المجلد السابع: إسرائيل.. المستوطن الصهيوني 11

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

الأزمـــة الســـكانية الاســـتيطانية

Demographic and Settlement Crisis

كان من الممكن أن يتجاوز الكيان الصهيوني كل مظاهر أزمة الهوية ويستوعبها، أو على الأقل كان يمكنه أن يتجاهلها، كما كان يفعل في الماضي، ما دامت المادة البشرية الاستيطانية متوفرة: ففيم تهم قضية الهوية أو التطبيع لو أن الوقود البشري لا يكف عن التدفق نحو آلة الحرب والاستيطان الصهيوني لخلق حقائق جديدة، وأمر واقع جديد؟ ولكن الأمر ليس كذلك، فثمة أزمة سكانية عميقة تجعل من المشروع الصهيوني أكذوبة عقيمة دخلت طريقاً مسدوداً.

ولفهم هذا الجانب من أزمة الصهيونية الاستيطانية، علينا أن نغيِّر المنظور قليلاً ونتحدث لا عن المُستوطَن الصهيوني وحسب، وإنما عن الجماعات اليهودية في الغرب، وخصوصاً في الولايات المتحدة. فالحركة الصهيونية، منذ ظهورها في أواخر القرن الماضي، تعاني أزمة سكانية تتهددها في الصميم. ذلك أن المشروع الصهيوني مشروع استعماري وعد بتقديم المادة البشرية المطلوبة للاستيطان والقتال، ولكن هناك تطورات قد حدثت منذ عام 1882 حتى الوقت الحالي هي:

1 ـ استُؤنف التحديث المتعثر المتوقف في شرق أوربا بعد عام 1917 (عام توقيع وعد بلفور)، الأمر الذي فصل الكتلة البشرية اليهودية في روسيا عن المشروع الصهيوني إذ أن المجتمع السوفيتي الجديد الذي حرَّم معاداة اليهود أتاح أمامهم فرص الحراك الاجتماعي. وقد كان هناك مفكرون يهود كثيرون تنبأوا بذلك وراهنوا عليه، وانخرطت أعداد كبيرة من الجماهير اليهودية (اليديشية) في صفوف الأحزاب الثورية الاشتراكية في روسيا وغيرها.

2 ـ اختفت أعداد كبيرة من الكتلة البشرية اليهودية في بولندا وغيرها من دول أوربا من خلال الإبادة النازية ليهود أوربا وغيرهم من الجماعات الإثنية والدينية، أو من خلال عناصر أخرى (مثل التنصير والتخفي).

3 ـ ظهر أن الولايات المتحدة تشكل نقطة جذب بالنسبة للمهاجرين اليهود من أوربا ومن كل أنحاء العالم. وقد بدأ هذا الاتجاه في التبلور مع تعـثُّر التحديث وتوقُّفـه في شـرق أوربا. ومن المعروف أن الآلاف القليلة التي اتجهت إلى فلسطين للاستيطان فعلت ذلك لأن أبواب الولايات المتحدة كانت موصدة دونها. ولكن، بعد أن فُتحت الأبواب منذ الستينيات، تتجـه الهجرة اليهـودية قدماً نحو المنفـى البابلي الجديد اللذيذ.

4 ـ يُلاحَظ التناقص المستمر في أعداد أعضاء الجماعات اليهودية في العالم (خارج إسرائيل) فيما يُسمَّى ظاهرة «موت الشعب اليهودي» بسبب الاندماج والزواج المُختلَط والعزوف عن الزواج والإنجاب وانخفاض الخصوبة.

5 ـ لم يهاجر أعضاء الجماعات اليهودية إلى الدولة الصهيونية بأعداد غفيرة كما كان متوقعاً، فهم صهاينة توطينيون، يتحدثون عن الصهيونية بحماس ولكنهم لا يهاجرون.

6 ـ أفرغت الهجرة اليهودية السوفيتية الأخيرة المصادر المتبقية للمادة البشرية الاستيطانية في شرق أوربا (المصدر الأساسي للمستوطنين).

7 ـ ومما يزيد المشكلة السكانية حدة، بالنسبة للكيان الصهيوني، ظاهرة النزوح. إذ يُلاحَظ أن أعداد النازحين آخذة في التزايد في الآونة الأخيرة. وقد بلغ عددهم ما يزيد على 700 ألف (أو أكثر حسب الإحصاءات غير الرسمية). وقد أصبح قرار النزوح مقبولاً اجتماعياً، ويظهر على شاشات التليفزيون الإسرائيلي بعض النازحين ليتحدثوا عن قصص نجاحهم في الولايات المتحدة، كما تظهر في الصحف الإسرائيلية إعلانات عن إسرائيليين يودون بيع شققهم استعداداً للهجرة، وهذه أمور كانت في الماضي تتم سراً. كما يُلاحَظ أن نوعية النازحين نفسها قد تغيرت، فمعدل النازحين من بين أبناء الكيبوتسات التابعين لأكبر حركتين (الحركة الكيبوتسية الموحَّدة والكيبوتس القُطري) في فئة العمر 25 ـ 45 هو 6% في المتوسط. وهذا المعدل يساوي معدل نزوح هذه الأجيال في المجتمع الإسرائيلي. وقد نزحت العناصر العسكرية عن المُستوطَن الصهيوني بأعداد كبيرة آخذة في التزايد.

والأزمة السكانية تثير قضية الهوية اليهودية ولكنها في الوقت نفسه تثير بشكل مباشر قضية الاستيطان. فالصهاينة يصرحون كل يوم بعزمهم على إنشاء المستوطنات،ولكن المستوطنات في الضفة الغربية قائمة وتزداد عدداً وحجماً ولكن عدد المستوطنين فيها لم يزد بعد مرور ما يزيد عن ثلاثين عاماً عن 120 ـ 140 ألف (وهو عدد أقل من الزيادة الطبيعية السنوية للفلسطينيين العرب في تلك المنطقة). وكان الجيب الاستيطاني الصهيوني حتى عام 1967 إحلالياً، ولكنه تحوَّل إلى جيب استيطاني منالنوع الذي يستند إلى التفرقة اللونية على طريقة جنوب أفريقيا حيث يتم الاحتفاظ بالأرض ومن عليها من سكان ويتم تحويلهم إلى مصدر للعمالة الرخيصة.

وقد أتاح النظام العالمي الجديد فرصاً جديدة للنظام الاستيطاني الصهيوني بحيث أصبح بوسعه أن يتجاوز نطاق فلسطين المحتلة ليتغلغل في البلاد العربية وليُحوِّل السوق العربية إلى سوق شرق أوسطية يلعب هو فيها دور الوسيط الأساسي بين العرب والغرب، بل بين كل دولة عربية وأخرى.

وتكمن المفارقة في أن توسُّع الجيب الاستيطاني يتطلب المزيد من المستوطنين، أي المادة البشرية، للاستيطان والقتال وللأعمال التجارية، ولكن المادة البشرية اليهودية غير متوافرة وإن تم استيراد مادة بشرية عربية فإن هذا يشكل تهديداً لهوية الدولة. وقد ظهر في إسرائيل صراع بين ما سمي «الصهيونية الديموجرافية» أو «السكانية» و«صهيونية الأراضي».

تجميــــع المنفيــــين عــام 1997

Ingathering of the Exiles 1997

من الادعاءات الصهيونية الأساسية أن اليهود شعب واحد وأن إسرائيل هي دولتهم. ولكن بعد مرور ما يقرب من مائة عام على الاستيطان الصهيوني وخمسين عاماً على تأسيس الدولة لا تزال الدولة الصهيونية هي دولة أقلية. فيهود العالم لم يهاجروا إليها ولم تنجح في تجميع المنفيين، إذ يبدو أن المنفيين في حالة سعادة غامرة بمنفاهم. ولذا اضطرت الدولة الصهيونية الاستيطانية لحل أزمتها السكانية بأن تلجأ لتهجير الفلاشاه (ويهوديتهم - إن صح تسميتها كذلك - مختلفة عن اليهودية الحاخامية) ثم سمحت بهجرة مئات الآلاف من المهاجرين اليهود السوفييت الذي تعلم مسبقاً أنهم ليسوا يهود أصلاً. والجدول التالي يبيِّن عدد اليهود في إسرائيل والعام منذ تأسيس الدولة حتى عام 1997(بالملايين)

السنة / عدد يهود العالم / إسرائيل / النسبة إلى يهود العالم

1949 / 11 / 0.650 / 6%

1955 / 12 / 1.590 / 13%

1970 / 13 / 2.582 / 20%

1975 / 13 / 2.959 / 23%

1980 / 13 / 3.283 / 25%

1985 / 13 / 3.517 / 27%

1990 / 13 / 3.947 / 30%

1995 / 13 / 4.550 / 35%

1996 / 13 / 4.637 / 36%

المصدر : كتاب الإحصاء السنوي الإسرائيلي لعام 1997.

ملاحظات:

1 - عدد اليهود في العالم ثابت منذ 1970، وهذا يعود إلى الظاهرة المسماة «موت الشعب اليهودي».

2 - هناك زيادة في أعداد اليهود في إسرائيل، ترجع إلى الهجرة بالأساس.

3 - كل زيادة في يهود إسرائيل تعني نقصاً في يهود المناطق الأخرى.

4 - منذ عام 1970 وحتى عام 1990 كانت نسبة التزايد في نسبة يهود إسرائيل إلى يهود العالم تتراوح بين 2 - 3% كل خمس سنوات وهي كالتالي على الترتيب: 70 - 75: 3% - 75 - 80: 2% - 80 - 85: 2% - 85 - 90: 3%. أما الفترة من 90 - 95 فقد كانت نسبة الزيادة 5% بسبب هجرة اليهود السوفييت، أي بمعدل 1% كل عام.

ورغم كل هذه الزيادة تظل إسرائيل عام 1997 دولة أقلية، يرفض المنفيون الهجرة إليها.

جيل ما بعد 1967 (أزمــة الخدمــة العسـكرية(

Post 1967 ceneration (Crisis of Military Service)

مما هو معروف أن الوجود الصهيوني يستند إلى العنف والإرهاب، إذ أنه يهدف إلى التخلص من أصحاب الأرض وإحلال آخرين محلهم. وهي عملية لا يمكن أن تتم بالوسائل السلمية. كما أن الوجود الصهيوني كيان غُرس في المنطقة بسبب دوره القتالي ضد المنطقة العربية. وعلى مستوى من المستويات، يمكن القول بأن المشروع الصهيوني كان يهدف إلى نقل الشنورير أو المتسولين اليهود (وكل الفائض البشري اليهودي) إلى فلسطين وتحويلهم إلى مادة قتالية تخدم المصالح الغربية. وهذا هو أحد أهداف الجيوب الاستيطانية التي أسسها العالم الغربي في آسيا وأفريقيا. ولذا، فإن وجود كل جيب استيطاني يستند إلى قوة عسكرية ضخمة لتطرد السكان الأصليين أو لتقمعهم، ولتنفذ المخطط العسكري الغربي وتحقق الحد الأدنى من الطمأنينة لجماهير المغتصبين من المستوطنين. والقوة العسكرية الصهيونية تنتمي لهذا النمط، وقد أحرزت قدراً لا بأس به من النجاح والشرعية أمام جماهير المستوطنين.

وكانت العسكرية الصهيونية قد نجحت في أن ترسخ في وجدان الإسرائيليين فكرة أن إسرائيل دولة صغيرة تدافع عن نفسها ضد هجمات جيرانها العرب، الأمر الذي أعطى الحروب الصهيونية ضد العرب حتى عام 1967 عقلانيتها ومشروعيتها. ولذا، كان يتم تجنيد الشباب الإسرائيلي بنجاح شديد، عن طريق التوجه إلى حسِّهم الأخلاقي والقومي والديني ورغبتهم في البقاء باعتبار أن الدفاع عن الذات رغبة إنسانية أخلاقية مشروعة.

بل إن الأيديولوجية الصهيونية التي تجعل اليهود شعباً مختاراً بالمعنى الحلولي (الديني والعلماني) وتخلع القداسة على كل ممتلكات الدولة، وبخاصة حدودها، خلعت القداسة على الجيش حتى أنه وُصف بأنه القداسة بعينها. وقد وصف بن جوريون الجيش بأنه خير مفسر للتوراة، فمفسر التوراة هو وحده القادر على تعريف حدود إسرائيل. ومن ثم اكتسبت الخدمة العسكرية قداسة خاصة. إلى جانب هذا كانت الخدمة العسكرية السبيل لدخول النخبة الحاكمة. ففي المجتمع الاستيطاني، لابد أن يدفع الفرد ضريبة الدمفيصبح جديراً بالحكم وصنع القرار. ولذا كان يتم تجنيد الشباب الإسرائيلي بنجاح شديد، عن طريق التوجه إلى حسِّهم الأخلاقي والقومي والديني، ورغبتهم في البقاء،باعتبار أن الدفاع عن الذات رغبة إنسانية أخلاقية مشروعة، وباعتبار أن العرب يهددون البقاء الإسرائيلي نفسه (ولذا قيل، عن صدق، إن كل شعب له جيش إلا في إسرائيل فهو جيش له شعب). ومما دعَّم كل هذه الادعاءات انتصارات إسرائيل المتتالية الحاسمة التي ضمنت للمستوطنين البقاء وتدفق المعونات من الخارج.

وقد ظل هذا هو الوضع السائد حتى عام 1967 حين بدأت المشاكل، وبدأ إيمان المستوطنين الصهاينة بنظرية الأمن الإسرائيلية ومشروعيتها في الاهتزاز. وكان أولها حرب الاستنزاف التي أحس الإسرائيليون خلالها أن عمليات النصر السريعة ليست أمراً متيسراً وسهلاً. ثم جاءت حرب 1973 حين اكتسحت القوات العربية المصرية والسورية خط بارليف والتحصينات العسكرية وألحقت خسائر بالعدو الصهيوني. ثم كان هناك أخيراً حرب لبنان («المستنقع اللبناني»، في المصطلح الإسرائيلي) التي انتهت بهزيمة ساحقـة. وبفشل ملحوظ في تحقيق الهدف الذي كانت تطمح إليه الحملة (القضاء بشكل نهائي على المقاومة الفلسطينية واللبنانية).

ثم شهدت هذه الفترة عمليات فدائية مستمرة لم تتوقف البتة كان آخرها وأهمها وتاجها عملية قبية التي قا بها مواطنان عربيان (أحدهما سوري والآخر تونسي) في 25 نوفمبر 1987 بمناسبة مرور 31 عاماً على مذبحة قبية. فقد استقلا طائرتين شراعيتين فاستُشهد أحدهما في الطريق ولكن نجح الآخر في الهبوط في إحدى المستوطناتالصهيونية فقتل ستة إسرائيليين ثم استُشهد (ولذا كان أحد شعارات الانتفاضة: ستة مقابل واحد). وقد بينت هذه العملية للمستوطنين الصهاينة أن ذاكرة العرب حية وأن ذراع الدولة الصهيونية الاستيطانية العسكرية القوية لا يمكن أن تضعهم في برج حصين ولا أن تقدم لهم الحماية طول الوقت. ثم جاءت انتفاضة الحجارة لتبين مدى عجز العدو عن القيام بالعمليات الجراحية والضربات الإجهاضية التي تسكت الآلام مرة واحدة.

هذا الوضع ولَّد لدى الإسرائيليين إحساساً عميقاً بما يُسمَّى «عقم الانتصار» لأن الحروب المستمرة (التي كان من المفروض في كل واحدة منها أن تنهي كل الحروب) لم تأت لا بالسلام ولا بالنصر. وقد تبين الإسرائيليون أنهم وصلوا إلى ما يمكن تسميته «نقطة الذروة»، أي أنهم وصلوا لأعلى نقط استخدام العنف والقوة دون جدوى.

إضافة إلى هذا أدرك كثير من الشباب الإسرائيلي أن الدولة الصهيونية ليست في حالة دفاع عن النفس كما يقولون وإنما هي دولة عدوانية. ففي حرب لبنان على سبيلالمثال أعلنت المؤسسة العسكرية أن الهدف من عملية سلام الجليل هو هدف دفاعي حتمي لوقف ما يسمونه الهجمات الفدائية وتطهير مساحة 67 كيلو متراً مربعاً من لبنان. ثم ظهر أن الهدف الحقيقي كان هو فرض حكومة وظيفية عميلة في لبنان تحت حماية إسرائيل، أي أنها لم تكن حرب خيار فُرضت على المستوطنين وإنما حرب دخلوها بملء إرادتهم. وقد أدَّى هذا إلى تداعي الإجماع القومي الإسرائيلي. كما أن استمرار الاحتلال في الضفة الغربية لما يزيد على عشرين عاماً كان من الصعب الدفاع عنه باعتباره دفاعاً عن النفس.

ومع تراجُع احتمالات الحرب بين العرب والمستوطنين الصهاينة (بعد توقيع شتى معاهدات السلام) أصبح الحديث عن العمليات العسكرية الإسرائيلية باعتبارها دفاعاً عن النفس أمراً مستحيلاً. ولا شك في أن زيادة معدلات العلمنة والعولمة والسعار الاستهلاكي لا تساعد كثيراً على تصعيد روح القتال. كما أن جو الخصخصة العام السائد في إسرائيل يزيد تمركز الفرد حول نفسه ويجعله يضع نفسه قبل المجتمع.

ويمكن هنا أن نورد هذه الواقعة مثالاً لما يحدث للشباب في إسرائيل. يمثل إسرائيل في مهرجان اليوروفيزيون ممثلة تُسمَّى «دانا» ولكن دانا هذه ليست امرأة حقيقية أصلاً، ولكنها كانت في الأصل رجلاً شاذاً من أصل يمني يُسمَّى بارون كوهين ثم أجرى عملية جراحية في لندن تحول بعدها إلى امرأة. وهو/هي شخصية تحظى بشعبية كبيرة غير عادية. وتحول امرأة إلى رجل (والعكس) مسألة تحدث الآن في مجتمعات كثيرة، ولكن حين يتحول الفعل الفردي إلى رمز قومي هنا يجب أن ندرس المسألة باعتبارها قضية اجتماعية وليس سلوكاً فردياً.

وكل هذه الأحداث مرتبطة تمام الارتباط بأهم الظواهر الاحتجاجية، أي انصراف الشباب من المستوطنين الصهاينة عن الخدمة العسكرية بل الفرار منها. وقد صرح وزير الدفاع (السابق) إسحق مردخاي بأن انخفاضاً حاداً طرأ على مستوى الاندفاع والرغبة القتالية في صفوف الشباب الإسرائيلي. ويتحدث الإسرائيليون بقلق عن طبقة من الشبان تُدعى «جيل إم. تي. في.» نسبة إلى قناة تقوم ببث الغناء بشكل متواصل في إسرائيل. وأعضاء هذا الجيل لا يبدون اكتراثاً بالأوضاع العامة للدولة، ويميلون إلى الدعة والراحة. وهذا على كل تعبير عن التوجه الاستهلاكي العام في المجتمعات الصناعية التي يُقال لها «متقدمة». وكما يقول مردخاي: "يعتقد البعض أننا وصلنا مرحلة الراحة، والبعض الآخر يرى أننا يجب ألا نساهم بكل جهودنا في الدفاع عن إسرائيل".

ومما يجدر ذكره أن أعضاء النخبة الجديدة (معظم الإسرائيليين في سن الشباب فمتوسط العمر هو 26.6، وهي بذلك لا تختلف كثيراً عن الدول العربية) وُلدوا بعد إنشاء الدولة ونشأوا بعد عام 1967، أي بعد أن دخلت الدولة الصهيونية المرحلة الفردوسية الاستهلاكية التي لم يَعد مواطنيها مهتمين فيها بالتراكم. ولذا، شهدت القوات العسكرية الإسرائيلية، لأول مرة في تاريخها، ظواهر احتجاجية مختلفة، جديدة عليها كل الجدة، مثل زيادة نزوح أبناء الكيبوتسات، العمود الفقري للمؤسسة العسكرية واحتياطيها الحقيقي. وقد زادت كذلك نسبة النازحين من الضباط والخبراء العسكريين والمهندسين والعاملين في الصناعات الحربية (وبعد توقُّف العمل في مشروع الطائرة لافي).

وكذلك، زادت نسبة تعاطي المخدرات وانتشار الجرائم الجنسية بين أفراد القوات الإسرائيلية والشباب (يُقال إن ثُلث الشباب في إسرائيل يتعاطون المخدرات)، وضعف مستوى الأداء بشكل ملحوظ حتى أنه ورد في أحد تقارير البنتاجون أن 10% من جملة الخسائر أثناء حرب لبنان كان مصدرها الإسرائيليون أنفسهم، وتُعَد هذه نسبة عالية جداً.

وقد لوحظ تخثُّر المادة العسكرية الإسرائيلية فتزايد الفساد والرشوة في صفوف القيادات ووزعت منشورات حول رواتب الضباط تسيء إلى هيبة الجيش. وقد اكتُشفت شبكة كاملة من كبار الضباط في الجيش الإسرائيلي ممن تلقوا رشاوي ضخمة من جنود الجيش، العاملين في الجنوب اللبناني والاحتياط، مقابل إعفاء هؤلاء الجنود من الخدمة العسكرية. (أشارت صحيفة معاريف إلى أن 15 ضابطاً ومسئولاً، منهم طبيب نفسي كبير في وزارة الدفاع الإسرائيلية، اشتركوا معاً في إصدار تقارير الإنهاء لأسباب مزيفة لجنود لديهم المال لكنهم يخشون الالتحاق بالخدمة العسكرية). كما يُحقق الآن مع الجنرال مي ميخارام، قائد سلاح البحرية السابق، لاتهامه بالفساد أثناء الخدمة العسكرية في شرائه معدات بحرية. أضف إلى هذا الضباط الذين يسرحون لخفض النفقات وأولئك الذين يمارسون التمييز العنصري ضد الإثيوبيين، والإثيوبيين المجندون الذين ينتحرون.

وفي فترة قريبة كان التطوع في صفوف قوات النخبة (وحدة المظلمين) يعتبر من الأعمال المرموقة. وقد اضطرت هذه القوات في السابق إلى الاعتذارات لعدد من الراغبين بالتطوع لوجود ما يكفيها من العناصر. غير أن الوضع الآن تغيَّر كما يبدو، فكثيرون يستخدمون حيلاً دنيئة للتخلص من الخدمة العسكرية مثل الزعم بمرورهم بأحوال نفسية مضطربة. بلغ عدد الهاربين من الخدمة العسكرية 13 ألفاً، كما أن 18% من الشباب الذين بلغوا سن التجنيد يُستبعدون من الخدمة بسبب أمراض عضوية ونفسية، و15% يُستبعدون لأسباب متنوعة، ويبلغ عدد المعافين لأسباب دينية ما يزيد عن 6%.

وفي إحدى استطلاعات الرأي صرَّح ثلث الشباب الإسرائيلي أنهم إن أتيحت لهم فرصة تحاشي الخدمة العسكرية الإجباربة (التي تستغرق ثلاث سنوات) لفعلوا ذلك. وقد لوحظ تصاعد معدلات الهروب من الشريط المحتل في لبنان. ويعتمد الجيش الإسرائيلي على نظام الاحتياط فيقوم باستدعاء جنود الاحتياط (الذين بلغ عددهم عام 1996 حوالي 429.000) مرة كل عام لمدة شهر حتى سن الخمسين لإعادة تدريبهم (ولذا كان يُقال إن الشعب الإسرائيلي هو جيش في إجازة لمدة إحدى عشر شهر). وقد لوحظ أن حوالي الثُلث يتغيبون. وأثناء الصدام الذي وقع بين الجيش الإسرائيلي وسكان نابلس في سبتمبر 1996 استدعت إحدى فرق الاحتياط الجنود التابعين لها والبالغ عددهم 340، فلم يحضر سوى 60، ولم يبق منهم سوى ثلاثين. وقد رفض أحدهم الذهاب للضفة الغربية (عدد المجندين الذين يرغبون في الخدمة في الأحداث القتالية يتراجع ليصل إلى 5% من عدد المجندين). والأهم من هذا كله أن هناك قبولاً اجتماعياً لهذا الموقف، وهو أمر جديد كل الجدة في التجمع الصهيوني الذي كانت الخدمة العسكريةفيه (حتى نهاية الستينيات) تُعدُّ الشرف الأكبر الذي يمكن أن يحصل عليه المواطن/المستوطن.

أمام هذا الوضع يفضل الجيش الإسرائيلي أن يستبعد مثيري المشاكل ويتركهم وشأنهم حتى لا تُثار القضية وحتى لا يناقشها الرأي العام (من أبطال التهرب من الخدمة العسكرية أفيف جيفين، ابن شقيقة موشي ديان، وهو من أشهر المغنين الشباب في إسرائيل ويُقال إنه يشبه في ملامحه وحركاته مايكل جاكسون. وقد ظهر قبل سنوات في التليفزيون وهو يتحدث عن كيفية حصوله على الإعفاء من الخدمة لأسباب نفسية. وقد انتهى به الأمر إلى الهجرة إلى بريطانيا بعد أن تقدم بطلب مسبب للهجرة ذكر فيه أنه يهاجر بسبب «سرطان الاحتلال»).

إن كل هذه الظواهر تدل على مدى عمق الأزمة الصهيونية، فجيش الدفاع الإسرائيلي هذا، وصورته التي يذيعها عن نفسه، لبنة أساسية في العقد الاجتماعي الصهيوني، وسند أساسي لشرعية الصهيونية سواء في علاقة المجتمع الصهيوني مع نفسه أو علاقته مع العالم الخارجي. واهتزاز الصورة هو اهتزاز الأُسس المهمة للشرعية.

ولكن من المفارقات التي تستحق التسجيل والملاحظة، أن هذا الجيل الجديد الذي يفر من الخدمة العسكرية ولا يكترث بها، هو جيل "أكثر عسكرية" كما يقول أفنيري شاليط (أستاذ العلوم السياسية بالجامعة العسكرية). ففي الأيام الأولى للاستيطان، كما يقول شاليط، كان الشعار السائد هو "فلتطلق النار ثم تذرف الدمع"، فالحرب كانت مفروضة على أبناء الجيل القديم (هكذا كان المستوطنون يظنون)، ولم تكن الحروب حروب اختبار. والحرب، كما كان الجميع يعرف، شيء رهيب. أما أعضاء الجيل الجديد، فقد خاضوا «حروب اختيار» كثيرة (غزو لبنان - قمع الانتفاضة)، أي حروب تمت بملء اختيار الإسرائيليين.

وقد وُلد أعضاء هذا الجيل فيما يُسمَّى «أرض إسرائيل» ولذا فهم يعتقدون تمام الاعتقاد أن الاحتلال بالقوة «مسألة طبيعية» وأن الضفة الغربية ليست أوكيوبايد occupied «أرضاً محتلة» وإنما أرض قومية توراتية ومن ثم هي أرض «متنازع عليها» disputed ديسبيوتيد (كما يقول المصطلح الأمريكي) وعلى اليهود الاحتفاظ بها ولا يحق لهم التنازل عنها أو التفاوض بشأنها. والعرب هنا هم «عرب يهودا والسامرة»، وبالتالي «خرق حقوقهم» لا يشكل مشكلة أخلاقية بالنسبة لهم.

وأعضاء هذا الجيل لا يختلفون كثيراً عن نتنياهو الذي صرح قائلاً: "ليس هناك أي نهر أو بحر يفصل الضفة الغربية عن باقي الأراضي الإسرائيلية. إنها جزء من دولة إسرائيل نفسها. إن الضفة الغربية هي مركز البلاد... إنها فناؤنا الخلفي وليست أرضاً غريبة عنا". بل أضاف قائلاً: "إن المناطق غير المأهولة أو ذات الكثافة السكانية القليلة ستشكل في إطار التسوية الدائمة مناطق أمنية ذات تواصل جغرافي وقرر ضرورة الحفاظ على ممرات أمنية وطرق تربط المستوطنات بعضها ببعض". واستخدام الصور المجازية المكانية يدل على ضمور الإحساس بالزمان والتاريخ عند نتنياهو (وهو في هذا لا يختلف عن أبناء جيله) الذين لا يرون إلا الأرض وأمن إسرائيل ولا يدركون الماضي أو المستقبل أو العرب من حولهم.

ومن خصائص هذا الجيل أن أعضاءه لم يشعروا قط بالعداء للسامية، أي بالعداء لليهود (ومع هذا فهم جيل أكثر ميلاً لليمين). وقد نُشر مقارنة بين الشباب الألمان والشباب الإسرائيلي، وتبين أن الشباب الإسرائيلي أكثر عنصرية تجاه الأجانب من الألمان، وهم لا يهتمون بما يُسمَّى «عقلية المنفى» بل لا يفهمون يهود المنفى (أي يهود العالم) ولا يفهمون لغتهم أو خطابهم أو شكواهم. والمفارقة الناجمة عن هذا أن كثيراً من القضايا التي تهم يهود المنفى لا تهم أعضاء هذا الجيل من قريب أو بعيد. فهم لا يكترثون باليهودية أو هيمنة الأرثوذكس على أمور الدفن والطلاق والزواج والتهويد (فهم علمانيون شاملون عالميون، لا يهتمون بالقضايا المحلية ولا يكترثون بمثل هذه الأمور)

وقد اتهم نتنياهو اليساريين بأنهم نسوا "معنى أن يكون المرء يهودياً" (عبارة همس بها رئيس الوزراء في أُذن أحد الحاخامات). ولكن هل يعرف جيل نتنياهو معنى اليهودية؟ هل تعني اليهودية شيئاً له؟ إن تصور أن التجمُّع الصهيوني أصبح «أكثر يهودية» و«أكثر تقليدية» بظهور نتنياهو، هو - في رأينا - تصور خاطئ. فهو في واقع الأمر قد أصبح «أكثر انغلاقاً» دون أن يصبح أكثر تقليدية أو تديناً، والربط بين الواحد والآخر ليس بالضرورة له قيمة تفسيرية كبيرة. فما يحدث في التجمع الصهيوني، ليس محاولة للعودة للتقاليد بالمعنى المتعارف عليه، وإنما هي محاولة أعضاء هذا التجمُّع أن يجدوا جذوراً لهم «روتس roots» تبرر لهم وجودهم، وأرضية صلبة يمكنهم الوقوف عليها (وهو أمر شائع في كل المجتمعات الاستيطانية). ولذا قال كثير من المعلقين إن انتخابات 1996 لم تكن انتخابات خاصة بـ «المصالح السياسية» (الاجتماعية والاقتصادية) وإنما كانت انتخابات خاصة بالهوية (وهو قول قد لا نتفق معه، ولكننا نقتبسه بسبب دلالته).

تقويض الأيديولوجية الصهيونية من خلال الاستهلاكية (والأمركة والعولمة والخصخصة والعلمنة)

Erosion of Zionist Ideology through Consumerism (and Americanization, Globalization, Privatization, and Secularization)

تسبَّبت الأزمة الصهيونية في ظهور أزمة أيديولوجية عميقة، فعبد أن طرح الصهاينة فكرة اليهودي الخالص، كما أسلفنا، وجدوا أن يهود المنفى شخصيات مريضة شاذة غير سوية. وهذا الشذوذ، ومن وجهة نظرهم، له مظهران أساسيان: أحدهما اقتصادي والآخر سياسي. أما المظهر الاقتصادي فيتضح في عدم إنتاجية اليهود واشتغالهم بأعمال السمسرة والمضاربات والأعمال الهامشية غير المنتجة مثل التهريب والأعمال المالية والعقارات وتجارة الرقيق الأبيض. أما المظهر السياسي، فيتلخص فيما يُطلَق عليه إشكالية العجز بسبب افتقاد السلطة أو السيادة. فالصهاينة يرون أنه بعد تحطيم الهيكل الثاني عام 70 ميلادية، أصبح اليهود جماعات مشتتة تشتغل بالتجارة والربا وتُوجَد خارج نطاق مؤسسات صنع القرار دون أن تساهم في صياغته، وتفتقر إلى أية سيادة سياسية مستقلة، الأمر الذي كان يعني ـ من وجهة نظر الصهاينة ـ توقُّف مسار التاريخ اليهودي.

وقد طرح الصهاينة رؤيتهم للمجتمع اليهودي المثالي (أي التجمُّع الصهيوني) كجزء من مشروع حضاري متكامل يهدف إلى تطبيع الشخصية اليهودية (وهذا في واقع الأمر أول استخدام للمصطلح في الأدبيات الصهيونية). والتطبيع هنا يعني الشفاء من عقلية الاستجداء الاقتصادي من الغير أو الأغيار ومن الاعتماد السياسي عليهم، كما يعني عدم الانغماس في أعمال اسمسرة والمضاربات والأعمال الهامشية غير المنتجة والتحول إلى شعب يهودي منتج بمعنى الكلمة يسيطر على كل مراحل العملية الإنتاجية، وبالتالي على مصيره الاقتصادي والسياسي. وقد عبَّر بوروخوف عن القضية نفسها بقوله إن الحل الصهيوني هو أن يقف الهرم الإنتاجي على قاعدته فيتركز اليهود في العمليات الإنتاجية (في قاعدة الهرم)، ويعملون بأيديهم، وتصبح أغلبيتهم من العمال والفلاحين. أما المهنيون والعاملون في القطاعين التجاري والمالي، فإنهم يصبحون قلة على قمة الهرم، شأنهم في هذا شأن أي مجتمع آخر. وهذا ما يُطلَق عليه اصطلاحًا «العمل العبري» و«غزو الأرض والعمل والحراسة والإنتاج»، أي أنيستولي الصهيوني على الأرض ويعمل فيها بيده ويسيطر على مراحل الإنتاج كافة، وهو إن فعل هذا يكن قد أنجز الثورة الصهيونية الحقة، فاستولى على الأرض وزرعها، وعلى الهيكل الاقتصادي وعمل فيه، وعلى الهيكل السياسي وتَحكَّم فيه، وتحوَّل هو نفسه من شخصية هامشية إلى شخصية منتجة، أي أنه يكون قد تم تطبيعهتمامًا. ومن هنا، يكون الاستيطان الإحلالي (الاستيلاء على الأرض وطرد سكانها والعمل فيها) لا فعلاً خارجيًا يحمل مدلولاً محدودًا وإنما هو فعل شامل ذو أبعاد سياسيةوقومية، وفي نهاية الأمر نفسية، وهو أيضًا يحل مشكلة المعنى بالنسبة للصهاينة ويعقلن وجودهم في فلسطين التي تلفظهم ويقاتل أهلها ضددهم.

لكن، وبعد مرور ما يقرب من خمسين عامًا على تأسيس الدولة الصهيونية، يمكن القول بأنها أبعد ما تكون عن قصة النجاح الموعود. أما على مستوى السيادة السياسية، فالمستوطن الصهيوني يضطر دائمًا نتيجة وضعه للاعتماد على قوة خارجية تضمن له البقاء والاستمرار من خلال الدعم العسكري والسياسي المستمرين، وهو ما يفرغ مفهوم السيادة من مضمونه تمامًا.

والدعم الاقتصادي للدولة الصهيونية يحل مشاكلها الاقتصادية ولكنه تذكير يومي للمواطن الإسرائيلي بأن الصهيونية لم تنجح في تطبيع اليهود وفي شفائهم من أمراض المنفى. فالمُستوطن الصهيوني أصبح شخصية استهلاكية، ولم يتحول إلى شخصية منتجة يعمل بيديه ويتواجد في مختلف المراحل الإنتاجية. فإنتاجية العامل الإسرائيلي تعادل نصف إنتاجية العامل الأمريكي، وهو أقل إنتاجية من عمال الدول الصناعية كلها (باستثناء إيطاليا). ويتبدَّى تقلُّص الإنتاجية الإسرائيلية في تقلص القطاع الإنتاجي وتضخُّم قطاع الخدمات. وقد لاحَظ أمنون روبنشتاين، أنه في عام 1945، أي قبل إعلان الدولة، كان عدد اليهود المشتغلين بأعمال إنتاجية هو 24%. وبعد إعلان الدولة، وقف الهرم الإنتاجي على قاعدته، وبلغ عدد اليهود المشتغلين بوظائف إنتاجية 69%. ولكن بعد مرور مائة عام على الاستيطان الصهيوني والممارسة الصهيونية، هبطت النسبة مرة أخرى إلى 23%.

وقد ساهمت الانتفاضة المجيدة في فضح العدو أمام نفسه، إذ ثبت أن العمالة العربية المنتجة لا تزال قائمة على أرض فلسطين قبل بعد عام 1948. ولم يحاول المجتمع الصهيوني أن يحل مشكلة العمالة من الداخل، أو حتى بالتوجه إلى الضمير اليهودي العالمي، وإنما حاول حلها عن طريق استيراد العمالة، وكأن الحديث عن زيادةالإنتاجية والعمل العبري قد تبخَّر جميعًا حتى على مستوى الديباجات اللفظية.

وتعبِّر أزمة الإنتاجية عن نفسها في تفشي المضاربات في صفوف الإسرائيليين. وقد ظهر أن المصارف الأساسية في إسرائيل، وكذلك قطاع كبير من المواطنين العاديين،متورطون في عمليات مضاربة تضمن لهم أرباحًا ثابتة بضمان الحكومة دون بذل أيِّ جهد ودون مخاطرة كبيرة، وهذه هي عقلية الوسيط الطفيلي. وقد كُشف النقاب عن أن بعض الكيبوتسات متورطة هي الأخرى في أعمال السمسرة والمضاربات. وقد تزايدت معدلات الجريمة في إسرائيل بشكل مذهل. ويُلاحَظ انتشار المخدرات والأمراض النفسية والبغاء.

والفشل الأيديولوجيوتآكل الأيديولوجية يُولِّد ما يُسمَّى «أزمة المعنى». وعادةً ما تؤدي أزمة المعنى إلى إحساس بالعدمية يحاول الإنسان التغلب عليه من خلال الاستغراق في عنصر مادي بشكل كامل (شرب المخدرات ـ الإباحية ـ الاستهلاك) يبحث الإنسان فهي عن قدر من اليقين. لكن ما يحدث هو العكس إذ أن تصاعُد الاستهلاك وإغراقالحواس فيه يزيد أزمة المعنى بدلاً من تهدئتها، ويزداد بذلك تآكُل الأيديولوجية وتقويضها.

وتوجد عناصر أخرى في بنية المجتمع الاستيطاني الصهيوني )الاستهلاكية) تصعد هذا الاتجاه.

1 ـ لوحظ أن المجتمعات العلمانية تمر بمرحلتين: مرحلة تقشفية تراكمية (صلبة)، وأخرى استلهاكية فردوسية (سائلة). وتنتمي المجتمعات الاستيطانية إلى نفس النمط، بل إن تحقق النمط في حالتها يتسم بقدر أعلى من الحدة والتطرف. فالمجتمعات الاستيطانية تبدأ هي الأخرى بمرحلة تقشفية حادة تتطلب التنظيم الصارم وضبط النفس وإنكارها بل التضحية والقتال المستمر (ضد الطبيعة المعادية والسكان المعادين)، وهي مرحلة تتسم بالأشكال الاقتصادية الجماعية والملكية الجماعية أو شبه الجماعية للأشياء وتضخُّم القطاع العسكري وتغلغله في كل القطاعات الأخرى. وهذه المرحلة هي المرحلة التقشفية التراكمية التي يتم فيها الاستيلاء على الأرض وكذلك طرد السكان الأصليين وإبادتهم ومراكمة رأس المال.

ولكن كل هذا يتـم، منذ البداية، باسم الهدف النهـائي والقيمة المرجعية النهائية والمطلق العلماني الأوحد، أي تحقيق الذات وتعظيم اللذة، وكل ما يتم من إرجاء لإشباع الغرائز إنما يتم باسم الاستهلاك الآجل. وإذا كانت مرحلة التقشف حادةً في تقشفها، فالمرحلة الاستهلاكية في المجتمعات الاستيطانية لا تقل عنها حدة. ويعود هذا إلى أن المُستوطن إنسان تَرَك وطنه واقتُلع من جذوره ليحقق حراكًا احتماعياً ومزيدًا من الاستهلاك، وانتقل إلى مجتمع استيطاني يظن أنه الفردوس الأرضي الموعود. والمهاجر المستوطن يرفض تقاليد وطنه أو يتركها وراءه أو يجمدها، وهو يقوم عادةً بعملية الاستيطان في غياب أية مؤسسات دينية، وإن وجُدت فهو عادةً يسيطر عليها ويوظفها لتقوم بعملية تسويغ عمليات الإبادة والطرد التي يقوم بها. وهو، إلى جانب كل هذا، لا يتبنَّى التقاليد الدينية والثقافية والاجتماعية للسكان المحليين وإنما يقوم بتحطيمها، ولذا فإنه يصبح كيانًا عاريًا تمامًا أمام المادة (والتجربة الاستيطانية الغربية هي بهذا المعنى تجربة علمانية مكثفة). ويعني كل هذا، في نهاية الأمر، أن قيم المنفعة واللذة تكون في مثل هذه المجتمعات في حالة تَرقُّب وانتظار لتتحقق وتكتسح المطلقات كافة في طريقها مع تزايد معدلات العلمنة.

والمُستوطَن الصهيوني لا يشكل استثناء من القاعدة، فقد بدأ بمرحلة ريادة مسلحة تقشفية وانتهى إلى مرحلة استهلاكية فردوسية. ولكن عملية الانتقال إلى المرحلة الثانية تمت بسرعة أكثر من المتوقع لأن المستوطنين الصهاينة كانوا منذ البداية مموَّلين من الخارج من قبَل اللورد روتشيلد، ثم زاد الدعم والتمويل بعد عام 1917 من قبَل المنظمة الصهيونية العالمية. ولكن فترة الريادة المسلحة لم تكن تقشفية بالقدر الكافي ولم تكن تراكمية على الإطلاق، وكانت تحوي داخلها قدرًا عاليًا من اللذة الآنية والسعار الاستهلاكي والرغبة الجامحة في تحقيق الذات. وبعد إنشاء الدولة، زاد الدعم من الخارج بدرجة لم يشهدها التاريخ الإنساني من قَبْل، وهو ما أدَّى إلى زيادة حدة التوقعات الاستهلاكية، وإلى إضعاف المقدرة على التقشف وعلى إرجاء المتعة.

ولذا، فحينما حققت إسرائيل انتصارًا في عام 1967، أي بعد نحو 20 عامًا وحسب من تأسيس الدولة، تفجرت الرغبات الاستهلاكية وزاد النزوع نحو اللذة وارتفعت التوقعات وانخفضت المقدرة على التحمل إذ شعر المستوطنون الصهاينة أن المرحلة التقشفية قد انتهت وأن الوقت قد حان لدخول مرحلة الاستهلاك والسلع المستوردة، وهذا يعني أن ارتفاع معدلات العلمنة في المجتمع أدَّى إلى اكتساح القيم، والمطلقات كافة، ومعها المطلق الصهيوني نفسه وسائر آليات ضبط النفس التي تتم في إطاره، وذلك قبل أن يضرب المجتمع بجذوره وقبل أن يؤسِّس بنيته التحتية. ولذا، تزايدت معدلات الأمركة في المجتمع، وضَعُفت مقدرة المستوطنين على تحمُّل المشاق. ومع تَفجُّر الانتفاضة تصاعدت حدة أزمة المجتمع الصهيوني.

لكل هذا تغيَّرت الأنماط الإدراكية في المجتمع فتراجع نموذج الكيبوتسنيك (عضو الكيبوتس) وظهر نموذج روش قطان، أي المواطن ذو الرأس الصغير والمعدة الكبيرة.

ونظرًا للتوجُّه نحو اللذة في التجمُّع الصهيوني نجد أن المفهوم القديم للمستوطن الصهيوني باعتباره رائدًا يمسك المحراث بيد والبندقية بالأخرى قد تآكل، وظهر نوع جديد من المستوطنين الذين يبحثون عن الحراك الاجتماعي وعن رفع مستوى معيشتهم. ولذا يُلاحَظ أن المستوطنات الجديدة في الضفة الغربية مختلفة عن المستوطنات القديمة، فلا توجد فيها أي مظهر من مظاهر التقشف وإنما توجد فيها منازل فاخرة وحمامات سباحة وكل أشكال الرفاهية. والدعوة إلى الاستيطان فيها لا تأخذ شكل شعارات دينية أو حتى شبه دينية ولا أيديولوجية (أو حتى شبه أيديولوجية) وإنما هي دعوة سافرة للاستهلاك، فإحدى الإعلانات تتحدث عن فيلا واسعة، في موقع جميل، بنصف ثمن الفيلات المماثلة داخل حدود 67 ولكنها مع هذا تقع على بُعد ثلاثين دقيقة من وسط القدس ونتانيا وتل أبيب.

وهذه البيوت الاستيطانية الفارهة لا يقوم المستوطنون بحراستها إذ يتولَّى الجيس الإسرائيلي هذه المهمة بالنيابة عنهم. ولذا بدلاً من أن تكون المستوطنات هي المواقع العسكرية الأمامية للقوات الصهيونية أصبحت تشكل عبئًا عسكريًا عليه. ولذا فقد أطلقنا على هذا النوع من الاستيطان «الاستيطان مكيف الهواء»، وهو يعكس واقع الحياة في إسرائيل أكثر من الشعارات الصهيونية الكاذبة التى تطلقها أبواق الدعاية الصهيونية.

2 ـ لا شك فى أن كون المجتمع الصهيوني مجتمع مهاجرين يعني أن هناك دائمًا جماعات بشرية جديدة تفد على المجتمع وتصعِّد من سعاره الاستهلاكي، كما حدث مع وصول المهاجرين السوفييت.

3 ـ مما يساعد على تفشي النزعة الاستهلاكية ظاهرة الأمركة، والأمركة هي أسلوب حياة جوهره اتخاذ موقف برجماتي ينصرف عن الكليات والمبادئ ليركز على التفاصيل وحل المشاكل المباشرة، ويعتمد العنف آلية أساسية من آليات حل الصراع، ويركز على الفرد بالدرجة الأولى وتأكيد ضرورة الإشباع الفوري.

وعلاقة إسرائيل بالولايات المتحدة علاقة خاصة وعميقة. فكلاهما مجتمع استيطاني مبني على محو تاريخ الآخر وإبادته وطرده. وكلاهما يستند إلى أسطورة الاستيطان الغربية (صهيون الجديدة). وإلى جانب هذه العلاقة الحضارية شبه الدينية، توجد العلاقة السياسية العملية وهي أن الولايات المتحدة هي الراعي الإمبريالي للدولة الصهيونيةالوظيفية التي تدعمه وتموله وتضمن بقاءه واستمراره، وهي تضم أكبر تجمُّع يهودي في العالم (يفوق في حجمه التجمُّع الصهيوني نفسه). وهي بغير شك علاقة تخلق تبادلاً اختياريًا وتربة خصبة للأمركة. هذا بطبيعة الحال إلى جانب الاتحاه العام في كل مجتمعات العالم نحو الأمركة مع تصاعُد معدلات العلمنة وتفشي النسبية الأخلاقية. والأمركة تعني تآكل الجذور وتساقط الحدود الأمر الذي يصعِّد السعار الاستهلاكي.

4 ـ والأمركة مرتبطة تمام الارتباط بالعولمة التي لها نفس الأثر في التجمُّع الصهيوني، فالإنسان الذي يفقد جذوره الإثنية والدينية يميل بشكل أكبر نحو الاستهلاك، لأن استهلاك السلع يصبح السبيل إلى تحقيق الفردوس الأرضي. وفي إطار العولمة تصبح السلع العالمية (أي الأمريكية) هي رمز هذه الجنة الجديدة.

وهذه الظواهر موجودة في كل المجتمعات ولكن أثرها السلبي أعمق في التجمُّع الصهيوني لأنه مجتمع يستند عقده الاجتماعي إلى أيديولوجية تشكل الهوية عصبها وعمودها الفقري.

5 ـ ويرتبط بكل هذا الاتجاه نحو الخصخصة، فالخصخصة تعني أن نقطة البدء هي الفرد وليس المجتمع، وأن المشروع الفردي يسبق المشروع القومي. ومثل هذا الموقف يزيد بغير شك حدة السعار الاستهلاكي. وللخصخصة أعمق الأثر في التجمُّع الصهيوني باعتباره تجمُّعًا استيطانيًا لابد أن ينظم نفسه تنظيمًا جماعيًا ليضمن لنفسه البقاء والاستمرار أمام مقاومة أصحاب الأرض.

الباب الثانى: الاستجابة الصهيونية/الإسرائيلية للأزمة

التكـــاثر المـــفرط للمصطــلحات الصهـــيـونية

Excessive Proliferation of Zionist Terminology

«التكاثر المفرط للمصطلحات الصهيونية» هو سمة أساسية للفكر الصهيوني منذ ظهوره. فهناك «الصهيونية الدبلوماسية» و«الصهيونية السياسية» و«الصهيونية العامة» و«الصهيونية العمالية» و«الصهيونية الاشتراكية» و«الصهيونية الدينية» و«الصهيونية العلمانية» و«الصهيونية الثقافية» و«الصهيونية الروحية» و«الصهيونية التصحيحية» و«الصهيونية التوفيقية» و«الصهيونية الإقليمية» و«صهيونية بدون صهيون» و«صهيونية صهيون» و«الصهيونية المسيحية» و«صهيونية الأغيار» و«صهيونية الدياسبورا» وغيرها من المصطلحات.

وقد استمرت الظاهرة بعد إنشاء الدولة وإن كان إسهال المصطلحات قد عبَّر عن نفسه من خلال أسماء الأحزاب التي تتغيَّر بمعدل جنوني عند كل انتخابات وما بينها.

وإذا كان التكاثر المفرط للمصطلحات سمة أساسية للخطاب الصهيوني قبل عام 1967، فإن الأمور ازدادت سوءاً بسبب تصاعُد الأزمة، فهناك الأزمة البنيوية للصهيونية وتوتر العلاقة بين المُستوطَن الصهيوني ويهود العالم. ولأن الأزمة لا حل لها والتوتر يتصاعد فإن الحلول المطروحة هي الأخرى تتزايد بشكل مفرط، ومن ثم تتكاثر المصطلحات وتتداخل فتضطرب.

وبعض التيارات الصهيونية الجديدة توصف بأنه «معتدلة» (صهيونية الخط الأخضر ـ صهيونية الحد الأدنى ـ الصهيونية الديموجرافية)، ويوصف البعض الآخر بأنه «متطرف» (صهيونية الأراضي ـ صهيونية الحد الأقصى ـ الصهيونية المتوحشة). وحقيقة الأمر أنه لا يوجد فارق جوهري بينهما، فكلاهما يَصدُر عن الصيغة الصهيونيةالأساسية الشاملة ولا يختلفان إلا فيما يتصل بطريقة التطبيق ونطاق التوسع. (ومع هذا ترى الولايات المتحدة [رائدة النظام العالمي الجديد] أن تيار المعتدلين الصهاينة وصهيونية عصر ما بعد الحداثة هما الأقرب لأهدافها، فالنظام العالمي الجديد يُفضل عدم المواجهة المباشرة مع الشعوب المستغَلة. وصهيونية الأراضي تؤدي إلى مثل هذه المواجهة).

ويظهر التداخل بين المصطلحات وعدم جدواها من الناحية التصنيفية في حالة هرتزل. فهو قد أظهر صيغة صهيونية معتدلة (وُصفت بأنها «صهيونية ليبرالية إنسانية») وأبطن صيغة الحد الأقصى المتوحشة. وقد حل التناقض بطريقة عملية ذكية إذ ربط التوسع (صهيونية الأراضي) بالهجرة (الصهيونية السوسيولوجية)، وجعل الثاني مشروطاً بالأول، فكأنه كان ليبرالياً قبل وصول المستوطنين، متوحشاً بعده. (ومع هذا، نجد من أتباع هرتزل الليبراليين من يشجبون صهيونية الحد الأقصى وينعتونها بالوحشية، وهي الصهيونية التي لم يرفضها المنظِّر الأول والزعيم الروحي، وإنما أخفاها وحسب لاعتبارات عملية!).

ويظهر الخلط في المصطلح أيضاً في إدراك الحركة الصهيونية أن «الشعب اليهودي» يؤثر المنفى على «الوطن القومي» وأنه يحجم عن الهجرة إليه. ولكنها مع هذا ترفض الاعتراف بالأمر الواقع. ومما يزيد الأمور اختلاطاً أن هؤلاء الذين يرفضون الهجرة يسمون أنفسهم «صهاينة» لأسباب نفسية محضة لا علاقة لها بواقعهم أو سلوكهم. وقد طالب بن جوريون بعدم تسميتهم «صهاينة»، فالصهيونية ـ كما قال ـ هي الهجرة والاستيطان (ومن وجهة نظرنا، الاستيلاء على الأرض وطرد سكانها والقتال من أجلها). وطالب بتسميتهم «أصدقاء صهيون» وحسب. ولكن مثل هذه الراديكالية قد تفضح المشروع الصهيوني ومن هنا مصطلحات مثل «الصهيونية النقدية» و«الصهيونية التقنية»، وهي سليلة مصطلح بورخوف «صهيونية الصالونات». وهي مصطلحات تشير إلى ظاهرة رفض أعضاء الجماعات اليهودية في العالم الهجرة دون تسميتها بشكل صريح.

وفي محاولتنا وصف الظاهرة الصهيونية وتسمية بعض جوانبها الجديدة الناجمة عن التغيُّرات التي طرأت عليها، نحتنا مجموعة من المصطلحات من بينها «صهيونية المرتزقة» و«الصهيونية الحلولية العضوية» و«صهيونية عصر ما بعد الحداثة». وفي بقية مداخل هذا الباب ستتناول هذه المصطلحات. وسنختمه بمدخلين يتناولان ما نتصور أنهما الاتجاهان الصهيونيان الأساسيان. وفي المدخل الأخير سنتناول الرؤية الإسرائيلية المباشرة للأزمة الصهيونية خارج الاعتذاريات والديباجات.

الصهيونية الجديدة

Neo-Zionism

«الصهيونية الجديدة» مصطلح له معنيان مختلفان:

1 ـ يُستخدَم المصطلح للإشارة إلى التيارات التوسعية المتشددة داخل إسرائيل التي تطالب بالاحتفاظ بكل الأراضي التي تم ضمها بعد عام 1967. والمصطلح، بذلك، يكون مرادفاً لمصطلح «صهيونية الأراضي» و«صهيونية الحد الأقصى».

2 ـ يُطلَق المصطلح أيضاً على صهاينة الولايات المتحدة الذين يؤيدون إسرائيل بحماس شديد ويقبلون برنامج القدس، ولكنهم مع هذا يرفضون الانضمام إلى المنظمةالصهيونية. وقد ظهر المصطلح بعد عام 1967. وهذه كلها تنويعات على المصطلح الذي نحتناه «الصهيوينة التوطينية». واستخدام نفس الكلمة للإشارة إلى مدلولين مختلفين يبين مدى اختلاط المصطلح الصهيوني.

صهيونية الخط الأخضر

Green Line Zionism

«صهيونية الخط الأخضر» هي الصهيونية التي تدعو إلى الانسحاب إلى فلسطين المحتلة قبل عام 1967. وقد ذاع المصطلح بعض الوقت بعد عام 1967. ودعاة صهيونية الخط الأخضر ليسوا كثيرين، كما أنه حين يتم التدقيق في خطابهم يكتشف الباحث أنهم يدعون إلى الاحتفاظ ببعض الأراضي أو المواقع في الضفة الغربيةلأسباب يُقال لها "أمنية".

الصهيونية الديموجرافية (السكانية(

Demographic Zionism

«الصهيونية الديموجرافية (السكانية)» مصطلح سكه عالم السياسة الإسرائيلي شلومو أفنيري، وهي الصهيونية التي تود الحفاظ على الطابع اليهودي للدولة الصهيونيةوالتي ترى أن الحفاظ على الأراضي التي تم ضمها عام 1967، وهي مناطق مأهولة بالسكان، يهدد هذا الطابع. ويرى هؤلاء أن تَزايُد عدد العرب يهدد الديموقراطية الإسرائيلية نفسها، إذ من الصعب على دولة ديموقراطية أن تضم أقلية كبيرة (قد تصبح أغلبية) وتنكر عليها حق الاشتراك في صنع القرار. ولذا يطالب دعاة هذا الاتجاه بتسليم المناطق المأهولة للعرب (كما حدث مع قطاع غزة) والاحتفاظ بالنقط الإستراتيجية لضمان الأمن الإسرائيلي الأمر الذي سيوفر لإسرائيل الجو الملائم لتطور اقتصادها بطريقة تسمح لها بقيادة منطقة الشرق الأوسط. ومصطلح «الصهيونية الديموجرافية» مرادف لمصطلح «الصهيونية السوسيولوجية».

الصهيونية السوسيولوجية

Sociological Zionism

انظر: «الصهيونية الديموجرافية )السكانية)».

الصهيونية الإنسانية (الهيومانية(

Humanistic Zionism

«الصهيونية الإنسانية» مصطلح قريب من مصطلح «صهيونية الحد الأدنى»، وهو يعني أن الصهيونية لا تستند إلى الغزو والقمع والإرهاب وإنما إلى مجموعة من القيم الإنسانية (الهيومانية). والمصطلح ليس له ما يسانده في الواقع، فالفلسفة الإنسانية (الهيومانية) تجعل من الإنسان مركز الكون ولا تُفرِّق بين إنسان وآخر. ومن ثم فإن تطبيق هذا على التجمُّع الصهيوني سيؤدي إلى إلغاء قانون العودة العنصري وفتح أبواب الهجرة أمام الفلسطينيين ليعودوا لوطنهم ويستعيدوا أرضهم وديارهم، كما سيُعطي الفلسطينيين في الأراضي المحتلة بعد عام 1967 الاستقلال الكامل وحق تقرير المصير. وغني عن القول أن كل هذا يعني نهاية التاريخ الصهيوني!

صهيونية الحد الأقصى

Maximal Zionism

«صهيونية الحد الأقصى» مصطلح شاع في إسرائيل في الآونة الأخيرة، وهو عادةً يشير إلى عقيدة أولئك الصهاينة الذين يرفضون التنازل عن أيِّ شبر مما يسمونه «أرض إسرائيل الكبرى». فالأراضي المحتلة في تصوُّرهم جزء من أرض الميعاد المقدَّسة ويمكن الاحتفاظ بها وبمن عليها من السكان دون التخلي بالضرورة عن الطابع اليهودي للدولة، فقمع العرب المستمر سيضمن هدوءهم وهدوء المناطق (ومن ثم فالمصطلح مرادف لمصطلح «صهيونية الأراضي» و«الصهيونية التوسعية»). ومن ثم، فهم يرفضون تقديم أية تنازلات إقليمية أو أي انسحاب للقوات الإسرائيلية أو أية تصفية ولو جزئية للمستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية والجولان أو غيرهما.

ومما يجدر ذكره أن دعاة صهيونية الحد الأقصى ليسوا من أعضاء الأحزاب الدينية وحسب، وإنما يضمون في صفوفهم كثيراً من اللادينيين. كما أن هناك من الدينيين من لا يمانع في التنازل عن الأراضي، للحفاظ على أرواح اليهود (بكواح نفيش).

وصهيونية الحد الأقصى كامنة في صهيونية الحد الأدنى (التي تبدي مرونة واستعداداً للتفاهم مع العرب). ويتأرجح الصهاينة بين الحدين الأقصى والأدنى بتغير الموازين الدولية والقوة الذاتية العسكرية الإسـرائيلية. ونظراً لذيليـة إسـرائيل وتبعيتها شبه الكاملة للولايات المتحدة، يمكن فهم أنماط هذا التأرجح بالرجوع إلى سياسات الولاياتالمتحدة. ونحن نذهب إلى أنه مع ظهور النظام العالمي الجديد، ورغبة الولايات المتحدة في تحويل العالم بأسره إلى مصنع وسوق (بغير قيم أو خصوصيات)، سيتم الضغط على إسرائيل حتى تظهر مرونة أكبر ومقدرة على التعاون مع بعض النظم والنخب العربية الحاكمة.

الصهيونية المتوحشة

Brutal Zionism

«الصهيونية المتوحشة» مصطلح يستخدمه دعاة «صهيونية الحد الأدنى» والصهاينة الإثنيون واللادينيون للإشارة إلى «صهيونية الحد الأقصى»، الدينية واللادينية وصهيونية جوش إيمونيم وكاخ.

الصهيونية المشيحانية

Messianic Zionism

«الصهيونية المشيحانية» هي «صهيونية الحد الأقصى» وإن كان المصطلح يؤكد الجوانب الأيديولوجية والديباجات اليهودية الأخروية. فالصهيونية المشيحانية هيالصهيونية التي تؤمن بأنها أيديولوجية مرتبطة تمام الارتباط بعقيدة الماشيَّح، ملك اليهود الذي سيقودهم في آخر الأيام ليؤسس مملكة صهيون الأزلية. ورغم أن كثيراً من الصهاينة العلمانيين قد يرفضون العقائد المشيحانية (باعتبارها متخلفة وغيبية) إلا أن المصطلح الصهيوني بأسره إن هو إلا صيغة معلمنة للعقائد المشيحانية. فالحديث عن «العودة» و«الهيكل الثالث» وغيرها من المصطلحات ينبع من العقيدة المشيحانية.

صهيونيــة الأراضـي

Territorial Zionism

انظر: «صهيونية الحد الأقصى».

الصهيونيــة التوسـعية

Expansionist Zionism

انظر: «صهيونية الحد الأقصى».

الصهيونيـة الفوريــة

Immediate Zionism

«الصهيونية الفورية» مصطلح استُخدم في بعض المؤتمرات الصهيونية في الثمانينيات. وكان الهدف من المصطلح هو شخذ همة الصهاينة التوطينيين حتى ينفضوا عنهم غبار المنفى ويهاجروا "على الفور" إلى فلسطين المحتلة ويستوطنون فيها. وغني عن القول أن المصطلح لم يحدث الهدف المطلوب منه.

الصهيونية الجسمانية (أو التجسيدية(

Bodily Zionism

«الصهيونية الجسمانية أو التجسيدية» ترجمة لمصطلح «تسيونيت بجشيم» وهو مصطلح استُخدم في بعض المؤتمرات الصهيونية في الثمانينيات ولا يختلف كثيراً عن «الصهيونية الفورية». ولعله محاولة لعلمنة مفهوم «عفوداه بجاشيموت» الحسيدي (أي «الخلاص بالجسد» (.

الصهيونية الاقتصادية

Economic Zionism

«الصهيونية الاقتصادية» مصطلح يعبِّر عن تقبل الفكر الصهيوني لحالة الدياسبورا النهائية وإحجام صهاينة العالم الغربي (الصهاينة التوطينيين) عن الهجرة إلى فلسطين، وهو يعني أن العلاقة بين يهود العالم والدولة الصهيونية ستكون علاقة "اقتصادية" مجردة، فلن يُطلَب من يهود العالم الهجرة وسيُكتفي بمطالبتهم بالاستثمار في إسرائيل، ولذا بدلاً من الحديث عن مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا ككل يمكن الحديث عن «مركزية إسرائيل في الحياة الاقتصادية للدياسبورا»، وهو ما يعني المزيد من انحسار الرؤية الصهيونية وحصرها في الوجود الاقتصادي لأعضاء الجماعات اليهودية.

الصهيونيـة النقديـة

Monetary Zionism

«الصهيونية النقدية» مصطلح لا يختلف كثيراً عن مصطلح «الصهيونية الاقتصادية» وإن كان يُشكِّل مزيداً من الانحسار والتسطح، فالمفهوم الكامن هو «مركزية إسرائيلفي الحياة النقدية [بمعنى المالية] للدياسبورا». والمصطلح مجرد تنويع على مصطلحنا «الصهيونية التوطينية»، وهو مرادف لمصطلح «صهيونية دفتر الشيكات».

صهيونية دفتر الشيكات

Check-Book Zionism

انظر: «الصهيونية النقدية».

صهيونيــة النفقــة

Alimony Zionism

«صهيونية الحد الأقصى» مصطلح مترادف تقريباً مع «الصهيونية النقدية» و«صهيونية دفتر الشيكات» وإن كان يُشكِّل انحساراً شبه كامل للصهيونية. فالصورة الكامنة هنا هي صورة اليهودي الذي تطارده طليقته (الدولة الصهيونية) وتطالبه بالنفقة فيضطر أن يدفع لها بل يجزل لها العطاء حتى تكف عن ملاحقته وفضحه أمام نفسه وأمام الجيران، أي أن المصطلح يجعل العلاقة بين يهود العالم والدولة الصهيونية علاقة برانية تماماً.

الصهـيونية التقـنية (أو الإلـكترونية(

High-Tech (or Electronic) Zionism

«الصهيونية التقنية (أو الإلكترونية)» مصطلح لا يختلف كثيراً عن مصطلح «الصهيونية الاقتصادية» وإن كان يشكل مزيداً من الانحسار إذ يصبح الشعار الصهيوني «مركزية إسرائيل في الحياة التقنية أو الإلكترونية للدياسبورا». والمصطلح هو مجرد تنويع على مصطلحنا «الصهيونية التوطينية».

الصهيونية اللوكس (أو الصهيونية مكيفة الهواء(

De Luxe (or Air-Conditioned) Zionism

«الصهيونية اللوكس» (أو «الصهيونية مكيفة الهواء») مصطلح قمنا بصياغته قياساً على عبارة زئيف شيف «الاستيطان دي لوكس» حيث يشير إلى أسلوب حياة المستوطنين في الضفة الغربية الذي يتسم بالرفاهية الشديدة (على عكس صهيونية المستوطنين الأوائل التي كانت تتسم بالتقشف). وقد نحتنا نحن مصطلح «الاستيطان مكيف الهواء» قبل ظهور مصطلح «الاستيطان اللوكس» بعدة سنين.

الصهيونية المكوكية

Shuttle Zionism

«الصهيونية المكوكية» مصطلح قمنا بنحته قياساً على مصطلح الاستيطان المكوكي (بالإنجليزية: شتل ستلمنت « shuttle settlement) والذي يُستخدَم للإشارة إلى المستوطنين الذين يقطنون الأراضي المحتلة بعد عام 1967 ولكنهم يعملون في الأرض المحتلة منذ عام 1948 فهم ينتقلون يومياً من المستوطنات ويعودون إليها فيحركة مكوكية. وقد قطن هؤلاء في الضفة الغربية بدافع واحد وهو أن المساكن في المستوطنات أكثر فخامة وترفاً وأقل تكلفة من المساكن خلف الخط الأخضر. ويُقال إنكثيراً من هؤلاء المكوكيين هم «محترفو الاستيطان» (بالإنجليزية: ستلمنت برفشينالز settlement professionals)، أي الذين اشتروا منازلهم هذه واستوطنوا في الضفة الغربية للحصول على "تعويضات" مناسبة إن اضطرت الدولة الصهيونية إلى نَقْل بعض المستوطنات، كما حدث من قبل في مستوطنة ياميت في سيناء.

الصهيونيــــــــة: دال بــلا مــــــدلول

Zionism: A Signifier without Signified

كلمة «صهيونية» تشير إلى مجموعة الأفكار التي كان المفروض فيها أن تهدي المستوطنين في ممارستهم وأفعالهم ولكنها بدلاً من ذلك وضعتهم في ورطة تاريخية، ولذا فَقَدت الكلمة كثيراً من جلالها ورومانسيتها، بل دلالتها. فقد أصبحت دالاً دون مدلول، كلمة فارغة من المعنى. وهذا أمر كان متوقعاً، فالصهيونية بأسرها هي حركة تستند إلى شعار يؤكد ضرورة فصل الدال عن المدلول : أرض بلا شعب لشعب بلا أرض. فالأرض المشار إليها بأنها «بلا شعب» هي أرض الفلسطينيين، وهو ما يعني ضرورة فصل الأرض عن الشعب الذي يقطن فيها والتي سماها باسمه ومنحها الهوية والدلالة. أما الشعب الذي لا أرض له، فهو الجماعات اليهودية التي تقطن في أنحاء العالم،لا تبحث عن وطن جديد لها، فهي قانعة بأوطانها، وهذا يعني أن الشعار الصهيوني يحاول أن يفصل الجماعات اليهودية عن واقعها المتنوع وعن أوطانها التي تقطن فيها والتي تمنحها اسمها (يهود أمريكا ـ يهود إنجلترا... إلخ)، كما تمنحها الهوية والدلالة.

وقد لاحظ أحد الكُتَّاب الإسرائيليين أن الصيغتين «صهيوني» (بالعبرية: تسيوني tzioni) و«غير المكترث» (بالعبرية: تسيني tzini) لا يوجد فارق كبير بينهما. والفارق بينهما في الإنجليزية هو حرف (o)، أي زيرو. فالصهيونية، هذه الأيديولوجية المشيحانية التي تدَّعي أنها القومية اليهودية، والتي تتطلب الحد الأقصى من الحماس والالتزام، فَقَدت دلالتها وأصبحت شيئاً لا يكترث به اليهود أعضاء هذه القومية المزعومة الذين تحاول الصهيونية "تحريرهم" من أسرهم في "المنفى"!

ويشير أحد الكُتَّاب الفكاهيين في إسرائيل إلى أن كلمتي «زايونيزم Zionism» الصهيونية و«زومبي Zombie» (وهو الميت الذي أُعيدت له الحياة بعد أن دخلت جسده قوة خارقة، ولذا يمكنه الحركة ولكنه لم يستعد لا القدرة على الكلام ولا حرية الإرادة) تردان في نفس الصفحة من المعجم الإنجليزي، الأمر الذي يدل ـ حسب تصوُّره ـ على ترابطهما، وأن الصهيونية إن هي إلا زومبي، أي جسد متحرِّك لا حياة فيه ولا معنى له. وهذا الكاتب الكوميدي لم يجانب الحقيقة كثيراً، فهناك العديد من المستوطناتالفارغة، تنعى من بناها، لا يسكن فيها أحد، ويُطلَق عليها بالإنجليزية: دمي ستلمنت dummy settlement. وقد آثرنا ترجمتها بعبارة «مستوطنات الأشباح» أو «مستوطنات زومبي»، فهي جسد قائم لا حياة فيه.

ونظراً لكل هذه التطورات أصبحت كلمة «صهيونية» (تسيونوت بالعبرية) تعني «كلام مدع أحمق» (الجيروساليم بوست 26 أبريل 1985) وتحمل أيضاً معنى "التباهي بالوطنية بشكل علني مُبالَغ فيه"، وتدل على الاتصاف بالسذاجة الشديدة في حقل السياسة (الإيكونومست 21 يوليه 1984وكتاب برنارد أفيشاي مأساة الصهيونية، ص 26). ومن الواضح أن حقل الكلمة الدلالي أو منظورها يشير إلى مجموعتين من البشر: صهاينة الخارج، أي الصهاينة التوطينيين الذين يحضرون إلى فندق صهيون ويحبون أن يسمعوا الخطب التي لا علاقة لها بالواقع، ولذا فهي ساذجة، مليئة بالادعاءات الحمقاء والتباهي العلني بالوطنية. وتشير في الوقت نفسه إلى الصهاينة الاستيطانيين الذين يعرفون أن الخطب التي عليهم إلقاؤها إن هي إلا خطب جوفاء ومبالغات لفظية لا معنى لها، ولكن عليهم إلقاءها على أية حال حتى يجزل لهم الضيوف العطاء. والمقصود الآن بعبارة مثـل «اعطه صهيونية» هو «فلتتفوه بكلام ضخم أجوف لا يحمل أي معنى»، فهو صوت بلا معنى، وجسد بلا روح، ودال بدون مدلول. أو كما نقول بالعامية المصرية: «هجّص» فالمسألة «هجـص في هجـص»، ويمكن أن نضيف لزيادة الدلالة «والأرزاق على الله». أو فلنُعلمن العبارة ونقـول: «والأرزاق على الولايات المتحدة ويهود الدياسبورا».

أرض بـــلا شــــعب: منظــــور إســــرائيلي

Land without a People: Israeli Perspective

رغم الحديث المستمر عن الانتصارات الإسرائيلية الساحقة، والتقدم الاقتصادي المذهل، والقوة العسكرية المتزايدة إلا أن الإسرائيليين يشعرون في أعماق أعماقهم بما سماه المؤرخ الإسرائيلي يعقوب تالمون «عقم الانتصار». أو كما قال المثقف الإسرائيلي شلومو رايخ: "إن إسرائيل تركض من نصر إلى نصر حتى تصل إلى هزيمتها النهائية المحتومة"، وكما قال الجنرال الفرنسي بوفر، الذي قاد القوات الفرنسية في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، إنه حين ذهب يهنئ إسحق رابين بانتصاره العسكريفي يونية 1967 بعد انتهاء المعركة بعدة أيام، وكانت القوات الإسرائيلية المشتركة لا تزال في طريق العودة إلى قواعدها، فوجئ أن الجنرال الإسرائيلي يقول وهو في قمةانتصاره: "ولكن ماذا سيتبقى من كل هذا؟". فالانتصارات الإسرائيلية لم تؤد إلى الهيمنة الإسرائيلية المرجوة ولم تؤد إلى تطبيع الحالة الصهيونية الإسرائيلية، فالدولةالصهيونية لا تزال دولة/شتتل، قلعة مدججة بالسلاح في حالة حرب نفسية مع كل جيرانها، وفي حالة حرب فعلية مع بعضهم، ولا يزال الشعب الفلسطيني يرفضها رفضاً كاملاً (ولذا نتحدث عن "الانتشارات" الإسرائيلية بدلاً من "الانتصارات" الإسرائيلية، فهو تحدد أفقي في المكان لا معنى له، وليس تطوراً رأسياً في الزمان يحدث تغييرات ذات معنى)، وفي حالة اعتماد مذل على الولايات المتحدة الأمريكية. وإذا كانت الدعاية الصهيونية المصقولة تتحدث عن الصابرا المتفائل المقاتل، فإن الوجدان الإسرائيلي يحكي قصة مغايرة تماماً، فهو وجدان مدرك للورطة التاريخية التي وضعت الصهيونية فيها المستوطنين الصهاينة، وهي ورطة لها أبعادها المختلفة، المترابطة المتعددة. وهذا الإحساس بالورطة يعبِّر عن نفسه أحياناً بطريقة مأساوية، وأحياناً أخرى بطريقة ملهاوية حين يتحول الإحساس بالنكبة إلى نكتة.

والمشاكل التي يدركها الإسرائيليون تماماً هي أن فلسطين ليست "أرضاً بلا شعب" كما زعمت الدعاية الصهيونية، وأن الفلسطينيين ليسوا مجرد عرب، وإنما هم كيان محدد داخل التشكيل الحضاري القومي العربي. وهذا الإدراك يدمر شرعية الوجود الصهيوني ويسحب من تحته البساط، مهما كان حجم الانتصارات التي تحققها إسرائيل ومهما كان صخب دعايتها. وحتى إن غيَّرت منظمة التحرير الفلسطينية ميثاقها لتؤكد للمستوطنين أنها لا تنوي تحطيم دولتهم الصهيونية فهذا لا يغيِّر الحقائق البنيوية، الحضارية والإنسانية والمادية القائمة، فالفلسطينيون هناك يقرعون الأبواب في سلام غاضب أحياناً، وأحياناً أخرى بالأحجار أو حتى بالنار، ليذكِّروا الإسرائيليين بأن كيانهم الصهيوني يستند إلى أكذوبة تاريخية.

ولهذا، فإن الإسرائيليين، كما يقول عاموس إيلون "أصبحوا غير قادرين على ترديد الحجج البسيطة المصقولة وأنصاف الحقائق المتناسقة التي كان يسوقها الجيل السابق" (تتصل بأن فلسطين أرض بلا شعب). وقد عبَّر الشاعر الإسرائيلي إيلي إيلون عن هذه القضية بقوله: "إن البعث التاريخي للشعب اليهودي، وأي شيء يقيمه الإسرائيليونمهما كان جميلاً، إنما يقوم على ظلم الأمة الأخرى. ولسوف يخرج شباب إسرائيل ليحارب ويموت من أجل شيء قائم أساساً على الظلم، إن هذا الشك، هذا الشك وحده، يشكل أساساً صعباً للحياة".

وتتناول قصة "في مواجهة الغابة" التي كتبها الروائي الإسرائيلي أبراهام يهوشوا، التي وُصفت بأنها هدامة وانتحارية، بعض الأحداث في حياة طالب يكتب دراسة عن حروب الفرنجة (وهذه تجربة تاريخية أخرى عقيمة وعاجزة تطارد العقل الإسرائيلي، فقد فشلت تماماً في تحقيق وجودها وكان مآلها الاختفاء). وقد عُيِّن بطل القصة الإسرائيلي حارساً لغابة غرسها الصندوق القومي اليهودي في موقع قرية عربية أزالها الصهاينة مع ما أزالوه من قرى ومدن، وكانت كل شجرة في الغابة تحمل اسم أحد المساهمين المتحمسين من الصهاينة التوطينيين من يهود الخارج. ورغم أن البطل ينشد الوحدة، إلا أنه يقابل عربياً عجوزاً أبكم من أهل القرية يقوم برعاية الغابة، وتنشأ علاقة حب وكراهية بين العربي والإسرائيلي، فالإسرائيلي يخشى انتقام العربي، ومع ذلك فإنه يجد نفسه منجذباً إليه بصورة غير عادية، بل يكتشف الحارس المعيَّن من قبَل الصندوق القومي اليهودي أنه يحاول، بلا وعي، مساعدة العربي في إشعال النار بالغابة. وفي النهاية، عندما ينجح العربي في أن يضرم النار في الغابة كلها، يتخلص البطل من كل مشاعره المكبوتة.

ومن أكثر النكت دلالة تلك النكتة العبثية التي أطلقها يعقوب أجمون المسئول عن احتفالات الذكرى الأربعين لتأسيس إسرائيل، إذ يقول: إن المشروع الصهيوني كله يستند إلى سوء فهم وخطأ إذ كان من المفروض أن يتم في كندا بدلاً من فلسطين. ويرجع هذا إلى تعثُّر لسان موسى التوراتي، فحينما سأله الإله أي بلد تريد كان من المفروض أن يقول «كندا» على التو ولكنه تلعثم وقال «كاكاكا - نانانا» فأعطاه الإله «أرض كنعان» (أي فلسطين) بدلاً من كندا. فهاج عليه بنو إسرائيل وماجو وقالوا له: "كان بوسعك أن تحصل على كندا بدلاً من هذا المكان البائس، الخرب، هذا الوباء الشرق أوسطي الذي تحيط به الرمال والعرب". والنكتة هنا تعبِّر عن إحساس عميق بالورطة التاريخية وبالطريق المسدود الذي يؤدي إلى العدمية الكاملة.

ونجد نفس الإحساس في هذه القصيدة القصيرة التي خطها مستوطن صهيوني على حائط دورة المياه في الجامعة العبرية.

ليذهب السفارد إلى إسبانيا

والإشكناز إلى أوربا

والعرب إلى الصحراء،

ولنُعد هذه الأرض إلى الخالق -

فقد سبب لنا من المتاعب الكفاية

بوعده هذه الأرض لكل الناس.

والقصيدة مثل نكتة أجمون تعبير فكاهي عبثي عن رفض فكرة الوعد الإلهي التي يستند إليها الخطاب الصهيوني.

وتظهر العبثية في إحساس الإسرائيليين بحالة الحرب الدائمة كما يتضح في قصيدة الشاعر شاليف "صلاة على جرحى الحرب" حيث يخاطب الشاعر الإله قائلاً:

رب المصابين الساكنين في الجبس،

رب المصابين ممن يتنفسون الأوكسجين،

رب النفوس التي فوق أسرتها

أكياس الدم أرجوانية اللون

معلقة،...

ومن المعروف أن التصور الصهيوني يؤكد أن الإله تربطه علاقة خاصة بالشعب اليهودي (أو كما قال بن جوريون إذا كان الإله قد اختار الشعب فإن الشعب قد اختار الإله). ولهذا نجد أن كل المقدَّسات اليهودية ذات طابع قومي (وكل الظواهر «القومية»، مثل ظهور دولة إسرائيل، تحيطها هالة من القداسة في الوجدان الصهيوني). وتهدف استراتيجية الشاعر في هذه القصيدة إلى إزالة الغشاوة من على عيون الإسرائيليين وإخبارهم أن الإله لا تربطه بهم علاقة خاصة، وأنهم ليسوا شعباً مختاراً وإنما هم مثل بقية البشر تنزف دماؤهم ويحتاجون إلى نقل الدم. ومن هنا كانت الإشارات المتكررة للآلات والاصطلاحات الطبية الحديثة، ومن هنا أيضاً كان الابتهال الختامي في القصيدة الذي يختلف عن الابتهالات اليهودية التقليدية.

جل يا رب النفوس التي تعيش

ما بين عقاقير التهدئة وعقاقير التنويم

ما لا يقدر على تجليته للأرواح سواك.

ويظهر الإحساس بالورطة التاريخية في فقدان الإسرائيليين إحساسهم بالاتجاه كما يظهر في قصة ران أدليسط المعنونة أغنية الموت، وفي كلمات هذين الجندينالإسرائيليين الجالسين في الخنادق.

- هل ستسقط قنبلة،

- لقد سمعت أن الموقع البديل على طريق الإمدادات يشمل انتحاراً حقيقياً.

- ماذا إذن؟ هل سنظل هكذا للأبد!

- هل جننت؟

- هل ننسحب؟

- هل جننت؟

- حرب جديدة إذن؟

- هل الموقف مجرد من الأمل إلى هذا الحد؟

- هل تعرف ماذا تريد؟

- كلا.. وأنت؟

- كلا...

- واحسرتاه.. هيا بنا نفتش عن الموقع الثانوي.

- بوم!

إن حديث الجنديين المتفلسف يتخطى حدود موقفها ليشمل وضع الإسرائيليين ككل.

ونفس الإحساس بالعبث والحركة الدائرية التي تقود الإسرائيليين من حرب إلى أخرى تظهر في قصيدة الشاعر يعقوب باسار "الحرب المقبلة":

- الحرب المقبلة

ننشئها.. نربيها

ما بين حجرات النوم

وحجرات الأولاد..

والنعاس

آخذ في الاصطباغ بالسواد.

إن الشاعر يرى أن الجهد الإسرائيلي مُنصَّب على استنبات زهرات الحديد للحرب المقبلة "ما بين حجرات النوم/وحجرات الأولاد".

هذا الإحساس بالعبثية وفقدان الاتجاه عند الإسرائيليين يتضح في ظهور موضوع «الخوف من الإنجاب» في القصص الإسرائيلي. فمن المعروف أن الدولة الصهيونيةتشجع النسل بشكل مهووس لا حباً في الإخصاب والأطفال، وإنما كوسيلة لتثبيت أركان الاستعمار الاستيطاني، ولكن من المعروف أيضاً أن معدل الإنجاب في إسرائيل من أقل المعدلات في العالم. حتى أنهم فكروا في أن يعلنوا للإنجاب عاماً ينصرف فيه الإسرائيليون لإنجاب أطفال أكثر. وكان رد الإسرائيليين، كما هو متوقع، سريعاً وحاسماً وملهاوياً، إذ قال أحدهم إن على رئيس الوزراء أن يعود إلى منزله فوراً للقيام بواجبه الوطني مع زوجته. وهو واجب وطني بالفعل، فكما يقول أرنون سابير أستاذ الجغرافيا الإسرائيلي: "إن السيادة على أرض إسرائيل لن تُحسَم بالبندقية أو القنبلة اليدوية بل ستُحسَم من خلال ساحتين: غرفة النوم والجامعات، وسيتفوق الفلسطينيون علينا في هاتين الساحتين خلال فترة غير طويلة". ومن هنا الإشارة إلى المرأة الفلسطينية النفوض، التي تنجب العديد من الأطفال، بأنها "قنبلة بيولوجية". وتعود ظاهرة العزوف عن الإنجاب إلى عدة أسباب عامة (تركُّز الإسرائيليين في المدن - علمنة المجتمع الإسرائيلي والتوجه نحو اللذة... إلخ). لكن لا يمكن إنكار أن عدم الإنجاب إنما هو انعكاس لوضع خاص داخل المجتمع الإسرائيلي وتعبير عن قلق الإسرائيليين من وضعهم الشاذ باعتبارهم دولة مغروسة بالقوة في المنطقة. ففي قصة الحالمة للكاتبة بنيناه عاميت نجد أن البطلة سيطر عليها الخوف والكوابيس، فهي تحلم بالقنابل والمعارك والحرب، وحينما تسألها أمها "لماذا لا يكون لي حفيد في النهاية يا ابنتي؟" فإنها تلوذ بالصمت (والصمت هو الاستجابة الوحيدة المتاحة لكثير من أبطال القصص الإسرائيلية).

ومن القصص الإسرائيلية الطريفة قصة العَلمين ليعقوب شافيت التي تعالج موضوع الخوف من الإنجاب وتدور حوادثها حول رغبة أم إسرائيلية في التخلص من الجنين، ولكن إحدى الشخصيات (العمة إيطة) تثنيها عن عزمها عن طريق الوعد والوعيد والتهديد بالفضيحة، وراوي القصة هو الطفل الذي وُلد فيما بعد، والذي يبدأها بقوله "في أكتوبر 42 أنقذت عمتي إيطة البشرية". ويذكرنا الراوي أن في هذا اليوم كانت تدور رحى معركة العلمين (ولذلك تتخلل القصة فلاشات وصفية للمعركة والدبابات والدخان الأسود). والأم تحس بوضعها كإنسان ضعيف داخل هذا الإطار من الصراعات العالمية، ولذلك فهي تتساءل عن جدوى إنجاب الأطفال إذا كان مقدراً لهم أن يعيشوا حتماً داخل الحرب دون طعام حتى يقضون. ولكن العمة إيطة تخبر الأم أنه لابد من الإنجاب من أجل البشرية، فترد عليها قائلة "فلتلدهم البشرية إذن". والعمة إيطة شخصيـة ضيقـة الأفـق "منهكــة دائمــاً في إلقــاء موعظـة أخــلاقية تربوية"، "تفيض بالعزم والتصميم"، "لا تتحدث إلا لتُصدر أوامر" وهي تهاجم الأم "كأنها حيوان مفترس يهاجم دجاجة".

في داخل هذا العبث وفقدان الاتجاه، تسيطر السوداوية والحتمية والإحساس بأن حالة الحرب دائمة. ويظهر هذا الاستسلام الكامل في كلمات موشيه ديان في جنازة صديقه روي روتبرج، الذي قتله الفدائيون الفلسطينيون. فقد قال وزير الدفاع والخارجية الإسرائيلي السابق: "إننا جيل من المستوطنين، ولا نستطيع غرس شجرة أو بناء بيت، دون الخوذة الحديدية والمدفع؛ علينا ألا نغمض عيوننا عن الحقد المشتعل في أفئدة مئات الآلاف من العرب حولنا. علينا ألا ندير رؤوسنا حتى لا ترتعش أيدينا. إنه قدر جيلنا، إنه خيار جيلنا، أن نكون مستعدين ومسلحين، أن نكون أقوياء وقساة، حتى لا يسقط السيف من قبضتنا وتنتهي الحياة".

ومنذ بضع سنوات لاحظ الشاعر الإسرائيلي حاييم جوري بمرارة ما سماه «مركب إسحاق» وهو أن الإنسان الإسرائيلي يُولَد "وفي داخله السكين الذي سيذبحه"، كما بيَّن جوري أن "هذا التراب (أي إسرائيل) لا يرتوي"، فهو يطالب دائماً "بالمزيد من المدافن وصناديق دفن الموتى"، كما لو كانت أرض إسرائيل آلهة ثأر بذيئة، لا مجرد قطعة أرض أو إقليم. كما لاحظ الكاتب الإسرائيلي بن عيزر أن الإسرائيليين الشباب، الذي يخدمون في الجيش، يشعرون أن أهلهم بالاشتراك مع الدولة يضحون بهم دونتعويض أو عزاء من عقيدة دينية تؤمن بالحياة بعد الموت، ولذا فهم يشعرون أن هذه الحروب هي "تضحية علمانية بإسحق"، أي أنها تضحية بشرية لا هدف لها ولا معنى.

ثم تظهر أساطير قومية تترجم هذا الوضع إلى بناء أيديولوجي أسطوري مُحكَم، ومن هنا ظهرت أسطورة ماساداه وشمشون. وفي كلا الأسطورتين ثمة حالة حصار نهائيةمغلقة، لا يمكن الفكاك منها إلا بتدمير الذات وتدمير الآخر، فنهايتها ليست سعيدة وإنما إبادية للجميع. ومع هذا رغم كل هذا الحديث عن الحصار والدمار فإن الوجدانالإسرائيلي يتجاوز الأساطير الصهيونية المصقولة. فيشير يهوشوفاط هركابي إلى أن الإسرائيليين يميلون إلى تمجيد الوهم ويخفقون في إدراك أن الواقع مُحدَّد بحدود الممكن. ثم يشير إلى قصة صهيونية انتحارية أخرى هي قصة بركوخبا الذي تحالف مع بعض الحاخامات فأعلنوا أنه الماشيَّح وقرروا مواجهة الإمبراطورية الرومانية دون حساب موازين القوى أو معرفة مدى قوة الرومان فيما يعرف بالتمرد اليهودي الثاني ضد الرومان (132 - 125 ق.م). وبطبيعة الحال تم القضاء على المتمردين وعلى تمرُّدهم وعلى البقية الباقية من الوجود اليهودي الهزيل في فلسطين، أي أن النزعة الانتحارية الشمشونية هنا لم تؤد إلى القضاء على الآخر وإنما على الذات وحسب، ويُسمِّي هركابي هذا "أعراض بركوخبا"، فالنزعة الانتحارية مرض يصيب صاحبه وهي ليست بالضرورة ماساداه التي تدمر الذات والآخر.

ونفس النزعة نحو مراجعة أسطورة ماساداه توجد في قصيدة الشاعر حاييم حيفر التي كتبها أثناء الانتفاضة، فبدلاً من ماساداه يتحدث عن الطائرة المروحية الأمريكية، أي تلك الطائرة التي ستأتي حينما تحين لحظة النهاية وتحط فوق سطح السفارة الأمريكية (كما حدث في فيتنام) لتأخذ فلول المستوطنين وعملاء الولايات المتحدة. تبدأ القصيدة بالتصويت في الكنيست على الخروج الأخير ولذا "فلنرحل إلى أمريكا الآن/فلقد لملمنا حقائبنا وأمانينا". ويتدافع الجميع دون نظام ("لا تتزاحموا.. لكل مكانه/عفواً لا تضغطوا هكذا"). ويتصور رئيس الوزراء عملية الخروج السريع هذه وهو يجلس في مقعده في الطائرة "ويروق له المقام/يعلن أنه لا مكان للباقين" هنا، فلسان حاله وحال وزرائه هو "نحن ومن بعدنا الطوفان". إن الصورة السائدة هنا عكس صورة البطل الشمشوني في ماساداه الذي يهلك مع رفاقه:

وبسرعة أخذت الطائرة.. تطير

أما الدولة

فقد هُجرت

وحيدة.. تُركت.. إسرائيل.

وبعد بضعة بيوت وعظية احتجاجية ركيكة (أفلا يمكننا أن نحاول ثانيةً؟/أم أننا لسنا مواطنين مخلصين؟) نكتشف أن الطائرة قد طارت بالوزراء والأحلام:

فإن كنا حقاً هكذا.

وعليه حزمت حكومتنا لأمريكا حقائب الرحيل

فإنا جميعاً كذلك

في الرحيل إليها.. راغبين.

بعيداً عن ماساداه المتهالكة، بعيداً عن صهيون التي اشتعلت فيها النيران، إلى الولايات المتحدة الوطن القومي الآمن وربما الحقيقي.

ورنة الحزن الكامنة في النكت والقصائد الفكاهية تصبح واضحة في الأغاني الإسرائيلية فهي مليئة بالعدمية والحديث عن الدمار والفقدان والضياع والعزلة. ففي أعقاب انتصار عام 1967 لاحظ أفنيري أن من أكثر الأغاني شيوعاً أغنية تقول وبفرح شديد، "العالم كله ضدنا". والفرح هنا تعبير عن إحساس المستوطن الصهيوني بمفارقةموقفه، فهو بعد انتصاره (الذي يعبِّر عن "اختياره") يجد نفسه معزولاً عن العالم، فالأغنية تشبه تلك العبارة: "الحمد لله فأنا مكروه تماماً من كل الناس!".

وقد ازداد الإحساس بالضياع بعد عام 1973، ولنأخذ على سبيل المثال أربيل زلبر، المغني الذي انضم إلى يهودا أدر وشالوم هانوخ وكوَّنوا جماعة غناء روك تُسمَّى «تموز». والصورة العامة التي تشيعها هذه الجماعة هي صورة الشاب الشريد. وزلبر نفسه فقد ساقه وهو يلعب بقنبلة يديوية حين كان صبياً. وأهم أغانيه «هوليخ باطل» (حرفياً: صار أو راح باطلاً أو أصبح غير مجد أي بالعامية المصرية «مافيش فايدة») وتتحدث الأغنية عن متشرد يبحث عن المخدرات والجنس وقطع غيار السياراتالمسروقة.

كما تتحدث الأغاني عن أبطال العهد القديم وأنبيائه بطريقة تنم عن الاستخفاف الشديد، وهؤلاء الأبطال والأنبياء هم الرموز القومية اليهودية الصهيونية الأساسية. ففي أغنية داني ساندرسون يتحدث عن داود يهزم طالوت "وتخرج أسفار موسى الخمسة لتشجع... إن كنت تريد أن تصبح ملكاً علينا، في سن السادسة فلتصنع لنا حلبة صراع". وتسخر أغنية زلبر الأخرى من شمشون وتشير إليه باعتباره «عاملاً في عربة قمامة». أما داود فهناك مسرحية تتحدث عنه باعتباره شاذاً جنسياً. ومعظم المغنين من نتاج الكيبوتس وقد ظهروا بعد عام 1973 مع إدراك الصهاينة بداية أزمتهم.

ومن أشهر الأغاني في إسرائيل في الثمانينيات أغنية مائير باناي، وهي أغنية جميلة حزينة تعبِّر بشكل دقيق عن تساقط الشرعية الصهيونية وإحساس المستوطنين بذلك:

كلهم ذاهبون إلى مكان ما،

يرنون للمستقبل العذب،

أما أنا، فأستيقظ في الصباح

وأركب الحافلة رقم 5 المتجهة للشاطئ،

الحافلة مليئة بالدخان،

وعجوزان،

والكمساري.

وهناك كتابة على حائط أسمنتي:

ماذا حدث للدولة؟

انظر إلى الدولة وانظر إلى الأسمنت!

تغنّي الطيور «صباح الخير»

لعله يمكنني أن أطير معها بعيداً، ولا أسقط.

إن فراغ الحافلة رمز جيد لأزمة المستوطن الصهيوني السكانية، فليس فيها سوى عجوزان (لعلهما رمزاً «للشعب اليهودي» المسن). ويتساءل المغني عما حدث للدولة المكتوب اسمها على الأسمنت، وهو رمز للجمود والموت. مقابل كل هذا هناك غناء الطيور التي تبشر ببداية جديدة، خارج الحافلة الفارغة والأسمنت الصلب. ويود المغنيأن يطير بعيداً، أن ينزح عن كل هذا، ولكن الأغنية مع هذا تعبِّر عن عدم اليقين من إمكانية الفرار، فالسقوط احتمال وارد! أي أنه لا مكان للتقدم للأمام ولا التراجع للخلف!

ثمة إحساس إذن بفشل المشروع الصهيوني وخيبة أمل وإحباط نتيجة هذا، وهي أحاسيس عبَّرت عن نفسها في مجموعة من النكت الساخرة، والأغاني الحزينة والتي تحاول كلها الإفصاح عن وضع تاريخي مركَّب جداً لا مخرج منه، فالصهيوني غير قادر على الخروج من وضعه وأثبتت الأيام أنه قد يكون قادراً على إلحاق بعض الأذىبالعرب ولكنه غير قادر على تطبيع موقف والوصول إلى النهاية السعيدة: أي تفتُّت العرب، واختفاء الفلسطينيين.

وتدور أحداث قصيدة الشاعر إفرايم سيدون (التي رفض التليفزيون الإسرائيلي إذاعتها) في غرفة صالون يجلس فيه أربعة أشخاص، الأب والأم والطفل، أما رابعهم فهو الجندي الصهيوني، وبالتالي فهي خلية استيطانية سكانية مسلحة. وقد اندلع خارج المنزل حريق (رمز الانتفاضة وظهور الشعب الفلسطيني) وبدأ الدخان يدخل البيت عبر النافذة، إلا أن الأربعة يجلسون بهدوء ويشاهدون مسلسلة تليفزيونية ولا يكترثون بشيء. ثم ينشد الجميع:

هنا نجلس جميعاً

في بيتنا الصغير الهادئ،

نجلس في ارتياح جذل.

هذا أفضل لنا، حقاً إنه أفضل لنا.

- الأم: جيد هو وضعنا العام.

- الجندي: أو باختصار إيجابي.

- الأب: والوقت "عامل" لصالحنا.

- الطفل: إذا كان الوقت "عاملاً" فهو بالتأكيد عربي.

حينئذ يصفع الأب الطفل ويقول "أسكت يا وقح". وتعليق الطفل إشارة فكاهية للحقيقة المرة التي يدركها الإسرائيليون جيداً، أي تغلغل العمالة العربية في الكيان الإحلالي الصهيوني.

ثم تبدأ الأسرة تتحدث عن الحريق، أو بالأحرى تنكر وجوده:

- الأب: وإذا كانت هنا جمرة تهدد بالحريق.

- الأم: طفلي سينهض لإطفاء الحريق.

- الأب: وإذا اندلعت هنا وهناك حرائق صغيرة.

- الأم: سيسرع ابني لإطفائها بالهراوة.

- الأب: انهض يا بني اضربها قليلاً.

ويخاطب الأب النار فيخبرها أنها مسكينة، وأنها لن تؤثِّر فيه من قريب أو بعيد، وأنه سيطفئها في النهاية. وحينما تأكل النيران قدميه لا تضطرب الأم، فالأمر ليس خطيراً، إذ لديه "قدم صناعية" [لعلها مستوردة من الولايات المتحدة]، فالوقت - كما يقول الأب - "يعمل لصالحنا". ولكن الطفل ينطق بالحقيقة المرة، مرة أخرى:

- الطفل: بابا، بابا، لقد حرقنا الوقت [الزمن[.

- الأب: أسكت.

- الأم: إن من ينظر حولنا ويراقب، يرى كم أن الأب لا ينطق إلا بالصدق كعادته.

- الأب والأم: لقد أثبتنا للنار بشكل واضح.. من هو الرجل هنا، ومن هو الحاكم.

- الطفل: ولكن بابا... البيت...

- الأب: لا تشغلنا بالحقائق.

- الطفل والجندي: شعاري: إجْلس في صمت ولا تتعب.

- الرجال: لا تتحرك، لا تتزحزح، لا تفقد أعصابك.

- الجميع: فكهذا تُحارب النار.

وهذه القصيدة الفكاهية، شأنها شأن النكت، تخبئ رؤية متشائمة بشأن مستقبل ما يُسمَّى «الشعب اليهودي» الذي أصبح مستقبل المستوطنين الصهاينة الذين يستقرون في المكان وينكرون الزمان فتحرقهم الحقيقة وهم جالسون يراقبون مسلسلة تليفزيونية في هدوء وسكينة أو يستمعون إلى الدعاية الصهيونية في رضا كامل!

شــــعب بـــلا أرض: منظــــور إســــرائيلي

People without a Land: Israeli Perspective

ترى الصهيونية أن اليهود يكونون شعباً، شعباً واحداً، ولكنه شعب يتسم بالطفيلية والاستهلاكية. وقد زعمت الصهيونية أن مثل هذه الظواهر المرضية إن هي إلا من ظواهر المنفى وحسب وأنه حينما تنشأ الدولة الصهيونية فسيعود اليهودي إلى أرضه المقدَّسة أو القومية ليزرعها فيخلصها من العرب ويخلِّص نفسه من أدران المنفى التي علقت به وأعطت مبرراً لأعداء اليهود واليهودية أن يطلقوا اتهاماتهم المختلفة. وهذا ما يُسمَّى عقيدة «العمل العبري» التي تحولت إلى «عقدة العمل العبري» بعد أن فشل هذا الجانب من الحلم الصهيوني.

ويبدو أن هذا الموضوع (العمل العربي الحقيقي بدلاً من العمل العبري المزعوم) يلح على الوجدان الإسرائيلي إلحاحاً شديداً. ففي نكتة إسرائيلية نجد عجوزاً إسرائيلياً يجلس مع حفيده ويحكي له عن ذكرياته في الماضي. ويتصفح الاثنان ألبوم الصور، ويشير الجد إلى صورته في الثلاثينيات حين كان يبني بيته بنفسه، فيجيبه حفيده: "هل كنت عربياً في الماضي؟" فمهنة البناء لا يقوم بها سوى العرب، واستخلص الطفل نتائجه تأسيساً على تجربته لا تأسيساً على الادعاءات الصهيونية. ويقول الإسرائيليون تعليقاً على تغلغل العمالة العربية في القطاع الزراعي: "لماذا تطالب منظمة التحرير الفلسطينية باسترجاع الأرض الفلسطينية بكل هذا الإصرار؟ ألم يلاحظوا أن الفلسطينيين قد استعادوها بالفعل". فالأرض كما يعرف الصهاينة جيداً لمن يزرعها.

ولعل تغلغل العرب في قطاعات مثل الزراعة والبناء يعني أنهم يقومون بالأعمال الإنتاجية الأمر الذي حوَّل المستوطنين الصهاينة إلى وسطاء وطفيليين أو عاملين بالمهن الفكرية، شأنهم في هذا شأن يهود الجيتو (حسب التصوُّر الصهيوني). فالإنسان الإسرائيلي منشغل تماماً بالمضاربات وأسعار البورصة وأسعار التحويل. كما أن عدد العاملين بالمهن (الفكرية) أخذ هو الآخر في التزايد، وقد تصاعدت معدلات الاستهلاكية بشكل ملحوظ، وقد أصبح كل هذا موضع نكات الإسرائيليين، فهم يصفون المواطن الإسرائيلي بأنه «روش قطان» أي «الرأس الصغير». وصاحب الرأس الصغير، في المجاز الإسرائيلي، هو الإنسان ذو المعدة الكبيرة الذي لا يفكر إلا في مصلحته ومتعته واحتياجاته الشخصية وينصرف تماماً عن خدمة الوطن أو حتى التفكير فيه. إنه إنسان استهلاكي مادي لا يؤجل متعة اليوم إلى الغد. فسياسة الدولة الصهيونية - حسب إحدى النكات الإسرائيلية - هي تزويد جماهيرها بال T. V. C.، وهي الأحرف الأولى ل T.V., Video, and Cars وحسب الحلم الصهيوني كان من المفروض أن تصبح إسرائيل نوراً للأمم (ذات فولت عال جداً)، ولكنها أصبحت - حسب قول أحد الصحفيين الإسرائيليين - مجتمع الثلاثة ف (V): الفولفو والفيديو والفيلا. وأشار الصحفي الإسرائيلي مكابي دين (في الجيروساليم بوست) إلى أن الإسرائيليين يعملون مثل شعوب أمريكا اللاتينية (أي لا يعملون)، ويعيشون مثل شعوب أمريكا الشمالية (أي يتمتعون بمستوى معيشي عال)، ويدفعون الضرائب مثل الإيطاليين (أي يتهربون منها) ويقودون السيارات مثل المصريين (أي بجنون).

وتتضح هذه الاستهلاكية في التكالب الشديد على السلع الأمريكية والرغبة في الهجرة إلى الولايات المتحدة، أرض الميعاد الحقيقية. وقد نشرت مجلة عل همشار مقالاً بعنوان "خروج صهيون"، وكلمة "خروج" في الوجدان الديني اليهودي تعني "الخروج من مصر" و"الصعود إلى صهيون أو إرتس يسرائيل" أي فلسطين. ولذا فاستخدامهاللحديث عن "الخروج" من صهيون يحمل قدراً كبيراً من السخرية النابعة من الإحساس بالمفارقة المتضمنة في الموقف. وقد أشار المقال الذي كُتب عام 1987 إلى أن عدد النازحين سيبلغ 800 ألف إسرائيلي بعد 12 عام (في الواقع يُقال إن العدد قد وصل إلى مليون عام 1997). ثم علق كاتب المقال بقوله: إذا وضعنا في الاعتبار أن هيئة الأمم قد قررت الاعتراف بحق اليهود في أن تكون لهم دولة خاصة بهم في الوقت الذي كان عدد المستوطنين في البلاد يُقدر بحوالي 600 ألف، فإننا سنفهم المغزى لهذه المعلومة المفجعة!

ولا يَسْلم المستوطنون بطبيعة الحال من النكت الإسرائيلية الخاصة بالطفيلية. فقد أشار زئيف شيف المعلق العسكري الإسرائيلي إلى الاستيطان في الضفة الغربية بأنه "استيطان دي لوكس" فالمستوطنون هناك استهلاكيون وليسوا مقاتلين، يتأكدون من حجم حمام السباحة ومساحة الفيلا قبل الانتقال إلى المستوطنة. ولذلك تشير الصحف الإسرائيلية إلى هذا الاستيطان "باعتباره الصنبور الذي لا يُغلَق أبداً"، بل إنهم يشيرون إلى "محترفي الاستيطان" (بالإنجليزية: ستلمنت بروفشنالز settlement professionals) وهم المستوطنون الذين يستوطنون في الضفة الغربية انتظاراً للوقت الذي تنسحب فيه القوات الإسرائيلية ليحصلوا على التعويضات المناسبة (كما حدث في مستوطنة ياميت في شبه جزيرة سيناء). كما يشير الإسرائيليون إلى الاستيطان المكوكي (بالإنجليزية: شاتل ستلمنت shuttle settlement) وهي إشارة للمستوطنين الذين يستوطنون في الضفة الغربية بسبب رخص أسعار المساكن وحسب ولكنهم يعملون خلف الخط الأخضر وهو ما حوَّل المستوطنات إلى منامات يقضي فيها المستوطنون سحابة ليلهم. أي أنهم ينتقلون كالمكوك بين المستوطنات التي يعيشون فيها في الضفة الغربية ومكاتبهم التي يعملون فيها في المدن الإسرائيلية وراء الخط الأخضر.

ومن حق أي شعب أن يستهلك بالقدر الذي يريد طالما أنه يكد ويتعب وينتج ثم ينفق، ولكن الوضع ليس كذلك في إسرائيل فهم يعرفون أن الدولة الصهيونية "المستقلة" لايمكن أن توفر لنفسها البقاء والاستمرار ولا أن توفر لهم هذا المستوى المعيشي المرتفع إلا من خلال الدعم الاقتصادي والسياسي والعسكري الأمريكي المستمر طالما أنها تقوم بدور المدافع عن المصالح الأمريكية، أي أن الدولة الصهيونية دولة وظيفية، تُعرَّف في ضوء الوظيفة الموكلة لها. وقد وصف أحد الصحفيين الإسرائيليين الدولةالصهيونية بأنها "كلب حراسة، رأسه في واشنطن وذيله في القدس"، وهو وصف دقيق، صريح وقاس.

ولكن هناك دائماً الإحساس بالنكتة. فعندما طرح يعقوب أريدور خطة «دولرة» الشيكل أي ربطه بالدولار (وهي خطة رُفضت نظرياً في حينها وإن كانت نُفِّذت عملياً) اقترحت جيئولا كوهين، عضوة الكنيست، أن توضع صورة إبراهام لنكولن على العملة الإسرائيلية جنباً إلى جنب مع صور زعماء إسرائيل ونجمة داود، وأن يُدرَّس التاريخ الأمريكي للطلاب اليهود بدلاً من «التاريخ اليهودي».

وأوردت الجيروساليم بوست الحوار الخيالي التالي بين وزير المالية وشخص آخر:

الوزير: الخطوة الأولى هي أن نُخفِّض الميزانية، أما الثانية فهي تحطيم الشيكل واستخدام الدولار.

الآخر: وما الخطوة الثالثة؟

الوزير: الأمر واضح جداً، ننتقل إلى بروكلين (أحد أحياء اليهود في نيويورك)

وقد كتب أحد القراء لجريدة الجيروساليم بوست معلقاً على طفيلية الشخصية الإسرائيلية وعلى مدى اعتماد الدولة الصهيونية على الولايات المتحدة. يشير القارئ (في يناير 1985) إلى أن الدولة الصهيونية طلبت خمسة بليون دولار كمنحة من الولايات المتحدة، ثم يقترح ما يلي:

"بدلاً من نقل النقود للخزانة الإسرائيلية التي ستبددها في دعمها لصناعات غير كفء وبالتالي مفلسة، ولتعويض المضاربين سيئي الحظ في أسهم البورصة، ولدفع مبالغ من المال للصيارفة النهمين وفي محاولة تمكين سكان إسرائيل من أن يستمروا في أسلوب الحياة الذي تعوَّدوا عليه ولدفع مصاريف بيروقراطيتنا الوقحة التي تحتسي الشاي بشراهة، أرجو أن تسمحوا لي أن أقترح ما يلي على دافع المعونة:

يبلغ عدد سكان إسرائيل في الوقت الحالي 4.235.000 مكوَّنين من 1.160.000 أسرة، دخل كل أسرة الإجمالي هو 6.120 آلاف دولار.

فإذا قامت الحكومة الأمريكية بإرسال شيك لكل أسرة بما يعادل هذا المبلغ عن عام 1985، فإننا سنحصل على المزايا التالية: سنوفر على دافع الضرائب الأمريكي 385.52 مليون دولار، وبإمكان إسرائيل بأسرها أن تمكث في الفراش، وتلعب الجولف أو الطاولة أو تذهب لصيد السمك طوال العام. ويمكن أن نتخلص من البيروقراطيين الذين سيستفيدون أيضاً - فعدم العمل والحصول على راتب أمر طبيعي جداً بالنسبة لهم، وسينتهي العجز في الصناعات.

وشركة العال للطيران التي تخسر الكثير لأنها لا تطير يوم السبت، لن تخسر شيئاً على الإطلاق بأن تكف عن الطيران تماماً. ويمكننا حينئذ أن نزيد مدة الخدمة العسكرية (دون دفع أي مقابل) حتى نعطي الناس شيئاً يفعلونه. في الواقع سيكون العصر الألفي قد وصل "فالفهد (حيث لا يوجد عنده شيء آخر يفعله) سيرقد مع الكبش" وفي هذه الحالة سنتبع خطى يورام أريدور في طريق الدولرة وستتحقق النبوءة "وسيقودهم طفل صغير" (أشعياء 11/6).

وبعد حادثة بولارد واعتراض الولايات المتحدة على ترقية بعض الضباط الإسرائيليين المتورطين في الحادث وخضوع إسرائيل اقترح أحد الصحفيين الإسرائيلين أن تنتقم الدولة الصهيونية بتعيين بولارد نفسه سفيراً لإسرائيل لدى الولايات المتحدة، أي أن تنتحر الدولة الصهيونية تماماً.

ويدرك الإسرائيليين ورطتهم التاريخية كدولة استيطانية ليهود العالم الذين يرفضون الحضور إليها، فغالبيتهم الساحقة صهاينة توطينيون، أي أنهم على استعداد كامل لأن يطلقوا الشعارات الصهيونية الملتهبة عن الوطن القومي وأن يتظاهروا من أجله وأن يدفعوا التبرعات له، ولكنهم لا يظهرون أي استعداد للاستيطان فيه. وقد وصف المفكر الصهيوني العمالي بوروخوف هذا النوع من الصهيونية بأنه «صهيونية الصالونات»، كما أشار لها آخر بأنها «صهيونية بدون استيطان». وهذه المفارقة لا يمكن أن يتعامل معها الإسرائيليون إلا من خلال النكتة، فدولتهم الصهيونية تؤسس مستوطنات في الضفة الغربية تُسمَّى «مستوطنات الأشباح» (بالإنجليزية: دمي ستلمنت dummy settlements) إذ لا يوجد فيها مستوطنون. فيقول الإسرائيليون في إشارة واضحة ليهود الولايات المتحدة، إن أهم «دولة يهودية» في العالم هي «دولة نيويورك اليهودية» the Jewish State of New York. وفي هذا لعب بالألفاظ، فكلمة State الإنجليزية تعني «دولة» و«ولاية» في الوقت نفسه. كما يشير الإسرائيليون إلى يهود أمريكا باعتبارهم Jewish Wasps، وكلمة «واسب»، والتي تعني «دبور»، هي اختصار للعبارة الإنجليزية white Anglo-Saxon Protestant أي «بروتستانتي أبيض من أصل أنجلوساكسوني»، فكأن يهود أمريكا أمريكيون لحماً ودماً وقلباً وقالباً ولكنهم يتمسحون في الهوية اليهودية.

ويرى بعض الإسرائيليين أن يهود الولايات المتحدة ينظرون إلى إسرائيل باعتبارها «ديزني لاند» يهودية، أي مدينة ملاه يهودية يقصدونها بهدف الترويح عن النفس. وقال آخر إنها بالنسبة لهم بمنزلة «متحف قومي يهودي» يدخلونه ويقضون فيه بضع سويعات ويخرجون مليئين بالحماس الوطني ويعودون بعدها إلى بيوتهم وأوطانهم الحقيقية. وقد استخدم أحد المثقفين اصطلاح «فندق صهيون» ليصف علاقة يهود العالم بإسرائيل، فهم لا يحضرون إلى إسرائيل إلا حينما يكون الجو حسناً في الربيع والصيف، ويتركونها في الخريف والشتاء لعمال الفندق (من الصهاينة الاستيطانيين) ليغلقوا الأبواب والنوافذ ويقوموا بأعمال الصيانة والتحسينات إلى أن يعود السياح من الصهاينة التوطينيين أحباء فندق صهيون (وعلى كل يعود اصطلاح «صهيونية» لفعل «يصون»، حسب أحد التفسيرات، ولذا إذا قام الصهاينة بأعمال الصيانة فإن هذا أمر منطقي).

أما دفع المعونات للوطن القومي فهو هدف كثير من النكت التفكيكية. وقد أشار أحد المعلقين إلى ما سماه «يهودية دفتر الشيكات» وهو اليهودي الذي يعتقد أن بوسعه تحقيق هويته اليهودية بأن يدفع التبرعات للمؤسسات اليهودية والصهيونية. وهو يدفع هذا الشيك ليريح ضميره وحتى يمكنه بعد ذلك أن يتمتع بحياته الأمريكية الاستهلاكية غير اليهودية دون أي حرج وبشراهة بالغة.

وهناك من يذهب إلى أن دفع المعونات للوطن القومي يتم خوفاً منه لا حباً فيه. ومن هنا سمَّى الحاخام آرثر هرتزبرج يهود الولايات المتحدة «يهود النفقة»، أي أنهم يدفعون التبرعات للدولة الصهيونية لا حباً فيها وإنما اتقاءً لشرها ولشراء سكوتها عنهم. وقد استخدم إسرائيلي آخر صورة مجازية مغايرة تماماً، ولكنها تعبِّر عن نفس المعنى، أي الاتصال المؤقت وعدم الالتزام، حينما قال: إن يهود الخارج يغدقون الأموال على إسرائيل مثلما يغدق الرجل الأموال على عشيقته التي تعطيه بضع سويعات من السعادة الملونة، ولكنه يعود في نهاية الأمر لزوجته الأمريكية - الحقيقة الدائمة!

لكل هذا عُرِّف الصهيوني بأنه يهودي يجمع المال من يهودي ثان لإرسال يهودي ثالث إلى أرض الميعاد، والصهيوني هنا هو الصهيوني التوطيني. وقد شبَّه أحد المفكريناليهود الصهاينة التوطينيين بأعضاء فرق الإنشاد العسكري الذين ينشدون بحماس شديد عبارات مثل "تقدموا! تقدموا!" ولكنهم واقفون في أماكنهم لا يبرحونها ولا يتقدمونخطوة واحدة.

وحتى حينما يأتي اليهود من الخارج للاستيطان، فالأمر لا يخلو من المشاكل. فعلى سبيل المثال هناك مشكلة السفارد والإشكناز الذين يتبادلون الاتهامات والنكات. فيشير الإشكناز للسفارد باعتبارهم "شفارتز" أي "سود" ويقولون إن "الفرانك كرانك" أو "شحوريم"، أي إن "السفارد مرض"، ويرد السفارد بدورهم بالحديث عن "إشكي نازي". وهناك نكتة تبادلها السفارد عن طفل سفاري سئل عما يود أن يصبح حينما يكبر فكان رده "إشكنازي"! ولم يختلف الأمر كثيراً مع حضور المهاجرين السوفييت. فقد لاحظ الإسرائيليون أنهم صهاينة استيطانيون قالباً، أما قلباً فهم مرتزقة تماماً، باحثين عن الحراك الاجتماعي بأي ثمن وفي أي مكان، حتى لو كان أرض الميعاد. فهم جاءوا إلى صهيون لا بسبب قداستها وإنما بسبب أسعارها والفرص المادية المتاحة لهم. وتتناقل الصحف الإسرائيلية تصريحاتهم التي تعبِّر عن موقفهم النفعي تماماً. فواحد منهم يقول إنه لم يأت لاقتناء سيارة، فقد كان عنده سيارة في روسيا، وإنما أتى لاقتناء سيارة أكبر. وآخر يشكو من أن أرض الميعاد حارة جداً، وثالث، رغم ادعاءاته اليهودية، يظهر أنه لا يعرف عن عقيدته المزعومة سوى أن اليهود يوقدون الشموع في أحد أيام الأسبوع: الثلاثاء أو السبت، ورابع يسخر من حائط المبكى (بالعبرية: كوتيل) ويشير إليه بأنه «ديسكوتيل». وقد وصفت إحدى الصحف الإسرائيلية هؤلاء المهاجرين بأنهم يجلسون على حقائبهم، أي أنهم يتحينون الفرصة السانحة كي يفروا من صهيون، إلى أي مكان آخر يحقق لهم قدراً أكبر من الحراك الاجتماعي.

وقد كتب صحفي إسرائيلي خبيث، مقالاً فكاهياً في باب كان يُسمَّى «العمود الخامس» (بالإنجليزية: ففث كولامن Fifth Column) في الجيروساليم بوست (وهي عبارة يمكن ترجمتها أيضاً إلى «الطابور الخامس») معلقاً على وضع المهاجرين الجدد.

يبدأ المقال في مكتب التوظيف في إسرائيل ويدخل شاب تبدو عليه علامات الذكاء فيسأله الموظف: ماذا تعمل؟ فيقول "مهاجر جديد" فيفهم الموظف من إجابته هذه أنه من الوافدين ويسأله أي وظيفة تود أن تشغلها؟ فيجيبه الشاب "مهاجر جديد".

- نعم فهمت أنك "مهاجر جديد" ولكن ما نوع العمل الذي تود تأديته؟

- "مهاجر جديد".

فيبتسم الموظف إذ يتحقق من أن الشاب لا يفهم العبرية ويتحدث معه ببطء شديد.

- أأ نـ نـ ت

مـ مـ هـ هـا جـ جــ ر

جـ د يــ يـ د

حسناً أين ولدت؟

فيجيبه الشاب: "بتاح تكفا". وعند سماع هذه العبارة تغمر الدهشة وجه الموظف تماماً، إذ أن بتاح تكفا هي أول مستوطنة صهيونية في فلسطين والمولود فيها لا يمكن أن يكون وافداً فقد وُلد على أرض فلسطين المحتلة، وأن لغته الأولى هي العبرية، وحينما يطلب الموظف من الشاب تفسيراً يجيب هذا بقوله:

سمعت أن لديكم وظائف للمهاجرين الجدد. وأنا عاطل عن العمل. ولذا قررت أن أكون مهاجراً جديداً.. وقد سمعت أن هناك مئات الملايين من الدولارات لتأهيل المهاجرين الجدد. لمَ لا يُعاد تأهيلي حتى أصبح مهاجراً جديداً؟ فمثلاً يمكنني أن أتعلم كيف أتحدث بالعبرية الأساسية. ويمكن أن أتحدثها بلهجة رديئة، وسأرتدي ملابس مضحكة مثل المهاجرين الجدد. انظر، أنا مستعد أن أضحي بكل هذه الأمور، لقد سُرحت من الجيش منذ عام ولم أعثر بعد على عمل. أسمع أن كثيراً من أصدقائي ينزحون عن هذا البلد ولا أريد أن أفعل ذلك فأنا مؤمن بالصهيونية، وأحب هذا البلد، وإذا كانت الطريقة الوحيدة للبقاء هنا هي أن أصبح "مهاجراً جديداً" محترفاً حسناً إذن سأفعل ذلك. أعرف أن هذا يعني أنني سأصبح عضواً في أقلية محتقرة وأن أشعر بالحنين نحو وطني الأصلي.. كل شيء.. لا مانع عندي! إذا كان هذا هو المطلوب فأنا على استعداد للقيام به، سأكون مهاجراً جديداً مثالياً.. سأقضي وقتاً قصيراً في معهد تعليم العبرية. وسأتكيف تماماً في الجيش، وأعدك أن أطلب كل شيء مثل المهاجرين الجدد، وسأبقي هيئة الاستيعاب في حالة قلق حيث أنني لن أكف عن الشكوى بخصوص كل ما أحتاج إليه.

وقد رسم لنا الكاتب صورة فكاهية دقيقة للمهاجر الجديد وموقفه الاستهلاكي وبحثه عن الترف وشكواه المستمرة، عند هذه النقطة يُظهر الموظف تعاطفاً نحو الشاب ولكن تظهر مشكلة وهي أن حفيظة النفوس الخاصة به تدل على أنه وُلد في بتاح تكفا وبالتالي من المستحيل تصنيفه "مهاجراً جديداً"، فيخبره الشاب أنه لا يوجد مشكلة البتة ويطلب ستكر (ورقة لاصقة). وحينما يستفسر الموظف عن السبب يخبره الشاب أن وزارة الداخلية تصدر ورقات لاصقة تقول إن المعلومات الواردة بحفيظة النفوس ليست دليلاً قانونياً على القومية. عند هذه النقطة يرفض الموظف ويعرفه أن الورقات اللاصقة التي تصدرها وزارة الداخلية تشير إلى قضية من هو اليهودي، وتعني أن مَنْ يسجل نفسه يهودياً فيها لا يعني بالضرورة أن قد تهود حسب الشريعة فالإشارة هنا - كما يقول الموظف - إنما هي إلى التهود غير الشرعي، وهنا يقول الشاب: وماذا عن وصمة الانتماء إلى جيل الصابرا طيلة حياتي؟

والعبارة الأخيرة تلخص الموقف تماماً، وتبين الصراع المرتقب بين الوافدين والمستوطنين القدامى.

ويكتب نفس الكاتب مقالاً فكاهياً آخر، يُعلق فيه على مصير الصهيونية ككل ووضعها وما آلت إليه. وعنوان المقال هو «الصهيونية الخالدة» والمقال عبارة عن حوار بين متشائم ومتفائل. وحين يعلن الأول عن موت الصهيونية يؤكد له الثاني خلودها ثم يقدم له الأدلة الدامغة والبراهين القوية، مؤكداً له أن الهجرة الصهيونية من الولايات المتحدة لا تزال على قدم وساق". وبنبرة كلها يقين يقول "إن القنصلية الإسرائيلية في نيويورك أرسلت مائة نعش - إذ أن يهود أمريكا يحبون أن يُدفَنوا في إسرائيل" (وهذه ليست نكتة وإنما حقيقة تشكل استمراراً للتقاليد الدينية اليهودية). المهاجرون يحضرون إذن - كما يقول المتفائل - ولكن في قسم البضائع، والتظاهرات الصهيونية لا تزال تُعقَد ولكن في مكاتب الجنازات، وهي تطرح الشعار التالي: "اعطوني المؤمَّن عليهم، الموتى، الموميات، التي تود أن ترقد حرة" (وهذه معارضة ساخرة للشعار المكتوب على قاعدة تمثال الحرية في الولايات المتحدة). "ورغبة يهود أمريكا أن يُدفَنوا في إسرائيل تقوم دليلاً على أنهم قد يعمدون بوجودهم الزمني أو الدنيوي للولايات المتحدة، ولكن حينما يتصل الأمر بالأبدية فإنهم يعرفون أن وطنهم الحقيقي هو إسرائيل. ومن هنا «الصهيونية الخالدة». "كان بوسعهم أن يُدفَنوا في إحدى المناطق كثيفة الأشجار في الولايات المتحدة، ولكنهم يفضلون الريادة في أرض الميعاد بين شعبهم في تابوت خشبي... ويا لهم من مهاجرين مخلصين.. لا تراهم قط يتألمون من مفارقة أوطانهم ولا من أنه لا يوجد «كنتاكي فرايد تشيكن» في إسرائيل، بل إنك لا تراهم على الإطلاق، حمداً للسماء كنا نظن أن الهجرة من الولايات المتحدة قد انتهت... ولكننا نعرف الآن الحقيقة... إن الأمريكيين يموتون من أجل الحضور لإسرائيل".

الحمائم والصقور والنعام والطيور الإدراكية الأخرى: الاستجابة الاسرائيلية للانتفاضة

Hawks, Doves, Ostriches and Other Cognitive Birds: The Israeli Response to the Intifada

تم رصد استجابة المستوطنين الصهاينة للانتفاضة من خلال مقولتين اثنتين وحسب: الاعتدال والتشدُّد اللذين يُشار لهما بالحمائم والصقور. وهذه طريقة متعسفة جداً في الرصد، ولعلها تعود إلى تبسيطات النموذج المادي الإدراكي الذى يحوِّل الإنسان المركب إلى مادة بسيطة ثم ينظر لها من الخارج كما لو كانت مجرد حركة دون دوافع أو وعي. وتميل التصنيفات المادية إلى تصنيف الواقع بأسره إلى سالب وموجب والنظر إليه بشكل كمي براني.

وقد يكون من المفيد توسيع النموذج الإدراكي بما يتفق مع تركيبية الظاهرة الصهيونية فتضم للحمائم والصقور طيوراً إدراكية أخرى مثل الدجاج والنعام (وتنويعات عليها). والحمائم كما يُقال مسالمة دئماً، والصقور يُفترَض فيها أنها عدوانية شرسة. أما الدجاج فهو متخصص في الهرب، ويجيد النعام فن دفن رأسه في الرمال. والنعام هو أكثر أنواع الطيور الإدراكية انتشاراً في المُستوطَن الصهيوني وبخاصة بعد الانتفاضة، وإن كنا لا نعدم عدداً كبيراً من الدجاج الذى يتحدث كالصقور، وتوجد قلة نادرة من الحمائم ليس لها وزن كبير (على عكس ما تصوره الشائعات)، وإن كان يوجد عدد كبير من الصقور التى تتحدث كالحمائم. ويقول الدكتور قدري حفني: إن اليهود الشرقيين مثلاً هم حمائم تود أن تكون صقوراً لتثبت إخلاصها للنخبة الحاكمة الإشكنازية. وقد أسقط كثير من المعلقين السياسيين كل التدرجات والتداخلات من إدراكنا لأن نموذجهم المعرفي قاصر ساذج يحوى مقولتين اثنتين، ولذا لم نر الدجاج أو النعام ولا عشرات الطيور الإسرائيلية الأخرى القابعة التى تنتظر من يكتشفها ويرصدها.

1 ـ الحمائم:

وجهت صحيفة حداشوت سؤالاً إلى عدد من الإسرائيلين البارزين الذين يمثلون مختلف التيارات السياسية والثقافية. يقول: ماذا كنت تفعل لو كنت فلسطينياً؟ فجاء رد معظمهم بأنهم كانوا سيفعلون ما يفعله الفلسطينيون الآن، أى الانضمام للانتفاضة. بل أضاف أحدهم أنه «كان سيفعل أكثر من ذلك بعشرة أضعاف، وقبل هذا الوقت بكثير. وكنت سأفعل ذلك في ديزنجوف (أحد شوارع تل أبيب الرئيسية) بدلاً من نابلس. فهناك سيكون تأثيره أقوى». وهذا التصريح المسالم لا يؤدي بالضرورة إلى سلوك حمائمي، فموشي ديان كان مدركاً تماماً "لعدالة" المطالب العربية، وأن العرب سيثورون حتماً ويقاتلون ضد الصهاينة. ولكن مثل هذا الإدراك لا يؤدي بالضرورة إلى الانحياز للمظلومين المنتفضين، فما يحدِّد السلوك النهائي ليس الإدراك وحسب، وإنما موازين القـوى أيضاً ومجموعـة هائلة من العناصر الأخرى المادية والمعنوية. فإن كان العربي ضعيفاً خاملاً، فإن إدراك «عدالة» مطالبه قد يؤدي إلى مزيد من التشدد لأن صاحب المطالب العادلة قد يتحرك في أىة لحظة للحصول عليها، ولذا لابد من ضربه بيد من حديد قبل أن يصبح قوياً وقبل فوات الأوان. وهذا هو موقف بن جوريون وجابوتنسكي وشلومو أرونسون وغيرهم. ولذا يمكن القول بأن المثقفين الإسرائيليين الذى عبَّروا عن تفهمهم لموقف العرب ليسوا «حمائم بالفعل» وإنما «هم حمائم بالقوة» بالمعنى الحرفي والفلسفي. وهذه الاستجابة الحمائمية محصورة في أوساط المثقفين وبعض الشخصيات السياسية التي ليس لها وزن كبير، ولا أعتقد أنها تؤثر في الرأي العام الإسرائيلي أو في صنع القرار الإسرائيلي.

2 ـ الدجاج:

الدجاج موجود بكثرة، مثل يائيل إسكيد الذي قرر أنه «لا يذهب الآن إلى غزة سوى الحمقى المستوطنين. ولا يذهب أحد إلى الضفة إلا لسبب وجيه، سبب وجيه جداً. فنحنخائفون». وعملية «تدجين» المواطنين على يد جنرالات الحجارة لا تزال قائمة على قدم وساق. وقد ذكرت الصحف الإسرائيلية أن المستوطنين في زمن الانتفاضة لا يسافرون إلا فيما ندر، ولا يتركون الأطفال بمفردهم ولا يخرجون إلا لأمور ضرورية. وشاهدت العائلات اليهودية جدلاً حاداً إذا ما أرادت السفر. فإذا سافر مستوطن وحده، فهو «مغامر» أما إذا اصطحب زوجته وأطفاله، فهو «مجنون».

وأكدت مستوطنة صهيونية أن بريق المستوطنات قد خفت وحينما تمر حافلة المستوطنين بجوار مخيم عاناتا (الفلسطيني) فإنها تسرع بطريقة مجنونة لتتحاشي الأحجار. وبدأ المستوطنون يسدلون الستائر ويغلقون المداخل بعد أن كانت المستوطنة تتمتع بجو انفتاحي بهيج. فالوضع، كما تقول السيدة، مخيف، وخصوصاً أنها تعرف أن الجنود الإسرائيليين أوقفوا مظاهرة من 600 عربي كانت متجهة نحو المستوطنة: "ماذا كان يمكن أن يحدث لنا لو أن الجنود فشلوا في إيقافهم؟ ماذا كان يمكن أن يحدث لأطفالنا؟".

والخاصية «الدجاجية» للمستوطنين تبدت في محاولتهم الظهور بمظهر الصقور. فسائق الحافلة رقم 25 (من القدس للضفة) يشيد بركابه من المستوطنين الذين لا يهلعون من الحجارة ويجيدون فن الاستجابة فهم كما يقول: "يتوقعون الهجوم في أىة لحظة، معتادون عليه". وعندما يبدأ الهجوم فهم يتصرفون "كالجنود المدربين، على ما يجب عمله" إذ ينبطحون في أرض الحافلة. والصورة الكامنة هنا هى صورة إنسان قلق يتوقع الهجوم ويجيد فن الاختباء.

ولنأخذ المستوطن ليمودي جنيان، كمثال آخر، فهو، يهودي أرثوذكسي عجوز يعمل خياطاً، وهو صقر لا شك فيه يطالب بضرب العرب وتحطيمهم ثم يقول: "نحن نفعل ذلك عند الحدود. والأمر لا يختلف هنا [في المناطق المحتلة] فتلك حدود، وهذه أيضاً حدود. كل البلد حدود". وإدراك هذا المُستوطن العجوز لفلسطين المحتلة كبلد كلها حدود هو إدراك طريف جداً يبين مدى الهلع والإحساس بانعدام الأمن.

ومن أيسر الطرق لتحديد استجابة المستوطنين دراسات علماء النفس الإسرائيلين. وقد لاحظ بعض علماء النفس الأمريكيين انتشار ما سموه «أعراض فيتنام» بين الجنود الإسرائيليين، وهو الإحساس بالإحباط لدخولهم حرباً غير كريمة لا معنى لها، لا يمكنهم كسبها أو الانسحاب منها، فيهاجمهم اليمين الإسرائيلي لتقاعسهم ولأنهم لا يستخدمون مزيداً من العنف، ويهاجمهم يهود العالم وبعض الحمائم الإسرائيليين لأنهم يحطمون عظام المنتفضين، ولكن لا اليمين ولا اليسار يطرح على الجنود البديل. وقد ذكرت صحيفة هآرتس أن نسبة المستوطنين الصهاينة الذين يرتادون العيادات النفسية قد ارتفع ثلاثة أضعاف بسبب القلق الذى أصابهم من جراء استمرار الانتفاضة. وقد عُقد اجتماع في بلدية القدس لمناقشة هذه الظاهرة فأشار مدير إحدى المدارس الثانوية إلى خوف المعلمين من الوصول إلى مدارسهم "بسبب خوفهم الشديد من تساقط الحجارة على الحافلات وعلى رؤوس الركاب". "كما عبَّر مدير مدرسة آخر عن خوفه من تسرُّب هذا الخوف والمرض النفسى من المعلمين والطلبة ليشمل الصهاينة كافة في الأراضى المحتلة". وعلى كل ليس من السهل رَصْد استجابات المستوطنين ومخاوفهم بالطريقة التقليدية فقد جاء في الجيروساليم بوست أن أحد علماء النفسالإسرائيليين صرَّح أنه بعد 40 عاماً من الاحتلال لم تظهر أىة حالات بين المرضى النفسيين تعبِّر عن قلقها من العرب، وكأن عملية الكبت كاملة نظراً لأن التهديد العربي كامل، ولا يستطيع الجهاز العصبي للمستوطن الصهيوني أن يواجه العربي بشكل مباشر ولو على مستوى اللاوعي. وعلى كل من يحب أن يعترف أنه دجاجة؟ ولذا فمن الواضح أن نتائج بحوث الدراسات الإسرائيلية هى نتائج استخلصها الباحثون وجرَّدوها من أقوال المرضي الذين أبى معظمهم أن يعيِّن العرب كمصدر لمخاوفه.

3 ـ النعام:

أن يرفض المــرء أن يكـون «دجاجة» فهذه مسألة إرادية واعية، ولكن أن يتحـوَّل المُستــوطَن إلى نعـامة فهذا أمر يتم رغم إرادته، ولا يلاحظها هـو وإنمــا يلاحظـها البـاحث الذي ينظر إليه من الخارج .

والنعام في المُستوطَن الصهيوني كثير، مثل المدعو جاباى، وهو صاحب مطعم صغير في أحد المستوطنات أسكت خوفه بقوله: "أهم الأشياء الآن أن نوقف العنف من الطرفين وأن نجلس سوياً ونشرب القهوة ونحل مشاكلنا كبشر"، وهو لم يتحدث قط عن طريق التوصُّل لهذا السلام وكيف سيمكن الوصول لتسوية ما (الجيرو ساليم بوست).

وقد حدَّد أحد الضباط الإسرائيلين هذا الموقف النعامي بدقة بالغة حين صرح لصحيفة حداشوت بأن اختفاء ظاهرة الانتفاضة الشعبية الفلسطينية بعصا سحرية (أى على طريقة النعام) هو مجرد تعبير عن آمال وأوهام يجب أن يستيقظ منها الإسرائيليون (بدلاً من دفن رؤوسهم في الرمل أو في أرض فلسطين).

ولعل هذه العصا السحرية توجد في أحد مبانى حزب الليكود، إذ أن شارون صرَّح عام 1988 بأن الانتفاضة سوف تنتهى فور وصول الليكود إلى السلطة في نهاية العام. ولكن شارون يعنى بطبيعة الحال حَمّامات الدم غير السحرية. ولكن حتى لا نصنفه نعامة كان عليه أن يقدم لنا الإجراءات، لأن حمامات الدم تؤدى أحياناً إلى تصعيد الانتفاضات والثورات، كما يعرف الأمريكيون عن فيتنام والفرنسيون عن الجزائر.

وبعد الانتفاضة ترجم إدراك النعام نفسه إلى تركيز على الجانب الفنى لقمع الانتفاضة كما لو كانت المسألة مجرد إجراءات يتم تنفيذها أو خطوات يتم اتخاذها بحيث تتحوَّل القضية برمتها إلى مسألة إجرائية. (هل الرصاص المطاطي ومدافع المياه كفيلة بالقضاء على الانتفاضة أم لا؟) دون التوجه للأسئلة النهائية. وقد اشتكى شمعون بيريز من أن الوزارة الإسرائيلية تتحلى بنفس الموقف الذي نسميه بالنعامي فهى تناقش النقط الدقيقة الفنية الخاصة بإجراءات الأمن وطريقة التصدي للانتفاضة وتتجاهل تماماً الحلول السياسية اللازمة. وأضاف: "في المسـتقبل حينما يقرأ أحد محـاضر جلسات الوزارة فإنه لن يصدق عينيه".

وقد كتب ب. مايكيل في هآرتس مقالاً بعنوان «عيد ميلاد سعيد» وصف فيه بشكل كوميدى إدراك النعام هذا، فقال: "الحمد لله أصدرت الحكومة بياناً أكدت فيه أنه لا يوجد عصيان مدنى في إسرائيل". وقد اقترح الكاتب إصدار قانون باسم «قانون غياب العصيان» يقضى بمعاقبة كل من تسوِّل له نفسه أن يدَّعي أو يكتب أو حتى أن يلمح بأن هناك عصياناً مدنياً. ولكن مع هذا تبقى مشكلة صغيرة وهى ماذا يحدث هناك إذن في المناطق المحررة من أرض إسرائيل؟. ثم يحاول الكاتب أن يصف الانتفاضة بطريقة كوميدية تقرر ما يحدث وتنكره في ذات الوقت، أى يقول الشيء وعكسه: "ثمة مجموعات من الأطفال المدربين بعناية الذين يفتقرون إلى المبادرة، يتصرفون بتلقائية ويتم توجيههم من الخارج من قبل المنظمات الإرهابية التى لم تنجح في اختراق المناطق بسبب المعركة المستمرة التى خاضتها قوات الأمن ضدهم. ولذا يمكن أن نقرر أن هذه المنظمات وحدها وراء هذه الانتفاضة التلقائية، التى تظهر وراءها بوضوح اليد الموجهة التى يدل وجودها على فشل منظمة التحرير الفلسطينية في أن تكسب دعم الجماهير المحلية القانعة بالاحتلال الإسرائيلي لو تُركت وشأنها، فالاضطرابات ليست سوى حدث عابر مستمر، ولكنها ليست عصياناً مدنياً".

إن إدراك النعام هـو العنـصرية الصـهيونية مقلـوبة حرفياً على رأسها، فالعنصرية الصهيونية تعبير عن الرغبة الصهيونية في إحلال العنصر اليهودى محل العرب. ولذا فهى تهدف إلى تغييب العرب، ولكن إن عاد العربي بهـذا العنف، وإن ظهر على شاشـة الوعي ورفــض الغياب، فما العمل إذن، وما الحل؟ الحل النعامي ـ بطبيعة الحال ـ أن يدفن المُستوطَن رأسه في الرمل فيغيب العربي مرة أخرى.

4 ـ الصقور:

والصقور، كما هو متوقَّع، كثيرون، فرئيس الوزراء الإسرائيلي شامير صرح بأنه لا توجد قوة في العالم "لا المتظاهرون ولا الإرهابيون ولا الضغط يمكنها أن تمنع إسرائيل من الاستيطان في كل أجزاء أرض فلسطين". وغنى عن القول أن عملية الاستيطان لا يمكن أن تتم عن طريق الحب والإخاء والإقناع الهادئ، فالعرب ولا شك غير موافقين أن تؤخذ أراضيهم. وقد أضاف شامير قائلاً: "أما أولئك الذين يقولون: إننا نحن الإسرائيليين غزاة، وإن قال مثيرو القلاقل والقتلة والإرهابيون: إنهم أصحاب الحقوق الحقيقية، فإننا نقول لهم من أعالي هذا الجبل ومنظور آلاف السنين من التاريخ: أنهم مجرد جراد بالقياس لنا". وكلنا يعرف ماذا يُفعَل بالجراد، فالصورة المجازية هنا تحوي داخلها مؤشرات نحو الإبادة. وقد صرَّح رابين بأن إسرائيل لم تستخدم كل أسلحتها بعد وأنها "ستعيد فرض الأمن حتى ولو كان موجعاً". وحسب تجربة الفلسطينين العرب، نجد أن الأمن الإسرائيلي دائماً موجع. وقد أشار رابين إلى بعض الطرق التى يجب استخدامها لفرض هذا الأمن الموجع. فقد حذر المنتفضين أن كل من يتحدى إسرائيل "سيحطم رأسه على صخور هذه القلعة وحيطانها".

وصرَّح إسحق مردخاى بقوله: "إن قوات الأمن ستتخذ جميع الإجراءات اللازمة من أجل إعادة الأمن إلى نصابه. ولن تتوانى في استعمال جميع الوسائل من أجل تحقيق هذ الهدف". وتلجأ القوات الإسرائيلية لكسر العظام وإطلاق النار وترحيل قواد الانتفاضة خارج الوطن. بل إن الإبداع الصهيوني في القمع بدأ يأخذ أشكالاً جديدة. فهناك مايُسمَّى «بحظر التجول النشيط» ويتلخص في اقتحام المنازل في الظلام أثناء حظر التجول حيث يجرى الجنود الصهاينة تفتيشاً عنيفاً داخل البيوت وينهالون بالضرب على رب العائلة والابن الأكبر.

وقد علَّل قائد الجيش هذا الأسلوب الجديد في القمع بأنه محاولة لإعادة بث الرعب من الجيش في قلوب الفلسطينين، فالهدف ليس النظام الخارجى وحسب، وإنما إعادة الثقة الذاتية للجنود، بعد أن أصبحوا أضحوكة طوال أسابيع. ويبدو أن اجتياح لبنان («عملية القانون والنظام» كما يسميها الإسرائيليون) تهدف إلى نفس الشيء. فقد وصفت الصنداى تايمز هذه الحملة بأنها تشكل محاولة من جانب إسرائيل لاستعادة زمام المبادرة بعرض عضلاتها وإظهار أنها عادت إلى مقعد السائق. وقال مردخاي غور: "سيذكِّر الاجتياح سكان الأراضي المحتلة بأن الجيش ليس مفككاًً".

وقد اقترح شلومو جازيت (رئيس المخابرات الأسبق) أنه يجب عدم الاكتفاء بهدم منزل الإرهابى كعقوبة، بل يجب هدم كل شئ في محيط قطره 200 ـ 400 متر من منزله. وحينما وقعت فتاة صغيرة من إحدى المستوطنات الصهيونية الواقعة بالقرب من قرية بيتا العربية (من قضاء نابلس) صريعة رصاص أحد المستوطنين وأُشيع أنها رُجمت بالحجارة طالب وزير الأديان وزعيم الحزب الديني (المفدال) بأن تقوم قوات الشرطة الاسرائيلية بإزالة قرية بيتا من على وجه الأرض تماماً وإقامة مستوطنة تحمل اسم الفتاة اليهودية التى قُتلت فوق أنقاضها، ويجب أيضاً طرد وإبعاد مئات المواطنين العرب من سكان القرية.

وقد أدرك رفائيل أيتان رئيس أركان القوات المسلحة الإسرائيلية الأسبق ومؤسس حزب أن الانتفاضة هى الطلقة الأولى في الحرب القادمة، وعلَّق على دجاجية الجنود الإسرائيلين وكيف يولون الأدبار أمام الأحجار، وكيف ينظر العالم كله ليرى ذلك المنظر: "منظر جيش ضعيف وحكومة ممزقة ولا تعمل". وقد قرر إيتان أن يقدم اقتراحاته للقضاء على الانتفاضة، وهى تتسم بكل تبسيطات النماذج المادية العملية: "فإذا أشعل العرب إطاراً في شارع رئيسى يجب جر هذا الإطار إلى أقرب بيت في المنطقة من مكان اشتعاله. وخلال ثوان يخرج سكان البيت ويطفئوا الإطار؛ لأنه سيؤدي إلى حرق بيتهم إذا لم يفعلوا ذلك". واقترح أن تُمنَع سيارات العرب من السير في الشارع المغلق بواسطة حاجز من الحجارة لمدة شهرين. وهذا لا يحتاج جيشاً كاملاً بل شرطيين يقفان على حافة الطريق. وأشار إيتان إلى حقيقة مهمة وهو أنه بين عام 1967و1977 تم إبعاد (أى تغييب) 800 عربي محرض، (أثناء حكم المعراخ المعتدل) ويجب إبعاد 400 ـ 500 محرض، بل إبعاد أمهاتهم وأبناء عائلاتهم. ولا يوجد أي إبداع قمعى في اقتراحات إيتان. وعلى كل من يود أن يحصل على اقتراحات مماثلة أن يدرس تاريخ الإرهاب النازي وسيجد أفكاراً أكثر إبداعاً وأكثر منهجية وأعلى كفاءة، فمفهوم العقاب الجماعي ليس من اختراع الصهاينة وإنما هى ممارسه استعمارية غربية قديمة وتقليد راسخ.

ويغوص المستوطنون أيضاً في التشدد، فمنهم من يرى ضرورة ضم القطاع والضفة تماماً. وكما قالت جريدة فرانكفورتر الجماينة: "إن معظم الإسرائيلين مع خط شامير المتشدد"، وإن «هدفهم إنهاء الوجود العربي في فلسطين»، وقعت إحدى الحوادث الفدائية بالقرب من إحدى القرى العربىة "طالب المستوطنون اليهود بتدمير القرية على رؤوس سكانها وتسوية القرية بالأرض. وشطبها نهائياً من الخريطة حتى تكون عبرة للغير". ومن المستوطنين من يرى ضرورة تسوية الحساب مع العـرب كما سـوَّاه الأمريكيون مع الهنود الحمر، بشرط أن يتم ذلك بعيداً عن عدسات التليفزيون.

لقد اقتبسنا حتى الآن كلمات الصهاينة المتشددة وحسب، ولكن يجب أن نفرِّق بين الأقوال والأفعال. فالأقوال لا تعبِّر عن الموقف المتكامل وإنما تعبِّر عن تشـدُّد الإنسـان اللفظي وعن نيته وقصده وعن حالته العقلية، أى عن جزء من كل. ولدراسة مدى تشدُّد الإسرائيليين الفعلى وفي كليته، علينا تجاوز النية والقصد والديباجات لنرصد عناصر أخرى مركبة تتجاوز إرادة القائل نفسه، فالتشدُّد اللفظي، أى الموقف الصقري الكلامي، قد يكون أحياناً بمنزلة غطاء لتغطية الموقف الدجاجي أو النعامي الفعلي.

خذ مثلاً رغبة إيتان أن يمنع مرور السيارات ويكتفي بجنديين يقفان على ناحية الشارع. هل درس إمكانية إلقاء الحجارة عليهما واحتمال احتياجهما إلى فرقة عسكرية كاملة لحمايتهما؟ أما فيما يتصل برحيل مئات القيادات، ألا يحتاج الأمر لآليات معينة وآلة قمعية معينة لأن قاعدة هؤلاء القادة في حالة استنفار؟ ولكن هذه الأسئلة تفترض أن صاحب الإقتراح عنده الصورة الكلية، والأمر ليس كذلك فالنموذج الإدراكى المادى يجتزئ مجموعة من الحقائق ويستبعد الحقائق الإنسانية والتاريخ، ولذا يتحوَّل الصقر الهائج من منظور الممارسة إلى نعام مضحك. خذ مثلا رغبة هذا المستوطن الذى يود ذبح العرب وإبادتهم بعيداً عن كاميرات التليفزيون، تماماً كما فعل الأمريكان في تجربة استيطانية مماثلة، وهذه هى شهوة الصقور. ومع هذا بعد التدقيق نجد أن موقفه هذا نعامى تماماً، فهو يعرف أن التجربة الأمريكية الاستيطانية الإحلالية تمت إبتداء من القرن السابع عشر في منطقة لم تكن فيها الكثافة السكانية كبيرة، تسكنها عدة «أمم» من الهنود، تتسم حضارتهم بعدم التركيب، رغم جمالها ورقتها، ومن هنا كان من السهل إبادتهم بعيداً عن عين التلفزيون الشيطانية التي لم تكن قد اختُرعت بعد. أما هذا المُستوطَن الصهيوني فقد تمت تجربته الاستيطانية ابتداءً من أواخر القرن التاسع عشر في منطقة تعج بالسكان الذين تحيط بهم ملايين من إخوانهم ينتمون لتراث حضاري قديم مركب. وعلاوة على كل هذا أصبح في وسعهم الآن الحوار مع الكاميرا بكفاءة غير عادية، فالتشدد هنا هو من قبيل ما يمكن تسـميته «العادة السرية السـياسية»، والحلم بالمستحيل اللذيد.

ويجب أيضاً أن نرى التشـدُّد باعتباره تعـبيراً عن أزمة حقيقية وعميقة، فالصهاينة ـ كما أسلفنا ـ على استعداد لإظهار قدر كبير من التسامح حيال العربي إذا قبل هذا بالتطبيع وبأن يكون قطعة غيار يمكنه استخدامها وتوظيفها. حينئذ يمكن أن يُمنَح العربي كثيراً من الحقوق المدنية وبعض الحقوق السـياسية ويمكنـه أن يلعب ما شـاء من الطاولة أو حتى تنس الطاولة، أى أن يمارس هواياته إذا كان بلا هوية.

إن غاب العربي، وإن قنع وخنع ولم يتحد الشرعية الصهيونية، فبوسع الصهيوني أن يتخذ موقفاً معتدلاً تجاه دجاج عربي مستأنس تم تطبيعه، أما إن تحوَّل العربي إلى صقر ذي هوية يهاجم دفاعاًَ عنها فإن الاعتدال يختفي ويتخلى العدو عن ديموقراطيته الغريبة المزعومة، ويضرب بيد من حديد.

الباب الثالث: المسألة الإسرائيلية والحلول الصهيونية

المسـألة الإسـرائيلية

The Israeli Question

«المسألة الإسرائيلية» مصطلح قمنا بسكه لوصف وضع أعضاء التجمُّع الاستيطاني في فلسطين وحالة الحرب المستمرة التي يعيشـون فيها منذ وصـول دفعات المسـتوطنين الصهاينة الأولى عام 1882. والمسألة الإسرائيلية لا يمكن رؤيتها في إطار يهودي خاص، وإنما يجب النظر إليها في إطار أكثر عمومية وشمولاً وهو الاستعمار الغربي وتاريخ الأفكار في الحضارة الغربية. فهي مشكلة ناجمة عن وصول كتلة بشرية يهودية (من الغرب حتى عام 1948 ثم من الشرق بعد ذلك) بهدف الاستيلاء على الأرض الفلسطينية ولتحل محل السكان الأصليين الذين يكون مصيرهم عادةً، في إطار الاستعمار الاستيطاني والإحلالي، هو الإبادة أو الطرد. وقد تسبَّب هذا في ظهور المسألة الفلسطينية، وهي قضية أعضاء الشعب الفلسطيني الذي تعرَّضوا لعملية الغزو والطرد هذه والذين كان من المفروض فيهم (حسب المخطط الاستعماري الغربي والصهيوني) إما أن يختفوا أو يذعنوا لحالة الغزو والطرد. ولكنهم، على عكس التوقعات الغربية والصهيونية، لم يختفوا ولم يذعنوا للغزو والقهر والطرد واستمروا في مقاومة المستوطنين،بل تصاعدت مقاومتهم عبْر السنين، وهو ما يثير وبحدة قضية شرعية الوجود.

ونحن نميِّز بين ما نسميه «المسألة الإسرائيلية» وما يُسمَّى «المسألة اليهودية»، إذ أن الخلط بينهما هو في نهاية الأمر تقبل للمقولات الصهيونية الخاصة بوحدة الشعب اليهودي ووحدة تاريخه وتراثه، وهي مقولات ذات مقدرة تفسيرية ضعيفة ليس لها ما يساندها في الواقع. ومحاولة فرضها على الواقع هو الذي أدَّى إلى العنف المستمر. ولو بحثنا عن العناصر المشتركة بين المسألتين الإسرائيلية واليهودية لاكتشفنا أنها لا وجود لها، فالمسألة اليهودية (بصيغة المفرد) هي مشكلة يهود شرق أوربا في أواخر القرن التاسع عشر، وذلك أثناء مرحلة تعثُّر التحديث في روسيا القيصرية وما نجم عن مشاكل للجماعات اليهودية والشعوب والأقليات الأخرى داخل العالم الغربي وهو ما اضطرها للهجرة إلى غرب أوربا والولايات المتحدة. وبدلاً من أن يحل العالم الغربي مشـاكله قـام، انطلاقاً من رؤيتـه الإمبريالية للعـالم، بتصديرها للشرق بعد تبنِّي الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة.

ونحن العرب لا علاقة لنا بالمسألة اليهودية، فهي لم تظهر في التشكيل الحضاري العربي. بل لعل كثيراً من المفكرين العرب لم يسمعوا عنها في حينها إذ أنها لا تنتـمي إلى البنـية التاريخـية العربية. وعلى كلٍّ، فإن المسألة اليهودية، لم تَعُد مشكلة مطروحة، فقد تم حلها بطرائق غربية مختلفة (التصدير إلى الشرق ـ الاندماج في غرب أوربا ثم الولايات المتحدة ـ الإبادة(.

أما المسألة الإسرائيلية، فهي مشكلة أعضاء التجمع الاستيطاني الصهيوني، وخصوصاً أعضاء الأجيال الجديدة، الذين وُلدوا على أرض فلسطين ونشأوا فيها ولا يعرفون لهم وطناً آخر ولا يتحدثون سوى العبرية. ونحن العرب نشكل طرفاً مباشراً في هذه المسألة فنحن الضحية، كما لا يمكن حلها دون تدخُّلنا إذ أنها مسألة توجد في صميم البنية التاريخية العربية. ورغم أن المسألة اليهودية هي التي أفرزت المسألة الإسرائىلية، ذلك أن الصهيونية في محاولتها فرض حلها للمسألة اليهودية (بمساعدة الإمبريالية) نجحت في التأثير على بعض اليهود المهاجرين إلى الولايات المتحدة وغيرها من البلاد لتحويلهم إلى فلسطين، إلا أن المسألتين مع هذا تظلان منفصلتين تماماً وتنتميان إلى بناءين مختلفين. وعملية الربط بينهـما هي محاولة للتعمية ولطمـس المعالم الخاصة بكلٍّ منهما. ومما لا شك فيه أن من مصلحة الصهيونية افتراض وحدة المسـألتين، حتى تربط أمن الدولة الصـهيونية بأمن الإسـرائيليين من ناحية، وبأمن الجماعات اليهودية في العالم من ناحية أخرى، وحتى تفرض على يهود العالم، من ناحية ثالثة، فكرة الشعب اليهودي الواحد وكل المقولات الصهيونية الأخرى.

ولا يوجد حل للمسألة الإسرائيلية طالما ظلت مرتبطة بالمسألة اليهودية، أي طالما تم النظر إليها في الإطار الصهيوني. فهذا الارتباط يعني أن أعضاء التجمع الاستيطاني هم جزء من الشعب اليهودي، والحضارة الغربية، وأن المشاكل التي تحدث "هناك" تجد حلاً لها "هنا"، وينتج عن ذلك تعميق بنية الاغتصاب والتفاوت. فكل مهاجر يهودي يحضر إلى فلسطين يحل محل مواطن عربي ويشغل حيزه العربي ويُعمِّق هوية الدولة الصهيونية باعتبارها دولة استيطانية إحلالية في حالة صراع مع العرب، ويُعمِّق حدة المسألة الفلسطينية.

ومع هذا تدور كل الحلول الإسرائيلية المطروحة لإشكالية الصراع الدائر في فلسطين المحتلة داخل إطار صهيوني. قد تختلف طبيعة الحل في اعتدالها وتطرفها من اتجاه لآخر، لكن كل الاتجاهات لا تتنازل عن الحد الأدنى الصهيوني، وتحاول الوصول إلى الحد الأقصى حينما تكون الظروف مواتية.

الصفحة التالية ß إضغط هنا