المجلد الثانى: الجماعات اليهودية.. إشكاليات 15

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

فمن المعروف أن الفترة ما بين عامي 1967 و 1982 شهدت تَناقُص عدد يهود العالم مليوناً، فانخفض من 13.837.500 إلى 12.988.600، دون حدوث إبادة بل دون حالة حرب أو أوبئة. وقد تناقص عددهم لمركب من الأسباب أدَّى إلى ما يُسمَّى «موت الشعب اليهودي». ومن الواضح أن يهود أوربا، أي أغلبية يهود العالم آنذاك، بدأوا يدخلون في مرحلة التناقص ابتداءً من القرن العشرين، للأسباب التالية:

1 ـ أسباب تؤدي إلى العزوف عن الإنجاب وإلى تناقص الخصوبة ومعدلات التكاثر:

أ ) أدَّت الهجرة اليهودية الكبرى في نهاية القرن التاسع عشر إلى انتقال أعداد كبيرة من اليهود إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ويُقال إن هجرة اليهود قضت تقريباً على اليهود في المرحلة العمرية من عشرين إلى أربعين عاماً، وهي مرحلة الخصوبة التي تجعل بإمكان الجماعة أن تُعيد إنتاج نفسها.

ب) كان أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب يضطلعون بدور الجماعة الوظيفية الوسيطة، أي بأعمال التجارة والمال. وكانوا، لهذا، مركزين إما في المدن أو المناطق شبه الحضرية. ومع منتصف القرن التاسع عشر، تصاعد هذا الاتجاه وتزايد تركزهم في المدن بحيث أصبحت أغلبيتهم الساحقة تسكن في المدن عشية الحرب العالمية الثانية، فقد كان ثلث يهود روسيا يوجدون في خمس مدن وبقيتهم تعيش في مدن صغيرة. وكان أربعة وثمانون في المائة من يهود الولايات المتحدة يعيشون في ثمانيعشرة مدينة كبيرة ونصفهم في نيويورك. كما كان معظم يهود النمسا في فيينا، ومعظم يهود فرنسا في باريس، وهكذا. ومن المعروف أن سكان المدن من أقل القطاعات البشرية خصوبة.

جـ) كان اليهود، حتى عشية الحرب العالمية الثانية، جماعة بشرية مهاجرة، ومن المعروف أن أعضاء مثل هذه الجماعات يعزفون عن الإنجاب لعدم استقرارهم.

د ) كانت هناك عناصر أخرى أدَّت إلى عزوف اليهود عن الإنجاب، من بينها تحسن مستواهم المعيشي، والقلق الذي كان يعيشه أعضاء الجماعات اليهودية في الفترة بينالحربين وإبَّان الحرب العالمية الثانية، وكذلك تزايد معـدلات العلـمنة وبالتالي زيادة التوجه نحو اللذة وتحقيق الذات، الأمر الذي يقوض من الرغبة في إنجاب الأطفال.

وبالفعل، يُلاحَظ تناقص أعداد اليهود وضمنهم يهود اليديشية. فبعد أن كانوا يتمتعون بأعلى نسبة خصوبة وتَكاثُر بين شعوب الإمبراطورية القيصرية في منتصف القرنالتاسع عشر، انخفضت النسبة إلى أقل النسب على الإطلاق في عام 1926. فبعد أن كانت 35.9 في الألف، انخفضت إلى 24.8 في الألف. وفي بولندا، انخفضت النسبة من 28.6 في الألف عام 1900 إلى 12.3 في الألف عام 1925 في وارسو، وإلى 11.6 في الألف في لودز عام 1925. أما يهود المجر، فقد انخفضت النسبة بينهم من 33.91 في الألف في بداية القرن الحالي إلى 10.5 في الألف، أي أنها انخفضت نحو 23.4 في الألف. وكانت نسبة المواليد في بروسيا (ألمانيا) 5.2 في الألف عام 1935 و2 في الألف في لندن عام 1932. وقد حدا هذا الوضع بالكُتَّاب اليهود إلى التحذير من أن يهود أوربا قد يختفون تماماً لأن معدلات المواليد لا تعوض الوفيات. وعلى مستوى العالم، كانت النسبة 5.53 في الألف في الفترة 1822 ـ 1840، انخفضت إلى 19.7 في الألف في الفترة 1898 ـ 1902، ثم إلى 9.1 في الألف عام 1929. كما أنها انخفضت إلى ما دون ذلك لمدة عشرين عاماً (1929 ـ 1949). وكان معدل نسبة المواليد في الفترة 1906 ـ 1910 هو 32 في الألف، ونسبة الوفيات 15 في الألف، والزيادة الطبيعية هي 17 في الألف. ثم انخفضت إلى نحو النصف في نحو خمسة وعشرين عاماً، ففي الفترة 1926 ـ 1930 كانت نسبة المواليد هي 21في الألف والوفيات 12 في الألف، والزيادة الطبيعية 9 في الألف (انخفضت إلى 8 في الألف عام 1932). ولا توجد إحصاءات عن الفترة 1935 ـ 1949 لأنها كانت فترة الحرب، كما أنها أصبحت موضوعاً يحجم كثير من الباحثين عن الخوض فيه.

2 ـ عوامل تؤدي إلى الاختفاء:

أ ) ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر كان يتم تجنيد أعضاء الجماعات اليهودية، وهو أمر جديد كل الجدة، إذ كانوا يتمتعون بالإعفاء من الخدمة العسكرية قبل ذلك، كما سقط منهم ضحايا بأعداد كبيرة في الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية. لكن هذا العنصر لا يؤدي إلى انقاص عدد اليهود مباشرة عن طريق سقوطهم قتلى وحسب وإنما بشكل غير مباشر أيضاً عن طريق زيادة معدل العزوف عن الإنجاب. كما أن العناصر القادرة على القتال هي عادةً من الذكور في سن الخصوبة.

ب) تزايد نسبة الزواج المُختلَط بدرجة عالية كانت تصل إلى أكثر من 50% في بعض العواصم الأوربية.

جـ) تَنصُّر أعداد كبيرة من اليهود، وهو شكل من الأشكال الحادة للاندماج. وقد تزايد المعدل عشية الحرب العالمية الثانية لأسباب عملية منها الهرب من بطش النازي. كما حصل كثير من اليهود على شهادات تعميد من الكنيسة الكاثوليكية حتى يتيسر لهم دخول أمريكا اللاتينية. وآثرت أعداد كبيرة منهم عدم الإفصاح عن هويتهم اليهودية حتى بعد زوال الخطر.

د ) ينطبق الشيء نفسه على مئات الألوف من الذين هاجروا إلى روسيا السوفيتية هرباً من النازي.فكثير منهم لم يفصح عن انتمائه اليهودي،خصوصاً وأن الاتحاد السوفيتي (سابقاً) كان يترك لكل شخص أن يحدد انتـماءه، فلو كان الشـخص يهودياً وعرَّف نفسه بأنه «روسي» أو «أوكراني» فإن الأمر متروك له. ومع تآكل الهوية اليهودية،لم يعد هناك دافع قوي لدى كثير من اليهود للإفصاح عن هويتهم.

وقد أشار عالم الاجتماع اليهودي لوريا أنجلمان، عشية الحرب العالمية الثانية، إلى ما سماه «العملية ذات الأبعاد الثلاثة» (تناقص المواليد، وتزايد الوفيات، وتزايد معدلات الاندماج) باعتبارها العملية التي ستؤدي إلى الاختفاء الكامل لليهود.

3 ـ ظروف الحرب العالمية الثانية:

لابد أن نضيف إلى كل ذلك ظروف الحرب العالمية الثانية التي صعَّدت من كل العناصر السابقة وزادتها حدة، ولابد أن نأخذ في الاعتبار انتشار الأوبئة وسوء التغذية في نفس الفترة. كما ينبغي الإشـارة إلى بعـض طرق الإبادة البطيئة غير أفـران الغاز، مثل أعمال السخرة وعزل اليهود في الجيتو بمناطق مستقلة مزدحمة يعملون ويعيشون فيها تحت حد الكفاف، وهو ما كان يعني المزيد من الجوع والمرض. ويُقال إن نحو ثلث سكان جيتو وارسو قضوا نحبهم بهذه الطريقة، وإنه كان من المتوقع لهم جميعاً أن يُبادوا تماماً خلال عدة أعوام. (وهذا العنصر هو ولا شك عملية إبادة، إذ لا يهم أن يموت الضحية بأفران الغاز أو عن طريق التجويع. ولكننا نذكر هذا العنصر أيضاً حتىتكتمل الصورة لدينا). كما هلك الآلاف بسبب حالة الحرب ابتداءً من عدم توفر الرعاية الصحية، وانتهاءً بالغارات على المدن، مروراً بأحكام الإعدام التي كان النازيونيصدرونها على اليهود وغيرهم.

وإذا أخذنا في الاعتبار كل هذه العناصر يصبح من الصعب أن نعزو اختفاء الستة ملايين يهودي (أو حتى الأربعة ملايين حسب بعض الإحصاءات) إلى أفران الغاز وحدها أو عمليات الإبادة كتصفية جسدية متعمدة فحسب.

إشكــــالية ملاحقــــة مجــــرمي الحــــرب النازيـــين

The Problematic of Hunting down Nazi War Criminals

تقوم إسرائيل بتعقب مجرمي الحرب النازيين بروح انتقامية مفترسة لا يمكن أن توصف إلا بالتطرف، خصوصاً أن الحرب انتهت منذ حوالي خمسين عاماً، أي أن الغالبية الساحقة للشعب الألماني كانوا أطفالاً أثناء الحرب أو لم يكونوا قد وُلدوا بعد. كما أن المحاكمات التي أجراها الحلفاء، والتي تمت بمنهجية وشمولية كاملتين، عاقبت الغالبية الساحقة من مجرمي الحرب النازيين والمتعاونين مع النظام النازي. ومع هذا تستمر عمليات الملاحقة والمحاكمة (كما حـدث مع أدولف أيخمان وكـلاوس باربي وكـورت فالـدهايم وجون ديمانجوك).

وتهدف المطاردة المستمرة لمجرمي الحرب النازيين إلى تعميق الإحساس الغربي بالذنب تجاه اليهود وتذكير الشعب الألماني، والشعوب التي قاتلت إلى جانب ألمانيا،بمسئوليتها عن هذه الإبادة وإظهار الإبادة كما لو كانت موجهة ضد اليهود وحسب، وتوظيف هذا الشعور في إضفاء شرعية على الوجود الصهيوني في فلسطين. كما تأتي في سياق السعي إلى تعميق إحساس أعضاء الجماعات اليهودية بهويتهم اليهودية وبالمصير اليهودي المشترك، خصوصاً مع تزايد معدلات الاندماج وتآكل الجانب الديني للهوية اليهودية بين أعضاء الجماعات اليهودية في الدول الأوربية والغربية الحديثة. ومن هنا تأتي ضرورة إحياء ذكرى الإبادة بصفة مستمرة عن طريق عمليات المطاردة للنازيين القدامى وتقديمهم إلى المحاكمة في ظل متابعة إعلامية كثيفة. بالإضافة إلى أن التذكير والتلويح بخطر الإبادة قد يدفع أعضاء الجمـاعات اليهـودية إلى الهجــرة إلى إسرائيل.

وقد نجحت إسرائيل عام 1979 في إلغاء مبدأ تقادم جرائم مجرمي الحرب في ألمانيا الغربية، ولكنها اعتقلت آلافاً منهم مع أن نسبة إدانتهم في النهاية كانت تتراوح بين تسعة في المائة عام 1964 وواحد ونصف في المائة عام 1976. ففي عام 1972، مثلاً، اعتُقل ستة عشر شـخصاً بشبهة أنهم مارتن بورمان (نائب هتلر)، ثم ثبتت براءتهم جميعاً. وتحت الضغط اليومي المكثف، أنشأت وزارة العدل الأمريكية عام 1980 مكتباً للتحقيق مع مئات الأمريكيين من مجرمي الحرب، ولكنها لم تُوفَّق كثيراً في التوصل إليهم.

وفي كندا، صرح كثير من الصهاينة بوجود ما لا يقل عن ستة آلاف من مجرمي الحرب، فأُسِّـست في أوائل عام 1985 لجنـة للبحث عـن مجرمي الحرب (لجنة ديشين Deschênes Commission) وقُدِّم لها 2114 اسماً. كما قدَّم سيمون ويزنتال، المتخصص في تعقب مجرمي الحرب، قائمة من 217 اسماً زعم أنهم أعضاء في فرق الإس. إس. من أوكرانيا وعملوا في جاليشيا. وقد استغرق عمل اللجنة سنتين ثم قدمت تقريرها في ديسمبر 1986، وتبين أن هناك عشرين اسماً فقط، من بين 2114 اسماً، أوصت اللجنة إما بمحاكمتهم أو بترحيلهم. أما قائمة ويزنتال، فقد ظهر أن 187 منهم لم يدخلوا كندا قط. ومن الثلاثين الباقين، حضر اثنان بالفعل إلى كندا ثم غادراها، ومات أحد عشر شخصاً، بينما كان هناك ستة عشر شخصـاً لــم يثبت أي شــيء ضدهم. أما المتهم الوحيد البـاقي، فلـم يمكن الاسـتدلال عليه. وقد طلبت اللجـنة مـن ويزنتال أن يزودها بمزيد من الأسـماء، ولكنـه لم يتمكن من ذلك. وهو أمر متوقع بعد أن قام الحلفاء بعملية « نزع الصبغة النازية عن ألمانيا ».

وقد بدأ كثيرون يُعبِّرون عن ضيقهم من عملية الملاحقة. فقد ذكرت صحيفة التايمز البريطانية في عام 1972 أن ثمة دلائل متزايدة على أن الرأي العام صار ضد تعقب الشيوخ بدعوى أنهم مجرمون نازيون. وأشارت جريدة ديلي تلغراف البريطانية إلى أن حراس السجون والكثير من الناس في ألمانيا نفسها يتساءلون عن الحكمة في استمرار محاكمات جرائم النازية بعد مرور كل هذه السنوات على انتهاء الحرب. وعندما زار الكاتب الألماني جونتر جراس إسرائيل عام 1971 صارح شعبها بأنه لا يحب عقلية التـوراة التي تقـول إن على الجيلين الثاني والثالث أن يحملا وزر جيل سبقهما.

وتُعدُّ محاكمة أيخمان وكلاوس باربي وديمانجوك وحادثة فالدهايم نموذجاً لعمليات الملاحقة التي تقوم بها إسرائيل، بكل ما تنطوي عليه من دلالات.

محاكمة أيخـمـان

Eichmann Trial

أدولف أتو أيخمان (1906 ـ 1962) مسئول نازي وضابط في فرق العاصفة، ومن أهم الشخصيات في عملية الإبادة النازية ليهود أوربا. وُلد في ألمانيا لأسرة متواضعة هاجرت إلى النمسا حيث تلقى تعليمه. عمل بائعاً متجولاً ممثلاً لشركة سوكوني فاكوم من عام 1928 وحتى 1933. انضم أيخمان للحزب النازي في عام 1932، وبدأ منذ عام 1934 يعمل في قسم اليهود بالمخابرات الألمانية، حيث أُرسل إلى فلسـطين بدعـوة من المستوطنين الصهاينة ليدرس التجربة الصهيونية هناك. فبدأ يدرس اليديشية والعبرية والعقيدة اليهودية، وبحلول عام 1938 أصبح حجة في مسألة التنظيمات الصهيونية والهجرة اليهودية، فأرسله النظام النازي إلى النمسا ليساعد في عملية تهجير أعضاء الجماعة اليهودية. وقد أظهر أيخمان كفاءة غير عادية إذ استخدم أسلوب خطوط التجميع، المستخدم في المصانع، لتسهيل العمل. وبعـد عـودته إلى برلين عام 1939، عُيِّن مـديراً لمركز الرايخ للهجرة اليهودية، ثم عُيِّن فيما بعد رئيساً لقسم الشئون اليهودية في الجستابو حيث قام بالإشراف على عملية نقل اليهود إلى معسكرات الاعتقال.

قُبض على أيخمان بعد الحرب، ولكن لم تُكتشف هويته الحقيقيـة، ففر إلى الأرجنتـين عـام 1945 واختبـأ فيها إلى أن عـثر عليه عمـلاء المخـابرات الإسـرائيليـة عام 1960. وسـاهم في عملية اكتشــاف شـخصية أيخمـان فـي الأرجنـتين المدعي العام في ألمانيا الغربية، الذي وضع المعلومات التي حصل عليها تحت تصرف المخابرات الإسرائيلية، فأوفدت إسرائيل مجموعة من رجال مخابراتها إلى بيونس أيريس حيث تحققت من شخصية أيخمان، وتم اختطافه ونقله بعد عشرة أيام مخدَّراً متخفياً في زي مضيف جوي على متن طائرة إسرائيلية كانت قد جاءت إلى الأرجنتين تحت ستار نقل وفد إسرائيلي رسمي للاشتراك في احتفال الأرجنتين بالذكرى المائة والخمسين لاستقلالها.

وبدأت محاكمة أيخمان في 11 أبريل عام 1961 بالقدس المحتلة، حيث وجه إليه المدعي العام الإسرائيلي جدعون هاوزنر تهمة المشاركة في إبادة يهود أوربا،وتولى الدكتور روبرت سرفاتيوس،الذي تخصص في الدفاع عن مجرمي الحرب النازيين،مهمة الدفاع عن أيخمان.

ولم يُنكر أيخمان أو محاميه أياً من الاتهامات الموجهة إليه، ولكنهما ركزا دفاعهما أساساً على أن أيخمان لم يكن سوى موظف في مؤسسة حديثة ضخمة يقوم بتنفيذ الأوامر التي يصدرها إليه رؤساؤه كما كان يُفترض فيه أن يفعل، ولذا فهو مجرد بيروقراطي منفذ للإجراءات دون أن يسأل عن الأهداف، وبالتالي يجب أن يُحاكم على مدى كفاءته أو عدم كفاءته في تنفيذ الأوامر لا على مدى تقييمه الأخلاقي لهذه الأهداف، أي أن أيخمان طالب بأن يُنظر إليه باعتباره إنساناً حديثاً أداتياً يهتم بالإجراءات ويدين بالولاء للمؤسسة التي يعمل فيها ولا يكترث بالقضايا الأخلاقية النهائية. ولكن المحكمة رفضت دفعه، وحكمت عليه بالإعدام.

وكان بن جوريون، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، يهدف من وراء المحاكمة إلى زيادة الوعي اليهودي بين أعضاء التجمع الاستيطاني وأعضاء الجماعات اليهودية فيالعالم عن طريق تعميق الإحساس بأنهم الضحية الوحيدة وأن الآخرين أو الأغيار (ممثلين في النازيين) لا تأخذهم الرحمة باليهود. ومع هذا، فجرت المحاكمة عدة قضايا لم يكن من أعدوا لها قد انتبهوا إليها:

1 ـ بيَّن أيخمان أن الرؤية الصهيونية لليهود لا تختلف كثيراً عن رؤيته هو، فكلاهما يؤمن بضرورة تهجير اليهود باعتبارهم شعباً عضوياً منبوذاً إلى أرض خاصة بهم، كما أشار أيخمان إلى أن المسئولين طلبوا منه، عند تعيينه في وظيفته، أن يقرأ كتاب هرتزل دولة اليهود، وأنه تأثر به أيما تأثر، وأنه، في هذا، لا يختلف كثيراً عن الزعماء النازيين الذين تأثروا بالفكر الصهيوني وخصوصاً بوبر.

2 ـ أشار أيخمان إلى التعاون بين السلطات النازية والصهاينة، خصوصاً رودولف كاستنر وجويل براند، وأوضح أنه كانت هناك صفقة هُجِّر بموجبها بضعة يهود « من خيرة العناصر البيولوجية » إلى المستوطَن الصهيوني. كما أُرسلت كميات من البضائع إلى هناك في نظير أن تضـمن القيادات الصهيونية هدوء اليهود المرحلين إلى معسـكرات الاعتقال.

3 ـ أثار سلوك الضحايا اليهود كثيراً من الدهشة، حيث لاقوا حتفهم دون مقاومة، ولعلهـم لو قاومـوا لعطلوا آلة الحرب النازية التي كانت مرهَقة. وقد نظر الجيل الجديد من أبناء المستوطن الصهيوني إلى سلوكهم هذا باعتباره سلوكاً نموذجياً ليهودي الجيتو الضعيف (مقابل العبراني الجديد القوي)، وبالتالي نجـم عن المحاكمة مزيد مـن الرفض ليهود العالم.

4 ـ أثناء تقديمه لعريضة الاتهام، بيَّن المدعي العام الإسرائيلي أن الشعب اليهودي تعرض للاضطهاد والطرد والملاحقة في كل البلاد عبر التاريخ. وهنا تلقف محامي الدفاع هذه الأطروحة وتساءل: ما هي طبيعة هذا الشعب الذي يجد نفسه عُرضة للطرد والملاحقة أينما كان؟ ألا يوجد احتمال أن يكون هذا الشعب مسئولاً عما يلحق به من أذى، وأنه شـعب مسـتفز يضطر كل الشـعوب في كل زمان ومكان لطرده وملاحقته؟ وقد أُصيب الحاضرون بالذهول من تساؤلات محامي الدفاع.

كما أثارت المحاكمة قضايا أخرى مختلفة مثل دور المجالس اليهودية التي شـكلها النازيـون وعيـنوا فيـها يهوداً، فكانوا أداة تنفيذية في يد النازي، بالإضافة إلى أسئلة أخرى حول دور كثير من الحاخامات الذين لم يشاركوا في تنظيم حركة المقاومة.

وقد كانت المحاكمة محط اهتمام دولي، وخصوصاً أن الدولة الصهيونية انتهكت القانون الدولي وسيادة عدة دول (الأرجنتين وألمانيا) باختطاف أيخمان الذي حُكم عليه بالإعدام، ثم أُعدم شنقاً في سجن الرملة وأُحرقت جثته ونُثر رمادها في البحر الأبيض المتوسط.

محاكمة كلاوس باربي

Klaus Barbie Trial

كلاوس باربي، الذي أُطلق عليه لقب «سفاح ليون»، هو أحد ضباط الجستابو (البوليس السري الألماني). وأُدين بارتكاب جرائم الحرب في فرنسا إبَّان الحرب العالمية الثانية. وكان باربي قد تولى عام 1942 قيادة قوات الجستابو في مدينة ليون الفرنسية، كما تولى مهمة تعقب عناصر المقاومة الفرنسية والتصدي لنشاطها. وخلال فترة عمله التي استمرت عامين، قام باربي بترحيل 842 شخصاً من ليون إلى معسكرات الاعتقال النازية، كان نصفهم من عناصر المقاومة والنصف الآخر من اليهود. كما أُدين كلاوس باربي بارتكاب عمليات التعذيب والمذابح ضد عناصر المقاومة والمدنيين في ليون والمناطق المحيطة بها.

ورغم ذلك، قامت الاستخبارات المضادة التابعة للجيش الأمريكي المتمركز في ألمانيا بتجنيد باربي للعمل لصالحها عام 1947، فتحول باربي إلى مصدر مهم وقيم للمعلومات (خصوصاً فيما يتعلق بالعناصر اليسارية والشيوعية)، وهو ما دفع المسئولين الأمريكيين إلى عدم الاستجابة للمطالب الفرنسية بتسليمه للسلطات الفرنسية. بل قاموا بتهريبه إلى بوليفيا عام 1951 حيث عاش تحت اسم مستعار هو كلاوس التمان. وقد قُدِّم باربي للمحاكمة غيابياً في فرنسا في 1952 ـ 1954 حيث أدين بارتكاب المذابح والفظائع وصدر ضده حكم بالإعدام. وفي عام 1971، نجح فرنسيان من جماعة صائدي النازيين من العثور عليه. وأثمرت مساعي فرنسا عن طرده من بوليفيا عام 1983، ثم تقديمه للمحاكمة في فرنسا عام 1987 بتهمتين لم يتم توجيههما إليه من قبل، وصدر ضده حكم بالسجن مدى الحياة.

غير أن محاكمته أثارت اهتماماً واسعاً داخل فرنسا وخارجها، حيث تخوَّف بعض أعضاء الجماعة اليهودية من أن ذلك قد يثير المشــاعر المعادية لهم أو قد تتحول المحاكمة إلى منبر لنفي الإبادة النازية. ومن ناحية أخرى، انتقد بعض الفرنسيين المحاكمة باعتبار أن الأعمال التي ارتكبها باربي لا تختلف كثيراً عما ارتكتبه قوات الحلفاء حين قتلت المدنيين العزل أثناء قصفها للمدن الألمانية.

حادثــة فالدهـايم

Waldheim Affair

أثناء حملته الانتخابية لرئاسة النمسا عام 1986، أُثيرت ضد كورت فالدهايم (الأمين العام السابق للأمم المتحدة) قضية ما يُسمَّى «ماضيه النازي». وقد تزَّعم الحملة ضده المؤتمر اليهودي العالمي الذي اتهم فالدهايم بإخفاء جوانب من ماضيه أثناء الحرب العالمية الثانية وبالكذب حين ادعى عدم ارتباطه بالنازي بأي شكل من الأشكال، مؤكداً أنه كان عضواً في اتحاد الطلبة النازي، وأنه التحق (على حد زعم المؤتمر) بإحدى وحدات قوات العاصفة، بل أُلحق في نهاية عام 1942 بالقوات الألمانية في سالونيكا والتي تولَّت ترحيل اليهود من اليونان إلى معسكرات الاعتقال وقامت بعمليات عسكرية وحشية ضد المقاومة اليوغسلافية ومؤيديها من المدنيين. وفي إطار حملته المكثفة ضد فالدهايم، كشف المؤتمر اليهودي العالمي النقاب عن بعض الوثائق التي ادعى أنها تؤكد إدانة فالدهايم ومن أهمها ملف «أودلو كانمر» (أو القرار) اليوغسلافي الذي ضم قائمة بأسماء الأشخاص الذين كانت السلطات اليوغسلافية تشتبه في تورطهم في ارتكاب جرائم الحرب وكان من بينها اسم فالدهايم. واستناداً إلى هذا الملف، تم ضم اسم فالدهايم إلى ملف لجنة الامم المتحدة لجرائم الحرب. كما قام المؤتمر بإسناد مهمة البحث في ماضي فالدهايم إلى عَالم في التاريخ أشارت نتائج بحثه إلى أن فالدهايم عمل ضابطاً في قسم الاستخبارات العسكرية للجيش المتمركز في غرب البوسنة والذي كانت قواته مسئولة عن ارتكاب المذابح ضد آلاف اليوغسلاف في جبال كوزارا عام 1942، وأن فالدهايم حصل على نوط الشجاعة من الحكومة الكرواتية الموالية لألمانيا في هذه الفترة. وفي ضوء هذه النتائج، حث المؤتمر اليهودي العالمي الحكومةالأمريكية على وضع كورت فالدهايم على قائمة الأجانب غير المرغوب في دخولهم إلى الولايات المتحدة. وقد أقدمت الحكومة الأمريكية على ذلك بالفعل في أبريل عام 1987.

ورغم هذه الحملة الإعلامية المكثفة نجح فالدهايم في انتخابات الرئاسة النمساوية، ولكن هذه القضية تركت أثارها على مكانته الدولية حيث رفض كثير من قادة أوربا والولايات المتحدة الالتقاء به أو حتى زيارة النمسا أثناء توليه رئاسة البلاد. وقد نفى فالدهايم مراراً الاتهامات التي وُجِّهت إليه ونفى اشتراكه في عمليات ترحيل لليهود أو في مذابح ضد المقاومة اليوغسلافية واعتبر هذه الاتهامات جزءاً من حملة تشهير وافتراء دولية بدأتها المعارضة النمساوية وتزعمها المؤتمر اليهودي العالمي والصحافة الدولية، وأكد أن ماضيه قد بُحث بشكل واف من قبَل الأجهزة الأمنية النمساوية قبل توليه العمل في السلك الدبلوماسي النمساوي وأيضاً من قبَل أجهزة المخابرات الأمريكية (سي. آي. آيه) والسوفيتية (كي. جي. بي) والإسرائيلية (الموساد) عند ترشيحه لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة، ولم تجد أي منها ما يدينه. ولم يتم أبداً إثبات أيٍّ من الاتهامات الموجَّهة ضد فالدهايم، بل تبيَّن فيما بعد أن ملف أودلو كانمر (أهم وثيقة في القضية) تحيط به الشكوك. وقد قامت ثلاث جهات نمساوية وبريطانية ودولية مستقلة بالتحري والبحث في هذه الاتهامات ولم تجد أيٌّ منها ما يدين فالدهايم بأي عمل إجرامي أو يؤكد تورطه فيما نُسب إليه. وقد ساعد ذلك على فك العزلة المضروبة من حوله إلى حدٍّ ما، فالتقى به البابا عام 1987 ثم رئيسا ألمانيا وتشيكوسلوفاكيا عام 1990، كما رحَّبت به عدد من الدول العربية.

ومن ناحية أخرى، كانت هذه القضية محاولة ناجحة إلى حدٍّ كبير للنيل من سمعة كورت فالدهايم التي شهدت الأمم المتحدة خلال فترة توليه منصب الأمين العام (1971 - 1982) دعوة ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ولأول مرة، لإلقاء كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكذلك صدور قرار يعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية.

محاكمة ديمانجوك

Demanjuk Trial

جون ديمانجوك مواطن أمريكي من أصل أوكراني اتُهم بارتكاب جرائم حرب إبَّان الحرب العالمية الثانية. وأشارت الاتهامات والادعـاءات الموجَّهة إليه، إلى أنه كان يقاتل في صفوف الجيش السوفيتي حينما وقع في أسـر الألمـان ورُحِّل إلى أحد معـسكرات أسرى الحرب. وأثناء ذلك، وافق ديمانجوك على الانضمام إلى إحدى الوحدات العسكرية المشكلة من الأجانب والعاملة في خدمة قوات الإس. إس. الألمانية. وقد تدرب أولاً في أعمال الحراسة ثم نُقل إلى معسكر تربلينكا حيث أشرف على غرف الغاز وأُطلق عليه لقب «إيفان الرهيب» بسبب قسوته البالغة، وظل في المعسكر حتى إغلاقه عام 1943. ومع انتهاء الحرب، انتقل ديمانجوك إلى الولايات المتحدة حيث عاش حياة هادئة إلى أن علمت السلطات الأمريكية بماضيه، فقامت بتجريده من جنسيته الأمريكية. وفي عام 1986، تم ترحيله إلى إسرائيل حيث قُدِّم للمحاكمة عام 1987 بعد أن وُجِّهت إليه اتهامات بالقتل وارتكاب جرائم ضد الإنسانية وارتكاب جرائم ضد الشعب اليهودي. وقد أكد الدفاع أن هناك خطأً ولبساً في شخصية المتهم، فجون ديمانجوك ليس هو «إيفان الرهيب»، كما شكك الدفاع في الأدلة المقدمة ضده وفي قدرة الشـهود على تذكر أحـداث جـرت منذ أكـثر من 54 عاماً. ورغم ذلك، أُدين ديمانجوك بالتهم الموجهة إليه وحُكم عليه بالإعدام عام 1988.

وبطبيعة الحال، حاولت المؤسسة الصهيونية استثمار عملية المحاكمة نفسها، بغض النظر عن نتائجها، في تحقيق أهدافها الخاصة برفع ما يُسـمَّى «الوعي اليهودي» بينالأجيـال الجـديدة من أعضاء الجماعات اليهودية. كما حـاولت تذكير العـالم (الغربي) بالجرم النازي ضد اليهود، وذلك في محاولة للتغطية على القمع الإرهابي الذي تمارسه إسرائيل للقضاء على الانتفاضة الفلسطينية. ولكن محاكمة ديمانجوك تبين أن هذه العملية تقترب من نهايتها. فقد اعترف بعض المسئولين الأمريكيين (في مكتب التحقيقيات التابع لوزارة العدل الأمريكية) بجرمهم في إخفاء الأوراق التي تثبت أن ديمانجوك ليس إيفان الرهيب. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وفتح كثير من الملفات السرية، ظهرت دلائل جديدة تؤكد أن ديمانجوك ليس هو إيفان الرهيب وأنه عمل حارساً في معسكر آخر غير تربلينكا. وكتبت النيويورك تايمز تقول إنه لابد من الإفراج عنه لعدم توافر أية أدلة، ونبه باتريك بوكانان عن الحـزب الجمهــوري) إلى أن السـلطات الإســرائيلية تماطل في إصدار الحكم ببراءة ديمانجوك على أمل أن يمـوت في السجن ولا تضطر إسرائيل إلى الاعتراف بخطئها. بل إن الصحف الإسرائيلية ذاتها بدأت تنبه إلى أن الاستمرار في مثل هذه المحاكمات قد يؤدي إلى نتائج عكسية. ولعل حكم البراءة الذي اضطرت المحكمة الإسرائيلية العليا إلى إصـداره في عـام 1993 هو نهاية هذه المهزلة. وقد عاد ديمانجوك فيما بعد إلى الولايات المتحدة.

ســـيمون وزنتــال (1908?- )

Simon Wiesenthal

يهودي من أصل تشيكي تخصص في مطاردة مجرمي الحرب النازيين. وُلد وتعلم في تشيكوسلوفاكيا حيث حصل على شهادة في العمارة عام 1940.

اعتقله النازيون في الفترة 1941 - 1945. وبعد الحرب، انضم ويزنتال إلى اللجنة الأمريكية لجرائم الحرب. وأسس عام 1946، هو وآخرون، مركز التوثيق التاريخياليهودي الذي يوجد الآن في فيينا بالنمسا. وقد نجح ويزنتال في المساعدة على القبض على 1100 مجرم نازي من بينهم أيخمان. وقد نشر ويزنتال مقالاً في التورنتوستار (19 مايو 1971) زعم فيه أن « عدة مئات » من مجرمي الحرب النازيين يعيشـون في كندا. وحينما شُـكِّلت لجنة للتحقيق لم يُقدَّم سـوى 217 اسماً، ولكن ثبت أن غالبيتهم الساحقة (187 اسماً) لم يدخلوا كندا قط، والباقون إما ماتوا أو غادروا كندا أو لم يمكن العثور على أي دليل على تورطهم في جرائم الحرب، وقد أثر هذا كثيراً في مصداقيته.

بعض التغيرات التي طرأت على الخطاب الغربي فيما يتصل بالإبادة النازية ليهود أوربا

Some Developments of the Western Discourse on the Nazi Extermination of European Jewry

رغم كل الهستريا الإعلامية الصهيونية وغير الصهيونية ضد أية محاولة لتناول ظاهرة الإبادة بعقلانية واتزان، يمكن أن نلاحظ تغيرات هامة بدأت تدخل على الخطاب الغربي فيما يتصل بالإبادة النازية:

1 ـ بدأت محاولات إسرائيل في استخدام الإبادة لتبرير استمرارها في ارتكاب الجرائم ضد الفلسطينيين تصبح أمراً ممجوجاً، وبدأ بعض المفكرين اليهود وغير اليهود يُعبِّرون عن رفضهم لمثل هذا المنطق الابتزازي. كما بدأ كثير من يهود العالم يضيقون ذرعاً بجعل الإبادة هي النقطة المرجعية النهائية في رؤيتهم للكون والأغيار.

2 ـ بدأ الخطاب السياسي في الغرب وفي إسرائيل يرفض التابو (التحريم) الذي يمنع تشبيه الإبادة النازية ليهود الغرب بأحداث مماثلة في التاريخ الماضي والوقت الحاضر. وقد تجرأ عدة متحدثين غربيين (من بينهم يهود) على تشبيه ما يحدث للفلسطينيين على يد الإسرائيليين بما حدث لليهود في أوربا على يد النازيين. فعلى سبيل المثال، صرح الكاتب الإسرائيلي يهوشاوا بأنه يفهم الآن سبب جهل الألمان بما حدث لليهود بعد أن رأى الإسرائيليين يرفضون معرفة ما يحدث للفلسطينيين. ويشير اليهود السفارد والشرقيون إلى اليهود الغربيين بأنهم « إشكي نازي» وهو نوع من التلاعب بالألفاظ يشير إلى أن ما كان محرماً أصبح مباحاً. ووصف البروفسير لايبوفيتز سياسة إسرائيل في لبنان بأنها نازية يهودية (بالإنجليزية: جوديو/نازي Judeo-Nazi).

3 ـ نعتقد أن الأمور بعد توحيد ألمانيا وتحوُّلها إلى قوة عظمى ستتغيَّر كثيراً، وسيُنظَر إلى حادثة الإبادة النازية ليهود أوربا نظرة أكثر تفسيرية وتركيباً واتزاناً. كما أنكثيراً من الوثائق الألمانية والسوفيتية التي لم تُنشَر بعد ستجد طريقها إلى النشر. ولعل هذا يوفر جواً علمياً أكثر استقراراً وطمأنينة، بعيداً عن هستريا الأيقنة الكاملة للإبادة لصـالح اليهود، وعن هـسـتريا الإنكار الكـامل لها (بالمعنى العام، أي الإبادة عن طريق التجويع والسخرة؛ والمعنى الخاص، أي التصفية الجسدية).

الباب السادس: إشكالية التعاون بين أعضاء الجماعات اليهودية والنازيين

التعاون بين بعض أعضاء الجماعات اليهـودية والنازيـين

Collaboration between Some Members of the Jewish Communities and the Nazis

من الموضوعات التي لم يتم بحثها بالقدر الكافي، لأسباب معروفة، قضية تورُّط بعض أعضاء الجماعات اليهودية (من الصهاينة وغير الصهاينة) في علاقة تعاون وثيقة مع النازيين. وقد أخذ هذا التعاون أشكالاً كثيرة من بينها عدم الاشتراك في المقاومة أو التعاون الاقتصادي والثقافي مع النازيين. ولكن أهم أشكال التعاون وأوثقها هو التعاون المؤسَّسي بين المستوطنين الصهاينة والنظام النازي والنظام الفاشي الذي أخذ شكل معاهدة الهعفراه. ومن أهم الشخصيات الصهيونية التي تعاونت مع النازي ألفريد نوسيج.

مقاومة الجماعات اليهودية للنازية

Jewish Resistance to Nazism

يُثير بعض الدارسين تساؤلاً بخصوص المقاومة اليهودية والصهيونية للنازيين، وهي مسألة خلافية مركبة. ومما يجدر ذكره أنه حين استولى هتلر على السلطة عام 1933، ظلت هناك جيوب رافضة داخل المجتمع الألماني صعَّدت المقاومة ضده من منظور ليبرالي. كما كانت هناك حركة مقاومة ثورية نظمتها الأحزاب الشيوعية والاشتراكية، فالنازية حركة شمولية تقف ضد مصلحة الطبقة العاملة. كما كانت هناك مقاومة من منظور يميني تدعمها قطاعات معينة من الرأسمالية الألمانية الكبيرة. وكانت هناك أيضاً مقاومة من منظور تقليدي أرستقراطي باعتبار أن النازية تقضي على امتيازات الطبقة الأرستقراطية الألمانية التقليدية ومكانتها. إذ كانت النازية، على مستوى من المستويات، عملية تحديث سريعة وراديكالية تمت تحت إشراف عناصر من البورجوازية الصغيرة لا تحترم التقاليد وتقضي على سائر الخصوصيات وتحاول أن تنجز في عشرة أعوام ما أنجزته أوربا في مئات الأعوام. وقد تمركزت المقاومة التقليدية في الجيش ووزارة الخارجيـة، وكانا يضمـان أعـداداً كبيرة من أعضاء الطبقة الأرستقراطية. وبالمثل قام البولنديون بحركة مقاومة عنيفة ضد النازيين، هذا بخلاف حركات المقاومة في فرنسا وغيرها من الدول.

وقد بيَّن كثير من الكُتَّاب أنه لم تنشـأ أية مقاومـة يهودية في أرجاء أوربا، مع أن مثل هذه المقاومة كان بوسعها أن تصيب آلة الإبادة النازية بالشلل أو تحد من سرعتها أو تعطلها،خصوصاً أنها كانت مرهَقَة.ولم تبدأ المقاومة اليهودية جدياً في وارسو،التي كان 45 في المائة من سكانها من اليهود، إلا في أوائل عام 1943، عندما بدأت موازين القوى تميل لصالح الحلفاء وحين قررت برلين تدمير حارة اليهود، وكان الوقت قد فات على إنقاذ نزلاء المعسكرات.

ومن الأسباب الأساسية التي يطرحها البعض لتفسير ضعف المقاومة اليهودية رغم الشراسة النازية هو الموقف الصهيوني، إذ يبدو أن الصهاينة لم يبدوا حماساً كبيراً في حربهم ضد النازية، وكانوا غير مكترثين بالمقاومة ضد النازيين. وفي مجال هجومه على المشروع الصهيوني، حذر المفكر الاشتراكي كارل كاوتسكي من الآثار الضارة للصهيونية التي توجه جهود اليهود وثرواتهم إلى الاتجاه الخاطئ (الاستيطان في فلسطين) في وقت تتقرر فيه مصائرهم في مسرح مختلف تماماً (أوربا وألمانيا) حيث يجب عليهم أن يركزوا فيه كل قواهم. وكان كاوتسكي يشير بذلك إلى أن ملايين اليهود في شرق أوربا (بين ثمانية وعشرة ملايين) لم يكن من الممكن تهجيرهم إلى فلسطين. وبدلاً من تنظيمهم وتوجيه طاقاتهم، حتى يكونوا مهيئين للدفاع عن أنفسهم حينما تقع الواقعة، كانت القيادات الصهيونية تركز على تهجير بضع مئات منهم إلى أرض الميعاد.

ولكن الاعتبارات الصهيونية كانت مختلفة تمام الاختلاف عن ذلك، إذ قرر الصهاينة اتخاذ موقف الحياد من المقاومة، باعتبار أن اليهود لهم مصالحهم وحروبهم المختلفة، وأن هدفهم الوحيد هو تأسيس الدولة الصهيونية. ولذا نادى كثير من الصهاينة بعدم الاشتراك في الحركات المعادية للنازية والفاشية. وقد بيَّن ماريك إيديلمان، أحد قواد تمرد جيتو وارسو، في حديث له مع مجلة هآرتس أن الأبطال الحقيقيين للمقاومة كانوا أعضاء حزب البوند واليهود المعادين للصهيونية والشيوعيين والتروتسكيين والصهاينة اليساريين، أما أعضاء التيار الصهيوني الأساسي فكان موقفهم هو موقف الحياد إياه. وكلما كان النضال ضد النازية يزداد ضراوة، كان الصهاينة يزدادون ابتعاداً عن بقية اليهود. ومن المعروف أن القوات النازية كانت تقيم مجالس لليهود في البلاد التي تحتلها بعد حل كل التنظيمات اليهودية، ويُقال إن أغلبية أعضاء هذه المجالس كانوا من الصهاينة (وإن كان هذا يحتاج إلى مزيد من التمحيص). ومن الثابت تاريخياً أن المجالس اليهودية كانت أداة ذات كفاءة عالية في إدارة عملية الإبادة.

وقد تعاون كثير من الأفراد اليهود (غير الصهاينة) مع النازيين، وهم في هذا لا يختلفون عن مئات الأوربيين الآخرين الذين كانوا مجرد موظفين ينفذون الأوامر التي تَصدُر إليهم. كما لم يكترث يهود فرنسا بنقل اليهود الذين ليسوا من أصل فرنسي، تماماً مثلما أظهر يهود ألمانيا عدم اكتراث بنقل اليهود الأوست يودين (أي يهود شرق أوربا). بل إن بعض الكُتَّاب اليهود أثاروا قضية دور الحاخامات في أوربا وفشلهم في قيادة حركة المقاومة. ومن المعروف أن قساً كاثوليكياً وواعظاً بروتستانتياً تطوعا للذهاب مع المرحلين إلى معسكرات الاعـتقال، بينما لم تلعب الحاخاميـة دوراً مماثلاً.

والموضوع، كما أسلفنا، خلافي للغاية، فثمة نظرية تذهب إلى أن المقاومة لم تكن على أية حال لتجدي فتيلاً، وذلك لأن الأغلبية الساحقة من الشعب الألماني لم تكن تمانع في الإبادة، كما أن آلة الحرب والمخابرات والإبادة الألمانية كانت على درجة عالية من الكفاءة والقدرة على الفتك. ومن الممكن تطبيق نفس المقولة على هؤلاء الأغيار المتهمين بعدم مقاومة النازي، فلعلهم توصلوا هم أيضاً إلى عدم جدوى المقاومة. ولكن هذا القول الذي ينطبق على الجماعة اليهودية في ألمانيا لا يسري بأية حال على يهود بولندا الذين كانوا يُشـكِّلون كثافـة سـكانية لا بأس بها، وكان بوسعهم المقاومة والانضمام إلى الشعب البولندي الذي كان يقاوم الغزو النازي.

ومن القضايا الأخرى التي تُثار في هذا السياق موقف المستوطنين الصهاينة. فقد كانت إحدى دعاوى إقامة الدولة الصهيونية أنها ستكون ملجأ لليهود يحميهم من هجمات الأغيار ومذابحهم. ولكن حينما دخلت قوات روميل حدود مصر وبدأت تتقدم نحو الإسكندرية، اكتشف المستوطنون الصهاينة عبث المقاومة، بل ضعت بعض الكيبوتسات خطة للانتحار. والقدرة على الانتحار تختلف بشكل جوهري (في تصورنا) عن المقاومة والإنقاذ. ولكن ما يهمنا هنا هو الإشارة إلى أن الانتحار يفقد الجيب الصهيوني شرعيته كملجأ أخير ونهائي لليهود.

ويبدو أن يهود الولايات المتحدة (الذين يُشكِّلون أكبر جماعة يهودية في العالم) لم يلعبوا دوراً فعالاً بما فيه الكفاية في محاولة حماية يهود ألمانيا. وقد حاولت إحدىالمنظمات اليهودية الأمريكية، عام 1981، فتح ملف تقصير الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة، ولكنها أغلقته بسرعة بدعوى أن الموضوع محرج ومؤلم، وهو كذلكبالفعل. لكن هذا لا يبرر إغلاق التحقيق، وخصوصاً أن الاتهامات الصهيونية للحكومة الأمريكية والفاتيكان والكنيسة بالتقصير لم تتوقف.

الفاشـية والصهيونيـة

Fascism and Zionism

من أهم الأفكار الغربية التي نبتت الصهيونية في تربتها، الأفكار السياسية الخاصة بالقومية العضوية وبالدولة القومية باعتبارها المرجعية الوحيدة والركيزة الأساسية للنسق، وهي الأفكار التي تصبح تقديساً للدولة وانصياعاً لزعيمها في الأنساق الشمـولية. وقـد تبنت الصهيونية كل هـذه الأفكـار وتحـركت في إطـارها، فأنشـأت علاقة مع النظام الفاشـي (في إيطاليا) والنظام النازي (في ألمانيا).

وقد أكد موسوليني منذ بداية حكمه أن الفاشيه لا علاقة لها بالعداء لليهود. وفي 30 أكتوبر 1930 أصدر قراراً بدمج كل التجمعات اليهودية في إيطاليا في اتحاد فاشي يمثل كل يهود إيطاليا بغير استثناء، وأصبح هذا الاتحاد إحدى الوكالات الرسمية للحكومة الفاشية. حيث نصت المادة 35 من قانـون تأسـيس هـذا الاتحاد على أن اليهود هم سفراء الفاشية للعالم، وعلى ضرورة أن يشترك اتحاد التجمعات اليهودية في إيطاليا في النشاطات الدينية والاجتماعية ليهود العالم، وأن يحتفظ بعلاقاته الدينية والثقافية معهم.

وفي يناير 1923 قام حاييم وايزمان بوصفه رئيس المنظمة الصهيونية بزيارة موسوليني، لمحاورته بشأن الصهيونية والدعم الفاشي الممكن تقديمه إلى الحركة. واكتشف الزعيم الصهيوني أن اعتراض موسوليني على الصهيونية مرده إحساسه بأن الصهيونية أداة لإضعاف الدول الإسلامية لصالح الإمبراطورية البريطانية. فرد وايزمان عليه رداً مقنعاً بيَّن له فيه أن إضعاف الدول الإسلامية سيعود أيضاً على إيطاليا بالنفع، وأضاف أن شروط حكومة الانتداب ذاتها تفتح المجال أمام إيطاليا أو أية دولة أخرى للمشاركة في تطوير هذا البلد (أي تصدير العمالة الفائضة والحصول على امتيازات تجارية، على حد قول وايزمان)، وأن في وسع إيطاليا أن تفعل ذلك إذ اعتمدت الميزانية اللازمة. وانتهى الاجتماع بتفاهم كامل بين الطرفين، سمح موسوليني على أثره بتعيين يهودي إيطالي في الوكالة اليهودية.

وحينما دُعي وايزمان مرة أخرى إلى إيطاليا في سبتمبر 1926، عرض موسوليني أن يُقدم المساعدة للصهاينة كي يبنوا اقتصادهم، وقامت الصحافة الفاشـية بنشـر مقالات مؤيدة للصهاينة. كما قـام ناحوم سوكولوف، باعتباره رئيس اللجنة التنفيذية في المنظمة الصهيونية، بزيارة إيطاليا عام 1927 وصرح بأنه أدرك الطبيعة الحقة للفاشية، وأكد أن اليهود الحقيقيين لم يحاربوا قط ضدها. ولا شك في أن كلماته هذه تحمل معنى التأييد الكامل للنظام الفاشي، وقد تبعته في ذلك المنظمة الصهيونية في إيطاليا. ومن الزعماء الصهاينة الذين زاروا إيطاليا الفاشية، ناحوم جولدمان الرئيس السابق للمؤتمر اليهودي العالمي الذي استمع إلى الزعيم الإيطالي وهو يُعرب عن حماسه للمشروع الصهيوني وعن استعداده الكامل لمساندته.

وقد تعلم جابوتنسكي الكثير من الفاشية الغربية، وكان يُعبِّر عن إعجابه الشديد بالدوتشي وفكره، وبالتنظيمات الشبابية الفاشية التي حاولت المنظمات الشبابية التصحيحيةالتشبه بها في زيها الرسمي. وكال موسوليني المديح والتقريظ لجابوتنسكي حين قال مرة للحاخام ديفيد براتو الذي أصبح فيما بعد حاخام روما: «كي تنجح الصهيونية يجب أن تحصلوا على دولة يهودية لها علم يهودي ولغة يهودية، والشخص الذي يفهم ذلك حقاً هو الفاشي جابوتنسكي». كما نعت موسوليني نفسه ضمناً بأنه صهيوني يدافع عن فكرة الدولة اليهودية. ورغم أن جابوتنسكي لم يكن يرتاح أحياناً إلى وصفه بالفاشي، فإن موقفه بشكل عام كان موقف المؤيد للفاشية والمعجب بها.

النازية والصهيونية: الأصول الفكرية المشتركة والتمـاثل البنيوي

Nazism and Zionism (Common Intellectual Origins and Structural Parallelism)

رغم الدعاية الصهيونية الشرسة وتأكيد احتكار اليهود لدور الضحية في عملية الإبادة التي قام بها النازيون ضد كثير من الشعوب والأقليات الإثنية والدينية والعرْقية، فإن ثمة علاقة وطيدة بين الصهيونية والنازية تستحق الدراسة. وقد يكون من المفيد ابتداءً أن نقرر أن النازية والصهيونية ليستا بأية حال انحرافاً عن الحضارة الغربية الحديثة بل يمثلان تيارين أساسيين فيها. ولعل أكبر دليل على أن الصهيونية جزء أصيل من الحضارة الغربية أن الغرب يحاول تعويض اليهود عما لحق بهم على يد النازيين بإنشاء الدولة الصهيونية على جثث الفلسطينيين، وكأن جريمة أوشفيتس يمكن أن تُمحَى بارتكاب جريمة دير ياسين أو مذبحة بيروت أو مذبحة قانا. وقد أنجزت الصهيونية ما أنجزت من اغتصاب للأرض وطرد وإبادة للفلسطينيين من خلال التشكيل الإمبريالي الغربي، واستخدمت كل أدواته من غـزو وقمع وترحيل وتهجير. والغرب، الذي أفرز هتلر وغزواته، هو نفسه الذي نظر بإعجاب إلى الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان وبيروت وأنحاء أخرى من العالم العربي. وهو الذي ينظر بحياد وموضوعية داروينية للجريمة التي ارتكبت والتي تُرتكب يومياً ضد الشعب الفلسطيني.

ولابد أن نقرر أن الصهيونية لم تقم بعملية إبادة شاملة (بمعنى التصفية الجسدية) للفلسطينيين، إلا أن هذا يرجع إلى اعتبارات عملية عديدة لا علاقة لها بالبنية الإبادية للأيديولوجية الصهيونية، من بينها تأخر التجربة الصهيونية إلى أواخر القرن التاسع عشر، وعدم إعلان الدولة الصهيونية إلا في منتصف القرن العشرين، وهو ما جعل الإبادة مسألة عسيرة بسبب وجود المنظمات الدولية والإعلام. كما كان شأن الكثافة السكانية العربية وتماسك العرب وانتمائهم إلى تشكيل حضاري مركب ومقدرتهم على التنظيم والمقاومة والانتفاضة أن أصبحت الإبادة حلاًّ مستحيلاً (ومع هذا لابد من الإشارة إلى عمليات الإبادة الجسدية والتي تمت في صفد ودير ياسـين وكفر قاسم،وغيرها من مدن وقرى في فلسطين، حيث لم تكن الممارسة الصهيونية تهدف إلى تهجير الفلسطينيين، بقدر ما كانت تهدف إلى قتلهم وإبادتهم. وبالمثل كانت عملية صابراوشاتيلا ذات طابع إبادي واضح). كما أن الإبادة بمعنى التهجير والتسخير والقمع والاستغلال هي حدث يومي داخل الإطار الصهيوني.

إن الحضارة الغربية الحديثة هي التي أفرزت الإمبريالية والنفعية الداروينية والنازية والصهيونية، ولذا فليس من المستغرب أن نجد مجموعة من الأفكار المشتركة بين الرؤيتين النازية والصهيونية التي تُشكِّل الإطار الحاكم لكل منهما:

1 ـ القومية العضوية والتأكيد على روابط الدم والتراب، وهو ما يؤدي إلى استبعاد الآخر (الشعب العضوي المنبوذ(.

2 ـ النظريات العرْقية.

3 ـ تقديس الدولة.

4 ـ النزعة الداروينية النيتشوية.

كما يظهر التماثل البنيوي بين النازية والصهيونية في خطابهما. فكلاهما يستخدم مصطلحات القومية العضوية مثل «الشعب العضوي (فولك)» و«الرابطة الأزلية بين الشعب وتراثه وأرضه» و«الشعب المختار». وقد سُئل هتلر عن سبب معاداته لليهود، فكانت إجابته قصيرة بقدر ما كانت قاسية: "لا يمكن أن يكون هناك شعبان مختاران. ونحن وحدنا شعب الإله المختار. هل هذه إجابة شافية على السؤال؟". ويتحدث مارتن بوبر عن أن الرابطة بين اليهود وأرضهم هي رابطة الدم والتربة، ومن ثم يطالببضرورة العودة إلى فلسطين حيث توجد التربة التي يمكن للدم اليهودي أن يتفاعل معها ويبدع من خلالها، وهي مسألة أشار إليها كل من الكاتبين الصهيونيين ميخا بيرديشفكي وشاؤول تشرنحوفسكي، حيث تحدثا عن الشعب العضوي اليهودي بالعبارات نفسها ونسبا إليه الخصائص نفسها. كما استخدم الصهاينة مفهوم «الدم اليهودي» لتعريف الهوية اليهودية.

وأثناء محاكمات نورمبرج، كان الزعماء النازيون يؤكدون، الواحد تلو الآخر، أن الموقف النازي من اليهود تمت صياغته من خلال الأدبيات الصهيونية، خصوصاً كتاباتبوبر عن الدم والتربة. وقد أشار ألفريد روزنبرج، أهم المنظرين النازيين، إلى أن « بوبر على وجه الخصوص هو الذي أعلن أن اليهود يجب أن يعودوا إلى أرض آسيا، فهناك فقط يمكنهم العثور على جذور الدم اليهودي ». ولعله، بهذا، كان يشير إلى حديث بوبر عن اليهود باعتبارهم آسيويين حيث يقول « لأنهم إذا كانوا قد طُردوا من فلسطين، ففلسطين لم تُطرد منهم ».

ومن الموضوعات الأساسية المشتركة فكرة النقاء العرْقي. وكان سترايخر (المُنظر النازي) يؤكد أثناء محاكمته، أنه تعلم هذه الفكرة من النبي عزرا: لقد أكدت دائماً حقيقة أن اليهود يجب أن يكونوا النموذج الذي يجب أن تحتذيه كل الأجناس، فلقد خلقوا قانوناً عنصرياً لأنفسهم، قانون موسـى الـذي يقول: "إذا دخلـت بلداً أجنبـياً فلـن تتزوج من نسـاء أجنبيـات". وكانت الأدبيات الصهيونية الخاصة بنقاء اليهود العرْقي ثرية إلى أقصى حد في أوربا حتى نهاية الثلاثينيات.

ويستخدم النازيون والصهاينة على حد سواء الخطاب النيتشوي الدارويني نفسه المبني على تمجيد القوة وإسقاط القيمة الأخلاقية. إذ يستخدم الصهاينة ـ شأنهم في هذا شأن النازيين ـ مصطلحاً محايداً، فهم لا يتحدثون عن طرد الفلسطينيين وإنما عن "تهجيرهم" أو "دمجهم في المجتمعات العربية". وهم لا يتحدثون مطلقاً عن «تفتيت العالم العربي » وإنما عن "المنطقة"، ولا يتحدثون عن «الاستيلاء» على القدس وإنما عن "توحيدها" ولا عن الاستيلاء على فلسطين أو «احتلالها» وإنما عن "اسـتقلال" إسـرائيل أو عن "عودة الشـعب اليهودي" إلى أرض أجداده.

ويتضح التطابق بين النازيين والصهاينة بكل جلاء في واحد من أهم التنظيمات النازية. فقد كان النازيون ـ شأنهم شأن أية عقيدة تدور في إطار القومية العضوية ـ يؤمنون بوجود دياسبورا ألمانية («أوسـلاندويتـش Auslandeutsch») تربطها روابط عضوية بالأرض الألمانية. وأعضاء هذا الشتات الألماني مثل أعضاء الشتات اليهودي يدينون بالولاء للوطن الأم ويجب أن يعملوا من أجله. وربما لأن العودة للوطن الأم أمر عسير، كما هو الحال مع الصهاينة، اقترح النازيون ما يشبه نازية الشتات (مثل صهيونية الشتات) عن طريق تشجيع الألمان في الخارج على دراسة الحضارة واللغة الألمانيتين. وكان للنازيين ما يشبه المنظمة النازية العالمـية التي كانت لها صـلاحيات تشـبه صلاحيات المنظمة الصهيونية العالمية، وكانت لها مكانة في ألمانيا تشبه من بعض الوجوه مكانة المنظمة الصهيونية في إسرائيل. وقد تعاون الألمان، في كل أنحاء العالم مع السفراء والقناصل الألمان، تماماً كما يتعاون اليهود والصهاينة مع سفراء وقناصل إسرائيل في بلادهم.

ولنا أن نلاحظ الأصول الألمانية الراسخة للزعماء الصهاينة الذين صاغوا الأطروحات الصهيونية الأساسية. فتيودور هرتزل وماكس نوردو وألفريد نوسيج وأوتو ووربورج كانوا إما من ألمانيا أو النمسا يكتبون بالألمانية ويتحدثون بها، كما كانوا ملمين بالتقاليد الحضارية الألمانية ويكنون لها الإعجاب ولا يكنون احتراماً كبيراً للحضارات السلافية (وقد غيَّر هرتزل اسمه من «بنيامين» إلى «تيودور» حتى يؤلمن اسمه، وسمَّى ماكس نوردو نفسه بهذا الاسم لإعجابه الشديد بالنورديين). ولا يختلف زعماء يهود اليديشـية عن ذلك، فلغتهم اليديشـية هي رطانة ألمانية أساساً. ومن جهة أخرى، كانت لغة المؤتمرات الصهيونية الأولى هي الألمانية، كما توجـه الزعماءالصهاينة أول ما توجهوا لقيصر ألمانيا لكي يتبنى المشـروع الصهيوني. وقد أكد جولدمان أن هرتزل قد وصل إلى فكـرته القومية (العضـوية) من خــلال معـرفته بالفـكروالحضــارة الألمانيــين. وكان كثير من المستوطنين الصهاينة يكنون الإعجاب للنازية، وأظهروا تفهماً عميقاً لها ولمُثُلها ولنجاحها في إنقاذ ألمانيا. بل عدوا النازية حركة تحرر وطني. وقد سجل حاييم كابلان، وهـو صهـيوني كان موجــوداً في جيتـو وارسـو (حينمـا كـان تحت حكـم النـازي)، أنـه لا يوجد أي تناقض بين رؤية الصهاينةوالنازيين للعالم فيما يخص المسألة اليهودية، فكلتاهما تهدف إلى الهجرة، وكلتاهما ترى أن اليهود لا مكان لهم في الحضارات الأجنبية.

وقد ظهرت في ألمانيا، في الثلاثينيات، جماعة من المفكرين الدينيين اللوثريين الذين أدركوا العناصر الفكرية المشتركة بين النازية الصهيونية وأبعادها العدمية. ومن هؤلاء هاينريش فريك الذي حذر اليهود من فكرة الشعب العضوي التي يدافع عنها النازيون والصهاينة، كما عَرَّف كلاً من النازية والصهيونية بأنهما حركتان حولتا النزعة الأرضية (الارتباط بالأرض) والدنيوية (الارتباط بالدنيا)، وهما من الأمور المادية، إلى كيانات ميتافيزيقية، أي إلى دين. وأشار إلى أن النازية والصهيونية تتبنيان الرأي القائل بأن ألمانيا لا يمكنها أن تقبل اليهود أو تظهر التسامح تجاههم.

وفي عام 1926، حدد فيلي ستارك ما تصوره موقف المسيحية من مسألة الشعب العضوي. فأشار إلى نقط التشـابه بين الصهيونية والنازية، فكلتاهما تدور حول قيمة مطلقة تحيطها القداسة الدينية، الدم والتربة، وهي قيمة تضرب بجذورها في المشاعر الأسطورية الكونية، وفي ممالك الأرض بدلاً من مملكة السماء. ومن ثم، توصَّل فيلي ستارك إلى أنه لا يوجد أي مجال للتفاهم بين المسيحية وعبادة الشعب العضوي (فولك) الصهيونية أو النازية. كما توصل إلى أن كلاً من الصهيونية (التي تحاول أن تؤسس الهيكل الثالث أي الدولة الصهيونية) والنازية (التي أسست الرايخ الثالث أي الدولة النازية) تجسيد لعدم فهم البُعد المجازي في العقيدة الألفية الاسترجاعية في المسيحية. وبالتالي، فإن كلتا الحركتين ضرب من ضروب المشيحانية السياسية (الأخروية العلمانية) التي تحوِّل الدنيوي المدنَّس إلى مقدَّس، وبذلك يُمثل كل منهما تهديداً لليهودية والمسيحية، بل للجنس البشري بأسره.

النيتشـويــــة والصهـيونيـــة

Nietzscheanism and Zionism

تنبع النازية من عدة روافد في الفكر الغربي الحديث لعل أهمها على الإطلاق الفكر الفلسفي الرومانسي الألماني، وبخاصة الفكر النيتشوي أو النيتشوية. وقد يكون من المفيد أن نشير ابتداءً إلى أننا نميِّز بين الفكر النيتشوي وفلسفة نيتشه. ففلسفة نيتشه توجد في أعماله الفلسفية، وهي فلسفة متناقضة تحوي الكثير من الأفكار النبيلة والخسيسة والعاقلة والمجنونة. أما الفكر النيتشوي فهو منظومة شبه متكاملة، استنبطها الإنسان الغربي من أعمال نيتشه وحققت من الذيوع والشيوع ما يفوق أعمال نيتشه الفلسفية. وما يهمنا في دراسة تاريخ الأفكار هو الفكر « النيتشوي » وليس أعماله الفلسفية. فهناك الكثير من النيتشويين ممن لم يقرأوا صفحة واحدة من أعمال نيتشه، بل الذين اتخذوا مواقفهم النيتشوية قبل أن يخط نيتشه حرفاً واحداً. فالخطاب الإمبريالي، منذ لحظة ظهوره في القرن السابع عشر، كان خطاباً نيتشوياً.

يتَّسم موقف نيتشه من اليهود بالغموض، فهناك رأي يذهب إلى أنه كان معادياً لليهود. ومما ساعد على تدعيم هذا الرأي أن أخته إليزابيث ـ التي نفذت وصيته الأدبية ـ كانت متزوجة من برنارد فوستر وهو من أهم الداعين إلى معاداة اليهود. بل يُقال إن إليزابيث زيَّفت بعض خطابات نيتشه لتشيع هذه الصورة عنه. لكن مما لا شك فيه أن أعمال نيتشه تحتوي على إشارات لليهود واليهودية تحمل دلالات سلبية. وينبع سخطه على اليهودية بالدرجة الأولى من تصوره أن اليهودية هي أحد أشكال أخلاق الضعفاء. فعندما فقد اليهـود دولتهم ولاقـوا الاضـطهاد وحُرموا من حريتهم في العالم الروماني، تجمَّع لديهم شعور مكبوت بالإساءة وصل إلى أقصى درجات غليانه فوُلدت المسيحية من رحم اليهودية، فهي ديانة التواضع والضعف والعبودية. وأخلاقيات المسيحية ألحقت ضرراً بالغاً بالحضارة الغربية الوثنية، ولكن القيم الأرستقراطية ثارت من جديد في عصر النهضة التي عارض رجالها القيم المسيحية التي سادت في العصور الوسطى. ثم عاد الإصلاح الديني يحاول أن يفرض أخلاق العبيد مرة أخرى، وهذا ما حاولته الثورة الفرنسية بعد ذلك. ووسط ثورة العبيد الأخيرة هذه، ظهر المثل الأعلى القديم مرة أخرى: نابليون. وبسقوطه سقط آخر شعاع نور صادر عن قيم السادة.

ولكن هناك جانباً آخر لنيتشه وهو رفضه لمعاداة اليهود، بل إنه اعتبر معـاداة اليهـود مجرد شـكل آخر من أشـكال ثورة العبيد الحديثة ضد السادة. كما كان نيتشه معجباً بالعهد القديم وما تصوره أسلوبه غير الأخلاقي ووصاياه التي لا تتضمن أي تهاون أو مساومة. وفي كثير من كتاباته، نجده يكيل المديح لليهود أكثر من الألمان، فاليهود عنصر قوي يتمتع بالصحة، وتدل صلابتهم وإبداعهم على مقدرتهم على القيام بعملية إعادة تقييم القيم. ولكن بغض النظر عن موقف نيتشه من اليهود أو اليهودية يظل ما يعنينا في هذا الجزء من دراستنا هو الفكر النيتشوي وأثره في الفكر الديني اليهودي وفي الفكر الصهيوني.

ولفهم هذا الجانب، قد يكون من المفيد أن نعرض لآراء المفكر الصهيوني الروسي أحاد هعام في هذا الموضوع، فهو يرى أن نيتشه لم يفهـم اليهـودية حـق الفهم وخلـط بينها وبين المسيحية. والعارفون باليهودية، حسب رأيه، سيكتشفون في التو أنه لا توجد أية حاجة لاستحداث نيتشوية يهودية، ذلك أن الجزء العام (أي الجزء الذي يتجاوز الخصوصية الألمانية) من الفلسفة النيتشوية موجود في اليهودية نفسها منذ قرون عـديدة. فاليهـودية ديانة لم تسـتند إلى فكرة الرحمة وحـدها، ولم تُلزم الإنسان الأعلى اليهودي بالخضوع للجماهير، كما لو كان الهدف الأساسي من وجوده هو مجرد زيادة سعادة الأغلبية. ويمكن أن نضيف عناصر أخرى لم يذكرها أحاد هعام، فالعقيدة اليهودية، مثلاً، أصبحت نسقاً دينياً حلولياً متطرفاً، وهو ما يعني تحوُّل الشعب اليهودي إلى شعب مقدَّس، مكتف بذاته، يحوي مركزه داخله، لا يمكن الحكم عليه بمعايير أخلاقية خارجة عنه. بل إن الشعب اليهودي، حسب التراث القبَّالي، هو امتداد للخالق في الكون. ووجود الخالق ذاته وتوحده بعد تبعثره (كما جاء في التراث الأسطوريالقبَّالي) يتوقف على قيام اليهود بممارسة الأوامر والنواهي. ويُبيِّن أحاد هعام أن المقولة الأساسية النيتشوية، الخاصة بتفوق النموذج الإنساني الأعلى على بقية البشر، هي نفسها مقولة يهودية. ولكن أحاد هعام يُحل فكرة الأخلاق محل القوة، ويشير إلى أن نيتشه يشكو من أنه (حتى الآن) لا توجد محاولة واعية لتعليم الناس بطريقة تؤديلظهـور الإنسـان الأعلى، وهـو ما يعرقل ظهـوره. فالإنسان حيوان اجتماعي، ولذا فإن روح الإنسان الأعلى نفسها لا يمكنها أن تتحرر من الجو الأخلاقي الذي تعيش فيه. ويخلص أحاد هعام من هذا التحليل إلى أنه إذا كان الهدف من الحياة هو الإنسان الأعلى، فيجب أن نقبل بارتباط ظهوره بظهور الأمة الممتازة أو الأمة العليا، أي ينبغي أن تكون هناك أمة لها من السمات الذاتية ما يجعلها على استعداد أكبر للنمو الأخلاقي بالمعنى النيتشوي، ولتنظيم حياتها على أساس قانون أخلاقي يعلو على النموذج العادي. هذه الأمة هي ولا شك التربة الخصبة التي ينبت فيها الإنسان الأعلى.

وإذا نظرنا إلى اليهودية من زاوية هذه الفلسفة، لتبين لنا، على حد قول أحاد هعام، أن معظم نقائصها، أو تلك النقائص التي يشير إليها الآخرون والتي يحاول العلماء اليهود أنفسهم إنكارها، تشكل نقطة قوة ولا تحتاج لإنكار أو اعتذار. ومن المعروف للجميع أن اليهود واعون بأنهم متفوقون أخلاقياً على الأمم كافة، وهو وعي يجسد نفسه في فكرة الشعب المختار. والاختيار غير مبني على حكم القوة لأن جماعة يسرائيل هي أصغر الأمم. فقد اختار الإله يسرائيل، لكي يُعبِّر هذا الشعب بشكل متعيِّن في كل جيل عن أعلى نموذج أخلاقي، ولكي يحمل عبء الواجبـات الأخلاقية دون اعتبار للربح و الخسـارة بالنسـبة لبقية البشر، بل للحفاظ على وجود هذا النموذج الراقي.

ويرى أحاد هعام أن هذه الفكرة تسـيطر على الدين اليهودي. ولذلك، لم يحاول اليهود التبشير بدينهم لا بسبب الغيرة (كما يدَّعي الأعداء) ولا التسامح (كما ينادي المعتذرون)، ولكن لأنهم لا يقبلون أن يجعلوا واجبهم نحو تجسيد النموذج الراقي هو واجب كل البشر، ففي هذا خفض لمستواه وتدن له. وهم في محاولتهـم هذه، لن يفرضـوا المسـئولية على الآخرين ولن يشركوهم فيها، ووصف أحاد هعام للأمة المختارة هو ذاته وصف نيتشه للإنسان الأعلى.

ويشير أحاد هعام إلى محاولة بعض العلماء اليهود إضفاء غلالة من المعاصرة على فكرة الشعب المختار، كأن يحاولوا أن يوفقوا بينها وبين فكرة مساواة الشعوب، حيث يرون أن رسالة الشعب المختار هي نشر الخير وطريقة الحيـاة الخيرة بين كل الشعوب (كما يرى اليهود الإصلاحيون). ولكن أحاد هعام يرفض هذه الليبرالية، فهو يصر على أن رسالة الشعب هي بكل بساطة أن يقوم بواجبه دون أي اعتبار للعالم الخارجي، لأن تأدية الواجب هي غاية في ذاتها وليست وسيلة لإسعاد العالم. وإذا كان اليهود القدامى قد عبَّروا عن الأمل في أن اليهودية سيكون لها أثر طيب على الأمم الأخرى، فهذا مجرد نتيجة وليس هدفاً، إذ يظل الهدف هو الانتماء لمثل أعلى ونموذج متفوق لا ينتمي إليه الآخرون ولا يشاركون فيه.

ويميِّز أحاد هعام بين وحش نيتشه الجميل الأشقر القوي المُدافع عن الجسد والعنف (الذي أصبح المثل الأعلى النازي) وبين الإنسان الأعلى اليهودي الذي يُدافـع عـن القيم اليهـودية الخلقية ويقف ضد العنف، وهذا هو الفارق بين النيتشوية الآرية والنيتشوية اليهودية. ولنلاحظ أن أحاد هعام لا يعترض على بنية النيتشوية التي تستند إلى التفاوت بين الناس وإنما على مضمونها وحسـب. وحديثه عن الأخـلاق اليهـودية لا يُغيِّر من البنية في شـيء، فالنيتشـوية اليهودية مبنية على فكرة تفوق اليهود وتعاليهم على البشر، وهو الأمر الذي يميزهم بحقوق مطلقة، من بينها، على سبيل المثال، حقهم في أن يعودوا إلى الأرض المقدَّسة متى شاءوا ذلك، وأن يؤسسوا فيها مركزاً روحياً إن أرادوا، وأن يستوطنوها ويعمروها أو يخربوها حسبما تملي مشيئتهم، باعتبارهم السوبر أمة أو الأمة الأعلى (وهذا هو جوهر كل المنظومات المعرفية والخلقية العلمانية الشاملة، بل إن أصحاب المنظومة يجسدون المطلـق ويصبـحون هـم المرجعية الذاتية وتصـبح إرادتهم هي الحق المطلق). فإذا جاء الفيلسوف النيتشوي الصهيوني بعد هذا وأضاف زخارف أخلاقية وأصر على أن تكون الدولة الصهيونية تجسيداً للقيم الأخلاقية النبيلة، فإن الزخارف الأخلاقية تظل مجرد زخارف لا علاقة لها بمنطق النسق العام، بينما يظل العنف هو الجوهر والمحك وقانون البنية. وقد أثبتت التجربة التاريخية (من دير ياسين إلى صابرا وشاتيلا وقانا) أن الأبعاد الأخلاقية إن هي إلا زخارف وأقوال وديباجات، وأن وضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ يفترض قتل العرب وسفك دمائهم.

ولم يكن أحاد هعام فريداً في دفاعه عن النيتشوية. فقد تأثر كثير من المفكرين من أعضاء الجماعات اليهودية (خصوصاً الصهاينة منهم) بالفكر النيتشوي. ومن بين هؤلاء مؤسسو الحركة الصهيونية: تيودور هرتزل والفريد نوسيج وماكس نوردو، وكلهم ذوو ثقافة ألمانية، كما تأثر بها مفكرون صهاينة آخرون، مثل: ميخا بيرديشفكي وحاييم برنر وشاؤول تشرنحوفسكي.

ولا يمكن فهم كتابات أهم الفلاسفة الدينيين اليهود المحدثين (مارتن بوبر) إلا من خلال نيتشه (وكذا كتابات ليو شستوف). وتسري القاعدة نفسها على مفكري مدرسةلاهوت موت الإله. وأثر نيتشه على جاك دريدا وإدمون جابيس واضح تماماً. كما أن البُعد النيتشوي في الفكر الصهيوني بُعد أساسي. ولا غرو في هذا فالجميع هم أبناءعصرهم العلماني الإمبريالي الأداتي الشامل. ولكل هذا، فليس من قبيل الصدفة أن يكون التشابه بين الصهيونية والنيتشوية مدهشاً حقاً، ويمكننا أن نوجز ذلك في النقاطالتالية:

1 ـ النيتشـوية، مثلها مثل الصـهيونية، ديانة ملـحدة أو حلولية بدون إله، أو هي وحدة وجود مادية ترد الكون بأسره إلى مبدأ زمني واحد هو إرادة القوة والإنسان الأعلى عند نيتشه، وهو إرادة القوة اليهودية وبقاء الشعب اليهودي عند الصهاينة. فبقاء الشعب لا يتحقق إلا من خلال إرادة الشعب ومن خلال قوته الذاتية.

2 ـ النيتشوية، مثلها مثل الصهيونية، تعبير عن توثّن الذات حينما يحل المطلق في الإنسان ويصبح كامناً فيه، فيعبد الإنسان ذاته أو يعبد أسلافه، أي الذات القومية المقدَّسة، باعتبارها تجسيداً لذاته.

3 ـ النيتشوية، مثلها مثل الصهيونية، نسق عضوي دائري يقرن بين البدايات والنهايات، وتسود فيه صورة مجازية عضوية.

4 ـ النيتشوية، مثلها مثل الصهيونية، ديانة داروينية تسبغ نوعاً من الروحية والقداسة على قانون التطور، وتجعل من القوة الأساس الوحيد لأي نسق أخلاقي، وهو ما يُطلَق عليه في المصطلح السياسي الإسرائيلي والغربي «فرض سياسة الأمر الواقع» و«خلق حقائق جديدة»، وهو ما نسميه «النفعية الداروينية».

5 ـ الحـياة بالنسـبة للنيتشـوية توسع ونمـو واستيلاء على الآخر وهزيمة له، ومعاداة للفكر واحتقار له، وتمجيد للفعل المباشر ولأخلاق السادة الأقوياء، وهذا هو جوهرالصهيونية التي لا يمكنها أن تعيش إلا على التوسع وعلى إلغاء الآخر. والآخر هو أولاً الفلسطينيون الذين يجب أن يختفوا من على وجه الأرض، ثم يهود الدياسبورا الذينيعملون بالأعمال الفكرية ويؤمنون بأخلاق العبيد.

6 ـ وإذا كان نيتشه قد دعا الإنسان إلى أن يعود لحالة الحيوية والطبيعة المقدَّسة ويكون كالحيوان المفترس الأشقر وينبذ العقائد الدينية وأخلاق الضعفاء (يبني منزله بجوار البركان ويعيش في خطر وفي حالة حرب دائمة)، فقد طرحت الصهيونية نفسها باعتبارها الأيديولوجية التي ستحول يهود المنفى المترهلين الذين يؤمنون بأخلاق الضعفاء إلى وحوش يهود يؤمنون بأخلاق القوة، مفتولي عضلات يحسمون كل القضايا بالقوة ويفرضون رؤيتهم، ولذا فالمستوطنون الصهاينة يعيشون حرفياً بجوار البركان في حالة حرب دائمة.

7 ـ وتفكير نيتشه تفكير نخبوي إذ يرى أن حركة التطور الحقيقية لابد أن تؤدي إلى ظهور أمة مختارة من هذا النوع من الرجال، وما الإنسان العادي سوى الحلقة أو الجسر الموصل إلى هذه المرحلة العليا، التي توجد بطبيعة الحال مرحلة أعلى منها إلى أن نصل إلى الحد الأقصى المطلق غير المعروف. ويسيطر على الصهيونية أيضاً تفكير نخبوي يُحوِّل حياة جماهير اليهود في أرجاء العالم خارج فلسطين إلى مجرد جـسر يؤدي إلى ظهـور الدولة الصهيونية. كمـا أن الفكر الصهيوني، بتحويله الأمة إلى مطلق مكتف بذاته، كان يتضمن معرفياً عملية نقل العرب وإبادتهم.

8 ـ وداخل هذه المنظومة ينقسم العالم وبحدة إلى السوبرمن، السادة الأقوياء من أعضاء الشعب العضوي، والسبمن، العبيد الضعفـاء الذين ينتمون للفريق الآخر. والسـادة الأقـوياء لهم حقوق مطلقة فهم يجـسدون المبدأ الواحد، أما الضعفاء فإن مآلهم إلى الاختفاء (عن طريق الإبادة بالمعنى العام والخاص). وعند نيتشه، نجد أن هناك الوحوش الشقراء وهناك بقية الشعوب. وفي المنظومة الصهيونية، هناك من ناحية اليهود أصحاب الحقوق المطلقة، ومن ناحية أخرى الأغيار (خصوصاً الفلسطينيون) الذين لا حقوق لهم، وهذه الحقوق اليهودية المقدَّسة المطلقة تَجُبُّ حقوق الآخرين.

9 ـ الفكر النيتشوي، مثله مثل الفكر الصهيوني، فكر تختفي فيه حدود الأشياء ومعالمها، وهو ينفي التاريخ وحدوده فتظهر حالة من السيولة والنسبية التي لا تحسمها سوى إرادة القوة. ومن هنا حديث بن جوريون عن الجيش الإسرائيلي باعتباره خير مفسر للتوراة، وهو موقف لا يختلف كثيراً عن موقف نيتشه من تفسير النصوص. والنص هنا هو فلسطين التي تحمل معنى عربياً، إذ تقطنها أغلبية عربية وتوجد داخل التاريخ العربي. حيث يقرر الصهاينة أن يفصلوا الدال عن المدلول ويعلنوا أن فلسـطين ليسـت وطناً بل أرضاً والبشـر الذين يقطـنون فيها ليـسـوا شعباً، وأن الشعب المرتبط بها هم اليهود وحدهم، والجيش الإسرائيلي هو خير مفسر لهذا النص، فهو الذي سيفرض عليه المعنى الصهيوني! (تماماً كما يفعل نقاد ما بعد الحداثة).

10 ـ يتحدث نيتشه في كتاباته (دائماً) عن الماضي والمستقبل، ولا يركز عيونه على الحاضر أبداً. ولكن الماضي (دون الحاضر الحي) يتحوَّل إلى أسطورة وأيقونة، والمستقبل بدوره يتحول إلى عصر ذهبي وفردوس أرضي خال من التاريخ. والصهاينة بدورهم لا يتحدثون عادةً إلا عن الماضي العبري (قبـل أن تظهـر اليهوديـة وتفسد الشخصية اليهـودية بأخـلاق الضعفاء) والمستقبل الصهيوني (حين يعود اليهود إلى صهيون ليؤسسوا الدولة الجيتو المعقمة من التاريخ).

11 ـ ونيتشه، بتفكيره المجرد، لا يتحدث عن السعادة الفردية أو عن السعادة عامةً. فالسعادة من شيم الضعفاء والعبيد، أما الإنسان الأعلى فيعلو على الخير والشر ويتجاهل اللذة والألم. وتجاهل السعادة، كقيمة إنسانية، هو أيضاً إحدى سمات الفكر الصهيوني، فالصهاينة مشغولون بتصوراتهم المشيحانية عن الدولة اليهودية والشعب المختار، وبالتالي فهم ينسون الفرد اليهودي المتعيِّن الذي يعيش في وطنه، فالصهيونية لا تُشكِّل بالنسبة له سوى أيديولوجية مجردة غريبة، لا يمكنه أن يُنظم حياته من خلالها. ومع هذا فهم يدعون إلى تصفية الجماعات اليهودية في الخارج وإنهاء التاريخ اليهـودي في المنفى، فهو تاريـخ الضعفاء والمهزومين، من وجهة نظرهم.

وتُفصح كل هذه العناصر النيتشوية عن نفسها تماماً في كتابات هارولد فيش أحد منظري جماعة جوش إيمونيم، التي تؤمن بضرب من الصهيونية نسميها «الصهيونية الحلولية» أو «الصهيونية العضوية» لأنها نيتشوية كاملة، حيث يتحد الإله بالإنسان اليهودي وبالأرض اليهودية ليكوِّنوا نظامـاً مقدَّسـاً دائرياً مغلقـاً عضـوياً يُهلك من يقع خارج دائرة القداسة، مثل العرب، ويتمتع بسائر الحقوق من يقع داخلها فيتمتع بسائر الحقوق. ولكن القداسة هي، في واقع الأمر، القوة. ولهذا، يشير أحد مفكري جوشإيمونيم إلى الجيش الإسرائيلي باعتباره القداسة الكاملة. وهذا الخطاب لا يختلف كثيراً عن خطاب الرايخ الثالث.

النازيــة والصهيونيــة: العـلاقة الفعليـة

Nazism and Zionism: Actual Relations

تتعدى العلاقة بين النازية والصهيونية مجرد التماثل البنيوي والتأثير والتـأثر الفكريين، إذ أن ثمة علاقـة فعليـة على مستويات عدة. ولنبدأ بأدناها، وهي كيفية استغلال النازيين للدعاية الصهيونية في الترويج لرؤيتهم. فقد نشر الصهاينة في ألمانيا ذاتها المزاعم الصهيونية الخاصة بالتميز اليهودي العرْقي والانفصال القومي العضوي عن كل أوربا، وذلك حتى قبل ظهور النازيين كقوة سياسية. ففي عام 1912، قدَّم عضوان في المنظمة الصهيونية مشروعاً بإيعاز من كورت بلومنفلد جاء فيه أنه، نظـراً للأهمـية القصـوى للعمـل ذي التوجه الفلسطيني (أي الصهيوني)، يعلن أن من الواجب على كل صهيوني، خصوصاً من يتمتع باستقلال اقتصادي، أن يجعل الهجرة جزءاً عضوياً من برنامج حياته. وقد سُمِّي هذا القرار «قرار بوزن»، وأصبح منذ ذلك الحين الإطار العقائدي للصهيونية الألمانية التي تخلت بفضله عن أية أبعاد غير قومية ذات طابع خيري أو توطيني، وأصبحت أيديولوجيا قومية عضوية ذات طابع استيطاني. وكان بلومنفلد خبيراً بالمناورات السياسية، ولذلك نجح في تمرير قراره من خلال ما سماه بعض معارضيه «الأغلبية الطارئة»، أي عن طريق تقديم مشروع القرار أثناء وجود المؤيدين وغياب المعارضين والحصول على موافقة الحاضرين. وقد اتهمه المعارضون بالمزايدة، وفسَّروا تطرفه على أساس أنه يقبض راتبه من المنظمة الصهيونية وليس من الحكومة الألمانية أو أية هيئة أو مؤسسة ألمانية، وأن هذا يسمح له بأن يتخذ مثل هذه المواقف وأن يمرر مثل هذه القرارات التي لا تعكس وضع يهود (أو حتى صهاينة) ألمانيا أو تطلعاتهم.

وقد قام الصهاينة الألمان بعد ذلك بتطوير الأيديولوجيا الصهيونية والوصول بأطروحاتها إلى نتائجها المنطقية، أي تصفية الجماعات اليهودية في المنفى (أي العالم) تماماًوإنشاء الدولة الصهيونية. وابتداءً من العشرينيات، بدأ الزعماء الصهاينة في ألمانيا يطلقون التصريحات الصهيونية التي تؤكد الهوية اليهودية العضوية الخالصة وتنكر على اليهود انتماءهم إلى الأمة الألمانية. ففي عام 1920 (قبل ظهور كتاب هتلر كفاحي بثلاثة عشر عاماً)، ألقى جولدمان خطاباً في جامعة هايدلبرج بيَّن فيه أن اليهودشاركوا بشكل ملحوظ للغاية في الحركات التخريبية، وفي إسقاط الحكومة في نوفمبر 1918، وأصر على أن يهود ألمانيا والشعب الألماني ليست بينهما عناصر مشتركة، وعلى أن الألمان يحق لهم أن يمنعوا اليهود من الاشتراك في شئون الفولك الألماني. أما وايزمان، فقد شـبه عـلاقة الألمـان باليهود بصورة مجازية استقاها من عملية الهضم، فقال: إن أي بلد يود تحاشي الاضطرابات المعوية عليه أن يستوعب عدداً محدوداً فقط من اليهود. وكان يرى أن عدد اليهود في ألمانيا أكبر من اللازم، أو بعبارة أخرى يوجد فائض بشري يهودي. وفي الفترة نفسها، وصف كلاتزكين اليهود بأنهم جسم مغروس وسط الأمم التي يعيشون بين ظهرانيها، ولذا فإن من حقهم أن يحاربوا ضد اليهود من أجل تماسُكهم القـومي. وهـذه كلها موضـوعات قديمة مطروحة في كتابات هرتزل ونوردو، الأبوين الروحيين للصهيونية على وجه العموم والصهيونية الألمانية على وجه الخصوص، ولكنها اكتسبت أهمية خاصة من سياقها الزماني والمكاني في ضوء ما حدث بعد ذلك. وهي لا تختلف في جوهرها عن قول إرنست يونجر (المفكر القومي العضوي الذي ألهـم النازيين) أن اليهـود يتوهمـون أن بوسـعهم أن يصبـحوا ألمانيين في ألمانيا، ولكن هذا أمر غير قابل للتحقق. فاليهود يواجهـون خيـاراً نهائياً: إما أن يكونوا يهـوداً في ألمانيـا، أو لا يكونوا.

وفي ضوء هذا التوجه الصهيوني، لم يكن من الغريب أن يرى هتلر حين وصل إلى الحكم أن كثيراً من الصهاينة على استعداد لتَفهُّم وجهة نظره. فقد صرح الحاخام الصهيوني يواكيم برنز في يناير 1933 أنه لا مكان يمكن لليهود أن يختبئوا فيه. وقال: بدلاً من الاندماج، نرى نحن الصهاينة أنه يجب الاعتراف بالأمة اليهودية وبالعرْق اليهودي. وحينما قام النازيون في 31 يناير 1933 بحرق الكتب التي كانوا يرونها هدامة، كتبت يوديش روندشاو (المجلة الناطقة باسم الاتحاد الصهيوني) تقول إن كثيراً من المؤلفين اليهود خونة تنكروا لجذورهم لأنهم شتتوا جهودهم بإسهامهم في الثقافة الألمانية غير اليهودية. وفي نبرة ترحيب واضحة، صرح إميل لودفيج (الكاتب اليهودي الألماني) بأن ظهور النازيين دفع بالآلاف من اليهود إلى حظيرة اليهـودية مرة أخـرى بعـد أن كانوا قـد ابتعـدوا عنهـا. وقـال: "ولذا، فأنا شخصياً ممتن لهم". وترد نفس الفكرة النازية الصهيونية على لسان الشاعر الصهـيوني حـاييم بياليك إذ يرى أن الهتلرية أنقذت يهود ألمانيا، ويضيف: "أنا أيضاً مثل هتلر أؤمن بفكرة الدم". وبكثير من القلق، لاحظ أعضاء الاتحاد المركزي للمواطنين الألمان من أتباع العقيدة اليهودية (وهي جماعة اندماجية تعتبر يهود ألمانيا مواطنين ألمانيين) أنشطة الصهاينة وتصريحـاتهم واعتـبروها طعـنة من الخـلف في الحرب ضد الفاشية.

ولكن كل هذه المقالات والتصريحات لم تكن سوى افتتاحيات تمهيدية للإعلان الصهيوني الألماني الرسمي الذي أصدرته المنظمة الصهيونية في ألمانيا، في 21 يونيه 1933، بعد وصول النازيين إلى السلطة (إعلان الاتحاد الصهيوني بشأن وضع اليهود في دولة ألمانيا الجديدة)، Ausserung der Zionistischen Vereinigung fur Deutschland zur Stellung der Juden im Neuen Deutschen Staat. والذي حدَّد طبيعة علاقة الصهاينة بالنظام النازي بشكل واضح لا إبهام فيه. وقد اتخذ الإعلان شكل مذكرة أُرسلت مباشرةً إلى الحزب النازي وهتلر وتم من خلالـها تحديد المقولات المشـتركة بين النازيين والصهاينة. فقد بدأت المذكرة/الإعلان بتأكيد إمكانية التوصل إلى حل يتفق مع المبادئ الأساسية للدولة الألمانية الجديدة، دولة البعث القومي، ثم طرحت أمام اليهود طريقة جديدة لتنظيم وجودهم. وانتقلت المذكرة بعد ذلك لعرض إطارها السوسيولوجي، فقامت بانتقاد الشخصية اليهودية التي تتسم بالكسل، وبيَّنت أن صعوبة وضع اليهود تنبع من شذوذ النمط الوظيفي الذي يتبعونه، ومن الخلل الكامن في كونهم جماعة تتخذ مواقف فكرية أخلاقية غير متجذرة في تقاليدهم الحضارية الخاصة (أي أنهم قومية عضوية توجد خارج أرضها). وبعد أن تبنت المذكرة هذا النقد النازي لليهود انتقلت لإيضاح نقط الالتقاء الفلسفية والنظرية بين الصهيونيـة والنازية، فأكدت أن الصهيونية مثل النازية تمزج الدين بالقومية، فالأصل والدين ووحدة المصير والوعي الجمعي يجب أن تكون كلها ذات دلالة حاسمة في صياغة حياة اليهود. وتؤكد المذكرة أن المنظمة تقبل مبدأ العرْق، أحد ثوابت الرؤية النازية، كأساس لتصنيف الأفراد والجماعات المختلفة ولإنشاء علاقة واضحة مع الشعب الألماني وحقائقه القومية والعرْقية. كما تقوم المذكرة بتعريف اليهود تعريفاً عرْقياً، مبينة أن هدف الصهيونية هو التصدي للزيجات المختلطة والحفاظ على نقاء الجماعة اليهودية.

هذا هو الإطار الفلسفي الذي اقترحته المنظمة الصهيونية لتحديد العلاقة بين الصهاينة والنظام النازي، مؤكدةً إمكان تحويله إلى ممارسة وإجراءات. وقد طرحت المنظمة الصهيونية نفسها باعتبارها الحركة الوحيدة القادرة على أن تأتي بحل للمسألة اليهودية يحوز رضا الدولة النازية الجديدة ويتفق مع خُططها، حل يهدف إلى بعث اليهود من الناحية الاجتماعية والثقافية والأخلاقية في إطار فكرة الشعب العضوي ويتبع النموذج النازي. وكما تقول المذكرة الإعلامية: "على تربة الدولة الجديدة، ألمانيا النازية، نريد أن نعيد صياغة بنية جماعتنا بأكملها بطريقة تفيد ألمانيا واليهود في المجال المخصـص لهم، فهدف الصهيونية هو تنظيم هجرة اليهود إلى فلسطين". وسيؤدي الإطار النظري الفلسفي المطروح إلى ظهور حقائق اجتماعية جديدة تأخذ شكل نموذج جديد: اليهودي المتجذر في تقاليده الروحية، الواعي بنفسه الذي لا يحس بالحرج تجاه هويته، وهو نموذج مختلف تماماً عن ذلك اليهودي الذي لا جذور له والذي يهاجم الأسس القومية للجوهر الألماني، وهو مختلف أيضاً عن اليهود المندمجين الذين يحسون بالضيق لانتمائهم للجماعة اليهودية وللعرْق اليهودي وللماضي اليهودي (ولابد هنا من ملاحظة أن النموذج اليهودي الجديد لا يختلف في أساسياته عن النموذج النازي). ثم تمضي المذكرة قائلة إن الصهيونية تأمل أن تحظى بالتعاون مع حكومة معادية لليهود بشكلٍّ أساسي، إذ لا مجال للعواطف عند تناول المسألة اليهودية، فهي مسألة تهم كل الشعوب (وخصوصاً الشعب الألماني) في الوقت الراهن. وفي نهاية المذكرة/الإعلان، شجب الصهاينة جهود القوى المعادية للنازية وهتلر، والتي كانت قد طالبت في ربيع عام 1933 بمقاطعة ألمانيا النازية اقتصادياً. ومما يجدر ذكره أن هذه الوثيقة لم تُكتَشف إلا عام 1962 ولم تُعط الذيوع الذي تستحقه، رغم أنها ُتلقي الكثير من الضوء على علاقة النازيين بالصهاينة. وربما لو عرف مؤرخو الإبادة النازية في الشرق والغرب بها لنظروا إلى الإبادة النازية لليهود نظرة مختلفة بعض الشيء.

ونشرت يوديش روندشاو مقالاً تعلن فيه عن استعداد الصهاينة للتعاون مع أصدقاء اليهود وأعدائهم، حيث إن المسألة اليهودية ليست مسألة عاطفية، وإنما هي مسألة حقيقية تهتم بها كل الشعوب. وهذا الموقف امتداد لموقف هرتزل حين ميَّز بين التعصب الديني القديم (وهو مجرد تعصب عاطفي غير منهجي) والمعاداة الحديثة لليهود والتي وصفها بأنها حركة بين الشعوب المتحضرة الغربية تحـاول من خـلالها التخلص من شبح يطاردها من ماضيها. ويتضمن التمييز هنا شكلاً من أشكال القبول بالمعاداة المنهجية الرشيدة لليهود أو التي تم ترشيدها. وقد تبنى هتلر موقفاً مماثلاً حين ميَّز هو الآخر بين المعاداة العاطفية لليهود والمعاداة المنهجية لهم، إذ تنتهي الأولى بالمجازر، أما الثانية فتنتهي بالحل الصهيوني، أي تهجير جميع اليهود من ألمانيا إلى « وطنهم » فلسطين. وقد حدَّد هتلر مشروعه بالنسبة إلى اليهود على أسس صهيونية ومنهجية رشيدة (وهي القومية العضوية). كما قرر روزنبرج ضرورة مساندة الصهيونية بكل نشاط «حتى يتسنى لنا أن نرسـل سنوياً عدداً محدداً من اليهود إلى فلسطين، أو على الأقل عبر الحدود». وحينما استولى النازيون على السلطة، سمحوا للصهاينة بالقيام بنشاطاتهم الحزبية، سواء اتخذت شكل اجتماعات أو إصدار منشورات أو جمع تبرعات أو تشجيع الهجرة أو التدريب على الزراعة والحرف، أي أنهم سمحوا لهم بنشاط صهيوني خارجي كامل. كما كانت المجلات الصهيونية هي المجلات الوحيدة غير النازية المسموح لها بالصدور في ألمانيا. وقد وتمتعت هذه المجلات بحريات غير عادية، فكان من حقها أن تدافع عن الصهيونية كفلسفة سياسية مستقلة. وحتى عام 1937، لم يتأثر عدد صفحات يوديش روندشاو بالقرارات الاقتصادية التقشفية التي تقرر بمقتضاها إنقاص عدد صفحات كل المجلات (وضمنها المجلات الآرية). كما نشرت دور النشر الألمانية أعمال حاييم وايزمان وبن جـوريون وآرثر روبين. ويقـول إدوين بلاك مـؤرخ اتفاقية الهعفراه (أي النـقل)، إن "الصهيونية هي الفلسفة السياسية المستقلة الوحيدة التي وافق عليها النازيون".

وقد بيَّنا من قبل عدم اكتراث الصهاينة بالمقاومة اليهودية وغير اليهودية للنازيين. ولكن يبدو أن المسألة كانت تتخطى مجرد عدم الاكتراث بمصير اليهود وعدم الاشتراك في المقاومة، إذ يبدو أن الصهاينة اكتشفوا، أثناء الإرهاب النازي ضد اليهود، ذلك التناقض العميق بين فكرة الدولة اليهودية ومحاولة إنقاذ اليهود.

وقد حدد بن جوريون القضية بشكل قاطع (في 7 ديسمبر 1937) حين أكد أن المسألة اليهودية لم تَعُد مشكلة آلاف اليهود المهدَّدين بالإبادة وإنما هي مشكلة الوطن القومي أو المستوطن الصهيوني. وقد أدرك بن جوريون خطورة فصل مشكلة اللاجئين اليهود عن المشروع الصهيوني والتفكير في توطين اللاجئين في أي مكان إن لم تستوعبهم فلسطين. وأكد بن جوريون أنه إن استولت "الرحمة على شعبنا ووجه طاقاته إلى إنقاذ اليهود في مختلف البلاد" فإن ذلك سيؤدي إلى "شطب الصهيونية من التاريخ". وفي العام التالي صرح بن جوريون أمام زعماء الصهيونية العمالية: « لو عرفت أن من الممكن إنقاذ كل أطفال ألمانيا بتوصيلهم إلى إنجلترا، في مقابل أن أنقذ نصفهم وأنقلهم إلى فلسطين ـ فإني أختار الحل الثاني، إذ يتعين علينا أن نأخذ في اعتبارنا، لا حياة هؤلاء الأطفـال وحسـب، بل كذلك تاريخ شعب إسرائيل ». وإذا كان بن جوريون على استعداد بالتضحية بنصف الأطفال اليهود من أجل الوطن القومي الصهيوني فإن إسحق جرونباوم (رئيس لجنة الإنقاذ بالوكالة اليهودية) قد تجاوز الحدود تماماً، ففي حديث له أمام اللجنة التنفيذية الصهيونية في 18 فبراير 1943، صرح قائلاً إنه لو سُئل إن كان من الممكن التبرع ببعض أموال النداء اليهودي الموحد لإنقاذ اليهود فإن إجابته ستكون « كلاَّ ثم كلاَّ » بشكل قاطع. وأضاف: "يجب أن نقاوم هذا الاتجاه نحو وضع النشاط الصهيوني في المرتبة الثانية... إن بقرة واحدة في فلسطين أثمن من كل اليهود في بولندا". وكان وايزمان قد عبَّر عن نفـس الفكـرة النفعية عام 1937 حينما قال: "إن العجائز سيموتون، فهم تراب وسيتحملون مصيرهم، وينبغي عليهم أن يفـعلوا ذلك". وانطلاقاً من هذه الرؤية المتمركزة حول المشروع الصهيوني وليس الإنسان اليهودي، لعبت الحركة الصهيونية دوراً حاسماً في تدمير جميع المحاولات الرامية إلى توطين اليهود في أماكن مختلفة من العالم، مثل جمهورية الدومينيكان، حتى يضمن الصهاينة تدفق المادة البشرية اليهودية على فلسطين. ولهذا، التزمت جولـدا مائير، مندوبة الحركة الصهيونية في فلسطين، الصمت الكامل حيال مداولات مؤتمر إفيان باعتبـارها أمراً لا يخصـها (وقد فـسَّرت موقفها هذا، فيما بعد، بأنها لم تكن تدري شيئاً عن عمليات الإبادة النازية).

وقد اكتشـف النازيون أيضـاً عمـق تناقض مصـالح الصهاينة مع اليهود واتفاق الموقف النازي مع الموقف الصهيوني. فاليهودي الصهيوني الذي يخدم هويته العضوية هو شخص يستحق الاحترام (لأنه يدرك الواقع من خلال إطار عضوي وثني يشبه الإطار النازي)، على عكس اليهودي المتألمن المندمج الذي يتمسح في الهويات العضوية للآخرين ولا ينجح بطبيعة الحال في اكتسابها، لأنه حبيس هويته اليهودية، شاء أم أبى. ولعل هذا يُفسِّر السبب في أن النازيين اعتبروا أن عدوهم الحقيقي هو اليهود الأرثوذكس والجماعة المركزية للمواطنين اليهود من أتباع العقيدة اليهودية. ولعله يفسر أيضاً لم كانت علاقة الدولة النازية بالمنظمات الصهيونية تتسم بشيء من الود والتفاهم. فبينما كان الأرثوذكس والإصلاحيون يطالبون بمنح اليهود حقوقهم كمواطنين، وباندماجهم في مجتمعاتهم، كان الصهاينة يعارضون الاندماج ويعارضون منح اليهود أي حق، إلا حق الهجرة إلى الوطن القومي اليهودي.

لكل هذا قام النظـام النازي بتشجيع النشاط الصهيوني ودعم المؤسسات الصهيونية والسماح للمنظمات الصهيونية بممارسة جميع أنشطتها من تعليم وتدريب على الاستيطان ونشر مجلاته، بينما مُنع الاندماجيون والأرثوذكس من إلقاء الخطب، أو الإدلاء بتصريحات، أو جمع التبرعات أو مزاولة أي نشاط آخر. وقد قام كورت جروسمان، في كتاب هرتزل السـنوي (الجزء الرابع)، بدراسـة الموضـوع، ونشـره تحـت عنـوان "الصهاينة وغير الصهاينة تحت حكم النازي في الثلاثينيات". وألحق الكاتب بالمقال ثماني وثائق نازية تحمل كلها توجيهات للشرطة خاصة بتنظيم النشاط اليهودي في ألمانيا النازية. وأول هذه التوجيهات (رقم 36420/81134 صادر عن الشرطة السياسية في بافاريا بتاريخ 28 يناير 1935، وهو خاص بمنظمات الشباب اليهودي. وجاء فيه أن إعادة بعث المنظمات الصهيونية التي تدرب اليهود تدريباً مهنياً على الزراعة والحرف، قبل تهجيرهم إلى فلسطين، هو أمر في صالح الدولة النازية. بينما جاء في توجيـه آخر (رقـم 17186/81135 بتـاريخ 20 فــبراير 1935 أنه "يجب حل المنظمات اليهودية التي تدعو إلى بقاء اليهود في ألمانيا". وقد مُنع مواطن صهيوني (جورج لوبنسكر) عن طريق الخطأ من إلقاء الخطب، ثم صدر توجيه آخر (رقم 19106/11351 ب) ليصحح هذا الوضع، وصدر أمر بالسماح له بممارسة نشاطه « لأنه مدافع بليغ عن الفكرة الصهيونية وتعهد بأن يساعد على هجرة اليهود في المستقبل دون أية عوائق ».

كما اهتم النازيون كثيراً بنشاط التصحيحيين. ولهذا، صدر تصريح (رقم 17929/1135 ب) لمنظمتي الشباب القومي الهرتزلي وعصبة الأشداء (بريت هابريونيم) بأن يرتدوا أزياءهم الرسمية أثناء اجتماعاتهم. وقد مُنح التصريح، كما جاء في التوجيه، بشكل استثنائي لأن صهاينة الدولة (أي التصحيحيين) برهنوا على أنهم هم الذين يمثـلون المنظمـة التي تحاول، بكل السـبل، حتى غير الشـرعية منها، أن ترسل أعضاءها إلى فلسطين. وكان من شأن التصريح بارتداء الزي أن يحفز أعضاء المنظماتاليهـودية الألمانيـة على الانضـمام إلى منظمة الشـباب الخاصة بصهاينة الدولة، حيث كان يجري حثهم بشكل أكثر كفاءة على الهجرة إلى فلسطين. وقد صدر تصريح (رقم 19052/1135 ب) للمنظمات الصهيونية بتاريخ 9 يوليه 1935 بجمع التبرعات من أجل تشجيع الهجرة والاستقرار في فلسطين ولشراء الأراضي هناك. ومُنح التصريح "لأن هذه التبرعات تساهم في الحل العملي للمسألة اليهودية". كما شجَّع النازيون المدارس العبرية والمؤسسات الثقافية ذات التوجه اليهودي التي تساعد على إظهار الهوية اليهودية والرجوع عن الاندماج، بل منعوا اليهود من رفع الأعلام الألمانية وسُمح لهم برفع « العَلم اليهودي » (أي عَلم المنظمة الصهيونية).

والملاحَظ أن أشكال التعاون بين النازيين والصهاينة، والتي تناولناها حتى الآن، تمت بشكل غير مقصود (تصريحات صهيونية يستفيد منها النازيون)، أو هي التقاء عفوي في منتصف الطريق (نشاط صهـيوني يشجعه النازيون). ولكن ثمـة أشكالاً أخرى من التعاون الواعي. فهناك دلائل تشير إلى أن الجستابو وفرق الإس.إس S.S. (الصاعقة) ساعدت في تهريب المستوطنين الصهاينة إلى فلسطين، أي أن النازية لم تدعم الصهيونية التوطينية وحسب، بل امتد دعمها إلى الصهيونية الاستيطانية أيضاًَ. ولكن أهم أشكال التعاون مع الصهاينة الاستيطانيين تم من خلال اتفاقية الهعفراه المبرمة بين النظام النازي وصهاينة المُستوطَن (دون علم الصهاينة التوطينيين أو يهود العالم). ولا تكمن أهمية الاتفاقية في تبيان مدى عمق العلاقة بين الصهاينة والنازيين وحسب، بل إنها تبين أيضاً مدى عمق التناقض بين الصهاينة المستوطنين والصهاينة التوطينيين، وهو تناقض سـيطر على الحركة الصهيونية منـذ ولادتها ولم تفلـح الأيـام إلا في زيادته حدة. ويمكن القول بأن إبرام اتفاقية الهعفراه كان أول مواجهة حقيقية بين الفريقين، وقد كسب المستوطنون هذه الجولة الأولى.

وتوجد حالات محددة تعاون فيها الصهاينة مع النازيين في عمليات نقل اليهود وإبادتهم (كاستنر ونوسيج). كما تُوجَد منظمة صهيونية ذات طابع نازي واضح، وهي عصبة الأشداء التي سبقت الإشارة لها. وبالمثل، حاولت منظمة شتيرن تقنين عملية التعاون. وسنتناول أشكال التعاون هذه في بقية هذا الفصل.

معاهدة الهعفراه (الترانسفير(

Haavrah (Transfer) Treaty

«هعفراه» كلمة عبرية تعني «النقل» أو «الترانسفير». والنقل هو أحد مكونات الصيغة الصهيونية الأساسية. والهعفراه هو اسم معاهدة وقعها المستوطنون الصهاينة معالنازيين. وقد كان الصهاينة الاستيطانيون في الثلاثينيات يبحـثون عن وسـائل لدعم المسـتوطن وحماية مصالحهم بأية طريقة، ومن ذلك التعاون مع النظام النازي، بينما كان صهاينة الخارج التوطينيون وقادة الجماعات اليهودية مشغولين بعمليات إنقاذ يهود ألمانيا، وضمنها تنظيم مقاطعة اقتصادية ضد هذا النظام. ومن أهم الشخصيات القيادية في عملية المقاطعة صمويل أُنترماير المحامي الأمريكي اليهودي (الصهيوني) الذي نجح في تكوين حركة جماهيرية تضم اليهود وغير اليهود بقيادة الرابطة الأمريكية للدفاع عن حقوق اليهود، وأسس منظمة دولية أطلق عليها «الاتحاد اليهودي الاقتصادي العالمي» في أمستردام للتنسيق بين جميع المنظمات الداعية إلى المقاطعة. وشكلت المقاطعة، وخصوصاً في الشهور الأولى، تهديداً خطيراً للنظام النازي. ويذهب إدوين بلاك (مؤلف كتاب الهعفراه، وهو أهم كتاب صدر في الموضوع في جميع اللغات) إلى أنه لو اتحدت المنظمات اليهودية والصهيونية خلف حركة المقاطعة، فلربما كانت قد نجحت في تعبئة الجماهير غير اليهودية، وانضمت بعض الحكومات إليهـا، ولما نجـح النازيون، وخصـوصاً في الأشهر الأولى من تسلمهم السلطة، في الإمساك بزمام الأمور "فاستجابة مباشرة وموحَّدة كان من الممكن أن تقصم ظهر ألمانيا قبل شتاء عام 1933".

ولكن المستوطنين الصهاينة كانوا قد قرروا تبني خطة تخدم مصالحهم، فسافر الزعيم العمالي الصهيوني ورئيس الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية حاييم أرلوسوروف (1899 ـ 1933) إلى ألمانيا لمناقشة إمكانية التعاون والتبادل الاقتصادي معها. وكانت المسألة بالنسبة إلى المستوطنين ملحة للغاية، فقد فشل المستوطن الصهيوني في اجتذاب المهاجرين ولم يصل إليه رأس المال اليهودي المتوقع (وقد تم اغتيال أرلوسوروف بعد عودته من ألمانيا بعدة أيام). وكان هنريش وولف قنصل ألمانيا العام في القدس قد مهد الجو له وللمبعوثين الصهاينة من بعده عندما كتب مؤيداً وموضحاً المزايا التي سيجنيها النظام النازي من التعاون معهم. وفي النهاية، تم توقيع الاتفاق عام 1933 الذي كان يقضي بأن تسمح السلطات الألمانية لليهود الذين يقررون الهجرة من ألمانيا إلى فلسطين بـ «نقل» جزء من أمـوالهم إلى هـناك رغم القـيود التي فرضتها ألمانيا على تداول العملة الصعبة. وكان ذلك يتم بتمكين أولئك اليهود من إيداع المبلغ المسموح بتحويله (ألف جنيه إسترليني) في حساب مغلق يفتح في بنك واسرمان في برلين وبنك ووربورج في هامبورج ثم يُسمَح باستعمال هذا المبلغ فقط لشراء تجهيزات وآلات زراعية مختلفة من ألمانيا ويتم تصديرها إلى فلسطين. وهناك تقوم الشركة ببيع هذه البضائع وتسدد بأثمانها المبالغ المستحقة لمودعيها بعد وصولهم كمهاجرين إلى فلسطين، وتحتفظ بالفرق كعمولة أو ربح لها.

وقد تم تعديل الاتفاقية بحيث أصبح في مقدور اليهود الألمان الذين لا ينوون الهجرة مباشرةً، ويريدون مع هذا تأسيس بيت في فلسطين والمساهمة في تطويرها، أن يستعملوا الحساب المغلق وأن يودعوا أموالهم فيه شرط ألا يزيد المبلغ الإجمالي عن ثلاثة ملايين مارك تستعـمل لشـراء بضـائع ألمانية أياً كان نوعها. وأثناء تنفيذ الاتفاقية، اعترضت بعض العناصر في وزارة الخارجية الألمانية على هذه المساهمة النازية في بناء المُستوطَن الصهيوني. كما قام المستوطنون الألمان في فلسطين (من أتباع جماعة فرسان الهيكل) بالضغط ولكن دون جدوى، إذ أن هتلر نفسه قرر وجوب الاستمرار في العمل بالاتفاقية.

ويبدو أن الهدف الأساسي والمباشر من الاتفاقية كان (من المنظور النازي) كسر طوق المقاطعة اليهودية في العالم للبضائع الألمانية في أنحاء العالم. وفي محاولة لتوضيح الموقف النازي، قال وزير الاقتصاد الألماني لوزير الخارجية إن الاتفاقية تقدم أحسن ضمان لأقوى تأثير مضاد لإجراءات المقاطعة اليهودية للبضائع الألمانية. كما أكد القنصل الألماني العام في القدس الفكرة نفسها حين قال: "بهذه الطريقة، يمكن أن نقوم نحن الألمان بحملة ناجحة في مواجهة المقاطعة اليهودية في الخارج ضد ألمانيا. وقد يمكننا أن نحدث ثغرة في الحائط". ولاحَظ القنصل أنه في الصراع الدائر، بين الصهاينة التوطينيين (في الخارج) والصهاينة الاستيطانيين (في فلسطين)، بدأت مـوازين القوى تتغيَّر لصالح المستوطنين: « إن فلسطين هي التي تعطي الأوامر، ومن الأهمية بمكان أن نحطم المقاطعة في فلسطين في المقام الأول، وسيترك هذا أثره على الجبهة الأساسية في الولايات المتحدة «.

وقد أيَّده في ذلك فريتز رايخرت عميل الجـسـتابو في فلسـطين حين قـال: "إن مهمتنا الأساسية هي أن نمنع، انطلاقاً من فلسطين، توحيد صفوف يهود العالم على أساسالعداوة لألمانيا... لقد دمرنا مؤتمر المقاطعة في لندن من تل أبيب لأن رئيس الهعفراه في فلسطين، بالتعاون الوثيق مع القنصلية الألمانية في القدس، أرسـل برقـيات إلى لنـدن أحدثت الأثر المطلوب".

ويقول إدوين بلاك: "إن احتمالات انهيار الاقتصاد الألماني بدأ بالتناقص بسرعة بمرور الوقت. فحينما عقد أُنترماير اجتماعاً لاتحاده الدولي في أمستردام في أواخر يوليه 1933، كانت الفرصة لا تزال جيدة. ومع نهاية أغسطس، عند انعقاد المؤتمر الصهيوني الثامن عشر (1933)، كانت الفرصة صعبة لكنها ممكنة".

فماذا حدث في هذا المؤتمر؟ لعل دراسة الوقائع وتوقيتها يعطينا صورة دقيقة ومثيرة عن المعركة بين المستوطنين الصهاينة وصهاينة الخارج التوطينيين وكيفية إدارتها، وكذلك عن بعض الأساليب التي استخدمها المستوطنون لإحكام قبضتهم على الفريق المعادي. فقد وُقِّعت الاتفاقية بشكل مبدئي في 17 أغسطس 1933 وسُوِّيت كل النقط الفنية المعلقة في 22 أغسطس بعد افتتاح جلسات المؤتمر الصهيوني الثامن عشر في براغ (تشيكوسلوفاكيا). وقد أدرك النازيون الأهمية غير العادية للمؤتمر وركزوا كل جهودهم عليه حتى يتسنى إفشال المحاولات الرامية لإصدار قرارات من شأنها دعم المقاطعة اليهودية. وبعد افتتاح جلسات المؤتمر، ألقى سوكولوف خطبة ملتهبة عن يهود ألمانيا وبؤسهم دون أي ذكر للمقاطعة. ولكن النازيين كانوا يودون إحراز المكاسب الإعلامية التي يطمحون إليها، ولهذا أعلنوا عن الاتفاقية يوم 24 أغسطس، وهو اليوم الذي كان محدداً لمناقشة وضع يهود ألمانيا في المؤتمر، وقد تناقلت صحف أوربا الخبر، وألقى سوكولوف خطبة ملتهبة قال فيها: "إن اليهود يحترمون إسبانيا القديمة أكثر من ألمانيا الحديثة لأن خروج اليهود جميعاً أفضل من إهانتهم على هذا النحو". ورغم أن ألفاظه جاءت غاضبة شكلاً إلا أن مضمونها كان نازياً صهيونياً، فهو لا يتحدث عن حقوق اليهود في أوطانهم وإنما عن حقهم في الخروج الكامل والنهائي منها.

وقدَّم الصهاينة التصحيحيون قراراً محدداً خاصاً بالمقاطعة، ولكن العماليين نجحوا في فرض قرارهم. وكان النازيون قد أوقفوا مجلة يوديش روندشاو عن الصدور مدة ستة أشهر، فرُفع عنها الحظر وصدرت في اليوم نفسه وهي تحمل مقالاً تتباهى فيه بأن المؤتمر الصهيوني هزم بأغلبية ساحقة اقتراح التصحيحيين الذي كان يهدف إلى تحويل المنظمة الصهيونية إلى وحدة مقاتلة. وصدرت الصحف النازية مرحبة هي الأخرى بالموقف الإيجابي للمؤتمر.

وحينما افتتحت جلسة 25 أغسطس، انهالت برقيات الاحتجاج من يهود العالم لأن الاتفاقية ستهز مصداقية حركة المقاطعة اليهودية من جذورها وتقضي عليها تماماً في نهاية الأمر. فصعَّد النازيون حملتهم الإعلامية الذكية، وأعلنوا يوم 27 أغسطس عن صفقة برتقال ضخمة مع المستوطن الصهيوني (أشار إليها أحد صهاينة الخارج بـ «البرتقالة الذهبية» قياساً على «العجل الذهبي»). وأرسل أُنترماير برقية يطلب فيها أن ينكر المؤتمر أن مثل هذه الصفقة قد أبرمت، وهدد بأنه إن كـان الأمـر حقيقـة ولـم يتـم إلغـاء الصفقة، فإن المنظمة الصهيونية الأمريكية ستنسحب من المنظمة الصهيونية. وفي يوم 31 أغسطس، نشرت الحكومة الألمانية النص الكامل لاتفاقية الهعفراه، فقُوبل الحدث بعدم تصديق من جانب يهود الخارج. ونشرت جويش كرونيكل النص باعتباره نكتة نازية رائعة، كما أنكرت الدائرة السياسية للوكالة اليهودية أية علاقة لها بالموضوع، ولكنها تراجعت عن ذلك بالتدريج واعترفت بإبرام الاتفاقية.

وفي يوم 2 سبتمبر، طرح العماليون مشروع قرار يحكم سيطرتهم الكاملة على الصهاينـة التوطينيين جاء فيه: "كجـزء من الانضباط الصهيوني، لا يُسمَح لأي فرد أو مجموعة داخل المنظمة الصهيونية أن يشتغل بالسياسة الخارجية، أو أن يتصل بالحكومات الأجنبية أو بعصبة الأمم، أو أن يقوم بأية نشاطات سياسية من شأنها المساسبصلاحيات اللجنة التنفيذية". ويتضمن هذا القرار تحريماً لكل أشكال الاحتجاج ضد النازية وضمن ذلك اتفاقية الهعفراه. وقد تم التصويت على القرار الساعة الثالثة صباحاً ووُفق عليه، وأُجِّل التصويت على الاتفاقية ذاتها حتى آخر يوم. وبعد طرح مشروع قرار عمالي ومشروع قرار مضاد، قام الزعيم العمالي برل كاتزنلسون فتحدث عنالانضباط وكيف أن مناقشة الهعفراه خرق له، وبيَّن للمؤتمرين أنه توجد، في كل الاجتماعات الديموقراطية، مسائل مهمة لا يمكن مناقشتها. ثم اختتم كلمته قائلاً إن على كل هيئة صهيونية أن تعترف بأن إرتس يسرائيل لها أولوية على أي شيء آخر، وأهم واجب هو إنقاذ حياة اليهود وممتلكاتهم من الخطر الذي يتعرضون له (ورغم أنه استخدملغة الإنقاذ والإغاثة إلا أنه أحاطها بالإطار الأيديولوجي بتأكيده أولوية المستوطن على أي شيء آخر). وقد وافق المؤتمر على مشروع القرار العمالي، الذي لم يأت فيه سوى أنه لن يتم اتخاذ أي شيء من شـأنه أن يتعـارض مع موقف المؤتمر فيما يتصل بالمسـألة اليهودية الألمانية، أي أنه لن يقوم أي شخص بأي نشاط وسيُترك الأمر برمته للجنة التنفيذية. وقد وافـق المؤتمرون في الجلسة نفسها على أن يصبح علم المنظمة هو علم الدولة، وأن يصبح نشيد الهاتيكفاه النشيد الوطني للدولة عند إنشائها، وأنشد المؤتمرون النشيد واختتمت أعمال المؤتمر. وقد أدركت جويش كرونيكل في 3 سبتمبر أن الاتفاقية لم تكن نكتة نازية خفيفة بل حقيقة صهيونية نازية ثقيلة مريرة، ونشرت جرائد أخرى أنباء الاتفاقية وما حدث في المؤتمر.

وكان المؤتمر اليهودي العالمي الثالث على وشك الانعقاد في جنيف في 8 سبتمبر. ولما كانت أنباء الاتفاقية قد أصبحت معروفة ولم يعد هنـاك أي لبـس أو إبهـام، فقد كان من الممكن اتخـاذ قرار في هذا الشأن. وكانت هذه الفرصة كما يقول إدوين بلاك، هي "الفرصة الأخيرة "أمام اليهود والصهاينة لكي يتخذوا قراراً حاسماً (وخصوصاً أن حركة المقاطعة في الأوساط غير اليهودية كانت آخذة في التزايد). ولكن المؤتمر اليهودي اجتمع وفشل في اتخاذ قرار محدد بخصوص المقاطعة نتيجة الضغط الصهيوني، واكتفى بتأييد المعارضة التلقائية بين الجماهير. وقد تم إفشال المؤتمر بإشراف الزعيم الصهيوني الأمريكي سـتيفن وايز، وكان قد أفشـل قبلاً اجتمــاع أُنترماير في أمسـتردام ولندن. وحينما عُرضت الاتفاقية مرة أخرى على المؤتمر الصهيوني التاسع عشر (1935)، بهدف نقضها، رُفض مشروع القرار وتقرر وضع نشاطات الهعفراه كافة تحت إشراف الإدارة الصهيونية.

وقد حققت اتفاقية الهعفراه نجاحاً باهراً من وجهة نظر النازيين والصهاينة. فقد نجح النازيون في تصديع أسس المقاطعة اليهودية لألمانيا دون أن يضطروا إلى إجراء أي تعديل في سياستهم تجاه اليهود. وأما بالنسبة إلى المستوطنين، فإن فترة الهعفراه تُعُد أهم فترة في تاريخ المُستوطَن إذ تم تزويده بعدد كبير من أعضاء المادة البشرية المطلوبة وبرأس المال اللازم للبنية التحتية. وقد بلغ عدد اليهود الألمان الذي هاجروا إلى فلسطين في الفترة الواقعة بين عامي 1933 و1941 (بموجب الاتفاقية) نحو 52.300 ويُشكِّلون 25% من مجموع المهاجرين اليهود إلى فلسطين خلال الفترة نفسها. وكان بينهم 6.529رأسمالياً يمثلون إضافة اقتصادية ضخمة للمستوطن و6.700مهاجر من أبناء الطبقة الوسطى المثقفة غالبيتهم من الأطباء والمحامين والمهندسين والصناعيين.

كما ذكر ناحوم جولدمان في مذكراته أنه حينما قابل رئيس وزراء تشيكوسلوفاكيا عام 1935، اتهم الرئيس الصهاينة برفضهم الاشتراك في المحـاولات الراميـة إلى مقاطعـة هتلر، بل تخريبها بإبرامهم اتفاقية الهعفراه. وكان تعليق جولدمان الوحيد على ذلك أنه شعر حينذاك بالبؤس والخجل إلى درجة لم يشعر بها من قبل، وأن رئيـس الوزراء كان على حق فيما يقول. ومما يجدر ذكره أن اتفاقية الهعفراه ظلت سارية المفعول حتى عام 1939 مع نشوب الحرب العالمية الثانية، ثم توقف العمل بموجبهاولكن دون أن تُلغى رسمياً.

المجالس اليهودية

Judenrat

»المجالس اليهودية» ترجمـة للعبـارة الألمانيـة «يودين رات Judenrat». وهي مجالس كان يقيمها النازيون بين الجماعات اليهودية التي تقع تحت سلطتهم. وكان سلوك أعضاء المجالس يندرج تحت واحد من أربعة أنماط:

1 ـ تعاون من نوع ما في المجالات الاقتصادية والمادية.

2 ـ استعداد للاستجابة للمطالب النازية حين يتعلق الأمر بمصادرة الممتلكات والأشياء المادية الأخرى، مع رفض كامل لتسليم اليهود.

3 ـ قبول اضطراري لإبادة جزء من الجماعة اليهودية على أمل إنقاذ الجزء الآخر.

4 ـ خضوع كامل للمطالب النازية نظير حماية مصالح القيادة اليهودية.

ويبدو أن القيـادات اليهـودية القديمة كانت تسـلك وفق النمطين الأولين. ولكن النمطين الثالث والرابع سادا في المراحل الأخيرة حينما ترأست المجالس اليهودية شخصيات يهودية جديدة لم تضطلع بدور القيادة من قبل.

وكان النازيون يحاولون، قدر المستطاع، أن يضموا إلى هذه المجالس العناصر الصهيونية أو اليهودية القومية باعتبارها عناصر حديثة تشاركهم الرؤية في أن أوربا ليست وطن اليهود، وأنه يجب إخلاؤها منهم، وأن كفاح اليهود (باعتبارهم شعباً عضوياً [فولك]) يجب أن ينصرف إلى الهجرة لا إلى المقاومة والثورة. وقد نجحت هذه المجالس في إدارة أمور الجماعات وضمان سكوتها. وكان كثير من الصهاينة أعضاء في هذه المجالس، بل يُقال إن النازيين كانوا يفضلون الصهاينة على غيرهم من اليهـود بسـبب اتفاق الفريقين في المنطلقات الفكرية بينهما.

وتُثير المجالس اليهودية قضية التعاون مع النازيين. وقد عَرَّفت الموسـوعة اليهـودية (جودايكا) التعاون بأنه عـلاقة تعني قدراً من المشاركة، وأنها اتفاق إرادي حر بين فريقين. ومن ثم خَلُصت الموسوعة إلى أنه لا يمكن اتهام المجالس اليهودية بالتعاون مع النازيين، لأنها كانت مجرد أداة سلبية خاضعة للضغط النازي تنفذ ما يُطلب منها. كما أن المقاومة على أي حال لم تكن تُجدي فتيلاً لأن المخطـط النـازي كان لابد أن ُينفَّذ مهـما كان حجم المقاومـة.

ووجهة النظر التي تطرحها الموسوعة اليهودية مقبولة إلى حدٍّ كبير، وتتسم بشيء من التعاطف الإنساني المطلوب مع أفراد وجدوا أنفسهم تحت سكين الجلاد فسلكوا سلوكاً إجرامياً قد لا يوافقون عليه بالضرورة، ولهذا فلا يمكن أن يُعدوا مسئولين عما ارتكبوه من جرائم. لكن التعاطف الإنساني يجب ألا َيعرف أية حدود، ويجب ألا ُيميِّز بين اليهود والأغيار، ولذا ينبغي أن يُطبَّق هذا المعيار على كل من تعاون مع النازيين، فهم أيضاً كانوا يعيشون في ظل الإرهاب النازي، وكثيرون منهم نفذوا تعليمات النازي خشـية الإرهـاب، ومن ثم لم يكن هـناك أي قدر من المشـاركة والاختيار الحر. وانطلاقاً من ذلك، فإن محاكمة مجرمي الحرب، خصوصاً من صغار الموظفين، تصبحمسألة غير قانونية وغير إنسانية. بل إن قبول مثل هذه الأطروحة يجعل من الممكن استبعاد جميع المتعاونين تقريباً من قوائم الاتهام، بل تبرئة ساحتهم. فالنظام النازي كان نظاماً حديثاً شمولياً حقق مستوى عالياً من الكفاءة العميقة في الوصول إلى جميع الأفراد وفي محاصرتهم إعلامياً، وكان يمتلك جهازاً أمنياً تنفيذياً قادراً على الحركة السريعة، وعلى معاقبة كل المنحرفين. وكان المنحرفون من الألمان يُعاقبون بقسوة بالغة، لأنهم أعضاء في الشعب الألماني العضوي (المختار) وانحرافهم أمر غير مفهوم وغير مبرر، ويتطلب إنزال عقوبات عليهم تفوق ما ينزل على البشر العاديين من عقوبات.

أما افتراض عدم جدوى المقاومة من البداية فهو افتراض خاطئ، إذ يمكن للمرء تخيل ملايين الضحايا من اليهود وغير اليهود وقد رفضوا أن يستقلوا القطارات التي تقلهم إلى معسكرات السخرة والإبادة تحت ظروف الحرب،فلعل مثل هذه المقاومة كانت ستوقف آلة الحرب الألمانية أو على الأقل ترهقها لدرجة تجعل القيادة تعدل عن تنفيذمخططها الإبادي.وهنا تبرز مسئولية مجالس اليهود،فهي التي قامت بتهدئة الضحايا بشتى الوسائل وبإقناعهم بالرضوخ حتى تم تنفيذ المخطط النازي أو معظمه.ويذهب أيزياه ترانك (في كتاب له صدر عام 1972) إلى أن هناك من يرى أنه لو لم يتبع اليهود تعليمات المجالس اليهودية لتمكن ما يزيد عن نصفهم من الهرب من الإبادة.

ويرى المفكر الديني اليهودي ريتشارد روبنشتاين أن تراث يهود العالم، منذ أن تركوا فلسطين بعد تحطيم الهيكل، ولَّد فيهم قابلية للاستسلام والخنوع، وأن هذه القابلية هي التي جعلت بإمكان المجالس اليهودية أن تلعب هذا الدور، وأن تضع أعضاء الجماعات اليهودية في براثن النازي.

رابطـة الثقافـة اليهوديـة

Juedischer Kulturbaund

«رابطة الثقافة اليهودية» (بالألمانية: يوديشر كولتوربوند Juedischer Kulturbund) منظمة ألمانية يهودية تأسست في ألمانيا النازية عام 1933، بمبادرة من النظام النازي وبعض المثقفين الألمان اليهود مثل كورت باومان وكورت سنجر ويوليوس باب وفرنر ليفي. وتصدر الجماعة عن الإيمان بفكرة الشعب العضوي والشعب العضوي المنبوذ. حيث ذهبوا إلى أن أعضاء الجماعة اليهودية هم أعضاء في شعب عضوي (فولك)، ومن ثم لا يحق لهم المشاركة أو المساهمة في الحياة الثقافية العامة في ألمانيا، وهو افتراض قبله الصهاينة وكثير من المثقفين اليهود في ألمانيا وخارجها قبولاً تاماً. وكان مفهوم الشعب العضوي هو القيمة الحاكمة والمسلمة النهائية في المنظومة النازية، ولذا بارك جوبلز وزير الدعاية النازي نفسه فكرة تأسيس الرابطة التي استمرت في نشاطها حتى عام 1941، وكانت بمنزلة المنبر الأساسي للكُتَّاب والموسيقيين اليهود. وقد بلغ عدد أعضائها 17 ألفاً ثم زاد إلى 19 ألفاً بعد عدة شهور، وكان يعمل فيها عدد كبير من الموظفين و125 من الموسيقيين والممثلين والمغنين، وكانت تطبع بعض منشوراتها بالعبرية واليديشية (الوعاء الثقافي لتراث الشعب العضوي).

ونظراً لنجاح الرابطة، تم في عام 1938 تأسيس شبكة قومية من فروع الرابطة في كل أنحاء ألمانيا بلغ عددها 168 فرعاً، وبلغ عدد أعضائها 180 ألفاً (أي أنها كانت تضم معظم يهود ألمانيا الراشدين)، بل بلغ حجم العضوية في برلين وحدها ما بين 12 ألفاً و18 ألفاً. وبلغ عدد الفنانين اليهود التابعين للرابطة حوالي ألفين. وقامت الرابطةبتنظيم ما يقرب من 8457 برنامجاً تشمل محاضرات وحفلات ومسـرحيات وعروضاً فنية. وحقــقت إيراداً بلغ مليـوناً وربع مليـون مـارك. كما كان لها جريدتها الخاصة. وقد شاركت الرابطة بنشاط ملحوظ في الدعاية النازية، سواء في الداخـل أم في الخارج. ففي الداخل، قامت الرابطة بزيادة التماسك العضوي والوعي اليهودي بين أعضاء الجماعة اليهودية، الأمر الذي يعني زيادة عزلتهم وإعطاء مصداقية للرؤية النازية لليهود. أما بالنسبة للخارج، فكانت تعطي صورة مشرقة للحكم النازي في علاقته باليهود وفي سماحه لهم بالإفصاح عن هويتهم العضوية. ورغم أن أغلب البرامج الثقافية والعلمية المقدمة من قبَل الرابطة كانت تخضع لرقابة البوليس السري (جستابو) وغرفة الفنون والثقافة ثم لرقابة قيادات الحزب النازي في برلين، إلا أن السلطات النازية حرصت على استمرار نشاط الرابطة حتى بعد أحداث عام 1938، حينما تم الهجوم على الممتلكات اليهودية وإلقاء أعداد كبيرة من أعضاء الجماعة اليهودية في معسكرات الاعتقال، واستجابت لمطالب رؤساء الرابطة الخاصة بالسماح لهم باستخدام المسارح الألمانية لتقديم عروض الرابطة وتأسيس دور عرض سينمائي خاصة بها. كما عرضت تقديم دعم مالي لها، وقامت بتقديم الأرباح التي حققتها من خلال جريدتها ودور العرض السينمائي إلى المنظمات المختصة بتنظيم هجرة أعضاء الجماعة اليهودية إلى خارج ألمانيا. وقد نجح بعض قادة الرابطة في الهجرة، وتم حل الرابطة بشكل نهائي عام 1941 بأمر من الحكومة.

ولم تكن هذه الرابطة حادثة عرضية في تاريخ علاقة النازيين بالجماعة اليهودية. فقد أظهر النازيون دائماً اهتماماً غير عادي بالثقافة اليهودية باعتبارها تعبيراً عن أن الشعب اليهودي شعب عضوي مستقل. ولذا، أسست السلطات النازية أهم متحف يهودي في العالم آنذاك في تشيكوسلوفاكيا (ولا يزال هذا المتحف قائماً). وفي مستوطنةتيريس آينشتات، ازدهرت الثقافة اليهودية، وكانت الفرق الموسيقية تقدم عروضاً للزوار الأجانب وتصور الأفلام وتوزعها على العالم.

ولم يكن سلوك النازيين (هذا) ينم عن أي تسامح أو اضطهاد، وإنما هو تعبير عن إيمان بأن القومية العضوية تشكل أرضية تفاهم مشتركة بينهم وبين الصهاينة، وهي أرضية لا توجد بينهم وبين أي فريق يهودي آخر.

تيريس آينشتات

Thereseinstadt

» تيريس آينشتات Thereseinstadt» مدينة في تشيكوسلوفاكيا (وتُسمَّى «تيريزين» بالتشيكية) حولها النازيون إلى مستوطنة نموذجية بين عامي 1941 و1945. رُحِّل إليها حوالي 150.000يهودي من يهود وسط أوربا وغربها من المتميِّزين أو المسنين أو اليهود من أبناء الزيجات المختلطة. وقد أيد زعماء الجماعة اليهودية في تشيكوسلوفاكيا الخطة، باعتبار أن هذا يعني بقاء يهود تشيكوسلوفاكيا في وطنهم. ويُقال إن الهدف النازي من تأسيس هذه المستوطنة النموذجية كان إعلامياً بحيث تقدم للإعلام العالمي باعتبارها مثالاً على "حياة اليهود الجديدة تحت حماية الرايخ الثالث" (وهو اسم أحد الأفلام التي صُورت في المستوطنة(.

وقد أدار المستوطنة مجلس من الكبراء يضم القادة اليهود ويترأسه أحد كبراء اليهود كانت تعينه السلطات الألمانية. وتمتعت المستوطنة بحريات كثيرة، حيث كان لها نظامها التعليمي ونظامها البريدي المستقل ومكتباتها وهويتها الثقافية. ومن ثم، كان من مسئوليات مجلس الكبراء الحفاظ على النظام في المستوطنة وتوزيع العمل فيها وتوطين المستوطنين الجدد والعناية بالصحة وبالمـسنين والأطفـال والإشـراف على النشـاط الثقافي. كما كان يتبع المستوطنة نظام قضائي مستقل (أي أن تيريس آينشتات كانت تتمتع بالحكم الذاتي). وقد سمحت السلطات النازية لسلطات الصليب الأحمر بزيارة المستوطنة وبالاجتماع بمجلس الكبراء.

وقد رُحِّل حوالي 140.937 يهودياً إلى مستوطنة تيريس آينشتات من بينهم 33.529 ماتوا فيها، أي حوالي 25%، ورُحِّل حوالي 88.196إلى معسـكرات الاعتقال. وحينمـا تم تحرير المستوطنة وكان يوجد فيها 17.247 شخصاً.

وتثير هذه المستوطنة الكثير من القضايا:

1 ـ يُلاحَظ اشتراك المجالس اليهودية مع السلطات النازية في كل الأنشطة سواء الإعداد والتخطيط للمستوطنة أو إدارتها أو مقابلة مندوبي الصليب الأحمر الدولي. وهذا التعاون يثير واحدة من أهم القضايا الأساسية في ظاهرة الإبادة النازية لليهود، أي مدى اشتراك قيادات الجماعات اليهودية في عملية الإبادة.

2 ـ وتثير المستوطنة قضية ترشيد الإبادة، فلم يكن النازيون مجرد جزارين على الطريقـة التقليــدية، وإنما كانــوا يلجـأون إلى التخطيط العلمي الدقيق وإلى التفرقة بيناليهود المتميِّزين واليهود العاديين.

3 ـ ويمكن التساؤل أيضاً عما إذا كان هدف النازيين هو توظيف اليهود أم إبادتهم.

4 ـ ولا تختلف علاقة المستوطنة بالسلطات النازية عن علاقة أية دولة في العالم الثالث بالقوة الإمبريالية التي تحكمها، والحريات التي كان يتمتع بها سكان المستوطنة لا تزيد كثيراً عن تلك التي تعرضها الحكومة الصهيونية على سكان الضفة الغربية باسم الحكم الذاتي، وهو ما يجعلنا نذهب إلى القول بأن التجربة النازية جزء لا يتجزأ من الحضارة الغربية.

5 ـ ومن القضايا الأخرى التي تثيرها المستوطنة، عدد اليهود الذين تمت إبادتهم عن طريق أفران الغاز. فالموسوعة اليهودية (جودايكا) تتحدث عن أن ربع سكان هذه المستوطنة المثالية التي تتمتع بظروف خاصة ماتوا بسبب ظروف الحرب، وأنه في أبريل 1945 وصل إلى تيريس آينشتات 14.000 سجين من معسكرات الاعتقال الأخرى، فاجتاحت الأوبئة سكان المستوطنة وهلك منهم ومن المرحلين الجدد الآلاف، واستمرت الأوبئة في حصدهم حتى بعد سقوط النظام النازي. فإذا كانت الأوبئة قد حصدت حياة الألوف قبل بعد انتهاء الحرب، ألا يثير هذا قضية عدد اليهود الذين أُبيدوا عن طريق أفران الغاز؟

جيـــتو وارســو

Warsaw Ghetto

أسس النازيون جيتوات كانت تأخذ شكل مناطق قومية تتمتع بقدر كبير من الاستقلال، فكان يتم إخلاء رقعة من إحدى المدن من غير اليهود ثم يُنقل إليها عشرات الآلاف من اليهود. ومن أشهر هذه المناطق جيتو وارسو ولودز وريجا في بولندا ومستوطنة تيريس آينشتات «النموذجية» في بوهيميا.

ومن أهم الجيتوات جيتو وارسو الذي بلغ عدد القاطنين فيه عام 1941 حوالي نصف مليون يهودي يعيشون في رقعة صغيرة حولها حائط ارتفاعه ثمانية أقـدام، وكان له اثنان وعشـرون مدخـلاً يقف على كلٍّ منهـا ثـلاثة جنود، أحدهم ألماني والثاني بولندي مسيحي والثالث بولندي يهودي. وكان التعريف الذي تبناه الألمان للهوية اليهودية هوتعريف قوانين نورمبرج وهو أن اليهودي يهودي بالمولد وليس بالعقيدة (وهو التعريف الذي تبنته فيما بعد دولة إسرائيل والذي يستند إليه قانون العودة الصهيوني).

ويجب النظر إلى تجربة الجيتو هذه في ضوء المخطط النازي ذي الطابع الصهيوني الواضح الذي ينطلق من تصور استقلال اليهود كشعب عضوي منبوذ له شخصيته القومية المستقلة. ولذا كان للجيتو مؤسساته المستقلة الخاصة به (عملة خاصة ـ وسائل نقل خاصة ـ خدمة بريدية ـ مؤسسات الرفاه الاجتماعي). كما سُمح لجيتو وارسو بأن يكون له نظامـه التعليـمي، وبأن يفـتح المكتبات لبيع الكتب واستعارتها، وبأن يصدر جريدته اليومية بل كان له ميليشيا ومحاكم خاصة به، أي أن الجيتو كان بمثابة دولة صغيرة منعزلة ثقافياً واقتصادياً عما حولها، وهو بهذا استمرار لتقاليد القهال والإدارة الذاتية والشتتل التي يمجدها الصهاينة في كتاباتهم، وهو يشـبه في كثير من الوجوهالدولة الصهيونية المشتولة في الشرق الأوسـط.

وكان يدير الدويلة/الجيتو «سلطة يهودية» أو «مجلس كبراء»، تُعيِّن السلطات النازيــة أعضاءه. ولكن استقـلالية الدويلة/الجيتـو لم تكن كاملـة، إذ كـان الجيتو يقـوم باستيراد كل المواد الخام والطعام والملابس التي يحتاجها من سلطة الاحتلال النازية على أن يسدد ثمن الواردات بالمنتجات الصناعيـة (الملابـس والمصنـوعات الجلـدية) التي كان ينتجها الجيتـو. كمـا كان على المجـلس أن يقـدم عدداً من العمال يومياً يبيعون عملهم لتسديد واردات الجيتو. وكان العامل البولندي، يهودياً كان أم غير يهودي، يتقاضى ربع ما يتقاضاه العامل الألماني.

ولا ندري هل وضع النازيون مخططاً لإبادة يهود جيتو وارسو (بالمعنى الخاص للكلمة، أي بمعنى التصفية الجسدية) من خلال فرض وضع اقتصادي غير متكافئ عليهم بحيث يمكن استنزافهم لصالح النازيين، أم أن عملية الإبادة تمت كنتيجة حتمية، ليست بالضرورة متعمدة، للبنية الاستغلالية التي فرضها النازيون؟ فقيمة السلع التي كان ينتجها الجيتو والخدمات التي يقدِّمها كانت دائماً دون حد الكفاف ولا تفي بالاحتياجات المادية الأساسية للعاملين اليهود الأساسيين، الأمر الذي كان يعني سوء التغذية داخل الجيتو وتناقص عدد سكانه مع ضمان تدفق فائض القيمة بشكل مستمر إلى النازيين. وقد أدَّى عدم تكافؤ العلاقة بين الدولة النازية والدويلة/الجيتو اليهودية إلى أن السكان زادوا فقراً وزادت حاجتهم إلى المواد الغذائية، فكانوا يموتون جوعاً ويهلكون بالتدريج وببطء دون أفران غاز.

وقد قام أحد الباحثين بدراسة إحصائية دقيقة لهذه الإبادة التدريجية البطيئة (عن طريق التجويع) مستخدماً جيتو وارسو أساساً لدراسة الحالة. فأشار إلى أن الفترة من 1939 إلى 1942، أي خلال ستة وثلاثين شهراً، شهدت زيادة عدد الوفيات بشكل ملحوظ. فحسب معدل الوفيات بين أعضاء الجماعة اليهودية قبل الحرب كان من المفروض أن يكون عدد الوفيات 12.600 في العام. ولكن الجوع والمرض (وكذا غارات الحلفاء وأحكام الإعدام) أدَّت معاً إلى موت 88.568 ألفاً في العام، وهو عدد يشكل 19% من مجموع سكان جيتو وارسو البالغ عددهم خمسمائة ألف، الأمر الذي يعني أنه كان من الممكن اختفاء كل سكان الجيتو خلال ثمانية أعوام دون أفران غاز. ويمكن أن نضيف أن هذه العملية كانت ستتسارع في السنوات الأخيرة بسبب زيادة ضعف وهزال سكان الجيتو، ومن ثم، فإن خمس أو ست سنوات كانت كافية في تصوُّرنا لإتمام هذه العملية.

وكانت علاقة الدولة النازية بدويلة/جيتو وارسو علاقة كولونيالية لا تختلف كثيراً عن علاقة إنجلترا بمستعمراتها أو علاقة الدولة الصهيونية بالسلطة الفلسطينية في غزة وأريحا (كما يتخيلها الصهاينة). وربما كان الفارق الأساسي هو درجة التحكم، إذ أن جيتو وارسو كان كياناً صغيراً متخلفاً، ومن ثم كان بالإمكان التحكم فيه بدرجة كاملة أو شبه كاملة، على عكس الضفة الغربية وغزة حيث يوجد كيان حضاري مركب يعود إلى أعماق آلاف السنين ويتسم بتجذره، كما أن سكان " المناطق " المحتلة لم يتوقفوا قط عن المقاومة. وكل هذا جعل التحكم في فلسطين المحتلة بعد عام 1967 أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً.

ويدل سلوك الإسرائيليين تجاه السلطة الفلسطينية في غزة وأريحا أنهم استبطنوا هذا الجانب من تجربة يهود أوربا مع النازية. فهم يحاولون أن تكون علاقتهم مع هذه السلطة تشبه في معظم الوجوه علاقة الحكم النازي بالسلطة اليهودية في جيتو وارسو أو مستعمرة تيريس آينشتات.

جماعة شتيرن والنازية

Stern and Nazism

جماعة صهيونية مراجعة حاولت التعاون مع النازيين باعتبار أن ثمة فارقاً عميقاً بين ما سمته الجماعة «مضطهدي الشعب اليهودي» وأعدائه. فمضطهدو الشعب اليهوي أمثال هامان وهتلر موجودون في كل زمان (فالصهاينة يؤمنون بحتمية العداء لليهود واليهودية). ولكن الأمر جدُّ مختلف بالنسبة لأعداء اليهود، فهؤلاء هم الأجانب الذين يهيمنون على فلسطين ويمنعون اليهود من العودة إليها لينهوا حالة المنفى ويؤسسوا وطنهم القومي فيها. وبناءً على هذه الأطروحة الصهيونية الراديكالية لم يجد أعضاء شتيرن أية غضاضة في التفاوض مع النظم الشمولية بهدف التعاون الوثيق معها. فعقدوا اتفاقاً مع حكومة موسوليني تعترف بمقتضاه الحكومة الفاشية بالدولة الصهيونية على أن يقوم أعضاء شتيرن بالتنسيق مع القوات الإيطالية حين تقوم بغزو فلسطين.

ولكن التعاون مع النازيين كان هو الهدف الحقيقي. ولتحقيق هذا الغرض أرسل أعضاء شتيرن مندوباً إلى بيروت (التي كانت تحت سيطرة حكومة فيشي الموالية للنازيين) للتفاوض مع قوات المحور. وقد قابل هذا المندوب، في يناير 1941، مواطنين ألمانيين أحدهـما هو أوتو فون هنتج، رئيس القسم الشرقي في وزارة الخارجية الألمانية، والذي كان يشعر بالإعجاب العميق بالصهيونية.

وبعد الحرب اكتُشفت وثيقة (في أرشيف السفارة الألمانية في أنقرة) أرسلتها جماعة شتيرن للحكومة الألمانية تتصل بإيجاد حل للمسألة اليهودية في أوربا واشتراك أعضاء جماعة شتيرن إلى جانب القوات النازية في الحرب ضد قوات الحلفاء. وتنص الوثيقة على أن إجلاء الجماهير اليهودية من أوربا هو شرط مسبق لحل المسألة اليهودية. وقد عبَّر كاتب الوثيقة عن وجود نقط تماثل بين النازية والصهيونية. (وصفت شتيرن نفسها بأنها حركة تشبه الحركات الشمولية في أوربا في أيديولوجيتها وبنيتها). كما تذكر الوثيقة وجود مصالح مشتركة بين النازيين والصهيونية، وتُعبِّر عن تقدير جماعة شتيرن للرايخ الثالث لتشجيعه النشاط الصهيوني داخل ألمانيا وللهجرة الصهيونية إلى فلسطين. وتؤكد الوثيقة ضرورة التعاون بين ألمانيا الجديدة والفولك العبري في المجال السياسي والعسكري.

ولم يتلق الجانب الصهيوني رداً، ولذا أرسلت جماعة شتيرن مندوباً آخر في ديسمبر من نفس العام إلى تركيا (بعد احتلال البريطانيين للبنان) ولكن قُبض على هذا العميل.

وكان إسحق شامير، رئيس وزراء إسرائيل السابق، عضواً في جماعة شتيرن. ويؤكد الباحث الإسرائيلي باروخ نادل أن شامير كان يعرف بخطة شتيرن للتعاون مع النازيين. وحينما عُيِّن وزيراً للخارجية ثار الرأي العام العالمي بسبب تعيين إرهابي مثله (قام بتدبير عملية اغتيال اللورد موين في القاهرة عام 1942 والكونت فولك برنادوت عام 1948)، ولكن أحداً لم يتطرق إلى ماضيه النازي.

عصبــة الأشـــداء

Brit Habiryonim

«عصبة الأشداء» (أي الأقوياء) (بالعبرية: «بريت هابريونيم») جماعة صهيونية مراجعة أسسها آبا أحيمئير (1898 ـ 1962) ومجموعة من المثقفين الصهاينة مثل الشاعر أوري جرينبرج. وكان معظم مؤسسي الجمعية أعضاء في منظمات صهيونية عمالية ثم استقالوا منها. وقد تبنت الجماعة صياغة صهيونية لا تخفي إعجابها بالفكر النازي أو العنصرية النازية. وكما قال أحد كبار الصهاينة التصحيحيين « نحن التصحيحيين نكن الإعجاب الشديد لهتلر، فهو الذي أنقذ ألمانيا ولولاه لهلكت خلال أربعة أعوام، وسنتبعه إن هو تخلى عن معاداته لليهود ». وكانت مجلة عصبة الأشداء في فلسطين تزخر بالمقالات التي تمجد هتلر والهتلرية. وكان من بين هتافات أعضاء العصـبة « ألمانيا لهتلر، وإيطاليا لموسوليني، وفلسطين لجابوتنسكي». كما مجَّد أعضاء الجمعية الجوانب العسكرية في تاريخ العبرانيين، فكانوا يشبهون أنفسهم بجماعة حملة الخناجر، وهم فريق من جماعة الغيورين كانت تغتال الرومان واليهود الذين يتحالفون معهم، وذلك أثناء التمرد اليهودي الأول في فلسطين بين عامي 66 و73 ميلادية (واسم الجمعية نفسه «بريت هابريونيم» هو اسم إحدى الجمعيات الإرهابية اليهودية في تلك الفترة). وكان أتباع الجمعية يرون أن الاغتيال السياسي ليس جريمة وإنما هو فعل ذو هدف ومعنى، وأن الـدم والحـديد هما الطريق الوحيد للتحرر. وكما قال أحميئير، فإن "الماشيَّح لن يأتي راكباً على حمار"، وهو ما يعني أن الماشيَّح الصهيوني سيأتي راكباً دبابة، حاملاً القنابل العنقودية! وتعود أهمية الجمعية إلى تأثيرها في حركة التصحيحيين ككل، فقد تحولت مجلتهم (التي صدرت ابتداءً من يناير 1932) إلى لسان حال العمال التصحيحيين، وشنت حملات شعواء على المعسكر العمالي بأسره.

ورغم أن جابوتنسكي كان يحاول أحياناً أن يحتفظ بمسافة بينه وبين أعضاء الجمعية، إلا أنه كان يُعبِّر في خطاباته عن إعجابه بهم وتعاطفه معهم. ولم يتخذ أي إجراء تنظيمي ضدهم بل أطلق على أحيمئير (بنبرة لا تخلو من التهكم) اسم «معلمنا ومرشدنا الروحي»، كما أن الحاخام إسحق كوك دافع عنهم. وتذكر موسوعة الصهيونية وإسرائيل أن مناحيم بيجين انضم إلى الجناح الراديكالي لحركة التصحيحيين الذي كان مرتبطاً بعصبة الأشداء (لم تذكر الموسوعة في المدخل عن أحميئير أي شيء عن اتجاهاته النازية المذكورة، واكتفت بالإشارة إلى أفكاره "الراديكالية"). وقد استمرت العلاقة بين بيجين وأحميئير حتى بعد إعلان الدولة، فسمح بيجين، باعتباره رئيس حزب حيروت، بأن يكتب أحميئير في الجريدة اليومية للحزب، إلى أن مات عام 1962.

ألفريـد نوسـيج (1864-1943)

Alfred Nossig

أحد مؤسسي الحركة الصهيونية مع هرتزل، وأهم شخصية يهودية صهيونية متورطة في التعاون مع النازيين، وهو فنان وشاعر وموسيقار من أصل بولندي وخلفية ثقافية ألمانية، كانت مواهبه متعددة ومتنوعة عبَّر عنها من خلال الأدب (قصائد ومسرحيات ومقالات في النقد الأدبي) والموسيقى (لبريتو لإحدى الأوبرات) والنحت (عُرضَت تماثيله في معظم أرجاء أوربا وذاعت شهرته كنحات). وقد بدأ حياته، شأنه شأن معظم الزعماء الصهاينة، خصوصاً الذين كانوا من أصل ثقافي ألماني، بالمطالبة بالاندماج الكامل لليهود، ثم أصبح محرراً في إحدى الصحف البولندية. وفي عام 1887، نشر كتيبه محاولة لحل المسألة اليهودية (بالبولندية)، حيث اقترح إنشـاء دولة يهودية في فلسطين والدول المجاورة. وقد ترك هذا الكتيب أثراً عميقاً على المثقفين اليهود في أوربا وخصوصاً في جاليشيا. ومنذ ذلك التاريخ، أصبح نوسيج نشيطاً في المجال الصـهيوني فألَّف الكـتب ودبج المقالات عن موضـوع الاسـتيطان وغيره.

وقد يتصوَّر البعض أن ثمة تناقضاً بين نزعته الاندماجية الأولى ونزعته الصهيونية بعد ذلك. ولكن هذا النمط معروف تماماً بين مؤسسي الحركة الصهيونية، ولا سيما أصحاب الخلفية الثقافية الألمانية. فهؤلاء يهود غير يهود، بمعنى أنهم حاولوا الاندماج بل الانصهار في الأغلبية لرفضـهم لهويتهـم اليهـودية (الدينية والعرْقية). ولكـن المجتـمع صــنفهم « يهوداً ». ولهذا، أخذوا يبحثون عن طريقة أخرى للتخلص من اليهود، ووجدوا ضالتهم في الحل الصهيوني، الذي يرمي إلى نقل (ترانسفير) يهود أوربا خارجها، إلى أن يفرغها من يهودييها في نهاية الأمر. وهذه عملية ستقضي على الفائض البشري وتُسهِّل اندماج القلة التي ستبقى.

شارك نوسيج في المؤتمر الصهيوني الأول (1897)، واصطدم مع هرتزل لأسباب لا تذكرها المراجع التي عدنا إليها. ولكنه استمر في حضور المؤتمرات الصهيونية، وصوت ضد مشروع شرق أفريقيا (باعتبار أنه مشروع بريطاني، بينما كان متحمساً للمشروع الاستعماري الألماني). ويبدو أن نوسيج كان عضواً في العصبة الديموقراطية، إذ أنه ساهم (عام 1902) مع مارتن بوبر وحاييم وايزمان وليو موتسكين في تأسيس أول دار نشر صهيونية في برلين نشرت العديد من الكتب. ويُعتبَر نوسيج واضع أساس علم الإحصاء الخاص بين الجماعات اليهودية، فنشر أعمالاً بين عامي 1887 و1903 ووضع أساس إنشاء المعهد الإحصائي والسكاني (الديموجرافي اليهودي. )

وهدف الصهيونية (حسب تعريف معظم مؤسسيها) هو نقـل اليهود من أوربـا وإفراغها منهم لحل المسألة اليهودية، ونوسيج ينتمي إلى هذه المنظومة الفكرية التوطينية (الترانسفيرية). فكان معظم فكره يدور حول تهجير اليهود، وكان هذا يأخذ شكل محاولة زيادة وعيهم بهويتهم اليهودية العضوية حتى َيضمُر ويذوي إحساسهم بالانتماء إلى أوربا. وقد أنجز نوسيج ذلك من خلال أعماله الفنية مثل تماثيله: «اليهودي التائه» و«يهودا المكابي» و«الملك سليمان» و«الجبل المقدَّس» (كان نوسيج يود أن توضع على جبل الكرمل رمزاً للدولة اليهودية). كما أسس عام 1908 منظمة استيطانية تُسمَّى إيكو AIKO للتعجيل بنقل اليهود. فهو، شأنه شأن نوردو، كان في عجلة من أمره. ولعل طول الانتظار هو الذي دفعه إلى التعاون مع النازيين، لأنهم أيضاً ذوو نزعة توطينية ترانسفيرية. فعمل كمخبر للسلطات النازية إبان الحرب العالمية الثانية، وعيَّنه تشيرنياكوف، رئيس مجلس اليهود في وارسو إبان حكم النازي، عضواً في المجلس ورئيساً لقسم الفنون. ونظراً لمعرفته الوثيقة بأعداد اليهود وتوزعهم ومراحلهم العمرية المختلفة (بسبب دراساته التي أسلفنا الإشارة إليها)، ونظراً لرغبته العميقة في إفراغ أوربا من يهودييها، وضع نوسيج خطة متكاملة لإبادة اليهود الألمان المسنين والفقراء (غير النافعين) وتهجير الباقين أو إبادتهم. وقد اكتشف أعضاء المقاومة اليهودية في جيتو وارسو تعاونه مع النازي وأنه عضو في الجستابو، فحُكم عليه بالإعدام رمياً بالرصاص ونُفِّذ الحُكم في 22 فبراير 1943. وقد اختفى نوسيج تماماً من الأدبيات الصهيونية والغربية.

مردخــاي رومكوفســكي (1877-1944(

Mordechai Rumkowski

صهيوني بولندي ورئيـس المجـلس اليهـودي في جيتو لودز خـلال الحرب العالمية الثانية. وُلد في روسـيا ثم اسـتقر في مـدينة لودز مع بداية القرن العشرين. كان عضواً في الحزب الصهيوني العمومي، وقام بتمثيله في لجنة الجماعة اليهودية في لودز. كان رومكوفسكي مؤمناً بأن التعاون مع الألمان سيُعزِّز وضع اليهود، خصوصاً إذا زادت مساهمتهم وأهميتهم بالنسبة للمجهود الحربي الألماني. ولهذا عُيِّن، بعد احتلال الألمان لمدينة لودز عام 1939، رئيساً للمجلس اليهودي فيها، أي كبيراً لليهود، ومنحه المسئولون الألمان في جيتو لودز (الذي ضم 170 ألف يهودي) سلطات إدارية واسعة. وتَعزَّز موضعه القيادي بسبب مهارته التنظيمية، فكان مسـئولاً عن إقـامة الورش التي أمر الألمان بإنشائها لاستغلال عمل اليهود، والتي بلغ عددها 120 ورشة. ومع مرور الوقت، عمل رومكوفسكي على تركيز جميع السلطات في يده وأصبحت إدارته أكثر استبداداً. وعندما أمرت السلطات الألمانية الجيتو بإصدار عملة نقدية خاصة به (باعتباره كياناً يهودياً مستقلاً بدلاً من استخدام العملة البولندية أو الألمانية)، طُبعت على الأوراق المالية الجديدة صورته.

اشترك رومكوفسكي في عمليات ترحيل ونقل يهود لودز إلى معسكرات الاعتقال الألمانية، وكان مسئولاً مع معاونيه عن تحديد من سيتم ترحيله، الأمر الذي جلب عليهكراهية كثير من سكان الجيتو. وقد ضمت قوائم المرحلين كثيراً من معارضـيه داخـل الجيتو. وخلال الـفترة بين يناير ومايو عام 1942، تم ترحيل 52 ألف يهودي من الجيتو بمعاونة رومكوفسكي الذي ظل مؤمناً بأن التعاون مع الألمان هو أفضل سبيل لتخفيف وطأة هذه المأساة. وقد قام الألمان بتصفية الجيتو في نهاية الأمر عام 1944، ورُحِّل رومكوفسكي مع أسرته إلى معسكر أوشفيتس حيث مات.

وتُعَدُّ شخصية رومكوفسكي شخصية مثيرة للجدل في الأدبيات اليهودية التي تؤرخ لفترة الإبادة النازية، حيث يحمِّله البعض مسئولية إبادة يهود جيتو لودز. وهو يُعَدُّ مثلاً جيداً على ذلك التعاون بين قيادات الجماعات والمجالس اليهودية من جهة والسلطات النازية من جهة أخرى.

آدم تشـــرنـياكـوف (1880-1932(

Adam Czerniakow

صهيوني بولندي ورئيـس مجـلس الجماعـة اليهودية في وارسـو خلال الحرب العالمية الثانية. وأول رئيس للمجلس اليهودي في وارسو، والذي شكلته سلطات الاحتلال النازية.

كان تشرنياكوف من النشطين في مجال شئون الجماعة اليهودية في بولندا عقب الحرب العالمية الأولى، واهتم بشكل خاص بشئون الحرفيين اليهود الذين كانوا يشكلون 40% من تعداد الجماعة، وقام بالتدريس في شبكة المدارس اليهودية المهنية في وارسو. وانتُخب في الفترة بين عامي 1927 و1934 عضواً في مجلس مدينة وارسو، كما انتُخب قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية مباشرة عضواً في المجلس التنفيذي للجماعة اليهودية، ثم عيَّنه عمدة وارسو بعد اندلاع الحرب رئيساً لمجلس الجماعة اليهودية. وبعد احتلال القوات الألمانية للمدينة، عينته السلطات النازية رئيساً للمجلس اليهودي، وأوكلت إليه مهمة تنظيم الجماعة اليهودية في جيتو خاص بها، وكان على اتصال وثيق بالسلطات النازية، خصوصاً مع قوميسار الجيتو الألماني. وقد وجه بعض أعضاء الجماعة اليهودية انتقادات حادة للمجلس اليهودي ونشاطه وحاول بعضهم إقصاء تشرنياكوف. ويُقال إن تشرنياكوف لم يصدق، عندما بدأت عمليات ترحيل اليهود إلى معسكرات الاعتقال، أنه سيتم ترحيل اليهود بالفعل. ولكنه أدرك في نهاية الأمر أبعاد المخطط، فرفض التعاون مع الألمان ورفض التوقيع على أوامر الترحيل ولم يجد مخرجاً من مأزقه سوى الانتحار.

وقد ترك تشرنياكوف يوميات دوَّن فيها جميع الأحداث الهامة التي جرت داخل الجيتو وجميع ملاحظاته ومشاهداته. وتعتبر هذه اليوميات مرجعاً مهماً لأوضاع وظروفجيتو وارسو إبان الاحتلال النازي.

وتثير حياة تشرنياكوف قضيتين: أولهما قضية مدى مسئولية القيادات اليهودية عن نجاح النازيين في تنفيذ مخططهم. أما القضية الثانية فهي خاصة بمدى معرفة العالم الخارجي بما كان يدور في ألمانيا من عمليات تهجير وقمع وإبادة، إذ يذهب بعض الدراسين إلى أن العالم بأسره لم يكن يعرف شيئاً عما يدور في ألمانيا النازية وعن عمليات الإبادة، ومن ثم لم يتخذ أية إجراءات للحيلولة دون وقوع مثل هذه العمليات، بينما تصر الأدبيات الصهيونية على أن العالم ترك اليهود وحدهم لمصيرهم، الأمر الذي يعني صدق المعادلة الصهيونية البسيطة: اليهود ضد الأغيار. ولكن تشرنياكوف (وهو، كما بيَّنا، واحد من أهم الشخصيات القيادية اليهودية وكان يعيش داخل بولندا ويترأس الجيتو اليهودي في وارسو، وكانت تربطه علاقة يومية مع السلطات النازية) لم يكن يعرف شيئاً عن الترحيل أو عن أفران الغاز ولم يصدق ما كان يحدث من حوله، وقد تعاون مع النازيين، كما تُقرِّر المراجع الصهيونية، لأنه لم يكن يدرك إطلاقاً ما كان يحدث من حوله، ولم يصل إلى مسـامعه شـيء إلا في عام 1942، أي قرب نهاية الحرب، فكيف كان يمكن للعالم الخارجي أن يعرف عن الاعتقال والتهجير والإبادة؟

حاييــم كابــلان (1880-1942(

Hayyim Kaplan

مرب بولندي صهيوني دوَّن يومياته في جيتو وارسو أثناء الاحتلال النازي لبولندا. وُلد في بلوروسيا وتلقى تعليماً تلمودياً في المدرسة التلمودية العلـيا (يشـيفا)، ثم درس في المعهـد الحكومي التـربوي في فلنـا. وفي عام 1902، استقر في وارسو حيث أسس مدرسة ابتدائية عبرية كانت جديدة في نوعها، وظل مديراً لها لمدة أربعين عاماً،وكان كابلان شديد التحمس للغة العبرية ومن العارفين بها والدارسين لها. وقد تبنى في تدريسه للعبرية الأسلوب أو المنهج المباشر، فكان يدرسها كلغة حية متداولة باستخدام اللهجة السفاردية. وأصدر كابلان عدة كتب بالعبرية يدعو فيها إلى تبني هذا المنهج في التدريس، وذلك رغم المعارضة القوية من المؤمنين بالأساليب التقليدية. كما اشترك كابلان بشكل نشط في جمعية الكُتَّاب والصحفيين اليهود في وارسو ونشر العديد من المقالات وأصدر العديد من المجلات العبرية واليديشية على مدى الأعوام الأربعين التي عمل بها في التدريس. كما أصدر، إلى جانب ذلك، كتباً خاصة بالنحو العبري وكتباً للأطفال تتناول ما يُسمَّى «الثقافة اليهـودية» و«التاريخ اليهـودي». وكان كـابلان من المؤمنين بالقومية اليهودية، أي الصهيونية، والتاريخ اليهودي الواحد، وكانت يهوديته ذات طابع قومي حيث لم يكن متمسكاً بممارسة الشعائر والتقاليد الدينية. وقد اتجه إلى فلسطين في عام 1936 حيث كان ينوي الاستقرار مع ابنيه اللذين هاجرا للاستيطان بها من قبل، إلا أنه عاد إلى وارسو بعد أن فشل في العثور على عمل.

وتعود أهمية كابلان إلى أنه دوَّن يومياته وهو في جيتو وارسو أثناء الاحتلال النازي لبولندا وقبل أن يُدمَّر الجيتو بأكمله. وقد بدأ كابلان في كتابة يومياته بالعبرية ابتداءً من عام 1933 وسجل فيها الأحداث اليومية لمجتمـع الجيتـو، كما سـجل أفكاره وحواراته مع أصدقائه وانطباعاته العديدة. وقد أدان كابلان القيادات اليهودية في الجيتو ومن بينها آدم تشرنياكوف رئيس المجلس اليهودي، الذي كان يقوم بتسليم اليهود إلى النازيين والذي انتحر فيما بعد. وقد نجح كابلان في تهريب يومياته إلى خارج الجيتو قبل أن يلقى حتفه عام 1942.

وتتضمن اليوميات إدراكاً كاملاً للتشابه البنيوي بين النازية والصهيونية، إذ يُعبِّر كابلان عن دهشته لاضطهاد النازيين لليهود رغم أن الحل النازي هو نفسه الحل الصهيوني: الاعتراف باليهود كشعب عضوي منبوذ وطنه فلسطين ومن ثم يتعيَّن عليه أن يهاجر إليها. وقد دوَّن كابلان في مذكراته أن هذه الكلمات كانت جديدة على النازيين تماماً، وأنهم لم يصدقوا آذانهم حينما سمعوا ذلك لأول مرة من أحد اليهود. وهذه الملاحظة تدل على مدى جهل كابلان بمستوى المعرفة النازية بالمسألة اليهودية والعقيدة الصهيونية، وتدل على أنه لم يكن متابعاً للتعاون الوثيق بين النازيين والصهاينة في ألمانيا النازية.

وتُرجمت يوميات كابلان إلى لغات عدة منها الإنجليزية والألمانية والفرنسية والدنماركية واليابانية، ونُشرت بالإنجليزية تحت عنوان مخطوطات العذاب.

كـورت بلومنفلــد (1884-1963(

Kurt Blumenfeld

أحد الزعماء الصهاينة في ألمانيا، والقوة المحركة للمنظمة الصهيونية فيها. وهو يهودي ألماني وُلد لأسرة مندمجة، ولكنه خَلُص إلى أنه لا جدوى من الانعتاق وأن اليهود لن يكون في وسعهم الاندماج في المجتمع الألماني. تزوج بلومنفلد من فتاة من شرق أوربا، وبعد أن درس في كلية الحقوق في إحدى الجامعات الألمانية، انضم إلى المنظمة الصهيونية وأصبح سكرتيرها الأول عام 1909، ثم أصبح السكرتير العام للجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية العالمية (ورئيس قسم النشر)، وترأس تحرير مجلة دي فيلت لسان حال المنظمة. وبعد الحرب العالمية الأولى، قام بحملات واسعة لجمع التبرعات للصندوق القومي اليهودي وأصبح رئيساً للمنظمة الصهيونية الألمانية عام 1924، وظل يشغل هذا المنصب حتى عام 1933، أي عندما تولى هتلر السلطة في ألمانيا. وقد هاجر بلومنفلد عندئذ إلى فلسطين واستوطن فيها وأصبح الرئيس التنفيذي للصندوق القومي اليهودي في فلسطين. ومات بلومنفلد عام 1963، ولكن المصادر الصهيونية لا تَذكُر شيئاً عن نشاطه السياسي منذ عام 1944 حتى وفاته، أي مدة عشرين عاماً، وهو أمر يحتاج إلى دراسة.

كان بلومنفلد يرى نفسه « نبي» الصهيونية الألمانية في عصر ما بعد الاندماج وفشله، وبدأ يعلن عن مواقفه ويقوم بالجولات الإعلامية داخل ألمانيا وخارجها بوصفه مسئولاً صهيونياً، كما دأب على إلقاء خطب نارية ورفع شعارات سببت كثيراً من الحرج لأعضاء الأقلية اليهودية في ألمانيا. وكان بلومنفلد وراء إصدار ما يُسمَّى «قرار بوزن» الذي أصدرته المنظمة الصهيونية الألمانية عام 1912 وحدَّدت فيه الصهيونية كحركة قومية تُترجم نفسها إلى هجرة إلى فلسطين « الوطن القومي لليهود ». ووصف بلومنفلد هـذا القرار بأنه كان بمنزلة إعـلان للهـجوم على صهيونيـة الإحسان (الغربية)، أي الصهيونية التوطينية، وأن الصهيونية بصدوره أصبحت حركة ذات طابع قومي (استيطاني) واضح (وقد اعترف بلومنفلد أيضاً بأن الأعضاء وافقوا على قراره لأنهم لم يدركوا تضميناته السياسية الراديكالية(.

رودولـف كاسـتنر (1906-1957(

Rudolph Kastner

أحد زعماء الحركة الصهيونية في المجر. ترأس عدداً من المنظمات الشبابية الصهيونية، ورأس تحرير مجلة أوج كيليت Uj Kelet (أي « الشرق الجديد »)، وكان نائب رئيس المنظمة الصهيونية في المجر، ثم أصبح مسئولاً عن « إنقاذ » المهاجرين اليهود من بولندا وتشيكوسلوفاكيا، فقد كان يشغل منصب رئيس لجنة الإغاثة في بوادابست التابعة للوكالة اليهودية.

قام كاستنر بالاتصال بالمخابرات المجرية والنازية (التي كان لها عملاء يعملون داخل المجر، حتى قبل احتلال القوات الألمانية لها)، ثم استمر في التعاون مع النازيين بعد احتلالهم للمجر. وتشير بعض الدراسات إلى أن أيخمان حضـر إلى المجـر ومعـه 150 موظفاً وحسـب، وكان يتبعه عدة آلاف من الجنود المجريين، هذا بينما كان يبلغ عدد يهود المجر ما يزيد عن 800 ألف، وهو ما يعني استحالة ترحيلهم إلى معسكرات الاعتقال (السخرة والإبادة) إن قرروا المقاومة. ومع هذا نجح أيخمان في مهمته بفضل تعاون كاستنر معه، إذ يبدو أن كاستنر أقنع أعضاء الجماعة اليهودية في المجر بأن النازيين سيقومون بنقلهم إلى أماكن جديدة يستقرون فيها أو إلى معسكرات تدريب مهني لإعادة تأهيلهم وليس إلى معسكرات الاعتقال. ومقابل ذلك سمحت السلطات النازية (عام 1941) بإرسال 318 يهودياً ثم 1386 يهودياً من أحـد معسـكرات الاعتـقال إلى فلسـطين (« يهود من أفضل المواد البيولوجية » على حد قول أيخمان).

استقر كاستنر في فلسطين عام 1946، وانضم إلى قيادة الماباي ورُشِّح للكنيست الأول. وانتقلت معه مجلة أوج كيليت، وأصبح رئيساً لتحريرها، بل كان يُعَدُّ مسئولاً عن شئون يهود المجر (أو من تبقى منهم) في الحزب الحاكم.

ولكن في عام 1952 أرسل المواطن الإسرائيلي مايكل جرينوولد كتيباً لبعض القيــادات الصهـيونية اتهم فيها كاسـتنر بالتعاون مع النازيين، وأنه قام بالدفاع عن أحد ضباط الحرس الخامس (الإس. إس.) أثناء محاكمات نورمبرج الأمر الذي أدَّى إلى تبرئته وإطلاق سراحه. وقد قام الحزب الحاكم في إسرائيل بمحاولات مضنية لإنقاذ كاستنر وتبرئته. كما بيَّن كاستنر أثناء محاكمته أنه لم يكن يسلك سلوكاً فردياً وإنما تَصرَّف بناءً على تفويض من الوكالة اليهودية (التي أصبحت الدولة الصهيونية عام 1948). ولم يكن كاستنر مبالغاً في قوله فالمواطن الإسرائيلي جويل براند كان على علم ببعض خفايا القضية وبمدى تورط النخبة الحاكمة في عملية المقايضة الشيطانية التي تمت. وقد طُلب منه الإدلاء بشهادته، ولكنه آثر ألا يفعل وبدلاً من ذلك كتب كتاباً بعنوان الشيطان والروح يقول فيه « إن لديه حقائق تبعث على الرعب وتدمغ رؤوس الدولةاليهودية (الذين كانوا رؤساء الوكالة اليهودية)». وأضاف قائلاً «إنه لو نشر مثل هذه الحقائق لسالت الدماء في تل أبيب».

وقد قضت المحكمة الإسرائيلية بأن معظم ما جاء في كتيب جرينوولد يتطابق مع الواقع. وبعد إشكالات قضائية كثيرة، حُسمت المسألة (لحسن حظ الحزب الحاكم) حينما أطلق « أحدهم » الرصاص على كاستنر وهو يسير في الشارع. وقد تمت الجريمة رغم ورود تحذيرات لسلطات الأمن الإسرائيلية عن وجود مؤامرة لاغتيال كاستنر، بل كانت السلطات تعرف موعـد تنـفيذ المؤامـرة. وقد سـجل موشـيه شاريت، رئيس الوزراء الإسرائيلي، هذه الكلمات في مذكراته: "كاستنر. كابوس مرعب. حزب الماباي يختنق. بوجروم.". ويشير براند في كتابه إلى أن "رجال السياسة الذين يتسمون بالحذر، كانوا لا يعرفون ماذا سيفعلون مع هذا الرجل بعد محاكمته"، وكانوا يفكرون في "إسكاته".

العـرب والمسـلمون والإبادة النازية ليهــود أوربا

Arabs, Moslems, and the Nazi Extermination of European Jewry

لعل من الضروري أن نتناول إشكالية تخصنا وحدنا كعرب وكمسلمين ومسيحيين وهي موقفنا من الإبادة النازية لليهود. أما موقفنا من الإبادة النازية كمسلمين وكمسيحيين فهو واضح تماماً لا لبس فيه. فالقيم الأخلاقية الدينية (الإسلامية والمسيحية واليهودية) لا تسـمح بقتل النفـس التي حرَّم الله إلا بالحق. وقد جـاء في الذكر الحـكيم: "من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً". (المائدة ـ 32).

ويحاول الغرب إقحام الجريمة النازية داخل التاريخ العربي حتى يُبرِّر غرس الدولة الصهيونية الاستيطانية في وسط الوطن العربي، تعويضاً لليهود عما لحق بهم من أذى داخل التشكيل الحضاري الغربي وداخل حدود أوربا الجغرافية. وتحاول الدعاية الصهيونية، بممالأة الغرب، أن تنجز ذلك من خلال آليتين أساسيتين:

1 ـ تحاول الدعاية الصهيونية جاهدة أن تصوِّر المقاومة العربية للغزو الصهيوني لفلسطين وكأنها دعم مباشر أو غير مباشر للإبادة النازية، لأنها حالت في بعض الأحيان دون دخول المهاجرين اليهود لفلسطين. ومثل هذه الحجة لا أساس لها من الصحة. فالمقاومة العربية لم تكن ضد مهاجرين يبحثون عن المأوى وإنما كانت ضد مستوطنين جاءوا لاغتصاب الأرض وطرد أصحابها، تحت رعاية العالم الغربي، وبدعم من حكومة الانتداب البريطانية (ومن النازيين أنفسهم)، وفي الوقت الذي كانت الدول الغربية توصد أبوابها دون المهاجرين اليهود. ومهما فعل الصهاينة (يؤيدهم في هذا العالم الغربي دون تحفُّظ) يظل حق المقاومة حقاً إنسانياً مشروعاً بل اجباً على كل إنسان يحترم إنسانيته، ويظل رفض الإنسان للظلم تعبيراً عن نبله وعظمته، بل إنسانيته.

2 ـ تحاول الدعاية الصهيونية أن تبين أن بعض الساسة العرب أظهروا تعاطفاً مع النظام النازي. وهذه أكذوبة أخرى. فمعظم الحكومات العربية وقفت مع الحلفاء (فالعالم العربي على أية حال كان يقع في دائرة الاستعمار الغربي). كما أن النظرية النازية العرْقية كانت تضع العرب والمسلمين في مصاف اليهود، ولذا فأي تحالف مزعوم كان تحالفاً مؤقتاً لا يختلف عن حلف ستالين/هتلر. وهؤلاء الساسة (وبعض القطاعات الشعبية) ممن أظهروا التعاطف مع النازيين فعلوا ذلك لا كُرهاً في اليهود أو حباً في النازيين، وإنما تعبيراً عن عدائهم للاسـعمار الإنجليزي والاستيطان الصهيوني. وهو، على أية حال، تعاطف يُعبِّر عن سذاجة وعن عدم مقدرة على القراءة الجيدة للأحداث، وعن عدم إلمام بطبيعة الغزوة النازية ومدى تَجذُّرها في المشروع الحضاري والإمبريالي الغربي ومدى رفضها العنصري للمسلمين والعرب. ولم يُترجم هذاالتعاطف العام نفسه إلى اشتراك فعلي في الجريمة النازية، التي تحتفظ بخصوصيتها كظاهرة حضارية غربية.

ولكن كل هذه المحاولات الدعائية الإعلامية الغربية الصهيونية لا تغيِّر شيئاً من الحقائق التاريخية أو الجغرافية أو الأخلاقية، الدينية والإنسانية. فالإبادة النازية لا تُشـكِّل جزءاً من التاريخ العربي أو تواريخ المسلمين، ولم يلوث العرب والمسلمون أيديهم بدماء ضحايا النازية من يهود أو سلاف أو غجر. وهذه المحاولات تُبيِّن في نهاية الأمر اتساق الغرب مع نفسه، الذي يُكفر عن جريمة إبادية ارتكبها في ألمانيا بأخـرى لا تقل عنها بشـاعة في وطنـنا العربي.

ومن المعروف أنه حينما حدث احتكاك مباشر بين المسلمين والعرب من جهة والإبادة النازية من جهة أخرى فإن موقف المسلمين والعرب كان يتسم بالإنسانية. فعلى سبيل المثال قامت الأقلية المسلمة في بلغاريا بدور كبير في حماية أعضاء الجماعات اليهودية من الإبادة، كما أن الملك محمد الخامس عاهل المغرب رفض تسليم رعاياه اليهود إلى حكومة فيشي الفرنسية الممالئة للنازي.

وأثناء كتابة هذه الموسوعة لاحظت تكرار كلمة «مسلم» في مقال عن التدرج الاجتماعي في معسكر أوشفيتس، وقال مرجع آخر إن الضحايا الذين كانوا يُقادون لأفران الغاز كانوا يسمونهم تسمية «غريبة». وقد تبيَّن بعد قراءة عدة مراجع وموسوعات إلى أنهم كانوا يسمون في واقع الأمر «ميزلمان Muselmann» أي «مسلم» بالألمانية، وقـد ورد ما يلي في مـدخل مسـتقل في الموسوعة اليهودية Enyclopedia Judaica (جزء 12 ص 537 ـ 538) عنـوانه «مسـلم»:

«ميزلمان» أي مسلم بالألمانية، هي إحدى المفردات الدارجة في معسكرات (الاعتقال) والتي كانت تُستخدَم للإشارة للمساجين الذين كانوا على حافة الموت، أي الذين بدأت تظهر عليهم الأعراض النهائية للجوع والمرض وعدم الاكتراث العقلي والوهن الجسدي. وكان هذا المصطلح يُسـتخدَم أسـاساً في أوشفيتس ولكنه كان يُستخدَم فيالمعسكرات الأخرى».

هذه هي المعلومة، فكأن العقل الغربي حينما كان يدمر ضحاياه كان يرى فيهم الآخر، والآخر منذ حروب الفرنجة هو المسلم. ومن المعروف في تاريخ العصور الوسطى أن العقل الغربي كان يربط بين المسلمين واليهود، وهناك لوحات لتعذيب المسيح تصور الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو يقوم بضرب المسيح بالسياط.

إن التجربة النازية هي الوريث الحقيقي لهذا الإدراك الغربي، والنازيون هم حملة عبء هذه الرؤية، وهم مُمثِّلو الحضارة الغربية في مجابهتها مع أقرب الحضاراتالشرقية، أي الحضارة الإسلامية. وهم لم ينسوا قط هذا العبء حتى وهم يبيدون بعضاً من سكان أوربا. وهم في هذا لا يختلفون كثيراً عن الغزاة الأسبان للعالم الجديد الذينكانوا يبيدون سكانه الأصليين وكانوا يسمونهم «الترك» أي «المسلمين». كل ما في الأمر أن نطاق الحقل الدلالي لكلمة «مسلم» تم توسيعه لتشير "للآخر" على وجه العموم، سواء أكان من الغجر أم السلاف أم اليهود (وهذا لا يختلف كثيراً عن توسيع نطاق الحقل الدلالي لكلمة "عربي" في الخطاب الصهيوني لتصبح "الأغيار"). وقد حاول كاتب مدخل «مسلم» في الموسوعة اليهودية أن يفسر أصل استخدام الكلمة، فهو يدَّعي أن الضحايا سُموا «مسلمين» استناداً إلى طريقة مشيهم وحركتهم: "إنهم كانوا يجلسون القرفصاء وقد ثُنيت أرجلهم بطريقة «شرقية» ويرتسم على وجوههم جمود يشبه الأقنعة". والكاتب في محاولة التفسير هذه لم يتخل قط عن عنصريته الغربية أو الصور النمطية الإدراكية، كل ما في الأمر حاول أن يحل كلمة «شرقيين» العامة محل كلمة «مسلمين» المحددة.

مســـــــلم

Muselmann

انظر: «العرب والمسلمون والإبادة النازية ليهود أوربا».

الصفحة التالية ß إضغط هنا