المجلد الرابع: الجماعات اليهودية.. تواريخ 8

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

ومن أهم الوظائف التي اضطلعوا بها أيضاً وظيفة أمين الإمدادات والتموين لقوات الإنكشارية، وهي وظيفة تختلف عن نظيرتها في العصر الحديث في أن من كان يضطلع بها لم يكن موظفاً حكومياً وإنما كان مموِّلاً يقوم بنشاط تجاري حر مثل شراء التموينات والزي العسكري للإنكشارية وتدبيرها لهم. وكانت الوظيفة وراثية محصورة في عدد محدود من الأسر اليهودية. وقد نشأت هذه العلاقة بين الإنكشارية والمموِّلين اليهود أينما وُجدت قوات الإنكشارية في إستنبول وسالونيكا ومعظم المدن التركية الأخرى. ونشأت حول المموِّلين شبكة تجارية صناعية مالية من اليهود، فكانت مصانع النسيج اليهودية تساهم في صناعة الأزياء العسكرية للإنكشارية. ولعل ارتباط اليهود بصناعة النسيج في كثير من البلاد، مثل الولايات المتحدة وغيرها، كان سبباً في أنهم يرتبطون بالمؤسسة العسكرية التي تحتاج إلى كميات كبيرة من المنسوجات الخاصة بالزي العسكري. واستمرت العلاقة بين الإنكشارية وأعضاء الجماعة اليهودية حتى عام 1826 عندما حُلَّت الإنكشارية.

وقد اتسمت العلاقة بين أعضاء الجماعة اليهودية والنخبة الحاكمة بكثير من الانسجام والتفاهم لأن العنصر اليهودي كان مكمِّلاً لنشاطات أعضاء النخبة الحاكمة لا متناقضاً معها، على عكس الوضع في كثير من بلاد أوربا. فأعضاء النخبة كانوا يشغلون الوظائف العسكرية والدينية والإدارية العليا وكانوا يديرون بعض المشاريع الاقتصادية الكبرى مثل النقل البحري والتجارة الدولية، وهي نشاطات مهنية واقتصادية لم يكن يطمح اليهود إلى الاضطلاع بها. كما أن أغلبية اليهود استوطنوا في الدولة العثمانية بعد أن كانت النخبة الحاكمة قد سيطرت على ناصية الأمور وعلى الهيكل الاقتصادي، وهم في هذا يشبهون يهود إنجلترا وفرنسا وهولندا عند استيطانهم ابتداءً من القرن السابع عشر الميلادي. كما يُلاحَظ أنه لم يكن يُوجَد تناقض بين السلطات من جهة والنبلاء وسكان المدن من جهة أخرى، كما كان الحال في أوربا. وهو التناقض الذي سقط اليهود ضحية له في أغلب الأحيان، إذ كان الملك يستخدم اليهود لصالحه كأداة لجمع الضرائب ولتقويض نفوذ المدن غير الملكية والنبلاء. أما في الدولة العثمانية، فقد كان اليهود أداة في يد جهاز الدولة ونخبتها الحاكمة ككل. ويمكن القول بأن يهود الدولة العثمانية ككل قد اندمجوا في سكانها. وحينما انتشرت دعوة شبتاي تسفي (1665)، تصدَّى لها حاخامات الإمبراطورية وساهموا في الحرب ضدها، وظهر يهود الدونمه في أعقاب إخفاق دعوة تسفي واعتناقه الإسلام. وقد أصبحت صفد مركزاً للدراسات اليهودية إذ اسـتوطن فيها جوزيف كارو، وفيها وضع مؤلفه المشهور الشولحان عاروخ، كما أصبحت صفد مركزاً للدراسات القبَّالية وبخاصة القبَّالاه اللوريانية.

وكما هو مُتوقَّع، كان مصير يهود الدولة العثمانية مرتبطاً بحركيات هذه الدولة وما تواجهه من مشاكل وأزمات. ويُلاحَظ أن تَراجُع الدولة العثمانية ترك أثره في الجماعات اليهودية أيضاً، فقد توقف تَدفُّق المهاجرين اليهود من أوربا إذ بدأت تستوعبهم المراكز التجارية في غرب أوربا ووسطها بدرجات متزايدة، وبالتالي تَوقَّف تَدفُّق رأس المال والخبرة والمعارف الغربية. بل إن معرفة أعضاء الجماعات اليهودية باللغات الأوربية تناقصت حتى أن معظمهم كان يكتب اللادينو بحروف عبرية لأنهم كانوا لا يعرفون الحروف اللاتينية. ورغم أن المؤسسة الحاخامية نجحت في أن تتصدى لدعوة شبتاي تسفي، فإن فشل هذه الدعوة نفسه وَلَّد يأساً عميقاً في قلوب أعضاء الجماعات اليهودية وزاد سيطرة المؤسسة الحاخامية عليهم. وكما أشرنا من قبل، كان ثمة ارتباط بين المموِّلين اليهود والإنكشارية. ولذلك، حينما حاولت الدولة العثمانية تحديث المؤسسة العسكرية عن طريق القضاء على الإنكشارية، تحالف هؤلاء المموِّلون مع الإنكشارية وقاموا بتمويل تمرُّدهم. وبعد أن تمكنت الدولة من حل الإنكشارية، تم القبض على رؤساء عائلات المموِّلين وتم إعدامهم، الأمر الذي ألحق ضرراً شديداً بالشبكة الاقتصادية اليهودية التجارية المالية الصناعية المرتبطة بهؤلاء المموِّلين.

ويمكن القول بأن الحقيقة الأساسية في تاريخ الدولة العثمانية، منذ نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، هو تَزايُد النفوذ الغربي وتَدخُّله في شئون الدولة العثمانية. وقد انعكس هذا في نظام الامتيازات الذي يعود إلى معاهدة 1521 التي عقدها السلطان سليمان القانوني مع قنصل البندقية وأصبحت نموذجاً لمعاهدات مشابهة وُقِّعت فيما بعد مع كل الدول الأوربية. وكان نظام الامتيازات يسمح للدولة المعنية بتعيين قناصل في الممتلكات العثمانية وبإعطائهم حق التشريع لرعاياهم في الأمور المدنية، وهو الأمر الذي جعل كل جالية أجنبية (ملة أو طائفة) تدير أمورها بنفسها وتتمتع بحماية قنصلها فيما يتعلق بالأمور الشخصية والمهنية.

وقد استفادت الدول الغربية من نظام الامتيازات الممنوح لها وحاولت أن تُوسِّع رقعة نفوذها. وبدأت كل دولة أوربية تبحث عن موطئ قدم لها داخل الدولة العثمانية عن طريق فرض حمايتها على أقلية دينية أو إثنية حتى تكون لها محمية بشرية أو جيب سكاني. وبذا، يمكننا أن نرى هذه العملية باعتبارها شكلاً من أشكال الاستعمار الاستيطاني أدَّى إلى تحويل أعضاء الأقليات إلى عنصر سكاني غريب. ففرضت روسيا حمايتها على الأرثوذكس وفرنسا على الكاثوليك، وهذا ما أعطاهما حق التدخل في أمور الدولة العثمانية كما هيأ لهما شبكة اتصالات هائلة داخل الدولة. وقد اندفعت الدول تبحث عمن « تحميه » من الأقليات فاكتشفت إنجلترا وبروسيا (ألمانيا) أنهما لا تتمتعان بالميزة التي تتمتع بها فرنسا وروسيا إذ كان العنصر البروتستانتي في الدولة العثمانية صغيراً للغاية وغير ذي أهمية، فحاولت إنجلترا في البداية فرض حمايتها على الدروز. ولكنها اكتشفت بعد قليل أن اليهود أقلية يمكن حمايتها، فأسست قنصلياتها في القدس عام 1838. وحاولت روسيا أن تحمي يهود القدس، في الوقت الذي كانتترتب فيه المذابح ضد يهود روسيا. وهذا يتفق مع النمط البلفوري الغربي الذي يرى أن تتخلص أوربا من يهودها عن طريق ترتيب وطن لهم خارجها، أي ضربهم في الداخل وحمايتهم في الخارج. وأسس يهود العالم جمعيات لمساعدة إخوانهم اليهود، فتأسست الأليانس الفرنسية (1860) والرابطة الإنجليزية اليهودية (1871) وجمعية الإسرائيليتيش أليانس (1873)، والغوث الهيلفسفرين (1901) الألمانيتان، واللجنة اليهودية الأمريكية (1906).

وقد كان لتعَاظُم النفوذ الغربي آثار متضاربة على الجماعات اليهودية في الدولة العثمانية، إذ أدَّى تَدخُّل الدول العظمى في بداية الأمر إلى تَصاعُد نفوذ أعضاء الأقليات المسيحية داخل الدولة، وهو ما أدَّى إلى ظهورهم وحراكهم على حساب أعضاء الجماعات اليهودية، فبرز العنصر اليوناني والأرمني. ومما ساعد على هذا الاتجاه أن عدد المسيحيين كان أكبر وأنهم حصلوا على نصيب أكبر من التعليم، وخصوصاً أنهم أرسلوا أولادهم إلى جامعات أوربا وكانت تعاضدهم كنائسهم وكل أوربا. وقد أدَّى كل هذا إلى تَراجُع نفوذ أعضاء الجماعات اليهودية وإلى تَناقُص نصيبهم من التجارة الدولية ابتداءً من القرن السابع عشر الميلادي حتى انتهى تقريباً مع نهاية القرن الثامن عشر الميلادي. وقد تَزامَن هذا مع تَناقُص نفوذ يهود الأرندا في بولندا وتَناقُص نفوذ يهود البلاط في وسط أوربا. ولا ندري ما إذا كانت هناك علاقة بين الظاهرتين، ولكن المرجح أن ثمة علاقة إذ كانت هناك شبكة تربط الجماعات الاقتصادية الثلاث. وكان آخر مموِّل يهودي كبير هو يوسف الناسي الذي مارس نشاطه في النصف الثاني من القرن السادس عشر. وقد ظهر آخر كبار الأطباء اليهود في البلاط العثماني في أواخر القرن السابع عشر الميلادي.

وبدأ المسيحيون يشغلون وظائف الجمارك والضرائب، بل إن وظيفة الدراجمون (أي الترجمان) التي كان يشغلها اليهود بدأ يشغلها تركي من أصل يوناني. وتبدَّى تَزايُد النفوذ الغربي والنفوذ المسيحي في شكل آخر هو ازدياد ظاهرة توجيه تهمة الدم كما تجلَّى في حادثة دمشق حين اتهم مسيحيو سوريا (بتحريض من القنصل الفرنسي) العنصر اليهودي المرتبط بالإنجليز بأنهم ذبحوا أحد الرهبان واستخدموا دمه في خبز فطير الفصح. وحين ناشد يهود فرنسا دولتهم لم يجدوا آذاناً صاغية إذ كانت فرنسا تحمي كاثوليك الشام. أما في إنجلترا، فقد احتج بالمرستون وهدد محمد علي حاكم مصر الذي كانت تتبعه سوريا آنذاك بالعواقب الوخيمة إذ كانت إنجلترا تفكر في حماية يهود الدولة العثمانية.

وإذا كان نفوذ يهود الدولة العثمانية قد تراجع بسبب التدخل الغربي وتَعاظُم النفوذ الغربي، فإن الصهاينة الذين وضعوا أنفسهم تحت حماية بريطانيا استفادوا منه أيما استفادة. كما أن كثيراً من أعضاء الجماعات اليهودية حصلوا على جنسيات دول أوربية حتى يكونوا تحت حمايتها ويتمتعوا بالامتيازات. ومن هنا كان العثمانيون لا يمانعـون في أن يعـيش اليهود في فلسطين إذا كانوا مواطنين عثمانيين. وحاولت الدولة العثمانية أن تمنع اليهود غير العثمانيين، أي الذين تشملهم الحماية الغربية، من حق الاستيطان فيها.

وحاولت الدولة العثمانية، ابتداءً من حكم محمد الثاني (1808 ـ 1839)، إصلاح الإمبراطورية من الداخل. واستفاد اليهود من عمليات التحديث هذه، وصدرت القوانينالإصلاحية المعروفة باسم التنظيمات (عام 1839)، والخط الهمايوني (عام 1856)، التي ضمنت حقوق كل سكان الإمبراطورية من أعضاء الأقليات، وضمنها اليهود، واحترام الملكية وصيانة الحرية الشخصية. وأصبح لليهود الحق في ارتداء الزي التركي (الطربوش)، كما أصبح من حق الحاخامات أن يرتدوا العمامة مثل الشيوخ، فحقق هذا إعتاقاً سياسياً لليهود إن أردنا استخدام لغة العصر. وصدرت قوانين تحرِّم تهمة الدم وتجعلها تهمة خطيرة يحقق فيها حاكم المقاطعة بنفسه. وصدر فرمان خاص بإصلاح نظام الملة (مايو 1864). ويتلخص هذا الفرمان في أن الجماعة اليهودية يرأسها الحاخام باشي الذي أُسِّست وظيفته عام 1835، وهو يمثل كل اليهود في الإمبراطورية أمام الباب العالي، كما أنه مسئول عن جمع وتحديد الضرائب المفروضة على الجماعة اليهودية ويصادق على اختيار الرؤساء المحليين الذين يُنتخَبون من قبل ممثلين من الملة المحلية. وقد حدَّد الفرمان نظم المجالس الممثلة لليهود في مجلس عام يضم ثمانين عضواً، كانوا ينتخبون بدورهم سبع حاخامات في لجنة تُسمَّى «مجلس روحاني» وسبع يهود من خارج المؤسسة الدينية للأمور الدنيوية تُسمَّى «مجلس جسماني»، وكان يترأس اليهود حاخام باشي الذي كان يتم اختياره بالانتخاب.

وقد حاول الصهاينة الاستفادة من أزمة الإمبراطورية العثمانية في آخر أيامها، ولكنهم فشلوا فشلاً ذريعاً في الحصول على موافقة السلطان العثماني على مشروعهم الاستيطاني، واضطروا إلى الانتظار حتى تسقط فلسطين في يد الاستعمار البريطاني.

وثمة رأي يذهب إلى أن اليهود عامة، ويهود الدونمه على وجه الخصوص، لعبوا دوراً مهماً وخطيراً في الثورة ضد الخلافة العثمانية، وأن الدوائر التي كان يتحرك فيها كمال أتاتورك كانت مليئة بالماسونيين والدونمه. وقد انتشرت شائعة بين اليهود أنفسهم أن أتاتورك نفسه كان من يهود الدونمه. ولكن مثل هذه الشائعات تنتشر دائماً بين اليهود باعتبارهم أقلية مستضعفة تنغمس في الخيال كمحاولة للتعويض. وقد سبق ليهود الغرب أن تصوروا أن مارتن لوثر من يهود المارانو إلى أن بدأت حملته عليهم.

وثمة رأي يذهب إلى أن دور اليهود كان في واقع الأمر صغيراً، فكان ضباط تركيا الفتاة من المسلمين ومعظمهم من الأتراك أو البلقان وبعضهم من العرب، كما كان بينهم أرمن ويونانيون وعرب مسيحيون ويهود. ولكن قيل إن دور اليهود قد ظهر واتضح لأنهم كانوا المتحدثين باسم الثورة في الخارج. كما أن اليهود كانوا يتمتعون بالحماية الأجنبية، ولذا لم تكن بيوتهم تخضع للتفتيش، وهو ما جعلها مكاناً ملائماً للضباط لأن يجتمعوا فيه. كما أن المحافل الماسونية كانت أيضاً متمتعة بالحماية الأجنبية، ولذا فإنها كانت إحدى الجيوب التي استخدمها ضباط تركيا الفتاة. وكان من أهم المشتركين في الثورة ألبرت قاراصو وهو يهودي من سالونيكا لعب دوراً بارزاً في الثورة، وكذلك الاقتصادي جويد باشا وزير المالية في حكومات تركيا الفتاة، ولكنه لم يكن يهوديا وإنما كان من الدونمه.

ومهما يكن حجم اشتراك اليهود في الثورة، فإن من الواضح أنهم كانوا مُمثَّلين داخل كل المعسكرات السياسية في الإمبراطورية العثمانية. وقام فريق من الأثرياء بتأييداليمين أو الإنكشارية، وفريق ثان أيد الوسط أو المؤسسة الحاكمة وكان يضم عامة الشعب والحاخامات، وفريق ثالث من المثقفين اليهود والدونمه كان يؤيد الثورة. واليهود، في هذا، لا يختلفون عن بقية قطاعات الشعب في الإمبراطورية العثمانية.

ومع استمرار عملية التحديث في تركيا، أُلغيت أشكال الإدارة الذاتية كافة وظهرت بورجوازية تركية (طبقة مالية تجارية محلية حلَّت محل الطبقات التي كانت تتكون منالأرمن واليونان والشوام واليهود والأوربيين). وهـاجرت أعـداد كبيرة من اليهود إلى المغرب فتناقص عددهم. وتبنَّى من تبقَّى من اليهود لغة وعادات الأتراك. ومعظم يهود تركيا المتبقين من طائفة الدونمه. وقد بلغ عدد يهود تركيا ثمانين ألفاً عام 1947 وتناقص إلى ستين ألفاً عام 1958 وإلى تسعة وثلاثين ألفاً عام 1969 وإلى 19.500 عام 1992. ويعود هذا التناقص إلى عدة عناصر من بينها الهجرة والاندماج وقلة الإنجاب.

العثمانيـــون

The Ottomans

انظر: «الدولة العثمانية».

المســـألة الشـــرقية ورجــــل أوربـــا المريـــض

The Eastern Question and the Sick Man of Europe

«المسألة الشرقية» ترجمة للعبارة الإنجليزية «إيسترن كويستشن Eastern Question» وهي مصطلح غربي إمبريالي يُجسِّد وجهة النظر الغربية تجاه الدولة العثمانية (التي كان يشار إليها أيضاً باعتبارها «رجل أوربا المريض»)، والمصطلح يحدد النطاق الدلالي ومحيط الرؤية بشكل مدهش:

1 ـ فالدولة العثمانية عبارة عن مسألة ومشكلة تستدعي الحل، وهذا هو الإجماع الغربي.

2 ـ والدولة العثمانية رجل مريض، وهو ما يعني أن هناك تركة لابد من تقسيمها وأنه يمكن توظيف هذا الرجل المريض العاجز لصالح من يملك زمام الأمور.

3 ـ يخبئ المصطلح المشروع الإمبريالي الغربي أو ما نسميه «رجل أوربا النهم» الذي كان قد التهم معظم أنحاء العالم بعد أن انفتحت شهيته في أعقاب اندلاع نيران الثورة الصناعية الرأسمالية (والإنتاجية الاستهلاكية).

4 ـ يخبئ المصطلح أيضاً احتمالات الإصلاح من الداخل كما حدث مع محمد علي الذي كان بإمكانه إجراء عملية جراحية لرجل أوربا المريض لشفائه أو لتقسيمه علىورثته الحقيقيين،أي شعوب المنطقة.

5 ـ لا يبين المصطلح أن رجل أوربا النهم قد اكتشف أن مصيره (أو على الأقل امتلاء معدته التي لا قرار لها) يتوقف على مدى ضعف الرجل المريض ونهايته.

ويمكن تقسيم علاقة الرجل المريض بالرجل النهم إلى عدة مراحل، وما يهمنا هو أواخر المرحلة الأولى حينما وصلت القوات العثمانية إلى فيينا عام 1529. ثم وقعت معركة لبانتو (1571) بين الأسطول العثماني والأسطول الإسباني (تسانده الدويلات البابوية والمدن الإيطالية) وتَحطَّم الأسطول العثماني تماماً. وقد شعرت الجماهير في أوربا بمغزى ذلك النصر وأُقيمت الاحتفالات في لندن التي لم تكن طرفاً في الموضوع. وفقدت القوات العثمانية زخمها وقوة اندفاعها للمرة الثانية والأخيرة عام 1683 حينما حاصرت القوات العثمانية فيينا وتم صدها، ويرى البعض أن المسألة الشرقية بدأت منذ هذا التاريخ فبعد هذا التاريخ بدأ التراجع العثماني (والإسلامي)، وبدأ التقدم الغربي ومحاولة الاسـتيلاء على ممتلكات الدولـة العثمانية وتقسـيم العـالم الإسلامي. وقد أخذ هذا أربعة أشكال:

1 ـ محاولات الإمبراطورية الروسية والنمساوية توسيع نفوذها وسلطانها على حساب الدولة العثمانية.

2 ـ محاولات إنجلترا وألمانيا منع تفكك الإمبراطورية العثمانية حتى تبقى سداً أمام الأطماع الروسية التوسعية.

3 ـ ظهور القوميات المستقلة في شبه جزيرة البلقان وحولها ( العرب ـ اليونان ـ رومانيا ـ بلغاريا).

4 ـ محاولة استغلال الدولة العثمانية والنيل من سياستها عن طريق الامتيازات الأجنبية.

ومن منظور تَطوُّر الصهيونية، ما يهمنا في المسألة الشرقية هو مصير فلسطين. ومن ثم، فإن عام 1841 تاريخ حاسم تم فيه القضاء على محمد علي وفرض السلام الأوربي على الشرق!

مع ظهور محمد علي، طُرحت الإمكانية الحقيقية لإعادة العافية إلى رجل أوربا المريض أو لأن يقوم أصحاب المنطقة بحكمها (ملء الفراغ الناجم عن موت الرجل المريض)، وهو الأمر الذي لم يكن ليقبله رجل أوربا النهم. وقد تبلور المشروع الصهيوني غير اليهودي تماماً، وخرج من دائرة الديباجات الدينية المشيحانية ودخل عالم المشاريع الاستعمارية إذ اكتشف الاستعماريون الإنجليز أن بالإمكان توظيف المسألة الشرقية في حل المسألة اليهودية وتوظيف المسألة اليهودية في حل المسألة الشرقية. فقد اكتشف الإنسان الغربي أن من الممكن نقل المادة البشرية اليهودية (التي كانت تشكل المسألة اليهودية) إلى فلسطين لتصبح عنصراً منتجاً هناك، يشكل دولة وظيفية تابعة لإنجلترا تستوعب الفائض البشري وتساعد الدولة العثمانية على التماسك لتظل حاجزاً أمام الأطماع الروسية، فالحل الصهيوني للمسألة اليهودية هو نفسه الحل الغربي الاستعماري للمسألة الشرقية. وقد دارت المشاريع الصهيونية الغربية (غير اليهودية) في هذا الإطار.

ومن هذا المنظور، يمكن أن نرى أن التراجع المستمر للدولة العثمانية، واضطرارها لتقديم التنازلات القانونية الكثيرة (الامتيازات الأجنبية)، كان يعني اتساع الثغرة التي سمحت للفائض البشري اليهودي بالتسلل. ومن المعروف أن الدولة العثمانية كانت ترحب بهجرة اليهود إليها منذ عملية طردهم من إسبانيا. ومع تَزايُد تَدخُّل الدول الأجنبية، وتَزايُد الأطماع في فلسطين، بدأت الدولة العثمانية تحاول أن تمنع الهجرة اليهودية إلى فلسطين (مع استمرار فتح الأبواب خارجها). بل فتحت باب الهجرة أمام اليهود إلى فلسطين شريطة أن يتجنسوا بالجنسية العثمانية، أي شريطة أن يتحولوا من عنصر استيطاني (قتالي) غريب إلى عنصر وطني محلي (وكانت هذه هي السياسة الرسمية حتى عام 1914). وكانت الدول الكبرى تتدخل لحمل الدولة العثمانية على السماح لليهود بالاستيطان في فلسطين وملكية الأراضي فيها، فاضطرت الدولة العثمانية إلى إصدار قرار عام 1867 بمنح الأجانب حق ابتياع الممتلكات في فلسطين، وهو القرار الذي استفادت منه الجمعيات التبشـيرية المسـيحية والجماعات الاسـتيطانية المسيحية مثل فرسان الهيكل، كما استفاد منه المستوطنون الصهاينة في مراحل لاحقة. وحينما حاولت الدولة العثمانية منع اليهود من امتلاك العقارات في فلسطين (عام 1884)، ادَّعت الدول العظمى أن هذا خرق لنظام الامتيازات. وكان قناصل الدول الغربية يستخدمون نفوذهم لتسهيل عملية استيطان اليهود. وحين صدرت قرارات تحرِّم هجرة اليهود (غير العثمانيين) عام 1888 ثم عامي 1891 و1898، عبَّرت الدول الغربية عن استيائها وساعدت المهاجرين على التحايل على هذه القوانين.

ويمكن أيضاً أن نفهم كثيراً من تحركات الدول الغربية وموقفها من المشروع الصهيوني في ضوء علاقتها بالدولة العثمانية وتصورها لحل المشكلة اليهودية. وعلى سبيل المثال، كانت الدولة الألمانية ترى ضرورة دعم الدولة العثمانية في مواجهة الأطماع التوسعية الروسية، ولذا فإن حماس ألمانيا للمشروع الصهيوني كان فاتراً للغاية رغم التوجه الألماني القوي للمشروع الصهيوني، ورغم أن الزعماء الصهاينة الأوائل كانوا من الناحية الثقافية ألماناً (وهو على كلٍّ لا يختلف عن فتورهم تجاه المشروع الصهيوني الألماني غير اليهودي: مشروع فرسان الهيكل). ويمكن فهم سلوك إنجلترا في الإطار نفسه، فرغم تحمُّس إنجلترا للمشروع الصهيوني باعتباره آلية مهمةللتخلص من الفائض اليهودي، إلا أن الإمبراطورية الإنجليزية قدمت شرق أفريقيا للصهاينة في البداية (لا فلسطين) لأن السياسة الإنجليزية الرسمية كانت معارضة لتقسيم الدولة العثمانية. وحينما اتُخذ قرار التقسيم أثناء الحرب، اتخذ أيضاً القرار بتأييد تنفيذ المشروع الصهيوني في فلسطين ومن ثم صدر وعد بلفور. وانتهت المسألة الشرقية مع اندلاع الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية.

ولا تزال المسألة الشرقية مرتبطة تماماً في ذهن الإنسان الغربي بالمسألة اليهودية الصهيونية، ولا يزال رجل الغرب النهم يستخدم الدولة الصهيونية الوظيفية لحل مشاكله الشرقية. وقد قامت الدولة الوظيفية في مرحلة تَصاعُد المد القومي العربي بضرب النظم العربية التقدمية. وفي مرحلة النظام العالمي الجديد وتصاعد المد الديني، تطرح الدولة الوظيفية نفسها باعتبارها الآلية التي يمكن عن طريقها حل المسألة الشرقية (الإسلامية) الجديدة!

الامتيازات الأجنبية

Capitulations

«الامتيازات الأجنبية» اصطلاح يشير إلى المعاملة القضائية والقانونية الخاصة التي تقررت للأجانب الموجودين في أقاليم الإمبراطورية العثمانية بمقتضى مجموعة من المعاهدات، كانت من أوائلها المعاهدتان اللتان أبرمتا مع فرنسا (سنتي 1535 و1740) بقصد تيسير التجارة بين رعايا الدولتين وحماية الأجانب من الخضوع لأحكام الشريعة الإسلامية (التي تستند إليها قوانين الدولة العثمانية). ولم تكن هذه المعاهدات تعاقدية تبادلية، فقد كانت في واقع الأمر تعبيراً عن بداية ضمور الدولة العثمانية وتَحوُّلها بالتدريج إلى رجل أوربا المريض. وقد نشأت نتيجة معاهدات الامتيازات الأجنبية عدة مراكز أو مستعمرات تجارية تركزت فيها التجارة الدولية في عدة مناطق من الدولة العثمانية. وقد أسس الفرنسيون معظم هذه المراكز في بداية الأمر، ولكن لحق البريطانيون بهم في مرحلة لاحقة مع تَزايُد النفوذ البريطاني في الدولة العثمانية. وكانت أهم هذه المراكز التجارية (سالونيكا والقسطنطينية وسميرنا وصيدا وعكا والإسكندرية وحلب والقاهرة والرملة) وهي مدن تضم جماعات يهودية قام أعضاؤها بدور التجار الوسطاء والوكلاء بين البائعين والمشترين، وهو دور اضطلعت به أعضاء الأقليات الإثنية والدينية كافة وتوارثـوه أباً عن جد، وإن كان يُلاحَظ بـروز دور أعضاء الجماعة اليهودية. وكان الوكلاء التجاريون يحصلون على إذن خاص من الدولة العثمانية بممارسة هذه الوظيفة، وكانوا يُعفَون من الضرائب. ومن ثم اسـتفاد كثير منالتجـار من هذه الامتيازات وحظوا بحماية الدول الأجنبية. وقد ساهم هذا ولا شك في عزلهم عن البيئة العربية الإسلامية المحيطة بهم حتى تحوَّلوا إلى جماعة وظيفية تدينبالولاء لقوة تجارية وعسكرية خارجية.

وكان من أوائل التجار اليهود الذين تمتعوا بالحماية الأجنبية التجار اليهود في حلب الذين كانوا يحملون اسم «الفرانكوس» (أي الفرنجة)، وقد كانوا تجاراً يهوداً أوربيين وفدوا إلى الشام في القرن السابع عشر واستقروا فيها، وكانوا جزءاً من الشبكة التجارية اليهودية الدولية الممتدة من بولندا (يهود الأرندا) إلى وسط أوربا (يهود البلاط) وغربها (كبار التجار السفارد) والتي غطت الدولة العثمانية وبعض أجزاء من أفريقيا وامتدت إلى العالم الجديد. وقد ظل الفرانكوس تحت حماية الفرنسيين إلى أن أصدر السلطان سليم الثالث خطابات تعيين لهم وأعطاهم مكانة تجار أوربيين تابعين له هو شخصياً.

ويُلاحَظ أنه ابتداءً من القرن التاسع عشر، ومع تعَاظُم النهم الاستعماري الغربي، بدأ قناصل الدول الأجنبية يضعون أعضاء الأقليات تحت حمايتهم لأسباب عديدة ليست بالضرورة تجارية. واتسع نطاق نظام الامتيازات بين يهود العالم العربي حتى أن غالبيتهم العظمى أصبحت تتمتع بها ومن ثم كانت موضوعة تحت حماية الدول الأجنبية، كما كان كثير من اليهود العرب يعملون قناصل للدول الغربية في بلادهم. وقد ورثت الدول العربية التي انفصلت عن الدولة العثمانية نظام الامتيازات.

ولعــب نظــام الامتيــازات دوراً أسـاسـياً في تسـهيل عمــلية الاستيــطان الصهيــوني التســللي. فيهــود فلسطين كانوا أساساً من السفارد المندمجين في محيطهم الحضاري الإسلامي، وقد حاولت عناصر من الإشكناز الاستفادة من نظام الامتيازات فقاوم السفارد هذه المحاولة في 1822 ـ 1823، وُكلِّلت جهود الإشكناز بالنجاح في عام 1840 بعد فتح قنصلية إنجلترا في الفترة 1838 ـ 1839، وبعد إعادة فتح قنصلية فرنسا عام 1843 (بعد أن أُغلقت 130 عاماً). ثم بدأت عملية تغريب اليهود المحليين وتَسلُّل اليهود الأجانب. ومما ساعد على تقوية نفوذ الدول الغربية على يهود فلسطين، مؤسسة الحالوقة وهي الأموال التي كان يدفعها يهود العـالم، الذين كانت غالبيتهم السـاحقة في الغرب، لمساعدة يهود فلسطين. وكان المستوطنون الصهاينة الإشكناز يتسللون إلى داخل فلسطين بأن يحصلوا على تأشيرة دخول كمواطنين أجانب يتمتعون بحقوق خاصة، ثم يستوطنون في فلسطين ولا يغادرونها. وقد سهل لهم القناصل الأجانب هذه العملية.

ويمكن القول بأن نظام الامتيازات الأجنبية هو المسئول عن تحويل يهود الدولة العثمانية والعالم الإسلامي ككل إلى جماعات وظيفية تابعة لدول أجنبية وتدين لها بالولاء وتتمتع بحمايتها. وحاولت الدولة العثمانية التخلص من هذا النظام أو تقليل أضراره دون جدوى إذ أن نظام الامـتيازات كان جزءاً لا يتـجزأ من الهجـمة الإمبريالية الغربيـة على الشرق، وساعد على إحكام قبضة الإمبريالية على دول العالم العربي وعلى تحويل بنيتها السياسية والاقتصادية إلى بنية تابعة. وقد أُلغي نظام الامتيازات في مصـر بمقتضـى معاهـدة مونتريه عام 1937 التـي نظمـت فترة انتقالية (بقيت خلالها المحاكم المختلطة) حتى عام 1949.

حمـــاية اليهـــود (والأقلـــيات الأخــــرى)

(Protecting the Jews (and other Minorities

من أنجح الأساليب التي تتبعها الدول الاستعمارية الكبرى في تنفيذ مخططاتها ما يُسمَّى «حماية الأقليات». إذ تقوم إحدى الدول الكبرى التي لها أطماع في دولة ما بإعلان مسئوليتها عن أقلية تعيش داخل حدود الدولة المستهدفة فتضعها تحت " حمايتها "، أي تتدخل في شئون الدولة التي تعيش الأقلية في كنفها بحجة الدفاع عن مصالح هذه الأقلية. وقد تكون هذه الأقلية دينية (الكاثوليك في لبنان - الأقباط في مصر)، أو إثنية (الدروز في لبنان وسوريا) أو عرْقية دينية (الأرمن في الدولة العثمانية). وتهدف فكرة الحماية هذه إلى إقناع أعضاء أقلية ما بأن مصالحها تختلف عن مصالح محيطها وأن أفضل وسيلة لحماية هذه المصالح هي التحالف مع الغرب الصديق، أي أن الغرب (عن طريق حماية الأقلية) يحوِّلها إلى جماعة وظيفية تعمل لصالحه. ومفهوم حماية اليهود مفهوم راسخ في الحضارة الغربية، فاليهود باعتبارهم جماعة وظيفية كانوا قريبين من النخبة الحاكمة التي كانت تمنحهم المواثيق والمزايا نظير أن يقوموا هم على خدمتها وتحقيق المكاسب لها. وقد بُعث المفهوم من جديد مع ظهور الصهيونية، فالصهيونية إعادة إنتاج لعلاقة الجماعة الوظيفية بالنخبة الحاكمة وتأخذ شكل علاقة الدولة الوظيفية بالراعي الإمبريالي.

وحماية اليهود إحدى الآليات التي تم من خلالها تحويل يهود العالم العربي (من يهود محليين ومهاجرين) إلى مادة استيطانية، وهي عملية لم تكن مقصورة على اليهود ولا على فلسطين؛ وإنما كانت تضم أعضاء الأقليات الدينية الأخرى وكل الوطن العربي. ولفهم صراع الدول الغربية حول حماية الأقليات، لابد أن ندرس البُعد الديني فيالعملية الاستعمارية الغربية. فالإمبريالية الغربية، شأنها شأن كل الأنساق العلمانية، وظفت النصوص الدينية كديباجات لتجنيد جماهيرها ولتجييش الجيوش. وبهذا المعنى، فإننا نتحدث عن البُعد الديني للاستعمار الغربي كتوظيف علماني غير ديني للدين.

وقد بدأ المشروع الاستعماري الغربي بالاستعمار الكاثوليكي، البرتغالي والإسباني، الذي حقَّق الاندفاعة الأولى التي تم من خلالها استعمار أمريكا الجنوبية. ولكن، بعد هذه الاندفاعة، توقف التشكيل الاستعماري الكاثوليكي إذ أن إسبانيا والبرتغال دخل عليهما الجمود وكانت إيطاليا مجزأة، ولم تكن هناك قوة استعمارية كاثوليكية سوى فرنسا. ولكن الثورة الفرنسية وهزيمة نابليون أدَّت إلى إبطاء المشروع الاستعماري الفرنسي،ولم ينشط مرة أخرى إلا في أفريقيا في ستينيات القرن الماضي،ولكن ظهور ألمانيا أجهز عليه في السبعينيات وهو ما جعلها ترضى بدور التابع لإنجلترا إلى حدٍّ كبير.

ومع تَراجُع المشروع الاستعماري الكاثوليكي، ظهر المشروع الاستعماري البروتستانتي وانتقل مركز الثقل من حوض البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الأطلسي. فظهرت هولندا كقوة استعمارية وتبعتها إنجلترا التي تزايدت قوتها وأصبح لها مركز الصدارة في العالم. وقد زاحمتها ألمانيا بعض الوقت في نهاية القرن التاسع عشر. ولكن ظهور الولايات المتحدة باعتبارها القوة الرأسمالية العظمى رجح كفة التشكيل الأنجلو ساكسوني داخل التشكيل الاستعماري البروتستانتي. وفي القرن الثامن عشر ظهرت روسيا باعتبارها القوة الاستعمارية الأرثوذكسية. ويُلاحَظ أن التقسيم الثلاثي الديني: كاثوليك ـ بروتستانت ـ أرثوذكس، يقابله تقسيم ثلاثي عرْقي: لاتين ـ أنجلو ساكسون ـ سلاف، وهذا يدل على أن الدين إن هو إلا ديباجة وقشرة رقيقة تغطي المصالح الاقتصادية والرؤى العرْقية. وقد عبَّر الصراع بين القوى الاستعمارية المختلفة بديباجاتها الدينية عن نفسه، فكانت كل دولة تحاول حماية أقلية دينية ما وتحفظ لها حقوقها، وهذا يعني في واقع الأمر وضعها داخل مجال نفوذ الدولة الحامية وتحويلها إلى مادة بشرية تابعة لها. فكانت فرنسا تدعم الكاثوليك وتحميهم، وقامت روسيا بدعم الأرثوذكس. وقد كانوا يظنون أنه، مع سقوط الدولة العثمانية، سيقوم الرعايا الكاثوليك والأرثوذكس بالمطالبة بفلسطين لدولهم الراعية (ولذا حرص الصهاينة على إقناع الإيطاليين والفرنسيين بأن النشاط الصهيوني لن يُعرِّض مصالحهم للخطر).

لكن أنشط القوى الاستعمارية كانت هي القوة البروتستانتية (البروسية والإنجليزية). وحيث لم يكن يوجد عرب بروتستانت، كان لابد من البحث عن أقلية « لحمايتها »، فقام نشاط تبشيري بروتستانتي قوي بين المسيحيين العرب (الأرثوذكس والكاثوليك) ، وهذه حقيقة ذات مغزى عميق: مجال النشاط التبشيري الغربي الأساسي ليس المسلمين وإنما المسيحيون العرب، كما أن أعضاء الجماعات اليهودية أصبحوا مرشحين لأن يلعبوا دور الأقلية القابلة للحماية والرعاية.

وقد نشأ تنَافُس عميق بين الدول الاستعمارية لحماية الأقلية التي تتبعها. ومن ثم زاد عدد اليهود الذين تمتعوا بالحماية الأجنبية في فلسطين مع منتصف الخمسينيات إلى خمسة آلاف، أي أن نصف يهود فلسطين أصبحوا من يهود الحماية (مقابل يهود الراية العثمانيين). وقد عملت القنصليات الأجنبية على الحيلولة دون قيام السلطات العثمانية بتطبيق القوانين التي كانت تهدف للحد من تَدفُّق اليهود على فلسطين. كما قامت هذه القنصليات بمساعدتهم في عملية التحايل على القانون حتى يمكنهم شراء الأراضي الزراعية.

وقد ظهر الصراع بين أشكال الاستعمار المختلفة في عدة حوادث من أهمها حادثة دمشق، وذلك حين وقف القنصل الفرنسي بشكل واضح إلى جانب الكاثوليك السـوريين الذين وجهـوا تهـمة الدم لبعض يهود دمشق، وكان موقف الحكومة الفرنسية من الأمر كله يتسم بالفتور الشديد وعدم الاكتراث بأعضاء الجماعة اليهودية، على عكس موقف الحكومة الإنجليزية التي تحركت وبشكل حاسم لنصرتهم؛ أي نصرة أعضاء الأقلية التي تقوم بحمايتها. وشهد منتصف القرن التاسع عشر حركة لحماية الأقلياتفأنشئت عام 1842 مطرانية القدس البروسية الإنجليزية (أُلغيت الاتفاقية عام 1886 بعد أن قوي المشروع الاستعماري الألماني) وأُسِّست في العام نفسه قنصلية ألمانية كانت تحاول هي الأخرى حماية اليهود. وأُسِّست عام 1850 جمعية إغاثة اليهود البائسين، وفي عام 1852 تم تأسيس جمعية تشجيع العمل الزراعي اليهودي على الأرض المقدَّسـة. وشـهد عام 1865 تأسيس صندوق استكشاف فلسطين.

وقد استمرت حماية الأقليات حتى بداية الحرب العالمية الأولى. ففي عام 1914 تدخلت وزارة الخارجية الألمانية لحماية اليهود الروس في فلسطين من الطرد، وقد تُوِّجَت حماية اليهود بصدور وعد بلفور ثم قرار الانتداب وإنشاء الدولة واتفاقية التعاون الإستراتيجي بين إسرائيل والولايات المتحدة.

فــارس بعـد انتشـــار الإســـلام

Persia after the Spread of Islam

بعد الفتح الإسلامي للمنطقة ودخول الفرس إلى الإسلام، تم دمج أعضاء الجماعة اليهودية في فارس في الإطار الإسلامي الأكبر، وأصبح أعضاء الجماعة تابعين لرئيس اليهود في بغداد الذي كان يُسمَّى «رأس الجالوت (أمير يهود المنفى)»، وكانوا يعتمدون على الفتاوى التي تصدرها الحلقة التلمودية في العراق. وقد ازدهرت حياة اليهود الثقافية وتأثروا بالمحيـط الإسـلامي وظهر المذهـب القرّائي تعبيراً عن هـذا التفاعل. وتمتع يهود فارس بحرية الحركة والانتقال التي تمتع بها أهل الذمة آنذاك نتيجة توحيد المنطقة تحت راية الإسلام ولاستتباب الأمن والأمان.

ولم يكن وضع اليهود الاقتصادي مختلفاً عن وضع بقية أهل الذمة، فكان منهم النساجون والصباغون وصائغو الذهب والفضة، وكان منهم التجار وتجار الخمور. وظهرت طبقة من التجار اليهود الأثرياء في أصفهان وشيراز والأهواز. وتزايدت أهمية بعض أثرياء اليهود (الصيارفة) ابتداءً من القرن العاشر الميلادي، فكان منهم الجهابذة أي صيارفة البلاط الذين كانوا يُقرضون الوزراء والخلفاء العباسيين والسلاجقة من بعدهم. وظهر في القرن الثاني عشر الميلادي داود الرائي الماشيَّح الدجال.

وحينما غزا المغول الدولة الإسلامية، تعاون معهم أعضاء الجماعة اليهودية، وبرز نجم سعد الدولة الذي أصبح وزير مالية الإمبراطور المغولي وظـل يشـغل هـذا المنـصب حتى اغتياله عام 1291. وقد عُيِّن بعده رشيد الدولة الذي أُعدم عام 1318. ثم ظهرت الأسرة الصفوية التي فصلت اليهود عن المحيط الحضاري السني، فدخلواالمحيط الحضاري الشيعي.

فارس (إيران) منذ حكم الأسرة الصفوية حتى الوقت الحاضر

Persia (Iran) from the Safavid Dynasty to the Present

حكمت الأسرة الصفوية، وهي أسرة فارسية إسلامية، بلاد فارس في الفترة 1502 ـ 1736، وجعلت المذهب الشيعي دين الدولة، كما جعلت طبقة رجال الدين الشيعة (الملالي) عمودها الفقري. واتسم حكمها باضطهاد الأقليات، فطُبِّق على اليهود المفهوم الشيعي الخاص بنجاسة أهل الذمة. وانقطعت العلاقة تماماً بين أعضاء الجماعةاليهودية ورأس الجالوت (المنفى) في بغداد، وأصبحت لهم قيادتهم المحلية.

وتحت حكم أسرة القاجار (1795 ـ 1925)، زادت عملية قمع اليهود، كما كان الحال في مشهد عام 1839. وقد فُرض الإسلام قسراً على بعض أعضاء الجماعة اليهودية، فتحولوا إلى يهود متخفين، أي أبطنوا اليهودية وأظهروا الإسلام، وأُطلق عليهم مصطلح «جديد الإسلام». وأصبح من حق اليهودي الذي يعتنق الإسلام أن يرث ممتلكات كل أعضاء أسرته الذين ظلوا على دينهم.

وتَدنَّى وضع اليهود الاقتصادي وازداد إقبالهم على صناعة الخمـور، الأمر الذي أدَّى إلى زيادة التـوترات بينـهم وبـين الأغلبيـة المسلمة. وهذا على عكس وضع اليهود في الدولة العثمانية حيث كان آخذاً في التحسن، الأمر الذي نتج عنه تَزايُد اندماجهم في المجتمع، حتى أن يهود أوربا كانوا يفرون من بلادهم طلباً للسلام والأمن والعدالة في الدولة العثمانية. وفي هذه الفترة، اشتهر اليهود في فارس بأنهم يعملون بأمور التسلية والترفيه في بلاط النبلاء، فكان منهم الراقصون ولاعبو السيرك والمغنون.

وحتى هذا التاريخ، كان أعضاء الجماعة اليهودية يشكلون جزءاً من التشكيل الحضاري الشرقي في فارس. ولكن، مع منتصف القرن التاسع عشر الميلادي وظهور الإمبريالية الغربية وما صاحب ذلك من تَزايُد نفوذ الدول الغربية في بلاد العالم الإسلامي، بدأت هذه الدول تتدخل في شئون الأقليات الدينية بحجة حمايتها والدفاع عن هويتها، وذلك لاستخدامها كرأس حربة في مشروعها الاستعماري. وكان يهود العالم الإسلامي من أوائل العناصر التي تَوجَّه إليها الغرب، فأخذت حكومات الغرب تتدخل لصالح يهود إيران كما راحت القيادات اليهودية في الغرب التي تدور في إطار المصالح الغربية، تقابل المسئولين الإيرانيين الذين يزورون العواصم الأوربية وتطلب إليهم تحسين أحوال اليهود. ولعل من أكثر الأمثلة إثارة ما حدث عام 1873 أثناء زيارة الشاه نصر الدين لأوربا، إذ قابله وفد يهودي في برلين في 4 مايو، وآخر في أمستردام في 10 يونيه، وثالث في بروكسل في 17 يونيه، ورابع في لندن (مندوبو الرابطة الإنجليزية اليهودية) في 24 يونيه، وخامس في باريس (الأليانس) في 12 يوليه،وسادس في فيينا في 16 أغسطس، وسابع في القسطنطينية في 20 أغسطس. وحينما كان الشاه في لندن، اجتمع على انفراد (في قصر بكنجهام) مع السياسي الإنجليزي المتنصر دزرائيلي، وهو من أصل يهودي، وكذلك مع سير موسى مونتفيوري زعيم يهود إنجلترا آنذاك. كما اجتمع الشاه في باريس مع أدولف كريمييه الوزير الفرنسي اليهودي، ومع البارون إدموند دي روتشيلد أشهر يهود عصره وأكثرهم ثراءً.

وثمة واقعة مهمة حدثت أثناء مقابلة الشاه لروتشيلد يتعين التعليق عليها، إذ اقترح الشاه على المليونير اليهودي أن يشتري قطعة أرض يجمع فيها كل اليهود المشتتين ويؤسس مملكة يهودية يصبح روتشيلد ملكاً لها. فضحك المليونير اليهودي ولم يُجب. والواقع أن اقتراح الشاه اقتراح صهيوني يسبق ظهور الحركة الصهيونية، وربما كان تعبيراً عن مُخطَّط إستراتيجي كامن تَكشَّف فيما بعد.

وبدأ التدخل الأمريكي لصالح يهود إيران عام 1897 حين قام القنصل العام الأمريكي في طهران بمحاولة الظهور بمظهر حاميهم والمدافع عن حقوقهم. ومع أوائل القرن الحالي، تظهر في الوثائق الدبلوماسية الأمريكية أول إشارة لأعضاء الجماعة اليهودية في إيران. وفي عام 1918، قامت وزارة الخارجية الأمريكية بتحويل بعض المعونات الأمريكية اليهودية إلى يهود فارس، ثم استمر يوسف شاؤول كونفلد، وهو حاخام يهودي وممثل للولايات المتحدة في طهران، في التدخل لصالح يهود إيران (عام 1924). وواكب هذا حركة من جانب جماعة الأليانس تمثلت في فتح مدارس يهودية حيث فُتحت مدرسة عام 1898 في طهـران وأخرى في أصـفهان عام 1901 وثالثـة في شـيراز عام 1903.وبعد الحرب العالمية الثانية، قامت الولايات المتحدة بالمساهمة في تمويل التعليم اليهودي في إيران.

وتغيَّر وضع اليهود تحت حكم أسرة بهلوي (1925 ـ 1979)، ومع ظهور الاتجاهات نحو إدخال القيم الغربية والعلمانية، قامت النخبة الحاكمة الإيرانية بتأكيد أهمية القيم الإيرانية المحلية السائدة في فارس قبل دخول الإسلام لتأكيد العنصر القومي. ومن هنا تغيير اسم الدولة إلى «إيران»، تماماً كما فعل الكماليون في تركيا حينما بعثوا القومية الطورانية المرتبطة بالتاريخ التركي قبل الإسلام. وقد واكب ذلك كله تَزايُد نفوذ أعضاء الجماعة اليهودية في إيران كما يتضح في انتخاب أول يهودي للبرلمان.

ومع هذا، أدَّى تَزايُد معدلات العلمنة وتعميق النفوذ الغربي إلى ظهور خطرين أساسيين: أولهما التبشير وثانيهما البهائية، فيُلاحَظ أن البعثات التبشيرية المسيحية التي نشطت آنذاك في العالم الإسلامي زادت من نشاطها بين اليهود فقامت ببناء المدارس لأبناء أعضاء الجماعة ووفرت لهم الكثير من النشاطات الاجتماعية حتى تيسر تنصيرهم إلى حدٍّ ما وتَحقَّق شيء من النجاح في هذا المجال.

ولكن التحدي الأكبر كان البهائية التي رحب أعضاء الجماعة اليهودية بظهورها باعتبارها سبيل الخلاص لهم. وقد كرس أحد أتباع بهاء الله، ميرزا أبو الفضل، كل جهوده للتبشير بالبهائية بين اليهود، وقام بتفسير بعض آيات العهد القديم، وخصوصاً سفر أشعياء (الإصحاح التاسع) ودانيال (الإصحاح السابع)، للبرهنة على صدق العقيدة البهائية. وتُرجمت بعض المقطوعات المختارة من النصوص البهائية إلى العبرية، الأمر الذي ساهم في ذيوع الأفكار البهائية بين اليهود. وقد نجحت البهائية في اجتذاب أعداد كبيرة من اليهود إلى صفوفها. وربما يكون التركيب الاجتماعي للبهائيين، الذي كان مقارباً إلى حدٍّ ما للتركيب الاجتماعي لليهود، قد ساهم في هذه العملية.

ويُلاحَظ أن معرفة يهود إيران باليهودية كانت ضعيفة إلى حدٍّ ما بسبب انفصالهم عن المراكز الرئيسية لليهودية في العالم، وبسبب عدم وجود حاخامات مدربين التدريب الديني اللازم. فقد كانوا لا يعرفون تمائم الصلاة (تيفلين)، كما كانوا يتبعون عادات دينية لا تعرفها اليهودية الحاخامية مثل الحج إلى قبر إستير وموردخاي (في حمدان) وقبر دانيال (في سوسة) وغيرهم من شخصيات العهد القديم التي يزعم يهود فارس أنهم مدفونون فيها.

ويُلاحَظ كذلك أن يهود فارس يتحدثون بعدة رطانات هي عبارة عن اللغة أو اللهجة السائدة في المنطقة التي عاشوا فيها، في مرحلة تاريخية سابقة، مضافاً إليها بضع كلمات عبرية. وهذه الرطانات تفيد علماء اللغة إذ تحتفظ بصيغ لغوية مندثرة. وإلى جانب الجماعة اليهودية الفارسية، وُجدت جماعة يهودية كردية في المنطقة التي يعيشفيها الأكراد داخل حدود إيران. ولكن لم تقم مؤسسات لتشرف على شئون الجماعة بسبب الخلافات الدائمة بين أعضائها.

وقد بلغ عدد يهود إيران عام 1948 نحو 95 ألفاً. ومع هجرة يهود البلاد العربية إلى إسرائيل، أصبحت الجماعة اليهودية في إيران أكبر جماعة يهودية في الشرق، وبلغ عدد أعضائها ثمانين ألفاً عام 1968 من مجموع السكان البالغ عددهم آنذاك خمسة وعشرين مليوناً. وبعد نشوب الثورة الإيرانية في عام 1979، تناقص عددهم إلى ثلاثين ألفاً في حين زاد عدد سكان إيران إلى ما فوق الأربعين مليوناً، وبلغ عددهم ستة عشر ألفاً عام 1992. ويتركز يهود إيران في المدن، وخصوصاً في طهران. ففي عام 1948، كان 60% منهم يعيشون في طهران وأصفهان وشيراز، ثم زادت النسبة إلى 72% عام 1968. وقد هاجرت أعداد كبيرة من يهود إيران إلى إسرائيل حاملين معهم ممتلكاتهم من السجاد الإيراني الذي تعتبره إيران ضمن ثروتها القومية. ولكن يُلاحَظ أن أعداداً كبيرة منهم تنزح من إسرائيل وتستقر في الولايات المتحدة،وخصوصاً في كاليفورنيا.

الباب الرابع: العالم العربي منذ القرن التاسع عشر

الجماعات اليهودية في العالم العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر : تعداد

The Jewish Communities in the Arab World since the Mid-Nineteenth Century: Numbers

يُلاحَظ أنه، مع بداية العصور الوسطى في الغرب، كان يهود العالم الإسلامي يشكلون أكثر من نصف تعداد يهود العالم. إلا أن عددهـم أخذ في التناقـص حتى أصبحوا يشكلون أقلية لا تتجاوز 10%. وهذا يرجع إلى الأسباب التالية:

1 ـ تحوَّل كثير من اليهـود عن اليهـودية الحاخامية إلى اليهودية القرّائية، وهي شكل من أشكال اليهودية التوحيدية تأثر بالإسلام. ويبدو أن أعداداً كبيرة من القرّائين اعتنقوا الإسلام، وهو ما أثر في وجود اليهود العددي. ولا تُوجَد دراسات إحصائية عن هذا الأمر، ولكن من الصعب تفسير اختفاء اليهود القرّائين وتَناقُص عددهم دون اعتبار اعتناق الإسلام كسبب أساسي.

2 ـ تَراجُع العالم الإسلامي ككل، وهو ما أدَّى إلى نزوح كثير من اليهود عنه.

3 ـ يُعَدُّ الريف مصدراً دائماً للزيادة السكانية. ولما كان يهود البلاد الإسلامية من سكان المدن، فلم تكن هناك مصادر لزيادة أعدادهم، ولهذا أخذت أعدادهم في التناقص.

وفيما يلي عدد يهود العالم العربي قبل أن تحدث التغييرات العددية الكبرى بعد عام 1950:

البلـــد / عـدد الســكان اليهود عام 1950

مصر / 75.000

العراق / 120.000 (110آلاف حسب باتاي)

لبنان / 6.700 (6 آلاف حسب باتاي)

سوريا / 6.000 (13 ألفًاحسب باتاي)

البحرين / 400

حضرموت / 2.000

اليمن / 8.000 (غير مؤكد ، 50 ألفاً حسب باتاي)

عدن / 1.200

ليبيا / 14.000 (38 ألفاً حسب باتاي)

تونس / 100.000

الجزائر / 120.000 (130 ألفاً حسب باتاي)

المغرب / 225.000 (العدد الكلي حسب باتاي)

مراكش الإسبانية / 14.700 (عام 1940)

طنجة / 7.000

ويُلاحَظ أن نسبة السكان اليهود إلى التعداد العام في كل بلد كانت ضئيلة جداً.أمـا في عامي 1958 و1969، فقـد كانت الأعـداد كالتالي:

البلـــد / عام 1958 / عام 1969

مصر / 40.000 / 1.000

العراق / 6.000 / 2.500

لبنان / 6.000 / 3.000

سوريا / 5.000 / 4000

اليمن / 3.500 / ــــــ

ليبيا / 3.750 / 100

تونس / 85.000 / 10.000

الجزائر / 140.000 / 1.500

المغرب / 200.000 / 50.000

وبناءً على هذا الإحصاء، كان عدد الجماعات اليهودية في العالم العربي عام 1950 يتراوح بين 650 ألف و800 ألف. وهنا ينبغي أن نتوقف قليلاً عند المُصطلَح الذي نستخدمه: هل ينطبق مُصطلَح «يهود البلاد العربية» على اليهود العرب وغير العرب المقيمين في البلاد العربية حتى لو حملوا جنسيات أجنبية، أم يجب أن نقصر استخدام المُصطلَح على اليهود حاملي الجنسيات العربية المختلفة، والذين ينتمون إلى التشكيل الحضاري العربي الإسلامي، أي إلى اليهود المستعربة؟ الواقع أننا حين نتحدث عن مسيحيي البلاد العربية نتحدث عن عرب يؤمنون بالمسيحية، ولا يرد لنا على بال أن نضع ضمن هذه المجموعة أعضاء الإرساليات المسيحية الغربية لمجرد أنهم يقيمون في البلاد العربية. ومن المستحسن أن نميِّز بين «يهود البلاد العربية» من جهة و«اليهود العرب» أو «العرب اليهود» من جهة أخرى. والعدد 800 ألف يشير إلى يهود البلاد العربية، أما العرب اليهود فعددهم أقل من ذلك بكثير، إذ يجب أن نستبعد من هذا الرقم الأغلبية الساحقة من يهود الجزائر ومصر الذين كانوا يحملون جنسيات أجنبية، وإذا طرحنا عددهم يكون الباقي هو 600 ألف تقريباً. أما بالنسبة إلى الباقين، فيمكننا أن نستبعد من هذا العدد نسبة 25 ـ 30% من عدد أعضـاء الجمـاعات اليهودية باعتبارهم أجانب، فنسبة اليهود الأجانب إلى اليهود المستعربة كانت كبيرة جداً في طنجة والمغرب الإسبانية وتونس، بل كانت تقترب من نسبتهم في الجزائر ومصر، ولكنها كانت أقل في المغرب. وهذه البلاد تضم 346.500، أي أكثر من 50% من العدد الباقي. وتقل نسبة اليهود الأجانب بقدر أكبر في العراق، حيث كان يوجد 120 ألفاً، وتكاد تنعدم في اليمن وعدن وهي بلاد تضم بضعة آلاف وحسب.

ويُلاحَظ تَركُّز أعضاء الجماعات اليهودية في المدن بسبب اشتغالهم بالمهن وتركزهم في قطاعات اقتصادية بعينها. فيهود العراق الذين بلغ عددهم 118.000عام 1947 تَركَّز منهم في بغداد 77.542. كما كانت تُوجَد نسبة مرتفعة منهم في البصرة والموصل، أي أن معظم يهود العراق كانوا من سكان المدن، مع العلم بأن هذا يستبعد يهود كردستان البالغ عددهم 18 ألفاً. والوضع نفسه ينطبق على مصر، ففي إحصاء 1937 بلغ عدد يهود مصر 63.550 كانت تعيش أغلبيتهم (59 ألفاً) في القاهرة والإسكندرية، منهم 34.103 في الأولى و24.290 في الثانية. وبقيتهم موزعة على مدن صغيرة مثل المنصورة وطنطا ودمنهور. وفي عام 1947، كان 96% من يهود مصر في القاهرة والإسكندرية. أما في المغرب، فيعيش 80% من اليهود في مراكز حضرية مثل الدار البيضاء والباقون موزعون على مدن أخرى مثل مراكش وفاس.

وقد أخذت الجماعات اليهودية في العالم العربي في الاختفاء بعد عام 1950 حتى لم يبق سوى بضع مئات في بلد مثل مصر والعراق وعدة آلاف في المغرب، وذلك للأسباب التالية:

1 ـ ظهور الاقتصـاد الوطني الذي ضـيَّق الخنـاق على العناصر الأجنبية، وكانت نسبة كبيرة من أعضاء الجماعات اليهودية لا تحمل جنسية عربية، وخصوصاً أن الاقتصاد الوطني الجديد تلعب الدولة فيه دوراً كبيراً.

2 ـ ظهور طبقة تجارية ومالية وطنية بدأت تلعب دوراً اقتصادياً نشيطاً وشكلت منافسة قوية وخطيرة للعناصر التي كانت مهيمنة من قبل، كما أن ظهور الدول القومية لعب دوراً مماثلاً.

3 ـ ظهور الدولة الصهيونية بما خلقته من مشاكل خاصة بولاء يهود البلاد العربية،وهجرة أعداد كبيرة منهم إلى العالم الغربي وإسرائيل.

ويصل عدد يهود البلاد العربية حسب إحصاء عام 1986 إلى 26.900، أما عام 1992 فيصل عددهم إلى 13.200على النحو التالي:

البلـــد / عام 1986 / عام 1992

المغرب / 17.000 / 7.500

سوريا / 4.000 / 1.200

تونس / 3.700 / 2.000

اليمن / 1.200 / 1.600

الجزائر / 300 / 300

لبنان / 250 / 200

مصر / 250 / 200

العراق / 200 / 200

المجموع / 26.900 / 13.200

وكما نرى، بلغ العدد الإجمالي عام 1986 نحو 27 ألفاً إن أضفنا بضعة أفراد في ليبيا والسودان وغيرهما من البلاد. وقد انخفض هذا العدد إلى النصف تقريباً في غضون ستة أعوام. وكل هذا يعني أنه لن يوجد في القرن القادم يهود في أيٍ من أنحاء العالم العربي. لكن هذه ليست ظاهرة مقصورة عليه حيث يتوقع الدارسون لأسباب مختلفة أن يختفي أعضاء الجماعات اليهودية من أوربا الشرقية وإنجلترا وأمريكا اللاتينية وأن تختفي البقية الباقية في الهنـد، وهــي ظاهـرة يُطلَق عليها مُصطلَح «موت الشعب اليهودي».

الجماعـــات اليهـــودية فــي العـــالم العـــربي: نمــــط الهجــــرة

The Jewish Communities in the Arab World: Pattern of Migration

تدخل هجرة أعضاء الجماعات اليهودية في العالم العربي في إطار هجرة أعضاء الجماعات اليهودية في العالم في العصر الحديث، وهي هجرة من البلاد الأقل تقدماً من الناحية الاقتصادية إلى البلاد الأكثر تقدماً، ومن البلاد التي تلعب فيها الدولة دوراً اقتصادياً كبيراً إلى بلاد المشروع الحر حيث يمكنهم تحقيق قدر أكبر من الحراك الاجتماعي. وقد لاحظنا أن الهجرة اليهودية في العصر الحديث تشكل جزءاً لا يتجزأ من حركة الاستيطان الغربي (وخصوصاً الأنجلو ساكسوني). ولكن يُلاحَظ أن يهود البلاد العربية كانوا يضمون بينهم أعداداً كبيرة من السفارد المتأثرين بالثقافة اللاتينية. كما أن الأليانس، حينما قامت بعملية صبغ لأعضاء الجماعات اليهودية في العالم العربي بصبغة تغريبية، صبغتهم أيضاً بصبغة فرنسية لاتينية. ويُلاحَظ أن معظم العناصر الثرية وأعضاء النخبة بين يهود البلاد العربية هاجروا إلى فرنسا أو الولايات المتحدة أو أمريكا اللاتينية. وهم برفضهم الهجرة إلى إسرائيل يتبعون النمط المذكور نفسه إذ أن مثل هذه الهجرة لا تحقق حراكاً لهذه الشريحة من أعضاء الجماعة بينما يمكن تحقيق هذا الحراك في البلاد الغربية المتقدمة. ولذا، نجد أن حركة هجرة يهود البلاد العربية تتجه أساساً إلى فرنسا وأحياناً أمريكا اللاتينية. ولكن العدد الأكبر اتجه إلى إسرائيل، أي أنها هجرة إلى بلد استيطاني لتحقيق قسط أكبر من الحراك الاجتماعي، هجرة من بلاد أقل تقدماً إلى بلد أكثر تقدماً، ومن بلاد بدأ يظهر فيها اقتصاد قومي أو اشتراكي إلى بلاد فيها مجال أكبر للمشروع الحــر.

وقد هاجر يهود الجزائر كلهم إلى فرنسا، كما هاجر إليها كثير من يهود تونس ومعظم يهود مصر، وكذلك الجزء الأكبر من يهود المغرب. ويبين باتاي أن عدد يهود المغرب كان عام 1947 نحو 280 ألفاً. فإذا أخذنا في الاعتبار الزيادة الطبيعية ونسبتها 1.8%، يمكن القول بأن بين الـ 250 ألف يهودي مغربي ممن هاجروا خلال الفترة 1947 ـ 1969 نحو 117 ألفاً ذهبوا إلى إسرائيل.

ويرى البعض أن أكبر دليل على انتماء يهود البلاد العربية لبلادهم هو الدور الصغير الذي لعبوه في الهجرة الاستيطانية إلى فلسطين. والواقع أنَّنا لا نجد بين العدد 460ألفاً الذين دخلوا فلسطين بين عامي 1919 و1948 سوى 42 ألفاً قدموا من البلاد العربية والإسلامية، أي 9% من الهجرة العامة والتي شكَّل الإشكناز النسبة الكبرىمنها. ولكننا إذا أخذنا بالعدد الذي يقدر يهود العالم بنحو 16 ـ17 مليوناً ويهود البلاد العربية بنحو 800 ألف، فإننا نجد أنهم كانوا يشكلون 5 ـ 6% من مجموع يهودالعالم، وبالتالي تكون نسبة 9% من حاصل الهجرة اليهودية نسبة عالية للغاية مقارنة بالهجرة من أوربا.

هجرة أعضاء الجماعات اليهودية في العالم العربي وتركيا وإيران

البلد / 1948-1951 / 1952-1954 / 1955-1957 / 1958-1960 / اجمالي48-1960

المغرب / 30.750 / 15.903 / 70.053 / 9.236 / 125.942

الجزائر / 1.523 / 396 / 2.483 / 529 / 4.931

تونس / 13.139 / 5.902 / 15.267 / 2.149 / 36.475

ليبيا / 30.482 / 1.609 / 198 / 94 / 32.383

مصر / 16.508 / 3.203 / 14.562 / 1.051 / 35.328

اليمن / 45.199 / 698 / 10 / 55 / 45.962

عدن / 3.155 / 151 / 7 / 95 / 3.408

سوريا ولبنان / 2.898 / 461 / ـــــ / ـــــ / 3.359

تركيا / 34.213 / 861 / 2.650 / 1.316 / 39.040

العراق / 121.512 / 1.382 / 361 / 233 / 123.488

إيران / 24.804 / 5.750 / 2.035 / 7.230 / 40.061

الإجمالي / 324.183 / 36.316 / 107.626 / 22.230 / 490.359

ولكن الأرقام هنا مضللة لأنها تتعامل ليس مع العرب اليهود (أي اليهود المحليين) وحسب وإنما تتعامل أيضاً مع يهود البلاد العربية ككل (أي اليهود الوافدين من الغرب). ولو أن أرقام الهجرة فرَّقت بين اليهود المحليين من حاملي الجنسيات العربية واليهود من حاملي الجنسيات الغربية، لوصلنا إلى نتائج مغايرة قليلاً. وعلى كلٍّ، فإن هذه المناقشة أصبحت مجرد مناقشة أكاديمية إذ أنَّ تأسيس الدولة الصهيونية خلق حركية ضخمة ابتلعت كل يهـود العـالم العربي، المحليين منهــم والوافـدين، وأدَّت إلى اختــفائهم تماماً، باستــثناء المغـرب التي هاجـر معظــم أعضاء الجماعة اليهودية بها إلى الكيان الصهيوني وبقيت فيه أقلية يهودية آخذة في التناقص.

ومن المفارقات التي لها أعمق الدلالة أن يهود البلاد العربية كانوا يُشكّلون أقلية صغيرة جداً لا أهمية لها بالنسبة ليهود العالم، وأصبحوا الآن يشكّلون أغلبية سكان إسرائيل. وأكبر المجموعات التي هاجرت هي يهود المغرب، إذ يوجد في الدولة الصهيونية 480 ألف يهودي من المغرب أو من أصل مغربي و125 ألف يهودي من تونس والجزائر و78 ألفاً من ليبيا، أي أن هناك 682 ألف يهودي من المغرب العربي، وهم يشكلون 20% من يهود المستوطَن الصهيوني. ومن أهم الشخصيات اليهودية من أصل مغربي في المؤسسة الحاكمة أهرون أبو حصيرة الوزير السابق ورئيس حزب تامي، والحاخام عوفيديا يوسف، وديفيد ليفي أحد أقطاب حزب الليكود.أما اليهود من أصل عراقي فإن عددهم يبلغ 129.499، ومن أشهرهم شلومو هليل. ويوجد 245 ألف يهودي يمني أو من أصل يمني: (49.500 من مواليد اليمن و161.100 ولدوا لآباء يمنيين و35 ألفاً كانوا في فلسطين عام 1948). ويهود اليمن هم الوحيدون الذين كانت تُوجَد منهم أعداد كبيرة نسبياً في المستوطَن الصهيوني قبل عام 1948، فلقد أراد المستوطنون الصهاينة أن يحلوا معضلة العمل العبري باستخدام يهود في الاقتصاد الصهيوني الاستيطاني، ولكنهم لم يجدوا العمالة الكافية بين يهود أوربا، فاستوردوا يهود اليمن. ويُوجَد إلى جانب ذلك بضعة آلاف من سوريا، وانضم إليهم 130 ألف يهودي من إيران و100 ألف يهودي كردي.

وقد سمحت المغرب، كما سمح العراق، لليهود الذين هاجروا إلى إسرائيل بالعودة، فعادت أعداد لا يُعتَد بها إحصائياً رغم دلالتها. وتكمن أهمية القرّار في أنه ضربة في الصميم لأسطورة الشرعية الصهيونية التي تطرح فكرة اليهودي الخالص الذي لا ينتمي إلا لوطنه اليهودي، إذ أنَّ القرّار العربي يؤكد عروبة هؤلاء اليهود وانتماءهم وانتماء كل أعضاء الأقليات العربية إلى وطنهم العربي.

الجماعات اليهودية في العالم العربي: الانقسامات الدينية والعرْقية

The Jewish Communities in The Arab World: Religious and Ethnic Divisions

مع منتصف القرن التاسع عشر، ومع بداية تفكك الدولة العثمانية ودخول الدول العربية في الدائرة الاستعمارية، لم يكن أعضاء الجماعات اليهودية في العالم العربي يُشكِّلون وحدة دينية أو ثقافية أو لغوية. ويمكن تقسيم الجماعات اليهودية على النحو التالي:

1 ـ اليهود المستعربة الذين يتحدثون العربية وينتمون إلى التشكيل الحضاري العربي الإسلامي. ويمكن أن نصنف يهود اليمن ضمن هؤلاء رغم خصوصيتهم التي تميِّزهم عن بقية اليهود المستعربة.

2 ـ يهود السفارد الذين يتحدثون اللادينو.

3 ـ يهود الإشكناز الذين يتحدثون اليديشية.

4 ـ يهود الغرب الذين يتحدثون لغات بلادهم المختلفة: فرنسية وإنجليزية وألمانية.

5 ـ يهود البربر في جبال الأطلس ويتحدثون اللغات البربرية المختلفة.

6 ـ يهود كردسـتان في العـراق وإيران الذين يتحـدثون الكردية والآراميـة. وكان بعضهم يتحدث العربية، ولذا كانوا يُعدُّون من اليهود المستعربة.

وقد عبَّر عدم التجانس هذا عن نفسه في شكل صراع بين الجماعات اليهودية المختلفة. وفي المغرب، كان اليهود السفارد الوافدون إلى المغرب يشيرون إلى اليهود الأصليين على أنهم «توشافيم»، أي سكان أصليون أو محليون، وهي عبارة تحمل بعض الإيحاءات القدحية. وكان اليهود الأصليون يشيرون بدورهم إلى الوافدين باعتبارهم «مجوراشيم»، أي المنفيين أو المنبوذين! وكان يهود صنعاء في اليمن ينظرون بعين الاحتقار إلى يهود الجبال ويعتبرونهم أدنى مرتبة منهم. كما لم يكن الفريقان يتزاوجون فيما بينهم. وفي مصر، كان السفارد والإشكناز ينظرون إلى يهود مصر المستعربة بشيء من التعالي. كما كان السفارد يشيرون إلى الوافدين الجدد من الإشكناز على أنهم «شاخت»، أي الأشرار، بسبب تَورُّط عدد كبير منهم في الأنشطة المشبوهة، وخصوصاً الدعارة، وقد كانوا ينظرون إليهم بقدرٍّ كبير من التعالي. وهذه المواقف كانت في معظم الأحوال انعكاساً لمواقف مشابهة في المجتمع وسائدة بين أعضاء الأغلبية. وقد نشب الصراع الحاد بعد ذلك بين دعاة الصهيونية وأعدائها. والواقع أنَّانقسام يهود البلاد العربية كان بارزاً في الإطار التنظيمي حيث لم يكن يتسم بأية مركزية أو وحدة إلا إذا قامت الدولة بفرضه كما حدث في مصر.

وكان أعضاء الجماعات اليهودية المستعربة مندمجين حضارياً في المحيط الثقافي العربي الإسلامي لكل جماعة. فكان يهود المغرب مغاربةً أو بربراً لهم نفس فلكلور المغاربة أو البربر ونفس المستوى الثقافي والحضاري، فكانوا يزورون أولياء اليهود، بل هناك حالات كثيرة كان فيها المسلمون واليهود يتبركون بوليّ واحد ويقومون بزيارته. وقد طلبت حكومة فيشي الموالية للنازي من الحكومة المغربية تسليم أعضاء الجماعات اليهودية للنازي لإبادتهم كما حدث مع أعداد كبيرة من يهود فرنسا. ولكن العاهل المغربي محمد الخامس تصدَّى لهم، وهو ما أدَّى إلى نجاة الجماعة اليهودية من خطر الإبادة. والشيء نفسه ينطبق على يهود ليبيا والجزائر ومصر وغيرها من البلاد العربية، فكان يهود مصر يزورون مقام سيدي أبو حصيرة الذي كان يزوره معهم المصريون من المسلمين والمسيحيين. وكان يهود متماته في جبال الأطلس بتونس يعيشون في الكهوف مثل المسلمين. ولكن كان هناك بالطبع العناصر اليهودية غير العربية التي كانت مرتبطة أساساً بالتشكيل الحضاري الغربي ثم الاستعماري. وكان السفارد ضمن هذه العناصر. وكذلك، بطبيعة الحال، الإشكناز الذين استوطنوا في العالم العربي مع تَزايُد النفوذ الغربي ومع تَعثُّر التحديث في روسيا ابتداءً من عام 1882.

وقد ترك وصول يهود الغرب (الإشكناز والسفارد) آثاراً متنوعة من منطقة إلى أخرى. ففي المغرب، اندمج يهود المدن الساحلية مع السفارد، واصطبغوا بالصبغة السفاردية. أما في المدن الداخلية، فقد احتفظ اليهود بصبغتهم العربية أو البربرية، بحيث كانوا 36.8% من السفارد و30.5% من العرب و6.95% من البربر (في نهاية القرن التاسع عشر). أما في الجزائر، فقد حدث العكس إذ تم استيعاب السفارد ضمن السكان الأصليين، وأصبح الجميع يهوداً مستعربة. ثم انضم إليهم في القرن السابع عشر الميلادي نخبة سفاردية من ليجورن (وقد سميت «جورينيم») قامت بدور الجماعة الوسيطة. وفي تونس، انقسمت الجماعة اليهودية إلى التوانسة وهم اليهودالمستعربة، والجرانا أو الغرانا وهم السفارد من غرناطة، والجورينيم من ليجورن أيضاً.

ومن الناحية الدينية، ينقسم اليهود إلى:

1 ـ يهود حاخاميين يؤمنون بالتوراة والتلمود، وهؤلاء كانوا هم الأغلبية. ومعظم هؤلاء كان يتبع النهج السفاردي، وكان بعضهم يتبع النهج الإشكنازي، وكان لكل فريق معابده المستقلة.

2 ـ يهود قرّائين، وكانوا يوجدون أساساً في مصر حيث بلغ عددهم عام 1947 نحو 3.486 (مقابل 62.153 يهودي حاخامي).

3 ـ يهود سامريين.

4 ـ يهود لادينيين وعلمانيين.

ويبدو أن التيارات اليهودية الدينية الجديدة (وهي أساساً تيارات إشكنازية)، مثلها مثل اليهودية الإصلاحية والمحافظة وغيرها، لم تجد طريقها إلى العالم العربي.

وكان اليهود يختلفون في درجة تَمسُّكهم بتعاليم دينهم حسب معدلات العلمنة الموجودة في مجتمعهم. فكان مدى تَمسُّك يهود مصر باليهودية يختلف عن مدى تمسك يهود اليمن الذين كانوا معزولين عن العالم ومشهورين بتمسكهم بتعاليم دينهم كما يتضح في طريقة قصهم شعر رأسهم وتركهم السوالف وإطلاقهم اللحى. وقد نشبت صراعات دينية بين أعضاء هذه الفرق، وخصوصاً بين الحاخاميين والقرّائين والسامريين، بحيث كان لكل فرقة دينية معبدها وحاخامها وتنظيماتها.

لقد ضمنت دساتير العراق ومصر والمغرب وغيرها من الدول العربية لليهود المساواة في الحقوق الدينية والسياسية والاقتصادية. وكان لكل جماعة يهودية مدارسهاوصحفها، العربية والإنجليزية والفرنسية، ومحاكمها (إلى أن أُلغيت المحاكم الشرعية في بعض الدول العربية). وكان تنظيم الجماعة اليهودية (الذي كان يترأسه شخص يُقال له الناسي أو الحاخام الأكبر) يشبه منصب بطريرك الأقباط في مصر يساعده مجلس أو لجان معيَّنة أو منتخبة تشرف على كل الشئون الاجتماعية للجماعـة التي لا تندرج تحـت نفـوذ أو سـلطان الدولة. وفي معظم الأحيان، كانت كل جماعة يهودية سفاردية أو إشكنازية أو مستعربة... إلخ تحتفظ باستقلالها عن الجماعات الأخرى، ولكن كان يتم التنسيق بين هذه الجماعات أحياناً بحيث تعترف كلها بسلطة مركزية واحدة كما حدث في مصر.

ويُلاحَظ أن ظاهرة الجيتو الغربية ليس لها نظير في العالم العربي إلا في المغرب حيث كان اليهود يعيشون في حي خاص بهم يُسمَّى «الملاح»، والكلمة مشتقة من كلمة «ملح» ولا يُعرَف السبب هذه التسمية على وجه التحديد، وإن كان يُقال إنه سُمي كذلك لأنه بعد تنفيذ حكم الإعدام في أعداء السلطان كان رأس المعدوم يُفصَل عن جسده ثم يتم تمليحه حتى لا يصاب بالتلف عند عرضه على الجمهـور، كما وردت تفسـيرات أخـرى لا تقل طرافة عن هذا التفسير. أما حارة اليهود، فلم تكن جيتو بأي معنى، وإنما كانت مجرد مكان يتركز فيه أعضاء الجماعة نفسها كما يحدث في الولايات المتحدة على سبيل المثال.

الجماعات اليهودية في العالم العربي: تحولها إلى عنصر استيطاني

The Jewish Communities in the Arab World: Their Trans- formation into a Colonial Settler Element

بعد أن نجحت الدول الغربية في القضاء على تجربة محمد علي في النهضة القومية في مصر والعالم العربي، وفي إصلاح الدولة العثمانية ككل، تعاظم النفوذ الغربي في العالم العربي وتراجعت الدولة العثمانية التي أخذت تتنازل للقوى الغربية بالتدريج. وقد أخذ هذا شكل قوانين الامتيازات وحماية الأجانب. وانتهى الأمر إلى القضاء على الدولة العثمانية واقتسام معظم أجزاء العالم العربي بين الدول الغربية، فأصبحت العراق ومصر والسودان وفلسطين وعدن وبعض دول الخليج تابعة للإنجليز، وتونس والجزائر والمغرب وسوريا ولبنان لفرنسا، وليبيا لإيطاليا، وأجزاء من المغرب لإسبانيا. وقد تَكرَّس هذا الوضع بانتهاء الحرب العالمية الأولى. وحاول الاستعمار الغربي في العالم العربي الإسلامي أن يوسع رقعة نفوذه بين السكان عن طريق فرض الحماية على أعضاء الأقليات وإعطائهم حقوقاً ومزايا لم تكن متاحة لأعضاء الأغلبية بحيث تتحول الأقلية إلى جيب سكاني ترتبط مصالحه وتطلعاته بالقوى الاستعمارية الحامية وتتحول هي إلى جماعة وظيفية وسيطة بين القوة الاستعمارية والسكان المحليين، وكانت هذه العملية تسمى عملية «حماية» الأقليات، وهذا هو النمط الذي يسم علاقة إسرائيل بالعالم الغربي ويسم موقف الحضارة الغربية من اليهود عبر تاريخها. ويبدو أن عملية حماية الأقليات أول شكل من أشكال الاستعمار الاستيطاني عن طريق تحويل أقلية محلية مندمجة إلى عنصر غريب يدين بالولاء لقوة غربية غريبة! ولعبت المؤسسات اليهودية الغربية، وخصوصاً الأليانس ذات الاتجاه الصهيوني، دوراً أساسياً في ذلك. فأسست الأليانس سلسلة من المدارس في كل أنحاء العالم العربي والإسلامي دخلها أبناء اليهود من الجماعات كافة سواء المحلية أو الوافدة. ولم يتعلَّموا في هذه البلاد لغة بلادهم (العربية) وإنما تعلَّموا الفرنسية أساساً ولغات أوربية أخرى، وهو ما أدَّى إلى صبغ معظم أعضاء الجماعة اليهودية بصبغة غربية فرنسية فاقعة وإلى عزلهم عن بني أوطانهم وتهميشهم من الناحية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. ويُلاحَظ الانجذاب الشديد ليهود البلاد العربية إلى فرنسا والثقافة الفرنسية، بما في ذلك يهود مصر التي كانت مستعمرة إنجليزية، ويهود ليبيا وكانت مستعمرة إيطالية. ولهذا، اتجه أغلبهم بعد الهجرة من البلاد العربية إلى فرنسا أو إلى القسـم الفرنسـي في كنـدا، أو إلى أمريكا الجنوبيـة ذات الثقافـة اللاتينية.

ومما عمق هذا الاتجاه نحو التهميش الاقتصادي والثقافي، وجود عناصر يهودية وافدة من الغرب كان يفوق عددها أحياناً عدد اليهود المحليين. فعدد يهود مصر، على سبيل المثال، في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، كان بين ستة آلاف وسبعة آلاف. وفي عام 1897، بلغ عددهم خمسة وعشرين ألفاً نصفهم من الأجانب الوافدين. وفي عام 1917، بلغ عددهم 60 ألفاً 58% منهم من الأجانب. ومع حلول عام 1947، أي عشية إنشاء الدولة الصهيونية، كانت نسبة المصريين بين أعضاء الجماعة اليهودية لا تتجاوز 20%. وفي دمشق وحلب، كان نصف اليهود «سنيوريس فرانكوس»، وهي عبارة أسبانية تعني «الأسياد الفرنجة»، وهو ما كان يعني أنهم وافدون يتمتعونبالامتيازات.

وكان العنصر الوافد يشكل، بطبيعة الحال، عامل جذب قوياً للعناصر المحلية إذ كان لدى الوافدين من الكفاءات ما يؤهلهم للتعامل مع القوة الاستعمارية المهيمنة ومع الاقتصاد الحديث الآخذ في التشكل. ولذا، نجد أن العنصر المحلي سرعان ما اكتسب الصبغة الغربية حتى أصبح من الصعب، في كثير من الأحوال، تمييز اليهود المستعربة المحلية عن اليهود الوافدين. ولقد كان يهود العراق استثناء من هذه القاعدة، إذ لم تنضم أعداد كبيرة منهم إلى يهود العالم الغربي واحتفظوا بهويتهم العربية. وكانت هناك شريحة اكتسبت الثقافة الغربية في مدارس الأليانس واعتمدت عليها سلطات الاحتلال البريطانية للخدمة في إدارتها الجديدة في أعقاب الحرب العالمية الأولى. ويبدو أن أعضاء الجماعة اليهودية لا يختلفون كثيراً في سلوكهم هذا عن بعض أعضاء النخبة الحاكمة في البلاد العربية ولا عن بعض أعضاء طبقات المجتمع الهامشية الأخرى الذين يتركون ثقافتهم الوطنية وهويتهم ويكتسبون ثقافة الغازي ويتعلمون لغته. وهم في الواقع يهدفون إلى أن يحققوا حراكاً اجتماعياً، وينتهي بهم الأمر إلى التوحد الكامل مع هذا الغازي ثم الرحيل معه حينما تحين الساعة (كما حدث لبعض أعضاء الطبقات الحاكمة في العالم العربي).

وتجب إضافة أن أعضاء الأقليات أكثر تعرضاً لهذه العملية من أعضاء الأغلبية بسبب هامشيتهم فيما يتعلق بالرموز الأساسية للمجتمع. ومن المفارقات التي تستحق التسجيل أن عملية إعتاق يهود العالم العربي وتحديثهم تمت خارج نطاق المجتمع العربي نفسه وبمعدلات مختلفة عن معدلات التحديث فيه، كما أنها تمت من خلال القوى الغازية. ولذلك، فبينما أدَّى الإعتاق والتحديث في الغرب إلى اندماج اليهود في مجتمعاتهم أدَّت العملية السياسية والاجتماعية نفسها إلى نتيجة عكسية تماماً في المجتمع العربي.

وقرر كثير من المواطنين اليهود الاستفادة من قوانين الامتيازات، فتجنسوا بإحدى الجنسيات الأوربية حيث كانت بعض الدول الغربية تشجع هذا الاتجاه لخلق رأس جسر لها. وفي الجزائر بالذات، أعطيت الجنسية الفرنسية لكل يهود الجزائر في محاولة لزيادة الكثافة البشرية الفرنسية داخل الجزائر، وكان هذا جزءاً من المخطط الاستعماري الاستيطاني. ومع اندلاع الثورة الجزائرية، كانت أغلبية يهود الجزائر العظمى مواطنين فرنسيين. وقد كان العدد أقل في تونس والمغرب نظراً لأن الحكومة الفرنسية لم تشجع هذا الاتجاه هناك.

وبعد احتلال بريطانيا للعراق في أعقاب الحرب العالمية الأولى، سعى أعضاء الجماعة اليهودية في العراق للحصول على الجنسية البريطانية، فقدموا طلبات بهذا المعنى إلى المندوب السامي البريطاني عام 1921 ولكن بريطانيا لم تستجب لطلبهم.

ومن العناصر الأخرى التي سـاهمت في تعمـيق الاتجـاه نحو التغريب، تركيب أعضاء الجماعات اليهودية الوظيفي والاقتصادي، وخصوصاً بين الوافدين. فقد تركزوا فيمهن تجارية معينة (تجارة دولية) ومالية (الربا والسمسرة وأعمال البورصة) وحرفية (صناعة الخمور)، وهي مهن حولتهم إلى جماعات وظيفية وسيطة مرتبطة أساساً بالقطاع الاقتصادي الغربي وبالقوة المهيمنة. ولم يكن من قبيل الصدفة أن معظم قرّارات التعريب أو التأميم كانت دائماً تضر بمصالح أعضاء الجماعة اليهودية والجماعات شبه الأوربية الأخرى، مثل اليونانيين والإيطاليين والمالطيين، من الوافدين أو الذين تم تهميشهم ثقافياً واقتصادياً.

لكل هذا، نجد أن مصير أعضاء الجماعات اليهودية ارتبط بمصير الاستعمار في المنطقة، فتحسنت أحوالهم المادية وازدادت هامشيتهم البنيوية مع تَزايُد الهيمنة الاستعمارية والتغلغل الأجنبي. وأثناء فترة النضال ضد الفرنسيين في الجزائر، أيَّد 90% من يهود الجزائر بقـاء الجزائر فرنسـية، ووقفـوا إلى جانب منظمة الجيـش السري، وأخيراً رحلوا مع المستوطنين الفرنسين، رغم أن هؤلاء المستوطنين كانوا معروفين بكرههم العميق لليهود وعدائهم لهم، كما أنهم عارضوا منحهم الجنسية الفرنسية في بادئ الأمر. أما في تونس والمغرب، فتقول بعض المراجع الصهيونية إن أعضاء الجماعات اليهودية قد وقفوا موقف الحياد من حركة التحرر الوطني، وهي عبارة غير مفهومة وتفترض هامشية اليهود وعدم انتمائهم.

وقد ازدادت عملية التهميش هذه مع تَزايُد نشاط الحركة الصهيونية التي حاولت أن تعرِّف اليهود لا باعتبارهم عرباً أو حتى غربيين وإنما باعتبارهم يهوداً يدينون بالولاء للشعب اليهودي ثم للدولة الصهيونية.وفي العشرينيات، قامت الوكالة اليهودية بتكوين شبكة جاسوسية في العالم العربي استخدمت المؤسسات والمنظمات اليهودية الشرعية (مثل نوادي المكابي) واجهات تخفي نشاطها المعادي وغير الشرعي. وفي الثلاثينيات، أسست الوكالة اليهودية جهاز مخابرات يتبعه قسم عربي يترأسه موشيه شاريت. وقد قام الموساد عام 1937 بتأسيس مركز لتدريب بعض اليهود العرب على أعمال الجاسوسية ضد بلادهم أطلقت عليه اسم «الأولاد العرب». وبعد قيام الدولة، تم تجنيد بعض العناصر العربية اليهودية للقيام بأعمال تخريبية تخدم مصالحها، كما حدث في حادثة لافون حينما جنَّد بعض اليهود المصريين للإساءة إلى العلاقات بين حكومة مصر الثورية الجديدة عام 1952 وحكومات الدول الغربية. ولقد أدَّى تأسيس الدولة الصهيونية التي تدَّعي أنها دولة يهودية تُمثِّل كل يهود العالم، ومنهم يهود العالم العربي، إلى الوصول بعملية التهميش إلى ذروتها.

ومع هذا، ظلت أغلبية يهود العراق بمنأى عن عملية التهميش آنفة الذكر لبعض الوقت، ولذلك فقد تمتعوا بقدر كبير من الاستقرّار والرخاء الاقتصادي واستفادوا من الازدهار الاقتصادي الذي شهدته البلاد خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، ولم يتعرض اليهود إلا لبعض الأحداث المتفرقة التي جاءت كرد فعل إما للتطورات الجارية في فلسطين أو لتصاعد المشاعر المعادية لبريطانيا. وقد كانت أخطر هذه الأحداث الاضطرابات التي جرت عام 1941، والتي جاءت في أعقاب هزيمة قوات رشيد عالي الكيلاني أمام القوات البريطانية وسقوط نظامه. وقد راح ضحية هذه الاضطرابات التي عُرفت باسم «فرهود» ما بين 170 و180 يهودياً (وعدد أكبر من غير اليهود). وبعد هذه الأحداث، عادت الأمور إلى نصابها. ولذلك، فقد وجدت الحركة الصهيونية صعوبة بالغة في تشجيعهم على الهجرة إلى فلسطين، واضطرت في نهاية الأمر إلى اللجوء للإرهاب ضدهم حين دفعت بعملائها ليضعوا متفجرات في المعابد اليهودية وفي أماكن تَجمُّع أعضاء الجماعة حتى يبدو الأمر وكأن المجتمع بدأ يتحرك ضد اليهود.

ولكن هذا لا يعني أن كل أعضاء الجماعات اليهودية كانوا ممالئىن للاستعمار الغربي وتحولوا إلى وسطاء له، كما كان يهدف المخطَّط الاستعماري. ذلك أن أعداداً كبيرة من يهود سوريا انضمت إلى حركة التحرر الوطني ودعمت المطالب القومية. ومن المعروف أن يعقوب صنوع (أبو نظارة)، وهو كاتب مصري يهودي، هاجم الاستعمار الإنجليزي ونُفي بسبب ذلك. كما أن المصري اليهودي ليون كاسترو كان، وهو رئيـس تحرير جريـدة يومية فرنسـية، من كبار مؤيدي حزب الوفد المصري، ورافق سعد زغلول أثناء مفاوضاته في لندن (لكنه أسس بعد ذلك تنظيماً صهيونياً في مصر، ولعل تأييده للوفد كان يهدف إلى تعميق التيار الوطني المصري لعزل مصر عن العالم العربي وبالتالي فلسطين). ويوجد، غير هؤلاء، كثيرون من أثرياء اليهود الذين كانوا جزءاً لا يتجزأ مما يُطلق عليه مُصطلَح «الرأسمالية الوطنية» والذين ارتبطت مصالحهم ورؤيتهم وتطلعاتهم بالوطن الذي يعيشون فيه. ففي مصر مثلاً، ساهمت عائلتا قطاوي وشيكوريل في تأسيس بنك مصر عام 1920، وهو مشروع كان يهدفإلى تقليص اعتماد مصر على رأس المال الأجنبي وإلى إرساء حجر أساس لصناعة وطنية مستقلة.

ومن المعروف كذلك أن يهود العالم العربي لعبوا دوراً ملحوظاً في تأسيس الحركات الشيوعية في العالم العربي. وقد كانت هذه الحركات نشاطات، أياً كان تقييم المرء لها، معادية للاستعمار. فقام هنري كورييل بتأسيس الحركة الشيوعية المصرية (وثمة دراسات تشير إلى دور كورييل المشبوه). وقد كان هناك وجود يهودي ملحوظ في الحركة الشيوعية في العراق (الصحفي اليهودي نعيم قطان ومراد العماري وغيرهما ممن تبنوا موقفاً معادياً للصهيونية وأسسوا منظمة باسم «عصبة مكافحة الصهيونية»).والواقع أنَّ وجود اليهود في هذه النشاطات بأعداد تفوق نسبتهم العددية أمر ليس مقصوراً عليهم، ففي الكثير من الأحيان يوجد أعضاء الأقليات بنسب كبيرة في الحركاتالثورية والفوضوية. وعلى كلٍّ، فحينما قررت الحركة الشيوعية العراقية أن تلعب دوراً أكثر فاعلية في محيطها العربي، طلبت إلى أعضاء القيادة من اليهود الاستقالة، وقدفعلوا ذلك مؤثرين مصلحة الحزب على مصلحتهم الشخصية.

ولكن الصورة العامة للجماعات اليهودية في العالم العربي هي أنَّ الاستعمار الغربي قد نجح في عزلها ثقافياً عن الثقافة العربية الإسلامية وربطها بمصالحه الاقتصادية ورؤيته الثقافية ومن ثم تحوَّل أعضاء الجماعات اليهودية إلى مادة بشرية استيطانية لها قابلية عالية للهجرة. وهذا ما حدث بعد تأسيس إسرائيل إذ اختفى يهود البلاد العربيةتقريباً.

عائلـــة قورقـــوس

The Corcos Family

عائلة يهودية يعود أصلها إلى بلدة قرقوس في كاستيل (قشطالة) بإسبانيا. استقر أغلب أعضائها بعد عام 1492 في إيطاليا ومدينة فاس المغربية. ومن أهم أعضائها:إبراهيم قورقوس (حوالي عام 1275) وهو عالم عاش في كاستيل، أما يهودا بن إبراهيم قورقوس (تُوفي بعد عام 1493) فكان مالياً ثرياً استقر في البرتغال عام 1492.

وبعد طرد كثير من يهود إسبانيا إلى المغرب، كان أعضاء عائلة قورقوس من بين المطرودين. ودافع جوشوا (توفي بعد 1552) عن حقوق منفى قشطالة بالنسبة لمسألة تقاليد الذبح الشرعي، كما شارك في وضع القواعد التكميلية (تاكانوت) الخاصة بتنظيم حياتهم الاجتماعية والدينية في المغرب. أما موسى بن إبراهيم قورقوس (توفي حوالي 1575) وهو من فاس، فقد عُرف بالتقوى وبالمعرفة الواسعة واختير قاضياً شرعياً في تونس وتحولت مقبرته بعد وفاته إلى مزار للحجاج. كما كان يوسف قورقوس (توفي حوالي عام 1710) حاخاماً له وزن واحترام، وكان له كثير من التلاميذ. أما يوسف بن جوشوا قورقوس (تُوفي بعد عام 1800)، فعاش لفترة في جبل طارق وألَّف بعض الأعمال الدينية. كما ترك عالم التلمود إبراهيم بن موسى قورقوس (توفي حوالي 1778) عدداً من المؤلفات والفتاوى الدينية. وكان يوسف قورقوس (تُوفي بعد 1575) عالم تلمود وُلد في إسبانيا وسافر إلى مصر حيث ترأس مدرسة تلمودية عليا (يشيفا) ثم استقر في فلسطين. وكانت له بعض المؤلفات والتعليقات أو الشروح الدينية. أما شقيقه إسحق قورقوس (تُوفي قبل عام 1540)، فكان حاخاماً في مصر ثم عُيّن قاضياً شرعياً في القدس. أما ميمون بن إسحق قورقوس (تُوفي عام 1799)، فكان تاجراً ذا نفوذ وأحد دعائم السياسة البريطانية في المغرب. أما سولومون بن أبراهام قورقوس (تُوفي عام 1854)، فقد كان مصرفياً ومستشاراً للسلطان كما اختارته بريطانيا وكيلاً قنصلياً لها عام 1822. أما ولداه، يعقوب (تُوفي عام 1878) وإبراهيم (توفي عام 1883)، فكانا مقربين للسلطان وقاما بأعمال مهمة له. وقد عُيِّن إبراهيم عام 1862 قنصلاً للولايات المتحدة في إحدى مدن المغرب حيث نجح بفضل علاقته بالسلطان في تسهيل مهمة موسى مونتفيوري أثناء زيارته للمغرب. واختير أيضاً مائير إبراهيم قورقوس (تُوفي 1929)، قنصلاً للولايات المتحدة عام 1884. أما جوشوا بن حاييم قورقوس (تُوفي 1929)، فكان مستشاراً ومصرفياً للسـلاطين ولعب دوراً أسـاسياً هاماً في الفترة ما بين عامي 1885 و1912. أما فرديناند قورقوس (1857 ـ 1956)، فكان صهيونياً نشيطاً وصدر له بين عامي 1923 و1925مؤلفات عن الصهيونية. أما ستيلا قورقوس (1857 ـ 1948)، فوُلدت في نيويورك وتزوجت موسى قورقوس (تُوفي عام 1903)، ثم استقرت في المغرب حيث أسست مدرسة يهودية حرة وعارضت نشاط البعثات التبشيرية البروتستانتية بين فقرّاء يهود المغرب، وأصبحت ستيلا ممثلة للرابطة الإنجليزية اليهودية. أما مونتفيوري قورقوس (تُوفي عام 1958)، فكان طياراً في القـوات الجـوية الملكية البريطانية وخـدم خلال الحربين العالميتين.

وتاريخ عائلة قورقوس وانتقالهم من النشاط الديني إلى النشاط التجاري، ومن الانتماء للحضارة العربية إلى الانتماء التدريجي للحضارة الغربية، وكذلك تحوُّل كثير من أعضائها إلى قناصل للبلاد الغربية، يعكس تاريخ يهود البلاد العربية وتحولهم بالتدريج إلى جماعة وظيفية تابعة للاستعمار الغربي.

عائلـــــة قـــــدوري

The Kadoori Family

عائلة تجارية ومالية يهودية من أصل عراقي استوطنت في الشرق الأقصى حيث حققت ثروة طائلة من خلال العمل في مجال الأعمال المصرفية والنقل والبناء والتشييد، وساهمت في تطوير شانغهاي وهونج كونج. ومؤسس العائلة هو صالح قدوري الذي كان من أغنياء بغداد. وقد وُلد ابنه سير إليس قدوري (1865 - 1922) في بغداد حيث تلقى تعليمه في مدرسة الأليانس إسرائيليت يونيفرسل. وفي عام 1880، انتقل إلى بومباي بالهند حيث عمل إدارياً في مكاتب عائلة ساسون، ثم بدأ في تأسيس وتطوير تجارته وأعماله الخاصة في هونج كونج والصين وحقق ثروة كبيرة. ومُنح إليس لقب «سير» عام 1917 تقديراً للخدمات التي قدمها للمستعمر البريطاني في الشرق الأقصى. وكانت له مساهمات مالية مهمة لعديد من المؤسسات اليهودية وغير اليهودية، فدعم الأليانس إسرائيليت يونيفرسل والرابطة الإنجليزية اليهودية، وأسس مدرستين زراعيتين لليهود والعرب في بغداد كما ساهم في تأسيس مدارس أخرى في كلٍّ من بغداد وبومباي. وبعد وفاته، أوصى إليس بتخصيـص جـزء من ثروته لبناء مـدارس تحمل اسـمه في فلسطين والعراق، فتأسست على ضوء ذلك كلية قدوري الزراعية في فلسطين عام 1931.

أما شقيقه سير إللي (إليعازر سيلاس) قدوري (1867 ـ 1944)، فقد وُلد في بغداد وانتقل مع شقيقه إلى الشرق الأقصى وأسس مؤسسة آي. اس قدوري وشركاه في هونج كونج وشنغهاي، كما كان شريكاً في مؤسسة آي. اس. قدوري وأبنائه. وقد مُنح لقب سير عام 1926. واشترك سير إللي مع شقيقه في دعم وتأسيس العديد من المؤسسات التربوية والمستشفيات في الشرق الأقصى والعراق. ولكنه أعطى اهتماماً خاصاً للمشروع الصهيوني في فلسطين، وبخاصة منذ عام 1900، فترأس صندوق مؤسسة فلسطين في شنغهاي، وساهم في تأسيس عدد من المدارس الزراعية في فلسطين، كما ساهم بمبلغ كبير لبناء الجامعة العبرية في القدس. وتولـى ولـداه من بعـده؛ لورانس (1899 ـ ؟ )، وهوراس (1902 ـ ؟ )، إدارة أعمال الأسرة في هونج كونج ودعم الجماعة اليهودية الصغيرة بها.

ومثل غيرها من العائلات اليهودية الثرية في الشرق الأقصى والهند وبعض دول الشرق الأوسط، كانت عائلة قدوري تقوم بدور الجماعة الوظيفية الوسيطة التي ارتبطت مصالحها بوجودها في هذه المناطق، وارتبط ذلك بمصالح الاستعمار المترجمة في شكل أنشطة مالية وتجارية وعقارية ونقل وغير ذلك من نشاطات في إطار المشروع الرأسمالي الإمبريالي الغربي الذي كان يسعى إلى استنزاف موارد هذه البلاد وشعوبها والذي وجد في كثير من الأقليات الدينية والإثنية ومن بينها الجماعات اليهودية خير معين لتحقيق أغراضه.

الجماعــات اليهــودية في العــالم العــربي: الانقسام الطبقي والتمايز الوظيفي

The Jewish Communities in The Arab World: Class Divisions and Professional Differentiation

لم تكن الجماعات اليهودية داخل كل بلد عربي تتسم بالتماسك والوحدة، فقد كانت خاضعة للصراعات الطبقية والثقافية التي تسم أي مجتمع إنساني، إذ كان منهم الأغنياءوالفقرّاء، ومنهم من استفاد اقتصادياً بدخول الاستعمار وظهور القطاع الاقتصادي الغربي الجديد، ومنهم من سقط ضحيته، ومنهم من استوعب الثقافة الغربية الدخيلةواندمج فيها، ومنهم من أخفق في ذلك وإن كان الفريق الأول أكبر بكثير من الثاني. ويمكن أن نضرب مثلاً بمصر حيث كانت الجماعة اليهودية فيها تشمل ثلاث طبقات. في أعلى السلم الطبقي نجد عدداً من العائلات الأرستقرّاطية الغنية المعروفة بثرائها ومركزها ومكانتها وعلاقتها القوية مع النخبة الحاكمة، ومن بينهم قطاوي باشا وموصيري ورولو وسوارس وهراري ووهبة ومنَسَّى ودي بيتشيوتو وشيكوريل وصيدناوي وعدس وغيرهم من أصحاب البنوك والأعمال التجارية وكبار ملاك الأراضي والبارزين في الحياة العامة. وكان هؤلاء يشكِّلون ما بين 5 و10% من تعداد الجماعة اليهودية في مصر.

وتلي هذه الطبقة التي شملت كبار الأثرياء والمموِّلين طبقة متوسطة على رأسها رجال التصدير والاستيراد وأصحاب المحال التجارية والمهن الحرة في الإسكندرية والقاهرة والإسماعيلية وبورسعيد. وينتمي إلى هذه الشريحة أيضاً عدد ضخم من الموظفين اليهود في مكاتب بعض المؤسسات التي كانت تضم نسبة مرتفعة من اليهود. وكانت هذه الشريحة تتنافس مع طبقة كبار الأثرياء، ولكن أعضاء كل من هاتين الطبقتين كانوا متفرنسين تماماً، لغةً وثقافة. وعلى أية حال، كانت أعداد كبيرة منهم من أصل أجنبي إسباني أو إيطالي أو غير ذلك. وكانوا يقطنون الأحياء الثرية، كما كانوا أحياناً يحتلون قطاعاً خاصاً بهم في أحد الأحياء،كما كان حال حي السكاكيني.

ثم يأتي أخيراً فقرّاء اليهود، وكانوا من الباعة المتجولين وصغار الحرفيين ومعظمهم من اليهود المستعربة. ويسكن معظم هؤلاء الفقرّاء في القاهرة؛ في حارة اليهود في الموسكي أو في حي الظاهر، وكانوا يشكِّلون حوالي 25% من تعداد الجماعة. وقد حققت بعض عائلات اليهود المستعربة قدراً من الثراء والبروز (مثل عائلة باروخ مسعودة، وعائلتي شماس وعبد الواحد، وكانت من الصياغ). ولم يكن اليهود المتفرنسون يتزاوجون مع اليهود المستعربين، فلكل عالمه الخاص. ومع هذا، كان أبناء اليهود المستعربين يذهبون إلى مدارس الأليانس ويحصلون على الثقافة الأوربية اللازمة لدخول القطاع الاقتصادي الغربي. ويمكن أن نضيف هنا أنه رغم وجود فقرّاء بين أعضاء الجماعة اليهودية، فلو تمت مقارنة متوسط دخل أعضاء الجماعة اليهودية بمتوسط الدخل في مصر لتبيَّن أن متوسط دخل المصري اليهودي كان أعلى من متوسط دخل غيره من المصريين، ولاتضح أن اليهود لم يعرفوا الفقر المدقع إلا بأعداد صغيرة للغاية. وهذا التقسيم الثلاثي كان نمطاً سائداً في المغرب والعراق أيضاً.

أما فيما يتصل بالوضع الوظيفي أو المهني أو الاقتصادي، فإن الصورة كانت مركبة. في المغرب واليمن وفي المناطق ذات الكثافة الكردية من العراق، عمل اليهود رعاةًومزارعين. ولكن، بشكل عام، يُلاحَظ عدم وجود أعضاء الجماعات اليهودية كعمال أو فلاحين، أي أنهم كانوا بعيدين عن قاعدة الهرم الإنتاجي. وكان منهم الحرفيون الذينعملوا ببعـض الحرف اليدوية مثل الصاغة والصبـاغة والصناعات اليدوية للزجاج، كما اشتغلوا بصناعة الخمور. وكانت هناك أعداد كبيرة منهم، في مهن الطبقة الوسطى، يعملون بالطب والصيدلة والصحافة، وكان منهم أساتذة الجامعات. وقد عملوا موظفين في الحكومة، ووصل أفراد منهم في العراق ومصر والمغرب إلى مناصب الوزراء، وانتُخبوا وعُيِّنوا أعضاء في البرلمان مثل يوسف قطاوي عضو البرلمان ووزير المالية، وأصلان قطاوي عضو مجلس الشيوخ، وساسون هيسكيل عضو البرلمان ووزير المالية في العراق، ومناحم دانييل عضو مجلس الشيوخ في العراق أيضاً.

ولكن، ورغم عدم التمايز الواضح بينهم وبين أعضاء المجتمع ككل، نجد أن المجتمع، بحكم تركيبه، يضع قيوداً على أعضاء الأقليات مقارنةً بأعضاء الأغلبية، كما أنه يتيح أمامهم فرصاً ليست متاحة لأعضاء الأغلبية. ومن هنا تركُّز اليهود بنسبة تفوق نسبة عددهم إلى عدد السكان في الأعمال التجارية والمالية، فكان منهم صغار التجار والباعة الجائلون والمرابون. كما كان منهم أيضاً كبار التجار وتجار الجملة وأصحاب شركات العقارات والمشتغلون بالتجارة الدولية (التصدير والاستيراد) ووكلاء الشركات التجارية الأجنبية وشركات التأمين وقطاع الخدمات. كما أن سوق الأوراق المالية كانت تضم عدداً كبيراً من السماسرة اليهود. وتَركَّز أعضاء الجماعات اليهودية في صناعات قريبة من المستهلك (الصناعات الزراعية والقطاع المصرفي) أي أنهم لم يكونوا جزءاً من القطاع الأول في الاقتصاد (الصناعات الثقيلة والزراعة) فيما يُسمَّى «قاعدة الهرم الإنتاجي». وهذا يعني أنهم كانوا جماعة وظيفية. ولعبت مدارس الأليانس دوراً أساسياً في تزويد أعضاء الجماعة اليهودية بالكفاءات اللازمة للتعامل مع الشركات الأجنبية والاقتصاد الاستعماري الجديد وفي صبغهم بالصبغة الغربية (الفرنسية)، أي أنها عمقت هويتهم كجماعة وظيفية.

وإذا نظرنا إلى مصر لوجدنا أن عدة عائلات يهودية مصرية كانت تساهم في إدارة وتوجيه 103 من الشركات من مجموع 308 في عام 1942، فكانوا يسيطرون على جانب كبير من رؤوس أموالها. كما أنهم احتكروا تجارة القطن وتجارة الصادرات والواردات، وأنشأوا العديد من البنوك (مثل البنك العقاري المصري، والبنك الأهلي المصري)، والشركات الائتمانية (مثل شركة الشرق للتأمين، وشركة التأمين الأهلية المصرية)، وشركات الأراضي الزراعية (مثل شركة البحيرة المساهمة، وشركة وادي كوم أمبو، وشركة سموحة). كما أداروا عدة شركات لتقسيم الأراضي وبيعها وشراء المباني واستغلالها (مثل الشركة العقارية المالية بالقاهرة، والشركة المساهمة المصرية المالية والعقارية). وساهموا في ميدان النقل البري والبحري وشركات السكك الحديدية (مثل شركة حلوان، وشركة الدلتا، وشركة قنا ـ أسوان للسكك الحديدية، وشركة الأمنيبوس العمومية المصرية، وشركة ترام الإسكندرية، وشركة بواخر البوستة الخديوية). وساهموا أيضاً في الصناعات الزراعية وصناعة الزيوت والسكر، وأسسوا الشركات في هذا المجال (مثل: شركة المطاحن، وشركة الملح والصودا). كما أسسوا المحلات التجارية الكبرى (مثل محلات شيكوريل وبنزايون وشملا وعمر أفندي وهانو)، كما نشطوا في مجال تجارة الذهب والسجائر وفي أعمال الفنادق والمنسوجات وإقرّاض المال. وكانت لهم نشاطات اقتصادية فردية أخرى، ففي ميدان المضاربات المالية كان 98% من العاملين في البورصة في القاهرة والإسكندرية يهوداً. وكان التـركيب الوظيفــي لليهود في مصر (عــام 1947) عـلى النحو التالي: 59% تجار، 18% في الصناعات، 11% خدمات عامة.

ولكن، حيث إن معظم هؤلاء كانوا من الأجانب وبينهم 20% فقط من المصريين، فإن قانون الشركات الصادر عام 1947، والذي نص على ضرورة أن يكون 75% من الموظفين و90% من العمال اليدويين في جميع المؤسسات في مصر سواء كانت وطنية أم أجنبية من حاملي الجنسية المصرية، تَسبَّب في خروج أعداد كبيرة منهم، وهو الاتجاه الذي تَزايُد بعد ثورة 1952. كما تَسبَّب في ذلك، العدوان الثلاثي عام 1956 وموجتا التمصير ثم التأميم.

أما في العراق، فقد ساهم اليهود في النشاط الاقتصادي التجاري المحلي والدولي وفي النشاط المالي سواء على مستوى صغير ربوي أو على مستوى حديث مصرفي. حيث كانت ثمة بنوك مثل بنك زلخا وبنك كريديه. وقد ظهرت، مع بداية القرن التاسع عشر، بعض الشخصيات المالية والتجارية المهمة في بغداد (مثل الشيخ ساسون بن صالح عميد عائلة ساسون التي استوطنت الهند فيما بعد، وإسحق المصرفي، ومناحم عيني)، كما ازدهرت الأوضاع الاقتصادية لأعضاء الجماعة اليهودية بعد افتتاح قناة السويس حيث أصبح خط التجارة الواصل بين إنجلترا والهند يمر عبر البصرة. وكان من أهم الشخصيات المالية في البصرة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر خوجا يعقوب، وأدون عبد الله. وسيطر اليهود تقريباً على تجارة الصادرات والواردات وعلى نسبة عالية من تجارة التجزئة، كما احتكروا تجارة أهم البضائع في أسواق العراق (مثل صناعة الأبسطة والحصر والأثاث والأحذية والأخشاب والأدوية والأسلحة والأقمشة والتبغ والأرز والحلويات). كما كانوا من كبار تجار الأحجار الكريمة والمجوهرات ومن كبار الصاغة. وكان أصحاب أكبر الشركات في بغداد (شركة خضوري وعزرا ميدلاوي) الوكلاء الوحيدين لاستيراد دهون وشحوم شركة موبل أويلالأمريكية للبترول بفروعها في البصرة والموصل وكركوك. وكان يهود البصرة يحتكرون 95% من الأعمال التجارية في البلاد عام 1914. ورغم تَراجُع النسبة قليلاً، ظلت 85 ـ 90% عام 1933، و65 - 75% في عام 1946. وكان 95% من واردات العراق قبل الحرب العالمية الثـانية (ولكـن 10% فقـط من صـادراتها) في يد اليهـود. وكان أغلبها، وهو ما كان يُسمَّى «بضائع مانشستر»، وكان يتم استيرادها من مانشستر بإنجلترا. وحقق أعضاء الجماعة اليهودية ثروات كبيرة من خلال إعادة تصدير هذه البضائع إلى إيران.

وقد استفاد يهود العراق بشبكة علاقاتهم التجارية والمالية في الخارج، وخصوصاً مع اليهود العراقيين الذين استوطنوا في الهند والشرق الأقصى وإنجلترا (مثل عائلة ساسون وعائلة عزرا). أما بعد عام 1948، فقد انخفضت النسبة إلى 20% من واردات العراق و2% من صادراتها. ويُلاحَظ الشيء نفسه تقريباً في المغرب وتونس، إذ تَركَّز اليهود في الأعمال التجارية والمالية. وفي إحصاء عام 1947، يتبين أن 46.5% منهم يعملون بالتجارة و36.1% يمارسون المهن الصناعية المتنوعة و7.6% في المهن الحرة و4.1% يعملون بالزراعة.

الجزء الثالث: تواريخ الجماعات اليهودية في بلدان العالم الغربي ( خصوصا فى العصر الحديث)

الباب الأول: الإقطاع الغربي وجذور المسألة اليهودية

جـــذور المســألة اليهوديـــة

Roots of the Jewish Question

يمكن القول بأن جذور المسألة اليهودية تضرب بجذورها في المسألة العبرانية (التجمُّع العبراني تجمُّع صغير فقير ضعيف سواء من ناحية الموارد البشرية أو الموارد المادية، يُوجَد في منطقة إستراتيجية مهمة ولذا لم يمكنه أن يدافع عن استقلاله ضد هجمات القوى الكبرى المحيطة به، وكان دائماً عرضة للغزو والتهجير. ولذا تحوَّلت أعداد كبيرة من العبرانيين إلى جماعات وظيفية مرتزقة واستيطانية ومالية وتحوَّلت الدويلات العبرانية إلى دويلات تابعة).

ولكن يمكن القول بأن ثمة انقطاعاً حدث في العالم بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية وظهور المسيحية في الغرب والإسلام في الشرق. ففي داخل التشكيل الحضاري والسياسي الغربي المسيحي في العصور الوسطى تحدَّد وضع اليهود بشكل معيَّن (شعب شاهد ـ أقنان بلاط ـ جماعة وظيفية) وهذا الوضع هو الذي أدَّى إلى ظهور المسألة اليهودية فيما بعد، حين بدأت عمليات التحديث والعلمنة. وظهرت الدولة القومية المركزية. ولكي نفهم طبيعة المسألة اليهودية وأبعادها الحقيقية لابد من الوصول إلى جذورها، أي لابد من دراسة العصور الوسطى في الغرب، وما تبعها من فترات تاريخية (عصر النهضة والإصلاح الديني) اهتز فيها وضع اليهود، ثم أُعيد تعريفه ابتداءً من القرن الثامن عشر.

الإقطـــاع الغـــربي

Western Feudalism

الإقطاع الغربي هو النظام الاقتصادي والاجتماعي المبني على ملكية الأرض الزراعية والذي ساد أوربا في العصور الوسطى. وتعود بدايات هذا النظام إلى مملكة شارلمان الفرنجية (في فرنسا) في القرنين الثامن والتاسع الميلاديين، وانتشر منها عن طريق الغزو إلى إسبانيا وإيطاليا وألمانيا، ونقله الغزاة النورمان إلى كلٍّ من إنجلترا وفلسطين إبان حروب الفرنجة. وكان الأمير الإقطاعي يمنح (يُقطع) تابعيه من مجموعة النبلاء قطعة من الأرض ليزرعوها ويزودهم بالحماية نظير أن يدينوا له بالولاء ويزودوه بعدد من المحاربين. وكان النبلاء بدورهم يُقسِّمون أرضهم، فأصبح لهم تابعون لكل منهم ضيعته. وكان هؤلاء بدورهم يُقسِّمون ضياعهم على أتباعهم، وهكذا إلى أن نصل إلى قاعدة الهرم حيث يُوجَد الأقنان في القاعدة الاقتصادية للنظام فيقومون بزراعة الأرض ويحصلون على ما يعيشون به عند حد الكفاف. والمجتمع الإقطاعي مُقسَّم تقسيماً هرمياً صارماً يعرف كل شخص فيه مكانه ومكانته حيث يصل إليهما عادةً عن طريق الميراث والنسب، وليس عن طريق الجد والعمل. وقد حُدِّدت حقوق وواجبات كل أعضاء الطبقات تحديداً واضحاً، فالنبيل كان يعرف ما ينبغي عليه القيام به (حماية إقطاعيته وفلاحيه، وجباية الضرائب منهم، وتزويد الملك بالمحاربين)، وكذلك كان الفلاحون ورقيق الأرض يعرفون واجباتهم وحقوقهم. وفي الأطراف، كان يُوجَد التجار والصناع والقطاعات الهامشية كافة. وقد بلغ النظام الإقطاعي ذروته في القرن الثاني عشر الميلادي، ثم أخذ في الضعف ابتداءً من القرن الثالث عشر، ويُقال إنه اختفى كنظام اقتصادي مع نهاية القرن الرابع عشر وإن استمرت كثير من مؤسساته. وأخذت الثورة التجارية تقوض دعائم الطبقات الإقطاعية الزراعية الحاكمة، فظهرت الملكيات المطلقة ثم الطبقات الوسطى بعد ذلك. وتزايد نفوذ المدن حتى نصل إلى الثورتين الفرنسية والصناعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حيث يتفق المؤرخون على أن المؤسسات الإقطاعية تلقت الضربة القاضية فيهما.

ويشغل أعضاء الجماعات اليهودية وضعاً خاصاً في المجتمع الإقطاعي الغربي، فقد حصلوا على مواثيق خاصة تضمن لهم الحماية وتحقق لهم المزايا. وتحولوا إلى أقنانبلاط وإلى أداة في يد الطبقة الحاكمــة. وقد كان وضـع أعضـاء الجماعـات اليهودية داخل الإقطاع الغربي متـميِّزاً وممـتازاً بشـكل عام حتى حروب الفرنجة ثم تدهور بعدذلك. وكان أعضاء الجماعات اليهودية يعملون بالتجارة الدولية والتجارة المحلية، لكن نفوذهم التجاري تراجع بظهور الجماعات التجارية المحلية، فبدأوا يعملون بالرباوالرهونات وكان منهم تجار صغار وباعة جائلون. وقد كان وضع اليهود داخل النظام الإقطاعي غير متجانس لأنه هو نفسه كان نظاماً غير متجانس. لقد كان وضع يهود إنجلترا وفرنسا، أي يهود غرب أوربا الذين طُردوا في القرن الثالث عشر الميلادي، يختلف عن وضع يهود وسط أوربا، وكلاهما كان يختلف تماماً عن وضع يهود شرق أوربا حيث لم يعتنق سكانها المسيحية إلا في القرن العاشر الميلادي، كما أن اليهود لم يستوطنوا بولندا إلا في القرن الثالث عشر الميلادي. وبالإضافة إلى ذلك، كان اليهود ممنوعين من دخول روسيا حتى نهاية القرن الثامن عشر الميلادي.

العصور الوسطى (في الغرب)

The Middle Ages

العصور الوسطى في الغرب فترة تمتد من القرن الخامس الميلادي حتى القرن الخامس عشر، وقد وصلت العصور الوسطى ذروتها في الفترة من القرن الحادي عشر حتى الرابع عشر الميلادي. وتبدأ العصور الوسطى بانهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية وانهيار أطرها الاقتصادية والقانونية والثقافية أيضاً. وكانت الإمبراطورية الرومانية تعامل اليهود باعتبارهم «كوليجيوم Collegium» أي «رابطة»، وهي جماعة من حق أعضائها أن يجتمعوا للقيام بشعائرهم الدينية وأن يمارسوا شريعة أسلافهم. وفي عام 212م أصدر الإمبراطور كاراكالا مرسوماً بمنح كل الأحرار في الإمبراطورية الرومانية حق المواطنة الرومانية، الأمر الذي كان يعني أن أغلبية أعضاء الجماعة اليهودية أصبحوا مواطنين، إلا أن هذا جرى نسيانه تماماً، وصُنِّف اليهود حسب القانون أو العرف الألماني باعتبارهم «غرباء». وقد تسـاقـط النظام الضريبي الذي فرضته الدولة الرومانية ولم تَعُد هناك عملة أوربية يمكن لكل دول أوربا التعامل بها فيما بينها، وأُهملت الطرق وأصبحت غير آمنة.

وشهدت العصور الوسطى في الغرب محاولة للنهوض من هذا التردي ولخلق مؤسسات قانونية واقتصادية تحل محل المؤسسات التي تساقطت. وبطبيعة الحال، تأثرت الجماعة اليهودية بكل ذلك.

أولاً: من بداية العصور الوسطى حتى القرن الحادي عشر الميلادي:

يعتبر القرن الخامس الميلادي، وخصوصاً عام 476، التاريخ الذي بدأت فيه العصور الوسطى بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية تحت هجمات القبائل البربرية. وما يهمنا فيما يتعلق بالجماعات اليهودية أن الإمبراطورية الرومانية كانت قد تبنت المسيحية عام 340 باعتبارها ديناً رسمياً للدولة تكتسب منه شرعيتها. وفي ذلك الوقت تقريباً، أصبحت الزرادشتية عقيدة الدولة الإمبراطورية الفارسية، وظل الأمر على ذلك حتى القرن السابع الميلادي حيث حلَّ الإسلام محلها وأصبح العقيدة الأساسية في الشرق العربي وفي كثير من بلاد آسيا وأفريقيا. وتتميَّز هذه المرحلة بأن أعضاء الجماعة اليهودية وجدوا أنفسهم أقلية في دولة لها إطار عقائدي متماسك سواء في الشرق حيث الزرادشتية ثم الإسلام أو في الغرب حيث المسيحية، كما وجدوا أن الدين السائد دين توحيدي وليس عبادة وثنية. وكان هذا أمراً جديداً كل الجدة على اليهودية التي كانت موجودة دائماً في محيط وثني تحارب ضده وتكتسب هويتها الدينية من صراعها معه. وقد ازدادت العلاقات سوءاً وتوتراً بين أعضاء الجماعات اليهودية والعالم المسيحي، وخصوصاً بعد أن أعلن السنهدرين أن المسيح ليس الماشيَّح الحقيقي وإنمـا هو المسـيح الدجـال في حـين آمن المسيحيون بأن هـدم الهيكـل إنما هـو تحقيـقلنبـوءة المسـيح. وقد حققت المسيـحية انتصارات هائلــة، وخصوصـاً بعد أن تبنتـها الإمبراطورية الرومانية، فتوقف النشاط اليهودي التبشيري وانطوى اليهود على أنفسـهموانصـرف علماؤهم لتدوين وجمع التلمود بما يحويه من كره عميق للمسيحية ولشخص المسيح، وبما يتضمنه من سب للمسيح.

وحدد وضع الجماعات اليهودية في المجتمع الغربي الوسيط عنصران، أحدهما دنيوي والآخر ديني، فقد أصدر قسطنطين (312 ـ 337م) تشريعات لتنظيم العلاقة مع اليهود، ولم تَعُد اليهودية بمقتضى هذه التشريعات «كوليجيوم» أو ديناً مشروعاً أو مباحاً (باللاتينية: ريليجيو ليكيتا religio licita) كما كانت أيام الرومان وإنما أصبحت «المذهب الشائن أو الشنيع». وأصبح محظوراً على اليهود الزواج من المسـيحيين، كما مُنع أي يهودي من التنـصر أو التبشـير بالدين اليهودي. وحظرت تشريعات لاحقة على اليهود امتلاك عبيد مسيحيين أو حتى أي عبيد على الإطلاق وهو ما كان يعني استبعادهم من الزراعة، كما استُبعد اليهود من الخدمة العسكرية ومن الاشتغال بالطب. وفي عام 438م، منع ثيودوس الثاني اليهود من شغل وظائف عامة. ورغم أن هذه التشريعات لم تؤخذ مأخذ الجد فإنها شكلت مع هذا الإطار القانوني الذي تحكَّم في علاقة اليهود بالمجتمعات المسيحية الوسيطة.

وينبع موقف الكنيسة من أعضاء الجماعات اليهودية من فكرتين أساسيتين مختلفتين ومتكاملتين عن اليهود:

1 ـ اليهود قتلة المسيح الذين أنكروه، ولذا لابد من عقابهم على ذلك.

2 ـ اليهود هم أيضاً الشعب الشاهد الذي عاصر أعضاؤه ظهور المسيح وبداية الكنيسة، وهم بتَمسُّكهم بشعائر دينهم التي ترمز إلى الشعائر المسيحية منذ القدم وبتدني وضعهم يقفون شاهداً حياً على صدق الكتاب المقدَّس وعلى عظمة الكنيسة. وقد تَمثَّل هذا الموقف المزدوج في سياسة الكنيسة التي وضعها البابا جريجوري الأول (الأعظم) (590 ـ 604) وآخرون من بعده، والتي ترى ضرورة الإبقاء على اليهودية وعلى الشعب اليهودي باعتباره شعباً شاهداً سيؤمن في نهاية الأمر بالمسيحية، ولذا ينبغي حماية اليهود من الدمار والإبادة، ولكن ينبغي في الوقت نفسه وضعهم في مكانة أدنى.

وقد أصـدر جريجـوري الأول مرسـوماً بابوياً يتضمن هـذه العبـارة: "كما أن اليهود لا يحق لهم أن يفعلوا ما لا يُسمَح لهم به حسب القانون، فإنه يتعيَّن ألا يُحرَموا من المزايا التي منحت لهم". ومن ثم مُنع قتل اليهود أو الهجوم عليهم أو حرق معابدهم أو مضايقتهم أثناء تعبُّدهم أو استخدام القوة في تنصيرهم. وأصبح هذا المرسوم أساساًلكل المراسيم البابوية اللاحقة حتى القرن الخامس عشر الميلادي.

ولهذا، حاربت الكنيسـة الطرق غير الشـرعية لتنصـير اليهود قسراً، معتبرة أن ثمرة هذه العملية لا تشكل أي نصر حقيقي للكنيسة ولا تزيد عظمتها. ولكنها شجعت في الوقت نفسه إلقاء المواعظ عليهم والإقناع بالأشكال المشروعة الأخرى (وهذا الموقف المزدوج هو ما تَحوَّل على يد المفكرين البروتستانت إلى العقيدة الاسترجاعية أو الألفية في القرن السابع عشر الميلادي، ثم تمت علمنته تماماً في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي ليصبح فكرة الشعب العضوي المنبوذ التي تعني أن اليهود كتلة بشرية متماسكة متميزة منعزلة عن المجتمع ومنبوذة منه).

ويُلاحَظ أن العصور الوسطى في الغرب شهدت غياب التجانس بين أعضاء الجماعات اليهودية أكثر فأكثر، وهي العملية التي كانت قد بدأت بعد أن أسَّس الإسكندر إمبراطوريته. فبدأ اليهود يتحركون داخل فلك حضارتين أساسيتين هما: الفارسية واليونانية (ثم الرومانية). وانتشر أعضاء الجماعات اليهودية على ساحل البحر الأبيض المتوسط في اليونان وإيطاليا وإسبانيا وشمال أفريقيا والإسكندرية وفلسطين وآسيا الصغرى. وكان معظم أعضاء الجماعات اليهودية، مع بداية العصور الوسطى في الغرب، يتركزون في الإمبراطورية البيزنطية. ولكن مركز اليهودية في العالم الغربي انتقل من بيزنطة إلى داخل أوربا ابتداءً من القرن التاسع الميلادي: جنوب فرنسا (الغال) ثم شمالها، وإنجلترا ثم ألمانيا. ومما زاد من عدم التجانس، عدم وجود سلطة مركزية موحَّدة في الإقطاع الأوربي. فبعد موت شارلمان (814) بفترة قصيرة،تفسخت الإمبراطورية التي بناها وتفتتت سياسياً إثر هجمات الفايكنج من الشمال، وقبائل الدانوب شبه البدوية من الشرق، ومسلمي شمال أفريقيا من الجنوب. وقد استمرتالهجمات مدة قرنين، فأصبح الإقطاع واللامركزية هما الصفة الأساسية في المجتمعات الغربية، وهو ما أضعف الملكية وزاد نفوذ الأمراء الإقطاعيين. وأصبحت الجماعاتاليهودية في العصور الوسطى نفسها تتسم بتنوع لغاتها وطقوسها الدينية.

وأهم هذه الجماعات الجماعة اليهودية في إسبانيا (السفارد) وفي جنوب فرنسا (يهود البروفنسال)، وفي إيطاليا (الإيطالياني)، وفي الإمبراطورية البيزنطية أي إمبراطورية الروم (الرومانيوت)، والجماعات اليهودية في ألمانيا ثم بولندا فيما بعد (الإشكناز). وكان أعضاء كل جماعة لا يختلطون بالضرورة بأعضاء الجماعات الأخرى (هذا على عكس وضع اليهود في العالم الإسلامي حيث كانوا أساساً من اليهود المستعربة الذين كانوا يتحدثون العربية. ومع هذا، كانت هناك جماعة يهودية صغيرة في إيران اكتسبت كثيراً من خصائص المجتمع الذي كانت تعيش فيه. كما كان هناك يهود الخزر الأتراك في القوقاز ويهود كايفنج في الصين). وقد ازداد تَفتُّت الجماعات اليهودية في الغرب بظهور الملكيات القوية فيما بعد، والتي كانت حريصة على الدفاع عن استقلالها القومي، ومن هنا يكون من المستحيل الحديث عن اليهود بشكل عام بعد سقوط الدولة الرومانية، ومن الأفضل الحديث عن الجماعات اليهودية.

ولم يكن المجتمع الغربي الوسيط مقسَّماً إلى دول وإمارات مستقلة تفتقد إلى سلطة مركزية قوية وحسب، وإنما كانت كل دولة وكل إمارة مكوَّنة من جماعات متماسكة منفصلة لكل منها قوانينها؛ فكان النبلاء والأقنان الذين يعيشون في صميم النظام الإقطاعي يشتغلون بالقتال والزراعة، وكان التجار وأعضاء النقابات الحرفية أعضاء في البلديات، وكان القساوسة وممثلو البيروقراطية الدينية تابعين للكنيسة. وقد تمتعت كل جماعة بدرجة من الاستقلال عن الجماعات الأخرى. أما أعضاء الجماعات اليهودية، فلم يكونوا مواطنين في المدينة ولا فلاحين في الضياع الإقطاعية، ولم يكونوا من الفرسان المحاربين، كما أنهم لم يكونوا بطبيعة الحال منتمين إلى الكنيسة الكاثوليكية. وعلى كلٍّ، كان الانتماء للمجتمع الإقطاعي المسيحي يتطلب يمين الولاء المسيحي، الأمر الذي لم يكن متاحاً لليهود إلا إذا تنصروا. وقد حُلَّت هذه المشكلة القانونية بالعودة إلى القانون أو العرف الألماني، وتم تصنيف اليهود «غرباء».

والغريب في العرف الألماني كان يُعدُّ تابعاً للملك تبعية مباشرة، ومن ثم أصبح أعضاء الجماعة مسئولين مسئولية مباشرة أمام الملك أو الإمبراطور، يتبعونه ويوضعون تحت حمايته، بل كانوا يُعَدُّون ملكية خاصة له بالمعنى الحرفي (أقنان بلاط)، الأمر الذي حولهم إلى ما يشبه أدوات الانتاج. وكان الملك يفرض عليهم ضرائب كانت تصب في خزانته كما أنه كان يبيعهم المواثيق والمزايا ويحقق من ذلك أرباحاً.

ومع أن مفهوم أقنان البلاط كان كامناً في كثير من المواثيق والمراسيم منذ أيام شارلمان (742 ـ 814)، فإنه استُخدم لأول مرة في مرسوم الملك فريدريك الأول عام 1157، ثم أكده فريدريك الثاني عام 1236 حين أصدر مرسوماً يشير إلى كل يهود ألمانيا باعتبارهم أقنان بلاط.

وبوضعهم تحت حماية الإمبراطور مباشرة، أصبح اليهود جماعة وظيفية مالية تابعة للطبقة الحاكمة أساساً، يتمتع أعضاؤها بحقوق تفوق في كثير من الأحيان حقوق عامة الشعب ولا تختلف أحياناً عن حقوق النبلاء ورجال الدين. فقد سُمح لهم، حتى القرن الثالث عشر الميلادي، بحمل السلاح في كثير من البلاد الأوربية، وبامتلاك الأراضي الزراعية والعبيد غير المسيحيين، كما أعفوا من عقوبة الضرب ومن التعذيب أثناء المحاكمة، وأُعفوا أيضاً من غير ذلك من الممارسات التي كان الأقنان يخضعون لها. بل إن الزي الخاص الذي كان يرتديه أعضاء الجماعات اليهودية، والشارة التي كان عليهم تثبيتها على ملابسهم، كانا يُعَدّان مزايا يطالبون بها ويصرون عليها. والقبعةاليهودية حق آخر حصلوا عليه بمبادرة منهم. أما حق بناء سور حول منطقة سكنهم، فهي ميزة سعوا إليها سعياً حثيثاً وحصلوا عليها كتابةً في المواثيق التي كانت تُمنَح لهم، وهي المناطق التي سُمِّيت فيما بعد «الجيتو». وقد حقق أعضاء الجماعات اليهودية مستوى معيشياً مرتفعاً. ولذا، حينما حدث ما يشبه المجاعة في القرنين العاشر والحاديعشر الميلاديين، لا نجد لها أي صدى في المصادر اليهودية، وهو أمر متوقَّع بالنسبة لجماعة تتمتع بشيء من الثراء.

ومع هذا، كان عضو الجماعة اليهودية الوظيفية لا حول له ولا قوة إذ أنه، رغم تبعيته للملك والنخبة الحاكمة، كان يعيش بين قوىً شعبيــة لا تضـمر له حـباً ولا تشعـر نحـوه بأي عطـف، ويحيا في عزلة وغـربة عنهـا، الأمـر الذي زاد التصـاقه بالملك وبالنخبـة وزاد اعتمـاده عليهـم. وبذلك أصبـحت الجمـاعة اليهــودية فــي المجتمع الوسيط جماعة وظيفية وسيطة تضطلع بوظائف تتطلب الموضوعية والحياد، وأصبح وجودهم مرتبطاً بمدى نفعهم كأداة (على عكس وضع اليهود في المجتمعات الإسلامية حيث تحددت مكانة اليهود، شأنهم شأن أعضاء الجماعات والطوائف الأخرى، باعتبارهم من أهل الذمة، وهو مفهوم لا علاقة له بمسألة مدى نفع الإنسان).

ولعل المزية الكبرى التي حصل عليها أعضاء الجماعات اليهودية هي حرية الحركة، إذ أصبحوا العنصر البشري الوحيد المتحرك في المجتمع. ذلك أن الأقنان والفلاحين كانوا مرتبطين بالأرض رغم أنفهم، وكان النبلاء لا كيان لهم خارج إقطاعيتهم، ورجال الكنيسة يرتبط كل واحد منهم بكنيسته أو ديره، وكان التجار المسيحيون تقف في طريقهم حواجز كثيرة تعوق حركتهم مثل ضرائب المرور التي كان اليهود مُعْفَيْنَ منها. ولكل هذا، تحوَّل أعضاء الجماعات اليهودية إلى عنصر متحرك استيطاني تجاري وتَرسَّخ المفهوم تماماً في الوجدان الغربي. وعلى سبيل المثال، قام شارلمان بتوطين بعض اليهود في ماركا هسبانيكا (في جنوب فرنسا) ليكونوا بمنزلة حاجز على حدود العالم المسيحي لوقف التوسع الإسلامي. وإذا كان أعضاء الجماعات اليهودية قد عملوا بالزراعة في هذه التجربة، فإنهم عادةً ما كانوا يدعون إلى الاستيطان للاضطلاع بوظيفة التجارة باعتبارهم عنصراً بشرياً قادراً على تنشيط التجارة بسبب خبراته ورأسماله وشبكة اتصالاته التجارية الواسعة وحركيته. وفي القرن الثامن الميلادي، على سبيل المثال، استوطن في فرنسـا عـدد من التجار اليهود بدعـوة من شـارلمان، بهدف تنشيط التجارة، فوضعهم تحت حمايته. ويُلاحَظ ارتباط اليهود بشارلمان، فهو أول من حاول أن يخلق إطاراً اقتصادياً جديداً يحل محل الإطار الروماني، كما كان أول من سك عملة فضية للتداول في أوربا، وبذلك جعل شارلمان التبادل النقدي ممكناً بدلاً من المقايضة. وقد اتبع خلفاؤه السياسة نفسها في العصر الكارولنجي، فاشتغل اليهود بالتجارة والاستيراد والتصدير في وادي الرون ومقاطعة شامبين. ومن المعروف أن جنوب فرنسا كان المركز الأساسي للتجار اليهود الدوليين الذين أُطلق عليهم اسـم الراذانية (نسـبة إلى نهر الرون كما يُقال). وكان شمال فرنسا، في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، يضم أهم تجمُّع يهودي في فرنسا، كما كان مركزاً للدراسات التلمودية حيث كان راشي يقيم ويعمل بتجارة الخمور ويكتب تعليقاته عن التلمود.

ويُلاحَظ أن النمط نفسه تكرَّر حين تم تشجيع استيطان اليهود في ألمانيا خلال القرنين الثامن والتاسع الميلاديين بهدف تشجيع التجارة. وبدأت تظهر جماعات يهودية في المراكز التجارية الأساسية مثل: مينز وأوجسبرج في القرن التاسع الميلادي، وورمز ومينز في القرن العاشر، وهي التي ازدهرت فيها مراكز الدراسات التلمودية. وكان أكثر مناطق الكثافة السكانية اليهودية هو وادي الراين (مينز وسبير وورمز وكولونيا) حيث ظهرت هناك أيضاً حياة فكرية في القرن الحادي عشر الميلادي تحت تأثير يهود فرنسا. أما في إنجلترا، فمن المعروف أن بعض المموّلين اليهود تمركزوا بعد الغزو النورماندي حيث أسسوا جماعات يهودية (في لندن ويورك وبرستول وكانتربري) كانت تشتغل أساساً بالتجارة والإقراض ووُضعت تحت حماية التاج الإنجليزي. ولم يختلف الوضع كثيراً في إسبانيا المسيحية، فقد استخدم الأمراء المسيحيون في بادئ الأمر أعضاء الجماعات اليهودية بعد خروج المسلمين، وظهرت فئة يهود البلاط هناك حيث استفاد الأمراء الأسبان من خبرات أعضاء الجماعات اليهودية فيأعمال التجارة والمال والإدارة. وفي القرن الثاني الميلادي استوطن اليهود في روما، وتركزوا في الموانئ الجنوبية ثم على طرق التجارة. وتدهورت أحوالهم قليلاً معتَحوُّل الإمبراطورية الرومانية إلى المسيحية، ولكنهم وُضعوا تحت حماية البابا مع بداية العصر الوسيط. وظل أعضاء الجماعات اليهودية في جنوب إيطاليا يشتغلون بتجارة الجملة حتى حل تجار البندقية محلهم. وارتبط اليهود بالتجارة حيث سيطروا على التجارة الدولية والتجارة المحلية إلى أن ظهرت المدن الدول البحرية الإيطالية. ولهذا، فبعد أن كانت كلمة «يهودي» تشير في الدولة الرومانية إلى «عضو في قوم (إثنوس)»، أصبحت هذه الكلمة تدل على «التاجر».

ولعل كل هذه السمات مجتمعة (ارتباط أعضاء الجماعات اليهودية بالنخبة الحاكمة، وحصولهم على حقوق ومزايا خاصة، واشتغالهم بالتجارة والربا) قد حددت علاقة أعضاء الجماعات اليهودية بالطبقات المختلفة في المجتمع، فعلاقتهم بالطبقات الثرية (الأمراء الإقطاعيين) لم تكن بكل وضوح علاقة صراع، ذلك لأنهم كانوا يحتاجون إلى اليهود رغم كرههم لهم وحقدهم عليهم نظراً لقربهم من الملك. أما الكنيسة، فقد ذكرنا موقفـها المزدوج من اليهـود. ويبقى بعد ذلك سكان المدن والفلاحون، أي ما يمكن أن نطلق عليه الشعب أو الجماهير. وقد كان هؤلاء ينظرون إلى اليهودي باعتباره العدو المستغل، فكان سكان المدن الذين يعملون بالتجارة، يجدون أن اليهود فئة تعمل في المجال نفسه ولكنها ليست خاضعة لسيطرتهم أو تنظيماتهم بل خاضعة للملك مباشرة، الأمر الذي أعطى اليهود حرية في الحركة لم يكن التجار المسيحيون أنفسهم يتمتعون بها. كما أن التجار المسيحيين كانوا خاضعين للأخلاقيات المسيحية وما تفرضه عليهم من حدود وقيود. على عكس التاجر اليهودي، الذي كان على استعداد دائم لأن يتجاهل هذه الأخلاقيات متى سنحت له الفرصة. أما الفلاحون والحرفيون، فكانوا يقعون ضحايا الربا اليهودي والنشاطات التجارية الأخرى التي اختص بها أعضاء الجماعات اليهودية. وكانت هذه الفئة من سكان المدن أعدى أعداء اليهود على عكس كبار المموِّلين والتجار في المدينة حيث لم يكن هؤلاء يخشون سطوة اليهود نظراً لضخامة حجمهم ونفوذهم. وكثيراً ما كانت تقع اضطرابات ضد الجماعات اليهودية في المدن ويقودها صغار المموِّلين والحرفيين. وقد كانت هذه الاضطرابات ذات طابع شعبي وكانت تنتشر بين جماهير لا تفهم طبيعة النظام ولا الطبيعة الملتوية وغير المباشرة لعملية الاستغلال. ولذلك، كان الرمز المباشر والواضح للاستغلال وأداته الملموسة هو اليهودي الذي كان أداة الطبقة الحاكمة في امتصاص غضب الجماهير. وكانت النخبة الحاكمة (الإمبراطور والكنيسة) تبذل قصارى جهدها لحماية اليهود، وهو ما كان يدعم شكوك الجماهير.

ويمكننا أن نُشبِّه أعضاء الجماعات اليهودية في العصور الوسطى (في الغرب) بالمماليك، وهم جماعة وظيفية أخرى كانت تعمل بالقتال. فأعضاء الجماعة اليهودية كانوا ملكية خاصة للإمبراطور، وهم مثل المماليك مختلفون إثنياً ووظيفياً (ومختلفون كذلك دينياً في حالة اليهود) عن بقية أفراد الشعب. وقد كانت وظيفتهم، كمحاربين أو تجار، تتطلب أن يظلوا غرباء عن المجتمع. فالتجارة كانت نشاطاً كريهاً ولم تكن قط نشاطاً أساسياً في العصور الوسطى، أما القتال فقد كان وظيفة غير محببة ويتطلب تَملُّك ناصيتها قدراً من التفرغ. ومع هذا، لم يكن اليهود مماليك مسلحين. وقد يكون من المناسب أن نسميهم «المماليك التجارية». وكان المماليك التجارية داخل الحضارة الغربية، مثلهم مثل المماليك، أداة استغلال ومحط كراهية الجماهير، ولكنهم كانوا عُزّلاً غير مسلحين. وقد كانت خطورة وضعهم داخل الحضارة الغربية كامنة في النظر إليهم باعتبارهم جماعة تكتسب طابعاً عاماً مجرداً، فكان الهجوم مثلاً على اليهود يُنظَر إليه وكأنه اقتحام أحد المصارف أو تحطيم لآلات المصنع على نحـو ما كان يفـعل العمـال في أوربا في القرن التاسـع عشر الميلادي. ويمكن النظر إلى عملية طردهم باعتبارها كانت تساوي عملية تأميم رأس المال الأجنبي، تماماً مثلما يحدث الآن في بلاد العالم الثالث حينما تظهر طبقة تجارية محلية تضطلع بأعمال التجارة والمال، أو حينما تقوم الدولة نفسها بهذه الوظائف فتؤمم البنوك وتطرد العنصر الأجنبي.

ثانياً: من نهاية القرن الحادي عشر الميلادي حتى بداية عصر النهضة في الغرب:

تتسم هذه الفترة من العصور الوسطى بتدهور أحوال اليهود. ويمكن اعتبار حروب الفرنجة التي تُعرَف اصطلاحاً باسم «الحروب الصليبية» نقطةً حاسمة في تواريخ أعضاء الجماعات اليهودية، لا لأنها قامت بالهجوم عليهم ولكن لأنها تزامنت مع تحوُّل اقتصادي عميق في المجتمعات الغربية. وقد كانت هذه الحروب تعبيراً عن التحولالمتمثل في ظهور القوى الاقتصادية المسيحية، مثل اللومبارد في إيطاليا والكوهارسين في جنوب فرنسا وفرسان الهيكل في فرنسا وغيرها من مناطق أوربا، والمتمثل أيضاً في ظهور جماعات رجال المال المحليين. لقد حلت هذه القوى الجديدة محل اليهود في التجارة الدولية أو في تجارة الجملة، وفي مجالات ونشاطات اقتصادية أخرى مثل إقراض المبالغ الكبيرة، الأمر الذي دفع اليهود إلى العمل في الربا والتجارة الصغيرة البدائية. واستمر هذا التيار في التَزايُد، وتبلور في القرن الثالث عشر الميلادي، واستمر حتى القرن الخامس عشر الميلادي، حتى أصبحت كلمة «يهودي» تعني «مرابي». وشهد هذا القرن أيضاً ظهور الملكيات القومية القوية التي بدأت تستقل بنفوذها عن الكنيسة وأصبحت لها مشروعاتها السياسية والاقتصادية المستقلة. وأدَّى هذا الوضع إلى ازدياد احتياج بعض هذه الدول إلى أعضاء الجماعة اليهودية لفترة من الزمن ثم إلى استغنائها عنهم في مرحلة لاحقة. وساهمت حركات الهرطقة في جنوب فرنسا، من القرن الحادي عشر حتى القرن الرابع عشر الميلادي، في تدهور وضع أعضاء الجماعات اليهودية حين اضطرت الكنيسة إلى اتخاذ موقف متشدد ونشطت محاكم التفتيش.

ويُعَدُّ يهود إنجلترا مثلاً جيداً على صعود اليهود وتدهور حالهم ثم طردهم وتَحوُّلهم من التجارة إلى الربا ومن اعتماد الطبقة الحاكمة عليهم إلى استغنائها عنهم. فهم لم يتأثروا كثيراً بحروب الفرنجة وإن شنت بعض الهجمات عليهم، ولكنهم تأثروا بظهور القوى المالية غير اليهودية، مثل اللومبارد والكوهارسين، الأمر الذي أدَّى إلى إفقارهم. وقد أصدر إدوارد الأول عام 1274 أمراً بمنع اليهود من الاشتغال بالأعمال المالية، وفتح لهم أبواب الزراعة والحرف والتجارة، ولكنه لم يُوفَّق في مساعيه فطردهم عام 1290. والظاهرة نفسها يمكن ملاحظتها بين يهود فرنسا الذين طُردوا من التجارة، حتى بلغ تدهورهم حداً كبيراً تحت حكم لويس التاسع (1226 ـ 1270) ثم تم طردهم عام 1306.

ويتسم وضع يهود إسبانيا في تلك المرحلة بأنه أكثر تركيباً بسبب وضع إسبانيا الخاص. فبعد فترة ازدهرت فيها التجارة اليهودية، أقيمت محاكم التفتيش عام 1478،وانتهى الأمر بطرد اليهود من إسبانيا عام 1492 بقرار من فرديناند وإيزابيلا، كما تم طردهم من البرتغال عام 1497. وبلغ عدد اليهود الذين طُردوا نحو مائة وخمسين ألف يهودي، لجأت أعداد كبيرة منهم إلى العالم الإسلامي في شمال أفريقيا والدولة العثمانية، وهاجر بعضهم إلى فرنسا وهولندا. أما يهود ألمانيا، فكان من الصعب طردهممن بلادهم بصورة كاملة، لأن ألمانيا كانت مقسَّمة إلى عدة إمارات صغيرة ولم تكن بها دولة مركزية قوية. وقد ضمن هذا الوضع استمرارهم إذ كانوا حينما يُطرَدون من إمارة يلجأون إلى أخرى كما كان الحال في إيطاليا، وعلى عكس ما حدث في فرنسا وإنجلترا وإسبانيا حيث كانت توجد سلطة مركزية قوية نسبياً.

ومع ذلك، يمكننا أن نقول إن معظم المدن الألمانية طردت اليهود في نهاية الأمر. ومع القرن السادس عشر الميلادي، لم تكن هناك جماعات يهودية إلا في ورمز وفرانكفورت، وكانت تُوجَد جيوب يهودية صغيرة متناثرة داخل الإمارات المختلفة. ونتيجة حروب الفرنجة، ولأسباب أخرى أيضاً، بدأ التجار اليهود بدعوة من الملوك البولنديين يسـتوطنون بولندا في القرن الثالث عشـر الميلادي، وذلك لتشـجيع التجارة. وقد كانت هناك عوامل تؤدي إلى تَناقُص عدد أعضاء الجماعات اليهودية من بينها عمليات الطرد، ولكن أهم هذه العوامل كان الاندماج والتنصر الطوعي، كما يقرر إسحق أبرابانيل (الكاتب الأسباني اليهودي في العصر الوسيط). ولكن، ورغم هذه العوامل، فقد زاد عدد يهود أوربا الكلي بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين بسـبب الارتفاع النسـبي لمسـتواهم المعيـشي أو بسـبب هجرة يهود الخزر، حسب نظرية آرثر كوستلر، أو لمركب من هذه الأسباب جميعاً. ومع حلول القرن الثالث عشر الميلادي، كانت أغلبية يهود العالم تعيش في أوربا. وقد تعرَّض كثير من الجماعات اليهودية في غرب أوربا للهجمات الشعبية أثناء وباء الطاعون أو الموت الأسود إذ أُلقي باللوم على اليهود ووُجِّهت إليهم تهمة نشر الوباء. وقامت الكنيسة ومعها الملوك بمحاولة حماية أعضاء الجماعات اليهودية من غضب الثورات الشعبية.

وكان التركيب الاجتماعي لأعضاء الجماعات اليهودية في أوائل العصور الوسطى الغربية هرمياً. وقد شغل أعضاء سبع أسر من مينز وورمز كل المناصب المهمة فيفرنسا وألمانيا، فكان منهم قادة الجماعة اليهودية ورؤساء المدارس التلمودية ومعلمو التوراة. وظل الانتماء الأسري لليهودي أمراً مهماً جداً في تحديد مكانته الاجتماعيةداخل الجماعة اليهودية، تماماً كما كان الأمر بالنسبة إلى المسيحي في المجتمع الإقطاعي الغربي، وظل هذا الوضع حتى القرن الثاني عشر الميلادي. ولكن، مع حلولالقرن الثالث عشر الميلادي، زاد نفوذ أثرياء اليهود، وأصبح بالإمكان إحراز المكانة من خلال الثروة خارج نطاق الوراثة. وتمتع أعضاء الجماعات في الغرب حتى القرن التاسع عشر الميلادي، شأنهم شأن الفئات والطوائف الأخرى، بما نسميه «الإدارة الذاتية»، وذلك في الشئون الخاصة بهم كطائفة دينية، أي فيما يتعلق بالمحاكم والمدارس وشئون الزواج والدفن. وقد قوَّى هذا هيمنة النخبة اليهودية على أعضاء الجماعة الذين كانوا يشكلون حلقة الوصل بين أعضاء الجماعة والسلطة الحاكمة في عملية جمع الضرائب وغيرها من الأمور.

ومع حلول القرن الثالث عشر الميلادي، أصبح أعضاء الجماعات اليهودية في المجتمعات الغربية الوسيطة جماعة وظيفية وسيطة تشكل جسماً غريباً بمعنى الكلمة وتعيش على هامش المجتمع أو في مسامه، تؤمن بدين معاد للديانة الرسمية بل تقف منها موقف النقيض، فاليهود قتلة المسيح وفق التصور المسيحي وهم يقرأون نفس الكتابالمقدَّس (العهد القديم) دون أن يعـوا مضمونه، وهم بحســب القول المسـيحي: " أغبياء يحملون كتباً ذكية "، كما أنهم يرجعون لكتاب ضخم من كتب التفسير يُسمَّى التلمودالذي هو موضع شك العالم المسيحي، ويرتدون أزياء خاصة بهم، ويتسمون بأسماء يهودية، ويتحدثون برطَانَات غريبة وأحياناً بلغة غير لغة أهل البلاد مثل الفرنسية فيإنجلترا والألمانية في بولندا، ويعملون في وظائف هامشية مثل التجارة والربا. وقد أخذت عزلتهم تتزايد حتى تبلورت تماماً داخل الجيتو خلال القرن الخامس عشر الميلادي. ويبدو أن استبعاد اليهود إلى هذا الحد هو الذي أدَّى في نهاية الأمر إلى ظهور المسائل اليهودية المختلفة في غرب أوربا ووسطها وشرقها. ولم تكن مؤسسات يهود أوربا الإدارية والتنظيمية في العصور الوسطى تمتلك بيروقراطية محترفة معترفاً بها من قبَل الدولة المركزية، ولم يكن هناك نظير لرأس الجالوت (المنفى) أو رئيس اليهود (نجيد)، فكان لكل قهال قوانينه الخاصة به (تاقانوت) التي يحدد فيها حقوقه وامتيازاته ويدافع عنها ضد يهود المدن المجاورة. وكانت المحكمة التابعة لكل قهال مستقلة تباشر نفوذها من خلال التهديد بالطرد من الجماعة (حيريم). وانقسام القهالات على هذا النحو كان تعبيراً عن اللامركزية التي كانت تسم النظام الإقطاعي في أوربا (ويختلف وضع الجماعات اليهودية في العصور الوسطى في الغرب في كـثير من الوجـوه عنه في العـالم الإســلامي في الفترة نفسها. ففي العالم الإسلامي، اندمج اليهودي في مجتمعه على المستوى الوظيفي والاقتصادي والحضاري. كما أنه، باعتباره عضواً في جماعة دينية، لم يكن فريداً بل كان ضمن أقليات دينية أخرى).

ومن الصعب تحديد عدد اليهود في كل من أوربا والعالم في ذلك الوقـت. ويبدو أن من العسـير أيضاً الوصـول إلى تقـديرات تقريبية. ولذا، فإن الأرقام أقرب إلى التخمينات التي تستند إلى كم هائل من الوثائق المتضاربة، بل إن الأرقام الخاصة بالعصور الوسطى قد تكون أقل دقة من تلك الخاصة بالعالم القديم حيث كان يُوجَد جهاز إداري تابع للإمبراطورية (الرومانية على سبيل المثال) التي كانت تقوم بحصر سكانها وفرض الضرائب عليهم. ويبدو أن عدد يهود العالم كان يبلغ في القرن الثاني عشر الميلادي مليوناً معظمهم في العالم الإسلامي. ولكن، مع القرن الثالث عشر الميلادي، بدأ عددهم يزداد تدريجياً ليصل إلى مليون ونصف مليون، منهم عدد كبير في أوربا. وفيما يلي بيان تقريبي بعدد يهود أوربا خلال الفترة من عام 1300 إلى عام 1490:

الدولــــة / عام 1300 عدد اليهود /عدد السكان / عام 1490 عدد اليهود / عدد السكان

فرنسا /100.000 / 14 مليوناً / 20.000 / 20 مليوناً

الإمبراطورية الرومانية المقدسة

وضمن ذلك سويسرا وهولندا / 100.000 / 12 مليوناً / 80.000 / 12 مليوناً

إيطاليا / 50.000 / 11 مليوناً / 120.000 / 12 مليوناً

إسبانيا / 150.000 / 5.5 مليون / 250.000 / 7 ملايين

البرتغال / 40.000 / 600 ألف / 80.000 / مليون واحد

بولندا / 5.000 / 500 ألف / 30.000 / مليون واحد

المجر / 5.000 / 400 ألف / 20.000 / 800 ألف

المجموع / 450.000 / 44 مليوناً / 60.000 / 53 مليوناً

ولم يكن حجم أية جماعة يهودية في أية مدينة يزيد على ألفين. وكانت الجماعة المكونة من عدة مئات تُعتبَر مهمة وكبيرة. ويُلاحَظ أيضاً خلو إنجلترا من اليهود بعد أن كان قد تم طردهم. أما يهود فرنسا، فكانوا يوجدون أساساً في الإمارات البابوية. ويُلاحَظ أن أغلبية يهود العالم كانت لا تزال في العالم العربي الإسلامي، وأن الجماعات اليهودية كانت لا تزال متركزة في حوض البحر الأبيض المتوسط.

الشـعب الشاهد

Witness People

«الشعب الشاهد» هو أحد المفاهيم الأساسية التي ساهمت في تحديد وضع الجماعات اليهودية في الغرب كجماعات دينية إثنية داخل التشكيل الحضاري الغربي. وللمفهوم جانبان متناقضان ولكنهما مع هذا متكاملان. أما الجانب الأول، فهو رؤية الكنيسة لليهود باعتبارهم الشعب الذي أنكر المسيح المخلِّص عيسى بن مريم الذي أُرسل إليهم، فصلبوه بدلاً من الإيمان به. وقد رأى آباء الكنيسة أن الهيكل هُدم وأن اليهود تشتتوا عقاباً لهم على ما اقترفوه من ذنوب. كما أعلن أحد الآباء أن الكنيسة أصبحت إسرائيل الحقيقية أو إسرائيل فيروس، وأنها إسرائيل الروحية والشعب المقدَّس هو المسيحيون، أما اليهود فهم إسرائيل المادية الزائفة. ودعا الكنيسة إلى أن تطرح ماضيها اليهودي جانباً وأن تتوجه إلى العالم الوثني ككل، أي إلى العالم بأسره. وكل هذا يعني أن آباء الكنيسة لم ينظروا إلى اليهودية باعتبارها مجرد هرطقة دينية وإنما نظروا إليها باعتبارها عقيدة مستقلة معادية. وربما لو اعتُبرت اليهودية مجرد هرطقة لتم اجتثاث الجماعات اليهودية وتنصير أعضائها بالقوة كما حدث في العصور الوسطى حينما أبادت الكنيسة الكاثوليكية أتباع الهرطقة الألبيجينية وغيرها من الهرطقات. وتطورت صورة اليهودي في الوجدان المسيحي، فكان يُرمَز إليه بعيسو مقابل يعقوب، وهو أيضاً قابيل الذي قتل أخاه هابيل، وأصبح كذلك قاتل المسيح.

أما الجانب الآخر من فكرة الشعب الشاهد، فإنه يعود أيضاً إلى آباء الكنيسة، وخصوصاً القديس بولس، حيث يذهب إلى أن رفض اليهود قبول مسيحهم المخلِّص هو سر من الأسرار. وهم يحملون الكتاب المقدَّس الذي يتنبأ بمقدمه منذ أيام المسيح، ومع هذا ينكرونه، ولذا فقد وُصفوا بأنهم « أغبياء يحملون كتاباً ذكياً » (أي لا يعون فحوى ما يحملون). وتنبأ القديس بولس أيضاً بأن قسوة قلب إسرائىل ستزداد على مر الأيام إلى أن يتنصر الأغيار جميعاً، وحينئذ سيتم خلاص إسرائيل نفسها أي اليهود كشعب بالمعنى الديني. كما تنبأ بأن اليهود سيهيمون على وجوههم بلا مأوى ولا وطن حتى نهاية الزمان. وتتواتر الصور والأفكار نفسها في كتابات القديس أوغسطين، فاليهود مثل قابيل الهائم على وجهه، وشتات اليهود لم يكن فقط عقاباً لهم على رفضهم العهد الجديد وعدم إدراك أن العهد الجديد وضَّح المعاني الخفية في العهـد القـديم بل إن هذا الشُـتات هو نفسـه إحدى الوسائل لنشر المسيحية، كما أن ضعَة اليهود وتَمسّكهم في الوقت نفسه بشعائر دينهم التي ترمز للمسيحية منذ القدم، دون أن يعوها، يجعل منهم شعباً شاهداً يقف دليلاً حياً على صدق الكتاب المقدَّس وعلى عظمة الكنيسة وانتصارها. وبذا، تحوَّل اليهود إلى أداة لنشر المسيحية (وتمت حوسلتهم لصالح العالم المسيحي). ولعل هذا يفسر حقيقة تهملها كثير من الدراسات، وهي أن محاكم التفتيش كانت تتعقب اليهود المتنصرين لتتأكد من مدى إيمانهم، أما أعضاء الجماعات اليهودية فلم تكن لها أية صلاحيات لمحاكمتهم.

وقد ساهم كلا العنصرين المتناقضين السابقين في صياغة السياسة الكاثوليكية إزاء الجماعات اليهودية، فكانت الكنيسة ترى ضرورة الإبقاء على اليهودية وعلى اليهودكشعب شاهد سيؤمن في نهاية الزمان بالمسيحية، ولذا تنبغي حمايتهم من الهلاك والدمار ولكن يجب أيضاً وضعهم في مكانة أدنى من المسيحيين. ولهذا، كانت الكنيسة تقوم بحملات تبشيرية بين اليهود، ولكنها في الوقت نفسه كانت تمنع تنصيرهم بالقوة وتُحرِّم توجيه تهمة الدم إليهم، ومن هنا كان دور الكنيسة المزدوج فقد ساهمت في اضطهاد اليهود ولكنها لعبت في الوقت نفسه دوراً أساسياً في حمايتهم من الجماهير الغاضبة المستغَلة وفي الإبقاء عليهم. وقد تم تلخيص الموقف في العبارة التالية: « أن تكون يهودياً، فهذه جريمة، ولكنها جريمة لا تُوجب على المسيحي أن ينزل بصاحبها العقاب، فالأمر متروك للخالق ».

ومن أهم آثار فكرة الشعب الشاهد أنها وضعت اليهود، من الناحية المعنوية والأخلاقية، على حدود التاريخ الغربي والتشكيل الحضاري الغربي، وعمقت حدوديتهم وهامشيتهم بحيث يمكن القول بأن فكرة الشعب الشاهد الكاثوليكي هي المقابل الديني لمفهوم أقنان البلاط الطبقي الذي حدد وضع اليهود كجماعة وظيفية وسيطة. ويُلاحَظ أن فكرة الشعب الشاهد تؤكد ضرورة الحفاظ على اليهود كأداة وعنصر غريب لا جذور له في الحضارة الغربية، وذلك ليخدموا غرضاً أو هدفاً غير يهودي. وتعمَّق هذا الإطار الفكري فيما بعد في الفكر البروتستانتي الخاص بالعقيدة الألفية وعقيدة الخلاص الاسترجاعية التي ترى أن اليهود أداة من أدوات الخلاص، وتمت علمنة المفهوم فيما بعد فتحوَّل إلى ما نسميه «الشعب العضوي المنبوذ»، أي أن اليهود يشكلون شعباً عضوياً منبوذاً لا مكان له داخل الحضارة الغربية، وهو المفهوم الذي يشكل إطار التصور الغربي للجماعات اليهودية منذ أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وهو الأساس الفكري لكل من الصهيونية ونزعة معاداة اليهود. ويُلاحَظ أن وعد بلفور ينطلق من تَصوُّر مشابه لفكرة الشعب الشاهد، فبلفور يرفض الوجود اليهودي داخل الحضارة الغربية ولكن لم يكن لديه مانع من أن يرعاه مادام موجوداً خارجها وعلى حدودها في فلسطين.

الصفحة التالية ß إضغط هنا