فقامت بشراء قطعة أرض عام 1882 على ساحل البحر (الطبيعة الاستيطانية). وبالقرب من أراضي البدو التي يمكن شراؤها في المستقبل (الطبيعة التوسعية). وحينما لم تتم الصفقة بسبب معارضة الوالي، تدخَّل نائب قنصل بريطانيا في يافا فاشترى الأرض وسجَّلها باسمه (القوة الإمبراطورية الراعية) وسُميت مستعمرة «ريشون لتسيون» وهي عبارة توراتية تعني «الأول أو الطليعي في صهيون» (تهويد الصيغة الصهيونية الأساسية). وفي العام نفسه، قام مبعوث من جمعيات أحباء صهيون بشراء أراض وتأسيس مستوطنة روش بينا (رأس أو حجر الزاوية). وفي العام نفسه أيضاً، تم شراء أراض مملوكة لمواطن فرنسي وذلك بمساعدة إميل فرانك، وهو يهودي فرنسي يعمل وكيلاً في المواني السورية لإحدى شركات السفن البريطانية ويشغل في الوقت نفسه منصب نائب قنصل ألمانيا والنمسا في الإسكندرية. وأُسِّست المستوطنة الثالثة التي سُمِّيت «زخرون يعقوب» تخليداً لذكرى والد البارون روتشيلد بعد أن تعهَّد بتقديم المعونة المالية للمستوطنة (الصهيونية التوطينية). وقد استمرت عملية شراء الأراضي بمساعدة قناصل الدول الغربية، ومن خلال استخدام النفوذ الغربي والامتيازات الممنوحة لرعايا الدول الغربية.

وكما تقدَّم، لم تكن حركة أحباء صهيون حركة جماهيرية، ولذا فإنها لم تنجح إلا في تهجير بضع مئات من اليهود وبتكاليف باهظة (في الوقت الذي هاجر فيه الملايين إلى الولايات المتحدة)، وكانت مواردها المالية ضعيفة فقد كانت ميزانية الجمعية 50 ألف روبل (في السنة على أحسن تقدير) (يعادل خمسة آلاف جنيه إسترليني). وكانت تكاليف توطين الأسرة الواحدة ثلاثة آلاف روبل أي أن الجمعية بكل فروعها لم يكن في إمكانها أن توطن سوى عشرين أسرة في السنة، وقد كان هذا راجعاً إلى خلل أساسي في أحباء صهيون وهو افتقارهم لآليات وَضْع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ: الدعم الإمبريالي، وهو خلل كانت تعاني منه أيضاً الحركة الصهيونية فيما بعد وقامت بالتغلب عليه عن طريق وعد بلفور. أما أحباء صهيون ـ على عادة التسلليين ـ فقد لجأوا إلى روتشيلد الذي أنفق في فترة عشرين سنة ما مقداره 1.600.000 جنيه إسترليني ـ في حين أنهم لم ينفقوا سوى 87 ألفاً فقط. ولذا، لم يكن من المستغرب أن يفرض المليونير الفرنسي هيمنته بالتدريج على مستوطناتهم ليتحوَّلوا إلى مرتزقة يعيشون عالة عليه يحاولون اعتصاره ويعتمدون على العمالة العربية الرخيصة ـ وتتجه أفكارهم لجمع المزيد من المال والهجرة إلى أمريكا (الصهيونية النفعية). لكل هذا كان المستوطنون من أحباء صهيون في مقدمة مؤيدي مشروع شرق أفريقيا.

وحينما عُقد المؤتمر الصهيوني الأول (1897)، انضم إليه معـظم جماعات أحــباء صهيون وتحوَّلت إلى ما يُسمَّى «التيار العملي».

واستمرت الحركة موجودة بشكل مستقل تحت قيادة أوسيشكين من عام 1906 إلى عام 1919 حيث تم التوصل للصيغة الصهيونية التـوفيقية التي جعلـت التعايــش مع الخلافات ممكناً. وفي عام 1920، قامت الحكومة الشيوعية في روسيا بحل الحركة.

وبشكل عام، فإن تاريخ حركة أحباء صهيون هو تاريخ مصغر للصهيونية ككل. ولعل الاختلاف الأساسي هو إدراك الحركة الصهيونية بعد هرتزل حتمية الاعتماد على الإمبريالية الغربية لوضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ، في الوقت الذي سقط فيه أحباء صهيون في وَهْم الاعتماد الذاتي. ويُلاحَظ وجود عدة تيارات داخل الحركة أصبحت من أهم التيارات في الحركة الصهيونية: تيار عام يتزعمه ليلينبلوم يدعو إلى إنشاء المستوطنات وحسب دون الإصرار على أية ديباجات، ثم تياران يمثلان الخطاب الإثني أولهما التيار الإثني العلماني ويمثله آحاد هعام، وتيار إثني ديني يتزعمه موهيليفر. ويُلاحَظ أن هذين التيارين، رغم تعارضهما الظاهري، استمرا يعملان جنباً إلى جنب.

مؤتمــــر كاتوفيتــــش

Kattowitz Conference

مؤتمر لجمعيات أحباء صهيون عُقد عام 1884 في روسيا بمدينة كاتوفيتش (الآن في بولندا). وقد طُرح اقتراح بأن يُعقَد الاجتماع في الأستانة حتى يتم إقناع السلطات العثمانية بأن الصهيونية ليست تابعة للقوى الغربية، ولكن الاقتراح هُزم إذ اتضح للجميع أنه ليس من المتوقع أن توافق السلطات العثمانية على الاقتراح. فوقع الاختيار على كاتوفيتش لأنها في الوسط بين الشرق والغرب في جزء من بولندا كانت تحكمه ألمانيا.

وكان الدافع لعقد المؤتمر هو الإحساس بضرورة وجود هيئة مركزية تعمل على تنسيق أنشطة الجمعيات المختلفة لأحباء صهيون. ويُعَدُّ بنسكر صاحب الفضل الأساسي في الدعوة والإعداد لهذا المؤتمر، وكـان قد أشـار في كتـابه الانعـتاق الذاتي إلى ضـرورة عَقْده.

وقد سبقت المؤتمر عدة محاولات لتشكيل هيئة مركزية، فحاول موهيليفر عام 1883 اختيار لجنة مركزية، وعقد مؤتمراً محدوداً لهذا الغرض في بيالستوك، ولكن اللجنة المنتخبة كانت خاملة تماماً وهو ما دفع جمعـية بناي بريت إلى تنظيم مؤتمر آخر في سـبتمبر من العـام نفسه، ولكنه لم يحقق نجاحاً يُذكَر.

وقد تم الإعلان عن المؤتمر باعتباره مؤتمراً تأسيسياً لإنشاء جمعية خيرية، لتشجيع المستوطنات الزراعية اليهودية، تُسمَّى «مزكيرايت موشيه» أي «ذكرى موسى» أو «أحباء موسى» نسبة إلى موسى مونتفيوري (الذي مات بعد عدة أشهر من تاريخ عقد المؤتمر، ولم يترك لهم أي دعم مالي أو معنوي، ومن ثم فقد تخلوا عن الاسم)

وقد عُقد المؤتمر في جو من الإحساس بالضعف والخوف من الفشل أو من عداء أثرياء الغرب، ولذا خفف المؤتمرون تماماً من أية ديباجة قومية وتبنوا صيغة إنقاذيةوتحدثوا عن ضرورة عودة اليهود إلى النشاط الزراعي في فلسطين، ولم يذكروا شيئاً عن طموحات الإحياء القومي أو الاستقلال السياسي. ومع هذا، فقد اكتشف المؤرخ جرايتز البُعْد القومي الكامن المستتر، كما اكتشف أن المؤتمر ليس مجرد مؤتمر لحل مشاكل يهود روسيا فانسحب من المؤتمر. وقد تقرَّر أن يكون مركز الجمعية برلين (في الغرب) على أن تكون أوديسا هي المركز مؤقتاً. وتقرَّر تكوين لجنتين، إحداهما لاستقصاء المعلومات عن فلسطين والأخرى للذهاب للباب العالي للتفاوض بشأن فَتْح أبواب فلسطين أمام المستوطنين. وتقرَّر تقديم طلب رسمي للحكومة الروسية لتأسيس جمعية خيرية، وانتخب المؤتمر لجنة مركزية لجمعيات أحباء صهيون من تسعة عشر عضواً تحت رئاسة بنسكر. وتقرَّر عدم إنشاء أية مستوطنات أخرى والاستمرار في دعم المستوطنات الموجودة بالفعل. ولم يناقش المؤتمر المسألة الكبرى، وهي: هل سيحل الاستيطان (على طريقتهم التسللية) المسألة اليهودية أو لا؟ وقد حضر المؤتمر اثنان وثلاثون مندوباً (22 روسياً، 6 ألمان، بريطانيان، ومندوب واحد من كل من فرنسا ورومانيا)، وتم انتخاب موهيليفر رئيساً فخرياً له. وقد أثيرت في المؤتمر عدة قضايا من بينها وضع الدين، وهل سيتوقف العمل في الدولة اليهودية يوم السبت؟ وإذا ما تقرَّر ذلك ـ فماذا سيكون العمل فيما يتصل بالبريد والمواصلات التي لابد أن تعمل 24 ساعة؟

وقد قُدِّم في المؤتمر اقتراح بأن تصدُر القرارات بلغتين: نسخة عبرية إلى جانب النسخة الألمانية وتختلف عنها في اللهجة والتوجه (أي أنه تقرَّر إصدار نسخة عبريةاستيطانية وأخرى ألمانية توطينية). ولكن بنسكر عارض الفكرة. وقد سقطت فكرة توجيه الحركة من الغرب لعدم وجود حماس كاف بين أثرياء الغرب. وقد عُقدت مؤتمرات أخرى في دروسكينكي عام 1867 وفي فلنا عام 1889.

ويمكن القول بأن المؤتمر قد يدل على أن صهاينة شرق أوربا كانوا قد اكتشفوا عقم الصيغة التسللية بل عقم الاتصال بأثرياء اليهود المندمجين وبدأوا ينتظرون المخلِّص من الغرب دون أن يعرفوا هويته أو خصائصه. ثم جاء هرتزل ومعه الحل: الاعتماد على قوة إمبريالية تقوم بنقل اليهود إلى فلسطين وتؤسس لهم دولة وظيفية تابعة تقوم على خـدمتها وتضمـن القـوة الإمــبريالية بقاءها واستمرارها.

البيلو

Bilu

أول حركة استيطانية صهيونية حديثة اتخذت اسمها من الأحرف الأولى للعبارة الدينية «بيت يعقوب لخي فنيلخاه» بمعنى (أيا بيت يعقوب هيا نذهب) (أشعياء 2/5)، وهي صياغة استيطانية فضَّلها أعضاء البيلو على الصيغة التوطينية التي وردت في سفر الخروج 14/15 والتي تحرض أبناء جماعة يسرائيل على الخروج. وقد نشأت الحركة على أيدي بعض الطلبة اليهود من أحباء صهيون في خاركوف الروسية عام 1882 كرد فعل على المذابح الروسية وقتها وعلى قوانين مايو. ولم تقتصر الحركة على الطلبة فقط بل انتشرت في أماكن غير خاركوف حتى بلغ إجمالي أعضائها 525 عضواً.

وقد انطلق أعضاء البيلو من الإيمان بأن حضارة أوربا لا مكان فيها لليهود، وأنه لابد من الإحياء القومي اليهودي عن طريق الهجرة إلى فلسطين والنهوض باليهود وتحويلهم إلى قطاع اقتصادي منتج عن طريق العودة للزراعة، أي أن أعضاء البيلو اكتشفوا الصيغة الصهيونية الأساسية وأضفوا عليها بعض الديباجات الشعبوية (الروسية) واليهودية. وقد قررت الجمعية تجنيد ثلاثة آلاف يهودي وتهجيرهم وجَمْع المال من أثرياء اليهود في روسيا (وفشلت في تحقيق الهدفين)

وقد تحدَّث برنامج البيلو عن تأسيس مركز سياسي للشعب اليهودي ومركز روحي لهم، أي أن الخلافات التي وسمت الحركة الصهيونية ظهرت من البداية. كما حدث خلاف آخر إذ انقسم أعضاء البيلو إلى فريقين: واحد يرى أن الاستيطان المباشر (التسللي) هو الحل الوحيد. أما الفريق الآخر فكان يرى ضرورة الحصول على موافقة الباب العالي (الصهيونية الدبلوماسية)

وقد وصل إلى إستنبول وفد يمثل الحركة وقابلوا الصهيوني غير اليهودي لورانس أوليفانت وطلبوا منه التوسط لدى السلطات العثمانية لتسمح لهم بالاستيطان. وقد بذل أوليفانت جهداً بالنيابة عنهم ولكنه لم يوفَّق في مساعيه. فاتجه 14 عضواً من الوفد إلى فلسطين. ورغم وصولهم ووصول غيرهم ممن هاجروا مباشرةً من روسيا، لم يزد المجموع الكلي عن الخمسين في حين أن عدد أعضاء الجمعية في روسيا كان قد وصل إلى خمسمائة. ويمكن القول بأن عام 1882 يؤرخ لبداية الهجرة الصهيونية الاستيطانية لفلسطين.

وفي فلسطين، عمل أعضاء البيلو بالزراعة وأسسوا بعض المستعمرات الزراعية وتعلموا في مدرسة مكفيه إسرائيل الزراعية وعاشوا عيشة جماعية وواجهوا صعوبات جمة لأنهم لم يعتادوا العمل اليدوي الشاق، ولجهلهم بالزراعة وعدم اعتيادهم الطقس، كما أنهم تلقوا مرتبات صغيرة وعانوا من المعاملة الفظة من قبَل مدير المدرسة. ولكنهم التقوا بتشارلز نتر مؤسس المدرسة الذي شجعهم على الاستمرار، كما التقوا بميخائيل باينس الذي انتخبوه رئيساً للبيلو، فنقل بعضهم إلى القدس ليشتغلوا بالحرف وكوَّنوا جمعية تُسمَّى «شيحو» (الحروف الأولى لعبـارة «شــيفات هي حاريــش بي هامسـجر» (لتعد إلى الحرفي والحداد، ملوك ثاني 24/16). ولكن هذا المشروع فشل أيضاً وتبعثر أعضاء البيلو.

ثم انتقل بعض أعضاء البيلو إلى ريشون لتسيون وعملوا كعمال أجراء عند مجلس المستوطنة. ولكن العلاقات توترت بينهم. فاستمر أعضاء البيلو في الانتقال من ريشون لتسيون ومكفاه إسرائيل. وقد خيبت جماعة أحباء صهيون ظنهم أيضاً فلم تزودهم بأي عون. وقد اشترى أعضاء الجمعية بواسطة باينس أرض قرية عربية، وهكذا أُسِّست مستوطنة جديرا.

وقد قدَّم إليهم روتشيلد العون لبعض الوقت، ولكنهم حينما ضاقوا بهيمنته ومعاملة مدير مستوطنة ريشون لتسيون لهم قاموا بطردهم، كما أنه سحب تمويله لمستوطنة جديرا لأن أكثر سكانها كانوا من جماعة البيلو.

عاد بعض أعضاء البيلو إلى روسيا واتجه البعض الآخر إلى الولايات المتحدة، كما بقي البعض في فلسطين.

والجدير بالذكر أن اليهود الأرثوذكس في القدس لم يتحمسوا لأعضاء البيلو بل رأوا فيهم عامل إقلاق وامتصاص لجزء من أموال الحالوقاه (الصدقة) المُرسَلة من الخارج، ولذلك فقد ناصبوهم العداء. كما وقفت السلطات العثمانية ضد هؤلاء المستوطنين وحرَّمت هجرة اليهود الروس وشراء الأراضي في فلسطين، لكنهم تحايلوا على ذلك برشوة الموظفين الأتراك وتسجيل الأراضي بأسماء يهود من أوربا الشرقية ومن خلال بعض رعايا الدول الأجنبية ممن يتمتعون بالحماية التي تكفلها لهم الامتيازات الأجنبية.

على أن الظاهرة الجديرة بالملاحَظة هي الصراع الذي ما لبث أن نشب بين البيلو وبين عناصر الهجرة اليهودية الثانية الذين سُموا الرواد، وهم الذين اتهموا عناصر الموجة الاستيطانية الأولى بالاندماج مع العرب والإقامة في المدن مع استخدام العامل العربي في الزراعة بل التحدث باللغة العربية وارتداء الأزياء العربية. وقد ترتَّب على هذا الصراع إثارة واحدة من أهم قضايا الحركة الصهيونية في هذه الفترة وهي المعروفة بقضية العمل العبري.

كما أن أعضاء البيلو، برؤيتهم الرومانسية ومعاداتهم للغرب (وهي أفكار كانت منتشرة بين أعضاء الحركة الشعبوية في روسيا)، كانوا يتصورون أنهم سيتبنون الحضارة الشرقية (العربية في هذه الحالة) ويصبحون جزءاً منها، وقد كتب بعضهم أعمالاً أدبية تمجد العربي وتحيطه بهالة رومانسية باعتباره «المتوحش النبيل». ويظهر أعضاء البيلو في صورهم مرتدين اللباس العربي.

والواقع أن جماعة البيلو جماعة صهيونية جنينية اكتشفت معظم مكونات المشروع الصهيوني ومشاكله ولكنها لم تكتشف حتمية الاعتماد على الإمبريالية لوضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ. ومع هذا، يمكن القول بأن أعضاء الجمعية بدأوا يتحسسون طريقهم نحوها في اتجاههم نحو الباب العالي وروتشيلد. وقد جاء هرتزل واكتشف الآلية الكبرى لتنفيذ المشروع الصهيوني (أي الإمبريالية)

قديـمـــا

Kadima

« قديما» كلمة عبرية تعني «إلى الأمام» أو «إلى الشرق». وجمعية قديما تنتمي إلى جمعيات أحباء صهيون، أسسها في فيينا عام 1882 عدد صغير من الطلاب اليهود (فالغالبية لم تكن ذات توجُّه صهيوني) معظمهم من يهود اليديشية من شرق أوربا. وكان من بين المؤسسين ناثان بيرنباوم وبيريتس سمولنسكين الذي اقترح اسم المنظمة والذي كانت تُعَد كتاباته الملهم الأساسي لهم. وأسَّس بيرنباوم مجلة تُسمَّى الانعتاق الذاتي للدفاع عن مصالح العرْق اليهودي، كانت أهم أهدافها المعلنة: محاربة اندماج اليهود وتقوية الروح القومية اليهودية وتدعيم الاستيطان اليهودي في فلسطين (وهناك جمعية أخرى تحمل نفس الاسم أسسها المهاجرون الروس في إنجلترا عام 1887)

وتنتمي جمعية قديما إلى فترة ما قبل هرتزل وبلفور أو إلى فترة التكوين قبل أن تدرك الصهيونية حتمية الاستعانة بالإمبريالية لوضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ. ولذا، فإننا نجد تفكيرها يتسم بالسذاجة الشديدة وعدم إدراك البُعْد السياسي الاستعماري لعملية الاستيطان وعدم فَهْم طبيعة الموازنات الدولية.

وحينما ظهر هرتزل غيَّر كل ذلك، وبيَّن للجميع أن الحل الصهـيوني لابد أن يكـون حــلاًّ اسـتعمارياً تساعده قوة إمبريالية عظمى، وقضى على وهم الجهود الذاتية. ولذا، حين أخبره عضوان من قديما أنهما يفكران في تكوين فرقتين من ألفي متطوع تذهبان إلى يافا لاحتلالها مثلما فعل غاريبالدي (لاجتذاب انتباه أوربا)، نصحهما بالإقلاع عن هذه الحيلة الصبيانية لأن السكان هناك لن يرحبوا بهم وسيُقضَى على العملية كلها في 24 ساعة. ولعل إدراك هرتزل كل أبعاد العملية الاستيطانية وحتمية عداء السكان الأصليين لها هو الذي جعله قادراً على إزاحة بيرنباوم تماماً من الطريق، رغم أن الأخير كان أكثر ثقافةً وعلماً وعمقاً.

لــيو بنســكر (1821-1891(

Leo Pinsker

طبيب روسي صهيوني استيطاني تسللي وزعيم جماعة أحباء صهيون. وُلد في روسيا، وكان أبوه مدرساً وعالماً، كما كان يعمل بالتجارة وقد انتقل إلى مدينة أوديسا بعد فشله في أعماله التجارية في جاليشيا، وكانت أوديسا مدينة روسية جديدة تتسم بارتفاع معدلات العلمنة والاندماج بين أعضاء الجماعة اليهودية، فزود ابنه بثقافة روسية علمانية وعرَّفه بأفكار حركة الاستنارة اليهودية، كما تعلَّم بنسكر اللغة الألمانية (وهي لغة الحديث في المنزل) وتعلَّم قليلاً من العبرية. ولم يتعلم بنسكر في مدرسة يهودية (كما هو الحال مع معظم المفكرين والزعماء الصهاينة)، وإنما أنهى دراسته الثانوية في مدرسة روسية ثم درس الحقوق في أوديسا ودخل جامعة موسكو لينال منها شهادة طبية. وقد كتب عدة مقالات في راسيفيت وهي أول مجلة أسبوعية يهودية تصدُر بالروسية (بدأ نشرها عام 1860)، وكتب أيضاً في مجلات يهودية أخرى ذات طابع اندماجي، كما قام بجهود كبيرة كعضو في جمعية تنمية الثقافة بين يهود روسيا. وخدم بنسكر في الجيش الروسي أثناء حرب القرم (1856)، وساهم في حركة الترويس، وقد كان يرى أن اليهود إن تعلموا اللغة القومية فإن ذلك سيساهم في دَمْجهم.

ولكن أحداث عام 1871 في أوديسا زعزعت إيمانه. ومع تعثُّر التحديث وصدور قوانين مايو 1882، تغيَّر موقفه بشكل جوهري وعدل عن كثير من آرائه، وبدأ الشك يساوره في مقدرة الاستنارة وحدها على حل مشاكل اليهود. وفي عام 1881، وفي أحد اجتماعات جماعة تنمية الثقافة، طالب بنسكر بالعدول عن هذه السياسة واقترح إعادة توطين اليهود في وطن واحد. وبدأ بنسكر في التجوال في عواصم أوربا للدعوة لفكرته بشأن الدولة الصهيونية، فقابل الحاخام أدولف جلينك، حاخام فييـنا الأكبر وصـديق أبيه، فأشار هذا عليه بإخضاع نفسه للعناية الطبية. وقابل زعماء الأليانس وبعض القادة اليهود ولكنهم عارضوه. ومع هذا، فقد ألف بالألمانية كراسة الانعتاق الذاتي: تحذير من يهودي روسي لإخوته (1882) الذي نُشر دون ذكر اسم المؤلف لأنه كان مُوجَّهاً أساساً إلى يهود الغرب. والكراس يأخذ شكل المانفستو، ولذلك فإنه خال من أيِّ عمق.

ويتميَّز كراس بنسكر بأنه لا ينظر إلى اليهود من الداخل باعتبارهم جماعة مستقلة (كما يفعل بعض مثقفي يهود اليديشية) وإنما ينظر إليهم من الخارج كما ينظر إليهم الصهاينة غير اليهود. وقد تعلَّم بنسكر تعليماً غربياً وكان ذا هوية غربية، واليهود واليهودية بالنسبة إليه موضوعا للدراسة أساسا، وهوية فرضت عليه فرضا من الخارج. وعلى أية حال، فبالإمكان تصنيفه على أنه صهيوني يهودي غير يهودي.

يضع بنسكر الموضوع اليهودي في سياقه الغربي وحسب وينطلق، مثله مثل معظم الصهاينة، من رفض اليهودية التقليدية والتفكير الديني اليهودي. فهو يعلن ضرورة التخلص من موقف الانتظار وضرورة الثورة ضد الشعور الديني القديم الذي يدفع اليهود إلى تقبُّل وَضْعهم ووجودهم في المنفى باعتباره عقاباً أنزله الإله بهم "فشعب الله المخـتار إن هو إلا شـعب مختار للكراهية العالمية". ولذا، يجب على اليهود التخلي عن الفكرة المغلوطة القائلة بأن اليهود بتشتتهم هذا يحققون رسالة إلهية، فتلك الرسالة لا يؤمن بها أحد.

ويُقدِّم بنسكر طرحاً مغايراً تماماً للرؤية الدينية، فينظر لليهود في سياق وضعهم الهامشي في المجتمع الغربي، وفي إطار التحولات التي طرأت على هذا المجتمع (التصنيع والتحديث والتنوير والإعتاق والعلمنة) والتي أدَّت إلى ظهور المسألة اليهودية في إطار فكرة الشعب العضوي المنبوذ من المجتمع الغربي. فهو يقول إن اليهود شعب عضوي لا يمكن أن يذوب في الأمم الأخرى، ولذا فهو يعيش في بلاد لا تعترف به ابناً لها، فالألماني الفخور بصفاته التيوتونية والسلافي الفخور بصفاته السلافية وغيرهم لا يعترفون بأن اليهودي يتساوى معهم بالمولد، فهذه القـوميات العضـوية تجعـل الانتماء القومي مسألة عضوية موروثة. واليهود، رغم أنهم شعب عضوي، إلا أنهم يفتقرون إلى كثير من الصفات القومية العضوية (لغة وعادات مشتركة وأرض مشتركة) كما أنهم ليس لهم وطن أصلي ولا حكومة تمثلهم، ولهذا تحوَّلوا من أمة يهودية إلى يهود، وأصبحوا بذلك شعباً ميتاً: فقدوا استقلالهم وتحولوا إلى حالة التعفن التي لا تستطيع مسايرة العضو الحي المتكاسل. وهم "شبح" يأتي من عالم الأموات (ولنلاحظ أن كل الصور المجازية الإدراكية هنا صور مجازية عضوية). ثم تتري الصور المجازية التي تدل على تقبُّل بنسكر مقولات معاداة اليهود: "إننا قطيع منتشر في أرجاء المعمورة دونما راع يحمينا ويجمعنا معاً. أما في أحسن الظروف، فقد نصل إلى مرتبة الماعز التي تبيت (حسـب التقليد الروسـي) في إسطبلات الخيل"، وإذا بقيت الظروف على ما هي عليه "فسنظل طفـيليين نعـتمد في معيـشتنا على بقية السكان". وهذا هو أس البلاء، فما دام اليهود عنصراً قومياً غريباً، ضيوفاً على أمم مضيفة، فإنهم سيظلون محط كراهية كل الشعوب لأن الناس تخاف من الأشـباح.

ومن الواضح أن وَصْف بنسكر متأثر بتجربة يهود شرق أوربا، وخصوصاً في روسيا، فقد كانوا يعيشون في مناطق الاستيطان على هامش المجتمع الروسي: "منبوذون... لا يُطبَّق عليهم القانون العام باعتبارهم أغراباً بمعنى الكلمة. فثمة قوانين خاصة باليهود". وقد يكون في هذا الوصف شيء من الموضوعية التقريرية المباشرة، ولكنه يعزلأعضاء الجماعات اليهودية عن الظواهر المماثلة في المجتمع الروسي وفي المجتمعات الأخرى، ويجعل الاضطهاد حكراً على اليهود في كل مكان. وما دام اليهودي لا وطن له في أي مكان وليس له حقوق المواطنة، فإنه منبوذ في كل مكان وزمان. فالخوف من الأشباح، أي معاداة اليهود، أمر أزلي ينتقل من جيل إلى آخر ويقوى عبر العصور. كما أن بنسكر نفسه يقول: "تظهر هذه الفكرة في كل زمان ومكان".

وما الحل الآن؟ يرفض بنسكر مرة أخرى الحلول التقليدية مثل الهجرة الفردية: "كافحنا عبر القرون بجهد كي نحيا لكن كأفراد وليس كأمة". كما يرفض بنسكر فكرة الاستيطان الديني التقليدي الذي كان يُموَّل بأموال الصدقة (الحالوقاه)، فمشروعه الصهيوني المقترح لا يتم "بجمع التبرعات من الحجاج والهاربين الذين سينسون وطنهم ومن ثم سيضيعون في أعماق غربة أرض مجهولة".

الحل هو التخلص من اليهود من خلال تصفيتهم، ومن اليهودية من خلال التخلي عنها تماماً. "نحن نرضى التخلي عن (رسالتنا الإلهية) إذا أمكن محو اللقب الممقوت «يهودي» من ذاكرة الإنسان". وقد ذكر بنسكر هذه الكلمات في لحظة غضب، ولكنه يهدأ ويبدأ في اقتراح الطرق المنهجية الكفيلة بتحقيق هذا الهدف "لابد أن تتعـامل الأمم مــع أمة يهــودية" ولابد من "خَلْق مأوى دائم". و"الطريق الوحيد الصحيح لإصلاح الوضع هو خلق قومية يهودية مؤلفة من شعب يعيش على أرض يملكها". أمابالنسبة إلى آليات هذا الحل، فهو أولاً لن يأتي من الإله وإنما سيتم بالانعتاق الذاتي (عنوان الكراسة). ويُلاحظ بنسكر أن الجو العام في أوربا قد خلق مناخاً مواتياً لحركة البعث القومي. فالفكرة القومية في كل مكان، كما أن اليهود يشعرون بالبؤس في كل مكان أيضاً. ولكن الحل الذي يطرحه بنسكر لنقل اليهود خارج أوربا يثير عدة مشاكل من بينها أن الشعوب التي نالت استقلالها مؤخراً هي أمم عاشت على أرضها وكانت تتكلم لغة واحدة، فكان لها بذلك أرض. أما اليهود فلا أرض لهم، ولابد من خلق هذه الأرض.

وثمة عدة مؤشرات كامنة في كراسة بنسكر تحدد هوية هذه الأرض وهوية من يهاجر إليها وآليات النقل:

1 ـ من الواضح أنه، حينما يفكر في الحركة القومية، يفكر أيضاً في تقسيم الدولة العثمانية، فهو يفكر في الصرب وأهل رومانيا وحصولهم على الاستقلال. ومن ثم، فالأرض هي في غالب الأمر أرض فلسطين.

2 ـ وهو يضيف قائلاً إن تحرير اليهود واجب كواجب تحرير الزنوج. ومع هذا، فإنه يضيف أن اليهود ينتمون إلى عرْق متقدم وليسوا زنوجاً، أي أنهم عنصر استيطانيأبيض.

3 ـ ومعظـم البـلاد المتحـضرة سوف لا تقبل هجرة اليهود الجماعية إليها، أي أن الدول الغربية ستوقف سيل يهود اليديشية إليها.

4 ـ ولكن إذا لم يكن اليهود زنوجاً، ومع هذا ترفض الدول المتحضرة (البيضاء) هجرتهم إليها لأن وجود اليهود بينهم يسبب لهم المشاكل (المسألة اليهودية)، وإذا كانت الدولة العثمانية آخذة في التآكل (المسألة الشرقية)، وكان المشروع الصهيوني لن ينشأ بشكل عشوائي وإنما سينشأ بمعاونة الحكومات، فإن الحل سيكون كامناً في ربط المسألة اليهودية بالمسألة الشرقية فتُحَل المسألتان الواحدة من خلال الأخرى.

5 ـ ويرى بنسكر ضرورة أن نلفت "أنظار الشعوب التي تمقتنا"، أي يجب تجنيد أعداء اليهود من الشعوب الغربية، كما يجب أيضاً الضغط على السياسة الدولية في الوقت الحاضر فستظهر نتيجته المثمرة في المستقبل. أي يجب الاستعانة بالدول الغربية، فالسياسة الدولية هي السياسة الإمبريالية الغربية.

6 ـ وحينما يقول "امنحونا متعة الاستقلال واسمحوا لنا أن نقرر مستقبلنا، وأعطونا قطعة من الأرض، امنحونا تلك الأشياء التي منحتموها للصرب وأهل رومانيا، أعطونا مجال وجود القومية الحرة" فنحن نعرف أنه يتوجه للقوى العظمى الاستعمارية (وإن لم يدرك هو ذلك تماماً)، فهي وحدها القادرة على توطين الفائض البشري خارج أوربا. وهو يطلب رقعة في الولايات المتحدة أو ولاية كتلك التي يقوم عليها باشاوات آسيا التركية، يعترف بها الباب العالي والعالم الغربي كبلد محايد. ثم يضيف: وستكون مهمة الإدارة الصهيونية المقترحة إقناع الباب العالي والحكومات الأوربية بهذا المخطط.

ثم يطرح بنسكر عدة قضايا متصلة بالتنظيم والإجراءات الأخرى، مثل تأسيس مجلس وطني أو مؤسسة وطنية تقوم بوضع السياسة العامة ثم تؤسس شركة لشراء قطعة الأرض، والإشراف على أمور الاستيطان لشراء الأراضي وغير ذلك، وهي أمور كانت تُعتبَر جديدة كل الجدة على اليهود، لأنه حديث عن آليات العودة بشكل حديث لم يألفوه من قبل.

ولكن الأهم من ذلك هو حديثه عن الأرض فهو يقول يجب ألا يكون الحديث عن الأرض المقدَّسة وإنما عن مجرد أرض نملكها، أرض ذات مركز جيد ومساحة كافية لإسكان عدة ملايين تحددها بعثة خبراء تعطي رأيها بعد تحريات ودراسات عميقة. إن علمانية المصطلح وحداثته كان أمراً جديداً كل الجدة. ومع هذا، يتدارك بنسكر ويقول قد تعود الأرض المقدَّسة لنا، فإذا حدث هذا الشيء فهو أفضل بمعنى أنه لا يرفض تماماً الصهيونية الإثنية ويترك الباب مفتوحاً أمامها.

وقد توقَّع بنسكر معارضة معظم اليهود، ولذلك حاول أن يكون برنامجه أكثر وضوحاً وتفصيلاً إذ يفرِّق بين الصهيونيتين، فقسَّم اليهود إلى غربيين مندمجين (سعداء)، وشرقيين (بؤساء). أما بالنسبة للفريق الأول فهم اليهود الغربيون الذين يكوِّنون نسبة قليلة من السكان، ولذلك فحالهم في البلاد التي يعيشون فيها أحسن، ومن الأفضل لهم ألا يهاجروا. أما البلاد التي بلغ اليهود فيها درجة التشبع مثل روسيا (وبولندا التي كانت تتبعها)، ورومانيا (أي شرق أوربا)، فمن الأفضل لهم الهجرة (وهكذا يبدأ تقسيم العمل إلى صهيونية استيطانية وأخرى توطينية). فالحديث ليس عن كل اليهـود وإنما عـن اليهـود غير المندمجــين في المجتمع والفائضين عنه، الذين يجب إرسالهم إلى مكان آخر (الوطن القومي) لأنهم كبروليتاريا تعيش عالة على أعضاء المجتمعات المضيفة. بل يضيف بنسكر بُعداً آخر يبلغ الغاية في الأهمية إذ يقرر أنه حتى أغنياء شرق أوربا بإمكانهم البقاء حيث هم، ومعنى هذا أنه يعرِّف الفائض إثنياً وطبقياً وليس قومياً.

ويمكن القول بأن كثيراً من عناصر الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة قد ظهرت في كراس بنسكر. ومن هنا أهميته في تاريخ الفكر الصهيوني، فقد أسقط المقولات الدينية التقليدية ونزع القداسة عن اليهود واقترح ربط المسألة الشرقية بالمسألة اليهودية باعتبارهم شعباً عضوياً منبوذاً وعنصراً استيطانياً أبيض، أي أنه يقترح أن يتم الحل داخل التشكيل الاستعماري الغربي. بل يترك الباب مفتوحاً أمام الأشـكال الصهيــونية الأخرى (الصهيونية الإثنية الدينية وغيرها)، ويضع يده على ضرورة وجـود صهيونيتين؛ واحـدة اسـتيطانية والأخرى توطـينية.

ومع هذا، ظلت صيغة بنسكر مترددة متعثرة، ربما بسبب تكوينه الثقافي الضيق، فالأفق الثقافي في روسيا القيصرية كان ضيقاً إلى أقصى حد، وكان أكثر ضيقاً داخلالمدن اليهودية ومواطن الاستيطان. ولذا، فإنه لم يكن لديه إدراك كامل لحتمية الاعتماد على الإمبريالية الغربية لوضع أي مشروع استيطاني موضع التنفيذ. فالمشروعالاستعماري الروسي لم يكن على استعداد لتوظيف اليهود لصالحه، بل كان يود التخلص منهم في أسرع وقت. كما أنه لم يكن مشروعاً عالمياً كما كان الحال في إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة، إذ أن المطامع الروسية القيصرية كانت تتجه نحو دول البلطيق والمناطق التي تفصل بين روسيا واليابان والصين والدولة العثمانية. أما فلسطين فقد كان الروس ينظرون إليها باعتبارها منطقة نفوذ أرثوذكسية، وهو ما يتطلب استبعاد اليهود. ولذا، فرغم أن كل أفكار هرتزل الأساسية موجودة في الانعتاق الذاتي إلا أن هرتزل قد حقق ما لم يحققه بنسكر لأنه كان مدركاً لحتمية الاعتماد على الإمبريالية الغربية باعتبارها الآلية الوحيدة لتحقيق الحلم الصهيوني.

وقد أصبح بنسكر زعيم جمعية أحباء صهيون ودُعي إلى مؤتمر كاتوفيتش 1884، وانتُخب رئيساً للجمعية. ولكن حينما نشبت بعض الخلافات داخل الجمعية، قدَّم استقالته عام 1887 ثم سحبها خشية أن تسيطر العناصر اليهودية الأرثوذكـسية، تحت قيادة موهيليفر، على الجمعية. وقد استقال ثانيةً عام 1889 إثر اختيار قيادة جديدة للحركة، ولكنه عاد مرة أخرى بعد سماح السلطات الروسية بإنشاء لجنة أوديسا. وخلال رئاسته، تمكنت الجمعية من جَمْع بعض الأموال لإقامة مستعمرات في فلسطين، ومهدت السبيل أمام الاستيطان الصهيوني، كما تأسست في روسيا «جمعية تقديم المساعدات للمستوطنين الزارعيين وأصحاب الحرف اليدوية اليهود في سوريا وفلسطين» التي كانت تُعرف بلجنة أوديسا.

وقد زار بنسكر باريس وأقنع روتشيلد بمساعدة الاستيطان اليهودي، ونظراً لأن الأموال التي جمعتها جماعة أحباء صهيون كانت قليلة جداً (فهي لم تكن حركة جماهيرية)، فإن معظم المستوطنات كانت في نهاية الأمر قد أصبحت تابعة لروتشيلد. كما أن بنسكر تابع مشاريع البارون موريس دي هيرش لتوطين اليهود الروس في الأرجنتين باهتمام شديد.

ويُعَدُّ بنسكر مفكراً صهيونياً أكثر من كونه منفذاً للمشروع، وصهيونيته هي من النوع الذي يُطلق عليه «الصهيونية العملية» أي «التسللية»، كما أن أسلوبه وأفكاره يشبهان أفكار وأسلوب هرتزل إلى حدٍّ كبير، لكن هرتزل قد دوَّن في مذكراته أنه لم يطَّلع على كتابات بنسكر. ولعل الفارق الأساسي بينهما هو مدى إدراك حتمية الاعتماد على الإمبريالية، إذ كان بنسكر يتحرك داخل وهم الانعتاق الذاتي التسللي.

حاييـم لــورج (1821-1878(

Chaim Lorje

أحد رواد فكرة الاستيطان اليهودي في فلسطين، ومؤسِّس أول جمعية تقام لهذا الغرض. وُلد في فرانكفورت وكان طوال حياته يبدي تحمساً شديداً لأفكار القبَّالاه، بل زعم أنه ينحدر من سلالة المفكر القبَّالي إسحق لوريا. وقد عمل بالتدريس حيث كان يدير مدرسة داخلية للأطفال. وفي عام 1864، رحل إلى برلين واستقر فيها بقية حياته.

وقد تركت أحداث ثورة 1848 في ألمانيا أثراً كبيراً في فكر لورج الذي رأى فيها برهاناً على اقتراب مقدم الماشيَّح. ومنذ ذلك الحين، تزايد اهتمامه بما يُسمَّى «البعث القومي اليهودي» حيث اعتبر أن استيطان اليهود في فلسطين يُعَد تحقيقاً للنبوءة التوراتية بالعودة إلى أرض الأجداد وتطهُّراً من رجس المنفى. وكانت نقطة البداية لتحقيق هذا الهدف ـ في نظره ـ هي إقامة منظمة تتولى تنسيق الجهود وتوفير الأموال اللازمة لدعم مشاريع الاستيطان. ولذلك، بادر عام 1860 بتأسيس «جمعية استعمار فلسطين» (ولذا فهي تُعَدُّ أوَّل جمعية استيطانية يهودية صهيونية)، ولم يدخر وسعاً في الدعوة لأهداف الجمعية واجتذاب شخصيات بارزة إلى عضويتها وتنظيم حملات للتبرعات. وقد اتسعت شهرة الجمعية في الأوساط اليهودية وانتشرت فروعها في عدة مدن ألمانية وانضم إليها مفكرون بارزون من أمثال يهودا القلعي وموسى هس وديفيدجوردون فضلاً عن تسفي كاليشر، الذي تولت الجمعية نشر كتابه البحث عن صهيون (1862). كما نجح لورج في التصدي لحجج خصومه، وعلى الأخـص في أوسـاط الذين اســتوطنوا في فلسطين لدوافع دينيــة.

إلا أن لورج فشل في تحقيق الهدف الأساسي لجمعيته، فلم يفلح في تهجير أي يهودي إلى فلسطين ولا في إقامة أية مستوطنات هناك، وسرعان ما تحولت الجمعية نفسها إلى مشروع خاسر حيث أصبحت نفقاتها والتزاماتها تفوق مواردها كثيراً، كما تنازعتها الخلافات والانشقاقات. وبحلول عام 1864، كانت الجمعية قد غدت مجرد ذكرى عابرة. ورغم أن هذا الفشل يمكن أن يُعزى جزئياً إلى شخصية لورج التي تتسم بالرعونة والتسلط وافتقاد الحنكة التنظيمية، إلا أن السبب الأساسي يكمن في أنه لم يدرك ما أدركه هرتزل فيما بعد من ضرورة اللجوء إلى قوة استعمارية عظمى تكون بمنزلة آلية دولية تقـوم بنقل اليهـود وتوظيــفهم في إطار الدولة الوظيفية.

هـرمــان شــابيرا (1840-1898)

Herman Schapira

أحد القادة الأوائل لحركة أحباء صهيون والصهيونية الدبلوماسية الاستعمارية. ومؤسس فكرة الصندوق القومي اليهودي. وُلد في ليتوانيا في أسرة فقيرة وعمل ليموِّل دراسته، واشتغل كتاجر سلاح أثناء الحرب التركية الروسية عام 1877 ـ 1878 فكسب مبالغ طائلة، ومن ثم عاد للدراسة في ألمانيا، وعُيِّن محاضراً في الجامعة عام 1883 في قسم الرياضة البحتة. انضم لحركة أحباء صهيون بعد مذابح روسيا في أوائل الثمانينيات من القرن التاسع عشر، وكتب مقالات تدعو إلى إقامة مستوطنات زراعية في أرض إسرائيل وإلى إقامة جامعة لتدريس العلوم. وكان شابيرا يعتقد أن اللغة المستخدمة في هذا المشروع ستكون الألمانية مع دعوته لتدريس العبرية بقدر الإمكان حتى يحين الوقت الذي تصبح فيه العبرية لغة منطوقة كذلك.

أصيب شابيرا بيأس وإحباط لفشله في إثارة اهتمام اليهود بمشاريعه. وانخرط بعد ذلك في فلسفة دينية مشيحانية وحاول التوفيق بين الآراء القبَّالية والعلم الحديث. بعد ظهور هرتزل، عاد إليه الأمل وقدَّم أفكاره حول الصندوق القومي لليهود للمؤتمر الصهيوني الأول (1897) وكذلك حول إنشاء الجامعة العبرية.

إليـم دافيــجدور (1841-1895(

Elim D'avigdor

أحد رواد حركة أحباء صهيون. وُلد في فرنسا ودرس الهندسة المدنية، وتولَّى الإشراف على مد الخطوط الحديدية في سوريا ورومانيا، كما تولَّى إقامة المنشآت المائية في فيينا. كتب عدداً من قصص الصيد باسم مستعار قبل أن يكرس جهوده لدعم الحركة الصهيونية.

قام بدور بارز في مد نشاط أحباء صهيون في أوربا الغربية، ورأس عام 1894 فرعها في باريس الذي أطلق عليه "اللجنة المركزية". وعارض مشاريع هجرة اليهود إلى أمريكا لأنهم كلما اتجهوا صوب الغرب ازدادت المسافة التي تفصلهم عن "صهيون"، أي عما يتصور أنه الهوية اليهودية، ودعا في المقابل إلى اتباع خطة تنظيم وعمل مدروسة بعناية للاستيطان في فلسطين. وسعى ـ كخطوة أولى لتحقيق هذا الهدف ـ إلى شراء مساحات من الأراضي في منطقة حوران بُغية جعلها قاعدة للاستيطان الصهيوني، وتقديم التسهيلات اللازمة، فضلاً عن الإعفاء من دفع الضرائب خلال السنوات الأولى والتي أُطلق عليها اسم "السنوات الانتقالية".

بيرتـس سمولنسكين (1842-1885(Peretz Smolenskin

كاتب روسي وداعية صهيوني. من مؤسسي منظمة قديما. وُلد في روسيا وتعلَّم في المدرسة التلمودية، كما تعلَّم اللغة الروسية واستقر في أوديسا مركز الثقافة الروسية اليهودية عام 1862، ومكث فيها مدة خمسة أعوام سافر بعدها إلى فيينا واستقر نهائياً هناك. أصدر مجلة هاشاحار (الفجر) عام 1868، وهي أهم مجلة تصدُر باللغة العبرية عبَّرت عن أفكار حركة التنوير التي كان سمولنسكين من دعاتها في مستهل حياته الفكرية، ومع هذا ظهرت المجلة في المرحلة الانتقالية التي كانت أفكار حركة التنوير قد بدأت فيها في التآكل والتحول إلى الفكر الصهيوني. وقد انتقد في مقالاته الشخصية اليهودية المتخلفة الخاضعة للتقاليد حسب قوله. ولكنه، مع هذا، هاجم موسى مندلسون باعتبار أن دعوته للتنوير كانت أيضاً دعوة للاندماج والانصهار. وقد طرح سمولنسكين في مقالاته حان وقت الزرع (1875 ـ 1877) تصوُّره للقومية اليهوديةالروحية التي لا ترتبط بالأرض وإنما ترتبط بالتوراة (ومن الواضح تأثير أفكار جرايتز وكروكمال فيه). وانطلاقاً من هذا التصور بإمكان اليهود أن يصبحوا مواطنين مخلصين لأوطانهم محتفظين بتضامنهم الروحي فيما بينهم، وهم أمة عالمية لأن تضامنهم روحي وليس مادياً.

وقد كتب قصة انتقام الميثاق (1881) التي وصف فيها التغيير الذي طرأ على الشباب اليهودي نتيجة الاضطهاد الروسي. وتعبِّر كتاباته عن رغبته المترددة في الانتقال إلى أفكار العصر الحديث، وهي رغبة يشوبها خوف عميق من الانصهار في عالم الأغيار، وهو انصهار لا يؤدي بالضرورة للسعادة، ولهذا تنتهي قصته المتجول في سبيل الحياة (1876) التي تمثل سيرة ذاتية بالعودة إلى الشعب. وتصف قصته مكافأة الأمين (1875) موقف اليهود المأساوي لوقوعهم ضحية الصراع بين روسيا وبولندا عام 1863. وتنتقد روايته قبر الحمار (1873) تنظيمات الجماعات اليهودية. أما روايته الأخيرة فهي الميراث (1876 ـ 1880). وقد صدرت ترجمته لمسرحية جوته فاوست عام 1867.

وقد تعمَّقت رؤية سمولنسكين الصهيونية بعد تعثُّر التحديث في روسيا، فاتصل بالصهيوني غير اليهودي لورانس أوليفانت طالباً منه العون للبدء في نشاط استيطاني يهودي في فلسطين. ويبدو أن سمولنسكين كان يعرف جيداً أدبيات وجهود الصهاينة غير اليهود، ففي مقاله "فلنبحث عن طريقنا" (1881) يقول: "إن الخبراء من غير اليهود،وبعض الباحثين البريطانيين المرموقين، قالوا إن الأرض [أي فلسطين] جيدة جداً وإذا استُثمرت بجد ومهارة فباستطاعتها أن تستوعب أربعة عشر مليون يهودي". ثم تبنَّىسمولنسكين الصيغة الصهيونية الأساسية، ونادى بالعودة الفعلية إلى صهيون رافضاً فكرة الهجرة إلى الولايات المتحدة، ثم انضم لجمعية أحباء صهيون. والواقع فإن جميع ملامح هذه الصيغة، بعد تهويدها، توجد في كتابات سمولنسكين، من رفض للدين اليهودي "وللهوية اليهودية المتخلفة" وإدراك أن معاداة اليهود جزء من بنية المجتمع الغربي، وأن التنوير لم يقلل حدتها "إذ أن اليهودي المتعلم منافس خطير للمسيحيين". وهو يؤمن أيضاً بأن اليهود شعب عضوي منبوذ على يد القوميات الغربية العضوية، ولذلك فإن الهجرة الفردية مستحيلة لأن الدول المتحضرة (الغربية) سترفض هجرة اليهود إليها. ويصبح الحل بذلك هو تحويل الهجرة إلى استعمار، أي أن يحل الشعب المنبوذ من قبل أوربا مشكلته عن طريق أوربا، ويتم ذلك عن طريق تطبيع اليهود وتطويعهم وتحويلهم إلى مادة استيطانية ثم نَقْلهم إلى فلسطين. وقد توصَّل سمولنسكين إلى إدراك وجود صهيونيتين: واحدة استيطانية بالنسبة ليهود الغرب المندمجين، والأخرى توطينية بالنسبة ليهود اليديشية في الشرق.

ومن أهم إنجازات سمولنسكين علمنته مفهوم إرتس يسرائيل الديني بحيث تحوَّلت إلى مجرد أرض. فهو يتحدث عن ضرورة العودة للأرض لأسباب صوفية محضة مثل الارتباط الأزلي بين اليهود والأرض المقدَّسة، ثم يضيف مزايا عملية أخرى مثل أن الأرض ليست بعيدة عن مساكن اليهود، وأن رمالها ذات نوعية عالية الأمر الذي يساعد على ازدهار الاستيطان اليهودي وذلك بإقامة مصانع زجاج، ويضيف كذلك أن التجارة والزراعة والصناعة ستزدهر فيها (وهذه بدايات الديباجة الاشتراكية). كماأن موقع الأرض سيجعلها تتحول إلى مركز تجاري يربط أوربا بآسيا وأفريقيا كما كانت منذ زمن بعيد (وهذه أيضاً بدايات عرض الدولة اليهودية كدولة وظيفية تقام للدفاع عن مصالح الاستعمار الغربي). وهذا الخطاب المراوغ، متعدد الدلالات، هو إحدى سمات الخطاب الصهيوني بحيث تصبح كلمة «الأرض» ذات دلالة دينية للمتدين وذات قيمة استثمارية لمن ينشدون الربح. ولكن حين وصل إلى مستوى الإجراءات والتنفيذ، لم يكن سمولنسكين على المستوى نفسه من الحداثة إذ توجَّه للأثرياء الروس ولم يتوجَّه للعالم الغربي الاستعماري رغم معرفته بالصهاينة غير اليهود. ولعل تاريخ الصهيونية بعد ذلك هو الانتقال من توجهات أحباء صهيون التسللية اعتماداً على دعم أثرياء الغرب إلى الاعتماد على الاستعمار الغربي لوضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ.

موشــيه ليلينبلــوم (1843-1910(oshe Lilienblum

صحفي روسي يهودي يكتب بالعبرية، وأحد قيادات جماعة أحباء صهيون. وُلد في ليتوانيا ونشأ نشأة يهودية تقليدية تماماً، حيث درس في طفولته العلوم الدينية وتمكَّن منها إلى أن أصبح من علماء التلمود. وقد خطب له والده وهو بعد في سن الثالثة عشرة، وتزوَّج بعدها بثلاث سنوات. وقد أسس ليلينبلوم مدرستين دينيتين وعمره 22 عاماً، ولكنه ما لبث أن خضع لتأثير أفكار حركة الاستنارة وحركة التنوير اليهودية والفكر الوضعي الروسي (وكان فكراً نفعياً مادياً متطرفاً)، فقام بنشر عدة مقالات أهمها مقاله "طرق التلمود" (1868) طالب فيه بإصلاح المجتمع والدين اليهودي الذي أصابه الأسى والركود حتى يتمكن اليهود من التكيف مع العصر، وبيَّن أن التلمود قد يكون فيه بعض الأفكار التقدمية، ولكن الشولحان عاروخ كتاب جامد ضيق الأفق. وهاجم الحاخامات، ونادى بأن التعليم هو السبيل الأوحد لإصلاح المجتمع. وانتقل ليلينبلوم إلى أوديسا عام 1869 تاركاً زوجتـه الأرثوذكسية وأطفاله. وقد واجه هناك مشكلة علمنة اليهود واليهودية إذ وجد نفسه معلم العبرية والتلمود، لا جمهور لكتاباته، وبدون عمللمدة طويلة، فقيراً على حافة الجوع. وقد بدأت الفلسفة النفعية تسيطر عليه إذ اكتشف أن ما يشغل الجماهير اليهودية ليس القضايا الفلسفية التي تشغل باله وإنما مشكلة البقاء وحسب. وعلى أية حال، فإن الفلسفات المادية تشغل نفسها دائماً بمشكلة البقاء وتُحل إرادة البقاء محل معنى الوجود في الفلسفات التقليدية.

نشر ليلينبلوم في أوديسا مجموعة من المقالات الساخرة (1870) طالب فيها بتطبيع اليهود من خلال العمل الزراعي وتنظيم العمل في الصناعة تنظيماً حديثاً. وبدأ عام 1871 في تحرير مجلة يديشية كتب فيها مجموعة من المقالات عن التعليم اليهودي في المدرسة الابتدائية الخيرية (حيدر) وفي المدرسة التلمودية العليا (يشيفاه). كما أثار فيما بعد قضايا تحرير المرأة وسوء إدارة الجماعات اليهودية والحرية الدينية. وفي عرضه لأحد كتب أبراهام مابو، طالب ليلينبلوم بتبني رؤية مادية واقعية للحياة. وقد ظلت رؤيته طوال حياته رؤية مادية مباشرة، تنكر أهمية المعنى والخيال وتؤكد المنفعة المادية وحسب. وكتب ليلينبلوم سيرة حياته بين عامي 1873 و1876، وتبنَّى الاشتراكية كمذهب سياسي في الفترة 1874 ـ 1881.

ولكن، مع تعثُّر التحديث عام 1881، تحوَّل ليلينبلوم إلي الصهيونية وكتب في ذلك العام مقالاً بعنوان "طريق العودة" يلوم فيها نفسه لانقطاعه عن المشاركة مع شـعبه. وأصبح أحد قادة أحبـاء صهيون، فأسَّس لجنة أوديسا عام 1883. كما أصبح من أكبر مؤيدي هرتزل وإن كان قد اختلف معه بسبب عدم إدراك ليلينبلوم الطبيعة الاستعمارية الغربية للمشروع الصهيوني، ولذا فقد قلَّل من شأن أسلوب هرتزل الدبلوماسي الاستعماري وأيَّد الاستيطان التسللي. ومع هذا، حاول التوفيق بين توجُّهه والتوجه الهرتزلي الدبلوماسي. وقد أصبح فكره منذ ذلك التاريخ صهيونياً فهو ينطلق من رفض اليهودية رفضاً تاماً. ويرى أن قضية اليهود هي قضية الشعب العضوي المنبوذ في المجتمع الغربي "فهو ليس تيوتونياً عضواً في الأمة الألمانية، ولا مجرياً عضواً في الأمة المجرية، ولا سلافياً عضواً في الأمة السلافية، ولذا فهو غريب شاء أم أبى". وقد أدرك ليلينبلوم أن الحضارة الغربية قد قبلت القومية (العضوية) إطاراً، كما أدرك أن هذا التحول يعد تقدماً مع أن هذا الإطار هو نفسه الذي ينتج العداء لليهود (فالشعب العضوي يعيد إنتاج الآخرين على هيئة الشعب العضوي المنبوذ). ومن ثم، فإن اليهود شعب لابد أن يختفي إما عن طريق الاندماج الكامل (وهو أمر عسير بل يكاد يكون مستحيلاً) أو عن طريق ترحيلهم إلى أرض خاصة بهم حيث يصبحون أمة عضوية مستقلة ودولة مستقلة، وهو ما يعني أنه عثر على الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة، وأدرك أنها صيغة سترضي أعضاء الجماعات اليهودية. وكان ليلينبلوم يرى أن فلسطين مكان مناسب لذلك، فعارض الهجرة إلى الولايات المتحدة كما عارض الصيغة الدبنوفية الخاصة بقومية الدياسبورا (القومية اليديشية) وطالب بدلاً من ذلك بأن "يقوم زعماء شعبنا في أوربا بالتوسط لدى زعماء تلك الدول لمساعدتنا... بينما يقوم الثمانية ملايين يهودي وكبار أغنيائهم بجمع عشرة مليون روبل لبداية نشاطنا... لشراء مساحات كبيرة من الأرض، من حكومة تركيا، لتوطين اليهود عليها... ومحاولة الحصول على ترخيص، لتأسيس جمعية لاستيطان أرض إسرائيل وسوريا". وطالب ليلينبلوم بتصفية الوجود اليهودي في العالم. واصطدم ليلينبلوم كذلك بآحاد هعام واتهمه بأنه لا يزال يهوِّم في عالم الميتافيزيقا والمطلقات، فاليهود يودون البقاء من أجل البقاء ويؤمنون بالمنفعة ويجب أن يصبحوا نافعين ليس من أجل أي معنى محدد. وعلى هذا النحو، قام ليلينبلوم بنزع القداسة تماماً عن اليهود، وجَعَلهم مادة اسـتيطانية نافعة.

ومع هذا، كان ليلينبلوم متنبهاً لبعض مشاكل المشروع الصهيوني واحتمال انقسامه إلى إثني ديني وإثني علماني، ولذا طالب في مقاله "دعونا من الخلط بين القضايا" أن يتنازل كل فريق بعض الشيء حتى لا تنقسم الأمة إلى قسمين. وإطاره المرجعي هنا هو الشعب العضوي (الفولك) المكتفي بذاته الذي له قوانينه الخاصة التي تتجاوز الزمان والمادة وتتجاوز الخلافات الوقتية. وعلى هذا، فهو يرى أن جميع اليهود مقدَّسون، المؤمنون منهم وغير المؤمنين، وإثنيتهم مصدر قداستهم وقال أيضاً: "فليتصرف كل فرد في أموره الشخصية حسبما يحلو له. أما وحدتنا الوطنية فيجب ألا تضعف... إن هويتنا القومية هي أعز ما نملك... وسنحميها بذاك الإخلاص الذي دافع به أجدادنا عن إيماننا"، أي أن الهوية الإثنية أصبحـت في منزلة الدين وأصبحت مركز الحـلول والكـمون والمطــلقية.

كما أدرك ليلينبلوم انقسام الصهيونية إلى صهيونية استيطانية وأخرى توطينية، فالأغنياء المندمجون لن يرحلوا، ولذا فقد حدد لهم دورهم التوطيني "فليشتر كل منهم قطعة أرض في أرض إسرائيل" تُعطَى لأحد المستوطنين ولا داعي لأن يهاجروا هم، أما الفقراء "فهؤلاء هم [المادة الاستيطانية الحقة] الذين سيهاجرون حيث سيحققون حراكاً اجتماعياً".

ثم يتوجَّه ليلينبلوم للجوانب التنظيمية ولكن ملاحظاته في هذا الشأن ساذجة ومتناثرة (تنظيم يانصيب يهودي، وفرض ضرائب على حفلات الزفاف اليهودية... إلخ). ولكنه، مع هذا، وضع إطاراً لاسـتثمار أموال أثرياء الغـرب المندمجـين وتوظيفـها في خدمة المستوطنين.

كتب ليلينبلوم عدة كتب نُشرت بعد موته في أربعة أجزاء، كما طُبعت خطاباته. وقد جمع ليلينبلوم مقالاته عن الإحياء القومي بعنوان الولادة الجديدة لليهود في أرض آبائهموكانت بمنزلة برنامج للإحياء القومي والأولى من نوعها باللغة الروسية (وقد سبقتها كتابات بنسكر بالألمانية)

ألبرت جولدسميد( 1846 – 1904)

Goldsmid

صهيوني يهودي من أصل مسيحي ومن رواد الحركة الصهيونية. وُلد في الهند لعائلة إنجليزية يهودية تحولت إلى المسيحية وكانت تعتبر نفسها من نسل المكابيين القدامى. التحق بالكلية العسكرية الملكية، ونُقل مع فرقته إلى الهند، واشترك في الحرب في جنوب أفريقيا. وقد اكتشف جولدسميد بعد وفاة أبيه أن "الدم اليهودي يجري في عروقه"، فاعتنق اليهودية بصورة علنية وهو في الرابعة والعشرين من عمره. انضم إلى جمعية أحباء صهيون في بريطانيا، وزار فلسطين عام 1883 برفقة لورانس أوليفانت لبحث وسائل تعزيز الاستيطان اليهودي هناك. وأخذ يلح بعد عودته إلى بريطانيا على تشكيل «لجنة فلسطين» لتنشيط الهجرة اليهودية عن طريق المساعدات المنظمة. وقد انصرف بعد ذلك إلى العمل على توحيد جمعيات أحباء صهيون في بريطانيا ووضعها تحت سلطة واحدة. وتولَّى رئاستها عام 1893. فأخذ في إضفاء الطابع العسكري عليها؛ إذ سُمِّيت اللجنة التنفيذية «مقر القيادة» واستبدل بمنصب «الرئيس» رتبة «الزعيم» واستبدل بلفظ «جمعية» لفظ «خيمة»، وأصبحت حركة أحباء صهيون بالتاليتتألف من «خيام» تحت أمرة قادة عسكريين يدينون له بالولاء. وقد وضع جولدسميد برنامج الحركة الذي ركز على استعمار فلسطين والأراضي المجاورة لها عن طريق التوسع في المستعمرات أو تدعيم المستعمرات القديمة، وأكد أن حل المسألة اليهودية لن يتم إلا بقيام دولة يهودية تضمنها الدول الكبرى في إرتس يسرائيل. كما قام جولد سميد بوضع خريطة عبرانية لفلسطين.

وقد تعاون جولد سميد مع البارون دي هيرش في مشاريعه لتوطين اليهود في الأرجنتين، وأشرف على إدارة المستعمرات اليهودية هناك، إلا أنه كان من معارضي الاستيطان اليهودي في أي مكان غير فلسطين، وكان يرى أن مستوطنات الأرجنتين ليست سوى "دار حضانة لفلسطين". وقد التقى عام 1895 مع هرتزل الذي قال له إن "فلسطين وحدها هي التي تستحق الاهتمام". ولكنه لم يتعاون معه بشكل فعال إلا بعد استمالة عائلة روتشيلد في لندن لصالح الدعوة الصهيونية، فاشترك في البعثة التي قامت بدراسة أوضاع العريش وكان سكرتيرها، وحضر المؤتمر الصهيوني السادس (1903)، كما شارك مع هرتزل وجرينبرج في المفاوضات مع كرومر (المندوب السامي البريطاني في القاهرة) عامي 1902 و1903 بشأن الاستيطان اليهودي في العريش. ويُقال إن شخصية دانيال ديروندا في رواية جورج إليوت التي تحمل هذا العنوان هي صياغة أدبية لشخصية جولدسميد.

يهيل تشــيلنوف (1863-1918(

Jehiel Tschelenov

قائد صهيوني روسي وُلد في أوكرانيا لأسرة ثرية حسيدية الأصل. تخرَّج في كلية الطب بموسكو عام 1888 وصار طبيباً شهيراً. تغيَّر اهتمامه السياسي من الإيمان بالأفكار الشعبوية إلى الصهيونية بعد مذابح 1881. اشترك في جمعية أحباء صهيون وشارك في منظمة هرتزل بعد تردُّد.

رفض مشروع أوغندا بشدة وربط بين الهدف السياسي الصهيـوني والاســتيطان في أرض إســرائيل. وتزايـد دوره مع تزايـد دور الـروس في الحركـة التوطينية الصهيونية وانتُخب في المؤتمـر العاشر (1911) عضــواً في اللجنة التنــفيذية. وقـد اشــترك تشيلنوف في المفاوضات التي أدَّت إلى وعد بلفور ومات في لندن.

شـماريا ليفـين (1867-1935)

Shmarya Levin

قائد صهيوني ومؤلف بالعبرية واليديشية. شارك في حركة أحباء صهيون منذ صباه، وكان أحد أتباع آحاد هعام. كما اشترك في جمعية أبناء موسى، وانتُخب للبرلمان الروسي ودافع عن حقوق اليهود.

وبعد أن حلت حكومة القيصر الدوما، وقَّع على بيان يدين الحكم القيصري المطلـق، فأُجبر على مغادرة روسـيا. وبعد أن اسـتقر في برلين، أسَّس معهد التخنيون في حيفا. وكان من الصهاينة التسلليين. وفي عام 1920، عارض مشروع شرق أفريقيا بشدة. وفي وقت لاحق، ترأَّس قسـم الدعاية في الصـندوق القـومي. وتوفي ليفين في حيفا عام 1935.

الباب الثامن: تيودر هـرتزل

هرتزل: حياته (1860-1904)

Theodor Herzl: Biography

هو مؤسِّس الحـركة الصهـيونية. وضع نهاية للصــهيونية التسللية وجهودها الطفولية، ونجح في تطوير الخطاب الصهيوني المراوغ، كما نجح في إبرام العقد الصهيوني الصامت بين العالم الغربي والمنظمة الصهيونية باعتبارها ممثلاً غير منتخب ليهود العالم، وهو ما جعل توقيع وعد بلفور؛ أهم حدث في تاريخ الصهيونية، ممكناً. وقد خرجت كل الاتجاهات الصهيونية من تحت عباءته أو من ثنايا خطابه المراوغ.

والواقع أن شخصية هرتزل تجعله في وضع مثالي يؤهله لأن يكون جسراً موصلاً بين العالم الغربي والجماعات اليهودية فيه، وبين يهود الغرب المندمجين ويهود اليديشية. فقد كان شخصية هامشية مثل يهود المارانو يقف على الحدود، فهو يهودي غربي مندمج لم يبق من يهوديته سوى قشرة، أي أنه يهودي غير يهودي. ومع هذا، فهو يصنف على أنه يهــودي، ولـذا فهو يملك أن يتحـدث للغرب باعتـباره غربياًـ وأن يتحدث ليهـود اليديشية باعتباره يهودياً. فسطحية انتمائه هو ما جعل منه جسراً مثالياً ومعبراً مريحاً.

وقد بيَّن المفكر الصهيوني جيكوب كلاتزكين المولود في روسيا أن هرتزل هو ثمرة الوعي الإنساني العالمي (أي الغربي) لا ثمرة وعي ثقافي يهودي منحط (من شرق أوربا)، وكلاتزكين مُحقٌّ في ذلك إلى حدٍّ كبير (مع عدم قبولنا لتقييماته وتحيزاته). ولكنه، على أية حال، أهمل أهمية القشرة اليهودية السطحية في تكوين هرتزل، فهي التي أكسبته الشرعية أمام جماهير شرق أوربا اليهودية وأظهرته بمظهر اليهودي الغربي العائد إليهم، ولهذا فقد اعتبروا عودته إحدى علامات آخر الأيام.

ولم يكن هرتزل سوى واحد من جيل طويل من اليهود المغتربين الذين كانوا يتنصرون لإعلان ولائهم الغربي (مثل دزرائيلي ووالد ماركــس وهايني). ولكنهم، مع ازدياد العلمانية في الحضارة الغربية، أصبح بإمكانهم الانتماء إلى الغرب بلا تنصُّر، فالغرب نفسه كان قد بدأ يفقد مسيحيته.

ولم تكن هامشية هرتزل وحدها هي التي ترشحه لأن يكون الجسر الموصل، وإنما نرى أن سطحيته الفكرية ساهمت إلى حدٍّ كبير في ذلك. ولأنه كان يظل دائماً على سطح الأشياء، لم يدرك عمق التناقضات بين الصهيونية الغربية وصهيونية شرق أوربا، وهو ما جعله قادراً على أن يصل للصيغة المراوغة التي سترضي الجميع دون أن يضطر أحد للتنازل عن شيء. وأعتقد أن عبقريته التي تتحدث عنها التواريخ الصهيونية تكمن هنا.

وُلد تيودور هرتزل عام 1860 لأب تاجر ثري. وكان يحمل ثلاثة أسماء، أهمها اسمه الألماني «تيودور»، وثانيها اسمه العبري «بنيامين زئيف»، وثالثها اسمه المجري «تيفا دارا». والتحق تيودور الصغير بمدرسة يهودية وعمره ست سنوات لمدة أربعة أعوام انقطعت بعــدها علاقته بالتعليم اليهودي. ولذا، لم يُقدَّر له أن يَدرُس العبرية، بل لم يكن يعرف الأبجدية نفسها. والتحق بعد ذلك بمدرسة ثانوية فنية، ومنها التحق بالكلية الإنجيلية 1876 وعمره 15 سنة (أي أنه التحق بمدرسة مسيحية بروتستانتية، ولعله تَلقَّى تعليماً دينياً مسيحياً هناك)، وأنهى دراسته عام 1878. وكانت أسرة هرتزل مجرية النسب. إلا أنها، ضمن مجموعة من اليهود، قاومت عملية المجيرة (أي صبغها بالصبغة المجرية) واحتفظت بولائها لألمانيا (مثل كثير من يهود المجر: ماكس نوردو وجورج لوكاش وغيرهما). ولذا، نزحت الأسرة إلى فيينا عام 1878. وكان عدد اليهود في فيينا آنذاك (1881) لا يزيد على عشرة آلاف يهودي، ولكن تَعثُّر التحديث في شرق أوربا أدَّى إلى دَفْع جحافل اليهود إلى وسط وغرب أوربا بحيث بلغ عددهم عام 1899 ما يزيد على 100 ألف، أي أنهم زادوا عشرة أضعاف خلال أقل من عشرة أعوام.

التحق هرتزل بجامعة فيينا وحصل على دكتوراه في القانون الروماني عام 1884 وعمل بالمحاماة لمدة عام، ولكنه فضل أن يكرس حياته للأدب والتأليف. ومع هذا، ظلت عقليته أساساً عقلية قانونية تعاقدية، فنشر ابتداءً من عام 1885 مجموعة من المقالات، وكتب بعض المسرحيات التي لم تلاق نجاحاً كبيراً من أهمها مسرحية الجيتو الجديد (1894) التي تقدم صورة متعاطفة مع بطلها، إلا أنها تقدم اليهود من خلال الأنماط المعروفة في تراث معاداة اليهود في الغرب. وتنتهي المسرحية بأن يطلب البطل الخروج من الجيتو العقلي المضروب حوله، ولكنه في الوقت نفسه يؤكد استحالة هذه العملية.

ولعل بطل المسرحية يشبه من بعض الوجوه زعماء الحركة الصهيونية في تلك المرحلة، هرتزل وبنسكر ونوردو وجابوتنسكي وغيرهم ممن حاولوا الاندماج في الحضارة الغربية وحاولوا تَرْك تراثهم تماماً ونسيان هويتهم اليهودية (الإثنية والدينية). ولكنهم تصوروا أنهم لم يوفقوا في مساعيهم ولم يتمكنوا من العودة بسبب بعض مظاهر معاداة اليهود أو بسبب تصنيف المجتمع لهم على أنهم يهود. فهم يهود رغم أنفهم، يهود وغير يهود. وقد وَصَفهم نوردو هم وأمثـالهم وصـفاً دقـيقاً في المؤتمر الصهيوني الأول (1987): "يسرع اليهود المندمجون إلى قَطْع خطوط رجعتهم وذلك بتأثير نشوة وضعهم الجديد. لقد أصبح عندهم الآن بيوت جديدة فلم يعودوا بحاجة إلى عزلتهم. أصبح لديهم الآن معارف جدد، فهم غير مجبرين على العيش مع إخوانهم في الدين، وتحوَّل الشعور بالاختلاف إلى تعمُّد التقليد الأعمى". لقد فقد هؤلاء المندمجون هويتهم الإثنية وهويتهم الدينية "لقد فقدوا ذلك الإيمان الذي قد يساعدهم على تحمُّل العذاب واعتباره مجرد قصاص من الإله، كما فَقَـدوا الأمل في مجـيء الماشيَّح الذي سيوجههم إلى المجد في يوم عجيب". وكلما حاولوا التهرب من اليهودية حتى عن طريق التنصُّر، تدفع بهم معاداة اليهود بعيداً عن هدفهم. ولذا، فإنهم يصبحون "المارانو الجدد" أي مسيحيون من الخارج يهود من الداخل. ولكن منطق نوردو نفسه يجعلنا نعتقد أن يهوديتهم الداخلية ضعيفة هامشية، تماماً مثل يهودية المارانو.

وفي عام 1889، تزوج هرتزل من جولي نتشاور وكانت من أسرة ثرية كان يأمل هرتزل أن يحل من خلالها بعض مشاكله المالية. ولكن الزواج لم يكن موفقاً بسببارتباط هرتزل الشديد بأمه التي غذت أحلامه، فقد قامت نشأته على تصوُّر من ينتدب نفسه لتحقيق عظائم الأمور ويحلم بأنه صاحب رسالة في الحياة. ويبدو أن مما عقَّدالأمور، عدم حماس الزوجة للتطلعات الصهيونية لدى زوجها. ولعل مشاكل هرتزل الجنسية لعبت دوراً في ذلك، إذ يبدو أنه أصيب بمرض سري (شأنه شأن نيتشه معاصره) وتنقَّل في عدة مصحات للاستشفاء من هذا المرض.

وفي عام 1891، التحق هرتزل بصحيفة نويا فرايا براسا أوسع الصحف النمساوية انتشاراً، وأُرسل إلى باريس للعمل مراسلاً للصحيفة هناك (حتى عام 1895) حينما عُيِّن رئيساً لتحرير القسم الأدبي في الصحيفة وبقى في عمله حتى وفاته.

وهنا قد يكون من المفيد التوقف قليلاً للتحدث عن هوية هرتزل التي كانت تقف بين عدة انتماءات دينية إثنية متنوعة (ألمانية ـ مجرية ـ يهودية ـ بل مسيحية) دون أن ينتمي لأيٍّ منها أو يُستوعَب فيها. فإذا نظرنا لانتمائه اليهودي، فإننا نجد أنه يرفض الدين اليهودي والتقاليد الدينية اليهودية. والواقع أن زوجته كان مشكوكاً في يهوديتها، وقد رفض حاخام فيينا إتمام مراسم الزواج. كما أن هـرتزل لم يختن أولاده ولم يكن الطـعام الذي يُقــدَّم في بيته «كوشير»، أي مباحاً شرعاً. أما تَصوُّره للإله، فلم يكن يستند إلى العقيدة اليهودية بقدر استناده إلى فلسفة إسبينوزا بنزعته الحلولية التي توحِّد الإله والطبيعة، فهي حلولية وحدة الوجود أو حلولية بدون إله (وقد طُرد إسبينوزا نفسه من حظيرة اليهودية ولم يَتبنَّ ديناً آخر، ولهذا فإنه يُعَدُّ أول يهودي إثني في العصر الحديث). وقد تأثر هرتزل بتعاليم شبتاي تسفي الماشيَّح الدجال وظل مشغولاً به وبأحداث حياته.

أما من الناحية الثقافية، فإن هرتزل كان ابن عصره، يجيد الألمانية والمجرية والإنجليزية والفرنسية. ويبين أحد مؤرخي الحركة الصهيونية أن اتخاذ هرتزل دور الداندي (أي الوجيه الذي يبالغ في الأناقة) وتَظاهُره بأنه من الأرستقراطيين هو القناع الذي كان يختبئ وراءه ليهرب من هويته اليهودية. وكان هرتزل لا يعرف العبرية، وقد تساءل علناً وبسخرية (في المؤتمر الصهيوني الثالث [1899]) عما يُسمَّى «الثقافة اليهودية». وحينما قرَّر مجاملة حاخامات مدينة بازل، اضطر إلى تأدية الصلاة في كنيس المدينة قبيل افتتاح المؤتمر الصهيوني الأول (1897)، كما اضطر إلى تعلُّم بضع كلمات عبرية لتأدية الصلاة. وكان المجهود الذي بذله في تعلُّمها أكبر من المجهود الذي بذله في إدارة جلسات المؤتمر بأسرها (حسب قوله). ومما له دلالة عميقة أن هرتزل كان يرى أنه دزرائيلي يهودي، ودزرائيلي هو اليهودي المُتنصِّر الذي دخل عالم الغرب من خلال باب غربي وبشروط غربية بعد أن تخلَّى عن يهوديته أو الجزء الأكبر منها. أما هرتزل فقـد فعـل مثله تماماً باستـثناء التخلي عن القشرة اليهودية المتبقية.

ولكن، ورغم ابتعاده عن الثقافة اليهودية، نجده متأثراً بعقيدة الماشيَّح المخلّص، ونجد أن ذكرها يتواتر في مراسلاته ومذكراته بأسلوب ينم عن الإيمان بها وإن كان الأمر لا يخلو من السخرية منها في آن واحد.وكان اهتمامه ينصب على الماشيَّح الدجال شبتاي تسفي. وقد اسـتخدم هرتزل كلمـة «الخروج» التوراتية ليشـير إلى مشروعهالاستيطاني، الأمر الذي يدل على أن الأسطورة التوراتية كانت تشكل جزءاً من إطاره الإدراكي. وتتداخل الأساطير الحديثة مع الأساطير اليهودية، ونجده يعتبر أن فرديناند ديليسبس مَثَله الأعلى في الحياة، ونجده يرى أن الكهرباء هي الماشيَّح المنتظر (وهذا امتداد لرؤية إسبينوزا للإله). لكل ذلك، لا يمكن القول بأنه كان يهودياً حقاً (كما هو الحال مع حاخامات الحسيديين مثلاً) ولا حتى بالمعنى الإثني (كما هو الحال مع وايزمان وآحاد هعام)، ولا هو مندمج تماماً (كما هو الحال مع إدوين مونتاجووأثرياء يهود إنجلترا)، فهو مُعلَّق في الهواء في منطقة حدودية تلتقي فيها الحلولية الكمونية اليهودية بالحلولية الكمونية العلمانية.

هذه الهوية الهامشية التي تقف على حافة الهويات الأخرى كانت أمراً مقبولاً حسب تعريف الهوية في الإمبراطورية النمساوية/ المجرية، فهو تعريف لم يكن محدداً أو ضيقاً وإنما كان (كما هو الحال دائماً مع الإمبراطوريات) تعريفاً رحباً سمحاً يسمح بتعايش التناقضات. ولهذا، فقد كان من الممكن أن يسمح بوجود مثل هذه الشخصية التي لا تنتمي لليهودية من الناحية الدينية أو الإثنية. ومع هذا، كان بإمكانه التحدث عن نفسه كيهودي دون أن يثير الضحك، كما كان بإمكانه أن يتحدث عن القومية اليهودية والانفصال اليهودي (وقد كان هو شخصياً يتمتع بالاندماج)

ولعل هامشية الانتماء الحضاري هذا يفسر جانباً آخر من شخصية هرتزل وهو ذكاؤه الحاد وسطحيته الشديدة. وقد وَصَفه مؤرخ الصهيونية وولتر لاكير بأن تفكيره يتصف بالتبسيط الشديد. ووَصَفه مؤرخ آخر هو حاييم فيتال، في أكثر من مكان، بأنه ذكي دون أن يكون عميقاً، وأنه لم يكن يدرك كثيراً من الأبعاد السياسية لعصره. أما شلومو أفنيري، فيرى أن كتاباته قد تكون متألقة لامعة ولكنها ينقصها العمق الروحي، كما تحدَّث عن "الجانب الخفيف" في طبيعته، أي سطحيته.

ويطرح السؤال نفسه: كيف تتمكن شخصية هامشية سطحية (رغم كل ذكائها)، شخصية لم يكن عندها مصادر مالية، تقف ضدها كل المؤسسات الدينية والمالية اليهودية ولم يكن لديها تنظيم، أن تفرض نفسها بهذا الشكل؟

يفسر أحد مؤرخي الحركة الصهيونية (شلومو أفنيري) هذه الأعجوبة بسـببين أولهما: كفـاح هرتزل البطـولي الذي يكـاد يكون جنونياً، وثانيهما: اكتشافه الرأي العام العالمي وألاعيب الإعلام. بل يضيف قائلاً: "إن المشروع الصهيوني قد نجح إلى حدٍّ كبير، حتى الوقت الحاضر، في الوقوف ضد قوة السياسة والتاريخ"، بسبب الرأي العام. ولعل هذا قد يفسر بعض أسرار نجاح هرتزل، ولكنه لا يصلح بأية حال لتفسير نجاحه في تَخطِّي الحاخامات والأثرياء وجمعيات أحباء صهيون وأن يفرض نفسه فرضاً على الجميع ويتحدث باسم يهود أوربا الذين لم يعطوه الصلاحية لأن يفعل ذلك.

ولكننا نعتقد أن نجاحه يكمن في نقط قصوره وهامشيته وذكائه السطحي، إذ تضافرت هذه العوامل وجعلته قادراً على أن يصل إلى الصيغة التي تفتح الطريق المسدود الذي كانت الصهيونية (بشقيها اليهودي وغير اليهودي) قد دخلته. فهامشيته جعلته قادراً على أن ينظر مثلاً لليهود من الخارج على طريقة العالم الغربي «كمادة بشرية» (المصطلح الذي اسـتخدمه في دولة اليهود) يجـب التخلـص منها أو توظيفها. ولذا، فإن اهتمامه باليهود كان اهتماماً غربياً. ولعل هذا يفسر أن الحلول الأولى التي طرحها للمشكلة اليهودية تتسم بكثير من السوقية الفظة، كأن يقترح تعميد اليهود في كاتدرائية القديس بول في روما.

وكما بيَّنا من قبل، لم يكن هرتزل يعرف شيئاً عن عالم اليهود ولكنه كان يعرف بعض الشيء عن شخصيات الاستعمار الغربي مثل بنجامين دزرائيلي وسيسل روديس وهنري ستانلي، وعن موازين القوى وعن رجل أوربا المريض وعن التشكيل الاستعماري الغربي.

ورغم كل هـذا ورغم إعجابه الشديد بمؤسسات الحضارة الغربية، ابتداءً من العقلية الألمانية وانتهاءً بالمشروع الاستعماري والتكنولوجيا الغربية، إلا أنه اكتشف أن هذه الحضارة قد أوصدت أبوابها دونه أو على الأقل دون الاندماج التام الذي كان يطمح إليه، فتعرَّض لتمييز عنصري ولسخرية لأنه يهودي، فتذكرة الدخول للحضارة الغربية والاندماج الكامل فيها كان لا يزال اعتناق المسيحية (كما اكتشف هايني). ولعل انتماءه إلى جماعة شبابية للمبارزة، وهي جماعة ذات مُثُل قومية ألمانية عضوية، دليل على حرصه على الانتماء الألماني. ولكن الجمعية اتخذت قراراً عام 1881 بعدم ضم أعضاء يهود جدد فقرر الاستقالة احتجاجاً على القرار (ولكن مما له دلالته أن صاحب الاقتراح كان هو نفسه شخصية هامشية، فهو نمساوي من أصل يهودي).

إن هرتزل بهذا المعنى مثال جيد على «اليهودي غير اليهودي»، ولذا كان بإمكانه أن يلعب دور الجسر الموصل، فينظر إليه الغرب على أنه رسولهم إلى اليهود وينظر إليه اليهود على أنه رسولهم للغرب. وهو شخصية هامشية حدودية يستطيع الغرب أن يراه على أنه اليهودي الذي يحمل مُثلاً غربية لليهود فيُفهِّمهم ويساعدهم، وبإمكان اليهود أن يروه الغربي الذي يفهم المسألة اليهودية من الداخل ويعاني منها معهم ويمكن أن يشرح حالتهم للعالم الغربي.

ومما له دلالته أن هرتزل لم يكن يُفرِّق بين صهيونية غير اليهود وصهيونية اليهود، فهو في مذكراته يَقرن موسى هس بدزرائيلي بجورج إليوت كممثلين للفكرة الصهيونية. وإذا قرنَّا كل ذلك بجهله بفكر "رجل يُدعى بنسكر" كان يعيش في أوديسا بل بكل ما هو يهودي، لأصبح من الممكن أن نتحدث عنه باعتباره نتاج صهيونية غير اليهود وأن أصوله اليهودية مسألة عرضية.

وقد ظهر هرتزل في مرحلة كانت صهيونية غير اليهود وصهيونية شرق أوربا فيها قد دخلت طريقاً مسدوداً، فالفريق الأول كان ينظر لليهود من الخارج وكان الثاني لا ينظر إلى الخارج أبداً، أما هو فيهودي غربي، أو إن أردنا الدقة لا هو من شرقها ولا هو من غربها وإنما من وسطها، يقف بين شرقها المتعثر وغربها المندمج. ورغم أنه يهودي كُتب عليه المصير اليهودي، إلا أنه كان كصحفي نمساوي يتحرك بكفاءة في الأوساط الغربية كما كان يتحدث لغتها. وقد قال هو نفسه إنه "تعلَّم في باريس كيف يدار العالم". وكان قد ذهب إلى باريس وعمره 31 عاماً وتركها وعمره 35 عاماً.

وقد كانت جماهير شرق أوربا تنظر إليه لا باعتباره من وسط أوربا وإنما باعتباره غربياً، واعتُبرت عودته لها إحدى علامات آخر الأيام. وقد عبَّر وايزمان عن هذا الإحساس خير تعبير، بأسلوبه المتورم دائماً حين قال: "أتى هرتزل من عالم غريب لم نعرفه فركعنا أمام النسر الذي جاء من تلك البلاد [ولنلاحظ الصورة الوثنية هنا، فالنسر علامة القوة ورمز عالم الأغيار بكل تأكيد]. ولو أن هرتزل قد تتلمذ في مدرسة دينية (حيدر) لما تبعه أحد من اليهود [يعني يهود شرق أوربا] لقد سحر اليهود لأنه ظهر في قلب الثقافة الأوربية".

ولكن هرتزل عاد إلى الشرق بشروطه الغربية، عاد ليُخرج يهود اليديشية من نطاق يهوديتهم التقليدية، أو كما قال نوردو "ليُخرج كل جهودهم الصهيونية من إطار الكنيس والاجتهادات الدينية"، لقد عاد كما عاد هس من قبله وكما يفعل الصهاينة من بعده.

ولا ندري بالضبط سبب العودة التي تبدو فجائية، ولكننا نعتقد كما ذكرنا أن الهامشية كانت بكل تأكيد أحد الأسباب التي أهلته للعودة، كما أن تَفاقُم المسألة اليهودية مع عقمالحلول الصهيونية المطروحة كانت سبباً آخر. ولعل رفض إحدى مسرحياته عام 1895 له علاقة ما بالموضوع، وهو أمر يَصعُب البت فيه، ولكننا نعرف أن ملامح الحل الصهيوني كانت قد بدأت تختمر حينذاك في عقله وأنه قرَّر في شتاء ذلك العام أن يبدأ جهوده السياسية أو الدبلوماسية، وهي جهود لم تكن بعيدة على كل حال عن جهوده الأدبية، إذ تبدأ اليوميات بالحديث عن الدولة اليهودية كما لو كانت رواية.

وما بين ربيع عام 1895 وشتائه، اختمرت فكرة الدولة اليهودية في عقل هرتزل، ثم قرَّر أن يسجل أفكاره في كتيب ففعل ذلك في خمسة أيام ونشر موجزاً في جويش كرونيكل ثم نشرها في 14 فبراير 1896 بعنوان دولة اليهود: محاولة لحل عصري للمسألة اليهودية. وقد ألَّف هرتزل الكتيب بالألمانية ونشر منه بين عامي 1896 و1904 خمس طبعات بالألمانية وثلاثاً بالروسية وطبعتين بكلٍّ من العبرية واليديشية والفرنسية والرومانية والبلغارية. وقد أصر هرتزل على أن يضع لقبه العلمي (دكتوراه في القانون) بجوار اسمه (ليؤكد حداثة حله). والكراسة مكونة من 30 ألف كلمة (وتقع في 65 صفحة في طبعتها الأصلية) وأسلوبها واضح بسيط لا يتسم بأي عمق أو تفلسُف. وقد وصف هرتزل كتابه بأنه ليس حلاًّ وحسب، وإنما هو "الحل الوحيد الممكن". وطالب بألا يُنظَر إليه على أنه يوتوبيا، فهو مشروع محدد قوته الدافعة هي مأساة اليهود الذين يُعامَلون كغرباء، أي أنه من البداية حدَّد مجال اهتمامه فهو ليس إيجابياً (هوية التراث اليهودي) وإنما سلبي (اضطهادهم). والواقع أن سيرة هرتزل بعد ذلك التاريخ هي سيرة الحركة الصهيونية التي كانت تدور حوله بالدرجة الأولى.

وقد اختفى نسل هرتزل نهائياً، فكبرى بناته بولين (1890 ـ 1930) كانت مختلة عقلياً وطُلِّقت من زوجها وأصبحت صائدة للرجال ومدمنة للمخدرات. أما أخوها هانز (1891 ـ 1930) الذي لم يختن طيلة حياته، مخالفة للتعاليم اليهودية، فقد أصيب بخلل نفسي واكتئاب شديد ثم تَحوَّل إلى المسيحية وانتحر يوم وفاة أخته. أما الابنة الصغرى، فقد ترددت على كثير من المصحات حتى ماتت عام 1936. وقد نشأ ابنها ـ وحفيد هرتزل الوحيد ـ في إنجلترا حيث غيَّر اسمه من نيومان (اسم ذو نكهة يهودية) إلى نورمان (اسم ذو نكهة أنجلو ساكسـونية)، وكان يعـمل ضــابطاً في الجيش الإنجليزي. وبعد أن ترك الخدمة عُيِّن مستشاراً اقتصادياً للبعثة البريطانية في واشنطن حيث انتحر بأن ألقى بنفسه من على كوبري في النهر.

أفـكارهـرتزل

Herzl's Ideas

هرتزل ليـس صاحب فكـر وإنما صاحب أفكار وانطباعات متناثرة في نصوص كثيرة لا يتسم معظمها بالذكاء أو التسلسل المنطقي أو الوضوح أو التماسك، فهو ينتقل من نقطة إلى أخرى ثم يعود إليها، ولا يتعمق في أيٍّ من النقاط التي يطرحها. ولذا فيمكنه أن يطرح حلاًّ للمسألة اليهودية بكل جراءة دون إدراك لتضميناته الفلسفية والعملية. وسنحاول في هذا المدخل أن نجمع شتات أفكاره فيما يشبه النسق المتكامل، وهو نسق ليس فيه ارتباط كبير بين المقدمات والنتائج وإنما يتسم بالترهل والهلامية، وهو مليءبالثغرات لعل هرتزل تركها عمداً كي يملأها كل من يقرأ نصه بالطريقة التي تروق له. والنصوص التي سنستخدمها هي دولة اليهود، والخطاب الذي ألقاه هرتزل في المؤتمر الصهيوني الأول (1897)، ويومياته. كما سنشير إلى رواية الأرض القديمة الجديدة وبعض تصريحات أصدقاء هرتزل المقربين، أمثال ماكس نوردو، لتوضيح نقطة ما أو مفهوم كامن لم يتضح تماماً في كتابات هرتزل نفسها.

يَصدُر هرتزل عن الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة، ولكنه طوَّر الخطاب الصهيوني المراوغ وهو ما فتح الباب لتهويد الصيغة الأساسية. وقد يكون الخطاب المراوغ أحد أهم إسهاماته في عملية تطوير الفكر الصهيوني والحركة الصهيونية، فهرتزل يقدم حله للأطراف المعنية بصياغة مراوغة تجعل من الصعب على أي طرف رفض الصيغة، إذ أنها ستُرضي الجميع وستتعايش داخلها التناقضات، وهي صيغة منفتحة جداً تسمح بكل التحورات والتلونات، كالحرباء كل شيء فيها يتغيَّر إلا عمودها الفقري (يستخدم هرتزل صورة الحرباء المجازية للإشارة إلى يهود الغرب في عصره الذين يتلونون ببيئتهم. وفي العصور الوسطى، كان يشار لليهود بأنهم إسفنجة تمتص أي شيء، وهما صورتان مجازيتان متقاربتان في أنهما يؤكدان عدم وجود حدود صلبة، حيث الداخل والخارج متماثلان أو متداخلان رغم وجود "داخل" و"خارج"). ويمكن القول بأن الصياغة الهرتزلية المراوغة هي محاولة أولية لتهويد الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة حتى تستطيع المادة البشرية المُستهدَفة استيعابها، أو هي على الأقل محاولة لفتح الصيغة الأساسية الشاملة المصمتة حتى يمكن استيعاب الديباجات اليهودية ومن ثم يمكن تهويدها.

وقد ساعدته الصياغة المراوغة على وضع إطار تعاقدي بين يهود الغرب والعالم الغربي، نشير إليه باعتباره «العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية» الذي يُعبِّر عن الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة. ولكن المراوغة جزء من اتجاه أهم وأشمل في كتابات هرتزل، فقد قرَّر تحديث فَهْم المسألة اليهودية وتحديث الحلول المطروحة ومحاولة تقديم حل رشيد. والواقع أن المفتاح الحقيقي لفهم كتابات هرتزل هو العنوان الفرعي لكتابه دولة اليهود: محاولة لحل عصري للمسألة اليهودية.

ولا تتبدَّى حداثة هرتزل في الأفكار وحسب وإنما تتبدَّى كذلك في النبرة الهادئة، وهو يَصدُر عن فكرة الشعب العضوي المنبوذ ويفسره ويطرح حلولاً عملية للموضوع:

1 ـ الشعب العضوي المنبوذ.

يذهب هرتزل إلى أن معاداة اليهود أساسية في الحضارة الغربية لا مجال للتخلص منها، فهي إحدى الحتميات العلمانية التي تعلَّمها هرتزل من داروين وغيره، ولذا فهو يقابل الظاهرة بكثير من الهدوء والتجرد ويفسرها على عدة أسس:

أ) أساس تاريخي اجتماعي.

تَطوَّر اليهود داخل الجيتو وأصبحوا جزءاً من الطبقة الوسطى المسيحية التي لن تتردد في أن تلقي بهم للاشتراكية، فاليهود قوة مالية مستقلة ونفوذ اقتصادي رهيب. ولذا، فإن الشعوب المسيحية تدفع عن نفسها هذه السيطرة "فليس بمقدورهم أن يخضعوا لنا في الجيش والحكومة وفي جميع مجالات التجارة". وتتضح حداثة هرتزل في هدوئه وهو يستنتج مشروعية معاداة اليهود، فهي "شكل من أشكال الدفاع عن النفس" والمعادون لليهود بطردهم إياهم كانوا ببساطة يدافعون عن أنفسهم. السبب الكامن وراء معاداة اليهود، إذن، سبب موضوعي اجتماعي بنيوي هو المنافسة التجارية. ولكن هرتزل يضيف سبباً آخر هو "التعصب الموروث"، وهو سبب ذو بُعد تاريخي. ولعل هرتزل كان يعني بذلك أن المنافسة التجارية في المجتمعات الغربية البورجوازية كان يجب ألا تؤدي بالضرورة إلى معاداة اليهود. ولكن بسبب التعصب المـوروث، أو بسـبب أنماط الإدراك التقليدية الموروثة عن العصور الوسطى، أدَّى نجاح اليهودي في المجتمع البورجوازي إلى رفضه.

ب) أساس عرْقي.

كان هرتزل يرى أحياناً أن اليهود عرْق مستقل، ولذا فقد تحدَّث عن أنوفهم المعقوفة المشوهة وعيونهم الماكرة المراوغة. وكثيراً ما تحدَّث عنهم من خلال الأنماط العرْقية التقليدية الشائعة في أدبيات اليهود.

وقد قرأ هرتزل كلاسيكية دوهرنج عن معاداة اليهود عام 1882 فتركت فيه أثراً عميقاً. ويبدو أنه اعتقد صحة ما جاء فيها أو تقبَّلها بشيء من التحفظ.

جـ(أساس إثني ثقافي.

كان هرتزل ينظر لليهودي (في عمله المسرحي الجيتو الجديد) من خلال الأنماط الإثنية لأدبيات معاداة اليهود، فاليهودي متسلق اجتماعياً وتاجر في البورصة وشخص يعقد زيجات من أجل المنفعة والمصلحة المالية. واليهود شخصيات كريهة خارجية طفيلية تشكل خطراً على القوميات العضوية في أوربا. وقد كان هرتزل يرى أن اليهود، بماديتهم الموغلة وألمانيتهم الفاسدة (اليديشية)، يقومون بإفساد الروابط العضوية التي تربط أعضاء الفولك الألماني بعضهم ببعض، وتزخر يومياته بالمقارنات التي يعقدها بين الشخصية الألمانية المنفتحة الصحيحة والشخصية اليهودية العليلة.

ويبدو أن ادعاء الأرستقراطية كان من قبيل محاولة اللجوء إلى عالم الأغيار الرحب هـرباً مما ســماه «المادية اليهودية المفـــرطة» التي زادت بتَساقُط الدين اليهودي. ومن الطريف أن التواريخ الصهيونية ترى أن واقعة دريفوس هي التي هزت هرتزل وأعادته إلى يهوديته، ولكن المقالات التي كتبها لصحيفته عام 1894 تدل على أنه كانمقتنعاً بأن الضابط اليهودي كان مذنباً، ولعل اقتناعه بوجاهة الاتهامات هو الذي قاده إلى الصهيونية. فالكره العميق لليهود واليهودية هو الأساس العميق الكامن للصهيونية.

وقد أصبحت معاداة اليهود واليهودية الإطار المرجعي الوحيد لفكره وهويته، فمعاداة اليهود هي التي حولت اليهود إلى شعب «شعب واحد» (بالألمانية: أين فولك Ein Volk) "هكذا علمنا أعداؤنا سواء رغبنا في ذلك أم لم نرغب، ولذا فإن مصيبتنا تَربطنا، تُوحِّدنا". إن عداء اليهود هو الرابط الحلولي العضوي وليس الإله أو العقيدة كما هو الحال في الحلولية التقليدية. ولذا، فإن ثمة علاقة عضوية بين هويته اليهودية وبين واقع معاداة اليهود: الأولى تنمو بنمو الثانية. ويجب أن نلاحظ أن هذا الشعب قد نُزعت القداسة عنه تماماً، فهو شعب مثل كل الشعوب، وهو مادة بشرية استيطانية.

والواقع أن صيغة الشعب العضوي صيغة خروجية تصفوية، إن صح التعبير، فهي تعني حتمية خروج الجسم الغريب (اليهود) من الكيان العضوي الأكبر (الحضارة الغربية) واختفائه تماماً، فالخروج هو "الحل النهائي". وقد بيَّن هرتزل أن ثمة علاقة بين خروج موسى والمشروع الصهيوني، ولكن الخروج على الطريقة الموسوية حلقديم بال. ويُعلمن هرتزل الخروج ويشير إلى طرق غير موسوية لإنجازه. ومع هذا، فهي تؤدي جميعاً إلى الهدف المنشود النهائي: يمكن أولاً أن يتم الخروج عن طريق الزواج المُختلَط، ولكن هذا يتطلب ارتفاع المستوى الاقتصادي. ومن الواضح أن ازدياد قوة اليهود المالية وتزاوجهم مع المسيحيين سيزيد تحكُّم اليهود في الاقتصاد، الأمر الذي سيزيد المسألة اليهودية حدة. وقد اقترح هرتزل كذلك عام 1893 تعميد اليهود وتنصيرهم حلاًّ نهائياً للمشكلة. ولعل انضمام اليهود للحركات الاشتراكية كان يشكل أيضاً أحد الحلول من وجهة نظر البعض. ويشير هرتزل في دولة اليهود إلى إحدى المحاولات في عصره، وهي محاولة تحويل اليهود إلى قطاع اقتصادي منتج عن طريق توجيههم من التجارة الهامشية والربا إلى الأعمال الزراعية بحيث يصبح اليهود فلاحين. ويعترض هرتزل على هذا الاتجاه، فالطبقة الصاعدة هي العمال، كما أن اشتغال اليهود بالزراعة لن يزيل المشكلة فمراكز اشتغال اليهود بالزراعة في روسيا هي مراكز حركة معاداة اليهود.

وبإمكان اليهود الاختفاء أيضاً عن طريق الخروج الفردي أو الهجرة الفردية. ولعل هرتزل كان يشير هنا إلى ملايين اليهود التي هاجرت إلى الولايات المتحدة، ولكناعتراضه على الهجرة الفردية يدخل ضمن اعتراضه على الصهيونية التسللية وصهيونية الأثرياء التوطينية، وهي في الواقع جهود فردية، ولا يمكن تحقيق الخروج إلا بشكل جماعي. ولنلاحظ أن كل الحلول "حلول نهائية" تنطوي على فكرة اختفاء اليهود، وقد ظل هذا هو جوهر الحل الصهيوني، فهرتزل (الصهيوني اليهودي غير اليهودي) لم يكن له اعتراض على الاندمـاج والذوبان والانصـهار والاختفاء، فهو يقرر في دولة اليهود ، بشيء من الاستحسان، أن اليهود لو تُركوا وشأنهم لاختفوا ولكنهم لا يُترَكون وشأنهم. كما أن كل الحلول النهائية المطروحة حلول يراها هرتزل غير رشيدة (وقد تَوصَّل النازيون إلى أن أكثر الحلـول رشـداً في مجـــال الخروج أو الترانسفير النهائي هو الإبادة، عن طريق السخرة وأفران الغاز، فهو توظيف للمادة البشرية يؤدي إلى نتائج مذهلة، وهذا ما تَوصَّل إليه صديق هرتزل: ألفريد نوسيج الذي تعاون مع النازيين وقدَّم لهم خطة تؤدي إلى الخروج النهائي من خلال الإبادة).

2 ـ نَفْع اليهود والحل الإمبريالي.

إذا كان اليهود شعباً عضوياً منبوذاً، فإن أوربا منذ عصر النهضة اكتشـفت نَفْع اليهود وإمكانية حوسـلتهم لصـالح الحضارة الغربية، وهذا ما يفعله هرتزل في دولة اليهود. فهو أيضاً يكتشف إمكانية نفع اليهود وتوظيفهم لصالح أي راع إمبريالي يقوم بوضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ.

ويبدو أن هرتزل كان يرفض في بادئ الأمر «الخروج» على الطريقة الصهيونية الاستيطانية، شأنه في هذا شأن يهود الغرب المندمجين. وقد نشر في المجلة التي كان يكتب فيها عام 1892 تقارير تفصيلية عن أحوال الاستيطان اليهودي في الأرجنتين. وقد سافر زميل له مندوباً عن يهود برلين (الذين أخافهم وصول يهود اليديشية، تماماً كما أخاف ذلك يهود فيينا) ليَدرُس احتمالات توطين اليهود في البرازيل. كما كان هرتزل يعرف عن مشروع توطين اليهود في الساحل الشمالي الغربي في الجزيرة العربية (الأحساء)، فكتب مقالاً عام 1892 يرفض فيه فكرة عودة اليهود إلى فلسطين وقال: "إن الوطن التاريخي لليهود لم يَعُد ذا قيمة بالنسبة لهم، ومن الطفولي أن يستمر اليهودي في البحث عن موقع جغرافي لوطنه". كما سخر في مقال له من إحدى مسرحيات ألكسندر دوماس لما تحتويه من أفكار وحلول صهيونية. ولكن هذا كان قبل أن يكتشف الاستعمار الغربي.

ويجب ألا ننسى أن عملية التحديث في الغرب متلازمة تماماً مع العملية الاستعمارية، ولا يمكن فصل الواحدة عن الأخرى. فتراكم رؤوس الأموال الذي يُسمَّى «التراكم الرأسمالي» الذي جعل تشييد البنية التحتية الهائلة في الغرب ممكناً، هو في واقع الأمر «تراكم إمبريالي»، فهو نتاج العملية الاستعمارية التي بدأت بالاحتكار المركنتالي وانتهت بالتقسيم الإمبريالي للعالم. كما أن كثيراً من مشاكل التحديث الغربية من بطالة وانفجار سكاني وسلع زائدة، تم حلها عن طريق الاستعمار، أي عن طريق تصديرها للشرق، واكتشاف هرتزل الطريقة الغربية الإمبريالية الحديثة لحل المشاكل، أي تصديرها وفَرْضها بالقـوة على الآخر، يشـكل الانتقال النوعي في فكره وحياته.

قبل أن يطرح هرتزل حله، وجَّه نقداً للمحاولات الاستيطانية الصهيونية في عصره (محاولة التسلليين من شرق أوربا بدعم أثرياء الغرب المندمجين) ووصفها بأنها رومانسية مستحيلة دخلت طريقاً مسدوداً. ثم ينتقل هرتزل بعد ذلك فيرفض الفكر المركنتالي الذي يدَّعي أن هناك قيمة محددة في حالة توزيع دائم، ويؤكد بدلاً من ذلك أن العصر الصناعي الرأسمالي والتقدم الفني يؤدي إلى خلق القيم الجديدة المستمرة ويسمح بالتوسع الدائم. ثم يطرح هرتزل رؤيته القائلة بأن ثمة تقدماً هائلاً ودائماً في جميع مجالات الحياة فهناك "سفن تجارية تحملنا بسرعة وأمان عبر البحار الواسعة" و"القطارات تحمل الإنسان عبر جبال العالم، فالمساحات الشاسعة لا تُشكِّل عائقاً الآن. ومع هذا، فنحن نتذمر من مشكلة تكاثُف السكان (وخصوصاً اليهود). إن الانقلاب الصناعي وحركة المواصلات يمكنها أن تحل مشاكل الإنسان [الغربي] ومن بينها المسألة اليهودية". وعبارة «الانقلاب الصناعي وحركة المواصلات» البريئة تعني في واقع الأمر الانقلاب الإمبريالي الذي هيمن على العالم، والذي أمكنه، من خلال الاستعمار الاستيطاني، حل "مشكلة تكاثف السكان".

وبعد أن أكد هرتزل للدول الغربية أن نَقْل الشعب العضوي المنبوذ هو الحل المطروح، فإنه يبين لهم منافع الحل الصهيوني المطروح. فبالنسبة للدولة الراعية، ستكون الهجرة هجرة فقراء وحسب، ولذا فإنها لن تؤثر على اقتصادها. كما أن الخروج سيتم تدريجياً، دون أي تعكير، وستستمر الهجرة من ذلك البلد حسب رغبة ذلك البلد في التخلص من اليهود. كما أنه يذكر بشيء من التفصيل الثمن الذي سيدفعه اليهود (الدور الذي سيلعبونه والوظيفة التي سيؤدونها) ومدى نفعهم للراعي الاستعماري الذي سيضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ:

أ) ومن الجدير بالذكر أن الحكومات المعنية ستستفيد من هذه الهجرة استفادة كبيرة.

ب) ولو كانت الحكومات المعنية هي السلطان العثماني، فإن الفوائد تكون بالغة الكثرة:

ـ فلو يعطينا جلالة السلطان فلسطين لكنا نأخذ على عاتقنا مقابل ذلك إدارة مالية تركية كاملة.

ـ ستستفيد هذه السلطات بالمقابل إذ أنها ستدفع قسطاً من دينها العام وستقيم مشاريع نحتاج إليها نحن أيضاً.

ـ يمكن وضع النفوذ الصهيوني في خدمة السلطان، كأن تقام حملة صحفية ضد الأرمن الذين كانوا يسببون له المتاعب.

ـ ويمكن أن يؤسِّس الصهاينة جامعة في إستنبول لإبعاد الشباب التركي عن التيارات الثورية في الغرب.

ـ وأخيراً، فإن هجرة اليهود ستبعث "القوة في الإمبراطورية العثمانية كلها" وهو مطلب ألماني إنجليزي في ذلك الوقت (ضد الزحف الروسي)

جـ) أما لو تم اختيار الأرجنتين كموقع للاستيطان، فمن مصلحتها أيضاً أن تقبلنا في أراضيها.

د) وسواءٌ تم التهجير إلى الأرجنتين أو إلى فلسطين أو أية منطقة أخرى، فإن فكرة خَلْق دولة يهودية أمر مفيد للأراضي المجاورة، ذلك لأن استثمار قطعة أرض ضيقة يرفع قيمة المناطق المجاورة، وستبعث هجرة اليهود قوة في تلك الأراضي الفقيرة.

هـ) ولأن هرتزل كما بيَّنا كان يعرف أن الحكومات المعنية هي في الواقع القوى الغربية، لذلك فهو يقدم لهم قائمة كاملة شاملة:

ـ بهذا الخروج ستكون نهاية فكرة معاداة اليهود، وبالتالي لن يحس الغرب الليبرالي بالحرج بسبب عنصريته الواضحة.

ـ ومما لا شك فيه أن الدول الغربية ستجني فوائد أخرى مثل تخفيف حدة الانفجار السكاني، كما ستفيد من كل المشاكل الناجمة عن وجود شعب عضوي غريب.

ـ وفي تحليله أسباب معاداة اليهود، قال هرتزل: "عندما نسقط نصبح بروليتاريا ثورية، نقود كل حزب ثوري، وعندما نصعد تصعد معنا قوتنا المخيفة"، ولذا فإن الصهيونية ستقوم بتخليص الغرب من أحد العناصر الثورية بتسريب طاقتها الثورية في القنوات الصهيونية.

و) ولكن أهم منافع الصهيونية أنها ستُحوِّل المادة البشرية اليهودية إلى عملاء للدولة الغربية مانحة السيادة ويأخذ هذا أشكالاً كثيرة:

ـ فبالنسبة للصهاينة الاستيطانيين: يمكن حل المسألة الشرقية والمسألة اليهودية في آن واحد. وسوف يكون لهذا الحل تأثير في العالم المتحضر [الغربي] بأسره ويكون ذلك بأن "يقام هناك [في فلسطين] حائط لحماية أوربا وآسيا [دولة وظيفية] يكون بمنزلة حصن منيع للحضارة في وجه الهمجية. ويتوجب علينا كدولة محايدة أن نبقى على اتصال مع أوربا التي ستضمن وجودنا بالمقابل". وهو يرجو أن تدرك إنجلترا مدى القيمة والفائدة التي ستعود عليها من وراء كَسْبها الشعب اليهودي.

ـ ولا ندري هل أدرك هرتزل منذ البداية الإستراتيجية الصهيونية الحالية الرامية إلى تفتيت الشرق العربي إلى جماعات دينية وإثنية، فهو يقول: "إن تَحسُّن وضع اليهود سيساعد على تَحسُّن وضع مسيحيي الشرق". فهو بعد أن ربط مصير اليهود بالغرب، يرى إمكانية طرح السيناريو نفسه بالنسبة لمسيحيي الشرق.

ـ أما بالنسبة لليهود الذين يمكثون خارج فلسطين (الصهاينة التوطينيون)، فيمكن تحويلهم إلى عملاء للدولة مانحة السيادة، فتحصل إنجلترا على عشرة ملايين عميل يضعون أنفسهم في خدمة جلالها ونفوذها.

وانطلاقاً من كل هذا، يطرح هرتزل الحل: "يجب ألا يأخذ الخروج شكل هروب أو تسلُّل، وإنما يجب أن يتم بمراقبة الرأي العام [الغربي]. هذا ويجب أن تتم الهجرة وفقاً للقوانين وبمعاونة صادقة من الحكومات المعنية [الغربية طبعاً] التي يجب أن تضمن وجودنا لأن اليهود لا يمكنهم أن يفعلوا ذلك بأنفسهم". وهكذا رفض هرتزل تماماً فكرة الانعتاق الذاتي باعتباره حلماً رومانسياً، وطرح حتمية الاعتماد على الإمبريالية (وهذا هو مربط الفرس الذي لم يتنبه إليه أي مفكر صهيوني آخر من قبله). ولذا، فإن القول بأن أفكار هرتزل كانت كلها في كتابات أحباء صهيون قول صادق وكاذب في آن واحد! صادق إذا ما فتَّتنا الأفكار إلى وحدات صغيرة، مثل: فكرة الدولة اليهودية، فكرة وطن قومي لليهود، فكرة الاستيطان... إلخ، ولكنه كاذب إذا ما نظرنا إلى البنية الكامنة أو إلى الإطار الكلي المبتكر.

وعندما تتضح الأمور عند هرتزل، فإنه يتقدم بمطالبه للحكومات الغربية المعنية.. "امنحونا سلطة على قطعة من الأرض في هذا العالم [غير الغربي] تكـفي حاجاتنا القومـية المشـروعة، ونحن سـنعمل ما يتبقى". ويكرر هرتزل الفكرة نفسها في موضع آخر "متى أظهرت القوى الدولية [الغربية] رغبة في مَنْحنا السلطة فوق قطعة أرض محايدة [أي خارج أوربا] ستعمل جمعية اليهود مع السلطات الموجودة في تلك الأراضي [أي الدولة العثمانية أو الحكومة الأرجنتينية أو غيرها من الدول] وتحت إشراف القوى الأوربية [المصدر الوحيد للسلطة]". وبهذا، يكون هرتزل قد قدَّم الحل: دولة يهودية ذات سيادة تُؤسِّس خارج أوربا، مصدر سيادتها هو العالم الغربي، أي أنه سيحقق السيادة من خلال العمالة للقوى العظمى الغربية صاحبة القرار في العالم في ذلك الوقت. وهو بذلك قد توصَّل للآلية الكبرى لتنفيذ المشروع الصهيوني وهي الإمبريالية، وللإطار الأمثل وهو الدولة الوظيفية التي سيتم توظيف اليهود من خلالها لصالح العالم الغربي. بل ستُحل مشكلة الهوية اليهودية حلاًّ عبقرياً، فهو يُخرج اليهود من التشكيل القومي الغربي، ويُخلِّص الغرب منهم، ولكنه يُدخلهم الغرب مرة أخرى عن طريق التشكيل الاستعماري الغربي، إذ يبدو أن الدولة الوظيفية سيتم استيعابها في الحضارة الغربية وتصبح دولة مثل كل الدول الغربية. إن الغرب العنصري (ويهود الغرب المندمجين) لم يكونوا على استعداد لتقبُّل الشعب اليهودي العضوي المنبوذ داخل الغرب، ولكن مَنْ الذي يمكنه أن يرفض الشعب اليهودي العضوي الذي يحقق هويته اليهودية هناك بعيداً عن الغرب، داخل دولة وظيفية تقوم على خدمته وتظل تربطه به علاقة؟

قد يُقال إن هذا الحل الاستعماري ليس تحديثاً بقدر ما هو استمرار لوضع اليهود القديم في أوربا منذ العصور الوسطى كجسد غريب من المرابين والتجار، في أوربا وليس منها ويعيشون في مسام المجتمع (على حد قول ماركس). ولكن أن يعيش الإنسان على هامش المجتمـع خير له من أن يعيـش في مسـامه، لأن الحـالة الثانية خطرة جداً. كما أن الغرب الحديث على ما يبدو قد ضاقت مسامه كثيراً، ولذا فقد قام بتصفية معظم الجيوب الإثنية. كما أن عملية التحديث تأخذ أحياناً في الظاهر شكل العودة إلى الوراء، إلى القديم وإلى الأصول، ولكنها في الواقع عملية تغيير شاملة. وهذا أيضاً ما فعله هرتزل، فقد احتفظ بالأشكال القديمة (عقيدة الخروج وأسطورة الشعب والعودة) ولكنه أعطاها مضموناً جديداً أو حديثاً، وهذا مؤشر آخر على براعته.

موقـف هـرتزل مــن التيـارات الصهيـونية قبله

Herzl's Attitude to Preceding Zionist Trends

لعل أهمية هرتزل في تاريخ الصهيونية هي أنه حوَّل الصهيونية من مجرد فكرة إلى حركة ومنظمة، وبلور العقد الصامت بين الحضارة الغربية والمنظمة الصهيونية باعتبارها ممثلة ليهود أوربا وبين الحضارة الغربية، ومن ثم فقد خَلَق الإطار اللازم لعملية التوقيع التي تمت في وعد بلفور. ولكن العقد الصامت لم يُولَد مكتملاً بل استغرقميلاده مدة طويلة، فقد تعثَّر هرتزل نفسه طويلاً قبل أن يصل إلى هذه الصيغة. وبرغم عصرية حلِّه وحداثته إلا أن بصيرته خانته، إذ بدأ نشاطه السياسي بطريقة تقليديةفتوجَّه للقيادات اليهودية التقليدية (الحاخامات والأثرياء) أصحاب النفوذ التقليدي (الذين نظروا إليه بنوع من الفتور أو الاشمئزاز). ففي يونيه 1895، قام هرتزل بمقابلة هيرش (المليونير والمصرفي الألماني اليهودي) ليقرأ عليه خطاباً يحدد فيه حله للمسألة اليهودية، ولكن هيرش لم يسمح له بالاستمرار في الحديث، فأرسل إليه هرتزل خطاباً في اليوم التالي فقوبل بالفتور نفسه. وبدأ هرتزل في كتابة مذكراته وفي كتابة خطاب لعائلة روتشيلد (في فرنسا) أو إلى مجلس العائلة وأنهى الخطاب في يونيه 1895، ثم طلب من حاخام فيينا موريتز جودمان أن يكـون هـمزة الوصل بينه وبين ألبرت روتشيلد زعيم العائلة في فيينا. وقد كان منطقه أن ثروة روتشيلد محكوم عليها بالهلاك والمصادرة في عالم الأغيار، ولذا فإن عليه أن يتبنَّى المشروع الصهيوني.

ولكن يجب أن نلاحظ أن هرتزل، حتى في هذه المرحلة، كان قد بدأ في عملية التحديث، فهو لم يتقدم للأثرياء اليهود كشحاذ يهودي يطلب الصدقات من إخوانه في الدين وإنما جاء كمفكر يهودي غربي يطرح قضية حاجة اليهود إلى القيادة، وينبه إلى عُقم الاستعمار التسللي في الأرجنتين وفلسطين. والأهم من ذلك كله أنه يطالب أثرياءاليهود بالتوسط لدى قيصر ألمانيا وأن تقوم القيادة اليهودية بتمويل عملية الخروج وأن تُقنع القيصر بأهميتها، وذلك حتى تتم هذه العملية على نطاق واسع وبشكل منظمومنهجي ورشيد.

ولكن روتشيلد رفض اقتراحه لأسباب بيَّنها روتشيلد نفسه في تاريخ لاحق:

1 ـ أن هرتزل سيثير عداوة البدو (أي العرب)

2 ـ أنه سيثير شكوك الأتراك (أي الدولة المهيمنة على الشرق)، وخصوصاً أن تركيا معادية لروسيا. وروسيا لن تسمح بسقوط فلسطين في يد اليهود (وهنا يدرك روتشيلد أهمية القوى العظمى)

3 ـ سيثير هرتزل غيرة المستعمرات المسيحية والحجاج (المسيحيين) ـ وربما تكون الإشارة هنا إلى مستعمرات فرسان الهيكل وغيرها من المستعمرات.

4 ـ قد يؤدي هذا إلى هَدْم المستوطنات اليهودية هناك (أي جهود الإنقاذ التي يقوم بها يهود الغرب والتي تضمن لهم الهيمنة)

5 ـ سيثير هرتزل أعداء اليهود لأن أطروحته الصهيونية ستبين أن اليهود المندمجين منافقون في ادعائهم حب أوطانهم، ولذا سيطالب المعادون لليهود بعودة اليهود لوطنهم القومي.

6 ـ كما أشار روتشيلد إلى قضية التمويل، فمن سيمول 150 ألف شحاذ من الذين سيصلون إلى فلسطين؟

وعند هذا الحد أدرك هرتزل أن القيادات اليهودية الغربية غير جادة وغير قادرة. ولكنه مع هذا تعلَّم منها الكثير، ذلك أن اعتراضات روتشيلد مهمة. ولعل هذا ساعده في تطوير الخطاب الصهيوني المراوغ. أما قيادات يهود شرق أوربا (التي لم يكن هرتزل يعرف عنها الكثير)، فقـد كانت غير مطروحة أسـاساً لأنها لم تكـن قد دخـلت العالم الحديث بعد، فكان الشرقيون غارقين في الجيتو وكان الغربيون غارقين في الاندماج، فأخذ هرتزل بزمام الموقف وكتب مباشرةً لبسمارك، ثم أعد مذكرة ليقدمها لقيصر ألمانيا. ولكن الدول، بطبـيعة الحـال، لا تتعامل مع أفراد وإنما مع كتل بشرية، ولذا فقد كانت الاستجابات سلبية في كل مكان. ولذا قرر هرتزل (على حد قوله) أن يتوجَّه إلى الشعب. والشعب هنا لا يعني الجماهير اليهودية وإنما يعني حركة أحباء صهيون، التي كانت تضم بضعة آلاف من اليهود، كما يعني الحركات المماثلة المتناثرة ذات الأهداف المماثلة، والتي تدعم موقفه التفاوضي أمام عالم الصهيونية غير اليهودية، عالم الاستعمار الغربي. ويكون هرتزل بهذا قد حطَّم الجيتو، وقام بتحديث قيادة اليهود في الغرب، أو طرح نفسه (وهو الصحفي ذو الثقافة الغربية) بديلاً عن الأثرياء والحاخامات. وقد كان هرتزل أكثر ذكاءً من الآخرين لأنه كان يملك ما لا يملكون: رؤية جديدة للمسألة اليهودية وعقداً جاهزاً للتوقيع مع الحضارة الغربية يرضي جميع الأطراف. لقد اكتشف حتمية الاعتماد على الإمبريالية الغربية.

توجَّه هرتزل، إذن، للشعب ولكنه كان يرفض النزعات الصهيونية السابقة عليه، فصهيونية أثرياء يهود الغرب المندمجين (صهيونية الإنقاذ التي تأخذ شكل صدقات) غير صالحة لأن المشروع الصهـيوني مشروع ضخم يتجاوز الجهود الفردية. أما بالنسبة للتسلل، فقد ساهم الصهاينة التسلليون ولا شك في إلقاء الضوء على فكرة تأسيس الدولة (وهي أحد عناصر الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة)، كما أن أخطاء التسلليين أثناء الممارسة قد تفيد في تنفيذ المشاريع الضخمة المقبلة. ولكن التسلل، مع هذا، بَذَر الشك في نفوس الناس بشأن المشروع الصهيوني ككل، كما أنه اتسم بالرومانسية، فالمتسللون من أحباء صهيون يظنون أن خروج اليهود سيتخذ شكل تَرْك الحضارة والسكنى في الصحراء. لكن الأمر ليس كذلك إذ أن كل شيء سيتم في إطار الحضارة (الغربية). وقد شبَّه نوردو وهرتزل التسلليين بالبوكسرز الذين قاموا بثورة رومانسية في الصين وأرادوا التصدي للزحف الغربي بالوسائل التقليدية. وتتجلَّى سطحية هرتزل وبرجماتيته في اعتراضه على التسلل باعتبار أنه سيؤدي إلى رفع أسعار الأراضي (فالسمسار في داخله لا يهدأ له بال)، ثم يبين بعملية حسابية عبث الحلول التسللية قائلاً: "لو افترضنا أن عدد يهود العالم هو تسعة ملايين [كانوا عشرة ملايين في واقع الأمر]، وإذا كان بإمكاننا إرسال عشرة آلاف يهودي كي يستعمروا فلسطين سنوياً، فهذا يعني أن المسألة اليهودية ستُحَّل بعد تسعمائة سنة". ومن هنا، فقد شبه التسلليين بمن يريد نزح المحيط بواسطة دلو.

ثم يثير هرتزل قضية مهمة أخيرة، هي أن التسلليين ليس عندهم أية سيادة قومية، ولذلك فهم تحت رحمة الباشا العثماني، كما أنهم يفتقدون أساس القوة. ولذا، فلن يمكنهم الحصول على الاسـتقلال، وسوف يظل الاستيطان التسللي استيطاناً "يائساً جباناً". وكتب هرتزل لبودنهايمر يخبره بأنه حتى لو وصل التسلليون إلى مستوى كاف من القوة، وحتى لو وهن الباب العالي إلى الحد الذي يسمح للصهاينة بإعلان استقلالهم، فإن هذه المحاولة لن تنجح لأن القوى العظمى الغربية لن تعترف بالكيان الجديد. ويثير هرتزل أيضاً مشكلة الاستعمار الإحلالي، فمهما بلغ عدد المتسللين، ومهما بلغوا من قوة، فسيأتي حتماً الوقت الذي تبدأ فيه الحكومات المعنية (تحت ضغط السكان الأصليين) في وضع حد لتسلل اليهود. إذن، فالهجرة لا فائدة منها "إلا إذا كانت تأتي ضمن السلطة الممنوحة لنا [من قبَل الدول الغربية[".

وانطلاقاً من كل هذا، طرح هرتزل رؤيته الصهيونية الجديدة الحديثة التي خرجت بالصهيونية من إطار المعبد اليهودي والاجتهادات الدينية وجو شرق أوربا الخانق ودخلت بها جو الإمبريالية (الحديث)، فطالب بأن يُنظَر إلى المسألة اليهودية كمشكلة سياسية دولية تجتمع كل الأمم المتحضرة لمناقشتها وإيجاد حل لها (كلمة «دولية» أو «متحضرة» تعني في الواقع «غربية»). ومعنى ذلك أن المسألة اليهودية ستصبح مشكلة قومية غربية تحلها الأمم الغربية أو القـوى العظـمى. إن هذه المسألة يمكن حلها من خلال المنظومة الغربية، إذ يجب أن يتحول الاستيطان من «التسلل» ليصبح «الاستيطان القومي». وهذا يتطلب عملية إدراكية، تترجم نفسها إلى حركة استعمارية. أما العملية الإدراكية، فهي أن يُنظَر لليهود لا باعتبارهم أعضاء في طبقة طفيلية منبوذة وإنما باعتبارهم شعباً عضوياً (فولك) ولكن منبوذاً. أما الحركة الاستعمارية فهي الخروج بموافقة الرأي العام (الغربي) وبموافقة الحكومات المعنية التي يجب أن "تضمن وجودنا لتأسيس دولة يهودية ذات سيادة" مصدر سيادتها ليـس القـوة اليهودية الذاتية كما يظن التسلليون وإنما الحكومات الغربية. وفي إطار هذه الدولة، يمكن تحويل أعضاء الشعب العضوي المنبوذ إلى عنصر نافع لا لأنفسهم وحسب وإنما للحضارة الغربية، إذ سيصبحون عنصراً تابعاً للاستعمار الغربي وقاعدة له. بل إن معاداة اليهود (مأساة اليهود)، إذا ما وُظِّفت توظيفاً صحيحاً، ستكون قوة كافية لإدارة محرك كبير يحمل مسافرين وبضائع، وهذا رمز جيد للاستعمار الاستيطاني. وقد أدار هرتزل المحرك عن طريق خطابه المراوغ وصياغة العقد الصامت. وقد لاحَظ قيادات أحباء صهيون حتى قبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول (1897)، كيف تحوَّل هرتزل إلى بطل أسطوري، وكيف أن الموقف العام للصهيونية تغيَّر تماماً بعد ظهوره، وأن الاهتمام بالصهيونية والتعاطف معها قد ازداد. وهكذا، وجدوا أنهم إن لم ينضموا إليه لاكتسحهم النسيان، فليس عندهم ما يقدمونه للجماهير سوى «التسلل» المميت. وقد عبَّر أوسيشكين عن هذا الوضع بطريقة بلهاء فقال: "إن هرتزل عنده آمال وبرامج، أما نحن فعندنا برامج وحسب". ولعل ما يريد أن يقوله هو أن هرتزل كان يملك رؤية تجعل بالإمكان وضع البرامج الميتة موضع التنفيذ بسبب اكتشافه حتمية الاعتماد على الإمبريالية الغربية كآلية لتنفيذ المشروع الصهيوني، أما برامجهم التسللية فقد كانت ميتة لأنهم لم يكتشفوا الاستعمار الغربي.

الصفحة التالية ß إضغط هنا