المجلد الخامس: اليهودية.. المفاهيم والفرق 1

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

الجزء الأول: اليهودية.. بعض الإشكاليات

الباب الأول: إشكالية التركيب الجيولوجي التراكمي والشريعة الشفوية

اليهودية: المصطلح

Judaism: Term

يشير اليهود إلى عقيدتهم بكلمة «توراة». أما مصطلح «اليهودية» فيبدو أنه قد ظهر أثناء العصر الهيليني للإشارة إلى ممارسات اليهود الدينية لتمييزها عن عبادات جيرانهم. وقد سك هذا المصطلح يوسيفوس فلافيوس ليشير إلى العقيدة التي يتبعها أولئك الذين يعيشون في مقاطعة يهودا (مقابل «الهيلينية» أي عقيدة أهل هيلاس Hellas وهكذا بدأ المصطلحان كتسمية للمقيمين في منطقة جغرافية ثم أصبحا يشيران إلى عقيدتهم). أما الأصل العبري «يهدوت»، فيعود إلى العصور الوسطى.

وقد أصبحت كلمتا «يهودية» و«توراة» كلمتين مترادفتين، ولكن ثمة اختلافات دقيقة بينهما. فمصطلح «اليهودية» يؤكد الجانب البشري، بينما يؤكد مصطلح «التوراة»الجانب الإلهي. ولذا، يمكن الحديث عن «اليهودية العلمانية» بينما يصعب الحديث عن «التوراة العلمانية». ومن الجدير بالذكر أن المصطلح الشائع في الولايات المتحدةوالعالم هو «اليهودية»، أما مصطلح «توراة» فقد اختفى تقريباً إلا بين المتخصصين والأرثوذكس. كما تشير كلمة «التوراة» إلى الجوانب الثابتة اللادنيوية في اليهودية،ويُستخدَم مصطلح «يهودية» للإشارة إلى الجوانب التاريخية المتغيّرة وإلى تفاعُل اليهودية مع الحضارات الأخرى. ومن هنا، يمكن الحديث عن «اليهودية الحاخامية»و«اليهودية الهيلينية»، ولا يمكن الحديث عن «التوراة الحاخامية» مثلاً. ويرى دارسو الدين اليهودي أن إطلاق مصطلح «يهودية» على تلك المرحلة من تاريخ اليهودية التي تسبق تدوين العهد القديم يتضمن تناقضاً تاريخياً، فهي مرحلة سديمية لم تكن قـد تشـكلت فيها بعد معالم اليهـودية، ولم يكـن العبرانيون فيها قد صاروا يهوداً، ولذافنحن نطلق على تلك المرحلة «مرحلة عبادة يسرائيل»، ثم «العبادة القربانية المركزية» بعد تأسيس الهيكل. وتُشير أدبيات جماعة الناطوري كارتا إلى «يهودية التوراة» (بالإنجليزية: توراه جودايزم Torah Judaism) بمعنى «اليهودية الأصلية» أو «اليهودية الأرثوذكسية»، وهم يفضلون استخدام مصطلحهم لأنه قد ولِّد من داخل المنظومة اليهودية، على عكس كلمة «أرثوذكسية» ذات النكهة المسيحية.

اليهـــودية: بعض الإشـكاليات

Judaism: Some Problematics

للنسق الديني اليهودي سمات جوهرية مقصورة عليه تفصله عن العقائد التوحيدية الأخرى، وتثير قضايا إشكالية عميقة. ويمكن إيجاز بعض هذه السمات فيما يلي:

1 ـ تتميَّز اليهودية، كنسق ديني، بعدم تجانسها نظراً لظهورها في مرحلة متقدمة نسبياً من التاريخ ونظراً لاستيعابها كثيراً من العناصر الدينية والحضارية من سائر الحضارات التي وُجدت فيها، فقد استوعبت الكثير من العناصر من الحضارات المصرية والآشورية. ثم تأثرت تأثراً عميقاً بالإسلام والمسيحية، وبخاصة بعد سقوط الهيكل واختفاء أي مركز ديني أو زمني لليهودية (أو اليهود). وقد تأثر مؤلفو التلمود وكتب القبَّالاه بالعقائد الشعبية والخرافية، وكل هذا جعل اليهودية تشبه التركيب الجيولوجي الذي تَشكَّل من خلال تراكم عدة طبقات، الواحدة فوق الأخرى. ونظراً لعدم التجانس، ولاحتواء اليهودية على عناصر شتى، نجد أن من الصعب تعريف هوية اليهودي. فمن الممكن، حسب الشريعة اليهودية، أن يكون المرء ملحداً ويهودياً معاً في الوقت نفسه نظراً لأن الشريعة ترى أن اليهودي هو من وُلد لأم يهودية، وهذا أمر لا يوجد في المسيحية ولا في الإسلام، حيث تنتفي صفة الانتماء للدين إذا أنكر الإنسان وجود الإله، حتى ولو وُلد لأبوين مسيحيين أو مسلمين.

2 ـ رغم وجود تقاليد شفوية في كثير من العقائد والديانات، إلا أن اليهودية تتسم بأن تقاليدها الشفوية أصبحت أكثر من مجرد تقاليد، فقد أصبحت «شريعة شفوية» تعادل «الشريعة المكتوبة» في المنزلة، بل تتفوق عليها وتجبُّها.

3 ـ رغم أن العقيدة اليهودية تتضمن نزعة توحيدية قوية، إلا أن معدلات الحلولية أخذت تتصاعد داخلها حتى أصبحت الطبقة الحلولية (داخل التركيب الجيولوجي التراكمي اليهودي) أهم الطبقات طراً، وانتهى الأمر بأن هيمنت الحلولية على العقيدة اليهودية فأصبحت عقيدة توحيدية اسماً، حلولية فعلاً، وأصبحت عقيدة ذات نزعة غنوصية قوية.

4 ـ استولت الصهيونية على العقيدة اليهودية تماماً بحيث خلقت في ذهن الكثيرين ترادفاً شبه كامل بين الصهيونية واليهودية، رغم أن آباء الصهيونية الأوائل كانوا من الملاحدة. وقد نجحت الصهيونية في تطوير خطاب حلولي مراوغ سمح بتجنيد اليهود الأرثوذكس.

وثمة إشكاليات أخرى وثيقة الصلة بالثلاث التي ذكرناها (مثل: العالمية والتبشير ـ اليهودية الإلحـادية) سنتناولها طي هـذا المجلد، وسنكتفي بتناول الإشكاليات الثلاث التيأشرنا إليها في هذا الجزء، باعتبارها أهم الإشكاليات.

الرؤيــــــة اليهوديــــــة للـــكون

Jewish Cosmogony and Cosmology

تشير الكلمتان «كوزموجوني» و«كوزمولوجي» إلى التأملات الخاصة بأصل العالم وتطوره وبنيته. وكلمة «كوزموس» اليونانية تعني «الكون» أو «النظام». أما شق «جوني»، فمن الجذر اليوناني «جيجنستاي» بمعنى «ينتج»، ومن ثم فإن كلمة «كوزموجوني» تعني «ولادة» أو «أصل» أو «خلق العالم». أما شق «لوجي» فمن كلمة «ليجاين legein» بمعنى «يتحدث». والكوزموجوني نظرية أو وصف خلق العالم. أما الكوزمولوجي، فهي النظرية أو الفلسفة الخاصة بطبيعة ومبادئ الكون، وكلتا النظريتين تشملان التأملات الخاصة بأصل العالم وتطوره وبنيته. وترى اليهودية أن الإله خلق العالم، ولكن ما عدا ذلك هو أمر خلافي، إذ توجد داخل النسق الديني اليهودي عدة صور متناقضة لأصل العالم وبنيته. فالعهد القديم يقدم رؤى عديدة للإله ليست متسقةً بالضرورة. أما التلمود، فقد استوعب صوراً عديدة من الحضارات المحيطة سواء الوثنية أو الإسلامية أو المسيحية، ودوَّن كثيراً من الأساطير الشعبية وحوَّلها إلى معتقدات دينية. فهناك قصة الخلق، وإلى جانبها أسطورة ليليت، وكذا شجرة المعرفة والخير والشر. وإذا كان هناك يهوه إله العالمين،فهناك أيضاً شريكه عزازيل.والعالم له معنى في كثير من المقطوعات،ولكنه بلا معنى في مقطوعات أخرى.وهذا يعود إلى طبيعة التركيب الجيولوجي لليهودية.وقد ازدادت الرؤية اضطراباً مع ظهور القبَّالاه التي حولت كثيراً من الأساطير الفلكلورية إلى رؤية للكون،كما هو الحال في فكرة «آدم قدمون»،أو «تَهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم)»،أو «تبعثُّر الشرارات (نيتسوتسوت)»، أو «إصلاح الخلل الكوني (تيقون)»!وقد حولت القبَّالاه اليهود إلى قوة كونية وجودها أساسي لاسترجاع الشرارات وعملية إصلاح الخلل الكوني.

وفي العصر الحديث، لا يمكن الحديث عن رؤية يهـودية واحدة للكـون، إذ تنوعت المصادر الفلسفية للمفكرين الدينيين اليهود، وانقسمت اليهودية إلى فرق تختلف في رؤيتها، الواحدة عن الأخرى، بشكل جوهري.

اليهــودية باعتبارهـا تركيبــاً جيولوجــياً تراكمــياً: التعـريف

Judaism as a Cumulative Geological Construct: Definition

«التركيب الجيولوجي التراكمي» عبارة نستخدمها لنصف عمق عدم التجانس، بل التناقض الداخلي الحاد الذي تتسم به اليهودية كنسق ديني (كما نشير إلى ما يُسمَّى «الهوية اليهودية» باعتبارها هي الأخرى تركيباً جيولوجياً تراكمياً). ومن المعروف أن الأنساق الدينية التوحيدية، مثل الإسلام والمسيحية، تتسم بقدر من التنوع فيالممارسات الدينية وفي الاختلافات على مستوى النظرية، فينقسم أتباع كل نسق إلى شيع وفرق ومذاهب لكلٍّ تفسيرها، وقد تندلع بينها الحروب أحياناً. وقد شهد الإسلام فيبداية العصر الإسلامي اختلافات بين الصحابة أنفسهم على بعض القضايا الدينية، ثم ظهرت بعد ذلك فرق مختلفة مثل الخوارج والشيعة، مقابل الأغلبية السُنيّة التي ظهرتبين أعضائها المذاهب الأربعة، هذا بخلاف الاجتهادات المختلفة. والمسيحية تتسم بالخاصية نفسها - ربما بشكل أكثر عمقاً - فهناك عدد من الكنائس، مثل: الكنيسة القبطية، والكنيسة الأرثوذكسية الروسية، والكنيسة الأرمنية، ثم الكاثوليكية الرومانية. وقد شهدت المسيحية أيضاً الانقسام الأكبر مع ظهور البروتستانتية التي تتسم بالانشقاقات والانقسامات الدائمة.

ولكن، رغم هذا، يظل التنوع داخل إطار مبدئي من الوحدة إذ يوجد حد أدنى في الإسلام مثلاً يشكل معياراً يمكن عن طريقه تفرقة المسلم عن غير المسلم. فالنطق بالشهادتين، عند المسلمين، أمر أساسي لا اجتهاد فيه ولا اختلاف، والإيمان بالبعث واليوم الآخر هو أيضاً جزء من هذا الحد الأدنى. فمهما بلغت الاختلافات، ومهما تصاعدت التناقضات، فإن هذا يظل معياراً أساسياً، ولا يمكن لأحد أن يُسمِّي نفسه «مسلماً» إذا أنكر وحدانية الله، وأن محمداً رسول الله، أو إذا أنكر اليوم الآخر والبعث. ولا يمكن أن يُسمِّي أحد نفسه «مسيحياً» إن أنكر حادثة الصلب.

ولا شك في أن الأنساق الدينية التوحيدية قد تفاعلت فيما بينها كما تفاعلت مع الحضارات الأخرى. فقد مَثَّل علم الكلام عند المسلمين، والعقلانية الإسلامية، محاولة من جانب الفكر الإسلامي للاستجابة لتحدٍّ حضاري طرحه فكر الآخر (الفكر الفلسفي اليوناني). وفي عملية الاستجابة، تم تبنِّي مقولات مفاهيمية وفلسفية من النسق الآخر. ولكن مثل هذه العناصر الجديدة ظلت دائماً على مستوى الخطاب والمصطلح، وتم استيعابها وهضمها تماماً بحيث أصبحت جزءاً من الكل. أما ما يتنافى مع جوهر النسق الديني، فقد أصبح هامشياً وغير مؤثر، أو رُفض تماماً. ويمكن أن نضرب أمثلة من المسيحية، وخصوصاً الكاثوليكية، التي استوعبت الكثير من العناصر الفكرية والرمزية من الحضارات التي احتكت بها ورفضت كثيراً من العناصر الأخرى، ولكنها حاربت الهرطقات المختلفة مثل الهرطقة الغنوصية والألبنيزية التي تشكل انحرافاً عن جوهرالإيمان المسيحي في تصوُّرها.

واليهودية في تصورنا تختلف عن المسيحية والإسلام في هذا المضمار. فهي تشبه التركيب الجيولوجي المكون من طبقات مستقلة، تراكمت الواحدة فوق الأخرى، ولم تُـلْغ أية طبقة جديدة ما قبلها. وهي طبقات تتجاور وتتزامن وتوجد معاً لكنها لا تتمازج ولا تتفاعل ولا تُلغي الواحدة منها الأخرى ولا يتم استيعابها في إطار مرجعي واحد. وقد سُمّيت كل هذه الطبقات بـ «الدين اليهودي».

ومع أن عبارة «التركيب الجيولوجي التراكمي» من صياغتنا نحن، إلا أن التشبيه نفسه مُتضمَّن فيما يُسمَّى «نقد العهد القديم» حيث يفترض دارسو العهد القديم أنه تَكوَّن من تراكم مصادر مختلفة (طبقات جيولوجيـة مختلفـة) لكلٍّ رؤيته ومصطلحـه، ولكلٍّ أسـلوبه ولغته، بل عقيدته، ولكلٍّ مؤلّفه أو مدوّنه، وأن هذه الطبقات أو المصادر تراكمت الواحدة فوق الأخرى وتعايشت جنباً إلى جنب. وقد حدد البعض المصادر الأساسية بأربعة مصادر، وحددها آخرون بثمانية، كما بيَّن بعض النقاد أن بعض المصادر قد فُقدت ولكن بالإمكان التعرف عليها من خلال النصوص الموجودة. كما أن ترجمات العهد القديم، ومخطوطات البحر الميت، تشكل شواهد على تركيب اليهودية الجيولوجي التراكمي وعلى التناقض بين المصدر اليهوي (الحلولي) والمصدر الإلوهيمي (التوحيدي أو شبه التوحيدي) الذي وضحه نقاد العهد القديم، الأمر الذي يبين إدراكهم للخاصية الجيولوجية بدون تسميتها. وفي تصورنا، فإن ما يراه نقاد العهد القديم منطبقاً عليه وحده ينطبق في الواقع، وبشكل أكثر حدة، على مختلف الكتب اليهودية المقدَّسة الأخرى وشبه المقدَّسة. فالتلمود يفوق في ضخامته العهد القديم، وهو بكل تأكيد تركيب جيولوجي تراكمي يتسم بدرجة هائلة من عدم التجانس ومن التنافر بين أجزائه. فهو كتاب دين واقتصاد وطب وسحر وتقوى دينية راقية وإيمان بالمساواة بين البشر نابعة من درجة عالية من التوحيد وعنصرية شرسة نابعة من رؤية حلولية موغلة في الحلول والكمون. أما كتب القبَّالاه ومدوناتها، فهي أكثر في تراكميتها الجيولوجية وفي عدم تجانسها. وبالتالي، يمكننا أن نقول بكثير من الاطمئنان إن توصيفنا لليهودية بأنها ليست كياناً عضوياً (وإنما تركيب جيولوجي تراكمي) هو توصيف صحيح.

وقد شبَّه أحد الحاخامات التوراة بشجرة الحياة التي تضم كل شيء، وبهذا تُكوِّن كلها وحدة عضوية. ولذا قد يُحرِّم أحد الحاخامات شيئاً فيحلله آخر، فيعلن أحدهما أن هذا الشيء نجس ويقول الآخر إنه طاهر. والواقع - حسب رؤية هذا الحاخام - أن كل هذه الفتاوى جزء من الكل العضوي. لكن هذا التشبيه، أي تشبيه اليهودية بالكائن العضوي، غير دقيق بالمرة، ولعل التشبيه بعبارة «التركيب الجيولوجي التراكمي» أكثر دقة، فهي تُفسِّر التناقض وعدم التجانس، الأمر الذي قد تقصر عنه الصورة المجازية العضوية التي لا تقبل التناقض، بل تفترض قدراً كبيراً من الوحدة الداخلية التي تتبدَّى في تشكيل موحَّد خارجي. وقد تسمح الصورة المجازية العضوية ببعض أشكال الاختلاف ولكن لابد أن تنتظمها كلها في نهاية الأمر وحدة شاملة.

ولعل أصدق مَثَل على مانقول هو الفرق بين فكر موسى بن ميمون والقبَّالاة اللوريانية. ففكر ابن ميمون فكر توحيدي راق متأثر بالتوحيد الإسلامي، وقد صاغ أصول الديانة اليهودية على أساس هذا التوحيد، هذا على عكس القبَّالاه اللوريانية التي طرحت تصوراً للإله والكون ينطوي على كثير من الحلولية الوثنية والشرك ويحتوي على أصداء كثيرة (مشوهة) لعقائد الصلب والتثليث المسيحية. ورغم التناقض الشديد والعميق والجوهري بين الرؤيتين، فإن النسق الديني اليهودي قد استوعب هذه العقائد وجعل الإيمان بها شرطاً للإيمان، بينما يتحدث ابن ميمون عن إله واحد، وتتحدث القبَّالاه اللوريانية عن إله يتكون من أب وأم يتزاوجان، وعن تجلٍّ إلهي يأخذ شكل الشخيناه (التعبير الأنثوي عن الذات الإلهية) التي تجلس إلى جواره على العرش ويتخاطب معها، ولكننا نكتشف أيضاً أنها الشعب اليهودي. ولذا حينما يُنفى هذا الشعب تُنفي معه الشخيناه. وقد حل محل كل هذا الفكر الديني اليهودي الحديث الذي يعبِّر عن حلولية بدون إله (وحدة الوجود المادية)، حيث يحل الإله في المادة ويتوحد معها ثم يموت داخلها ولا يبقى سوى المقدَّسات المادية (بدون إشارة إلى إله متجاوز أو كامن).

وفكرة التركيب الجيولوجي تتبدَّى في الحقيقة التي يشير إليها إسبينوزا وهي أن الصدوقيين (الذين كانوا لا يؤمنون بالبعث أو اليوم الآخر ويصفهم علماء اليهود بالزندقة) كانوا يجلسون، في القرن الأول قبل الميلاد، جنباً إلى جنب مع الفريسيين في السنهدرين. ويمكن أن نشير نحن إلى رفض دار الحاخامية الرئيسية في إسرائيل الاعتراف بالحاخامات الإصلاحيين والمحافظين والتجديديين أو بصلاحيتهم في إجراء أية شعائر دينية، ومع هذا لا يزال الإصلاحيون والمحافظون يشكلون الأغلبية الساحقة بين اليهود المتدينين. وقد صرح الحاخام ملتون بولين بأنه لا توجد يهودية واحدة وإنما هناك يهوديتان: اليهودية المحافظة والإصلاحية من جهة، واليهودية الأرثوذكسية من جهة أخرى.

ومع هذا، يمكننا أن نقول إن أهم الطبقات داخل التركيب الجيولوجي التراكمي اليهودي هي الطبقة الحلولية التي ترى الإله حالاًّ في الكون (الإنسان والطبيعة) كامناً فيهما، وهو ما يؤدي إلى الواحدية (المادية) الكونية التي تنكر التجاوز على الإله بحيث يصبح لا وجود له خارجها. وقد كانت هذه الطبقة كامنة في أسفار موسى الخمسة (وخصوصاً المصدر اليهوي) وحارب ضدها كُتَّاب المصدر الإلوهيمي والأنبياء، ولكنها عادت لتزداد قوةً مع التلمود ثم أصبحت النموذج الأساسي والقيمة الحاكمة مع هيمنة القبَّالاه. ومع تَصاعُد العلمانية، ظهرت الحلولية بدون إله التي نزعم أنها الطبقة الجيولوجية الأساسية في تفكير المثقفين اليهود المحدثين. وتاريخ اليهودية الذي نطرحه هو في واقع الأمر تاريخ تزايد درجات الحلولية، إلى أن نصل إلى مرحلة الحلولية بدون إله وهي وحدة الوجود المادية (في عصر الحداثة وما بعد الحداثة).

وأدَّى إخفاق كثير من المفكرين الغربيين في فهم طابع اليهودية الجيولوجي (بسب خلفيتهم المسيحية) إلى تركيزهم على التوراة بالدرجة الأولى، وخصوصاً كتب الأنبياء، وإدراكهم اليهودية من خلال هذا المنظور وحده، إذ أهملوا التلمود ولم يسمعوا عن القبَّالاه إلا اسمها، وهو منظور جزئي مقدرته التفسيرية ضعيفة إلى أقصى حد.

وقد يذهب البعض إلى أن ما نسميه «التركيب الجيولوجي التراكمي» هو في واقع الأمر تعبير عن شكل من أشكال التعددية، وهو أمر يَصعُب قبوله. فالتعددية تفترض وجود قدر من الوحدة المبدئية، ويتم التنوع والتعدد داخل هذه الوحدة، فلا تَنوُّع دون تَحدُّد، ولا تَعدُّد دون قـدر من الوحـدة. لكن اليهودية ـ كما أوضحنا ـ تفتقر إلى مثل هذه الوحدة بسبب غياب أية معايير مركزية يهودية.

أسـباب تحــول اليهـودية إلى تركيــب جيولوجـي تراكـمي

Judaism as a Cumulative Geological Construct: Causes

تتسم اليهودية كنسق ديني بأنها تركيب جيولوجي تراكمي وليست وحدة عضوية متجانسة، وهذا يعود إلى عدة أسباب نجملها فيما يلي:

1- لعل أهم الأسباب التي أدَّت إلى ظهور هذه الخاصية الجيولوجية التراكمية أن العهد القديم بكل أجزائه لم يُدوَّن إلا بعد نزوله (أو وضعه) بفترة طويلة. وإذا كان التاريخ الافتراضي للخروج هو عام 1200 ق.م، فإن هذا يعني أنه لم يُدوَّن إلا بعد ذلك التاريخ بمئات السنين، كما يعني أنه دُوِّن على عدة مراحل ومن خلال مصادر مختلفة. ولم تُعتمد النسخة التي تُسمَّى «القانونية»، أو «المعتمدة»، إلا بعد المسيح. ومن أهم الأدلة على ذلك مخطوطات البحر الميت التي تتضمن أكثر من نسخة مختلفة للسفر الواحد بصياغات متعددة. وحينما تم تدوين الكتاب المقدَّس، كانت قد دخلت اليهودية مفاهيم وشعائر مختلفة وأصبحت جزءاً لا يتجزأ منها.

2 ـ انتقل العبرانيون القدامى (كبدو رحل) من مكان إلى آخر، ومن حضارة إلى أخرى، من مصر إلى كنعان عبر سيناء، ومن كنعان إلى بابل، وعبر هذه الرحلة تعرفوا على الفكر التوحيدي في الحضارة المصرية في عهد إخناتون، وفي سيناء (بين المدينيين)، ثم استوعبوا الحضارة الكنعانية ومن بعدها العبادة البابلية. وبعد ذلك، هيمنت فارس على الشرق الأدنى القديم وتبعتها اليونان. ودخلت اليهودية عناصر من كل هذه الحضارات بعباداتها المختلفة.

3 ـ لم تتمتع العقيدة اليهودية بوجود سلطة تنفيذية مركزية تساندها وتتخذ منها عقيدةً وأساساً للشرعية. ونتج عن ذلك انعدام وجود سلطة دينية مركزية تحافظ على جوهر الدين وتبلور مفاهيمه ومعاييره. وفي الفترة القصيرة التي أُسِّست فيها المملكة العبرانية المتحدة وقامت فيها سلطة دينية مركزية حول الهيكل، لم تكن العبادة اليسرائيلية قد تبلورت بعد، كما يتضح في سلوك سليمان الذي سمح لزوجاته باستقدام آلهتهن وكهنة عباداتهن. ولم تُعمِّر السلطة المركزية طويلاً إذ تأسَّس مركز آخر في بيت إيل بعد انقسام المملكة إلى مملكتين. وقد ازداد بعد ذلك تعدُّد المراكز والتبعثر مع انتشار الجماعات اليهودية في العالم، حين ظهر مركز ديني قوي في بابل (يتحدث الآرامية) وآخر في مصر لا يعرف العبرية ويتحدث اليونانية. وقد تم كل هذا قبل تبلور اليهودية بل قبل الانتهاء من تدوين وتقنين العهد القديم. ومن هنا، فحتى إذا كان في الإسلام أو المسيحية انقسامات وتنوعات، فإنه يظل هناك موقف أصولي أو مركز أرثوذكسي يحدِّد المؤمن والمهرطق أو الكافر. أما في اليهودية، فمع غياب هذا المركز، كان المهرطقون يستمرون في تجديفهم ويسمونه «يهودية»، حتى إذا ما وصلنا إلى العصر الحديث وجدنا أن عدد الأرثوذكس لا يزيد على 4% من مجموع يهود العالم، ويوجد ملايين من اليهود الملاحدة أو اللا أدريين أو غير المكترثين بالدين الذين يسمون أنفسهم مع هذا «يهوداً».

4 ـ مع سقوط المملكة الجنوبية والتهجير البابلي، انتهت العبادة القربانية المتمركزة حول الهيكل. ولكنها مع هذا تركت طبقات جيولوجية مهمة في اليهودية التلمودية على شكل عدد هائل من الطقوس والمدونات، مثل: القوانين الخاصة بالكهنة، وبعض الشعائر كالسنة السبتية، وكثير من الصلوات.

5 ـ ولكن العنصر الأساسي والحاسم الذي أدَّى إلى ظهور الخاصية الجيولوجية التراكمية هو مفهوم الشريعة الشفوية الذي أضفى قداسة على فتاوى فقهاء اليهودية وتفسيراتهم ووضعها في مرتبة أعلى من كتاب اليهود المقدَّس نفسه. وقد ظهرت مدارس ونظريات في التفسير لا حصر لها ولا عدد، بعضها ينكر أية علاقة بين الدالوالمدلول، أي بين كلمات العهد القديم ودلالاتها المباشرة، بحيث أصبح في وسع المُفسِّر (من خلال التفسير الرمزي أو التفسير القبَّالي أو التفسير الرقمي) أن يفرض أي معنى يشاء.

6 ـ وكانت اليهودية عبر تاريخها، حتى ظهور اليهودية الحاخامية، تكتسب هويتها من أنها ديانة تنزع إلى التوحيد في محيط وثني مشرك. ولكنها حينما وجدت نفسها في تربة توحيدية، إسلامية أو مسيحية، حاولت أن تشكِّل هوية جديدة تستند إلى تصوُّر أسطوري حلولي للواقع، كما يتضح بشكل جنيني في التلمود، وبشكل واضح جليّ في القبَّالاه. ورغم ظهور الفكر الأسطوري، فإن هذا الفكر الأسطوري لم ينبذ الفكر التوحيدي وإنما حاول أن يتعايش معه.

7 ـ ظلت اليهودية، لفترة طويلة من تاريخها، مجرد ممارسات طقوسية تحكمها إما سلطة مركزية أو فتاوى الحاخامات دون أن يتم تحديد العقائد الأساسية. وحينما قام موسى بن ميمون في القرن الثاني عشر بتحديد أصول الدين اليهودي، فإن كثيراً من العقائد أو المعتقدات الفلكلورية الحلولية الوثنيـة كانت قد وجـدت طريقها بالفعـل إلى العـهد القديم والتلمود. وعلى كلٍّ، لم يُكتَب لمحاولة موسى بن ميمون أن تهيمن على اليهودية وتكتسب المركزية التي تستحقها، حتى يتم استبعاد العقائد المنافية للتوحيد. ولكن ما حدث هو أن الاجتهاد الميموني كان مجرد طبقة جيولوجية جديدة تضاف إلى الطبقات الأخرى السابقة واللاحقة. ثم زادت هيمنة القبَّالاه بعد هذه المحاولة بفترة قصيرة.

8 ـ لكن انتقال مركز اليهودية إلى تربة مسيحية تؤمن بالتثليث (واحد في ثلاثة أو ثلاثة في واحد) لم يساعدها كثيراً على التطور، إذ أن الفكر الديني بدأ يتصور الإله وكأنه يتجلى تجليات مختلفة (التجليات النورانية العشرة أو السفيروت). وقد وُلدت هذه التصورات في أحضان التفكير القبَّالي الشعبي الذي كان يتأثر بالأفكار الدينية المسيحية دون أن يستوعبها ثم ينقلها إلى تربة يهودية فيتم تشويهها.

9 ـ كان اليهود في العالم الغربي الذي انتقل إليه مركز اليهودية، مع نهاية العصور الوسطى، جماعة وظيفية وسيطة منعزلة لا تتمتع بمستوى ثقافي رفيع، في مجال التنظير الديني على الأقل. كما أن هذه الجماعة لم تكن تشعر بالطمأنينة، وهذا ما جعلها تنغلق على نفسها، وقد انعكس هذا على النسق الديني اليهودي إذ بدأت الطبقات تزداد تنوعاً وتبتعد عن التجانس.

10- ظلت اليهودية ـ بكل طبقاتها الجيولوجية المتراكمة ـ متمركزة داخل الجيتو. وقد تصالح التراث التلمودي والتراث القبَّالي داخل مؤسسة اليهودية الحاخامية، وإن كانت علامات التوتر قد ظهرت بينهما في الصراع بين الحسيديين والمتنجديم. وجاء الإصلاح الديني البروتستانتي، لكنه لم يؤثر كثيراً في اليهودية التي كانت مراكزها موجودة في شرق أوربا (أساساً) في تربة أرثوذكسية بمنأى عن التغيرات الفكرية والبنيوية التي كانت تحدث في القارة الأوربية. وحينما اندلعت الثورة الفرنسية وبدأت عملية تحديث اليهودية، لم يكن النسق الديني اليهودي مهيأً لذلك، وخصوصاً أن أوربا ذاتها كانت قد طرحت الإصلاح الديني وراءها وبدأت تتخلى عن الرؤية الدينية وتدخل عالم العلمانية الحديث الذي لا يكترث كثيراً بالدين بل يحوله إلى اقتناع شخصي يُمارَس في المنزل ولا ينظم السلوك الاجتماعي بأية حال. وفي مواجهة ذلك التحدي الأكبر، تآكل التركيب الجيولوجي التراكمي اليهودي تماماً إذ أن الإصلاح الديني اليهودي، الذي أخذ شكل اليهودية الإصلاحية، كان في واقع الأمر محاولة لعلمنة اليهودية لا لإصلاحها. ولذا، فقد أسقط كثيراً من الشعائر والعقائد التي تتنافى مع العقل والمنطق، وحاول أن يعيد صياغة اليهودية حسب مقاييس بروتستانتية شـبه علمانية. كما انتشـر الإلحاد بين كثير من اليهود واستمروا، مع هذا، في تسمية أنفسهم «يهوداً»، ذلك أن الشريعة اليهودية تعترف بهم كيهود، فاليهودي هو من وُلد لأم يهودية.

11 ـ لاحَظ أحد الباحثين أن المجتمعات الصغيرة (والهامشية) هي عادةً مجتمعات تحتفظ بكل شيء، فهي مجتمعات لا شخصية. ففي واحة سيوه لا تزال توجد بعض العادات والمفاهيم التي تعود إلى أيام الفراعنة واليونانيين. وإذا قبلنا هذا الرأي، فيمكن القول بأن اليهودية كانت دائماً تتحرك في تربة المجتمعات الصغيرة (المجتمع العبراني قبل التهجير ـ الجيتوات اليهودية في أنحاء العالم)، ولهذا السبب تعمقت الخاصية الجيولوجية. كما يُلاحَظ أن أعضاء الجماعات الوظيفية حينما ينتقلون من مجتمع إلى آخر يحملون معهم بعض الأشكال الحضارية من المجتمع السابق، والتي تتكلس تماماً بمرور الوقت وتتحول إلى طبقة جيولوجية جديدة.

مظاهر ونتائج تحــول اليهــودية إلى تركـيب جيولوجــي تراكمــي

Judaism as a Cumulative Geological Construct: Manifestations and Consequences

تتسم اليهودية، كتركيب جيولوجي تراكميس، بأنها تنطوي على تناقضات حادة وعلى غموض شديد في بعض المفاهيم، ولنأخذ مفهوماً محورياً كمفهوم الإله مثلاً. تُصنَّف اليهودية باعتبارها ديانة توحيدية، غير أن العهد القديم يتضمن من النصوص ما يتناقض مع هذا إذ يُفهم منها أن ثمة آلهة غير يهوه، وتُستخدَم صيغة الجمع «إلوهيم»ومفردها «إيلوَّه»، وتتبع الاسم صفة في صيغة الجمع («إلوهيم إحيريم» أي «آلهة أخرى»)، وهو ما تحاشاه مترجمو النسخة السبعينية للإشارة إلى الإله، حيث يتحول «إلوهيم» إلى اسم من أسماء الإله. والإله، في بعض المقاطع، يسمو على العالمين والبشر ويتجاوز الطبيعة والتاريخ، ولكنه في البعض الآخر يحل في الطبيعة والتاريخويتوحد معهما ويتسم بصفات البشر. وفي اللقاء بين الإله وموسى على جبل سيناء، لا تحدد المصادر التلمودية ما إذا كان موسى شاهده وجهاً لوجه وهل اشترك الشعب فيالرؤية، أم أنه لم يشاهده أحد (أي هل ظل الإله متجاوزاً لا تدركه الأبصار أم أنه تجسد فرآه موسى؟). ويتبدَّى اختلاط رؤية العهد القديم بالإله في الإشارة إلى الترَافيم (الأصنام) فترة إشارات إيجابية وإشارات سلبية، فليس هناك موقف حاسم منها يحدد ما إذا كانت موضع قبول أو موضع رفض. والإشارة إلى عزازئيل تتضمن أيضاً وجود قوى مطلقة إلى جوار الإله.

وقد ظل هذا التناقض العميق يسم الرؤية اليهودية، ففي التلمود تُنسب إلى الإله صفات بشرية عديدة، وهو غير معصوم من الخطأ أو الندم، بل إن إرادته لا تعلو على إرادة الحاخامات. أما في تراث القبَّالاه، فينفرط عقده تماماً ليتحول إلى تجليات مختلفة، وإلى عناصر ذكورة وأنوثة بما يشبه الآلهة الوثنية اليونانية أو الرومانية في بعض النواحي. وتظهر الخاصية الجيولوجية أيضاً في الأفكار الأخروية التي لم تستقر تماماً في اليهودية ولم تكتسب شكلاً محدداً. فالعهد القديم، بكامله تقريباً، ينكر فكرة البعث حيث لا تظهر هذه الفكرة بشكل محدد إلا في كتاب دانيال (في مرحلة متأخرة)، كما أنها لم تستقر استقراراً كاملاً في الفكر الديني اليهودي. والشيء نفسه ينطبق على فكرة الثواب والعقاب. ولهذا فإننا، عند ظهور المسيح، نجد العديد من الفرق اليهودية المتنافرة، ومن بينها الصدوقيون الذين كانوا ينكرون البعث واليوم الآخر، رغم أنهـم كانوا يشـكلون فئة دينية مركزية في غاية الأهمية، فكان منهم الكهنة كما كانوا يجلسون مع الفريسيين في السنهدرين. وقد أشار إسبينوزا، فيلسوف العلمانية والحلولية، إلى هذه الحقيقة ليدلل بها على أن الإيمان بالآخرة ليـس أمراً جوهرياً في اليـهودية.

وتتبدَّى الخاصية الجيولوجية في مفاهيم محورية أخرى مثل حائط المبكى. فالفقه اليهودي لم يهتم على الإطلاق بحائط المبكى أو الحائط الغربي. ولهـذا، لم يأت له ذكر في الكتابات الدينيـة أو كتب الرحالة. ولكن، يبدو أنه بتأثير فكر يهود المارانو الحلولي الذي يتبدَّى في شكل تقديس للأشياء التي يفترض أن الإله يحل فيها، وتحت تأثير الشعائر الإسـلامية حيث تُعـد فريضـة الحج إلى الكعبة أحد أسس الإسلام الخمسة، تحول الحائط إلى مزار، ثم أصبح من أهم الأماكن قداسة في العقيدة اليهودية، وأصبح الاستيلاء عليه في رأي بعض المتمسكين بأهداب العقيدة اليهودية فرضاً دينياً. ومع هذا، فإن الحاخام الأرثوذُكسي هيرش، الذي يعيش على بعد عدة خطوات من الحائط، يرفض زيارته، وذلك لأن الشريعة اليهودية (كما يرى) تُحرِّم ذلك على اليهود، وهكذا فإن أصحاب المواقف المتناقضة يجد كل منهم سنداً لموقفه داخل الشريعة اليهودية.

وهناك تناقض من هذا النوع بشأن قضية الأرض، إذ يرى معظم الصهاينة المتدينين أنه لا يمكن التفريط في شبر واحد من الأرض التي احتلها الإسرائيليون قبل بعد عام 1967 وهم يدعمون رأيهم هذا بالعودة إلى كتب اليهود المقدَّسة. أما الحاخام عوبديا يوسف، حاخام السفارد السابق، فيطالب بغير ذلك، إذ يرى أن بالإمكان التنازل عن الأرض مقابل السلام لأن في هذا حقناً لدماء اليهود (وقد وجد هو أيضاً الاقتباسات المناسبة). بل هناك تناقض، ومن ثم اختلاف، يتصل بإحدى الوصايا العشر (: لا تقتل)، إذ أفتى الحاخام إسحق جنزبرج، وهو رئيس مدرسة تلمودية عليا (يشيفا) في مدينة نابلس بأن دم العرب ودم اليهود لا يمكن اعتبارهما متساويين. ومن قبل، صرح أحد الحاخامات التابعين للحاخامية العسكرية بأن الجنود الإسرائيليين يمكنهم قَتْل حتى أفضل الأغيار. وقد وجد كل منهما الاقتباسات اللازمة لتأييد رأيه. وقد احتج الحاخام أبراهام سابيرو، حاخام الإشكناز الأكبر بقوله إن الإله (حسبما جاء في التوراة) قد خلق كل البشر على صورته، وأن الوصية الخاصة بعدم القتل هي إحدى وصايا نوح، وبالتالي فهي مُلزمة لجميع البشر، يهوداً كانوا أم أغياراً. وهو محق في قوله وفي استشهاده، تماماً مثل الحاخامات الداعين للقتل. وقد أدَّى كل هذا إلى أن اليهودية أصبحت مصدراً للشقاق بين يهود العالم داخل وخارج إسرائيل بدلاً من أن تصبح إطاراً واحـداً يجمعـهم ويُضــفي عليهم شيئاً من الوحدة، وأصبحت العقيــدة اليهودية في الــدولة الصهيونية مصــدراً أساســياً للانقســام والصراع الاجتماعي والثقافي.

وتتبدَّى الخاصية الجيولوجية التراكمية في الأعياد، فعيد الفصح بطقوسه المركبة نتاج تراكمات جيولوجية عديدة ابتداءً من عيد الخبز غير المخمر (الكنعاني) وانتهاءً بنظام المأدبة (الروماني). كما تتضح الخاصية الجيولوجية التراكمية في تزايد الأعياد (الواحد تلو الآخر) عبر السنين، وهو أمر لم يتوقف بعد، إذ تحوَّل (على سبيل المثال) يوم إعلان استقلال إسرائيل إلى عيد ديني. وثمة محاولة في إسرائيل لتحويل هذا العيد إلى عيد الفصح الحقيقي باعتبار أن إعلان استقلال إسرائيل هو خروج اليهود الحقيقي!

كما أن الصلاة اليهودية قد نالتها هي الأخرى تغييرات لا حصر لها ولا عدد، وهو أمر لا يزال يحدث حتى الآن، فبعد أن أُضيفت إليها قصائد البيوط (من قبل) تم حذفها مؤخراً، كما يتم تغيير النصوص والأدعية وكتب الصلوات من آونة إلى أخرى.

وتظهر الخاصية الجيولوجية التراكمية كذلك في المحاولة الحديثة لإعادة صياغة العقيدة اليهودية بالشكل الذي يتفق مع ملابسات ما بعد أوشفيتس (أي ما بعد النازية) إذ يقول بعض المفكرين الدينيين اليهود: إن الإله قد تخلى عن اليهود في محنتهم، ولذلك لابد أن تُعاد صياغة كل شيء وضمن ذلك محاولة التوصل إلى يهودية بدون إله. بل ذهب بعضهم إلى المناداة بأن الإله قوة شريرة.

وتظهر الخاصية الجيولوجية التراكمية بكل حدة في تعريف الشريعة اليهودية لليهودي بأنه من يؤمن بالشريعة ومن وُلد لأم يهودية. وهو تعريف يجمع بين فكرة الإيمان بالإله الواحد الذي يستند إلى الاختيار، الذي ينتج عنه سلوك أخلاقي محدد، وبين الفكرة الوثنية القائلة بأن الانتماء هو انتماء عرْقي للشعب (كما هي عادة شعوب الشرق الأدنى القديم وغيرها من الشعوب القديمة).

وبإمكاننا أن نقول إن الخاصية الجيولوجية التراكمية تتبدَّى في التناقض الحاد بين النزعة الحلولية الحادة التي تُوحِّد الإله والشعب والأرض، كما هي عادة الديانات القديمة من جهة، ومن جهة أخرى النزعة التوحيدية المتسامية التي ترى أن الخالق مفارق لمخلوقاته وأنه هو الذي يحكم عليهم ويوجههم ويميتهم ويحييهم، وأنه هو الذي شاء وأعطاهم حرية الاختيار بين الخير والشر، والنزعتان (على تناقضهما) موجودتان في اليهودية

وتنطلق كلٌّ من اليهودية الإصلاحية واليهودية المحافظة من تَقبُّل الخاصية الجيولوجية التراكمية دون أن تسمياها كذلك. فاليهودية الإصلاحية تختار ما تشاء وتَرفُض ما تشاء بما يتفق مع العقل وروح العصر. أما اليهودية المحافظة، فتفعل الشيء نفسه، على أن يتم الاختيار على أساس ما يتفق مع روح الشعب اليهودي. وقد اعتبر الإصلاحيون كتاب اليهود المقدَّس أي العهد القديم وثيقة ذات شأن عظيم وليـس وحياً مقدَّسـاً. ووجـدوا في النسـق الجيولوجي ما يؤيد وجهة نظرهم. أما اليهودية المحافظة فقد حوَّلت العقيدة اليهودية إلى ما يشبه فولكلور الشعب اليهودي، ووجدت أيضاً ما يساندها. ثم ظهرت الصهيونية التي أنكر مفكروها الأوائل وجود الإله، ثم جعل مفكروها المحدثون فكرة الإله ثانوية. ومع هذا، فقد بحثوا عن شرعية لآرائهم في التركيب الجيولوجي التراكمي اليهودي ووجدوا ضالتهم. ومع أن اليهودية الأرثوذكسية وقفت في البداية بضراوة ضدالصهيونية من منظور ديني (على اعتبار أن اليهودية تحرِّم العودة، بينما التلمود يراها من قبيل الهرطقة والتجديف) فإنها غيَّرت موقفها وتصالحت مع الصهيونية ووجدت أن الدولة الصهيونية هي ما يُسمَّى «بداية الخلاص»، وهو مفهوم تلمودي أيضاً اكتشفه منذ البداية بعض الحاخامات الأرثوذكس القبَّاليين، مثل كاليشر والقلعي، ثم تبعهما إسحق كوك. وفي الوقت الحالي، فإن معظم اليهود الأرثوذكس يؤيدون الصهيونية بتعصب شديد من منظور ديني أيضاً. وكلا الموقفين، القابل للصهيونية والرافض لها، يجد ما يستند إليه في كتب اليهود المقدَّسة.

ومن الملاحَظ أن نصف يهود العالم لا يلتزمون الحد الأدنى من الإيمان، ومن ذلك الإيمان بالإله. ومع هذا، فإننا نجدهم مستمرين في إطلاق عبارة «يهود إثنيون» على أنفسهم، ورغم ذلك فقد قبلتهم المؤسسات الدينية اليهودية التي عرَّفت اليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية. وقد ظهرت اتجاهات أخرى مختلفة مثل اليهودية التجديدية وتسميات يكتنفها التناقض مثل «اليهودية العلمانية»، وهناك تسمية إسحق دويتشر الكلاسيكية «اليهودي غير اليهودي»، وهو التعبير العبثي النهائي عن الخاصية الجيولوجية التراكمية. وتتجلى هذه المسألة نفسها في إسرائيل في إشكالية «الهوية اليهودية»، (أي إشكالية من هو اليهودي؟)،والذي عرَّفه أحدهم بأنه « من يرى نفسه كذلك » دون الاحتكام إلى أية معايير دينية خارجية،بحيث يصبح الانتماء الديني أشبه بالحالة الشعورية أو المزاجية.

عناصــر في اليهــودية مـن الـديانات والحضـارات الأخـرى

Elements in Judaism from other Religions and Cultures

لابد أن نبيّن ابتداءً أن هناك رقعة عريضة مشتركة بين كل الأديان باعتبارها تعبيراً عن شيء أساسي في النفس البشرية: وهو رغبة الإنسان في تأكيد إنسانيته وتعريفها باعتبارها كياناً متميِّزاً يتجاوز عالم الطبيعة/المادة وعالم الحيوانات والحشرات التي تحيا وتموت دون وعي ودون هـدف أو غايـة ودون أية منظـومات معرفية أو أخلاقيـة أو جمالية، فهي تعيش مبرمجة حسب برنامج الطبيعة/المادة. هذه الرغبة الإنسانية هي ما نسميه «النزعة الربانية». وهي رغبة كامنة في الجنس البشري تولِّد من داخل عقل الإنسان، المستقل عن عالم الطبيعة/المادة، أفكاراً وأحلاماً ورؤى. ولذا فمن المتوقع أن تكون هناك عناصر مشتركة بين هذه الأفكار والرؤى تتجلى على هيئة رقعة مشتركة بين كل الديانات في العقائد والرؤى والطقوس والشعائر. ومع هذا لا يمكن إنكار أن عقيدة ما يمكن أن تتأثر بأخرى، وأن درجات التأثر هذه تختلف من عقيدة لأخرى. ونحن نذهب إلى أن درجة تأثر اليهودية بما حولها من عقائد أدَّى إلى ظهور خاصيتها الجيولوجية التراكمية التي تتبدَّى في الاقتباسات العديدة غير المتجانسة من الحضارات الأخرى، وخصوصاً إبَّان المواجهات الأساسية الخمس للعقيدة اليهودية مع الحضارات: الكنعانية والبابلية والهيلينية والمسيحية والإسلامية، وأخيراً مواجهتها مع الحضارة العلمانية الحديثة في الغرب.

ولنبـدأ بالمصريين القـدماء. يبدو أن قصة يوسف ذات أصل مصري، ويُلاحَظ فيها وجود لمسات مصرية هنا وهناك. ففي سفر التكوين (41/14) يحلق يوسف رأسه قبل المثول أمام فرعون، وقد كانت هذه عادة معروفة في مصر، ولم تكن معروفة عند الساميين. وقد أثَّر نظام الكهنوت المصري في نظام الكهنوت اليهودي، وكذلك في هندسةالهيكل التي تشبه هندسة المعابد المصرية، كما أثَّر التراث المصري في بعض مظاهر العبادة اليسرائيلية والعبادة القربانية المركزية مثل تابوت العهد وقدس الأقداسوغيرها. ولكن الأهم من كل هذا هو الأثر الذي تركه المصريون في اليهود في مجال العقيدة. فقد ترك الفكر التوحيدي المصري القديم، وعبادة إخناتون التوحيدية، أثراًواضحاً وعميقاً في العبرانيين، وفي رؤيتهم للإله بشكل عام. كما يتضح هذا الأثر بشكلٍ محدَّد في المزامير التي وجد الباحثون أمثال هنري برستيد فيها أصداء لأناشيدإخناتون الدينية، فالمزمور 94 مستوحى بصورة جلية من «نشيد آتون»، والمزمور 104 مأخوذ عن «نشيد الشمس» في عهد إخناتون. بل يمكن القول بأن بعض الأوجه الإيجابية للرؤية الأخلاقية العبرانية تعود إلى الحضارة المصرية التي أكدت فكرة الثواب والعقاب. ويذهب بعض المؤرخين إلى أن كتاب الأمثال في العهد القديم يكاد يكون ترجمةً لأحد كُتب الحكمة المصرية. كما أخذ العبرانيون شعيرة الختان، وفكرة تحريم الخنازير، ومبدأ النجاسة، من المصريين القدامى. ولا يعني هذا أن العبرانيين تبنوا هذه العقائد والمفاهيم بقضها وقضيضها، فالتوحيد بين العبرانيين قد انتكس في مرحلة لاحقة، وكذا القيم الأخلاقية، وإنما يعني ذلك أن التراث المصري الديني والأخلاقي ترك أصداءً عميقةً في وجدان العبرانيين.

وقد تأثر العبرانيون بحضارة الكنعانيين في كثير من المجالات، فبعض صفات يهوه هي من صفات بعل إله الكنعانيين. وبعض التحريمات (مثل طبخ الجدي في لبن أمه) هي عادات كنعانية قديمة. وكـثير من الأعيـاد اليهـودية، مثل عيد الفصح وعيد الأسابيع وعيد المظال، ذات أصل كنعاني. وقد كشفت الكتابات الأوجاريتية مدى عمق تأثير الفكر الديني الكنعاني في العبادة اليسرائيلية، ويُقال إن المزمور 29 مأخوذ من نشيد كنعاني وُضع أصلاً لبعل العاصفة، وعُثر عليه في أوجاريت. ويبدو أن القصص الدينية للأقوام السامية الأخرى، مثل الأدوميين، قد وجدت طريقها إلى الفكر الديني اليسرائيلي كما يتضح من سفر أيوب. ويذكر العهد القديم بعض الشعائر والعقائد التي تم تبنيها، ثم استُبعدت في مرحلة لاحقة، مثل التضحية على المذابح، والثعبان النحاسي، ومركبات الشمس في الهيكل، والعجول الذهبية. ولكن هناك شعائر أخرى لم تُنبَذ مثل التضحية بكبش للمعبود عزازئيل.

ويُلاحَظ على أسفار موسى الخمسة أن كثيراً من نصوصها يتشـابه مع أسـاطير سـومرية وبابلية، وتشـريعات بابلية قديمة، ومثال ذلك:

ـ تشابه سفر التكوين (1 ـ 11) وملحمة الخلق البابلية.

ـ التشابه بين الأعمار المديدة لآباء البشرية منذ آدم حتى نوح (عشرة منهم مجموع أعمارهم 8575 سنة) في سفر التكوين (5)، وفي قائمة سومرية جاء أن ثمانية ملوك قبل الطوفان حكموا 241.200 سنة، وهناك قائمة بابلية جاء فيها أن عشرة حكام حكموا 432 ألف سنة.

ـ تشابه قصة الطوفان في سفر التكوين مع ملحمة جلجاميش التي ورثها البابليون عن الحضارة السومرية.

ـ تشابه قصة مولد موسى مع قصة مولد سرجون ملك أكاد.

ـ وضوح تأثير قانون حمورابي (1900ق. م تقريباً) في التشريع الوارد في سفر الخروج (21 ـ 23) والوصايا العشر.

كما تأثر اليهود بكثير من الشعائر والعقائد البابلية، مثل السبت، وتغطية الرأس أثناء الصلاة،وفكرة يوم الحساب،والتقويم.

ولم يتوقف تأثر اليهودية بالديانات والحضارات الأخرى مع العودة من بابل، فقد ظل هذا النمط سائداً إذ تأثر اليهود بفكرة الماشيَّح من التراث الفارسي. كما دخل على اليهودية كثير من الأفكار الثنوية، وهو ما أثر في أدب الرؤى والأفكار الأخروية. وأثَّر الفكر الهيليني في الفكر الديني اليهودي، فسفر الجامعة يتضمن رؤية عدمية تشبه من بعض الوجوه الفكرة الإغريقية الخاصة بأن التاريخ مثل الدورات الهندسية المحضة التي تبدأ وتنتهي بلا معنى. بل إن فكرة الشريعة الشفوية نفسها من أصل هيليني، إذ كان اليونان يرون أن القانون الشفوي أهم وأكثر شرعية من القانون المكتوب. كما أن فكرة «الآدم قدمون» (الإنسان الأزلي) هي خليط من فكر بابلي وفارسي (وقد وردت في كتابات المندائيين) أما فكرة «تهشُّم الأوعية» فهي فكرة أسطورية يونانية وردت في تراتيل أورفيوس وتشير إلى «تلوث الأشعة» أو الومضات الإلهية في روح الإنسان أثناء هبوطه بفعل «التيتان العشرة المعلقة بين السماوات والأرض».

واستمرت اليهودية بعد ذلك في تبنِّيها عناصر من الإسلام، فصاغ سعيد بن يوسف الفيومي، ومن بعده موسى بن ميمون، أصول الدين اليهودي متأثرين في ذلك بمحاولات الفقهاء المسلمين تحديد أصول الدين الإسلامي. كما تأثرت اليهودية بالفكر الديني المسيحي في تراث القبَّالاه، خصوصاً بفكرة التجليات النورانية العشرة (سفيروت). بل إن احتفالاً يهودياً مثل الاحتفال ببلوغ سن التكليف الديني (برمتسفاه)، وهو من أهم الاحتفالات اليهودية في الولايات المتحدة، لم يكن معروفاً في اليهودية الحاخامية وإنما أُخذ عن المسيحية الكاثوليكية فيما يُسمَّى «التناول الأول».

لكن تأثر اليهودية بالعقائد والديانات الأخرى، ليس ميزة أو عيباً في حد ذاته، فثمة رقعة مشتركة واسعة بين كل الديانات والعقائد (كما أسلفنا). والكتب المقدَّسة والعقائد الدينية، رغم استنادها إلى مطلق غير مادي متجاوز للطبيعة والتاريخ، إلا أنها تستمد مادتها من التاريخ فهي تتعامل مع أحداث تاريخية. وهي موجهة للبشر الذين يعيشون داخل الزمان. ولذا فرغم أن أساسها مطلق ومرجعيتها مطلقة إلا أنها تتعامل مع النسبي وتطوِّعه لتستوعبه داخل المرجعية الحاكمة النهائية. ولكن المؤثرات التي تراكمت داخل اليهودية ظلت متعايشة كطبقات جيولوجية غير مندمجة وغير مُستوعَبة في إطار مرجعي واحد، الأمر الذي وسم اليهودية بميسمه وجعل منها تشكيلاً جيولوجياً تراكمياً.

ومع هذا، تجب الإشارة إلى أن الخاصية الجيولوجية التراكمية للنسق الديني اليهودي قد جعلت مقدرته الاستيعابية لعناصر من العقائد والأيديولوجيات الأخرى عالية إلى أقصى حد، وأدَّى هذا إلى أزمة حادة في اليهودية مع تصاعُد معدلات العلمنة في المجتمع الغربي إذ بدأ المفكرون الدينيون اليهود يتبنون أفكاراً لا علاقة لها بأي دين مثل تَقبُّل الشذوذ الجنسي، بل إنشاء معابد للشواذ من الجنسين، بل ترسيم حاخامات منهم وإنشاء مدارس دينية خاصة بهم، وأخيراً قبول فكرة لاهوت موت الإله. وهذه بدعة غربية جديدة تشكل جوهر العلمانية، ولكنها مع هذا تُسمِّي نفسها فكراً دينياً!

العقائد (كمرادف لكلمة «أديان»)

Religions

تُستخدَم كلمة «عقيدة» بالمعنى العام مرادفة لكلمة «دين» أو «نسق ديني»، فيقال «العقيدة اليهودية» و«العقيدة المسيحية» و«العقائد السماوية»... إلخ. وحيث إننا نرى أن اليهودية تركيب جيولوجي يحوي داخله أنساقاً وأفكاراً دينية مختلفة متناقضة تراكمت عبر العصور، تتعايش جنباً إلى جنب، أو تتراكب كالطبقات الجيولوجية الواحدة فوق الأخرى، فإننا نستخدم الكلمة في صيغة «العقائد اليهودية» بمعنى أنها «أديان» لا بمعنى «أصول الدين اليهودي». وحتى حينما نستخدم اصطلاح «عقيدة يهودية» في صيغة المفرد، فإن المقصود هو: تركيب جيولوجي تراكم داخله عدد من الطبقات المتناقضة.

العقــائد (بمعنى أصـول الدين وأركانـه)

Creeds, Beliefs and Articles of Faith

العقيدة هي الحكم الذي لا يقبل الشك لدى معتقده، وهو يقبلها حتى لو تناقضت بعض جوانبها مع العقل أو المنطق. والعقيدة في الدين هي ما يُقصَد به الاعتقاد دون العمل كعقيدة وجود الإله وبعثه الرسل. والعقائد عادةً تشكل ركناً أساسياً من أركان أي دين، فإن هُدمت انتفى الإيمان. ويقابل كلمة «عقائد» بهذا المعنى أصول الدين وأركانه فيالإسلام. ولما كان الفقه اليهودي قد تأثر بمصطلحات كل من اللاهوت المسيحي، والفقه الإسلامي في الوقت نفسه فإننا سنضطر إلى استخدام هذه المصطلحات كما لو كانتمترادفة.

وعادةً ما تتم التفرقة بين العقائد التي يؤمن بها الإنسان والشعائر أو الطقوس التي يؤديها. فالأولى مسألة تختص بالقلب والضمير، والثانية تنتمي إلى العالم الخارجي، فهي أفعال محدَّدة تتبع نظاماً محدداً. ويذهب كثير من المفكرين إلى أن اليهودية تُعنى بالشعائر والأعمال ولا تُعنى بالإيمان، وهي في جوهرها أسلوب حياة ونظام للسلوك البشري لا عقيدة تُعتقد، ومجال تفكيرها منحصر بالدرجة الأولى في هذا العالم، والجزاء يكون حسب الأعمال لا حسب الاعتقاد. وتميِّز الموسوعة اليهودية بين استخدام الجذر اللغوي «آَمَن» ومشتقاته في العهد القديم، واستخدام كلمة «إيمان» أو «عقيدة» في العهد الجديد. فهي تقول إن الكلمة في العهد القديم تحمل معنى الثقة في الإله والاخلاص له لا الإيمان به أو بعقائد محدَّدة، وأن استخدام الجذر «آمن» ومشتقاته بمعـنى العقيدة والإيمان لم يظهر إلا في العصور الوسطى في الغرب تحت تأثير المسيحية.

ولا يوجد في العهد القديم أي تحديد واضح لأركان الإيمان أو أعمدته، وإن كان هذا لا يمنع وجـود مفاهـيم إيمانية عامـة مثـل: الشماع، وضرورة الإيمان بوحدانية الإله والوصايا العشر. ولكن هذه الأفكار الدينية هي جزء من تركيب جيولوجي يضم العديد من الأفكار الأخرى المتناقضة وغير المتجانسة الوثنية والتوحيدية. فموقف العهد القديم من قضية مثل قضية الأصنام (ترافيم) ينطوي على التقبل الضمني في بعض الأجزاء، والرفض الكامل في بعـض الأجزاء الأخرى. ويتحدث العهد القديم عن الإله في صيغة الجمع (إلوهيم)، وعنه باعتباره إلهاً ضمن آلهة أخرى. كما نجد أن ثمة إشارات مستمرة إلى ملك اليهود بوصفه ابن الإله (أخبار أول 17/13). كما نجد أن فكرة البعث والآخرة تظل مبهمة وغير محددة. ويُلاحَظ تأرجُح رسالة الأنبياء بين العالمية والقَبَليِّة. وينسب العهد القديم إلى الآباء (إبراهيم ويعقوب وموسى) أفعالاً غير أخلاقية. ونجد أن الشعب، باعتباره جماعة دينية، يرتكب أفعالاً أبعد ما تكون عن الالتزام الخلقي وتعبِّر عن العصبية العرْقية مثل ذبح سكان شكيم رغم اعتناقهم اليهودية وتختنهم وترحيبهم بالعبرانيين (تكوين 34/25 ـ 27). ونجد أن مفهوم الميثاق بين الإله والشعب مُلزم للإله بغض النظر عما يقترفه اليهود من آثام وأفعال لا أخلاقية. كل هذه القيم والمفاهيم أصيلة في العهد القديم وتتناقض مع الشماع ووحدانية الإله وبعض الوصايا العشر!

وقد ظلت اليهودية، رغم هذا التناقض، نسقاً دينياً يتعايش داخله هذا التناقض وتترسب فيه أفكار دينية أخرى (بالطريقة الجيولوجية التكاملية ). وظلت مجموعة من الممارسات الدينية، مثل الأوامر والنواهي، تستند إلى فتاوى الحاخامات أو إلى قرارات السلطة الدينية المركزية دون أن تكون هناك أركان واضحة للإيمان تنبع منها الممارسات. وظلت اليهودية عبر تاريخها مجموعة من الشعائر والممارسات، ودون تحديد للعقائد. وقد عرَّف المشرعُ اليهوديَ بأنه كل من وُلد لأم يهودية، فكأنه لا يحتاج للإيمان بعقيدة. وجاء في كتاب السنهدرين 44أ "حتى حينما يرتكب الإثم فهو يظل يهودياً".

ومع هذا، كانت اليهودية تواجه تحديات دينية من الخارج حينما تجد نفسها في مواجهة حضارة أكثر تركيباً وحين تواجه نسقاً دينياً أكثر تحدداً وتجانساً. فكانت تضطر إلى أن تحدد أركانها. ولذا، نجد أن تحديد العقائد في غالب الأمر هو جزء من الاعتذاريات اليهودية ومحاولتها الدفاع عن نفسها أمام الأنساق الحضارية والدينية الأخرى. وهذا ما حدث إلى حدٍّ ما في المواجهة مع الحضارة الهيلينية، إذ حاول فيلون السكندري أن يحدد ما تصوره أركان الإيمان الأساسية بخمسة:

1 ـ الإله موجود ويحكم العالم.

2 ـ الإله واحد.

3 ـ العالم مخلوق.

4 ـ العالم واحد.

5 ـ الإيمان بالعناية الإلهية.

ويبدو أن الفكر الديني اليهودي قد أخذ يتحدَّد بعض الشيء في القرن الأول قبل الميلاد إذ يشير يوسيفوس إلى أن الصراع بين الصدوقيين والفريسيين كان صراعاً عقائدياً بالدرجة الأولى ويدور حول قضايا مثل الإيمان بالعالم الآخر والشريعة الشفوية والقدرية، وهل هي مطلقة أم جزئية.

ومع ظهور المسيحية، تقهقر الفكر الديني اليهودي مرة أخرى، وبدأت اليهودية الحاخامية التلمودية في التشكل حتى أخذت شكلها النهائي في التلمود. وثمة محاولة واهية، في هذا الكتاب الضخم، لتحديد أصول الدين في كتاب السنهدرين إذ يستبعد من حظيرة الدين:

1 ـ كل من يُنكر البعث.

2 ـ كل من يُنكر أن التوراة مُوحى بها من الإله.

3ـ الأبيقوريين الذين يُقال إنهم الملاحدة أو الصدوقيون.

وغني عن القول أن هذا التحديد عام جداً ويترك قضايا جوهرية دون تعريف. ولكن الأدهى من هذا هو أن التلمود كتاب ضخم يحتوي على العديد من الأفكار المتناقضة، كما أن نصوصه تنقسم إلى قسمين: النصوص التشـريعية (هـالاخاه)، والنصوص الوعظية القصصية (أجاداه)، وقد تتسم الأولى بشيء من الوضوح، أما الثانية، فتضم عدداً هائلاً من القصص والمرويات فيها كثير من العناصر الوثنية وتتحدث عن الإله بلغة حلولية تجسيمية. ثم نأتي لقضية التفسير، فحسب مفهوم الشريعة الشفوية تنسخ آراءالحاخامات آراء الإله نفسه، وهو أمر وافق عليه الإله. وكما جاء في التلمود فإن الإله قد أعطى الإنسان التوراة، ولذا فقد أصبح من حق الإنسان أن يخضعها لأي تفسيريشاء. وتكتسب تفسيرات الحاخامات شرعية من تصوُّر أن موسى في سيناء تلقَّى الشريعتين: المكتوبة والشفوية. وهكذا فُتح الباب على مصراعيه لكل العقائد. ونجد فيالتلمود أفكاراً دينية أكثر تناقضاً وتنوعاً وتنافساً من تلك التي وردت في التوراة.

وقد ظل الحال على ذلك حتى دخلت اليهودية فلسطين وبابل (دائرة الحضارة العربية الإسلامية)، وواجهت أكبر تحدٍّ لها يتمثل في حضارة تستند (على عكس المسيحية) إلى فكر توحيدي لا شبهة فيه، وتُحدِّد عقائدها بشكل لا يحتمل أي إبهام أو غموض. وواجهت اليهودية أهم أزماتها التي تمثلت في الانقسام القرَّائي الذي رفض الشريعة الشفوية، وتمسَّك بالتوراة وحاول تحديد العقائد.

ولذا، لم يَعُد بإمكان اليهودية الحاخامية أن تظل مجرد ممارسات تستند إلى فتاوى. فقام أهم المتحدثين باسمها (سعيد بن يوسف الفيومي)، في القرن العاشر، بتحديد أصول اليهودية التسعة بأنها:

1 ـ العالم مخلوق من العدم.

2 ـ وحدة الإله.

3 ـ الأنبياء.

4 ـ الانسان مخيَّر وليس مسيَّراً.

5 ـ الثواب والعقاب في هذا العالم.

6 ـ الروح ومصيرها.

7 ـ البعث.

8 ـ خلاص يسرائيل.

9 ـ خلود الروح، والثواب والعقاب في الآخرة.

وفي الفترة نفسها، قام آخرون بمحاولات مماثلة. وفي القرن الحادي عشر، قام يهودا اللاوي بمحاولة مماثلة. ورغم أن هؤلاء المفكرين الدينيين ناقشوا العقائد، فإنهم لم يحددوا ما هو أساسي وما هو فرعي فيها، أي أنهم لم يحددوا أصول الدين. ولكن أهم المحاولات، وأكثرها محورية هي محاولة موسى بن ميمون؛ الفيلسوف العربي اليهودي (أو الفيلسوف العربي الإسلامي المؤمن باليهودية) الذي تأثر بعلم الكلام فدرس أصول الدين، وحَدَّد جذور اليهودية التي تُسمَّى بالعبرية «عيقَّاريم»، وهي ترجمته لكلمة «أصول». ولقد لخصها في ثلاثة عشر أصلاً:

1 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الإله، تبارك اسمه، هو الموحّد والمدبّر لكل المخلوقات. وهو وحده الصانع لكل شيء فيما مضى وفي الوقت الحالي وفيما سيأتي.

2 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الإله، تبارك اسمه، واحد لا يشبهه في وحدانيته شيء بأية حال، وهو وحده إلهنا، كان منذ الأزل، وهو كائن وسيكون إلى الأبد.

3 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الإله، تبارك اسمه، ليس جسماً، ولا تحده حدود الجسم، ولا شبيه له على الإطلاق.

4 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الإله، تبارك اسمه، هو الأول والآخر.

5 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الإله، تبارك اسمه، هو وحده الجدير بالعبادة، ولا جدير بالعبادة غيره.

6 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن كل كلام الأنبياء حق.

7 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن نبوة سيدنا موسى عليه السلام كانت حقاً، وأنه كان أباً للأنبياء، من جاء منهم قبله ومن جاء بعده.

8 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن التوراة، الموجودة الآن بأيدينا، هي التي أُعطيت لسيدنا موسى عليه السلام.

9 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن التوراة غير قابلة للتغيير، وأنه لن تكون شريعة أخرى سواها من قبل الإله تبارك اسمه.

ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الإله، تبارك اسمه، عالم بكل أعمال بني آدم وأفكارهم، لقوله: « هو الذي صوَّر قلوبهم جميعاً وهو المدرك لكل أعمالهم ».

11 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الإله، تبارك اسمه، يجزي الحافظين لوصاياه ويعاقب مخالفيها.

12 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بمجيء الماشيَّح. ومهما تأخر، فإنني انتظره كل يوم.

13 ـ أنا أؤمن إيماناً كاملاً بقيامة الموتى، في الوقت الذي تنبعث فيه بذلك إرادة الإله تبارك اسمه وتعالى ذكره الآن وإلى أبد الآبدين.

وقد وردت الأصول الثلاثة عشر في مجال التعليق على كتاب السنهدرين في التلمود الذي سبقت الاشارة إليه. وقد بيَّن ابن ميمون أن أصوله هذه هي الحد الأدنى، فمن آمن بها فهو يهودي وينتمي إلى الجماعة اليهودية، ولذا فإنه حتى لو ارتكب الموبقات سيظل له نصيب في العالم الآتي ويظل محط عطف اليهود. أما من يرفضها، فيجب أن يُنبذ ويُباد، وسيُسمَّى «كوفير بَعيقَّار»، أي «كافر بالأصول» منكر لها، كما أنه يكون قد فصل نفسه عن الجماعة، فهو «مين»، أي «كافر أو مرتد».

وبعد ذلك، قامت محاولات أخرى لتحديد العقائد اليهودية من أهمها محاولة قريشقش الذي بيَّن أن موسى بن ميمون لم يميِّز بين الأساسي والفرعي في العقائد. ولهذا، قام تلميذه يوسف ألبو (1380 ـ 1440) في كتابه سيفر هاعيقاريم (سفر الأصول) بهذه العملية، فقسَّم الأصول إلى:

1 ـ «عيقَّاريم»، أو العقائد الأساسية، وهي ثلاث: وجود الإله، والوحي، والثواب والعقاب. وأضاف أن هذه العقائد عامة لكل البشر.

2 ـ «شوراشيم»، وهي تفريعات عن العيقاريم، ويصنفها في ثمان.

3 ـ «عنافيم»، وهي الأغصان.

ويرى ألبو أن الأصول والجذور مُلزمة لكل يهودي، ومن لا يؤمن بها يُعَدُّ كافراً، أما من لا يتبع الأغصان فهو مذنب وحسب.

وجاء بعد ألبو، إسحق لوريا وإسحق إبرابانيل، ولم يجدا مبرراً للتركيز عـلى عقـيدة دون أخرى. ويُلاحَظ أن ألبـو، مثل مـوسى ابن ميمون، يقلل أهمية العقيدة المشيحانية، ويؤكد في نهاية الأمر أن اتباع أحد الأوامر والنواهي أهم من الإيمان بكل العقائد.

ورغم هذه المحاولات لتحديد العقائد اليهودية، ظلت محاولة ابن ميمون أكثرها أهمية، وقد ظهرت الأصول باعتبارها العقائد الأساسية لأول مرة في طبعة الأجاداه في البندقية عام 1566، وهي الآن ملحقة بكتاب الصلوات الإشكنازي. كما أن الصلوات اليهودية تضم الآن قصيدتين تلخصان هذه الأصول هما: «أني مأمين» (أي «إنني أؤمن»)، و«يجدال» (أي «تعظَّم الرب وتنَّزه»).

ولكن اليهودية، بسبب طبيعتها الجيولوجية، حوَّلت الأصول إلى مجرد طبقة واحدة بين العديد من الطبقات؛ فقامت ثورة عاتية في العالم الغربي بخاصة ضد كتابات ابن ميمون، وبدأ الفكر القبَّالي في الانتشار وبخاصة بعد الطرد من إسبانيا، وأخذ الوجود اليهودي شكل تجمعات صغيرة بعضها بعيد عن مراكز الفكر الحاخامي والتلموديويخضع كل منها للقيادات الدنيوية والدينية المحلية. ومع القرن السابع عشر، هيمن الفكر القبَّالي على الفكر الديني اليهودي، وهو فكر حلولي تجسيمي وصفه الحاخاماتبأنه ينطوي على الشرك. كما أن التفسيرات القبَّالية للكتب اليهودية المقدَّسة، وخصوصاً العهد القديم والأجاداه، تشكل تراجعاً جوهرياً عن الفكر التوحيدي.

وفي العصر الحديث، بيَّن مندلسون أن اليهودية دين شرائع بلا عقائد، وهو رأي يأخذ به معظم مؤرخي اليهودية. ثم ظهر علم اليهودية الذي درس مصادر اليهوديةالمختلفة وبيَّن طبيعتها الجيولوجية وعدم تجانسها الأمر الذي يجعل من المستحيل التوصل إلى عقيدة جوهرية. ثم بدأت حركـة الانعـتاق التي نادت بأن تتكيـف اليهودية مع العصر. ولكن، لكي تتكيف اليهودية، لابد أن يتحدد جوهرها أساساً، ولذا حاولت اليهودية الإصلاحية صياغة أصول العقيدة في مؤتمراتها الحاخامية المختلفة، ولكنها تخلت عن هذه المحاولة بعد قليل إذ كانت أطروحاتها من العمومية بحيث افتقدت أية هوية تميِّز اليهودية عن غيرها من العقائد. أما اليهودية المحافظة والأرثوذكسية فكلتاهما تدور أساساً في إطار الممارسات.

وفي الفلسفة الدينية اليهودية الحديثة، لم يعد الإيمان بالعقائد مسألة حيوية أو مهمة، إذ حل محلها ما يُسمَّى «عملية المواجهة الشخصية بين الإله والإنسان اليهودي». ويرى روزنزفايج أن الإيمان الديني ثمرة كشف، أو وحي شخصي، يجب على الانسان أن يسعى إليه. أما مـارتن بوبر وأبراهـام هيشـيل، فـيريان أن الإيمـان علاقة ثقـة بين الإلـه والإنســان تنبـع من، وتعـبِّر عـن ، مواجهة شخصية بينهــما، فهي إذن علاقـة الأنــا والأنـت وليست علاقة الأنا والهـو. وقد بلـغ هذا الاتجــاه أبعـاداً متطـرفة في يهودية كابلان التجديدية فأصبح الإيمــان حالة نفســية أو شـعورية ذات فائدة للمجتمع إذ أن السلوك الأخلاقي يستند إليه. فالإيمان هو نوع من « التنبؤات التي تحقق ذاتها» وليس خضوعاً لأية مرجعية تقع خارج ذات الإنسان. وقد أصبح الإيمان في الفكر الديني اليهودي، بعد الحرب العالمية الثانية، مجرد وسيلة لإضفاء معنى على العالم بعد الهولوكوست، وبذا تختفي العقائد والأصول وتتحول إلى حالة شعورية.

اللاهــوت

Theology

«اللاهوت» هو المصطلح العربي المقابل للمصطلح الإنجليزي «ثيولوجي»، وهو مركب من «ثيوس» ومعناها «إله» و «لوجوس» ومعناها «علم»، فهو «علمالإلهيات». واللاهوت هو التأمل المنهجي في العقائد الدينية. والكلمة تشير عادةً إلى دراسة العقيدة المسيحية، ولا تستخدم في الدراسات الإسلامية التي تستخدم كلمات منالمعجم العربي مثل «علم التوحيد». أما في اليهودية، فقد بدأ استخدام الكلمة مؤخراً في الدراسات اليهودية. (انظر: «العقائد [بمعنى أصول الدين وأركانه]»).

الشريعة اليهودية

Jewish Law

تُستخدَم عبارة «الشريعة اليهودية» للإشارة إلى النسق الديني اليهودي ككل، مع تأكيد جانب القوانين أو التشريع الخارجي (هالاخاه)، أي الشرع، وذلك بخلاف عبارة «العقائد اليهودية» التي تؤكد جانب الإيمان الداخلي. وكان اليهود يستخدمون كلمة «توراة» للإشارة إلى الشريعة اليهودية، كما أن كلمة «هالاخاه» تُستخدم أحياناً للإشارة لا إلى التشريعات المختلفة وإنما إلى الشريعة ككل. وهناك شريعة مكتوبة وردت في أسفار موسى الخمسة والعهد القديم، كما أن هناك شريعة شفوية هي في واقع الأمر تفسيرات الحاخامات التي جُمعت في التلمود وفي غيره من الكتب. كما أصبحت كتب القبَّالاه، هي الأخرى، جزءاً من هذه الشريعة الشفوية. ويُعَد مفهوم الشريعة الشفوية أهم تعبير عن الخاصية الجيولوجية التراكمية، ويمكن القـول بأنه سـبب ونتيجة ـ في آن واحد ـ لهذه الخاصية.

الشريعة المكتوبة أو التوراة المكتوبة

Written Law (Torah)

«توراة شَبخْتاف» مصطلح عبري معناه «التوراة المكتوبة» وهي «الشريعة المكتوبة» مقابل «توراة شبَعَلْ بهْ»، أو «التوراة الشفوية». وهي إشارة إلى الشرائع التي تلقاها موسى مكتوبةً. وتشير الكلمة بالدرجة الأولى إلى أسفار موسى الخمسة، ولكنها تشير كذلك إلى كتب الأنبياء وكتب الحكمة والأمثال باعتبار أنها هي الأخرى كتب مدوَّنة. ولكن هذه الكتب الأخيرة ليست ملزمة، ولذا يشار إليها بأنها «ديفري قبَّالاه»، أي « كلمات التراث ». وحسب الرؤية اليهودية الحاخامية، تلقى موسى في سيناء الشريعة أو التوراة الشفوية، تماماً كما تلقى الشريعة المكتوبة.

الشريعة الشفوية أو التوراة الشفوية

Oral Law; Oral Torah

«توراة شبَعَلْ بهْ»، عبارة معناها «التوراة الشفوية» مقابل «توراة شبختاف»، أي «التوراة المكتوبة». وقد أطلق المسعودي على المفكر اليهودي سعيد بن يوسف الفيومي اسم «السمعاتي»، أي الذي يؤمن بالعقيدة الشفهية، مقابل «القرّائي» أي الذي لا يؤمن إلا بالعقيدة المكتوبة. و«الشريعة الشفوية» في اليهودية مجموعة فتاوى وأحكام وأساطير وحكايات وخرافات وُضعت لشرح وتأويل أسفار العهد القديم وتناقلها حاخامات اليهود شفهياً على مدى قرون طويلة ثم جُمعـت ودُوِّنـت، في القـرن الثـاني الميلادي، في التلمود (أساساً).

وقد عرفت جميع الشعوب القديمة شرائع شفوية، أو سماعية، في شكل عادات وتقاليد وعرف. وبقيت عناصر هذه الشريعة قائمة وسارية المفعول إلى جانب الشرائع والقوانين التي تم تدوينها وتبويبها وتصنيفها. وثمة رأي يذهب إلى أن فكرة الشريعة الشفوية دخلت اليهودية بعد أن احتكت بالفكر اليوناني وعرفت الفكرة الأفلاطونية القائلة بأن القانون غير المكتوب ينفي المكتوب. ولعل هذا يفسر أن دعاة الشريعة الشفوية كانوا من الفريسيين الذين تأثروا بالفكر الهيليني، على عكس الصدوقيين حملة الفكر التقليدي. ولكن مثل هذا التفسير تفسير شديد السطحية يجعل من التأثير والتأثر العنصر الأساسي في صياغة نسق ما، ويهمل بنية النسق الكامنة التي تُولِّد فيه قابلية لتَقبُّل أفكار دون أخرى. ونحن نذهب إلى أن اليهودية تركيب جيولوجي تراكمت داخله عدة طبقات، ومن أهم هذه الطبقات الطبقة الحلولية التي تعني تداخل الدنيوي والمطلق وتوحدهما، وأن الإله لا يترك اليهود أحراراً في التاريخ مسئولين أخلاقياً عن أفعالهم بل يفيض عليهم في كل زمان ومكان. والشريعة الشفوية تعبير عن هذه الحلولية، إذ أن الحلولية في إحدى مراحلها تعادل بين الإله والبشر، ومن ثم تعادل بين الوحي والاجتهاد أو بين النص المقدَّس والتفسير، أي أنها تعادل ما بين الشريعة المكتوبة (المنزلة والموحى بها) والشريعة الشفوية (التي يضعها الحاخامات). وتذهب اليهودية الحاخامية إلى أنه عندما ذهب موسى إلى جبل سيناء ليتلقى الوحي، لم يُعْطه الإله توراة أو شريعة واحدة وإنما أعطاه توراتين أو شريعتين: إحداهما مكتوبة والأخرى شفوية. وجاء في المشناه « تلقى موسى التوراة من سيناء وسلمها إلى يوشع، ويوشع قام بتسليمها إلى الشيوخ، والشيوخ إلى الأنبياء، والأنبياء سلموها بدورهم إلى رجال المجمع الأكبر، الذين قاموا بتسليمها إلى فقهاء اليهود (الحاخامات) » وهؤلاء يضمون معلمي المشناه (تنائيم) والشراح (أمورائيم) والمفسرين (صبورائيم) والفقهاء (جاءونيم). وهي عملية استمرت بعدهم فظهر الشراح واضعو الإضافات (بعلي توسافوت) وشخصيات أساسية مثل راشي والحاخام إلياهو (فقيه فلنا) ومعلمو القبَّالاه. ولا يزال فقهاء اليهود يقومون بالإضافة والتعديل في هذه الشريعة الشفوية. ومن الناحية النظرية، ثمة ترتيب هرمي لطبقات الفقهاء هذه بحيث يشغل معلمو المشناه (تنائيم) قمة الهرم، وتُعَدُّ أحكامهم ملزمة لمن أتى بعدهم. ولكن الممارسة كانت عكس ذلك تماماً، إذ أن آخر التفسيرات والأحكام هي التي كان يُقدَّر لها دائماً السيادة (إلى أن هيمنت القبَّالاه تماماً بهذه الطريقة). ومن بين آليات نمو الشريعة الشفوية إضافة الفتاوى التكميلية (تاقانوت) والأعراف والعادات (منهاجوت) والقرارات (جزيروت). ولعل كلمات الحاخام شمعون لاقيش (القرن الثالث الميلادي): « ماذا تعني المقطوعة: فأعطيك لوحى الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتُها لتعليمهم » (خروج 24/12) هي التعبير الكلاسيكي عن هذه الفكرة. فهو يقول مُفسِّراً أما «لوحا الحجارة» فهما الوصايا العشر، أما «الشريعة» فهي العهد القديم، وأما «الوصية» فهي المشناه، وأما «تلك التي كتبتها» فهي أسفار الأنبياء وأسفار الحكمة والأناشيد، وأما «لتعليمهم» فهي الجماراه. وهكذا يعلمنا الرب أنها كلها قد أعطيت لموسى». ومعنى هذا التفسير أن كل التفسيرات التي يأتي بها الحاخامات اليهود والمحاضرات التي كانت تُلقى في حلقات ومدارس التلمود، بل الإجماع الشعبي، كل هذه الأشياء ترقى إلى مستوى الوحي الإلهي، أو على الأقل تصطبغ بصبغة القداسة. وبالفعل، فقد تطوَّر النسق الديني اليهودي في مرحلة معيَّنة، وساد الاعتقاد بأن التلمود الذي يُشار إليه باسم «التوراة الشفوية» هو أيضاً الكلمات الأزلية للإله، وهـو صياغـة للقـوانين التي أوصى الإله بها موسى (شفوياً). ولهذا، فإن ما فيها من الأوامر والنواهي واجبة الطاعة، يستوي في هذا مع كل ما جاء في العهد القديم. وكان يهود الغرب يدرسون التلمود أكثر من دراسة العهد القديم. وبعد ذلك، انتشرت القبَّالاه، فادعت لنفسها من القداسة ما للعهد القديم والتلمود. ولقد كان القبَّاليون يؤمنون بأنهم أصحاب معرفة خفية باطنية (غنوصية) توصِّلهم إلى المعنى الحقيقي والباطني للعهد القديم والتلمود الذي يجبُّ المعنى الظاهر. وبلغ من شيوع القبَّالاه أن كثيراً من اليهود والحاخامات كانوا يدرسون كتاب الزوهار أكثر من دراسة الكتب اليهودية الدينية الأخرى.

ولكن، كما لاحظنا في النسق الحلولي الواحدي بعد مرحلة التعادل بين الخالق والمخلوق، يكتسب المخلوق مركزية ويفوق الإله قدرةً ومنزلةً. وبالفعل، نجد أن بعض الحاخامات جعل المشناه (التفسير الحاخامي) مرجعاً أقوى من العهد القديم (الوحي الإلهي) لأنها صورة معادلة للشريعة جاءت متأخرة عنها. وكانت بعض قرارات الحاخامات تتعارض تعارضاً صريحاً مع شريعة موسى، أو تفسرها تفسيراً يبيح مخالفتها. وقد بلغ هذا التيار قمته في التفسيرات القبَّالية وفي الحركة الحسيدية حيث تَجُبُّ آراء العارف بالقبَّالاه والتساديك الآراء التي دارت في التراث الحاخامي بأسره (التوراة والتلمود). وقد كان ما ينطق به التساديك توراةً، كما أن إرادته كانت تعادل إرادة الإله.

وقد ثارت مناقشات كثيرة عبر تاريخ اليهودية عن مدى قدسية الشريعة الشفوية، وجواز تدوينها أو عدم جواز ذلك. والواقع أنه، حتى ظهور المسيـح، كان تـدوين الشريعـة أمـراً محرَّماً للحيلولة دون انتشــارها بين العامـة، إذ أن فكـرة الشـريعة الشفـوية تخـدم ولا شـك مصلحـة الحاخــامات لأنهــا ترفعـهم إلى مصـاف الإلـه أو الأنبـياء، وتجعلهم على اتصال دائم بالإله، كما تعطيهم حق تغيير وتبـديل كلمتــه. ولعل فكــرة الشريعة الشفوية هي المسئولة عن السيطرة الدينية للحاخامات على الجماعات اليهودية في العالم خلال تواريخهم. وقد استمر الجدل قائماً بين الفرق اليهودية المختلفة حول مدى قدسية الشريعة الشفوية، وكان الفريسيون من أشد المدافعين عنها. ويبدو أن دفاعهم عن الشريعة الشفوية، ورفضهم تدوينها، كان ذا محتوى طبقي. أما الصدوقيون، فقد كانوا من أهم معارضيها، لأنهم كانوا مرتبطين بالهيكل وبالعبادة القربانيــة ويشكلــون بذلك طبقـة كهنــوتية. أما الفريسيون، فكانوا يدافعون عن الشريعة الشفوية لأن ذلك كان يعني المشاركة في السلطة. وبظهور المسـيحية حُسـمت القضية تماماً، فسيطر التصور الفريسي على اليهودية. ولكن، مع هذا، بدأ تدوين الشريعة الشفوية حتى تتمكن اليهودية من تمييز نفسـها عن المسـيحية التي ورثت العـهد القـديم وأكملته بالعـهد الجديد.

ويرفض القرّاءون (المتأثرون بالفكر العربي الإسلامي والتوحيد الإسلامي) التراث الشفوي، ويقصرون إيمانهم على شريعة موسى وأسفاره الخمسة. وفي العصر الحديث،جدَّد الأرثوذكس إيمانهم بالشريعة الشفوية المتجسدة في كلٍّ من التلمود والشولحان عاروخ. أما الإصلاحيون، فقد نادوا بأن الشريعة الشفوية هي محاولة بعض الحاخاماتتفسير الكلام المقدَّس، ولكنه على أية حال تفسير غير ملزم لأحد لأنه مرتبط بحقبة تاريخية معينة، ولذلك فإن صلاحيته لا تمتد إلى كل زمان وكل مكان.

الباب الثانى: إشكالية الحلولية اليهودية

الحلوليـــة الكمونيـــة اليهـــودية: تاريـــخ

Jewish Pantheism and Immanence: History

«الحلولية الكمونية اليهودية» هي القول بأن العالم بأسره (الإنسان والطبيعة) يُردُّ إلى جوهر واحد أو مبدأ واحد كامن في المادة، هو مصدر بقائها وحركتها، هذا المبدأ أو الجوهر يسميه دعاة وحدة الوجود الروحية «الإله»، فيحل الإله في الإنسان ثم يحل في بعض ظواهر الطبيعة، ثم يحل فيها جميعها بغير استثناء حتى يصبح حالاًّ في كل شيء (الإنسان والطبيعة) كامناً فيه ويصبح الإله والعالم وكل الوجود وحدة واحدة لا وجود مستقلاً للواحد عن الآخر، أي أن الإله يصبح متوحداً مترادفاً مع سائر مخلوقاته (الإنسان والطبيعة) لا وجود له خارجها، ومع هذا يظل محتفظاً باسمه، وهذا ما نشير إليه بأنه «حلولية شحوب الإله» حيث تًمَّحى الثنائيات في الكون إلى حدٍّ كبير ولا يبقى منها سوى الظلال والألفاظ، وتختفي إمكانية التجاوز ولا يبقى سوى وهم التجاوز ، وهذه هي وحدة الوجود الروحية. ثم يفقد الإله اسمه ويُطلَق على المبدأ الواحد عبارات مثل «قانون الحركة» أو «قوانين المادة» فَتًمَّحى الثنائيات تماماً، بما في ذلك الثنائية اللفظية، وتسود الواحدية ويزول وهم التجاوز وننتقل من وحدة الوجود الروحية إلى وحدة الوجود المادية وما نسميه «حلولية موت الإله» أو «حلولية بدون إله».

والعقيدة اليهودية، في إحدى طبقاتها، توحيدية تؤمن بإله واحد يتجاوز المادة، منزَّه عن مخلوقاته يقف وراء الطبيعة والتاريخ يحركهما، ولا يُرَدُّ إليهما. ولكن اليهودية تركيب جيولوجي تراكمت داخله عدة طبقات متناقضة. وفي بعض هذه الطبقات، نجد أن اليهودية تأثرت بالتشكيل الحضاري السامي الوثني، ودخلت عليها عناصر وثنية حلولية عديدة وجدت طريقها إلى العهد القديم عند تسجيله مثل: فكرة الشعب المختار المرتبط بأرض مقدَّسة والمتمركز حول ذاته، وفكرة الميثاق بين الإله وشعب بعينه، وتَزايُد الشعائر وخصوصاً شعائر الطهارة، وتَداخُل العناصر الكونية مع العناصر الدينية في الأعياد اليهودية، وتَراجُع فكرة البعث واهتزاز الأفكار الأخروية. وعلى هذا، فإن العهد القديم يُعَدُّ وثيقة صراع بين اتجاهين: اتجاه توحيدي عالمي أخلاقي متسام يؤمن بإله يسمو على العالمين، ولا يفضل قوماً على قوم إلا بالتقوى، وهو الاتجاه الذي حمل لواءه الأنبياء والرسل. أما الاتجاه الآخر فهو اتجاه وثني حلولي قومي تخصيصي يرى إله اليهود إلهاً يحل فيهم وحدهم، فهو مقصور عليهم يحابيهم ويعطف عليهم ويعصف بأعدائهم، ويرى اليهود أنفسهم شعباً مقدَّساً يشغل مركز الكون.

وظل الاتجاه التوحيدي قائماً له فعالية ما دامت اليهودية في محيط وثني مشرك، إذ كان التوحيد (أو على الأقل مفرداته) وسيلة الحفاظ على الهوية الدينية اليهودية مقابل الحلولية الوثنية. ولكن، مع تحول المجتمعات التي يعيش فيها أعضاء الجماعات اليهودية إلى ديانات توحيدية (الإسلام في الشرق والمسيحية في الغرب)، لم يَعُد الاتجاه التوحيدي اتجاهاً مميِّزاً لليهودية، ولذا بحث الحاخامــات (واضعو الشريعة الشفوية) عن إستراتيجيات مختلفة للحفاظ على الهوية، حتى تغلبت النزعة الأسطورية الشعبية وأخذت شكلها الحلولي الكموني الواحدي حيث تم التركيز على بعض مفاهيم العهد القديم ذات الطابع الحلـولي وتم تعميقـها. وقد قـوي هـذا الاتجاه في كتب الرؤى (أبوكاليبس)، وفي التعليقات المدراشية، وبلوره معلمو المشناه (تنائيم)، وأخذ شكلاً متكاملاً في التلمود حيث توجد آثار للنزعة التوحيدية، ولكن النزعة الغالبة هي النزعة الحلولية الكمونية. ويمكننا القول بأن اليهودية التلمودية تتأرجح بين شكل من أشكال التوحيد وشكل من أشكال وحدة الوجود، ولا تقترب إلا نادراً من مرحلة وحدة الوجود التي وصلتها الحلولية اليهودية في القبَّالاه (وهي المرحلة التي عاد فيها كثير من الأفكار الغنوصية القديمة إلى الظهور). وقد انعكست هذه النزعة في قول أحد القبَّاليين «إلوهيم تعادل طيفع»، أي أن « الإله يعادل الطبيعة »، باعتبار أن القيمة الرقمية لكل من إلوهيم والطبيعة واحدة (وقد استخدم إسبينوزا العبارة نفسها).

وقد سيطرت الرؤية الحلولية الواحدية، بدرجاتها المختلفة، على اليهودية، وأصبح من العسير قراءة العهد القديم بشكل مباشر، وخصوصاً بعد أن تبنت الكنيسة (عدو اليهود) هذا الكتاب باعتباره كتاباً مقدَّساً، كما أصبح التفسير أهم من النص المقدَّس. وعلى كلٍّ، تؤمن اليهودية، منذ البداية، بفكرة الشريعة الشفوية التي تجعل تفسيرات الحاخامات تعادل في أهميتها كلام الإله إن لم تكن أكثر أهمية منه.

ويُلاحَظ أن ثمة تفضيلاً للنص المدوَّن على الشفوي في المنظومات التوحيدية، فالنص المقدَّس المدوَّن يحتوي الرسالة الإلهية ومن ثم يقتصر دور الإنسان إما على حمل الرسالة أو على تفسيرها، ويقف هذا على النقيض من المنظومات الحلولية الكمونية التي تفضل الشفوي على المدوَّن لأنه مباشر، يستطيع الإنسان سماعه مباشرةً ولا توجد مسافة بين القائل والقول، فالواحد مرتبط بالآخر. وبالتدريج، تحل الكلمة البشرية الشفوية محل الكلمة الإلهية المكتوبة. ورغم سقوط اليهودية الحاخامية في الحلولية الكمونية، إلا أنها بذلت محاولة مهمة لمحاصرة النزعة المشيحانية الحلولية بأن جعلت العودة منوطة بالأمر الإلهي، فكأنها اسـتعادت شـيئاً من الثنائية التكامليـة التوحيدية بدلاً من الواحدية الحلولية.

ولعبت القبَّالاه دوراً حاسماً في تحويل اليهودية من نسق توحيدي إلى نسق حلولي كموني. وتراث القبَّالاه تراث حلولي كموني واحدي متطرف يساوي بين الإله والطبيعة، بحيث يصبح الإله هو الطبيعة، ويتم إلغاء التاريخ ويتركز الحلول الإلهي في الشعب اليهودي إذ يحل المطلق أو المركز في الشعب. والقبَّالاه ترى الإله باعتباره عشر درجات أو عشرة تجليات نورانية منفصلة موصولة على قمتها الإله الذكر، وفي قاعدتها كنيست يسرائيل أي شعب إسرائيل، بحيث لا يوجد فارق بين الخالق والمخلوق. ويتضح هذا المفهوم بشكل أوضح في رؤية القبَّالاه للتجليات العشرة النورانية على هيئة آدم، فكأن الإله، هو آدم، وكأن الخالق والمخلوق هما شيء واحد. وتدور القبَّالاه حول صورة مجازية معرفية إدراكية جنسية واضحة، وهي صورة مجازية تتواتر عادةً في الحلوليات الوثنيـة. والقبَّالاه، بهذا، تشكل عـودة للواحدية الكونية والحلولية الوثنية. وقد اشتكى إبراهيم أبو العافية في رسالة إلى صديق له من أن دعاة القبَّالاه يظنون أنهم يوحدون الرب بتلك التجليات النورانية ولكنهم في واقع الأمر قد استعاضوا عن أقانيم المسيحية الثلاثة بعشرة تجليات، وهذا شرك. وقد يظهر هذا في القبَّالاه العملية التي تجعل الخلاص منوطاً بالتوصل للصيغة السحرية الصحيحة (الغنوصية). كما أن التصوف اليهودي أصبح تصوفاً حلولياً غنوصياً ليس الهدف منه فناء الذات والتقرب من الإله والتفاعل معه وإنما الالتصاق بالخالق والتوحد معه بحيث يصبح المؤمن تَجسُّد الإله: إرادته هي إرادة خالقه. وأدَّى انتشار القبَّالاه إلى تزايد اشتغال اليهود بالسحر بهدف التحكم في الكون (ولعل هذا كان من أسباب تَزايُد معاداة اليهود).

وقد بدأ انتشار القبَّالاه (خصوصاً اللوريانية) في القرن الرابع عشر. ومع منتصف القرن السابع عشر، كانت القبَّالاه مهيمنة هيمنة شبه كاملة على معظم أعضاء الجماعات اليهودية وتغلغلت بشكل عميق في العقائد اليهودية، بحيث أصبحت المراكز التلمودية منعزلة بغير فعالية، ثم أصبحت التفسيرات التلمودية نفسها ذات طابع قبَّالي. ويتضح مدى سيطرة الحلولية على العقيدة اليهودية فيما كتبه الحاخام السفاردي ديفيد نايتو (1654 ـ 1728) حاخام لندن الأكبر، حيث نشر كتاباً بعنوان في العناية الإلهية قرن فيه بين الإله والطبيعة ووحَّد بينهما، فاتهمه أحد اليهود وبعض المسيحيين بالإلحاد. وحينما عُرض الأمر على واحد من أكبر العلماء التلموديين في أمستردام (هولندا) وهو الحاخام تسفي إشكنازي، أفتى هذا الحاخام بأن الحلولية ليست مقبولة وحسب في العقيدة اليهودية، بل هي أمر اعتاده المفكرون الدينيون اليهود.

ورغم أن هرمان كوهين ذهب إلى أن الحلولية ضد الدين، فإن الكثيرين من أعلام الفكر اليهودي من كبار دعاة الحلولية، ويمكن أن نشير إلى ابن جبيرول وابن عزرا، وإسبينوزا (أبى الحلولية الحديثة). وقد أدَّت هيمنة القبَّالاه وتصاعُد معدلاتها في اليهودية إلى تراجع اليهودية الحاخامية ومؤسساتها، وتراجع الفكر التوحيدي تماماً، الأمر الذي سبَّب أزمة اليهودية الحاخامية إلى حد سقوط اليهودية، في نهاية الأمر، في قبضة الفكر الحلولي، فاختفى أي أثر للتجاوز. ولم يَعُد بالإمكان التمييز بين اليهود واليهودية (من منظور اليهودية نفسها) إذ أصبح اليهود تجسيداً للمطلق، وأصبحت العلاقة بين الشعب والخالق (إن ظل قائماً بالاسم) علاقة حوارية. وقد تصاعدت الحمى المشيحانية بين اليهود وتزايدت قابليتهم للعلمنة التي عادةً ما تأخذ شكل تأكيد قداسة الشعب وحقه المطلق في العودة لأرضه المقدَّسة، أي أن النزعة المشيحانية في اليهودية ذات تَوجُّه صهيوني واضح.

ويمكن القول بأن النمط الحلولي الذي ساد العقيدة اليهودية هو النمط الثنائي الصلب (المرتبط بوجودهم كجماعات وظيفية). ومع هذا، كان النمط الشامل السائل (الروحي أو المادي) كامناً من البداية. ففلسفة إسبينوزا (الحلولية المادية) وحركة شبتاي تسفي ثم الحركتين الفرانكية والحسيدية (الحلولية الروحية) تقوم بتفكيك الإنسان ورده إلى كل أكبر منه. ثم أخذت معدلات الحلولية المادية والحلولية الروحية في التصاعد بعد القرن الثامن عشر. ويبدأ الإله في الشحوب (اليهودية الإصلاحية)، إلى أن يختفي تمامــاً أو يكـاد (اليهودية المحافظة بشكل مبهم ـ اليهودية التجديدية بشكل واضح) ويُعلَن موت الإله ونهاية المركز (لاهوت موت الإله ـ يهودية ما بعد الحداثة). والصهيونية شكل من أشكال الحلولية الثنائية الصلبة المادية، وهي من ثم تنتمي إلى النمط نفسه الذي تنتمي إليـه النازية والقوميات العضوية.

وشيوع الحلولية في النسق الديني اليهودي لم يكن مجرد امتداد للحلولية الكامنة في التوراة والتلمود، فثمة عنصر ساعد على تعميق هذه الحلولية وعلى تكثيفها ثم تفجُّرها وشيوعها بين أعضاء الجماعات اليهـودية وهـو وضع اليهود في الحضارة الغربية كجماعات وظيفية وسيطة. فأعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة ينزعون دائماً منزعاً حلولياً في رؤيتهم للكون، فهم يرون أن الإله يحل فيهم، ولذا فهم ـ حسب ظنهم ـ يتمتعون بقداسة خاصة تعزلهم عن المجتمع. ومن ثم، فإن أعضاء الجماعات اليهودية ساهموا في ظهور العلمانية (وهي وحدة وجود مادية) بشكل غير مباشر وغير واع من خلال نشر الرؤية الحلولية.

الثنائيــة الصلبــة (حتى نهايـة القــرن التاســع عــشر)

(Solid Dualism (to the End of the Nineteenth Century

تأخذ الحلولية الكمونية الواحدية شكلين أساسيين: الحلولية الثُنائية الصلبة حين يصبح شعب ما أو أرض ما مركز الحلول والقداسة (مقابل بقية العالم)، والحلولية الشاملة السائلة حين يصبح العالم بأسره (والجنس البشري بأسره) موضع القداسة وحين تتعدد مراكز الحلول. والحلولية الثنائية الصلبة اليهودية تعني حلول الإله في الشعباليهودي بحيث يتم استبعاد بقية العالم (الأغيار) من عملية الخلاص. ويمكن أن يحل الإله في أرض هذا الشعب (صهيون) ويستبعد بقية العالم (بقية بلاد العالم وما فيها منشعوب).

وتتبدَّى الحلولية الثنائية الصلبة في العقيدة اليهودية من خلال الثالوث الحلولي المقدَّس:

1 ـ الإله:

يختفي الإله الواحد العلي المنزَّه ويظهر بدلاً منه إله يسرائيل الذي يتحد بجماعة يسرائيل (الإنسان) وبأرض وتاريخ يسرائيل (الطبيعة).

2 ـ الشعب المقدَّس:

يصبح الشعب اليهودي، أو جماعة يسرائيل شعباً مختاراً وأمة من الكهنة والمشحاء المخلصين، بل هو شعب مقدَّس يدخل الإله معه في علاقة حب حميمة تتسـم بالغـيرة أحياناً. ويُشار إلى الشـعب بأنه ابن الإله. وتتعمق هذه المفاهيم في التراث القبَّالي لتدخل دائرة الشرك الصريح، فالشعب يصبح الشخيناه، أي جزءاً من الإله وتعبيراً أنثوياً عنه، نفيه نفي الإله نفسه، فالإله والشعب يتكونان من جوهر واحد («من يضرب رجلاً من جماعة يسرائيل كما لو كان يهين وجه الإله المبارك اسمه» الحاخام حانينا). وتميل المعادلة الحلولية إلى صالح الشعب بحيث يصبح عنصراً أساسياً في عملية إصلاح الخلل الكوني (تيقُّون) أو الخلاص وشـريكاً فيهـا. ومن ثم، فهو الأداة التي يستعيد بها الإله وحدته، أي أن الإله يصبح معتمداً على اليهود في إصلاح الكون، وفي إكمال ذاته. واليهود، بأدائهم الأوامر والنواهي، إنما يساعدون الإله على استخلاص الشرارات الإلهية المبعثرة (نيتسوتسوت) بعد حادث تهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم).

3 ـ الزمان والمكان المقدَّسان:

أ) الأرض المقدَّسة (المكان أو الوطن المقدَّس): تمتد القداسة لتشمل، بطبيعة الحال، الأرض التي يعيش عليها هذا الشعب المقدَّس، ويشار إليها باسم «صهيون»، و«إرتس يسرائيل». وإذا كان الشعب المقدَّس مختاراً، فالأرض المقدَّسة هي أرض الميعاد التي سيتحقق فيها الوعد الإلهي لهذا الشعب المختار حين يأتي الماشيَّح ويقود شعبه إليها.

ب) الزمان المقدَّس (التاريخ المقدَّس): وإذا كان الشعب مقدَّساً ومكانه مقدَّساً فزمانه لا يقل قداسةً. وهذا التاريخ يصبح ذا معنى وشكل محدَّدين من خلال حلول الإله، فتاريخ جماعة يسرائيل يبدأ بالخروج من مصر بمساعدة الإله ثم دخولها إلى كنعان. وهذه الحركة لا تتم إلا من خلال التدخل الإلهي المباشر والمستمر، تماماً كما ستنتهي بالعودة من المنفى إلى صهيون (فلسطين) تحت قيادة الماشيَّح الذي سيرسله الإله في آخر الأيام. وعلاقة الشعب بالأرض علاقة عضوية لأن الإله يحل في كليهما، وما تاريخ الشعب إلا تعبير عن هذه العلاقة العضوية الحلولية.

ولنا أن نلاحظ أن الحلول الإلهي عادةً ما يتركز - في إطار الثنائية الصلبة - في شعب بعينه يصبح مركز الكون، ولكن الحلول يمكن أن يتركز في الأرض بدلاً من الشعب (ثم في الدولة الصهيونية فيما بعد). ويمكـن أن يتركز الحلول الإلهي في المشـناه (التي تصبح اللوجوس). ولكن، في هذه الحالة، ستكون المشناه مجرد تعبير عن الحلول الإلهي في الشعب. ويمكن أن ينحسر الحلول الإلهي ليتركز في الماشيَّح أو التساديك.

وفي إطار الحلولية الثنائية الصلبة، أصبحت اليهودية ديانة مغلقة تستبعد الآخرين من نطاق القداسة وشرائع الخلاص، ولا تشغل نفسها بهم. ومن ثم، فهي ليست ديانة تبشيرية ولا تشجع أحداً على التهود إلا في لحظات نادرة من تاريخها (في القرن الأول قبل الميلاد وبعده). وأصبحت رؤية اليهودية للكون استبعادية حادة ضد الأغيار، وظهر التمركز الحلولي القومي حول الذات.

كما أدَّت الحلولية الثنائية الصلبة إلى تزايد الشعائر التي تهدف إلى عزل الشعب المقدَّس عن الآخرين وعن محيطه، مثل: الاحتفال بالسبت، والختان، وقوانين الطعام، وتحريم الزواج المُختلَط وشعائر الطهارة. وأصبحت المعايير ازدواجية بحيث أصبح الأغيار في بعض الصياغات مدنَّسين تماماً، بل إن اتجاه الإله إلى خلق هؤلاء الأغيار على هيئة إنسانية يعود (حسب الرؤية القبَّالية) إلى رغبته في تيسير عملية قيامهم على خدمة اليهود. والأغيار يقعون، بطبيعة الحال، خارج دائرة القداسة، ولذا يكون من المباح سرقتهم وقتلهم.

ويأخذ النسق الحلولي الثنائي الصلب، من الناحية البنيوية، شكلاً مخروطياً: دوائر متداخلة متراكمة كل منها أصغر مما يسبقها وتظل الدوائر تَصغُر حتى تصل إلى قمة المخروط التي هي مركز هذه الدوائر. فقاعدة المخروط، من الناحية الجغرافية (المكان)، هي العالم، أما قاعدته التاريخية (الزمان) فهي الأغيار. وفي مركز العالم، وعلى ارتفاع منه، تقف إرتس يسرائيل، الأرض التي اختارها الإله وحباها بنعمه الخاصة. وفي مركز التاريخ، وعلى ارتفاع منه، يقف الشعب اليهودي (جماعة يسرائيل) الذي اختاره الإله ليكون أمة من الكهنة والقديسين والأنبياء. وفي وسط إرتس يسرائيل، وعلى ارتفاع منها، تقف أورشليم (القدس). وفي وسط الشعب، وعلى ارتفاع منه، يقف الأنبياء والملوك والكهنة. وفي وسط أورشليم يوجد الهيكل، في داخله قدس الأقداس، وهو سرة الدنيا (حسب كلمات المشناه)، يوجد فيه تابوت العهد الذي تُوجَد فيه الوصايا العشر وتحل فيه روح الإله. وأمام التابوت يوجد حجر الأساس (بالعبرية: ايفين شتْيِّاه) حيث خُلقت الدنيا. وفي وسط الأنبياء، يقف الماشيَّح (نبي الأنبياء) وملك الملوك، والذي يجسد روح الإله. وكان الكاهن الأعظم يدخل قدس الأقداس مرة كل عام (في يوم الغفران) لينطق باسم الإله الأعظم فيكتمل من خلاله الحلول الإلهي في الشعب ومنه إلى بقية الجنس البشري.

وهكذا، فإن قمة المخروط هي النقطة التي يتحد فيها عاملا الجغرافيا والتاريخ، ويذوب فيها الزمان في المكان والطبيعة في الإنسان/الإله، أي أنها نقطة تحقُّق وحدة الوجود الكامل. ونلاحظ أن بإمكاننا، حسب هذا البنيان، أن نرى المكانة التي تشغلها جماعة يسرائيل وإرتس يسرائيل، فهما مركز الكون وعنصران أساسيان لأي خلاص للعالم.

ويُلاحَظ أنه في إطار الثنائية الصلبة يتعادل الإله مصدر القداسة، مع الشعب الذي تسري فيه القداسة، ثم ترجح كفة الشعب والمتحدثين باسمـه على كفة الإله، أي أن الثنائيةالصلبة تتحـول إلى ما يشـبه الثنوية: قوتان متعادلتان، وإن كانا في اليهودية غير متصارعتين، ولذا فنحن نؤثر تسميتها بـ «ثنوية بنيوية» لتمييزها عن الثنوية التقليدية التي تترجم نفسها إلى صراع بين إله الشر وإله الخير. واليهودية الحاخامية تعادل بين الشريعة المكتوبة (الوحي الإلهي) والشريعة الشفوية (الاجتهاد الحاخامي). والواضح أن آراء الحاخامات أصبحت متعادلة مع النص الإلهي، وقد جُمعت هذه الآراء في التوراة الشفوية، أي في التلمود الذي يُعادل التوراة المكتوبة (أي المرسلة من الإله) بل يتفوق عليها. ويقول التلمود إن الحاخامات كثيراً ما يُظهرون من الحكمة ما لا يستطيعه الإله. وقد حلَّت المشناه محل التوراة فأصبحت هي اللوجوس، فهي تشبه المسيح في التراث المسيحي، توجد في عقل الإله منذ الأزل. وتدور القبَّالاه اللوريانية حول مفهوم إصلاح الخلل الكوني (تيقون) وهي عملية يشارك فيها الإنسان، بل إن الشرارات الإلهية لا يمكن جمعها مرة أخرى، ولا يستطيع الإله أن يستعيد وحدته إلا بمشاركة الإنسان، فكأن مقدرة الإنسان معادلة لمقدرة الإله.

وتصل الثنائية الصلبة إلى قمتها في المفهوم الحسيدي الخاص بالتساديك، مركز الحلول الإلهي، الذي يبلغ من القوة قدراً يجعله يصبح قناة موصلة بين أتباعه والإله،فأدعيتهم لا يمكن أن تستجاب إلا بعد أن يوصلها هو للإله، والإله نفسه لا يمكنه أن يفعل شيئاً إلا من خلاله. وإرادته من القوة بحيث يستطيع التأثير في الإله ويستطيع أن يرغمه على تغيير إرادته.

ويمكن القول بأن الحلولية هنا هي حلولية فردية في الحاخامات والتساديك الذين يحلون محل المسيح في المنظومات المسيحية. ولا شك في أن الحلولية اليهودية هنا تأثرت بالعقيدة المسيحية، فقد وُجدت في تربة مسيحية سلافية حلولية صوفية. ولكن ثمة فارقاً مهماً، رغم التشابه الظاهر، وهو أن المسيح ليس قناة موصلة بين الإله وشعب بعينه، فهو تجسُّد الإله لصالح كل البشر. والمسيح، فضلاً عن هذا، يأتي ويُصلَب ويقوم، فالحلول فردي مؤقت ومنته. أما الحلول في الحاخامات والتساديك فهو مستمر ومُتوارَث. ومن ثم، فإن الحسيدية شكل من أشكال الحلول الثنائية الصلبة (الروحية) على النمط اليهودي القديم رغم تأثرها بالأفكار المسيحية في فكرة التساديك على وجه الخصوص.

وقد ترجمت الثنائية الصلبة نفسها في العصر الحديث إلى الحركة الصهيونية، فبعد موت الإله يبقى الشعب المقدَّس المتمركز في أرضه المقدَّسة (المستوطنون الصهاينة في فلسطين) حيث تنتظمهم الدولة الصهيونية صاحبة الإرادة النيتشوية التي تَصدُر عن حقوق مطلقة منحها اليهود لأنفسهم وتساندها القوة العسكرية، وتقف هذه الدولة أمام الأغيار (الذين يقعون خارج نطاق القداسة) تمارس حقوقها بالقوة وتهدر حقوق الآخرين. والصهيونية تأخذ شكلين، ثنائية صلبة روحية (الإله يحل في الشعب) وثنائية صلبة مادية (القوة الدافعة للمادة الكامنة في الشعب)، يترجمان نفسيهما إلى صهيونية دينية وعلمانية. وأخيراً، ترجمت الثنائية الصلبة نفسها إلى لاهوت موت الإله الذي حوَّل كل ما يحدث للشعب اليهودي (الإبادة) وكل ما يَصدُر عنه من أفعال (الدولة الصهيونية) إلى مُطلق. والشعب اليهودي (مثل المسيح) يُجسد الإله الذي يُصلَب. وبدلاً من القيام، يؤسس هذا الشعب الدولة الصهيونية التي تصبح مطلقاً لا يحق للأغيار التساؤل بشأنها، وبذا يتحول الشعب الشاهد إلى الشعب الشهيد. ومع هذا، تجب الإشارة إلى أن الحلولية الثنائية الصلبة اليهودية آخذة في التراجع، ولكن ما يحل محلها ليس الفكر التوحيدي وإنما الحلولية الشاملة السائلة.

ويمكن القول بأن الصهيونية الحلولية العضوية هي تعبير عن الحلولية الصلبة، أما صهيونية عصر ما بعد الحداثة فهي تعبير عن الحلولية السائلة.

السـيولة الشاملـة (في القرن العشـرين)

Total Flux (in the Twentieth Century)

أخذت الحلولية الكمونية اليهودية عبر تاريخها الطويل الشكل الثنائي الصلب (الإثنيني أو الثنوي). ويستمر هذا الوضع قائماً حتى نهاية القرن الثامن عشر (وحركة التنوير اليهودي). وبعد ذلك التاريخ، بدأت الثنائية الصلبة في الانحلال إذ تتجه الحلولية نحو المرحلة السائلة التي تبدأ عادةً بظهور نزعة عالمية أممية بين بعض أعضاء الجماعات اليهودية ينادون بأيديولوجية عالمية يرون أنها الطاقة الدافعة للمادة المسيّرة للكون الكامنة في كل البشر وليس في اليهود وحسب، وكامنة في الطبيعة ككل وليس في أرض بعينها. وقد بدأت هذه النزعة العالمية في الظهور مع تفاقم أزمة اليهودية الحاخامية (وظهور شبتاي تسفي وإسبينوزا) ومع تزايد اندماج اليهود في الحضارة الرأسمالية والاشتراكية (العلمانية) الصاعدة وتحوُّلهم من جماعات وظيفية (حلولية ثنائية صلبة) إلى أعضاء في الطبقات المختلفة للمجتمع (حلولية شاملة سائلة)، وتحوَّل المفكرون اليهود من مفكرين يهود إلى مفكرين علمانيين عالميين يدينون بالولاء إما للدولة القومية المطلقة أو للطبقة العاملة أو الجايست أو روح الشعب... إلخ، أو أي مطلق علماني عالمي شامل، وأصبح الهدف من وجود اليهود هو خدمة الإنسانية والاندماج، بل الانصهار فيها.

ويُلاحَظ أن هذه النزعة نحو العالمية قد تشكِّل تفكيكاً للثنائية الحلولية الصلبة، ولكنها لا تعني الوصول بعد إلى مرحلة السيولة إذ أن رؤية الكون تظل متمركزة حول اللوجوس، فمفهوم الإنسانية يشكِّل الركيزة الأساسية التي يدور حولها النسق وموضع الحلول ومصدر التجاوز.

ويمكن ملاحَظة أن هذه النزعة العالمية كانت كامنة في المشيحانية اليهودية التي عبَّرت عن نفسها من خلال شكلين:

أ) حركات مشيحانية ثنائية صلبة تدور حول خلاص اليهود واليهود وحدهم، وهو خلاص يأخذ شكل عودة إلى أرض الميعاد تحت قيادة الماشيَّح.

ب) حركات مشيحانية عالمية سائلة ترى أن خلاص اليهود يعني سقوط كل الحدود وانتهاء رسالتهم واختفاءهم باندماج جميع البشر. ولكن هذه النزعة نحو العالمية والمساواة،تتعمق وتأخذ شكلاً ثورياً متطرفاً، إذ تظهر نزعة إلى لحظة مشيحانية كونية، حلولية عضوية كاملة يصبح الجزء فيها متوحداً تماماً مع الكل، وتتوحد فيها الدوال مع المدلولات، ويمكن التواصل بشكل مطلق إذ لا توجد مسافة تفصل بين البشر.

وتتسم هذه المرحلة بأنها تتضمن رفضاً كاملاً للحدود، أي أنه تعبير عن الرغبة في الانسحاب من حالة التاريخ الإنسانية (المجتمع الشيوعي في حالة ماركس - لحظة الإفصاح الجنسي الكامل عن النفس عند فرويد). وهذه الرؤية رغم ثوريتها وعالميتها إلا أنها تشكل نقداً لا لحالة إنسانية بعينها وإنما للحالة الإنسانية ككل، وهي تعبير عن الرغبة في الوصول إلى حالة اليوتوبيا التكنولوجية أو البيروقراطية حتى نصل إلى القانون العام الذي يمكن التحكم من خلاله في العالم ويمكن التعبير عن الإنساني من خلال لغة جبرية كمية دقيقة.

ولكن حينما تزال الحدود تماماً بين الإنسان والإنسان تزال الحدود أيضاً بين الإنسان والطبيعة، وتتم المساواة بين الإنسان والطبيعة وبين الخير والشر وبين الذكر والأنثى، أي يتم إلغاء كل الثنائيات، وهنا تبدأ الحلولية السائلة تطل برأسها إذ يصبح الهدف من وجود الإنسان في الكون هو التناغم معه بمعنى الذوبان الكامل فيه، ومن ثم تختفي أيةمنظومة معرفية وأخلاقية، وتظهر الترخيصية والإباحية والإباحة الكاملة (هاجم الشبتانيون والحركة الفرانكية كل العقائد والديانات بشكل باطني، وهذا ما فعله إسبينوزا فقد هاجم العقيدة اليهودية والعهد القديم، ولكن هجومه كان في واقع الأمر على العقائد الدينية ككل وعلى كل الثنائيات الكامنة فيها).

ويمكن القول بأن تاريخ اليهودية منذ ذلك الحين هو تاريخ التأرجح بين الحلولية الثنائية الصلبة (المادية أو الروحية) والحلولية الشاملة السائلة (المادية أو الروحية) مع الاتساع التدريجي لنطاق الرؤية العالمية والحلولية السائلة. ويبدأ فكر حركة التنوير اليهودية بمحاولة التوفيق بين اليهودية وروح العصر. وروح العصر هنا هي مطلق كامن في الزمن لا يميِّز اليهود عن الأغيار وإنما يجمع بينهم. وقد انتشر الفكر الربوبي بين اليهود، وهو فكر حلولي عالمي، فالإله يحل في الطبيعة ويستطيع العقل البشري أن يحيط به دون حاجة إلى كتب سماوية أو إلى أية خصوصية دينية، فكتاب الطبيعة مفتوح أمام الجميع. وقد ورثـت حـركة التنوــير اليهـودية هذه الفكرة، وتأثرت بها اليهودية الإصلاحية التي بدأت ترى الإله كمبدأ واحد يسري في المخلوقات ولكنها احتفظت باسم الإله (حلولية شحوب الإله).

وتشكل اليهودية المحافظة عودة إلى الحلولية الثنائية الصلبة إذ إن مركز الحلول يصبح الشعب اليهودي ومؤسساته القومية. وتحتفظ اليهودية المحافظة باسم الإله، ولكنه إله غير متجاوز، كتعبير عن الذات اليهودية، ولذا فهي تظل في إطار وحدة الوجود الروحية وشحوب الإله. والصهيونية هي الأخرى عودة للثنائية الصلبة، فبعد موت الإله يبقى الشعب المقدَّس المتمركز في أرضه المقدَّسة (المستوطنون الصهاينة في فلسطين) حيث تنتظمهم الدولة الصهيونية صاحبة الإرادة النيتشوية التي تَصدُر عن حقـوق مطلقـة منحها اليهود لأنفسـهم وتساندها القوة العسكرية، وتقف هذه الدولة أمام الأغيار (الذين يقعون خارج نطاق القداسة) تمارس حقوقها بالقوة وتهدر حقوق الآخرين. والصهيونية تأخذ شكلين، ثنائية صلبة روحية (الإله يحل في الشعب) وثنائية صلبة مادية (القوة الدافعة للمادة الكامنة في الشعب)، يترجمان نفسيهما إلى صهيونية دينية أو إلى علمانية. وأخيراً ترجمت الثنائية الصلبة نفسها إلى لاهوت موت الإله.

ويتسع نطاق الحلولية ليصل إلى اليهودية الإنسانية الإلحادية التي ترى أن الإيمان الحق باليهودية يعني الإيمان الحق بالإنسـانية، ومن ثم فإن جـوهر اليهـودية الحـق يتحقق من خلال اختفائها، بل اختفاء الإله بالتحامه الكامل بالمادة. ومع اختفاء الإله، تتعدد المراكز وندخل يهودية عصر ما بعد الحداثة حيث يُعلَن موت الإله ويظهر عالم لا مركز له كل ما فيه متساو نظراً لتحقُّق الحلولية الشاملة السائلة التي تذيب حدود الأشياء فتختفي جميعاً.

عند هذه اللحظة، يمكن أن يحدث أي شيء وكل شيء، فتظهر اليهودية المتمركزة حول الأنثى، وينضم أعضاء الجماعات اليهودية بأعداد متزايدة إلى الماسونية والبهائيةوالعبادات الجديدة، وكلها عقائد حلولية شاملة سائلة ذات طابع واحدي، تنكر أي ميتافيزيقا. ولعل هذه الحلولية الشاملة السائلة هي الإطار الذي تدور فيه النزعة التفكيكية (الهرمنيوطيقا المهوطقة) التي يتسم بها كثير من المفكرين ذوي الأصول اليهودية إذ نجدهم يتجهون نحو رفض المجتمع بقضه وقضيضه، بل التاريخ الإنساني بأسره نتيجة رفضهم كل الحدود. ومن هنا، ينخرط المثقفون من أعضاء الجماعات اليهودية بشكل ملحوظ في حركات ما بعد الحداثة بكل ما تتسم به من عدمية ناجمة عن الراديكاليةالمعرفية والأخلاقية التي تنكر أيَّ يقين معرفي أو مطلقية أخلاقية وأية مرجعية متجاوزة، إنسانية كانت أم إلهية، حيث تسود حالة من اللامعنى واللا تواصل في عالم لاطعم له ولا لون ولا رائحة، أي عالم لا مركز له ولا حدود، عالم العودة إلى الحالة الجنينية وإلى سكون الرحم.

الثنوية (أو الاثنينية) اليهودية

Jewish Dualism

«الثنوية» أو «الاثنينية» هي الفكرة القائلة بأن الوجود يتكون من قوتين مطلقتين أو عنصرين أساسيين جوهريين متوازيين متعارضين (ثنائية صلبة) لا يلتقيان، إله الخير وإله الشر، وهما دائماً في حالة صراع. ومع هذا، توجد نقطة نهائية في التاريخ يتم من خلالها القضاء على هذه الثنوية إذ يهزم إله الخير إله الشر أو يمتزجان ليكونا واحدية كونية. والثنوية أحد أشكال الحلولية، وهي من ثم تعبير عن فشل في الوصول إلى النضج النفسي وعن الفشل في التجريد وفي تَقبُّل تركيبية العالم.

واليهودية تركيب جيولوجي تراكمي ذو طابع حلولي، ولذا نجد أنها قد استوعبت عناصر ثنوية عديدة (من العبادات الفارسية على وجه الخصوص) أثرت في عقائدها وشعائرها وبنيتها. وتظهر هذه العناصر في مخطوطات البحر الميت ولدى الجماعات الغنوصية أو شبه الغنوصية اليهودية ثم أخيراً في الثنوية المباشرة التي تتبدَّى في شعائر وشخصيات خرافية مثل عزازيل وميتاترون، وكذلك في بعض الملائكة الآخرين الذين أصبحوا قوة مستقلة عن يهوه لها وجود مستقل عنه وتُقدَّم لها القرابين تماماً كما تُقدَّم له، كما كان يحدث في يوم الغفران حينما كان كبير الكهنة يُقدِّم كبشين: أحدهما ليهوه والآخر لعزازيل. وهذه الشخصيات والشعائر تفترض وجود قوتين إلهيتين، إحداهما للخير والأخرى للشر، وهي شخصيات وشعائر تقبلتها اليهودية كتركيب جيولوجي تراكمي. وقد تحولت التوارة في اليهودية الحاخامية إلى قوة معادلة للإله تحوي سرّ الكون، نظر إليها الإله وخلق العالم (فهي اللوجوس الذي يمنح العالم النظام والثبات والشكل النهائي المستقر). وتُعبِّر التوراة عن الحياة الداخلية للإله ولكنها مستقلة عنه. ولذا فهي تجلس إلى جواره على العرش، فهي إذن تَجسُّد له ولكنها مستقلة عنه.

وقد تفجرت هذه الثنوية في التراث القبَّالي، فنجد أنها ثنوية تشبه تماماً ثنوية الأنساق الغنوصية، فهناك ثنوية الإين سوف (الديوس أبسكونديتوس أو الإله الخفي اللامتناهي) مقابل التجليات النورانية، وهناك السترا أحرا (الجانب الآخر المظلم) الذي يمثل الشر والظلام مقابل الخير، والشخيناه هي لوجوس تجلس إلى جوار الخالق على عرشه ويقابلها الإله نفسه، كما أن الشخيناه نفسها يقابلها الشخيناه المدمرة التي تَصدُر عن السترا أحرا. والثنوية قد تختلف من بعض الوجوه عن الحلولية الثنائية الصلبة ولكنهما، في نهاية الأمر، شيء واحد؛ فالأولى إن هي إلا حالة متطرفة متبلورة وتطوُّر منطقي للثانية. ويُلاحَظ أن الثنوية اليهودية تؤدي إلى توازي قطبي الثنوية لا الصراع بينهما، ومن ثم فنحن نشير إليها بأنها «ثنوية بنيوية». وهي، في هذا، تختلف عن الثنوية الفارسية ذات الطابع الصراعي الحاد.

القداســــــــة فـــــــي اليهوديــــــــة

Jewish Concept of Sacredness and Sanctity

الرؤية التوحيدية للقداسة موجودة في اليهودية كطبقة ضمن الطبقات الجيولوجية. ولكن هناك، فوقها وتحتها، طبقات أخرى من أهمها الطبقة الحلولية التي يستطيع اليهودي في إطارها ألا يشارك في القداسة وحسب، وإنما يتوحد مع الإله تماماً ويصبح في قداسته. وانطلاقاً من هذه الرؤية الحلولية الثنائية الصلبة التي كانت موجودة بشكل كامن في العهد القديم، ثم تبلورت في التلمود وأخذت شكلاً متطرفاً في القبَّالاه، نجد أن القداسة لم تَعُد حالة يشارك الإنسان فيها من خلال التدريبات الروحية والأعمال الأخلاقية وإنما أصبحت سمة عضوية مُتوارَثة ناتجة عن الحلول الإلهي الدائم.

وإذا كانت القداسة هي الصفة الإلهية التي تفصل الإله (المطلق) عما هو غير مقدَّس (دنيوي ونسبي)، فإن الشعب اليهودي قد سرت فيه هذه القداسة وأصبح يتسم بهذا الانفصال حينما عقد الإله العهد معه. وبذلك، انقسم العالم بأسره داخل إطار الحلولية الثنائية الصلبة إلى قسمين: اليهود المقدَّسين الذين يعيشون داخل دائرة القداسة، والأغيار الذين يعيشون داخل التاريخ فقط وخارج دائرة القداسة. والأرض التي يقطنها الشعب اليهودي، صهيون أو إرتس يسرائيل، أصبحت هي الأخرى الأرض المقدَّسة التي لا تسري عليها القوانين التاريخية النسبية العادية. كما أن تاريخ هذا الشعب يصبح أيضاً تاريخاً مقدَّساً تختلف بنيته ومساره وقصده عن التواريخ الإنسانية إذ يتسم بالحلول الإلهي فيه.

ولكل هذا، نجد أن المسافة بين الإله والإنسان وبين الواقع والمثل الأعلى تختفي تماماً ويحل محلها الحوار (الديالوج) الدائر بين الإله والشعب. والإله المقدَّس لا يختلف كثيراً عن الشعب المقدَّس، فهو يوحي إلى الشعب بما يريد أن يسمع. وهو قد اختارهم لأنهم اختاروه كما جاء في التلمود، وكما يقول بن جوريون. وحينما ذهب الشعب المقدَّس إلى سيناء، فإنه كان يحمل روح الشريعة المقدَّسة التي تلقاها من الإله، كما يقول مارتن بوبر، أي أن روح الشعب والقداسة هما شيء واحد. والقداسة نفسها تسري على مؤسسات اليهود الدنيوية القومية كافة أو تحل فيها. إن نسل الملك داود مقدَّس إذ أن الماشيَّح سيكون من بينهم. واللاويون مقدَّسون منفصلون عن بقية الشعب لأنهم من سبط الكهنة. ويوم السبت مقدَّس لأنه اليوم الذي استراح فيه الإله بعد خلق العالم في ستة أيام، وهو أيضاً اليوم الذي خرج فيه اليهود من مصر، ولذلك فهو منفصل عن بقية أيام العمل العادية. واللغة العبرية هي اللسان المقدَّس (لاشون هقودش).

ويصل حد خلع القداسة على كل شيء قومي إلى درجة أن التلمود (تفسير العلماء اليهود للعهد القديم) يصبح أكثر قداسة من العهد القديم (الكتاب المقدَّس) نفسه. بل إننا نكتشف، من خلال قراءتنا في التراث الديني اليهودي، أن الحوار بين الإله والشعب يصل إلى درجة أن قداسة الإله تصبح من قداسة الشعب، وليس العكس. فقد جاء في أحد كتب المدراش: "حينما تنفذ يسرائيل إرادة الإله، فإنها تضيف إلى إرادة الإله في الأعالي، وحينما تعصى يسرائيل إرادة الإله فكأنها تضعف القوة العظمى للإله في الأعالي". ويفسِّر أحد كتب المدراش فقرة من إصحاح أشعياء (43/12): «وأنتم شهودي ـ يقول الرب، وأنا الإله »، وذلك على النحو التالي: "حينما تكونون شهودي أكون أنا الإله، وحينما لا تكونون شهودي فأنا (كأنني) لست الإله". فكأن ألوهية الإله، بل وجوده، لا يتجاوز الإرادة والوجود اليهوديين.

وفي تراث القبَّالاه، وصل الإيمان بقداسة الشعب إلى أشكال في غاية التطرف إذ ذهب بعض القبَّاليين إلى أن اليهود قد خُلقوا من طينة مقدَّسة مختلفة عن الطينة التي خُلق منها الأغيار. وبالتالي، تكون أفعال اليهود كلها مقدَّسة لأنها تساهم في عملية إصلاح الخلل الكوني (تيقون) التي يستعيد الإله من خلالها ذاته وكذلك الشرارات الإلهية المشتتة.

ومن خلال مفهوم الشرارات الإلهية المبعثرة، توصَّل الشبتانيون إلى أن القداسة توجد في الخير وجودها في الشر إذ أن الشرارات الإلهية قد علقت بكل شيء، ومن ثم فإن القداسة شملت كل شيء وأصبحت المبدأ الواحد الذي يسري في الكون ويتخلل ثناياه وبرزت فكرة الخطيئة المقدَّسة (أساساً في الحركة الفرانكية) التي تذهب إلى وجوب الانغماس في الرذيلة حتى يمكن الصعود إلى القداسة. وقد تبدَّى هذا في مفهوم الخلاص بالجسد.

وقد ورثت الصهيونية هذا المفهوم الحلولي للقداسة التي تتركز في الشعب المقدَّس والأرض المقدَّسة وفي زمانه أو تاريخه أو روحه المقدَّسة، ولكن الصهاينة قاموا بعلمنة هذا المفهوم الحلولي بحيث يُترَك مصدر القداسة غير محدَّد: فهو الخالق بالنسبة للمتدينين، وهو روح الشعب أو أية مقولة دنيوية أخرى بالنسبة للمُلحدين. والقداسة تحل أيضاً في مختلف الممتلكات القومية التي يملكها الشعب. ولذا، نجد أن أحد زعماء الجوش إيمونيم (الحاخام تسفي كوك) يقول: إن الجيش الإسرائيلي هو القداسة بعينها. ومن قبله قال بن جوريون: إن الجيش هو خير مفسر للتوراة. ومن هذا المنظور الحلولي، يمكن أن نفهم مُصطلَحات صهيونية مثل «الحدود التاريخية» و«إسرائيل الكبرى». فالحدود التاريخية هي الحدود المقدَّسة وإسرائيل الكبرى هي الأرض المقدَّسة.

وقد دخلت اليهودية عصر ما بعد الحداثة حيث تتوزع القداسة على كل المخلوقات فتساوي بينهم وتسويهم وتدخل في حالة سيولة شاملة تصبح فيها التفرقة بين المقدَّس والمدنَّس وبين اليهودي وغير اليهودي أمراً مستحيلاً.

الباب الثالث: إشكالية علاقة الغنوصية باليهودية

الغنوصيــــة: تعريـــف

Gnosticism: Definition

«الغنوصية» من الكلمة اليونانية «غنوصيص»، ومعناها «علم» أو «معرفة» أو «حكمة» أو «عرفان». وفي التراث العربي الإسلامي، تُستخدَم كلمة «عرفان» عند المتصوفين لتدل على نوع أسمى من المعرفة يُلقَى في القلب في صورة «كشف» أو «إلهام». و«العرفان»، حسب تعريف المؤرخين له، هو العلم بأسرار الحقائق الدينية والخصائص الإلهية، وبكل ما هو سري وخفي (كالسحر والتنجيم والكيمياء)، وهو (من وجهة نظر صاحب العرفان) أرقى من العلم الذي يحصل لعامة المؤمنين البسطاء أو لأهل الظاهر من العلم الديني الذين يعتمدون النظر العقلي، و«العرفاني» هو الذي لا يقنع بظاهر الحقيقة الدينية بل يغوص في باطنها لمعرفة أسرارها. وهي معرفة تقوم على تعميق الحياة الروحية واعتماد الحكمة في السلوك وهو ما يمنح القدرة على استعمال القوى التي هي من ميدان الإرادة (ومن ثم تصبح الإرادة بديلاً للعقل). فالمعرفة هنا لا تعني العلم، أي اكتساب معارف، بل بذل مجهود متواصل بقصد التطهير والتخلص من الأدران والتوصل للصيغة الغنوصية اللازمة لرحلة العودة للاندماج من جديد في العالم الإلهي الذي جاء منه الإنسان. والغنوصية ترى أن ثمة جوهراً واحداً يجمع بين كل الديانات ولذا لا تقدم نفسها كديانة جديدة، بل كباطن للشريعة القائمة، ومهمة الغنوص الكشف عن المغزى العميق للعقيدة (ولكل العقائد) التي ينتمي إليها الغنوصي بواسطة معرفة باطنية وكاملة لأمور الدين. ويتم التمييز بين الغنوصية كموقف من العالم (غنوص عملي) والغنوصية كنظرية لتفسير الكون (غنوص نظري) ولكنهما بطبيعة الحال مرتبطان تمام الارتباط، وخصوصاً أن الغنوص النظري نفسه ذو توجُّه عملي، فالعرفان يتم التوصل إليه من خلال طقوس وشعائر محددة.

والغنوصية حركة فلسفية وتعاليم دينية متنافرة تأخذ شكل أنساق أسطورية جميلة في غاية التنوع وعدم التجانس، انتشرت في الشرق الأدنى القديم في القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد. ورغم أن أساطيرها وتعاليمها وأفكارها غير متجانسة، بل تنافرها، يمكن القول بأن ثمة بنية كامنة واحدة أو نموذج معرفي واحد، ذلك أن المنظومات الغنوصية كافة منظومات كمونية حلولية واحدية تبحث عن مبدأ واحد مطلق يحكم الكون بأسره، كما تبحث عن قانون شامل من غير ثغرات يعبِّر عن الواحدية الكونية التي ترد الكون بأسره إلى مبدأ واحد ومن ثم يذوب الكل في الجزء وتصبح الركيزة النهائية كامنة في المادة، ولذا يتحقق النموذج في لحظة التوحد الكامل بين الخالق ومخلوقاته (وباختفاء الإنسان في مقولات أكبر منه)، أي أنها تنتهي بموت الإله ثم بموت الإنسان). وهي محاولة لتفسير كيفية خروج النسبي من المطلق، والشر من الخير، وتجيبعليها بإجابات بسيطة بل ساذجة من خلال الأنساق الأسطورية التي تختزل الواقع الإنساني والتاريخي المركب. وتستخدم الغنوصية مفردات الحلولية الكمونية الواحديةوصورها المجازية (الجسد ـ الجنس ـ الرحم ـ الأرض) لإدراك العالم.

تبدأ المنظومة الغنوصية من نقطة فردوسية لا تحتوي إلا على النور والقداسة، حالة تماسك واحدية عضوية لا يوجد فيها كل منفصل عن الأجزاء، ولا توجد فيها ثغرات (حالة البليروما). ويوجد الإله الخفي (باللاتينية: ديوس أبسكوندتيوس deus absconditus) وراء البليروما، وهو إله متعال لا يقبل الوصف متجاوز تماماً للدنيا حتى حد التعطيل، غير مكترث بها أو معاد لها، والطبيعة لا تعبِّر عنه أو عن مقاصده. هذا الإله الواحد لم يخلق العالم دفعة واحدة من العدم وإنما من خلال عملية تدريجية من خلال الفيض والصدور ففاضت مخلوقات تُسمَّى الأيونات وهي القوى الروحية الأولية وهي بمثابة تشخُّصات للإله. وأهم الأيونات هي الإنسان نفسه الإنسان الأول وآدم قدمون أو أنثرويوس الذي هو نفسه الإله أو ديوس. ومن أهم الأيونات الأيون المسمى «صوفيا» أو «الحكمة».

وتذهب الغنوصية إلى أن الكون شرير ومعاد، وأن العالم سجن والزمان ردئ، وأن الإنسان لا ينتمي إلى هذا العالم وأنه وقع فيه وفي الزمان لا لذنب اقترفه أو لشر متأصل فيه وإنما بسبب خلل كوني أدى إلى تسرُّب بعض الشرارات الإلهية بحيث حُبست داخل المادة. والإنسان هو جزء من هذه الشرارات، فهو ينتمي إلى العالم النوراني، عالم الإله الخفي. ولن يتم الخلاص ولن يبلغ الإنسان الكمال (الذي هو اسم آخر للنجاة والخلاص) إلا من خلال معرفة خفية باطنية (غنوص) تتصل بالحقيقة الكلية الشاملة، وهي معرفة أو عرفان يفضي بالإنسان إلى معرفة بالإله، فالإله هو في نهاية الأمر الإنسان، والإنسان هو الإله، أو على الأقل ينتميان لعالم واحد، وقد صيغ من مادة واحدة أو جوهر واحد، ولذا فإن الخلاص والكمال هو اتحاد الذات الإنسانية مع الألوهية اتحاداً جوهرياً وانتهاء العالم. وقد لخص ثيودوتوس الغنوصية في عبارته الشهيرة، فقال "معرفة من كنا، وماذا أصبحنا، وأين كنا، وفي أي مكان أُلقي بنا، وإلى أي مكان نحث الخطى، وكيف نحصل على الخلاص، وما الميلاد، وما الميلاد الجديد؟".

وقد أصبحت كلمة «غنوصية» في اللغات الغربية عَلماً على المذاهب الباطنية وعلى الهرطقات الجوهرية التي تقف على الطرف النقيض من العقائد السماوية التوحيدية.ويمكن القول بأن الغنوصية ليست شكلاً من أشكال التصوف الذي يدور في إطار توحيدي ويدعو إلى كبح جماح الجسد حتى يقترب الإنسان من الإله وهو يعرف أن الاتحاد به مستحيل (فهو إله مفارق متجاوز للطبيعة والتاريخ). ومثل هذا التصوف يتبدَّى في التاريخ في شكل فعل أخلاقي وسلوك اجتماعي يدل على طاعة الإله. تقف الغنوصية على طرف النقيض من هذا النوع من التصوف (التوحيدي)، فهي تهدف إلى الالتصاق بالإله والاتحاد معه بهدف الوصول إلى المعرفة الباطنية والصيغة النهائية (الغنوص) التي يمكن عن طريقها التحكم في الواقع وفي البشر بل في الإله، فهي شكل من أشكال التصوف الحلولي الكموني ووحدة الوجود الروحية. وهي، في هذا، تشبه القبَّالاه التي تحاول الوصول إلى المعرفة الباطنية ولا تكترث كثيراً بالتمارين الصوفية، وذلك باعتبارها محاولة للاقتراب من الخالق، فكل همها هو تحقيق الالتصاق بالإله والوحدة معه بهدف المعرفة من أجل التحكم (في الكون بل في القوة الخفية السارية فيه، أي الإله).

ونحن نطرح نموذجاً توليدياً لدراسة الغنوصية وتفسير سر انتشارها، فنذهب إلى أنها رؤية للكون تستجيب لشيء جوهري في الإنسان، وهو ما نسميه النزعة الرحمية، أي الرغبة في الانسحاب إلى الرحم وفقدان الهوية وتصفية الثنائيات الأخلاقية والمعرفية.

وقد أورد كاتب مدخل «الهرمسية» في موسوعة تاريخ الأفكار ما يسميه «مجموعة أفكار الفوضى» (بالإنجليزية: كيوس سندروم ( chaos syndrome وهي محاولة من جانبه لأن يرصد بعض السمات الأساسية للرؤية الكونية الكامنة وراء المنظومات الغنوصية (ومنها الهرمسية) وقد أوردها على النحو التالي:

1 ـ يخلق الإله العالم من مادة قديمة.

2ـ تتم عملية الخلق نتيجة تصادم ضخم أو لقاء جنسي بين عنصرين أساسيين.

3 ـ الخلق يتضمن عناصر من الغريب واللامعقول.

4 ـ التغير والظلام والطمي تنتج الحياة.

5 ـ الثعبان والمخلوقات الهجين هي رمز الطاقة ويتم تأليهها.

6 ـ العالم جسد يجدد نفسه دائماً، ومن هنا العود الأبدي.

7 ـ «كما هو في الأعالي، كذلك في هذا العالم» أي عقيدة التقابل بين السماء والأرض والعرفان الكوني.

8 ـ يمكن أن ينزل الإله إلى هذا العالم ليشارك في الأمور الإنسانية ويصبح عاملاً من عوامل إدخال الحضارة. والإله لا يتجاوز عملية التحول والعذاب التي تُعَد جزءاً من عملية الخلق والميلاد.

9 ـ يستطيع الإنسان أن يرتفع لمنزلة الآلهة.

10 ـ «الهبوط الثمين» هو الهبوط في الظلمات ومواجهة وحوش الأعماق أمر ضروري ومصدر لتجربة حيوية يمر بها البشر والآلهة.

وهو يرى أن هناك بعض المنظومات الدينية الشعبية تتسم بكل أو بعض هذه الصفات. والمنظومات الغنوصية تنتمي إلى هذا النمط في تصوُّرنا.

والغنوصية هي النموذج المتكرر والكامن وراء معظم (إن لم يكن كل) الفلسفات والأنساق الحلولية الكمونية الواحدية (الروحية والمادية) عبر التاريخ، وهي أهم تعبير عن الواحدية الكونية وعن النزعة الطبيعية المادية، وأكثرها تبلوراً، وهي القواعد أو النحو العالمي الكوني للهرطقة، الذي وُلدت منه كل أنواع الهرطقات المادية المعادية للإلهوالإنسان، علمانية كانت أم «دينية»، وهي هرطقات ليست معادية للإله المتجاوز وحسب وإنما معادية للإنسان باعتباره كائناً فريداً مركباً حراً متعدد الأبعاد قادر علىتجاوز ذاته الطبيعية وعلى تجاوز الطبيعة/المادة وعلى اتخاذ مواقف أخلاقية تنبع من حريته وإحساسه بالمسئولية وبهويته وحدوده، أي أن الإلحاد الغنوصي إلحاد جوهري وجذري وتعبير عن عداء عميق لظاهرة الإنسان نفسها. وانطلاقاً من نموذجنا التوليدي، فإننا نذهب إلى أن الغنوصية قائمة منذ بداية التاريخ. وقد ظهرت الحركة المسماة بالغنوصية في لحظة تاريخية شعرت فيها قطاعات كبيرة من سكان المدن في الإمبراطورية الرومانية بضياعها وعدم انتمائها وغربتها عما حولها. وبعد القضاء على الغنوصية كحركة، ظلت المنظومة الغنوصية منتشرة بين الجماهير (بعد القضاء على قيادتها)، ذلك على هيئة الممارسات والعقائد الدينية الحلولية الواحدية المختلفة تحت أسماء مختلفة. وقد أحرزت الغنوصية نجاحاً فائق النظير في حالة النسق الديني اليهودي إذ تصاعدت معدلات الحلولية حتى أصبحت اليهودية عقيدة غنوصية من خلال القبَّالاه. وقد أحرزت الغنوصية انتصارها الأكبر مع ظهـور العلمـانية (الحلولية الواحدية المادية ووحدة الوجود المادية)، فالفلسفات والأنساق العلمانية، هي بمعنى أو آخر، شكل من أشكال الغنوص. ومن المعروف أن الظروف التي عاش فيها أتباع الحركة الغنوصية لا تختلف كثيراً عن الظروف التي يعيشها الإنسان الحديث في المدينة الحديثة أو في المجتمعات الحديثة التي تم ترشيدها وإخضاعها لمعايير الكفاءة المستمدة من نماذج طبيعية/مادية يُقال لها «علمية».

الغنوصيـــة: تاريـــخ

Gnosticism: History

تُلقي الخلفية التاريخية والثقافية للغنوصية الكثير من الضوء على بنيتها. ويبدو أن جذورها تعود إلى القرنين الأخيرين قبل الميلاد، ولنتخيل أن مواطناً في الألف الأخير قبل الميلاد، في الشرق الأدنى القديم، كان يعيش في كنف الإمبراطورية الفارسية، وهي إمبراطورية شرقية قد تكون غريبة عليه، ولكنها مع هذا لها تقاليدها الحضارية الشرقية القريبة من تقاليده، كما أنها كانت إمبراطورية مترامية الأطراف، اعتمدت أسلوباً في الإدارة مبنياً على عدم المركزية وعلى السماح للجماعات المحلية بقدر من الإدارة الذاتية، فكانت تُحصِّل الضرائب من خلال كبار الملاك المحليين، الأمر الذي ترك الريف دون تَدخُّل عنيف من القوة الإمبراطورية الأجنبية، ومن ثم لم يتغير أسلوب الحياة فيه.

وجاءت الإمبراطورية اليونانية بثقافتها الهيلينية، وقد أسس هؤلاء الغزاة مدناً قوامها فرق من المرتزقة والمستوطنين الأجلاف الذين كانوا لا يعرفون من الثقافة الإغريقية غير القشور (مثل السيرك والألعاب)، ولحقت بهم جماعات من المثقفين. ثم بدأت حركة هجرة داخل الإمبراطورية الهيلينية نحو هذه المدن، وهو ما أدَّى إلى نموها وتضخُّم حجمها، ولذا كانت هذه المدن تختلف عن المدن/الدول اليونانية. فالعلاقات الإنسانية في المدينة/الدولة كانت متعيِّنة متجانسة، لأن المدينة/الدولة كانت وحدة صغيرة تكادتكون عضوية في تماسكها، إذ كان يشارك الجميع في العملية السياسية والأحـداث الثقافية، وكان ينتظم كل هـذا إطار العبادة الوثنية الهيلينية. ويُقال إن تجربة الإنسان اليوناني داخل المدينة/الدولة يشكل أساس الأنطولوجيا الغربية الكلاسيكية: الكل يسبق الأجزاء، والكل أحسن من الأجزاء، والكل هو الغاية والأجزاء هي الوسيلة. وكان الفرد هو الجزء في هذه المنظومة، والمدينة/الدولة هي الكل، وكان الفرد يشعر بهذه المقولات بشكل متعيِّن ومباشر من خلال تجربته الحياتية اليومية، هذا على النقيض من المدن اليونانية في الشرق فقد كانت أكبر حجماً وكانت تضم عناصر بشرية غير متجانسة لكلٍّ دينها وشعائرها وتجربتها التاريخية. ولذا، كانت كل جماعة تنكفئ على ذاتها وتنعزل عن المدينة، ولكنها كانت في الوقت نفسه تفقد هويتها لبعدها عن مراكز الحضارة الخاصة بها، وكانت تكتسب الخطاب الحضاري اليوناني أو قشوراً أو شذرات منه عن وعي أو عن غير وعي فيمـتزج بخطابها الحضـاري ويحـل محلـه في بعض الأحيان. وكانت هذه المدن مدناً دولية تصلها التجارة من كل أنحاء الأرض (الصين وأوربا) وتُقام فيها أسواق ضخمة لها إيقاعها السريع وحجمها الضخم. ومن ثم، لم يكن بوسع الفرد أن يمارس علاقة عضوية مع الآخرين أو مع المدينة.

إلى جانب كل هذا، كان يوجد انقسام حاد بين النخبة الإغريقية الحاكمة في المدينة والنخب الأخرى (المصرية واليهودية والفارسية) التابعة لها من جهة، ومن جهة أخرى الجماهير التي كانت: إما تأغرقت بشكل سطحي أو ظلت شرقية في تراثها وهويتها. وإلى جانب هذا الصراع الثقافي، كان يوجد صراع طبقي إذ أن استقلال الطبقات الحاكمة قد تزايد (وخصوصاً في مصر) بسبب تزايد قبضة البيروقراطية تحت حكم اليونان، وكان المصريون يدفعون الضرائب للتاج وللمدن التي كانت تمارس حقوقها على الأراضي الزراعية التي تملكها، ولأصحاب الأراضي التي يعيشـون فيها، ولذا أُفقر الريف وزادت الهجـرة إلى المدينة.

ثم سقطت بعد ذلك الإمبراطورية اليونانية. ومع الحكم الروماني، زادت الأمور سوءاً، فمع تزايد الحروب زادت الضرائب واندلعت الثورات (مثل التمردين اليهوديين الأول والثاني في القرنين الأول والثاني الميلاديين)، كما ازدادت الفجوة الثقافية بين الحاكم والمحكوم. وأدَّى اتساع نطاق الإمبراطورية إلى تزايد اختلاط الديانات المختلفة وإلى عمليات تهجينها، فامتزجت الآلهة الشرقية بالآلهة اليونانية والرومانية. ووجد المواطنون أنفسهم في إمبراطورية مترامية الأطراف، لا تؤمن بأية آلهة، أو تؤمن بآلهة كثيرة. وبذا، أصبح الكل مبعثراً وأصبح الجزء لا معنى له. وقد تماسك الكل لا بسبب أية أيديولوجية وإنما من خلال العنف الذي كانت تمارسه السلطة وبفعل توازن القوى، وهي سلطة كانت لا تكترث كثيراً بالتراث الحضاري للمواطنين فتدع كل فرد يمارس ما يشاء من شعائر طالما أنه يدفع الضرائب التي كانت تضمن تدفقها الطرق الرومانية والجنود الرومان الأجلاف، سادة العالم الذين كانوا لا يؤمنون بدين أو كانوا يؤمنون بدين وثني متخلف يرتكز على عبادة الإمبراطور ومجمع الآلهة (بانثيون) الروماني.

وجد المواطن نفسه في إمبراطورية غريبة عليه، معادية له، حاكمها ظالم يفرض عليه القانون الروماني الغاشم، وجنودها أجلاف. كما وجد أنه ليس بمواطن روماني، ولذافإنه لا حقوق له مع أن علاقته بوطنه الأصلي قد ضَعُفت، وخصوصاً إذا كان من سكان المدن. وفي هذه التربة، انتشرت الغنوصية بين أعضاء البورجوازية الصغيرة وبين كثير من أعضاء الطبقات غير المستغلة التي فقد أعضاؤها مناصبهم ومكانتهم، أو على الأقل تراجع نفوذهم رغم شعورهم بحقهم في أن يكونوا أحراراً، وكان عندهم الطموح للحراك والصعود إلى أعلى دون أن تكون عندهم الوسيلة لذلك: طبقات فقدت عالمها القديم ولم يستوعبها العالم الروماني الجديد. وأعضاء هذه الطبقات كانوا متعلمين يعرفون الفلسفة اليونانية بدرجات متفاوتة من العمق والسطحية، ولكنهم كانوا مع هذا ملمين بأسرار الديانات الشرقية، ولذا قاموا بالمزج بين العناصر اليونانية والشرقية حينما صاغوا أيديولوجيا جديدة (وهذا المزج هو الذي أعطى الغنوصية مقدرة تعبوية هائلة).

وقد انتشرت الغنوصية في المدن الكوزموبوليتانية الكبيرة، مثل الإسكندرية وأنطاكية وروما ومدن آسيا الصغرى، وهي مدن تتسم ببعض أو كل الملامح التي أشرنا إليها من قبل؛ مدن تقع على الحدود بين الشرق المتأغرق وروما، ومع هذا، ظل الشرق مركز جاذبيتها الثقافية. وحتى الزعماء الغنوصيون الذين ظهروا في الريف (مثل شمعون الساحر من السامرة) كان نشاطهم في المدن أو تربطهم علاقة وثيقة بها.

هذا الوضع الحضاري والتاريخي يفسر كثيراً من جوانب الغنوصية، فهو يفسر ازدواجية الغنوصية الشرقية/الإغريقية، كما يفسر طبيعة الحل الذي تطرحه وجذريته. فإذا كان الإنسان يشعر بالغربة والاغتراب والهجران إلى هذا الحد، فإن الحل الذي سيطرحه لمشكلته لن يقل جذرية. والغنوصية أعلنت أن هذا العالم فاسد تماماً، فسقطت المدنوالإمبراطوريات والعالم الطبقي والقوانين الطبيعية والأخلاقية الغاشمة بضربة معرفية واحدة. أما عالم المدينة الوثني الذي يتطلب الانتماء إليه الانتماء للعبادة الوثنية، فإنه يسقط هو الآخر بإعلان أن طريق الخلاص هو العرفان الداخلي دونما حاجة لكهنة أو معابد (وهذا مناسب جداً في اقتصاد مبني على حركة تجارية مستمرة، فأماكن العبادة الثابتة غير صالحة). أما اغتراب الإنسان فبوسع الإنسان أن يعقلنه قليلاً بأن يدَّعي أنه يوجد في هذا المكان ولكنه ليس منه. أما وجود الإنسان في موقع متدن من السلم الطبقي، فيستطيع مثل هذا الإنسان أن يُفسِّره لنفسه بأنه في واقع الأمر من الروحانيين في عالم جسماني. أما من هم في قمة السلم فهم في واقع الأمر الجسمانيون أو النفسانيون على أحسن تقدير، وهو سلم سيُقلب رأساً على عقب حين يعود الإنسان العارف لأصله الروحاني ويشغل قمة الهرم، وبذا يحل محل النخبة اليونانية/الرومانية.أما الجسمانيون أو النفسانيون فهم كالقشرة أو المحارة سيُنبذون أو يحتلون مكانهم في أدنى درجات السلم.

وكانت الجماعات اليهودية من أكثر الجماعات تأثراً بهذه التحولات (تماماً كما حدث لها في العالم الغربي بسبب ظهور الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية والدولة القومية والرأسمالية الرشيدة والتشكيل الاستعماري الغربي). وقد كان اليهود من أكثر الجماعات انتشاراً في المدن الإغريقية، ومن المعروف أنه في المائة الأخيرة قبل الميلاد، كان عدد اليهود في الإسكندرية أكثر منهم في القدس، كما كان عدد اليهود خارج فلسطين أكثر منهم في داخلها. وقد اندمج اليهود في الحضارة الهيلينية بشكل سريع، وفقدت أعداد كبيرة منهم هويتها، وأصبحت النخبة الاقتصادية بينهم من كبار ملاك الأراضي ومحـصلي الضـرائب والكهنة مُسـتوعَبين في النسق الحضـاري الهيليني. وقد تُرجم العهد القديم إلى اليونانية، إذ أن أعضاء الجماعة اليهودية في الإسكندرية نسوا العبرية، وقام مفكرون مثل فيلون بمحاولة المزاوجة بين الهيلينية والتفكير الديني اليهودي. وقد حقَّق اليهود حراكاً اجتماعياً هائلاً، فكان منهم الجنود والشرطة وقادة الجيش وجامعو الضرائب وكبار التجار. ثم جاءت الدولة الرومانية لتحطم الهيكل، مركز العبرانيين الثقافي والديني، وهي تجربة جاءت بعد التهجير إلى بابل بعد هزائم متكررة لحقت بالشعب المختار. وقد حقَّقت قلة من اليهود، وخصوصاً العناصر المتأغرقة، مزيداً من الحراك (مثل تايبيريوس يوليوس ألكسندر، ابن عم الفيلسوف فيلون وأحد القادة العسكريين في حملة تيتوس لتحطيم الهيكل). وتحوَّل بعضهم من جماعة وظيفية قتالية إلى جماعة وظيفية تجارية. أما غالبية أعضاء الجماعات اليهودية، فوجدوا أنفسهم في عزلة بعد أن فقدوا هويتهم وعلاقتهم بفلسطين، ووجدوا أنفسهم في حالة صراع مع الأرستقراطية اليونانية إذ آثر الرومان التعامل مع اليونانيين على التعامل مع أعضاء الجماعات اليهودية. وقد كان على كثير من يهود الإسكندرية وفلسطين وغيرهما من البلاد التي تدور في الفلك الروماني أن يتخلوا عن دينهم وأن يقطعوا علاقتهم بالجماعة اليهودية إن أرادوا الحصول على المواطنة لتحقيق الحراك (وهذا ما فعله تايبيريوس). بل إن هذا البديل أصبح في حدّ ذاته غير ممكن لكثير من اليهود إذ أن الأرستقراطية اليونانية واليهودية المتأغرقة ما كانت لتقبلهم حتى لو تخلوا عن دينهم، ولذا وجد هؤلاء أنفسهم وقد صُنِّفوا يهوداً مع أن هويتهم اليهودية ضعيفة جداً. ومع هذا، كانت هذه الهوية المزعومة الضعيفة الواهية هي التي تجذبهم نحو القاع. وقد حدثت الأزمة في وقت كانت فيه اليهودية نفسها في حالة أزمة وانقسام، وتصاعدت التوقعات المشيحانية كما هو واضح في كتب الرؤى (أبوكاليبس)، الأمر الذي جعل هؤلاء اليهود يفقدون صبرهم ويودون أن تأتي لحظة الخلاص حيث تتحطم الحدود والسدود والقيود. وقد كان هناك عدد من الفرق اليهودية التي تختلف الواحدة عن الأخرى، من أهمها الجماعات المشيحانية مثل الأسينيين والغيورين وحملة الخناجر. ولكل هذا، فإننا نجد أن الغنوصية (التي تشكل اليهودية رافداً أساسياً فيها) قدمت الحلول الجذرية لأعضاء الجماعات اليهودية من المندمجين في الحضارة اليونانية الرومانية المغتربين عنها. لقد قدمت لهم نسقاً أسطورياً معادياً لليهودية، رافضاً لها، يعدهم بالتحرر منها ومن الرومان في الوقت نفسه. فالغنوصية رفض للمادة من حيث هي قيد، والمادة بالنسبة إليهم هي أولاً عالم التفاوت الاجتماعي والقهر الروماني الذي يحول بينهم وبين الحراك الذي يطمحون إليه. أما الإله الصانع وحكام السماوات والأرض (أركون)، فهم الحكام الرومان وجنودهم والنخبة اليونانية الحاكمة التي تضع العراقيل في طريقهم. ولكن الإله الصانع هو أيضاً إله يسرائيل الذي خلق المادة أو صاغها في صورتها الكريهة والذي أرسل شريعته ليثقل بها كاهل اليهود ويحول دون دخولهم إلى العالم الروماني. وحسب بعض المنظومات الغنوصية، فإن شريعة موسى هي شريعة العامة (الجسمانيين والنفسانيين). ومع هذا، فإنها تحوي داخلها الغنوص اللازم والذي ظهر في العهد الجديد. ولذا، كان هؤلاء يرفضون العهد القديم تماماً أو كانوا يفسرونه تفسيراً يجعل منه تمهيداً للعهد الجديد. وفي الواقع، فإن سقوط النور في الدنيا وتبعثره وأسره، هو تبعثر اليهود وسبيهم ووجودهم في هذه المدن اليونانية المعادية، وما العالم الشرير والزمان الردئ سوى عالم الرومان وزمانهم، ولكنه هو أيضاً عالم يهوه وتاريخه الملئ بالكوارث والتشتت والتهجير والاضطهاد.

والخلفية الثقافية للغنوصية مرتبطة تماماً بالخلفية التاريخية، وهي الأخرى تلقي الضوء الكاشف على بنيتها الأسطورية الفكرية. وكما أسلفنا، سيطرت الإمبراطورية الفارسية على المنطقة ردحاً من الزمان، ونشرت ديانتها الثنوية فيها. ثم جاء غزو الإسكندر للمنطقة، وانتشرت الثقافة الهيلينية، فمزجت الأفكار والعقائد الوثنية وديانات الأسرار المختلفة بالفلسفات والعقائد اليونانية. وبعد ذلك، ظهرت المرحلة الرومانية التي أسقطت الحدود القومية وشجعت التبادل بين الشعوب في الشرق والغرب.

نبعت الغنوصية من هذه التشكيلة الفريدة، فضمت بقايا العبادات والديانات الوثنية القديمة وأديان الأسرار، ووضعتها في إطار واحد، وفرضت عليها مقولات الفكر اليوناني الفلسفي ومصطلحه (ومن هنا نجد أن الفكر الغنوصي يتسم بأنه تفكير أسطوري بدائي مُختلط بفكر فلسفي مجرد). ومن أهم جذور الغنوصية عبادة بابل التي طرحت فكرة السماوات المختلفة التي يتحكم في كل واحدة منها كوكب، كما طرحت فكرة أن العالم مكوَّن من دوائر مركزها الأرض. ومن مصادر الغنوصية الأخرى، العبادات الفارسية بثنويتها الكاملة المتمثلة في الصراع الدائر بين أورمازد إله الخير والنور، وأهريمان إله الشر والظلام. كما دخلت بعض المفاهيم من العبادات المصرية القديمة، مثل تأليه الإنسان والعنصر الجنسي في عملية الخلق. وامتزج بكل هذا عناصر من الفكر الإغريقي الذي كان ينطـوي على الإيمـان بأن ثمـة حكمة خفية في الأساطير الشرقية. وقد تبنَّى بعض الفلاسفة اليونانيين (الرواقيون مثلاً) أفكاراً من العبادات الشرقية، كما أن عبادات الأسرار (مثل عبادة إيزيس) وجدت طريقها إلى اليونان. وقد قامت الأفلاطونية المحدَثة بالتفرقة وبحدة بين الإله الواحد المتسامي وبين الإله الصانع المادي (ديمي إيرج Demiurge)، وجعلت معرفة الإله الواحد معرفة باطنية غنوصية. ومن أهم مصادر الغنوصية التراث الديني اليهودي (انظر: «الغنوصية واليهودية»).

ويذهب بعض دارسي الغنوصية إلى أن تعددية المصادر وانعدام التجانس هو سمة أساسية فيها، فهي قادرة على استيعاب أي عنصر في الديانات الأخرى إن كان يدعم وجهة نظرها العدمية الشاملة التي تهدم كل الحدود ولا تفرق بين الأنساق التاريخية والدينية والفلسفية المختلفة. ورغم تنوع المنظومات الغنوصية، إلا أن ثمة بنية واحدة كامنة تبرر الحديث عن منظومة غنوصية معرفية وأخلاقية واحدة.

وتتسم الغنوصية، مثل كثير من الحركات الباطنية والحلولية، بأنها سريعة الانقسام وذلك بسبب مركزية الزعيم أو القائد فيها، إذ عادةً ما يتأله ويتحول إلى لوجوس أو مطلق أو تجسُّد للإله في الأرض تدور حوله الجماعة. ولأن المطلق لا يمكن أن يتعايش مع مطلق آخر، لذا يحدث الانقسام.

ومن أهم الشخصيات الغنوصية شمعون ماجوس، أي سيمون الساحر (عاش في القرن الأول الميلادي)، الذي يُشار إليه دائماً بأنه أول الغنوصيين. كان من السامريين، وعاش في زمن الحشمونيين. وقد عثر سيمون على عاهرة تسمَّى هَـيّلانه في إحدى الحانات، فأعلن أنها صوفيا التي جاءت لإنقاذ العالم وتزوجها وأعلن نفسه المخلّص وآمن بمقدرة السحر على التحكم في العالم. ويبدو أن أتباعه كانوا يقومون بطقوس ذات طابع جنسي، ترخيصي (تأليه الكون). ثم جاء بعده ساتورنيوس من أنطاكية الذي أعاد تفسير قصة المسيح بحيث أعطاها مضموناً رهبانياً ينكر الجنس تماماً (إنكار الكون).

أما أعظم الغنوصيين فكان فالنتينوس، ورغم اسمه اللاتينيّ إلا أنه كان من أصل يوناني وُلد في دلتا مصر عام 100 ميلادية وتلقى تعليمه في الإسكندرية. ولم ينفصل هو وأتباعه عن الكنيسة في الإسكندرية، بل أسسوا أكاديمية للبحث الحر. وقد تبع هذه الأكاديمية شبكة من الجماعات المحلية داخل إطار المؤسسة الدينية، وكان فالنتينوس مشهوراً ببلاغته وعبقريته. وقد رأى فالنتينوس في المنام ـ حسب ما قال ـ رؤيا مأساوية، إذ رأى الجزء الذي يصدر عن الكل، هذا الجزء هو ما يشكل أساس الوجود ويُسمَّى «الأعماق»، كما رأى زوجته التي تُسمَّى «الرحمة» أو «السكون». ومن خلال زواجهما يولد المسيح أو اللوجوس الذي تعتمد عليه كل الأيونات. ومن خلال المسيح، أدرك فالنتينوس الكل (بليروما) وذوبان الذات في الكل.

وكان هناك أيضاً مرقيون، وهو من مُلاَّك السفن الأثرياء من مقاطعة بونتوس على البحر الأسود. لم يفهم مرقيون سوى فكرة واحدة هي أن الإله، أو المسيح، لم يكن يهوه إله العبرانيين، فهذا هو الإله الصانع. وقد كان مرقيون يقتبس دائماً خطاب بطرس إلى أهل غلاطيا ويبيِّن الفرق بين قانون العهد القديم وقانون العهد الجديد. فمسألة حب الإله غير المشروط للإنسان، التي وردت في إنجيل بطرس، مسألة اكتسحت مرقيـون تماماً، فأسَّس كنيسة (مسيحية) منافسة للكنيسة القائمة حينذاك. ومن أهم المفكرين الغنوصيين باسيليديس الذي كان قائد مدرسة نشيطاً في الإسكندرية في زمن الإمبراطور هادريان (في بداية القرن الثاني الميلادي) ويبدو أنه كان يهودياً متأغرقاً رفض فكرة الإله الشخصي وتبنَّى فكرة الإله الخفي وذهب إلى أن المسيح أصبح روحانياً عند تعميده في نهر الأردن (لا عند ميلاده). (وقد ظل باسيليديس عضواً في الكنيسة ولم يُطرَد منها قط، وهذا مما يبين غموض الموقف المسيحي من الغنوصية).

وأهم دعاة الغنوصية ماني صاحب المذهب المانوي الذي وُلد في فارس (216 ـ 277) ونشأ في مدينة مسيحية يهودية، وتتسم منظومته بالثنائية الحادة، ربما بسبب أصلها الفارسي. وقد كان القديس أوغسطين (354 ـ 430)، في بداية حياته، من أتباع ماني، وكتب بعض مؤلفاته أثناء هذه المرحلة. وأهم الوثائق الغنوصية هي نصوص نجع حمادي حيث كانت مصر مركزاً للتفكير الغنوصي. وللغنوصيين كتب مقدَّسة، من بينها: أبوكريفون جون (أي كتاب جون الخفي)، وإنجيل توماس (الذي عُثر عليه في مصر)، وإنجيل فيليب، وإنجيل مريم المجدلية.

وبعد القضاء على الهرطقة الغنوصية على يد الكنيسة، وبعد موت قيادتها، استمرت الغنوصية على هيئة حركات دينية خارج الديانات التوحيدية وأحياناً داخلها. ويمكن القول بأن منظومة عبد الله بن سبأ هي منظومة غنوصية. ويرى المؤرخون أن التصوف الإسلامي الحلولي المتطرف ذو طابع غنوصي، كما يُصنَّف بعض غلاة الشيعة ضمن الغنوصيين، ويُصنَّف العلويون (النصيريون) باعتبارهم جماعة إسلامية ذات توجُّه غنوصي. ويمكن تصنيف عقيدة الدروز والبهائية ضمن أشكال الغنوص. ولا تزال هناك فرقة دينية في العراق وإيران تُسمَّى المندائيين وهي فرقة غنوصية يبلغ عدد أفرادها خمسة عشر ألفاً، («مندائي» هي الكلمة الآرامية لـ «غنوص» فالمندائي هو العارف وهي من كلمة «منداء» أو «منداع» بمعنى «معرفة») وتتضمن عقيدتهم التطهر في المياه الجارية وشعائر جنائزية مركبة. فحينما يموت المندائي، يقوم الكاهن بالشعائر اللازمة لإعادة الروح لمسكنها الإلهي حيث ستتلقى جسداً روحياً جديداً، وبهذه الطريقة يتوحد الميت مرة أخرى مع آدم السري (الإنسان الأزلي)، أو المجد، جسد الإله المقدَّس.

وقد ظهرت جماعات غنوصية داخل المسيحية، مثل جماعات الكاثاري التي ازدهرت بين القرنين الثالث والحادي عشر في أرمينيا وآسيا الصغرى وشبه جزيرة البلقان ومنها انتشرت إلى غرب أوربا وخصوصاً جنوب فرنسا (الهرطقة الألبيجينية وغيرها). ويُقال إن فرسان الهيكل كانوا أيضاً جماعة غنوصية، وأن المنشدين الذين يُطلَق عليهم لفظ «تروبادور»، الذين تغنوا (تأثراً بالعرب) بالحب العذري الذي تحوَّل إلى عبادة العذراء، قد تبنوا رؤية غنوصية للواقع. أما في شرق أوربا (في بلغاريا وشبه جزيرة البلقان ويوغسلافيا)، فقد ظهرت جماعة البوجوميل (أصدقاء الإله). ويُقال إن مسلمي البوسنة والهرسك كانوا من أصول غنوصية، فكأن الغنوصية هنا كانتالأرضية الفلسفية التي رفضوا على أساسها المسيحية وأصبحوا هامشيين بالنسبة لها، ولذا كان من السهل دخولهم في الإسلام مع وصول العثمانيين.

وقد تغلغلت الغنوصية في اليهودية وهيمنت عليها تماماً في القرن الرابع عشر بظهور القبَّالاه، وخصوصاً اللوريانية، وهي منظومة غنوصية متطرفة (انظر: «الغنوصية والقبَّالاه»).

ومن منظور هذه الموسوعة، فإن من أهم الجماعات الغنوصية جماعات المنشقين (بالروسية: راسكول) الذين تركوا الكنيسة الروسية الأرثوذكسية وكان معظمهم من عناصر فلاحية روسية. وكان الريف الروسي وثنياً إلى حدٍّ كبير (حيث دخلته المسيحية في وقت متأخر نوعاً). ولذا، ظهرت جماعات منشقة عديدة، كانت غنوصية متطرفة رغم استخدامها المصطلحات المسيحية. كان من بينهم جماعة الخليستي، أي من يضربون أنفسهم بالسياط (كان منهم راسبوتين)، والجريشنيكي الذين كانوا يؤمنون بالخلاص من خلال ارتكاب الرذائل والموبقات (تأليه الكون)، والبيزجلوفنسكي الذين كانوا يلزمون الصمت لمدد طويلة. ومن أهم هذه الجماعات الدوخوبور (ومنهم مدام بلافاتسكي التي كان يتردد عليها كثير من رواد حركة الحداثة في الفن والأدب) وهي مؤسسة الجماعة الثيوصوفية في لندن (ماتت 1891). وكان هناك السكوبتسي، المخصيون، الذين كانوا يعبِّرون عن إيمانهم بالخالق بخصي أنفسهم (إنكار الكون). وقد تأثرت الحسيدية بهذه الجماعات الغنوصية، وخصوصاً الخليستي.

وقد تمتعت الغنوصية بحركة بعث جديدة حين بدأ الإنسان الغربي مشروعه التحديثي، ونحن نذهب إلى أن ثمة علاقة قوية بين الغنوصية والمشروع التحديثي التنويري العلماني الغربي (انظر: «الغنوصية والتحديث»).

الصفحة التالية ß إضغط هنا