المجلد الثالث: الجماعات اليهودية.. التحديث والثقافة 13

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

ينطلق برجسون من مفهوم أساسي في كل من الحضارة والفلسفة الغربية وهو مفهوم الشيء، فالشيء هو مقولة نظرية وصل إليها المنظّرون من خلال عملية تجريد طويلة. وفُرضت هذه المقولة على العالَم الذي تم النظر إليه باعتباره مجموعة أشياء محددة صلبة، فالفلسفة الغربية ترى أن العالم هو أساساً شبكة من الجواهر المرتبطة بعضهابالبعض بطرق مختلفة، وهذا هو منطق الأشياء الصلبة، منطق عصر العقل والاستنارة وعالم نيوتن الآلي الصلب. لكن ثمة منطقاً آخر وعالمَاً آخر يتسم بالسيولة والتماوجوالتمازج هو عالَم ما بعد الاستنارة، عالَم الصورة المجازية العضوية للكون. ويمكن القول بأن ثمة ثنائية صلبة تجري في كل أعمال برجسون تشبه الثنائية التي تسم منظومة نيتشه، مع فارق أن نيتشه يهتم بجانب واحد في الثنائية. أما برجسون، شأنه شأن وليام جيمس، فإنه يهتم بكليهما ويقننهما. كما أن برجسون أحل الحدس محل القوة كوسيلة لتجاوز الواقع المادي. ويمكن أن نورد بعض الثنائيات المتعارضة في منظومة برجسون: العقل/الحدس ـ التحليل/الإدراك المباشر ـ العلم المجرد/العالَم المتعيِّن ـالامتداد المكاني/الامتداد (أو التمازج) الزماني ـ الكمي/الكيفي ـ الصلب/السائل ـ الموجود/الصائر ـ المتقطع/المستمر ـ البرجماتي (وهو العملي القادر على التعامل معالبراني)/ الصوفي (وهو الذي يستخدم الحدس فيتعامل مع الإنسان والأزلية ويصل إلى الجوهر الجواني للأشياء) ـ مجتمع مغلق/مجتمع مفتوح ـ الامتثال للقوانينوالأعراف/تجاوز القوانين والأعراف ـ قانون الضرورة البراني للبشر العاديين/قانون الحدس الجواني للنخبة (الأبطال والمتفوقون).

والطرف الأول في الثنائية يمثل الجانب العقلي لعالَم الاستنارة الجاف الذي تهيمن عليه صورة مجازية آلية، وهو المجال الخاضع للقياس ولتقييم العقل وقوانين الواقع، أما الطرف الثاني فيمثل عصر معاداة الاستنارة والذي يتمركز حول صورة مجازية عضوية، فهو عالَم الديمومة، عالم مُفعَم بوثبة الحياة الكامنة في المادة، العالَم العضوي الحلولي الذي يتسم بالسيولة والحركية.

وتدور أعمال برجسون حول هذه الثنائية الصلبة وحول تحيُّزه للطرف الثاني في الثنائية (شأنه شأن كل الفلسفات الحيوية). ولعل أهم المفاهيم الفلسفية التي نظر إليها برجسون من منظور هذه الثنائية هو مفهوم الزمن، فالإنسان الغربي الذي اعتبر الشيء كياناً صلباً حينما نظر إلى الزمن اعتبره خطاً مستقيماً. وهذا هو جوهر الرؤية العلمية للزمن التي تثبت العالم كمقولات جامدة: الحاضر هنا ـ الماضي خلفنا ـ المستقبل أمامنا. إنها رؤية مكانية للزمن تنظر للزمن باعتباره امتداداً للمكان، وهي رؤية جامدة تؤدي إلى الحتمية. فنحن هنا وجئنا من هناك في السابق وسنتقدم إلى هناك في المستقبل، ولكن الزمن الحقيقي (الديمومة) هو امتزاج الماضي بالحاضر بالمستقبل،وهو ليس مجرد خط مستقيم يمتد بشكل رتيب من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل. ويرى برجسون أن كثيراً من البشر يفشلون في التمييز بين الزمن الحي المُعاش، كتجربة فريدة حية يدركها الحدس، والزمن كمكان جامد يعيه العقل؛ كمٌّ يقاس بالساعة وهو الزمن الموضوعي الآلي (الشيئي) الذي يستخدمه العلم. ويذهب برجسون إلى أن معظم البشر يخلطون بين الامتداد الزماني (أو الحيز الزماني) والامتداد المكاني، وبين الكيف والكم، وبين التزامن والتعاقب.

ويذهب برجسون إلى أن العنصر الحيوي في الامتداد الزمني المتدفق هو وحده الذي يتخلل كل الوجود الحقيقي، فالزمن يُلغي الوعي العقلي الجامد. ومن هنا، فإن عنصر الامتداد (الحيز) الزمني يمكن تعريفه باعتباره التغيُّر المستمر الذي يحدث في الزمن، وهو تغيُّر لا ينبع من أية قوى متجاوزة للزمن وإنما ينبع من طاقة داخلية موجودة في أجزاء الوجود (مهما تنوعت أشكالها)؛ قوة كامنة متشابهة في الجميع: هي الحياة. وهذه الحياة الحالَّة في كل شيء تخلق فيما تحل فيه ميلاً خاصاً وتوجيهاً معيناً يؤثران في كل جزئية من جزئياته: وهكذا يظل الجسم المادي يتشكل ويتغير حسب ذلك التوجيه الذي تمليه تلك الحياة الدافعة الكامنة فيه، ويسميها برجسون «الوثبة الحيوية» (بالفرنسية: إيلان فيتال elan vital) التي تنبع من مصدر لا متناه يوجد داخل الكون ذاته.

واستمرار هذه الوثبة الحيوية وتعبيرها المستمر عن نفسها من خلال الزمان هو العنصر الأساسي في الكون. وينتج عن هذا أن ما يكوِّن الوعي هو الذاكرة، فالذاكرة هي التي تستوعب الامتداد الزمني لأنها تراكم لكل إنجازات الماضي وتستدعي الصور الذهنية التي مرت بنا في التجـارب الماضـية مقرونةً بمـا ســبقها وما تـلاها، فتتمكن بـذلك من الحكم على المواقف المشـابهة التي قد تعرض لنا حكماً صادقاً. فالذاكرة، من ثم، علم. لكن للذاكرة فوق هذا عمل آخر. فمن خلالها ينمو الماضي ليصبح الحاضر، ومن خلال الحدس، الذي هو جوهر الذاكرة، يدرك الإنسان جوهره الشخصي باعتباره (هو ذاته) امتداداً زمنياً وحيوياً، وكذلك يدرك الامتداد الزماني المبدع الذي هو الحقيقة المطلقة. وبواسطة الذاكرة يمكن أن يستوعب الخلود بأسره في لحظة واحدة، وفي ذلك تحرير لنا من قيود الصيرورة الطبيعية التي تخضع لها الأشياء الجامدة، فهي من ثم تحوِّل الإنسان من آلة صماء في يد القوانين المادية ليصبح كائناً مدركاً حرّ الإرادة قادراً على الاختيار.

ولكن برجسون يدور في إطار الواحدية الكونية، أي أنه يرى أن ثمة عنصراً واحداً يُكوِّن العالم بأسره، ولذا فهو يصفي كل الثنائيات. فالكائنات الحية كلها تتصف، في جوهرها، بالصيرورة التي تعني تطور الكائن بانتقاله من مرحلة إلى أخرى وخضوعه لحكم الزمن. والحقيقة الأولى هي الصيرورة لا الوجود، والتغير لا الثبات. وهذه الحياة التي لا تفتأ تخلق وتغير وتبدع والتي تتلمس الحرية من قيود المادة هي الإله، فالإله والحياة اسمان لمسمَّى واحد. وأغلب الظن أن هذه الحياة الدائمة التخلص من أغلالها وأصفادها ستظفر في آخر الأمر بما تريد، فتتغلب على الموت وتتحقق لها الحرية والخلود (وهي لحظة نهاية التاريخ، والفردوس الأرضي، وتحقُّق الفكرة المطلقة في التاريخ ونهاية الدورة الكونية لتبدأ دورة أخرى).

ومما يجدر ملاحظته أن الوثبة الحيوية في منظومة برجسون تحل محل الإله في كثير من المنظومات الدينية التقليدية. ومن ثم، فإن الإله في فلسفة برجسون كيان متغيِّر متحرك قابل للنمو والتزايد باستمرار. وهو صيرورة كاملة، فهو ليس هنا ولا هناك، وهو ليس موجوداً ولا يتصف بأي كمال من الكمالات التي ننسبها في العادة إلى المبدأ الإلهي، كما أن صفة القدرة المطلقة ليست من صفاته. ولا يوجد هنالك فارق بينه وبين العالم، فالاختلاف بينهما في درجة الشدة والتوتر أو الترقي، كما لا يوجد فارق بين الإله والإنسان. ويمكننا القول بأن مفهوم الإله في فكر برجسون يتأرجح بين فلسفة وحدة الوجود الروحية وفلسفة وحدة الوجود المادية، فهو يُسمِّي المبدأ الواحد الذي يسري في الكون أحياناً «الإله» ويسميه أحياناً «الوثبة الحيوية». ومهما تكن التسمية، فإن العالم بأسره يُردُّ إلى هذا المبدأ الواحد.

فإذا كان الإله صـيرورة وحركة نحـو هدف، فإن الهدف هو الإنسان، فهو النقطة التي تتحقق فيها الوثبة الحيوية (وهذا يشبه من نواحٍ كثيرة مبدأ الإصلاح [تيقون] في القبَّالاه اللوريانية وفي كثير من المنظومات الغنوصية حيث يبلغ الإله كماله ووحدته بل ووجوده من خلال الإنسان، كما أن الكون حين يصل لحظة الكمال يشبه الإنسان). وكل هذا تعبير عن الواحدية الكونية وعن وحدة الوجود بدون إله، ولكنها وحدة وجود فيضية من نوع خاص تجعل الإله الينبوع الحر الخالق الذي تنبعث منه الحياة والمادة على السواء بمقتضى جهد إبداعي يتجلى في تطوُّر الأنواع الحية وظهور الشخوص البشرية. ويظهر الفكر الأخروي لهذه المنظومة في لحظة الكمال النهائية التي ستتحقق داخل الزمان التاريخي وتلغيه في ذات الوقت.

هذه هي ركيزة النسق الأساسية: وثبة حيوية تعبِّر عن نفسها من خلال مادة واحدة، والتاريخ الكلي للبشرية إن هو إلا محاولتها التعبير عن نفسها عبر الزمان. ومادام الزمان هو نسيج الواقع، فإن التطور هو الحقيقة الوحيدة الثابتة. والتطور تسلسل منطقي من الأحداث والصور، وهو تحرك ليس آلياً برانياً مدفوعاً من الخارج وإنما هو حيوي مدفوع من الباطن، من داخل المادة نفسها، والتطور يأخذ شكل تزايد في التركيب فتيـار الحياة، التي تدفعه الوثبـة الحيـوية نبـع في وقت ما وفي نقطة من مكان ما، وانتقل من جسم إلى جسم ومن جيل إلى جيل، ويمضي قدماً نحو أعلى صور الحياة وأرفعها.

ورغم هذه السيولة الكونية، نجد أن برجسون يُقسِّم البشر بصرامة إلى هؤلاء الذين يدركون الزمان كامتداد مكاني وكأنه كادرات فيلم سينمائي يتتابع الواحد تلو الآخر دون حركة أو وصل أو حياة، لا حياة في كل وحدة على حدة، وهم يدركون أنفسهم كتجل صلب في المكان وكوحدة جامدة صلبة باردة، ويستخدمون عقولهم وحسب في إدراك الواقع وتجميده وقتله. لكن هناك أيضاً أولئك الذين ينظرون للزمان باعتباره حيوية متدفقة متموجة، تُولَد وتنمو دائماً وكأنه الشريط السينمائي الذي يُلغي صلابة كل صورة على حدة فيبث فيها الحياة والحركة الدائمة ويربط بين أشتاتها ويكوِّن منها حقيقة واحدة متحركة (والحركة غير قابلة للقسمة، وهي متصلة تأخذ شكل ثبات لا يمكن فصل أولها عن آخرها، وذلك على عكس المسار المكاني فهو قابل للقسمة). وهذا الفريق من البشر يتمتعون بالبصيرة والحدس، ولذا فإنهم يدركون الواقع في كليته وحيويته. وهم يدركون أنفسهم ككيان حركي حي قادر على الوصول إلى جوهر الأشياء.

ونلاحظ هنا أن التقسيم الثنائي الصلب الذي يوجد في فلسفة نيتشه ووليام جيمس: الأقوياء والضعفاء، المنتصرون والمهزومون، الأبطال والعاديون، والمتصوفون الذين يُولِّدون القوانين التي يُحكم بها عليهم، والمتعبدون والخاضعون لقوانين المجتمع. وعامة الناس هم، بطبيعة الحال، الضعفاء الخاضعون المهزومون الذين تسري عليهم القوانين العادية، أما الآخرون فهم نخبة صغيرة، مجموعة محدودة تتحرر من قيود العادة التي تربط الإنسان بالحقائق الاجتماعية والأخلاقية والإدراكية للواقع، لتحلِّق في عالم السيولة، ذلك الجزء الذي تدفعه الوثبة الحيوية بلا توقُّف، فهم قمة الحرية والإبداع.

وقد أدَّت الوثبة الحيوية في مجال الأخلاق إلى ظهور ضربين مختلفين منها يقابلان هذين الاتجاهين المتمايزين، اتجاه الغريزة واتجاه العقل، الأول تناسبه الأخلاق المغلقة، وهي أخلاق الجماعات المغلقة على نفسها التي تشبه من بعض الوجوه مجتمع النحل أو النمل، والثاني تناسبه الأخلاق المفتوحة التي تتجاوز حدود الجماعة، وعليه يتوقف مصير الإنسانية لأنه هو الذي يفتح أمام التطور البشري أفقاً واسعاً لا نهائياً. وتقوم الأخلاق المغلقة على الإلزام الذي يفرض على الجماعة نظاماً من العادات يحقق لها وحدتها ويصون كيانها، بينما الأخلاق المفتوحة تصدر عن نزوع عام تتمثل فيه جاذبية القيم وحب الإنسانية؛ الأولى يسميها برجسون الأخلاق الاجتماعية ومَثَلُها الأعلى تحقيق العدالة والتضامن الاجتماعي، والثانية يسميها الأخلاق الإنسانية ومثلها الأعلى المحبة والكمال الأخلاقي. ولكن الوثبة الحيوية لم تستطع أن تنتج إلا مجتمعات مغلقةبطريقة أو بأخرى، ولذلك فإنها عندما عجزت عن الاستعانة بالنوع بأكمله لم تجد بُداً من أن تستعين ببضع شخصيات ممتازة اتخذت منها أدوات لتحقيق مقاصدها وأغراضها، وهؤلاء هم الأبطال والأنبياء والمصلحون، رموز الوثبة الحيوية ودعاة المحبة والإيثار، وهم الصفوة المختارة التي تُحقِّق للحياة حركتها الصاعدة. ونحن هنا نواجه السوبرمان، الإنسان المتأله (أو تساديك) قمة التطور وتجسيد المطلق في التاريخ والنقطة التي ينغلق عندها النسق فهو مكتف بذاته لا يشير إلى نفسه.

وماذا عن البُعد اليهودي في فلسفة برجسون؟ كان برجسون يذهب إلى أن اليهودية ديانة مغلقة من وحي مجتمع مغلق، وأنها دين ساكن إستاتيكي جامد، أخلاقه مغلقة تحمل الفرد على الإخلاص بشكل غريزي للجماعة. أما الكاثوليكية، في رأيه، فهي ديانة عالمية تتجاوز اليهودية، وهي دين منبعه الحدس لا الغريزة وغايته الاتصال بالوثبة الحيوية التي تكمن وراء شتى مظاهر الوجود. وإذا كانت اليهودية تُعلّم اليهودي التشبث بالحياة، فإن الكاثوليكية تعلم المسيحي الانفصال عن كل شـيء (لا التعلق بأهداب الحياة) وهو شـيء يتسم به المتصوفون وحدهم. والمسيح في نظر برجسون أكبر شخصية صوفية عرفها التاريخ بحيث يمكن القول بأن كل المتصوفة أتباع له. والصوفي المسـيحي يشـعر بأن الحب يستنفد وجوده كله، وهو ليس حب إنسان للإله، ولكنه حب الإنسانية من خلال الإله وبواسطته. ثم يُعرِّف برجسون إله الصوفية بأنه حياة ومحبة تعبر عنهما تلك الوثبة الحيوية التي تَصدُر عنها ديانة المتصوفين، وهم وحدهم الذين يتلقون عن تلك الطاقة الخلاقة التي هي الأصل في رؤاهم وكشوفهم، وعلى عاتقهم تقع مسئولية توجيه الإنسانية إلى حياة مستقرة مليئة بالمحبة والتعاطف.

وإذا ما أردنا أن نحدِّد البُعد اليهودي في فلسفة برجسون، فإننا سنجد أنه أقرب إلى إسبينوزا منه إلى اليهودية الحاخامية. فكلاهما يهاجم جمود اليهودية ولكنه يدور في إطار وحدة الوجود (الروحية والمادية)، وكلاهما يُغيِّب الإله بأن يجعله مجرد قوة دافعة للمادة أو للزمان كامنة فيها تتخلل ثناياها وتضبط

وجودها. ولكن وحدة الوجود ليست سمة من سمات اليهودية وإنما هي أيضاً السمة الأساسية للرؤية العلمانية المتمركزة حول الإنسان أو المادة أو حول الإنسان باعتباره مادة، فكأن فكرة وحدة الوجود هي الإطار الذي ينتظم كلاًّ من اليهودية والعلمانية وكلاًّ من إسبينوزا وبرجسون، وكذلك كل الفلاسفة اليهود وغير اليهود الذين يتحركون في هذا النطاق.

ولعل هذا يساهم في كشف النموذج الكامن وراء كثير من الفلسفات العلمانية الحديثة (بل ووراء حركة الحداثة ككل) فهذه الفلسفات شكل متطور من أشكال وحدة الوجود والرؤية الحلولية، فجميعها فلسفات حيوية، مثل فلسفة برجسون، ترى المطلق في النسبي وترى المثل الأعلى باعتباره شيئاً كامناً في المادة أو في الزمان، وتنظر إلى الواقع من منظور عضوي حسب قوانين عضوية كامنة فيه، وإن وُجدت ثغرة فإن النقيض يحدث على الفور: التبعثر الذري. وهي فلسفات تُحلُّ محل الأخلاق مقولات نفسية مثل القوة والتوازن وتحقيق الذات.

ومما يجدر ذكره أنه رغم إعجاب برجسون الشديد بالكاثوليكية، إلا أنه لم يتخذ الخطوات النهائية للانضمام للكنيسة وقبول التعميد حتى لا يتخـلى عن أولئك الذين سـيقع عليهـم العذاب والاضـطهاد من بني جنسه. وقبل موته بأسابيع، ترك برجسون فراش مرضه ووقف في صف طويل مع أولئك المطالبين بتسجيل أنفسهم كيهود، وذلك حسب مقتضيات القانون الذي أصدرته حكومة فيشي، وقد رفض إعفاءه من هذا الإجراء.

إدموند هوسرل (1866-1938) والفينومينولوجية

Edmund Husserel and Phenomenology

فيلسوف ألماني من أصل يهودي، مؤسس المدرسة الفينومينولوجية (يُشار إليها بأنها المدرسة الظاهراتية). وُلد في مورافيا (حينما كانت تابعة لألمانيا) ودرس الرياضة والفيزياء والفلك في جامعة ليبزيج، وتنصَّر (على المذهب البروتستانتي) وهو شاب، مثل العديد من أقرانه اليهود. وازداد اهتمامه بالفلسفة في فيينا تحت تأثير برنتانو. قام بالتدريس في جامعة هال (1887 ـ 1901) ثم في جامعتي جوتنجن وفرايبورج (1906 ـ 1916) حتى تقاعد عام 1929.

كان هوسرل يتصور أن الفلسفة الفينومينولوجية التي دعا إليها ستكون شيئاً جديداً تماماً. فالأنطولوجيا الغربية تستند إلى ثنائية الذات والموضوع أما هو فكان يرمي إلى تأسيس أنطولوجيا جديدة تفترض ارتباط الواحد بالآخر بل وتجسد الواحد من خلال الآخر، فالطبيعة (الموضوع) حسب تصوره لا تعني شيئاً إلا إذا ارتبطت بالوعي الإنساني (الذات). هذا النسق الفلسفي الجديد سيحل محل كلٍّ من الوحي المسيحي والعلم الطبيعي القديم، وسيحقق ثورة ضد الوضعية والاتجاه التجريبي الطبيعي والاتجاهالسلوكي في علم النفس، وكلها اتجاهات تستخدم العلم الطبيعي نموذجاً وتتصور أن المعرفة اتصال مباشر بالحقيقة دون وساطة المفاهيم والوعي. والفينومينولوجية، علاوةعلى ذلك، ثورة ضد الاتجاه التاريخاني النسبي الذي يؤدي إلى ذاتية متطرفـة تشـكيكية، تُسقط إمكانية قيام علم فلسفي صحيح في ذاته، فهي ثورة ضد التمركز حول الذات أو حول الموضوع، وضد المادية والمثالية، ثورة ستؤدي ـ حسب تصوُّر هوسرل ـ إلى تطوير منهج متماسك وفلسفة شاملة جديدة.

ونقطة الانطلاق لا هي الذات المغلقة على نفسها ولا هي الموضوع المطلق المغلق على نفسه، بل هي الشعور والوعي الإنساني (الجمعي). وكان هوسرل يرى أن كل حدس كوني مصدر مشروع للمعرفة، بل المصدر الأساسي للمعرفة الإنسانية. فالإدراك الإنساني ليس سلبياً وإنما هو إعادة وعي بشيء فهو يتجه وينطلق ويمتد نحو شيء ما (وهذا ما يُسمَّى «القصـدية» وهو مفهـوم أخذه هوسرل من كتابات برنتانو وطوَّره). وبهذا المعنى، فالشعور ليس فيض عواطف ولا انفعالات ذاتية ولا أحاسيس شخصية وإنما هو شيء مركَّب يضم عنصرين لا عنصراً واحداً: الشعور الإنساني، والشيء ذاته. والشيء ذاته مختلف عن مفهوم كانط «الشيء في ذاته» الذي يختفي دوماً عن الشخص الذي يسعى إلى المعرفة، والذي لا يمكن معرفته إلا بالإيمان. ولفهم الشيء ذاته سنشير إلى أن الموضوع عند هوسرل ليس ما يقع خارج الوعي (حسب التعريف المادي) وإنما ما هو في متناول الوعي. والظاهرة ليست شيئاً موضوعياً مادياً يوجد جاهزاً مستقلاً في عالم الطبيعة له حدوده الواضحة، وإنما هي ظاهرة بمقدار ما تكشف عن الوجود كتجربة حية في الشعور فتصبح مرادفة للشيء ذاته وتكشف ما تنطوي عليه معطيات الشعور نفسها. في هذا الإطار تنحل الذات وينحل الموضوع، فالموضوع ليس شيئاً جامداً بل مجموعة من العلاقات الحية، والذات أيضاً ليست شيئاً محدَّداً وإنما علاقة.

من هنا فكرة الشعاع المزدوج الذي تتم بمقتضاه عملية الوعي بالشيء إذ يخرج شعاع من الموضوع ليصل إلى الذات، ويخرج شعاع من الذات ليصل إلى الموضوع، فالإدراك عملية يلتحم فيها المدرك والمدرَك فيتوحدان في علاقة ويوجدان من خلالها. وهي ليست عملية سلبية من جانب الإنسان يتلقى فيها الأحاسيس المادية (فهو بذلك سيسقط في المادية والموضوعية المحضة التي رفضها هوسرل) وإنما تتَّسم بتركيز الأحاسيس بحيث يُصبح الإدراك انتباهاً (والتفكير يصبح تأملاً وهكذا). والموضوع ذاته ليس مجرد شيء وإنما هو شيء مقصود من الشعور، يحتاج إلى التثبت داخل الوعي الذاتي. إن الذات دائماًً ممتلئة بهذا العالم بسبب قصدية الوعي أو الشعور، والموضوع لا يعني شيئاً بدون وعي إنساني. ومن ثم فتحليل الشعور هو تحليل للقصد المتبادَل وتحليل للمعرفة في آن واحد.

ورغم أن هوسرل يفترض هنا وجود علاقة تبادلية، علاقة مواجهة ندية بين الذات والموضـوع، إلا أن إرادة الموضـوع مسـألة يصعب تصورها، فما هي حاجة الموضوع لأن يتثبت في الوجدان؟ ما حاجة الشيء ذاته للإنسان؟ لماذا لا يُهيمن الموضوع على الذات تماماً، كما تُهيمن الدولة والمؤسسات والشركات متعددة القوميات على الفرد/الذات؟ ولذا، فبدلاً من الوحدة العضوية الكاملة المقترحة بين الذات والموضوع، سنُواجَه في نهاية الأمر إما بثنائية صلبة أو واحدية موضوعية.

والفينومينولوجيا عند هوسرل لا تبحث عن هذا النوع أو ذاك من المعرفة وإنما عن بنية العقل العميقة، أي عن شروط تحقُّق المعرفة، فهي لا تتعامل مع هذا الأرنب أو تلك القطة وإنما مع الجوهر الثابت للأرانب والقطط (أرنبية الأرانب وقطية القطط - أيدوس الأرانب والقطط) وهي لا تتعامل معهما في ذاتهما وإنما كما ينعكسان لا على وعي الإنسان الفردي، وإنما على الوعي الإنساني الجمعي، والفينومينولوجيا ليست إمبريقية مهتمة بتجارب بعض الأفراد وليست نفسية مهتمة بالعمليات العقلية وإنما هي مهتمة ببنية الوعي ذاته. فالوعي هنا ليس إمبريقياً وإنما متعال، فهو يتعامل مع الواقع المعاش وعالم الحياة (بالألمانية: ليبنزفلت lebenswelt)، عالَم الواقع كما يُنظّمه وجود الإنسان باعتباره إنساناً.

ويتحدث هوسرل عن عملية الرد الفينومينولوجي (أو الاستبعاد الفينومينولوجي) وهي عملية استبعاد صارمة لكل ما ليس كامناً في الوعي. هي محاولة تطهير النفس منالازدواجيات والاستقطابات وتطهير الوعي من كلٍّ من الواقعية المادية (الموضوعية) والواقعية النفسية (الذاتية). ويبدأ الرد الفينومينولوجي بوضع الصـفات العارضـة بينقوسـين (تعليقها) واســتبعادها من عملية التأمل. هذه الصفات العارضة يمكن أن تكون صفات مادية في الشيء، ليس لها أهمية من منظور الوعي الإنساني، وقد تكون عناصر ذاتية ضيقة داخل الذات، أو حتى مواضيع داخل الذات لا علاقة لها بالذات، فهي عملية استبعاد لكل ما هو تجريبي أو واقعي وكل ما ليس كامناً في الوعي وكل ما ليس جوهرياً من منظوره (كان هوسرل يُعرِّف الفينومينولوجيا بأنها «علم الروح المكتفي بذاته بشكل مطلق»).

وبعد عملية الرد الذي يتجاوز به الوعي أو الأنا العالم المباشر والذات الضيقة والظواهر العارضة نصل إلى نقطة الالتحام الطوباوية المطلقـة بين الذات والموضـوع وتصبح الأنا متحـررة من أية مصلحة محددة، أو قصدية ضيقة، وتظهر الذات المتعالية (تُسمَّى فلسفة هوسرل «الذاتية المتعالية»)، ولكنها ليست ذاتاً محايدة باردة فهي منشغلة بذاتها الإنسانية العريضة واعية بذاتها. حينئذٍ ينبثق الواقع بوضوح أمام هذه الذات، فهو ليس مجرد أحداث منفصلة وإنما هو المجري الخالص للخبرة المعاشة.

ويمكن في لحظة الكشف أو الإشراق الفينومينولوجي هذه أن يعود الوعي إلى الأصول أي إلى الأشياء الجوهرية التي أصبحت غامضة أو اختفت أو احتجبت بسبب تراكم أشياء غير جوهرية، وهذه هي نقطة الوعي الخالص؛ الوعي بما هو وعي، نقطة النظر للواقع باعتباره ظاهرة خالصة تظهر داخل الوعي الإنساني الجمعي (فهي نقطةذاتية/موضوعية ـ متحركة/ثابتة).

وبعد عمليات الرد الفينومينولوجي تأتي عملية الوصف الفينومينولوجي، وهو وصف شامل يحيط بالشيء كما يتمثل في الوعي يحاول أن يكشف سماته وأبعاده وماهيته من خلال الإدراك الحدسي وأن يدرك الظواهر الخالصة، أي الثابت وغير المتغيِّر والجوهري والعالمي في الظاهرة، كما تنعكس على الوعي الجمعي. وأن يكتشف النمط الثابت المتواتر (وكلمة «نمط» في اليونانية تعني إيدوس eidos)، ومن هنا حديث هوسرل عن الرد الفينومينولوجي باعتباره التجريد الإيديتيكي، وهو التجريد الذي يتم في إطار البحث عما هو جوهري وثابت. لكل هذا يمكن الوصول إلى معرفة غير مؤسَّسة على الخبرات العملية الضيقة وبدون اللجوء إلى عمليات الاستقراء (والوصولإلى القوانين الموضوعية العامة) أو إلى الاستنباط (من بعض المبادئ العقلية أو المثالية العامة)، معرفة تستند إلى الخبرة الإنسانية العامة بأنماطها وأبنيتها (الماهيات والأنماط المثالية) وبنى الوعي الأساسية المستقلة عن معطيات التجربة الشخصية (المتمركزة حول الذات والمستقلة عن الموضوع) أو الموضوعية (المتمركزة حولالموضوع والمستقلة عن الذات) وصولاً إلى أعماق الإنسان ووعيه الخالص لتصبح أساساً لعلم يقيني جديد (منطق الوعي) تستند يقينيته إلى أنه راسخ في الوعي الجمعي للإنسان (بالمعنى الأنطولوجي وليس بالمعنى النفسي الشائع)، أي أننا سندرس الوعي الإنساني كما يَدْرس علم الحساب الخالص الأعداد وكما يَدْرس علم الهندسة الأشكال المكانية. فعلم الحساب الخالص وعلم الهندسة الخالص يهتمان بأنماط معيَّنة من الأبنية والعلاقات الداخلية بينها. وتُعبِّر قضاياها عن الخصائص المميِّزة لهذه الأبنية بدون أية إشارة إلى أية خصائص تجريبية أو تجارب ذاتية.

تصوَّر هوسرل أنه بذلك قضى تماماً على الاتجاه الطبيعي والذاتي وأن روح الحضارة الغربية (وعيها الخالص) ستستيقظ من حيرتها وستخرج من عدميتها كما تُبعَث العنقاء من رمادها، وهي صورة مجازية عضـوية حلولية كمونيـة وثنية، امتداد لصورة الاسـتنارة المجازية ونورها المتوهج، صورة بروميثيوس المجازية والنار المتقدة التي سرقها من الآلهة، وحسب تضمينات هذه الصورة المجازية عند هوسرل يبدو أن نار العلم الطبيعي أحرقت العالم فأصبح رماداً وأن فلسفة هوسرل هي البلسم. ورغم أن إيمان هوسرل كان عميقاً إلا أنه لم يكن هناك ما يسانده في الواقع. فالحضارة الغربية كانت تمارس أقسى أنواع العنف في المستعمرات، وتحرق الأخضر واليابس وتحولهما إلى رماد، وكان هتلر على الأبواب وكان ستالين متربعاً على عرش القياصرة. وما ظهر بعد ذلك لم تكن العنقاء التي تُبعَث من الرماد وإنما ظهرت أفران الغاز ومعسكرات الجولاج التي أحرقت الجسد والروح (بعد التحام الذات والموضوع) وبدلاً من العنقاء التي ترفرف بأجنحتها القوية تساقط مزيد من الرماد على الإنسان والطبيعة.

ويمكننا الآن أن نتوجه إلى البُعد اليهودي في فلسفة هوسرل. ثمة نزعة حلولية كمونية واحدية (روحية مادية) في فكر هوسرل، ولكن مصادرها ليست بالضرورة يهودية، ففكره امتداد للتقاليد الحلولية الكمونية، المادية الروحية، في الغرب منذ عصر نهضته. ونحن نجد أن ثمة تشابهاً بنيوياً عميقاً بين محاولة تأسيس الحقيقة على أساس تجاوز الذات الفردية والموضوع وصولاً إلى نقطة الواقع، باعتباره ظاهرة خالصة داخل الوعي الجمعي من جهة، ومن جهة أخرى مفهوم الإله في أسفار موسى الخمسة (وهو جزء من تراث اليهودية المسيحية). فالإله ليس كياناً حالاًّ تماماً في المادة كامناً فيها ولا هو حالّ كامن في فرد بعينه، ولكنه مع هذا ليس متجاوزاً تماماً للأفراد وللشعوب، فهو يختار الشعب اليهودي ويحل فيه ويوجه تاريخه ويتبدَّى من خلاله، وهذا لا يختلف كثيراً عن تبدِّي الواقع كظاهرة خالصة في الوعي الخالص الجمعي. وقد تأثر هوسرل بفكر العديد من الفلاسفة غير اليهود، كما أنه أثّر في مارلو بونتي وماكس شيلر وجان بول سارتر ومارتن هيدجر، والأخير بالذات دفع المنظومة الفينومينولوجية إلى نهايتها المنطقية وتبنَّى الأيديولوجية النازية ودافـع عن هتلر باعتباره النقطـة التي تلتـحم فيها الذات بالموضوع. ومن ثم فالحديث عن يهودية هوسرل هو حديث لا طائل من ورائه. وعلى كلٍّ، تنصَّر هوسرل في مطلع شبابه كما أسلفنا، فهو ليس يهودياً حتى من الناحية الشكلية. ولعل اسمه لهذا السبب لم يرد في كثير من الموسوعات التي تحدثت عن الثقافة اليهودية، وإن كان قد ورد في بعض منها (الموسوعة اليهودية [جودايكا] على سبيل المثال).

ليف شيستوف (1866-1938) والفلسفة المسيحية

Lev Shestov and Christian Philosophy

اسمه الأصلي هو ليف إيزاكوفيتش شوارتسمان. وهو فيلسوف وكاتب ديني وجودي روسي، ويُعدُّ من أهم ناقدي الاتجاهات العقلانية المنهجية باعتبارها وسائل لمعرفة الحقيقة.

وُلد شيستوف في كييف لأب ثري كان يمتلك مصنعاً للنسيج، ودرس في الجامعة ليصبح محاسباً لكنه لم يمارس مهنته قط. كما أنه، رغم تحمسه للفكر الثوري، لم تساورهأية أوهام بشأن الثورة البلشفية عند اندلاعها، وهاجر من روسيا وعمل أستاذاً للفلسفة الروسية في جامعة باريس. وتُعَدُّ مقالاته عن تشيخوف ودوستويفسكي وتولستوي من أهم ما كتب.

يدور فكر شيستوف الوجودي حول موضوع يراه تناقضاً أساسياً بين نسقين فلسفيين أساسيين: نسق يطمح إلى اليقين الكامل، ونسق يَصدُر عن الإيمان بأن الاحتمالات في الواقع غير محدودة، ومن ثم فإن اليقين الكامل مستحيل. ويرى شيستوف أن المشروع المعرفي الغربي إن هو إلا محاولة للوصول إلى نسق تفسير منطقي منهجي كليوشامل يفسر الواقع بأسره ويجيب على كل الأسئلة عن طريق التوصل إلى القوانين الثابتة التي تحكم الواقع الإنساني والطبيعي. ويتم التعبير عن هذا الاتجاه في فلسفة أفلوطين بل وفي آراء توماس الأكويني، وقمة هذا الاتجاه فلسفة إسبينوزا العقلية. فقد حاول إسبينوزا ألا يضحك وألا يبكي وألا يكره، وركز جل اهتمامه على أن يفهم وحسب، فهو قمة الاتجاه نحو اليقينية الكاملة. ويرمز شيستوف لهذا النسق بأثينا التي آمنت بمبدأي عدم التناقض والثالث المرفوع، وحاولت الوصول إلى درجة عالية من الوضوح والثبات تؤدي في نهاية الأمر إلى إلغاء المطلقات (كل المطلقات) واختفاء القداسة كلها. ويضيف شيستوف أن النظم المعرفية المستقرة لا يمكنها في واقع الأمر الحفاظ على وجودها إلا من خلال القوة، فالنظام (المغلق) مثل القلعة المسلحة (وهو في هذه الصورة المجازية لا يُذكِّرنا بفلسفة شوبنهاور ونيتشه وداروين والبرجماتية وحسب وإنما أيضاً بالدولة القومية المركزية وبالفكر الإمبريالي والعنصري وبالفكر الذي يعلن موت الإله وموت الإنسان).

وفي مقابل كل هذا، يطرح شيستوف فكرة لا محدودية الاحتمالات (النسق المفتوح)، فيذهب إلى أن الفلسفة الحقة، مثل الدين، تَصدُر عن إيمان بأن كل شيء محتمل لا نهائي ومنفتح، وعن احترام الأسرار الكامنة في الإنسان وإدراك قداسته، ذلك لأن الإنسان يتحدى سائر المحاولات العقلانية والمنهجية لفهمه وتفسيره. والفلسفة، مثل الدين، لا يمكنها أن تصبح علماً، وإنما هي معرفة تتعامل مع الأسئلة النهائية التي لا إجـابة منهجية لهـا، والتي لا يملك الإنسان أن يقابلها إلا بصيحة أيوب، أي من خلال تجربة إنسانية وجودية مباشرة. فالتأمل العقلي المحض (مثل أثينا) أفسد الدين تماماً كما أفسد الفلسفة. ويرمز شيستوف لهذا الاتجاه بالقدس الذي يصل إلى ذروته وقمته - حسب تصور شيستوف - في أفكار ترتوليان بشأن قبول التناقض باعتباره نقطة انطلاق للإيمان الحق وفي أفكار لوثر الخاصة بالخلاص من خلال الإيمان وحده. وإذا كان النسق العقلاني يعلن موت الإله، ثم موت الإنسان، فإن هذا النسق يعلن مولد الإنسان الذي لا يُردُّ إلى الطبيعة، ومن ثم وجود الإله الذي هو تعبير عن الإمكانيات اللا محدودة وعن سر وجودها وضمان بقائها. ولذا، فإن شيستوف يرى أن التناقض الأساسي ليـس بين الإلحاد والإيمان، وإنما بين التأمل والوحي، وبين أثينا والقدس (أي بين العقل والدين).

وتقول الموسوعة اليهودية (جودايكا) إن شيستوف كان يهودياً ومسيحياً في آن واحد، وهو تصنيف أقل ما يوصف به أنه غريب للغاية. وفي محاولة شرح هذا التصنيف تقول الموسوعة اليهودية إن اهتمام شيستوف بالتجربة الداخلية الدينية باعتبارها طريق الخلاص جعل من الصعب عليه البقاء داخل حدود اليهودية الحاخامية. ولكنه، مع هذا، وجد أن من الصعب عليه قبول العهد الجديد، فقد كان يحب إله العهد القديم بكل نزواته. ولكن هل كان حب نزوات إله العهد القديم كافياً لأن يجعل من مفكر ما أحد عباقرة اليهود؟ إن مفكراً وجودياً مسيحياً مثل كيركجارد، صاحب التأثير الواضح على شيستوف، جعل هذا العنصر نقطة انطلاقه الفلسفية، كما أن مصادر فكر شيستوف هي مجموعة من المفكرين المسيحيين، مثل: دوستويفسكي ولوثر وترتوليان أو مفكرين متمردين على المسيحية مثل نيتشه. وهو يعود دائماً في كتاباته إلى حادثة الصلب والصيحة التي أطلقها المسيح وهو على الصليب (حسب التصور المسيحي) « لم يارب هجرتني؟ ». وحينما يشير شيستوف إلى العهد القديم أو إلى بعض الأحداثوالأفكار التي وردت فيه، فهو يؤكد مغزاها النفسي أو الجواني، وينظر إليها من منظور مسيحي أو وجودي يَصعُب تصنيفه باعتباره يهودي حاخامي. بل إن المفكرين اليهود الذين يشير إليهم في كتاباته، مثل إسبينوزا، لا يظهرون باعتبارهم يهوداً وإنما باعتبارهم ممثلين لنزعة التأمل العقلي والنزعة العقلانية الهيلينية في الحضارة الغربية، ومن ثم فهو يرفضهم ويرفض فكرهم. ولكل هذا، يصعب تصنيف شيستوف باعتباره مفكراً دينياً يهودياً. ومما له دلالته أن شيستوف، شأنه شأن بوبر، لم يؤثِّر البته في الفكر الديني اليهودي، ولكنه ترك أثراً في مفكرين إما مسيحيين أو ذوي أصول مسيحية، مثل: ألبير كامو، ونيقولا برديائيف، و د. هـ. لورانس.

هوراس كالن (1882-1974 ) والبرجماتية

Horace Kallen and Pragmatism

مفكر تربوي وفيلسوف برجماتي أمريكي يهودي صهيوني، وأحد تلاميذ وليام جيمس، وأحد أهم المفكرين الصهاينة التوطينيين. وهو ابن حاخام ألماني إصلاحي (من أتباع المتصوف الحلولي السويدي سويدينبورج). هاجر إلى الولايات المتحدة وهو بعد طفل ودرس فيها الفلسفة والتربية واشتغل هناك بالتدريس في عدة جامعات. وهو لا يُعَدُّ من بين كبار المفكرين التربويين، ولكنه يُذكَر بين الفلاسفة البرجماتيين.

قـام هـوراس ماير كـالن، المفكر الصـهيوني وتلميذ وليام جيمس، بتحرير مختارات من أعمال أستاذه، وأكد في المقدمة التي كتبها لهذه المختارات أن موقف وليام جيمس من الواقع (بل ومن الوجود الأمريكي ككل) يشبه موقف الرائد الأمريكي من عدة وجوه، فالشعب الأمريكي يستجيب للواقع استجابة حرة لم تقررها من قبل عادات اجتماعية أو أية عادات خاصة استجلبوها من أوربا معهم، فقد طرحوا هذا التاريخ جانباً ليدخلوا في علاقة (طبيعية/مادية) مع عالم لم يسبق له مثيل؛ عالم محفوف بالمخاطر ولا يمكن التنبؤ به. فالدخول في تجربة لا تُعرَف نتائجها مقدماً هو جوهر تجربة الرجل الأبيض في أمريكا. فالرجل الأبيض في أمريكا هو الرجل البرجماتي بالدرجة الأولى والسوبرمان الحق والكاوبوي الذي لا يهاب شيئاً ويبني بيته بجوار البركان، يخاطر بكل شيء فيفقد كل شيء أو يربح كل شيء.

ويُلاحظ كالن، البرجماتي الصهيوني، في كتابه المثاليون في مأزق، العلاقة الوجدانية الوثيقة بين إسرائيل والولايات المتحدة بل والتشابه البنيوي بينهما. فهو في بداية كتابه يؤكد لقارئه أن كلاًّ من إعلان استقلال إسرائيل وإعلان استقلال الولايات المتحدة يعبِّر عن مسيرة الإنسان نحو الحرية ونحو مزيد من التقدم. وهو في كل صفحة من صفحات الكتاب يُعرِّفنا بنفسه باعتباره «أمريكياً» يُلاحظ بعيون أمريكية، ونجده أمام إحدى مستعمرات الناحال في إسرائيل يتذكر كتابات وليام جيمس. والواقع أنه محقٌ تماماً في رصده التشابه بين البرجماتية والصهيونية. فكلتاهما تصدُر عن فكرة الطبيعة السائلة الكونية، وعن تجزؤ الكون وانقطاعه، وعن الإنسان الطبيعي (المادي) الذي يصبح جزءاً مستقلاًّ يتوحد بهذه السيولة، فتسقط كل الحدود التاريخية والقيم المطلقة وأي شكل من أشكال التجاوز، ولا يبقى سوى البقاء كهدف نهائي والقوة كآلية لتحقيق هذا البقاء. والإرادة التي لا تكترث بالآخر هي مصدر القيمة والمعنى. والصهيونية، مثل البرجماتية، حلولية بدون إله (وحدة وجود مادية) تصدُر عن فكرة الطبيعة التي استوعبت الإله والإنسان وصهرتهما فتوحدا بها حتى اختفيا ولم تَعُد هناك قداسة أو مركز في الكون، ولا تبقى سوى الحركة الطبيعية المتدفقة والسيولة الكونية والإنسان الطبيعي السائل الذي لا تحده حدود أو سدود والذي لا يخضع لأي قانون وكأنه الطبيعة السيّالة نفسها أو هو الجزء المستقل بذاته. وهذا ما تفعله الصهيونية مع فلسطين، فهي تُسقط عنها أية قداسة أو خصوصية أو تاريخية وتحوِّلها إلى مجرد أرض لا تاريخ لها ولا علاقة بالتاريخ الإنساني، مجرد شيء ينتمي إلى عالم الطبيعة/المادة. وتطبيع أرض فلسطين وتطبيع أهلها (أي تحويلهم إلى جزء من الطبيعة) وتغييبهم أول موجة في تيار السيولة الكونية، ولذا ينكر كالن وجود القومية العربية، فالعرب هم أساساً بدو ينظر إليهم كالن باحتراس وحذر شديدين، تماماً مثلما يعامل العالم الأنثروبولوجي القبيلة البدائية التي يدرسها بعد أن يعزلها عن تاريخها وعن إنسانيتها المتعيِّنة.

ويقول بعض دارسي البرجماتية إن إنكار الأمريكيين قيمة التاريخ مردُّه أنهم نشأوا في العالم الجديد وليس في العالم القديم، وأن الهنود الحمر كانوا يعيشون في اتساق مع الطبيعية، ولذا لم تصل حضارتهم إلى وعي تاريخي بالذات، كما كان محتماً على المستوطنين البيض أن ينكروا التاريخ في بلد لا تاريخ له. ولكننا نعتقد أن لا تاريخية الوجدان الأمريكي تعود إلى البناء الفلسفي البرجماتي ذاته، فالهنود الحمر رغم أنهم لم يكن عندهم وعي بالتاريخ، إلا أنهم كانوا يشكلون نوعاً من الوجود التاريخي، كما أن الاستيطان الإسباني البرتغالي (الكاثوليكي) في أمريكا اللاتينية لم يكن مبنياً على إنكار التاريخ. ولعل الاستيطان الصهيوني في فلسطين أكبر دليل على أن إنكار التاريخ جزء من بناء البرجماتية ذاته، فالصهيوني يذهب إلى فلسطين وهو يعرف أنها بلد عربي وجزء من تاريخ عربي قديم متماسك. ومع ذلك، نجده يصر على القول بأنها « أرض بلا شعب ».

ويؤكد كالن أنه لا يوجد شعب عربي وإنما شعوب متحدثة بالعربية، وما يُسمَّى بالعروبة إن هو إلا رد فعل للنهضة الصهيونية المباركة، ولم يخلق جامعة الدول العربية سوى الرشوة البريطانية، كما يؤكد أن البلاد العربية لا يوحِّدها سوى كره إسرائيل. أما الفلسطيني فهو أيضاً لا وجود له، فهو خليط لا نهاية له من كل الأجناس. والقومية العربية شيء مُصطنَع اصطنعته طبقة «الأفندية» وهم يستخدمونها كأداة لتحقيق أغراضهم الكريهة (ولكننا نُفاجأ بعدم اتساق واضح في كتابات كالن، إذ نجده فجأة يقتبس مثلاً إنجليزياً يقول « إنك إذا ضربت عربياً في فلسطين فأنت أيضاً تضرب جده في الأردن »، وهو ما يعني أن ثمة وحدة ما تتجاوز ما رصده).

وحينما يترك كالن العروبة ويتحدث عن العرب أنفسهم، فإن الأمر لا يختلف كثيراً، فالعرب دائماً يبحثون عن البقشيش، وهو حينما يذهب لحي عربي فإنه يُلاحظ أن هذا الحي كان (قبل مجيء الإسرائيليين) حياً للعاهرات ومدمني المخدرات. وهناك شيخ قبيلة في صحراء النقب يلبس هو وأولاده ساعات أجنبية لا تبيِّن الوقت ويحملون أقلام حبر في جاكتات غربية يرتدونها فوق جلاليبهم، وهم يلبسون أحزمة أغمدوا فيها خناجر، ووظيفة هذا الخليط الإنساني هي تهريب الحشيش. ولكن ماذا عن الفدائيين الذين يحلمون ويحملون السلاح دفاعاً عن حقوقهم ويحاولون تحقيق البقاء (ومن ثم فهم مستوفون للشروط البرجماتية: الذاتية والعملية)، هؤلاء يصفهم كالن بأنهم كالديدان. كل هذا التغييب والتهميش والتطبيع وإسقاط القداسة والخصوصية يهدف إلى شيء واحد وهو جعـل العربي خاضـعاً لقوانين السـيولة الكونية؛ جزءاً لا يرتبط بشيء، ولذا يمكن تحريكه ببساطة.

إن رؤية كالن للطبيعة البشرية برجماتية مخيفة، فالإنسان كيان مطاط ولا ثبات في الطبيعة البشرية. وشخصية الإنسان حدث مستمر وليست مجرد حالة جامدة (تماماً مثل الأفكار والمعرفة)، وكل شيء يتغير ويتبدَّل دائماً (مثل الحقيقة والقيمة). ولذا، فإن حل القضية الفلسطينية في رأيه يتلخص في أن يترك الفلسطيني أرضه وأن يتحول الفلسطيني الثابت في أرضه (الجامد مثل الحقيقة والقيمة) إلى الفلسطيني التائه (المتغير مثل الأفكار البرجماتية الناجحة): يُدفَع له بعض المال ويُعطَى جواز سفر ويصبح العالم كله مجال اختياره، أي أن يتحول إلى إنسان برجماتي مرن يقـبل الحقائق المالية المباشرة (القيمة النقدية «كاش فاليو cash value»، وليس القيمة الثابتة، القيمة الفورية التي تحقق له النجاح الفردي والبقاء الشخصي). أما الوجود الإنساني كجماعة، فيجب على الفلسطيني البرجماتي ألا يشغل باله به، على الفلسطيني أن يتحول إلى شيء متحرك يتجاوز القيم الثابتة (مثل حب الأرض والالتصاق بها) ويقبل الترانسفير (التهجير) بصدر رحب، حتى يصبح العالم كله حيزاً مليئاً بالفوضى محفوفاً بالمخاطر. ولتعميق هذه المرونة وهذه الحركية، يؤكد كالن أن العربي عليه أن يُغيِّر معتقداته الدينية (مثلما يغير الفلسطيني وطنه). بل ويرى أن التغير بدأ بالفعل، وعلى هذا فإن الإسلام قد أخذ في الاختفاء، أو في التحول الذي هو مرادف للاختفاء، إذ بدأت تنتـشر البهائية، وهو يرى أن البهائية بمنزلة الإصلاح الديني في الإسـلام.

هذا فيما يتصل بالعرب المستضعفين الذين يخضعون لقانون السيولة الكونية الذي يكتسحهم والذي يوجب عليهم أن يتركوا هويتهم وأرضهم ودينهم ويسبحوا مع التيار أينما يأخذهم، فماذا عن العباقرة (اليهود) الذين يجسدون هذه السيولة التي تتبدَّى من خلالهم، وتصبح إرادتهم وأحلامهم هي النقطة المرجعية ويصبحون هم المطلق؟ يؤسس كالن حق اليهود في فلسطين على أسس برجماتية راسخة وهي ذاتيتهم المطلقة إذ يقول إن هذا الحق يستند إلى الشعور القوي والجارف لدى اليهود بمركزية إسرائيل في حياتهم، فأينما ذهبت في العالم تجد اليهود يتطلعون لإرتس يسرائيل ويحلمون بها. كما يستند هذا الحق إلى خوف اليهود الدائم من أن هتلر قد يجيء في أيِّ مكان. وبسبب هذه «الحالة الشعورية»، تصبح فلسطين من حق اليهود وليس العرب، وهذه حالة شعورية ذات قيمة نقدية فورية، وهي منسجمة مع آراء الصهاينة وتطمئن لها نفوسهم ولا تتعارض مع قيمهم العملية، ولذا فإنها تصبح الحقيقة المطلقة. وفكرة الحقوق التي تستند إلى حالة شعورية تستند بدورها لرؤية غريبة للتاريخ، فالتاريخ عنده حالة شعورية وإيمان، ولا تهم أية حقائق خارجية، فالسيولة تكتسحه. ويتفق الفيلسوف البرجماتي مع الرؤية الحلولية اليهودية التقليدية حين يساوي بين عقائد اليهود وتاريخهم المقدَّس وتاريخهم الحقيقي. فإن أخبر الإله اليهود في التوراة أنه وعدهم بإرتس يسرائيل، فقد أصبحت هذه الرقعة من الأرض أرضهم عبر التاريخ. فالتاريخ ـ حسب تعريف كالن « هو الماضي كما يتذكره الإنسان ». ولكن التاريخ كوجود ذاتي، أو كذكرى وحسب، هو الأسطورة بعينها. فالتاريخ ليس مجرد تذكُّرنا له وإنما هو كيان موضوعي نحاول نحن استرداده من الماضي، واسترداد الماضي شيء ووجوده في الذهن شيء آخر. ولكن، في عالم السيولة الكونية، تكون كل هذه اعتبارات ثانوية.

ويحاول كالن أن يشرح لنا فكرته عن التاريخ كذكرى والذكرى كتاريخ فيقول: "تحولت الرغبة إلى نبوءة والنبوءة بدورها تحولت إلى ذكرى، والذكرى أُعيدَ تشكيلها إلى وعد، والوعد تحول إلى مشروع". وهذا يُذكِّرنا بتعريف وليام جيمس للفكرة كمشروع وكمخطَّط، فرغبة العبرانيين تحولت إلى نبوءة مقدَّسة ثم صَدَر الوعد الإلهي الذي تحول إلى مشروع استيطاني، فشرعية المشروع الاستيطاني تستند إلى أحلام اليهود.

يذوب التـاريخ والواقـع إذن في وجـدان من يرغب، ويصبح بلا حدود، ثم يظهر جيل من حملة التراث اليهودي، المثاليون الذاتيون الذين يحلمون ويفرضون حلمهم دون أدنى اعتبار لأي تاريخ، فالتاريخ هو ما تشاء (!) والطوباويون أو المثاليون الذين يشير إليهم عنوان الكتاب هم الإسرائيليون، كل الإسرائيليين. ويخبرنا كالن أن اليوتوبيا حالة عقلية، وهذا أمر لا جدال فيه. ولكن ما ينساه كالن هو أن اليوتوبيا ـ مثل الحالات العقلية ـ أنواع ودرجات، فهناك الفردوس السماوي الذي نحلم به ونحمله في قلوبناأينما سرنا ونضع فيه آمالنا، وكل ما لم وما لن يتحقق «الآن» و«هنا»؛ فهو حلم فردوسي كامل نحن في أمس الحاجة إليه رغم استحالة تحقيقه، إذ يساعدنا هذا الحلم على تجاوز الواقع المادي المباشر. ولكننا نعلم جيداً، إن لم نكن من الذاتيين البرجماتيين، أن أحلام الآخرين وذكرياتهم ورغباتهم وأشواقهم تضع حدوداً لأحلامنا الفردوسية، كمانعلم أن الفردوس السماويَّ سماويٌ ولذا فنحن لا نتوقع أبداً تحقيقه الآن وهنا. ولكن هناك أيضاً اليوتوبيا التي يتحدث عنها كالن البرجماتي، فاليوتوبيا - كما يقول - هي مادة الأشياء التي نأمل فيها وتقوم شاهداً على أشياء غير منظورة دون أن تحدها الحدود. وفي إسرائيل الموعودة، يكتشف البرجماتي أن كل الرجال والنساء طوباويون وأنأرض بيولاه (وهو اصطلاح قبَّالي يعني الفردوس) هي الرؤية التي لم تتجسد بعد في أي مكان ولا زمان، ولم تتحقق في الواقع في أي مكان ولا زمان على الأرض، ولكنها دائماً على وشك التجسد في هذا الزمان وفي هذا المكان: الآن وهنا. إن الفردوس الذي يريده كالن هو فردوس أرضي يتحقق الآن وهنا، وهو بهذا يكون حقاً أمريكياً علمانياً حتى النخاع. وإذا كان هناك أيُّ شك في مكان الفردوس الذي يحلم به كالن، فإنه يزيله تماماً بقوله إن بعض الأديان حددت اليوتوبيا باعتبارها « غداً » سماوياً لن يلحق به الإنسان بتاتاً في يومه الذي يعيشه. ولكن توجد أديان أخرى ترى أن « الغد » إن هو إلا يوم يعمل ويحارب من أجله المؤمنون ويحاولون تحقيقه في أيامهم الأرضية كي يستمتعوا بحاضر فردوسي. هؤلاء المؤمنون يحاولون يوماً بعد يوم أن يشيدوا مدينتهم الفاضلة التي يحلمون بها الآن وهنا. إنهم يريدون أن يحيوا فردوسهم وهم أحياء وليس بعد موتهم (وهذا يشبه تماماً الأفكار الأخروية الحلولية اليهودية والعقائد الألفية الاسترجاعية). الفردوس السماوي كما يرى كالن قابل للتحقيق إذن، ونهاية التاريخ ممكنة في أية لحظة. والطوباويون الإسرائيليون ـ حسب تصوُّر كالن ـ يقومون بالفعل بتشييد الفردوس الأرضي (بأموال يهود العالم). وهم، في محاولتهم هذه، لا يفصلون بين المعجزات الإلهية والمنجزات الآلية، ولا بين مبادئ التوراة والتلمود ومبادئ وممارسات رجال العلم في معهد وايزمان.

وقد قال له أحد الفردوسيين: « إننا بشر عاديون؛ نحارب مثل أي شخص آخر »، ولكن البرجماتي الذي أسقط القداسة عن العرب تماماً يجد الإسرائيليين مفعمين بالقداسة، فسعيهم من أجل لقمة العيش (علاقات الإنتاج) أمر ميتافيزيقي، فلقمة العيش هذه لا تغذي الجسد الذي يكد ويعرق، وإنما تغذي تفرُّد الروح، هذا التفرد الذي تعبِّر عنه كلمات مثل «يهودي» و«إسرائيلي». ثم تتكشف الحلولية بدون إله بشكل واضح وصريح حينما يتحدث كالن عن تحول الخبز الذي يتناوله الإسرائيليون إلى ما يشبه الخبز المقدَّس الذي يتناوله المسيحي في صلواته على أنه جسد المسيح: أي أن المجتمع الإسرائيلي تحول إلى ما يشبه الكنيسة أو التجربة الدينية المطلقة أو حتى الفردوس السماوي، وبذا يتداخل النسبي والمطلق تداخلاً كاملاً ويصبح المجتمع الإسرائيلي العبد والمعبود والمعبد، أي أن المثل الأعلى البرجماتي تحقق تماماً في إسرائيل حيث أصبح المستوطنون الصهاينة (هؤلاء السوبرمانات المقدَّسون) تجسيد البرجماتية القديمة قدَم الأزل، فقد اشتقوا أسماءهم في بداية التاريخ من الصراع (الواقعي) والقداسة (المثالية)، فاسم يسرائيل كما يخبرنا البرجماتي الحلولي يعني المتصارع مع الرب، فهو شعب نيتشوي دارويني يعيش في صراع دائم مع الطبيعة القاسية من رمال وتلال ومستنقعات يواجهونها بالإيمان نفسه الذي يواجهون به الطبيعة البشرية المعادية لهم، طبيعة جيرانهم (من العرب) الذين يكنون الكره لهم وينوون تحطيمهم ولا يتمتعون بأية قداسة، فالصراع هنا يصبح صراعاً ضد جمادات لا حياة فيها، وبالتالي يسهل اجتثاثها. وحينما كان الكاوبوي يقف أمام أعدائه، فإنه كان يصرعهم، سواء كانوا من الهنود أو من الذئاب أو من رعاة البقر الآخرين. وكذا الحالوتس (الرائد الصهيوني) فكان عليه أن يحارب حتى يمكنه البقاء، مجرد البقاء في أرض فلسطين الجرداء.

إن البيئة الطبيعية، بما في ذلك الإنسان، تقف ضد الحالوتس الذي لم يكن يحارب ضد طبيعتها الحجرية المستنقعية البرية بل ضد طبيعتها الإنسانية المفترسة. والبرجماتي رجل عملي مرن يتعامل مع ما هو قائم بشكلٍّ مباشر دون أن يُصدِّع رأسه بالتاريخ، فعليه أن يذهب للواقع الجديد الذي يفرضه بالمسدس ضد الطبيعة الإنسانية العنيدة (وهذه حقيقة مريحة بالنسبة له تتفق مع آرائه وأحلامه).

والطوباويون، في صراعهم المستمر ضد الطبيعة والإنسان، أصبحوا تجسيداً كاملاً للقيمة الكبرى، الصراع من أجل البقاء، ولذا فإن السيولة الكونية تكتسحهم فيصبحون برجماتيين طيعين. وقد استجابوا للنداء البرجماتي الدارويني النيتشوي وتحوَّلوا إلى جيش محارب عظيم، أو لم يقل فيلسوف البرجماتية وليام جيمس: « لقد وُلدنا كلنا لنحارب، وإن المجتمع سيصاب بالعقم دون ذلك البذل الصوفي الحلولي للدم »؟ وكأن المجتمع الإنساني آلهة وثنية متعطشة للدماء، وليس الإطار الذي يتجاوز الإنسان من خلاله حالة الطبيعة والصراع! ويُلاحظ كالن بقلب برجماتي مبتهج عسكرة المجتمع الإسرائيلي عسكرة كاملة: إن شعب إسرائيل هو جيش إسرائيل، وجيش إسرائيل هوشعبها، وهذا ليس بالمعني المجازي وإنما هو معنى حرفي، فالجيش الإسرائيلي هو المدرسة التي يتعلم فيها الجميع. ومرة أخرى أيضاً، يُلاحظ كالن بقلب برجماتي مبتهج أنه لم يقابل أيَّ فتى أو فتاة لا يتطلع إلى الخدمة العسـكرية. ويخبرنـا بكل سـرور أنه يمكن جمع الاحتياط في ساعات قليلة، أي أن إسرائيل ( « إسرائيل القلعة » كما يسميها خلال الكتاب كله) على أهبة الاستعداد دائماً لملاقاة العدو براً وبحراً وجواً.

ويمكننا ملاحظة ما يلي على فلسفة كالن:

1 ـ لا يمكن الحديث عنه باعتباره فيلسوفاً يهودياً أو حتى باعتباره مفكراً يهودياً، فيهوديته أصبحت ملتصقة تماماً بالعقيدة الأساسية للمجتمع (وهي العلمانية في شكلها البرجماتي) أي الحلولية بدون إله. وفلسفته برجماتية تماماً سواء حين يتعامل مع النسق الفلسفي أو حين يتعامل مع المجتمع الصهيوني. ولا يمكن فهم موقف كالن من المجتمع الصهيوني إلا في إطار تطور الفكر الفلسفي الغربي وتصاعد معدلات العلمنة وتزايد هيمنة الفكر الحيوي.

2 ـ يمكننا الآن إدراك المضمون الحقيقي للدعوة الموجهة للفلسطينيين والعرب بأن يكونوا أكثر مرونة وبرجماتية، فهي تعني الخضوع للعنف. إذ لو كان الأمر مجرد مرونة وتعويضات تُدفَع، فلم لا تدفع التعويضات للإسرائيليين كي يغتنموا الفرصة المتاحة أمامهم في هذا العالم الرحب النيتشوي المحفوف بالمخاطر؟ لم لا يُطبَّق الترانسفير (أعلى درجات الحركية والمرونة) على الإسرائيليين وهم جزء من الحضارة الغربية ويتباهون بذلك، كما أن عودتهم لن تُشكِّل مشكلة كبيرة (خصوصاً أن حوالي ربع الشعب الإسرائيلي موجود بالفعل في الغرب)؟ إن الأمر ليس مجرد مرونة وواقعية، وإنما هو مرتبط بحجم المدفع وبمقدار العنف، فمن لا يملك آليات البقاء وسبل العنف يصبح مستضعفاً وعليه أن يقلع عن الجهاد ويُسلِّم بروح رياضية برجماتية تتجاوز المطلقات والمثاليات والأحلام وكل ما هو نبيل وكل ماهو إنساني في الإنسان.

ويمكن تصنيف كالن باعتباره من صهاينة الدياسبورا التوطينيين، فهو يرى أن الصهيونية تنبع من الإيمان بالتعددية الحضارية. فالحركة الصهيونية بمنزلة توكيد على ولاء اليهود الأمريكيين لقيمهم الحضارية اليهودية، وهو ما يجعلهم لا يذوبون تماماً في التيار الرئيسي لحضارتهم الأمريكية، ولكنهم مع هذا جزء منه ويقومون بتغذية هذا التيار بعناصر جديدة عليه. وهذا الطرح لدور اليهود يختلف عن الطرح الصهيوني الاستيطاني الذي يطالب اليهودي بالهجرة إلى فلسطين بدعوى أنه لا يمكنه الحياة السوية خارج أرض الميعاد.

جورج لوكاتش (1885-1971) والماركسية الجديدة

Georg Lukacs and Neo-Marxism

فيلسوف وناقد أدبي ماركسي مجري يهودي. أثر في الفكر الأوربي الماركسي وغير الماركسي، خصوصاً في النصف الأول من القرن العشرين.

وُلد لأسرة يهودية ثرية وكان أبوه يعمل مدير بنك. وتلقى تعليمه في مدرسـة بروتسـتانتية لوثرية في بودابسـت، وفي جامعتي بودابست وبرلين، وانتقل بعد ذلك إلىهايدلبرج. درس على يد جورج زيميل وماكس فيبر وتأثر بكتابات فيلهلم دلتاي (فيلسوف الحياة والتأويل) كما تأثر بأفكار صديقه إرنست بلوخ وبالأفكار الرومانسيةوبالاتجاهات المضادة للنزعات الوضعية والطبيعية والمادية (بشكلٍّ عام). وانضم إلى الحزب الشيوعي عام 1919 حيث عمل قوميساراً للثقافة والتربية في وزارة بيلا كون، ثم انتقل إلى فيينا حيث بقى لمدة عشرة أعوام. ونشر كتابيه نظـرية الروايـة (1920)، و التاريخ والوعي الطبقي (1923) في هذه الفترة. وعاش لوكاتش في موسكو بين عامي 1930 و1941 وعمل في معهد ماركس وإنجلز، كما عمل بين عامي 1930 و1944 في معهد الفلسفة في الأكاديمية السوفيتية للعلوم. وعاد إلى المجر عام 1945، وأصبح عضواً في البرلمان وأستاذاً لعلم الجمال وفلسفة الحضارة في جامعة بودابست. كان لوكاتش أحد الشخصيات الأساسية في الثورة المجرية عام 1956، وُعيِّن وزيراً للثقافة. وقُبض عليه بعد إخماد الثورة ونقل إلى رومانيا، ولكن سُمح له بالعودة إلى بودابست عام 1957 حيث كرس جل وقته لإعداد مجلد ضخم من جزءين في علم الجمال. وكتب لوكاتش ما يزيد على ثلاثين كتاباً ومئات المقالات والمحاضرات. ومن بين دراساته العديدة، دراسات عن كلٍّ من هيجل والوجودية والجمال. ومعظم كتابات لوكاتش بالألمانية. ومن أهم كتبه الأخرى دراسات في الواقعية الأوربية (1948)، وجوته وعصره (1947)، وهو دراسة عن الاستنارة، و هيجل الشاب (1948)، و تحطيم العقل (1954)، و الرواية التاريخية (1962)، و الجماليات (1965)، غير أن محاولته الأخيرة وضع أسس أنطولوجيا ماركسية لم تكتمل: أنطولوجيا الوجود الاجتماعي (1978).

ويرى لوكاتش (في كتاباته النقدية مثل الرواية التاريخية) أن الفن الواقعي فن يعكس كلاً من اللحظة التاريخية القائمة والإمكانات الكامنة في الواقع التاريخي، ويُقدِّم لنا أنماطاً بشرية تمثل كلاً من اللحظة والإمكانية. وتكمن أهمية الفن في مقدرته على تحـويل أحـداث حـياتنا إلى متتالية قصصـية ذات معـنى، والمــعنى ـ حسب تصوُّر لوكاتش ـ ينبع دائماً من إدراك ما هو قائم وما هو ممكن. فالأشكال القصصية الواقعية تعكس الواقع التاريخي وتزيد وعينا بالممارسة الاجتماعية القائمة، ولكنها في الوقت نفسه تجعلنا ندرك أيضاً البدائل الممكنة والغاية وراء المشروع الإنساني. ويرى لوكاتش أن هذه الغاية هي خلق قدر من الوحدة بين الإنسان والطبيعة (والذات والموضوع، والفرد والمجتمع، والوعي والواقع) والفن هو الوسيط بين كل هذه الثنائيات.

ورؤية لوكاتش، رغم حديثها عن الوحدة النهائية، تستند إلى ثنائية حقيقية بين قطبين سماهما هو نفسه الجوهر (المتجاوز) والحياة (الواقعية)، والحياة المثلى هي الحياة التي يتحد فيها الاثنان.

وقد قام لوكاتش بتصنيف الأنواع الفنية إلى ثلاثة أنواع تبعاً لنجاح العمل الفني في تحقيق الوحدة بين الجوهر والحياة:

أ ) النوع الملحمي: وهو النوع الأول الذي يكون الجوهر والحياة فيه كلاً مستمراً، وتتسم علاقة البطل بجماعته فيه بأنها علاقة عضوية.

ب) النوع المأساوي: ويستند إلى الإحساس المأساوي بالتعارض بين الجوهر والحياة وبانفصال البطل عن الجماعة.

جـ) النوع الأفلاطوني: ويستند إلى قبول الانفصال الكامل بين الجوهر والواقع والبطل والجماعة بحيث يصبح الجوهر جزءاً من عالم مثالي ثابت ويصبح الواقع والحياة مجرد أجزاء متناثرة.

ويرى لوكاتش أن الرواية الواقعية (في عصر البورجوازية) محاولة للعودة إلى الرؤية الملحمية والاستمرارية السردية بين الجوهر الروحي والحياة الواقعية والمادية. ولكن بدلاً من الآلهة التي كانت تضمن الوحدة الكونية وتهدي خُطى أبطال البطل الملحمي الأسطوري تظهر الرؤية الواقعية الحديثة حيث يحدث الشيء نفسه، ولكن مصدر الوحدة هو الإنسان نفسه وبحثه الدائب عن المعنى في عالم لا معنى له. وعادةً ما يفشل البطل في الرواية الحديثة، فالعالم الذي يعيش فيه عالم متشيئ، ولذا يعيش البطل منفصلاً عن جماعته منعزلاً عنها. وتعبِّر الرواية عن عزلة الفرد من خلال المثالية (سرفانتس) أو الواقعية (فلوبير) أو الطوباوية (تولستوي). ولكن الرواية ذاتها، كتجسيد سردي وشكلي لعملية البحث عن المعنى والوحدة، تؤكد العلاقة بين الجوهر والحياة وتشير إلى إمكانية الوحدة بين الذات والموضوع. فالعمل الروائي، من ثم، رغم أنه قد يكون على مستوى المضمون السردي المباشر يتحدث عن إحباط البشر، يظل عملاً تبشيرياً طوباوياً متجاوزاً، فالعمل الروائي مثل العمل الثوري في تبشيره بإمكانية وحدة الوعي والواقع؛ أي أن الرواية الواقعية لا تقدم مجرد وصف وتحليل وإنما تقدم لنا عناصر تكوين الواقع والمنظور والبديل، ومن ثم فهي تبشير بعالم متكامل واحتجاج على عالم يسحق الإنسان.

ويؤكد لوكاتش أن المؤلف البورجوازي قد يصل إلى إدراك العملـية التاريخـية بشـكل واع من خـلال خـلق شـخصيات تتجـاوز ـ على المستوى الخيالي ـ أساسها الطبقي. ويضرب لوكاتش مثلاً بوولترسكوت وتوماس مان ودوستويفسكي وبلزاك وفلوبير باعتبارهم روائيين أدركوا طبيعة التحول التاريخي الاجتماعي في العصر الحديث فقدموا شخصيات هي أنماط إنسانية تعبِّر عن الإمكانية الإنسانية الحقيقية وعن رغبة الإنسان في أن تتحد الذات مع الموضوع، رغم الوضع الطبقي لهؤلاء الكُتَّاب ورغم تذبذبهم.

والواقعية التي يتحدث عنها لوكاتش ليست الواقعية الاشتراكية التي تتراوح بين الفوتوغرافية والدعاية، ولكنها واقعية تستند إلى إدراك متعين للواقع الاجتماعي ولكيفية تجاوزه، كواقع مباشر متغيِّر من خلال العملية التاريخية التي يُفترَض أنها تحتوي على الإمكانيات الإنسانية والاجتماعية التي سيُقدَّر لها أن تتحقق في نظام اجتماعي وثقافي جديد. من هذا المنظور، وجه لوكاتش نقداً حاداً لكلٍّ من النزعة الجمالية (الشكلانية) والنزعة الرومانسية في الفن وما يُسمَّى بالحداثة. فكلها نزعات واحدية تركز على الشكل أو على جانب واحد من الواقع (الوضع القائم) دون الجانب الثاني (الإمكانية)، أي أنها تُلغي الثنائية. ولعل نقده للحداثة (في مقاله الشهير « أيديولوجيا الحداثة ») يوضح لنا وجهة نظره، فالأدب الحداثي هو نتاج وعي كاتب لا يشعر بالكل ولا بالوحدة ولا بالإمكانية بسبب تركيزه على جانب واحد من الواقع (الجزء ـ السطح) وهو ما يجعل وجدان الأديب غير قادر على تجاوز هذا التفتت الذري من حوله وتجاوز التشيؤ والجمود. ويصف لوكاتش الحداثة بأنها تأمُّل متشائم وسقوط في العدمية واليأس، وهي (عنده) تعود بجذورها إلى تشاؤمية هايدجر وكتابات سارتر الأولى حيث يذهبان إلى أن الوضع الأنطولوجي للإنسان يحكم عليه بحالة اغتراب دائم لا يمكن تجاوزه بغض النظر عن التطور التاريخي. والحداثة، بهذا، تقهقر إلى عالم مجرد ميتافيزيقي لا تاريخي، عالم المثالية المجردة (الأفلاطوني). فالواقع مرادف للعبث والروح إحباط مستمر ولا يوجد أي بحث عن المعنى (كما هو الحال مع الرواية الواقعية البورجوازية). وقد أصبحت الشخصيات ذاتها أحادية فلم تَعُد تجسّداً لنمط إنساني اجتماعي عام في لحظة تاريخية وفي ظروف اجتماعية محددة تتعامل معها وتؤثر فيها وتتأثر بها، وإنما أصبحت الشخصيات منعزلة غير اجتماعية غير قادرة على الدخول في علاقة مع الآخرين أو على التفاعل مع الواقع الاجتماعي، شخصيات لا تُدرك أية إمكانية ذاتية أو اجتماعية ولذا لا تحلم بالتجاوز وتقنع بالواقع ولا تبحث عن أي شيء، وهي شخصيات مسطحة أحادية البُعد مثل شخصيات قصص الأمثولة (بالإنجليزية: ألجوري allegory) وليست شخصيات مستديرة متعددة الأبعاد.

ويذهب لوكاتش إلى أن الحداثة بهذا المعنى عبادة للفراغ الذي أوجده غياب الإله، فهي تعبير عن الجنون والشذوذ. وقد وجه لوكاتش سهام نقده للمفهوم الحداثي للمحاكاة، فهو لا يركز على الإمكانية الاجتماعية والتاريخية ولا يرى إلا الأمر الواقع ولأن الأديب يأخذ موقفاً نقدياً، فإنه يشوِّه الواقع الذي يحاكيه. ولكن لابد أن يكون هناك معيار حتى نستطيع أن نرى التشويه تشويهاً. ولكن ما يحدث في المحاكاة الحداثية أن عملية التشويه تتم خارج أي إطار وأية معيارية، ولذا يرتبط التشويه بتشويه آخر إلى أن يصبح التشويه جوهر المحاكاة والعنصر الشكلي الأساسي ويصبح هو المطلق أو الحالة العادية، أي إلى أن يتم تطبيع التشويه. فالحداثة تبتعد عن السواء الإنساني والواقع التاريخي والمسئولية الجماعية، ولذا فهي لا تثمر روايات واقعية أو غير واقعية وإنما روايات مضادة. حتى أصبح موضوع الكتابة الوحيد استحالة الكتابة!

إن وقوف لوكاتش ضد كلٍّ من النزعة الجمالية الشكلانية والرومانسية والحداثة يرتبط ارتباطاً وثيقاً برفضه النسبية في الفكر الاجتماعي، إذ تمثل هيمنتها في رأيه اتجاهاً خطيراً نحو اللا عقلانية والعدمية. وأرخ لوكاتش بشكل شامل لتزايد اللا عقلانية في الأدب والفلسـفة والفكـر الاجتمـاعي في الحضـارة الغربية، بخاصة في ألمانيا، في كتابه تحطيم العقل حيث يرى أن ثمة مفارقة في الحضارة الحديثة هي عقلانية العلم الحديث التي تؤدي إلى توليد اللاعقلانية، فالعلم يحطم أي يقين يتصل بالقيم المطلقةوالقواعد العالمية للسلوك، وحينما يتحطم اليقين تصبح الأمور متساوية في حضارة نسبية، ولذا فإن كل شيء يصبح مباحاً. والنسبية تؤدي إلى اللا عقلانية حين يصبح منالمستحيل اختيار أسلوب حياة له ميزته الداخلية. ويرى لوكاتش أن هذا الموضوع يشكل حلقة الوصل بين نيتشه ومؤسسي علم الاجتماع الألمان (ماكس فيبر وجورج زيميل).

ولكن أهم دراسات لوكاش الاجتماعية تتمثل في ثماني مقالات نُشرت في كتاب تحت عنوان التاريخ والوعي الطبقي (كُتبت بين عامي 1919 و1922). ويعكس الكتاب خليطاً متميِّزاً من كلٍّ من الرومانسـية الثـورية والإبسـتمولوجيا الكانطية الجديدة والفلسفـة الماركسية. ويذهب لوكاتش إلى أن العلوم الطبيعية لا يمكنها أن تزودنا بنموذج لتحليل المجتمع، لأن السمة الأساسية في السلوك الإنساني (على عكس السلوك الطبيعي أو الحيواني) أنه واع. فالفعل الإنساني يستند إلى عملية اختيار بين سبل مختلفة، وهو ما يعني أن دراسة الفعل الإنساني تتطلب منهجاً مختلفاً بشكل واضح عن العلوم الطبيعية. ويرى لوكاتش أن مشكلة الماركسية تتحدد في أنها تتصور أنها هي علمالمجتمع الذي يحاول أن يكتشف قوانين السلوك الإنساني والتطور الاجتماعي، وأنكرت أن العقل الإنساني يتجه نحو نهاية واعية. ويرفض لوكاتش الحتمية الاقتصادية التيتَرُدُّ كل شيء إلى العوامل الاقتصادية. ويذهب إلى أن المادية الجدلية ليست مجموعة جامدة من القوانين الثابتة الأزلية وإنما هي منهج في البحث.

يرى لوكاتش أن المنهج الجدلي عند ماركس يؤكد تاريخية الوعي الإنساني، وهذا يعني أن الإنسان ليس كياناً متلقياً للتاريخ وإنما ذات فاعلة، كما أن المجتمع الإنساني ليس مجرد أجزاء مترابطة آلياً وإنما هي كلٌّ اجتماعي متماسك. وجوهر الماركسية في تصور لوكاتش أنها لا تزود الإنسان بقوانين جاهزة ومعايير مفروضة بصورة مسبقة على الممارسة الإنسانية وإنما تزود الإنسان بطريقة للفهم بحيث يستطيع الإنسان التعرف على الأحداث الجزئية والفردية، التي تبدو في ظاهرها منعزلة متفردة. ويرى لوكاتش أن مفتاح فهم فلسفة ماركس يكمن في مفهوم «توّثن السلع» (أو تسلّع الإنسان) وفي أهمية تجاوز كل أشكال الوعي المتشيئ، فبينما يبدو العالم الاجتماعي كما لو كان عالماً موضوعياً شيئياً مستقلاً بذاته، برانياً وله قوانينه الموضوعية، فإننا في واقع الأمر نعيش في عالم خلقته الإرادة الإنسانية وصاغته ومن ثم تظهر ثنائية الفكر البورجوازي (الموضوع مقابل الذات، والإرادة مقابل القانون، والمجتمع مقابل الطبيعة) التي هي في واقع الأمر نتاج تناقضات كامنة في علاقات الإنتاج الرأسمالية المبنية على الإنتاج السلعي. ولكن التأكيد الماركسي على القوانين الموضوعية التي تتحكم في المجتمع الإنساني هو ذاته سقوط في التشيؤ والتبرجز، وثنائيات الوعي البورجوازي (خصوصاً الفصل الجامد بين الحقيقة والقيمة) لا يمكن أن تُحل عن طريق الفلسفة التأملية وإنما عن طريق الفعل الإنساني المتعيِّن والممارسة الثورية. والطبقة المرشحة تاريخياً (أي المقدَّر لها) أن تحطم الوعي المتشيئ للرأسمالية البورجوازية هي الطبقة العاملة التي تمثل الذات الفعالة التي تحقق التغير الاجتماعي وتمثل الكلية والشمول البشري، وهي طبقة ليس لها أية مصالح في استمرار حالة التشيؤ والتفتت، ومن ثم فإن الطبقة العاملة حينما تعي ذاتها نظرياً وتحقق مصالحها الطبقية ستحقق الخلاص الاجتماعي للبشرية وتحل لغز الفلسفة الألمانية، فمعرفتها الذاتية للواقع هي ذاتها الرؤية الشاملة التي تحقق وحدة الذات والموضوع وتحولها إلى ممارسة ثورية وتصل بجدل التاريخ إلى نهايته من خلال تحطيم الرأسمالية. إن الوعي الإنساني لا يعكس الوضع التاريخي بشكل سلبي جاهز وإنما يمكنه تجاوزه ومن ثم تحويله وتغييره. وعلى هذا النحو، يقدم لوكاتش نقداً جذرياً لفكرة الحتمية الحديثة.

وقد وُجِّهت عدة انتقادات لفكر لوكاتش من بينها:

1 ـ أنه يبشر برؤية غائية للتاريخ، رؤية لا تقوم فيها البروليتاريا بدور الأداة التي ستحطم الرأسمالية وحسب وإنما تصبح آلية تأتي بعصر جديد خال من الوعي الزائف. وإذا كان الأمر كذلك، فإن هذا يعني في واقع الأمر أن الجدل سينغلق في هذا العهد الجديد (نهاية التاريخ). وهكذا، فلن يكون هناك مجال للعقل النقدي في مجتمع ما بعد الثورة (وهذه هي إشكالية المابعد ونهاية التاريخ الكامنة في الأنساق العلمانية كافة).

2 ـ اتُهم لوكاتش بأنه حوَّل ماركس إلى منهج ومن ثم وضعه فوق النقد، ولأن الفكر الجدلي لا يدافع عن أي فكر محدد أو موقف محدد لأنه مجرد منهج، فإن الماركسية الجدلية لا يمكن أن تخطئ أبداً.

3 ـ رؤية لوكاتش للمعرفة نخبوية، فوعي الطبقة العاملة ليس بالضرورة ثورياً، ومن ثم يجب تفسير هذا الوعي وتطويره وتحويره حتى يصبح ثورياً، ومثقفو الحزب الثوري هم النخبة التي ستقوم بهذا الدور حتى يتوصلوا إلى الحقيقة التي تتفق مع المصالح الحقيقية للطبقة العاملة.

4 ـ واتُهم لوكاتش كذلك بأنه زوَّد عدم الاكتراث السياسي بأساس فلسفي، فإذا كان الحزب يحتكر الحقيقة فثمة ضرورة أخلاقية للكذب والتدليس من أجل صالح الحزب. وهنا يظهر عنصر اللا عقل مرة أخرى في فلسفة لوكاتش، فالحزب دائماً على حق حتى ولو كذب، وقد قيل إن حياة لوكاتش ذاتها هي أنصع دليل على ذلك.

5 ـ اتُهم لوكاتش بالغائية الكاملة بل وبالمشيحانية، فالطبقة العاملة في منظومته هي وسيلة التاريخ في انتصار العقل المطلق أو روح العالم على كلٍّ من التشيؤ والاغتراب والانحراف، وهي كيان يشبه الشعب المختار في المنظومة الحلولية اليهودية.

ولا يمكن تصنيف لوكاتش باعتباره مفكراً يهودياً. فقد نشأ في بيئة مندمجـة، حيـث كان يهود المجـر من أكثر الجماعات اليهودية اندماجاً، كما كانت أسـرته أسـرة بورجوازية عـادية حريصة على الاندماج. تلقى لوكاتش تعليمه في مدارس وجامعات غير يهودية، كما أن منابع فكره أوربي. ويُضاف إلى ذلك أن اهتمامه بالموضوعاليهودي كان ضعيفاً، فحتى حينما تناول مفكرين اشتراكيين يهوداً، مثل موسى هس وفرديناند لاسال، فإن البُعد اليهودي في فكرهم لم يلق عنده أي اهتمام.

وإن كانت ثمة حلولية في فكر لوكاتش فهي حلولية كمونية علمانية مادية (حلولية بدون إله، وحدة وجود مادية) لا تختلف كثيراً عن أية منظومة فكرية هيجلية تحاول أن ترى تجليات العقل المطلق في التاريخ والمادة. ومع هذا، يجب أن نشير إلى أن لوكاتش يُدرك تماماً مخاطر الحلولية الكمونية. ولذا، فإن تأكيده أهمية التجاوز وإصراره عليه، باعتبـاره ضماناً وحيداً لإنسـانية الإنسـان واسـتقلاله عن الطبيعة والتاريخ، أو أية كليات أخرى، أمر واضح للغاية. ولعل هذا هو سرّ المشـاكل العديدة التي واجهها عبر حياته مع السـلطات الماركسية اللينينية. ورغم كل هذا، فهو يظل يدور في إطار الحلولية الكمونية، لأن مصدر التجاوز يظل كامناً في المادة أو في النفس البشرية. ولعل الحوار بشأن الماركسية الإنسانية في مقابل الماركسية العلمية هو حوار بشأن الحلولية الكمونية. فالماركسية الإنسانية تحاول الحفاظ على الإنسان داخل المنظومة الماركسية باعتباره كياناً مطلقاً مستقلاًّ ذا إرادة مستقلة تعبِّر عن نفسها في اختيارات محددة بين بدائل مختلفة، ومن ثم فإن العلوم الطبيعية (التي تفترض وحدة الإنسانوالطبيعة) لا تصلح لدراسة ظاهرة الإنسان. أما الماركسية العلمية فتحاول الوصول إلى القوانين العلمية التي تتحكم في كلٍّ من التاريخ والطبيعة على حدٍّ سواء والتييتحرك التاريخ والبشر وفقاً لها، والتي تفترض وحدة الطبيعة والتاريخ (واحدية كونية)، ولذا فهي تحاول تطهير الماركسية تماماً من المطلقات أو الغائيات كافة وتؤدي في نهاية الأمر إلى الشمولية والأحادية السياسية. وقد رفض لوكاتش هذا النوع من الماركسية ولذا فهو يُعَدُّ واحداً من أهم المفكرين المدافعين عن مقولة الإنسان داخل المنظومة الماركسية. والواقع أننا لو قلنا إن لوكاتش (المدافع عن الماركسية الإنسانية) يهودي، وإن كثيراً من المدافعين عن الماركسية العلمية أيضاً يهود، وإن ماركـس مؤسـس النظرية الماركســية كذلك يهودي، فإن كلمة «يهودي» تصبح مثل الصيغة السحرية التي تُفسِّر كل شيء، ومن ثم فإنها لا تُفسِّر شيئاً على الإطلاق.

كلـود ليفي شتراوس (1898- ) والبنيوية

Claude Levi-Strauss and Structuralism

عالم أنثروبولوجي فرنسي وأحد أعمدة الفكر البنيوي. وُلد في بلجيكا ثم انتقل إلى فرنسا. ينتمي إلى عائلة من البورجوازية الفرنسية اليهودية المثقفة المندمجة. ورغم أن أحد أجداده كان حاخام فرساي، إلا أنه نشأ في جو علماني في منزل عائلته في بلجيكا التي وُلد بها أو في منزله في باريس (فيما بعد).

تلقَّى ليفي شتراوس تعليمه الجامعي في السوربون وتخرَّج في كلية الحقوق عام 1931. ثم التحق بالبعثة الجامعية الفرنسية في البرازيل حيث أصبح أستاذاً لعلم الاجتماع في جامعة ساو باولو في الفترة 1935 ـ 1939، وهي الفترة التي قام فيها بعمل أبحاث حقلية إثنوجرافية بين قبائل البورورو في وسط البرازيل والتي على أساسها أقام نظريته في علم الأساطير. خدم في الجيش الفرنسي مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، وبعد سقوط باريس عام 1940. رحل إلى نيويورك حيث عمل كأستاذ زائر لأبحاث علم الاجتماع في جامعة نيو سكول أوف سوشيال ريسيرش New School of Social Research بين عامي 1941 و1945، ثم عاد ليعمل كأستاذ لعلم الأديان في مدرسة الدراسات العليا بالسوربون. ومنذ عام 1959، شغل ليفي شتراوس منصب أستاذ الأنثروبولوجيا الاجتماعية في الكوليج دي فرانس، وانتُخب عام 1973 عضواً بالأكاديمية الفرنسية.

من أهم كتبه الأبنية الأولية لعلاقات القرابة (1949) الذي بلور فيه نظريته الخاصة بأن التبادل التعاقدي هو العامل الاجتماعي الأساسي. وفي كتاب الأنثروبولوجيا البنيوية (1958)، بلور ليفي شتراوس نظريته الأنثروبولوجية متخذاً اللغويات نموذجاً يُحتذَى. ثم صدرت له مجموعة من الدراسات بعنوان الأساطير أو مقدمة لعلم الميثولوجيا (1964 ـ 1971) في أربعة أجزاء: النيء والمطبوخ، و من العسل إلى الرماد، و أصل آداب المائدة والإنسان العاري.

ولفهم فكر ليفي شتراوس (وظهور ما بعد الحداثة)، لابد من فهم الفكر البنيوي (في سياقه الغربي) باعتباره تجلياً لإشكاليات العلمانية الشاملة والتأرجح بين التمركز حول الذات والتمركز حول الموضوع.

و«البنيوية» هي المقابل العربي للكلمة الإنجليزية «ستركتشراليزم Structuralism». وهي فلسفة لا عقلانية مادية تشكل ثورة ضد الوضعية وضد تشيؤ الواقع واللغة (والتمركز حول الموضوع) وتحاول في الوقت نفسه ألا تسقط في الذاتية ( والتمركز حول الذات). وهي تدَّعي أنها تتجاوز الميتافيزيقا، ولذا فهي ترفض الوجودية والفكر الإنساني الهيوماني بشكل عام.

ورغم أن الفلسفة البنيوية ترفض الفلسفة الهيومانية، إلا أنها فلسفة متمركزة حول الإنسان. وبالفعل، تظهر الطبيعة البشرية أحياناً في الفكر البنيوي كمعيار (بل كمطلق ومرجعية نهائية) حينما يتحدث ليفي شتراوس عن رغبة البشر في التواصل باعتبار أن هذه الرغبة إحدى سمات الإنسان الأساسية، وهي رغبة تعزله عن عالم الطبيعة/ المادة وتخلق مسافة بينهما. وتتبدَّى الرغبة في التواصل في واقع أن الإنسان ينتج أنظمة إشارية. والإنسان البدائي، رغم بدائيته وبساطته، لا يبحث مثل الحيوان عن طعامه وحسب (كما يتصور النفعيون) ولا يبحث عن لغة طبيعية نفعية مباشرة (كما يتصور الوضعيون)، وإنما يبحث دائماً عن رموز وإشارات للتواصل ولتفسير العالم. فهو حينما يجد شيئاً لا يسأل «هل هذا الشيء صالح للأكل (بالفرنسية: بون آ مانجرييه bon a manger)» كما يتصور دعاة النفعية المادية، وإنما يسأل «هل هو صالح للتفكير من خلاله (بالفرنسية: بون آ بانسيه bon a penser)» أو «صالح لاستخدامه رمزاً (بالفرنسية: بون آ سيمبوليزيه bon a symboliser)». وهذا الإنسان البدائي الذي يرغب في التواصل يبحث عن الحقيقة ويصل إليها من خلال منطقه الخاص. ولأن الأساطير ليست مجرد قصص خيالية وإنما لها منطقها الخاص (بالفرنسية: مثيو لوجيك mythologique) الذي يختلف عن منطقنا الخاص (بالفرنسية: لوجيك logique)، فإن الإنسان البدائي قد لا يعرف علمنا المجرد ولكنه يملك علمه الخاص الذي يدركه بمنطقـه الخاص ومن خلال نظامه الإشـاري المتعيِّن ومقولاته المتعيِّنة، ولذا سمى ليفي شتراوس هذا العلم «علم المتعيِّن» (بالإنجليزية: ساينس أوف ذي كونكريت science of the concrete). بل إن النزعة الإنسانية تظهر عند ليفي شتراوس بشكل متطرف في قوله إن للعقل الإنساني وظيفة رمزية وإنه يتسم بالقدرة على توليد دوال أكثر من عالم المدلولات، إذ أن الإنسان يجد أن العالم ليس مفعماً بما فيه الكفاية بالمعنى، وأن العقل يحوي من المعاني ما يفوق ما يوجد في الواقع من أشياء. وهذه هي طريقة ليفي شتراوس في الحديث عن أسبقية الإنسان على الطبيعة. ويذهب ليفي شتراوس إلى أن مشكلة الإنسان الحديث هي أنه قد قمع هذا الاتجاه في العقل الإنساني نحو توليد الرموز والإشارات.

هل هذا يعني أن الإنسان هو المرجعية النهائية في الكون وأن العقل يُولِّد معياريته النهائية من داخل ذاته؟ هنا سنكتشف نمط التمركز حول الذات الذي يؤدي إلى التمركز حول الموضوع، وسنجد أنه قد بدأ يؤكد نفسه بشكل حاد. ولكن التمركز حول الموضوع سيأخذ في حالة البنيوية شكل التمركز حول البنية.

وكلمة «بنية» لها معنى محدَّد في الفلسفة البنيوية. فهي تُستخدَم في علم اللغة البنيوي للإشارة إلى المنهج الذي يدرس السمات اللغوية المختلفة لا كتفاصيل في حد ذاتها وإنما كجزء من بنية عامة لا يمكن أن تُردَ إلى ما دونها. وقد استُخدمت الكلمة بعض الوقت في علم اللغة للإشارة إلى منهج العالم اللغوي بلومفيلد حيث كان يقوم بتقسيم السمات المباشرة للكلام وتصنيف هذه السمات، وهذا ما سماه تشومسكي «البنية السطحية». ومقابل ذلك، طرح تشومسكي مفهوم «البنية العميقة» أو «البنية الكامنة». ولذا سَمَّى تشومسكي اتجاهه في علم اللغة «النحو التوليدي». ولكن يمكن القول بأن كلمة «توليدي» كما يستخدمها تشومسكي ترادف تقريباً كلمة «بنيوي» كما يستخدمها ليفي شتراوس (في علم الأنثروبولوجيا) أو جان بياجيه (في علم النفس).

وواضع أساس علم اللغة البنيوي (ورائد الثورة البنيوية) هو عالم اللغة السويسري فرديناند دي سوسير (1857 ـ 1913) الذي ذهب إلى أن علاقة الدال بالمدلول (الاسم والمسمى ـ الكلمة ومعناها ـ الإشارة والمشار إليه) لا تستند إلى أية صفات موضوعية لصيقة بالدال أو كامنة فيه، ومن ثم فالعلاقة بين الدال والمدلول ليست ضرورية أو جوهرية أو ثابتة بل اعتباطية. ويرى دي سوسير أن النظام اللغوي نسق إشاري مبني على علاقة الاختلاف بين الثنائيات المتعارضة، فمعنى كل إشارة ينبع من اختلافها مع إشارة أخرى. والنظام اللغوي ككل يعمل من خلال سلسلة الاختلافات والثنائيات المتعارضة هذه، فالمعنى ـ كما أسلفنا ـ ليس كامناً في الإشارة ذاتها ولا حتى يضاف إليها وإنما هو أمر وظيفي يتحدد داخل شبكة العلاقات داخل النص نفسه، أي أن المعنى يُولَد من داخل اللغة نفسها وليس من الواقع.

وقد بيَّن ليفي شتراوس أن الأساطير، مثل اللغة، نظام يتسم باعتباطية وعشوائية علاقة الدال بالمدلول، فالأسطورة (أو الكلمة) ليس لها معنى في حد ذاتها، فعلاقتها بالواقع (معناها) مسألة عرضية ليست كامنة في الأسطورة أو الكلمة ذاتها أو في الواقع ذاته وإنما هي مسألة عُرفية (اتفاقية). كما أن الكلمة والأسطورة لا يمكن أن يظهر لهمامعنى إلا إذا أصبحا جزءاً من شبكة أكبر منهما. هذه الشبكة تتسم بما يُسمَّى «التعارضات الثنائية» (بالإنجليزية: بايناري أوبسيشنز binary oppositions). فما يحدد المبتدأ والخبر ليس خاصية مادية في أي منهما وإنما علاقة تعارض بينهما. واللغة والأساطير ليس لهما وجود موضوعي بل ليس لهما مضمون محدَّد، ولكن لكلٍّ منهما منطقه الشكلي المجرد العام.

وانطلاقاً من هذا، يمكن أن نُعرِّف البنية بأنها ليست صورة الشيء أو هيكله أو عناصره أو أجزاءه أو وحدته المادية أو شيئيته الموضوعية ولا حتى التعميم الكلي الذي يربط أجزاءه. وحدَّد بياجيه خصائص البنية بأنها ثلاث:

1 ـ الكلية، وتعني أن البنية ليست موجودة في الأجزاء.

2 ـ التحولات، وهي التي تمنح البنية حركة داخلية وتقوم في الوقت نفسه بحفظها وإثرائها دون أن تضطرها إلى الخروج عن حدودها أو الانتماء إلى العناصر الخارجية.

3 ـ التنظيم الذاتي، ويعني أن البنية كيان عضوي متسق مع نفسه منغلق عليها مكتف بها، فهي كل متماسك له قوانينه وحركته وطريقة نموه وتغيره ومن ثم فهي لا تحتاج إلى تماسكه الكامن.

ويرى بياجيه أن المثل الأعلى للبنيوية هو السعي إلى تحقيق معقولية كامنة عن طريق تكوين بناءات مكتفية بذاتها، لا نحتاج من أجل بلوغها إلى الرجوع إلى أية عناصر خارجية.

والبنية ليست ذاتية ولا موضوعية، ولا هي مادية أو مثالية، وهي ليست كامنة في العقل وليست انعكاساً لشيء في الواقع على عقل الإنسان، وليس لها وجود متعال، وليس لها وجود ذاتي أو تجريبي أو موضوعي أو وضعي. فالبنية، في واقع الأمر، شبكة العلاقات التي يعقلها الإنسان ويجردها ويرى أنها هي التي تربط بين عناصر الكل الواقعي أو تجمع أجزاءه، وهي القانون الذي يتصور الإنسان أنه يضبط العلاقات بين العناصر المختلفة. وهذا القانون هو الذي يمنح الظاهرة هويتها ويضفي عليها خصوصيتها. ويتم التعرف على البنية من خلال علاقة التعـارض والتشـابه بين العناصر المختلفـة (ويُطلَق عليها «قوانين التركيب»). ولا يهم أصول البنية التاريخية ولا عوامل تكوينها ولا مضمونها ولا فاعليتها الوظيفية، فهذه عناصر يجب تعليقها (وضعها بين قوسين) للتوصل إلى البنية المجردة.

ولكن ما علاقة البنية بالإنسان الفرد؟ تبدأ المنظومة البنيوية في الانتقال التدريجي من تأكيد أسبقية الإنسان على الطبيعة (أو الكل) إلى إعلان المساواة والتسوية بينهما. ولإنجاز ذلك، يلجأ البنيويون إلى الحل الحلولي الكموني التقليدي، وهـو الزعم بأن ثمة تماثلاً (بالإنجليزية: هومولوجي homology) بين العقل والواقع، وأن البنية بهذاالمعنى متطابقة مع كل من العقل والواقع.والبنية التي تُماثل الواقع كامنة في العقل الإنساني،لا بمعنى عقل الأفراد وإنما العقل الجمعي للإنسانية بأسرها منذ بداية التاريخ حتى الآن،لا فرق في هذا بين العقل البدائي والعقل المتحضر.وهي بنية ثابتة لا تتغيَّر بتغير الزمان أو المكان ولا تتأثر بتغير الأفراد أو المجتمعات أو التحولات التاريخية،وهي لا تعكس الواقع المادي أو مشاعر الفرد أو التاريخ الإنساني وإنما تُعيد إنتاجها كلها حسب أشكالها الثابتة الكامنة.

لكن، كما هو الحال دائماً مع النظم الحلولية، يتساقط هذا التماثل بين الإنساني وغير الإنساني. ويتحرك غير الإنساني إلى المركز ليؤكد أن له الأولوية والأسبقية (في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير) ومن ثم يتـحرك الإنساني إلى الهامش ويذوي ويختفي ويذوب في الكل اللاإنساني. وبالفعل، نكتشف أن البنية التي قيل إنها كامنة في عقل الإنسان أمر لا شعوري يقع خارج إرادة الإنسان. فالإنسان داخل المنظومة البنيوية ليست له إرادة مستقلة أو وعي مستقل، هو مجرد مفردة تتشكل منها جُمل لغوية ومنظومات أسطورية. والذات الإنسانية الواعية إن هي إلا جزء من بناء ضخم شامخ يتحرك حسب هواه أو قوانينه، وما الذات سوى حامل ترتكز عليه البنية.

إن المعنى لا يبدأ وينتهي من تجربة الإنسان الفرد الحر الذي يفرض المعنى على الكون أو يجده كامناً فيه. فالمعنى، إن وُجد، هو شيء يحدث للإنسان وللكون. فما يُنتج المعنى في واقع الأمر هو البنية (النظام الدلالي والعلاقات الإنسانية في حالة اللغة، والمنظومة الأسطورية في حالة الأسطورة). وما حديث الأفراد أو قصصهم أو رؤاهم إلا تجلٍّ لهذا النظام وتلك المنظومة. فاللغة والأسطورة ليس لهما بداية في أي وعي خاص، فهما يسبقان وجود العقل البشري، ولذا فهو يُدرك الواقع من خلال اللغة والأسطورة ويقوم بتصنيف الواقع من خلالهما (دون وعي منه). فالإنسان (بمعنى الذات المتفردة) لا يفكر من خلال الأساطير وإنما الأساطير (كبنية مستقلة) هي التي تفكر من خلاله، وهو لا يتحدث من خلال اللغة وإنما تتحدث اللغة من خلاله، وهي تحرك الإنسان أينما كان وتتبدَّى في كل رسائله (رغم أنفه) وفي أي موضوع ينتجه.

وذكر ليفي شتراوس أكثر من مرة أن العقل البشري ما هو إلا تعبير عن منطق صارم وحتمي وأن فكرة الإبداع إن هي إلا وهم. كل هذا يعني، في واقع الأمر، أن الذات لم تَعُد ذاتية وأن الواقع لم يَعُد موضوعياً، وأن التفسير ليس ثمرة تفاعل الذات والموضوع، فثمة أسبقية للأداة (اللغة ـ الأسطورة) على الغاية (التواصل الإنساني ـ التفسير). وثمة أسبقية مطلقة للبنية وللعلاقات البنيوية على الوعي الإنساني والذوات الفردية، تماماً كما تفترض المادية القديمة أسبقية المادة على الوعي الإنساني. ولكن المادية الجديدة تضيف أن هذا المطلق الجديد له أسبقية على الواقع الموضوعي ذاته.

لكل هذا، يركز البحث البنيوي لا على السمات الخاصة المتعينة للظاهرة الإنسانية أو الأهداف والدوافع الإنسانية، ولا حتى على العلاقات المادية التي تحقق الترابط بين عناصر البنية، وإنما يركز على النسق العقلي الذي يزودنا بتفسير البنية وتحولاتها. ولكن هذا النسق العقلي هو في واقع الأمر نتاج بنية أولية قَبْلية تتجاوزه وتتجاوز كل التفاصيل الإنسانية والمادية. ولذا، فإن علم الأنثروبولوجيا بالنسبة لكلود ليفي شتراوس هو علم العلاقات المنطقية بين الظواهر الاجتماعية أو هو علم دراسة البنية الكامنة والعلاقات البنيوية المختلفة. ومهمة عالم الأنثروبولوجيا هي تحويل الكامن إلى ظاهر والأسرار إلى قواعد منطقية عامة ثابتة، وبذلك تتضح العلاقات البنيوية الكامنة في مختلف الأنساق الاجتماعية.

في هذا الإطار، يحاول ليفي شتراوس أن يثبت أن كل أساطير العالم (وأساطير الأمريكتين بصفة خاصة) إن هي إلا تعبير عن حكمة خفية وما هي إلا أسطورة واحدة في النهاية (على حد تعبيره). وحاول ليفي شتراوس إنجاز ذلك من خلال نسق تحليلي منطقي صارم يتم فيه تحويل رموز الأساطير واستبدال بعضها بالبعض الآخر من خلالمجموعة معادلات رمزية وجبرية. والأساطير في تصوره تتبع قانوناً عاماً ولذا فهي تقبل التحول إلى معادلات جبرية لأنها بنى اختزالية بسيطة، ولكن الأساطير هي أيضاً المنطق الخفي في كل الحضـارات. فهـي بمنزلة اللوجـوس الذي يمنح المجتمع تماسكه ومعقوليته، ولكنه لوجوس علماني ليس له غرض نهائي، فهو لوجوس بلا تيلوس، مطلق بلا غاية، وميتافيزيقا بلا مسئولية أخلاقية (مثل روايات الخيال العلمي).

ويمكن القول بأن البنية تشبه من بعض النواحي المُثُل الأفلاطونية المستقلة عن الظواهر التي تتبدَّى من خلالها وعن الأفراد الذين يعبِّرون عنها، وإن كانت المُثُلالأفلاطونية، رغم استقلالها عن الإنسان وتجاوزها له، تترك له مجالاً كبيراً لحرية الاختيار وفعل الخير والشر، ولذا فهي في واقع الأمر تشبه فكرة العقل الأول فيالأفلاطونية المحدثة الذي تصدر عنه كل العقول الأخرى داخل سلسلة صارمة لا تسمح بحرية الاختيار، وتشبه نَفَس العالم (أنيموس موندي) عند الرواقيين، كما تشبه الروح المطلقة (جايست) عند هيجل. وهي لا تختلف كثيراً عن وثبة الحياة (بالفرنسية: إيلان فيتال elan vital) عند برجسون، أو الايدوس عند هوسرل، أو عالم الحياة عند هوسرل وهايدجر وهابرماس (بالألمانية: ليبنزفلت Lebenswelt)، وقوة الحياة عند كثير من الفلاسفة الحيويين (بالإنجليزية: لايف فورس life force)، وهي قوة تتجاوز الذات والموضوع وإن كانا يحققان اتحادهما من خلالها، وهي مقولة غيبية ميتافيزيقية رغم كل ادعـاءاتها المادية ترتدي مسـوح العقلانية والموضوعية. ولكنها، في واقع الأمر، ليست بعقلانية ولا موضوعية، فهي غير قابلة للقياس أو الرصد أو الفحص أو الملاحظة، ولا يمكن إدراكها بالحواس الخمس. وهذه المقولة هي إفراز الرؤية العضوية الداروينية والنيتشوية للواقع، وهي المعادل الموضوعي (في عصر المادية الجديدة) لفكرة قوانين الحركة المادية (في عصر المادية القديمة).

ويُفرِّق البنيويون بين التعاقب (بالإنجليزية: دياكرونيك diachronic) والتزامن (بالإنجليزية: سينكرونيك synchronic) ويرون أن البنية خالية من الزمان (ومن هنا معارضتهم النزعة التاريخية والتاريخانية). بل يمكن القول بأن البنية المُثلى هي البنية المجردة تماماً من الزمان، أي البنية الرياضية (فصدق المعادلات الرياضية لا ينبع من أنها متسقة مع واقع خارج عنها وإنما من اتساقها مع نفسها). ويتضح الانتقال من الإنساني إلى اللاإنساني في التحليل البنيوي، فرغم أنه يهدف إلى اكتشاف بنية العقل الإنساني عن طريق تحليل نواتج هذا العقل من أساطير ونظم اجتماعية ولغة وطقوس، إلا أنه لا ينتهي في عالم الإنسان وإنما ينتهي في عالم الأرقام والأشكال الهندسية ومعادلات السالب والموجب. فالتحليل البنيوي يأخذ شكل تصاعُد عمليات التجريد، وتعليق متصاعد للمضامين الفردية والإنسانية، واختزال التفاصيل المتعينة وتصفية الثنائيات، بهدف التبسيط من أجل الوصول إلى مقولة أساسية وبناء أساسي كامن وراء كل الأنساق. ويمكن تصوير البنية باعتبارها ذات طابع هرمي، ويسود القانون نفسه الذي يضبط العلاقة بين العناصر على كل المستويات من قاعدة الهرم إلى أن نصل إلى قمته حيث نجد أن المبدأ البنيوي هو أعلى درجات التجريد؛ مبدأ لا يعرف المكان ولا الزمان، ولا الضحك ولا البكاء، ولا الإنسان ولا التاريخ.

وإذا طبقنا هذا على المفردات المختلفة للحضارة الواحدة (من طعام وطقوس وعادات) فإننا سنكتشف من خلال عملية تجريد متصاعدة أن ثمة لغة كلية واحدة تضمها جميعاً، ويمكننا فهم بنية هذه الحضارة من خلال فك شفرة هذه اللغة. ولكن ثمة تصاعداً لمعدلات التجريد وتعليقاً متزايداً للمضامين الفردية المتعيِّنة للحضارات المختلفة يكشفان لنا أن ثمة لغة كلية شاملة تضم كل لغات الحضارات المختلفة وأن ثمة تماثلاً بنيوياً بين لغات الحضارات المختلفة وأنها في واقع الأمر لغة واحدة.

وتستمر معدلات التجريد بلا هوادة وبكل صرامة إلى أن نصل إلى الثنائيات البسيطة المتعارضة (التي تُختَزل هي نفسها أحياناً) لنصل إلى بنية البنى وأسطورة الأساطير ونموذج النماذج، أي عالم الواحدية. وعلى حد قول ليفي شتراوس، فإنه « إن كان ثمة قانون في أي مكان، فإن القانون موجود في كل مكان »، وكذلك فهو موجود في كل شيء ويتجاوز كل شيء (الإنسان والطبيعة)، ويتحقق في كل المجتمعات بشكل جزئي رغم وجوده الكلي. وهو قانون يمكن ترجمته رياضياً ويشبه المعادلات الرياضية فيتجريديته واختزاليته.

وعبَّر ليفي شتراوس عن رغبته في أن يتوصل إلى جدول يشبه جدول مندليف لتصنيف المواد، وهو الجدول الذي تم عن طريقه التنبؤ بوجود مواد في الطبيعة لم تكن معروفة للعلماء، ثم تم اكتشافها فيما بعد. كما يحاول كثير من البنيويين أن يصلوا إلى نوع من الجدول الرياضي أو المصفوفة الجبرية التي تغطي كل التحولات والتجمعات: الفعلية والممكنة في الماضي والحاضر والمستقبل.

ويمكننا أن نرى هنا كيف أن التحليل البنيوي، رغم كل هذا الحديث عن العقل الإنساني، يعيش في ظلال العلوم الطبيعية والرياضية، ومن هنا الرغبة العارمة في تصفية الخصوصية والفردية، ومن هنا العداء للنزعة التاريخية والنزعة الإنسـانية وكل ما يمت بصلة لعالم الإنسان الفرد، ومن هنا الرغبة في الوصول إلى درجة عالية مناليقينـية لا يمكنها أن تتحقق إلا في المنظومات الرياضية والقوانين العلمية.

ويثير دعاة الاتجاه الإنساني الهيوماني التاريخي الاعتراضات التالية على البنيوية:

1 ـ التحليل البنيوي يتجاهل كلاًّ من الواقع المادي والإنسان الفرد ويعلقهما (كما يفعل الفينومينولوجيون مع الواقع) ويَردُّ كل شيء إلى مبـدأ واحد لا هو موضـوعي ولا هو ذاتي، لا هو مادي ولا هو عقلي، فالبنيوية من ثم شكل من أشكال التفكيك والتقويض الجذري الذي يهدف إلى إلغاء الذات الفردية (أو على الأقل إزاحتها عن مركز الكون) وفي تعليق الموضوع المباشر (المضمون الحقيقي). وبالفعل، نجد أن فوكو (البنيوي التفكيكي) يتنبأ باختفاء ظاهرة الإنسان كليةً، لأنها ظاهرة غير ذات بال، بل إنها نوع من أنواع التصدع في النسق الكوني الطبيعي. وهو أيضاً يُهاجم سارتر لأنه يُدافع عن الواقع الإنساني التاريخي. ويتحدث ألتوسير عن تاريخ يتحرك دون ذات تاريخية فاعلة، تاريخ كله مبني للمجهول إن أردنا استخدام مُصطلَح بنيوي.

2 ـ تدور البنيوية في إطار نموذج واحدي تطبقه تطبيقاً شاملاً على كل شيء، ولذا فهي مذهب أحادي تبسيطي (بل وإرهابي على حد قول أحد النقاد الإنسانيينالهيومانيين).

3 ـ النموذج البنيوي مستمد من أصل علمي (لغوي ـ رياضي) ويميل نحو التجريد المخل الذي يُسقط التجربة الإنسانية المتعيِّنة كما يهتم بشكل متطرف بقواعد البنية دون مضمونها.ومن هنا،فإن البنيوية تصلح لمجتمع تسوده وتحكمه التكنوقراطية،ولا يهتم بالرؤية الكلية، مجتمع سيطر عليه تماماً العقل الأداتي والترشيد الإجرائي والالتزام بالقواعد دون الهدف والغاية. والبنيوية لا تهتم بالتغيير الذي يتطلب إدراك مثل هذه الرؤية الكلية (ويرى ليفي شتراوس أن سارتر وأمثاله من فلاسفة التجربة المعاشة يُصعِّدون مشاغلهم الشخصية إلى مرتبة المشكلات الفلسفية القائمة، أي أنهم يعودون إلى مرحلة ما قبل العلمية ويتناسون العلم بتجريداته ونماذجه الشكلية).

4 ـ البنيوية (خاصةً عند ليفي شتراوس) فلسفة معادية للتاريخ تَغرق في تجريدات شكلية تنصب على حضارات بدائية يصفها ليفي شتراوس بوصفها «خارج التاريخ» (كما يشير ليفي شتراوس إلى المجتمعات الميدانية بأنها مجتمعات باردة مقابل المجتمعات التاريخية المعاصرة الساخنة). ولذا، فإن البنيوية لا تفهم الانتقال التاريخي ولا حركة التاريخ، فهي تتعامل مع التاريخ المُجمَد (ويرد ليفي شتراوس على هذا بأن الوجودية لا تفهم التاريخ بتركيزها على المسـتقبل، كما أنها أيديولوجيـا متمركزة حول الذات وحول الحاضـر، ولذا فإن التاريخ بالنسبة لها ليس الماضي بكل تركيبيته وإنما هو ما يؤدي إلى الحاضر، ولذا فهي لا تفهم الماضي وتغض نظرها عن أشكال أساسية في التجربة الإنسانية مثل الطقوس والأساطير(.

ويثير أنصار ما بعد الحداثة بعض التحفظات بشأن البنيوية ومفهوم البنية. ولابد أن نتوقف هنا لنشير إلى ظاهرة ذات دلالة عميقة من وجهة نظرنا، وهي أنه، بينما يتهم الوجوديون البنيوية بأنها معادية للإنسان، يتهمها أنصار ما بعد الحداثة بأنها مثل الوجودية متمركزة حول الإنسان. ونحن نذهب إلى أن التناقض الظاهري يدل على تصاعدمعدلات العداء للإنسان والحلولية الكمونية في الفلسفة الغربية، فما كان معادياً للإنسان، متطرفاً في عدائه، في الخمسينيات والستينيات، أصبح هو ذاته متمركزاً حولالإنسان، متطرفاً في تمركزه في الثمانينيات.

ويمكن إيجاز تحفظات أنصار ما بعد الحداثة فيما يلي:

1 ـ البنية، رغم ادعاءات البنيويين عن ماديتهم، ليس لها وجود مادي وإنما هي كامنة في العقل الجمعي للإنسان وفي بنية هذا العقل ذاته، أي أنها تشبه إلى حدٍّ ما مقولات كانط الأولية القبَلْية المستقلة المفطورة في عقل الإنسان، فالبنى برامج تُماثل بناء عقل الإنسان، وثمة إمكانية تَواصُل من خلال العقل الإنساني والأساطير ذاتها تُماثل بناء عقل الإنسان. فالبنية، من ثم، لها وجود ميتافيزيقي سابق على الواقع المادي.

2 ـ رغم كل ادعاءات البنيويين عن اختفاء الموضوع الإنساني تماماً، إلا أنه يعاود الظهور وبحدة في كتابات البنيويين. بل إن المشروع البنيوي بأسره محاولة لتطوير مفهوم الإنسان وتأكيد لمقدرة البشر على الترميز والتواصل، بينما تحاول ما بعد الحداثة التحرر تماماً من مفهوم الإنسان ومركزيته.

3 ـ تحاول البنيوية أن تنفي الأصول الربانية أو حتى الإنسانية للإنسان بأن تجعل البنية (بديل المادة) هي الأصل. ولكن البنية (مثل المادة في الفلسفات المادية القديمة) تتسم بشيء من الثبات، ولذا فهي ميتافيزيقا مادية.

4 ـ البنية، حسب تصور البنيويين، لها قانون واللغة والأسطورة والنصوص الأدبية والأعمال الفنية (مهما بلغت من تجريد) تخبر عن الواقع، أي أن الدال له علاقة أكيدة بالمدلول، وهو ما يشي بإيمان بالثبـات.

5 ـ وجود البنية يشير إلى وجود مركز وهامش وحقيقة كلية تتجاوز الأجزاء وكذلك أجزاء خاضعة للكل. والحقيقة الكلية تتسم بالثبات وبالاستقلال عن الطبيعة/المادة وتشير إلى وجود جوهر ثابت لا يتغيَّر بتغير الأجزاء، أي أنها شكل من أشكال الميتافيزيقا.

6 ـ تسقط البنيوية بسبب هذا كله في الثنائيات المتعارضة، وتحتفظ بالثنائية باعتبارهـا طبيعية وحتمية وذات دلالة. ومن هذه الثنائيات ما يلـي: جسد/عقل ـ داخل/خارج ـ كتابة/قراءة ـ حضور/غياب ـ مكان/زمان ـ حرفي/مجازي ـ ذكر/أنثى. وافتراض مثل هذه الثنائيات يعني تجاوز الصيرورة وعالم الحس المادي المباشر.

7 ـ من أهم الثنائيات المتعارضة في البنيوية ثنائية الطبيعة/الحضارة. فقد حدَّد شتراوس هدفه بأنه الوصول إلى طبيعة الذهن البشري الأساسية، وهو ما يوحي بأن لهذا تركيباً طبيعياً ثابتاً. لكن هذا التركيب الطبيعي ليس مصدره الطبيعة/المادة وإنما النظم الثقافية (اللاطبيعية ومن ثم اللامـادية). فطبيعة الإنسـان مرتبطة بخروجـه عـن الطبيعة (المادة). فالمبادئ الكلية للذهن البشري بوجه عام ليست كامنة في تكوين طبيعي لم يتدخل فيه الإنسان، وإنما هي مبادئ اهتدى إليها الإنسان في ذلك التنظيم الثقافي الذي يتحكم به في حياته والذي يُعبِّر مباشرةً عما هو أساسي في طريقة تفكيره.

والشائع في النظريات المادية هو النظر إلى الطبيعة التي لم يخلقها الإنسان على أنها الأصل وإلى الثقافة على أنها الفرع أو الناتج، لكن ليفي شتراوس يقلب الآية ويرى الثقافة أصلاً والطبيعة )في حالة الإنسان بالذات) مشتقة منها. وإذا كان من الشائع أيضاً وصف الطبيعة الخام بأنها ثابتة والثقافة بأنها نسبية متغيِّرة، فإن ليفي شتراوس يؤكد أن الثقافة هي العنصر الثابت في تكوين الإنسان ومنها يستمد الإنسان ثبات طبيعته، فالإنسان يصنع طبيعته عن طريق ثقافته. فمنذ اللحظة التي يُحظَر فيها زواج المحارم، يظهر عنصر ثقافي في المجتمع الإنساني (وهو الحظر، أي التنظيم الاجتماعي، والقانون) يشكل الطبيعة متمثلة في غريزة الجنس ويتحكم فيها. ففي هذا الحظر وذلك التحريم، تتجاوز الطبيعة ذاتها وتبدأ في تكوين بناء جديد يحل فيه التنظيم المعقد المميِّز للإنسان محل العفوية والعشوائية المبسطة التي تميز بناء الحياة الحيوانية (فؤاد زكريا(.

كل هذا يعني أن ثنائية الثقافة والطبيعة تحل مشكلة أصل الإنسان بطريقة غير مادية وتشير إلى أصل الإنسان الرباني بشكل حييّ متعثر. كما يعني ذلك ببساطة أن البنية تفلت من قبضة الصيرورة وتتسم بقدر من الثبات والتجاوز والمعنى، وأنها لا تزال متمركزة حول اللوجوس والتيلوس، وأن البنيوية متمركزة حول الإنسان ككائن ثابتمتجاوز لعالم الطبيعة/المادة. وكل هذا يشير إلى عالم وراء عالم الصيرورة والواحدية المادية، أي أن البنيوية لاتزال ملوثة بالميتافيزيقا (حسبما يقول أنصار ما بعدالحداثة). وفي الإطار الحلولي الكموني الواحدي، فإن هذا يمثل فضيحة لا يمكن قبولها، فهذا يعني أن الإله لا يزال يُلقي بظلاله على العالم رغم أن الإنسان قد أعلن موته،ومن ثم ظهرت ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة لتحقيق المشروع النيتشوي لا لقتل الإله وحسب وإنما لإزاحة ما يُحتمل أن يكون قد تركه من ظلال على الطبيعة والإنسانولتطوير نظام حلولي كموني لا يفلت أي عنصر فيه من دوامة الصيرورة اللامتناهية ولا يطفو فوق سطح المادة. وهكذا، فإن ما كان جنينياً متعثراً في البنيوية، يصبح واضحاً متبلوراً في ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة.

ويمكننا الآن أن نتوجه إلى يهودية ليفي شتراوس. وقد أرجع هو نفسه أصول فكره ومنهجه إلى ثلاثة مصادر )اليهودية ليست أحدها: (

1 ـ الماركسية التي استمد منها فكرة الجدل ووحدة الأضداد وكذلك فكرة البناء الأساسي أو الركيزة النهائية.

2 ـ التحليل النفسي الفرويدي الذي استمد منه فكرة اللاشعور والرمز وعملية التحويل.

3 ـ علم الجيولوجيا الذي وجد فيه الأفكار المتناثرة المتصلة بالتراتبية والطبقات وصولاً إلى القلب النهائي أو ما أسماه أحياناً «أسطورة الأساطير».

وقد حاول إدموند ليش، وهو من أتباع ليفي شتراوس، تطبيق طريقته في التحليل الأسطوري على اليهودية. ولكن ليفي شتراوس نفسه أبدى عدم اهتمامه بالديانات ككل إلا من حيث اعتبارها نصوصاً إثنوجرافية. وهو يطرح مقابل الفكر الديني نسقه العقلاني المادي الصارم الخالص.

ورغم كل هذه العقلانية الظاهرة، يرى البعض أن المقولات (الدينية والإثنية) اليهودية تركت أثرها الواضح في مقولات ليفي شتراوس التحليلية العلمية:

1 ـ يذهب ليفي شتراوس، شأنه شأن البنيويين، إلى أن البنية أهم من الذات وأن القوة البنيوية (التي تأخذ شكل أسطورة الأساطير وقواعد اللغة... إلخ) لها أسبقية علىالمجتمع. ولكن البنية ليست شيئاً خارجياً وإنما هي مستقرة في الذات الجمعية. والبنية الكامنة في الذات الجمعية لا تختلف كثيراً عن تصور أسفار موسى الخمسة للإله، فهو إله متجاوز للواقع المادي وللأفراد ولكنه حالّ في الشعب بأسره وفي العقل الجمعي اليسرائيلي. وهو الذي يوجهه ويوجه تاريخه، تماماً كما تفعل البنية عند البنيويين والماديين الجدد.

2 ـ يرى بعض الدارسين أن مقولة الثنائيات المتعارضة تعود إلى التعارض الثنائي الذي يعيشه كل يهودي، أي ثنائية اليهود/الأغيار.

3 ـ يبدو أن الثنائية في حالة ليفي شتراوس كانت أكثر عمقاً، فهو يهودي/غير يهودي؛ بلجيكي/فرنسي؛ إثنولوجي/عالم؛ جندي في الجيش الفرنسي/أجنبي دائم. وهناك أخيراً ثنائية الأنثروبولوجي مقابل « العالم المتحضر » و » المتقدم.«

4 ـ يرى البعض أن اشتغال ليفي شتراوس بالأنثروبولوجيا هو في ذاته تعبير عن يهوديته، فالأنثروبولوجي يشبه اليهودي التائه أو المتجول، وهو شخص يوجد في كل المجتمعات ولا يضرب بجذوره في أيٍّ منها، فهو في كل مكان ولا مكان، الغريب الدائم، المغترب عن كل الأوطان.

5 ـ الأنثروبولوجي هو شخص يترك عالَم الحضارة المتقدمة المستقرة ليذهب إلى عالم الحضارة البدائي ويحوِّل هذا العالَم إلى معياريته الكامنة ويحكم من خلالها على العالم المتحضر. فكأن الأنثربولوجي يُعلن ولاءه للبدائي على حساب الحضاري وللهامشي على حساب المركزي. ولذا، فالأنثروبولوجي عنصر من عناصر التفكيك والتقويض في العالم، فهو من دعاة الاستنارة المظلمة والهرمنيوطيقا المهرطقة، واليهودي لا يختلف كثيراً عن ذلك، فهو أيضاً عنصر تفكيك وتقويض في مجتمع الأغيار الذي أخرجه من وطنه وشتته وأحل آخرين محله وجعله عنصراً بلا جذور، ولذا فنشاطه التفكيكي وإنكاره المركز ودعوته للتشتيت ورغبته في زعزعة الثقافة الغربية (المسيحية) المستقرة تعبير عن رغبته الدفينة في الانتقام من الحضارة المسيحية.

ورغم وجاهة كل هذه العناصر، إلا أنها في واقع الأمر ليست مقصورة على اليهودي. فالاغتراب والتشتت صفة أساسية لمعظم المثقفين في العصر الحديث بعد انحسار الإيمان الديني واليقين العلمي. ويعيش معظم المثقفين في ثنائيات حادة لعل أهمها أنهم يعيشون في عالم مادي متحرك ينكر المركز والقيمة ومع هذا يظل طموحهم الإنساني الفطـري لمركز وعـالم تحكمـه القيم الإنسانية. ولذا فـلا توجد خصوصية « يهودية » في هذا المضمار.

وفكرة الذات الجمعية التي تكمن فيها البنية فكرة أساسية في الحضارة الغربية، قد يكون العهد القديم أحد مصادرها. ولكن العهد القديم نفسه ليس مقصوراً على اليهود، فهو كتاب مقدَّس لدى كل من اليهود والمسيحيين ومكوِّن أساسي في الحضارة الغربية ككل. ومهما كان الأمر، فإن فكرة الذات الجمعية التي تحوي داخلها ما يحركها ويكفي لتفسيرها فكرة محورية في الحضارة الغربية الحديثة وقد عبَّرت عن نفسها في مفهوم الشعب العضوي وفي النظرية العنصرية والإمبريالية ككل، ولذا لا يمكن اعتبارها فكرة « يهودية».

ونحن نرى أن نموذج الحلولية الكمونية ذو مقدرة تفسيرية أعلى في هذا المثال. ويمكن وصف فلسفة ليفي شتراوس (والبنيوية ككل) بأنها شكل من أشكال وحدة الوجود المادية. وهذه الحلولية الشاملة، والتي تسم أيضاً الأنساق الفلسفية عند كلٍّ من إسبينوزا وهيجل وماركس (ومعظم الأنساق الفلسفية العلمانية)، نزعة عامة في الحضارة الغربية الحديثة، ولا يمكن تفسيرها بردها إلى يهودية ليفي شتراوس. ولعل انتماءه اليهودي (أو بقايا هذا الانتماء) يُفسِّر حدة الحلولية وصرامتها، ولكنه لا يُفسِّر بأية حال مركزيتها في فكره، فهذا أمر ليس مقصوراً عليه (هو اليهودي!) وإنما سمة عامة يشاركه فيها معظم المفكرين الغربيين العلمانيين.

هربرت ماركوز (1898-1979) والماركسية الجديدة

Herbert Marcuse and Neo-Marxism

فيلسوف وسياسي ماركسي وعضو في مدرسة فرانكفورت. وُلد في برلين ودرس في ألمانيا حيث تأثر بهايدجر، ثم هاجر إلى الولايات المتحدة عام 1934 ودرَّس في عدد من الجامعات الأمريكية. له عدة مؤلفات من أهمها العقل والثورة: هيجل ونشأة النظرية الاجتماعية (1941)، الجنس والحضارة (1955)، والماركسية السوفيتيـة (1958)، و الإنسان ذو البُعد الواحد (1964)، و مقال عن التحرر (1969)، و البُعد الجمالي (1977). ويتجلى في فكره خليط من الأنطولوجيا الوجودية والفكر السياسي الطوباوي وفكر فرويد ونظرية ماركس في الاغتراب وفكر هيجل النقدي. والثمرة هي ما سماه ماركوز «النظرية النقدية»، وهو تحليل نقدي ينفي المؤسسات الاجتماعية السياسية.

ولعل التجربة الأساسية في حياة ماركوز الفكرية هي فشل اليسار الماركسي في الاستيلاء على السلطة بعد نجاح الثورة البلشفية في أوائل القرن. كما أنه لاحظ تزايد هيمنة النظم الشمولية اليمينية (الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا) واليسـارية (السـتالينية في الاتحاد السوفيتي). ثم لاحظ في الخمسينيات، بعد الحرب العالمية الثانية، تزايُد رسوخ الرأسمالية الاستهلاكية في الولايات المتحدة وأوربا، وهي ضرب من ضروب الشمولية. وحاول ماركوز خلال كل هذه الأعوام أن يُبقى الفكر الماركسي أداة حية وفعالة لتحليل المجتمع وفي نهاية الأمر تغييره.

ولعل أهم المفاهيم التي طورها ماركوز فكرة: الإنسان ذو البُعد الواحد. وهو إنسان المجتمعات الحديثة الذي تم احتواؤه تماماً وتم تخليق رغباته وتطلعاته من قبل مؤسسات المجتمع، حتى استبطن قيمه كافة وأصبح هذا الإنسان يرى أن الهدف من الوجود تعظيم الاستهلاك والإنتاج والاختيار بين السلع المختلفة. ولكن الاختيار في الأمور المهمة (المصيرية والإنسانية والأخلاقية) تقلص تماماً، وبذا فقد هذا الإنسان مقدرته على التجاوز وآصبح غارقاً تماماً في الأمور الاستهلاكية.

ووصف ماركوز للإنسان ذي البُعد الواحد هو تطوير لفكرة الإنسان الاقتصادي والجسماني (الإنسان الطبيعي) حيث بيَّن أن نسق الإنسان ذي البُعد الواحد هو نسـق واحديّ مغلق، ولذا فإنه يحـاول أن يفتح النسـق. وكي يفعل ذلك، كان لابد له أن يخرج من الواقع المغلق كي يقوم بتحليل وتقييم الكل الكامن المتجاوز لهذا الواقع الظاهر. وفي كتابه العقل والثورة، يجد ماركوز ضالته في فكر هيجل. لقد أصر هيجل على أن يظل الإنسان عاقلاً رشيداً قادراً على أن يتحرر مما يُسمَّى الحقائق المحيطة به (فالعقل البشري نفسه يصبح المطلق وموضع الكمون وأساس التجاوز، ومن ثم يستعيد الإنسان إنسانيته ومركزيته ومطلقيته). وبوسع الإنسان أن يخضع الحقائق التي يقبلها الجميع بالسليقة وباعتبارها أموراً طبيعية لمعايير أعلى، أي معايير العقل. وقد سمِّيت فلسفة هيجل العقلانية النقدية باسم «فلسفة النفي» لأن الفيلسوف، مسلحاً بالمنهج الجدلي، يوجه النقد لما هو كائن (الوصف) باسم ما يجب أن يكون (المعيار) وهو معيار يتجاوز ما هو قائم مستمد من الإمكانيات البشرية بشكل عام. ومن ثم، فإن الإنسان العقلاني بوسعه أن يتجاوز النظام الاجتماعي القائم ويصل إلى مستوى أعلى من خلال عقله الذي يقارن المعطى المباشر (المجتمع الأحادي البعد) بالمعايير الإنسانية العقلانية العالمية. والحقيقي هو ما يتفق مع هذه المعايير، وهي معايير العقل، إذ أن التاريخ نفسه حسب هذه الرؤية يتحرك حسب معايير العقل، أما اللاعقلاني فهو لا تاريخي وغير حقيقـي.

ويذهب ماركوز ـ شأنه شأن الماركسيين ـ إلى أن المجتمع الفاضل هو المجتمع الذي لا يستغل الإنسان فيه أخاه الإنسان. كما يتفق مع فرويد في أن إرجاء الإشباع وممارسة قدر من الكبت وقمع الغرائز أمر أساسي إن كان للحضارة أن تستمر. وحسب تصور ماركوز وصل التطور التكنولوجي إلى الدرجة التي أصبح القمع الشديد معها ليس ضرورياً بعد أن أدَّى قمع الغرائز وظيفته التاريخية. فالإنسان الغربي طوَّر تكنولوجيا تجعل بإمكان كل شخص أن يعيش في حرية وكرامة وإشباع دونما حاجة لقمع،وأصبح بوسع الإنسان (خصوصاً الإنسان الغربي) أن يعيد تشكيل المجتمع بما يتفق مع معايير العقل بحيث يصبح مجتمعاً مثالياً فاضلاً. ويحاول ماركوز في كتابه الجنسوالحضارة أن يعطي صورة لهذا المجتمع الفاضل الجديد (الذي يحمل كل سمات نهاية التاريخ المشـيحانية التي تسـم كل الأنسـاق العلـمانية الثـورية والليبرالية مؤخراً). وقد تنبأ ماركس بأن الإنسان في المجتمع الشيوعي سوف يصطـاد في الصـباح ويرعى الأغنام في الظهيرة ويمارس النقد في المساء. ولا تختلف رؤية ماركوز عن ذلك كثيراً، فالإنتاجية في هذا المجتمع المثالي لا تتم من خلال قمع الرغبات والزهد والاغتراب إذ أن الملكية الاجتماعية لأدوات الإنتاج المتطورة ستجعل الطاقة الغريزية تعود لشكلها الأصلي. كما أن وقت العمل الذي يسبب الاغتراب سيصل إلى الحد الأدنى ويختفي، بحيث يصبح اللهو مثل العمل، كما يمكن تنظيم العمل بحيث يتفق مع احتياجات الإنسان الفردية.

ويسأل ماركوز عن العقبات النفسية التي تقف في طريق تحقق مثل هذا المجتمع. وفي كتابه المذكور يرى ماركوز أن إيروس (مبدأ اللذة والحياة) يبحث دائماً عن التحقق والإشباع من خلال إعادة صياغة النظام الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية فيه (مبدأ الواقع) وهو يرى إمكانية الموازنة بين العقل والحس والسعادة والحرية في مجتمع خال من القمع، أي أن الإيروس (بهذا المعنى) إمكانية كامنة في الإنسان تُمكِّنه من أن يتجاوز عالمه ذا البُعد الواحد.

ولكن المجتمع الحديث سيطرت عليه العقلانية التكنولوجية (أو المبدأ الأداتي) التي توظف كل شيء بما في ذلك مبدأ اللذة ذاتها لمصلحتها. ولاحتواء مبدأ اللذة يقوم المبدأ الأداتي بما يلي:

1 ـ تقوم صناعات اللذة بترشيد أحلام الإنسان الجنسية واستيعابها داخل إطار النظام القائم، فهي تطلق الرغبة الجنسية من عقالها ولكنها تُفرِّغ مبدأ اللذة من محتواه الثوري وتحتويه تماماً، إذ تطرح إمكانية الإشباع الكامل من خلال عالم الخدمات المختلفة مثل السياحة والنوادي الليلية وأحلام الإباحية. أي أن كل شيء يتم تدجينه، وضمن ذلك الرغبة الجنسية نفسها.

2 ـ يقوم المبدأ الأداتي بتخليق رغبات غير ضرورية (زائفة) جديدة حين يتم إشباع الرغبات الضرورية (الحقيقة) وذلك من خلال الدعاية لآخر الموضوعات والإعلانات وما يُسمَّى «التآكل المخطَّط» (أي إنتاج السلع بطريقة تضمن تآكلها بسرعة)، ويُلاحَظ أن الجنس (العنصر البروميثي في الإنسان) يصبح مجرد خدعة إعلانية. وبذلك يزداد اتساع نطاق الحاجة للسلع كما يزداد إنتاجها وتظهر الوفرة السلعية. ولكن الوفرة هنا هي في واقع الأمر شكل من أشكال القمع لأي اتجاه نحو التساؤل عن الهدف من الوجود والحاجة لتحقيق الذات والبحث عن الحرية، وكلما زادت الوفرة زاد القمع لأن الدولة ومجتمع الوفرة قاما بخنق الفرد واستيعابه تماماً في دورة الحاجات المتصاعدة اللامتناهية غير الضرورية والتي يتم إشباعها بشكل دائم (وهو صدى لجدلية الاستنارة عند هوركهايمر وأدورنو فكلما زادت معدلات الاستنارة وزادت هيمنة الإنسان على الطبيعة زاد ضموره هو).

ويذهب ماركوز إلى أنه بهذا يحل مبدأ الموت (ثانانوس) محل مبدأ الحياة (إيروس) وبذلك يعود الإنسان مرة أخرى للقمع الذي يزيد عن الحد اللازم للاستمرار في خلق الحضارة.

3 ـ لاحظ ماركوز أن مؤسسات الرفاه الاجتماعي في المجتمعات الحديثة أصبحت إحدى أهم وسائل السيطرة على حياة الذين ينعمون بفوائدها ومزاياها بفضل هيمنتها على مستوى معيشتهم. وهكذا يتحول التحرر من الحاجة المادية، الشرط المسبق لكل أشكال الحرية، ليصبح هو نفسه أساس العبودية. وكلما ازداد استهلاك الناس للسلع، الذي كان من المفروض أن يوسِّع نطاق عالم الحرية، ازداد ادمانهم لهذه السلع واحتياجهم لها، ومن ثم ازداد عالم الضرورة اتساعاً وضَمُر إحساسهم بالحرية وشعورهم بالمسئولية.

وكيف يمكن الخروج من هذا المأزق؟ إن آلية الخلاص عند ماركوز ليست الطبقة العاملة (كما هو الحال مع ماركس ولوكاتش)، فقد نجح العقل الأداتي في الهيمنة عليها وتم استيعابها في الرؤية الاستهلاكية السائدة.

وهنا تظهر مشكلة أساسية: إذا كانت الأغلبية (بما في ذلك الطبقة العاملة الثورية) قد تم غسيل مخها وأصبحت ذات بُعد واحد تعيش في السلع وتموت من أجلها، وإذا كانت رؤية الإنسان مادية، فلماذا لا يكون الخلاص في السلعة؟ ومن الذي سيقرر نفي ذلك، واستناداً إلى ماذا؟ إن مشكلة القيمة المطلقة تطرح نفسها هنا مرة أخرى وبقوة، ولذا نجد أن ماركوز يتحدث عن نخبة مثقفة تقوم بتوجيه الجماهير التي فقدت رشدها وتم إغواؤها من قبَل المؤسسات الليبرالية الديموقراطية الاستهلاكية، أي أن النخبة الثقافية صاحبة العقل النقدي والذاكرة التاريخية والمقدرة على إدراك الكل الإنساني المتحقق في التاريخ والتي لم يتمكن المجتمع من استيعابها في رؤيته وبنيته ورفضت هي استبطان رؤيته، والقادرة من ثم على تجاوز الواقع المباشر، هي الآلية التي يمكنها تحقيق الانعتاق للإنسان والعمل على تأسيس مجتمع يسمح بظهور الإنسان المركب متعدد الأبعاد، ولهذا كانت كتابات ماركوز أثيرة لدى الشباب في حركة اليسار الجديد في الستينيات.

ويتَّسم كتاب ماركوز الأخير البُعد الجمالي بقدر من التشاؤم المفعم بالفرح. وهو يذهب في هذا الكتاب إلى أن الفن هو الملاذ الوحيد المتبقي للتجربة متعددة الأبعاد في مجتمع أحادي البُعد، فثمة مسافة تفصل بين الفن والواقع. ويتَّسم الفن بأن له أبعاداً تجعله يتجاوز العناصر الاجتماعية المحدِّدة له وتجعل العمل الفني قادراً على الانعتاق من العالم الذي ينتمي إليه، ومن ثم فإن الفن يُعبِّر عادةً عن تجربة إنسانية مركبة في مواقف متبلورة، وهو لهذا يذكِّرنا بحقائق إنسانية عادةً ما ننكرها. إن منطق العمل الفنييؤدي إلى ظهور حساسية مركبة جديدة تتحدى كلاً من الحساسية القائمة والعقل الذي يتبدَّى من خلال المؤسسات الاجتماعية السائدة، وهذا هو الدور الذي يمكن أن يلعبهالفن في تغيير الواقع وليس كما يرى الواقعيون الاشتراكيون.

وماركوز ليس له اهتمام خاص بالموضوع اليهودي. ولكنه أيد إسرائيل عام 1967 في هجومها على الدول العربية باعتبار أن ذلك دفاع عن النفس. وإن بحثنا عن البُعد اليهودي في فكره، فإن من العسير أن نعثر عليه، فهو مفكر متأثر بالتقاليد الألمانية في الفلسفة خاصةً هيجل وماركس. أما موقفه من إسرائيل، فهو موقف سياسي ينم عن جهل شديد، وربما عن انتهازية شخصية لا علاقة لها بالبنية العميقة الكامنة لفكره الفلسفي.

نعــوم تشومســكي (1928 - ) والثـورة التوليــدية

Naom Chomsky and the Generative Revolution

عالم لغويات أمريكي يهودي من أصل يديشي، ويُعَدُّ من أهم المفكرين اللغويين والسياسيين النشيطين في العالم في النصف الأخير من القرن العشرين. ويضعه البعض في مصاف كبار المفكرين مثل جان بياجيه وكلود ليفي شتراوس (وربما ماركس وفرويد) بالنظر إلى ما أحدثه من ثورة في علم اللغويات والعلوم الإنسانية ككل، فهو جزء مما يُسمَّى «الانقلاب البنيوي التوليدي» (وما يُسمَّى أيضاً «الثورة الإدراكية أو المعرفية») الذي تصدى للاتجاه التجريبي الوضعي. وتشير بعض الدراسات إلى «الثورة التشومسكية» في ميدان علم اللغة والإنسانيات. وقد قورن بفرديناند دي سوسير عالم اللغويات السويسري الذي بدأ هو وبروب، عالم الأساطير الروسي، هذه الثورة البنيوية (لا يعترف تشومسكي نفسه بفضل سوسير في مجال اللغويات(.

وُلد تشومسكي في الولايات المتحدة الأمريكية لأبوين من يهود اليديشية (من أوكرانيا). وكان أبوه لغوياً متخصصاً في العبرية الأندلسية وله كتاب عن أحد نحاة العبرية في الأندلس، والتي كانت دراستها تدور في إطار الأنساق المنهجية التحليلية عند نحاة العربية. ولهذا، فإن ثمة عناصر من النظرية العربية في التحليل النحوي تَعرَّف عليها تشومسكي في مقتبل حياته الفكرية من خلال أبيه. وكانت رسالة تشومسكي للدكتوراه بعنوان « التحليل التحويلي أو التوليدي » والتي نُشرت فيما بعد في كتابه الأول الأبنية التركيبية (1957). ويُعدُّ هذا مجرد جزء من عمل أشمل وأكثر تفصيلاً هو كتاب البنية المنطقية للنظرية اللغوية (1975).

قضى تشومسكي فترة في إسرائيل حيث كان يؤمن بأن الكيبوتس تجربة اشتراكية مثالية، لكنه سرعان ما عاد إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث عمل بعض الوقت في هارفارد، ثم انتقل إلى معهد ماساشوستس للتكنولوجيا ومازال يعمل به حتى الآن.

ومن الصعب تلخيص فكر تشومسكي اللغوي والسياسي، أو تلخيص سماته الأساسية وتناقضاته الحادة، والأكثر صعوبة محاولة توضيح العلاقة بينهما. ويمكننا أن نقول إن فكر تشومسكي ينطلق من الثنائية الأساسية (ثنائية الإنسان والطبيعة) التي تُشكِّل جوهر الرؤية الإنسانية (الهيومانية) للعالم وللفكر العقلاني المادي (المتمركز حول الإنسان). ولكن، هذا الفكر، صدوراً عن ماديته الصارمة وحلوليته الكامنة المادية، يحاول إنكار هذه الثنائية ومحوها وتأكيد الواحدية العلمية المادية. ومن هنا التأرجح الشديد لفكر تشومسكي بين التمركز الكامل حول الذات والتمركز الكامل أيضاً حول الموضوع، بين الحرية المطلقة، والحتمية المطلقة، وبين الإبداع الإنساني والحتمية البيولوجية.

ولنبدأ بإحدى الأفكار المحورية في النسق الفكري لدى تشومسكي وهي فكرة البنية السطحية والبنية العميقة. يرى تشومسكي أن أية ظاهرة مكوَّنة من مستويين: سطحي ظاهر، وعميق كامن. فوراء كل البنَى السطحية الظاهرة تُوجَد بنية أكثر عمقاً وتركيباً. ولكن البنية السطحية رغم انفصالها عن البنية العميقة، إلا أنها على علاقة وثيقة بها، ومن خلال تحليل المكونات الشكلية للبنية السطحية (الملموسة) وطريقة تنظيمها وتفاعلها، يمكن الوصول إلى البنية العميقة. المهم هو أن ندرك أن البنية السطحية مُكوَّنة من مجموعة من العلاقات تحكمها شفرة إن توصلنا إليها أمكننا أن نفهم البنية العميقة. ويمكن أن يتم هذا من خلال تحويل تركيب إلى تركيب آخر. وهذه الفكرة فكرة محورية في العلوم الإنسانية الغربية منذ عصر النهضة يحاول عن طريقها الفكر الغربي في عصر العقلانية المادية تَجاوُز ثنائية الروح والمادة. فالروح هنا هي البناء الفوقي (عالم الأفكار والأشكال) ورغم استقلاليته الظاهرة إلا أنه (في التحليل الأخير وفي نهاية الأمر) إن هو إلا تعبير عن البناء التحتي (المادة ـ علاقات الإنتاج ـ الدوافع الغريزية)، وحينما يُردُّ الأول للثاني نصل إلى عالم المادة والواحدية المادية وتُصفَّى الثنائية الظاهرية. ولعل إبداع تشومسكي (والثورة البنيوية التوليدية ككل) يكمن في أنه لم يجعل البناء التحتي مادياً وإنما علاقات وأفكاراً كامنة في العقل ذاته تعبّر عن نفسها من خلال أشكال وظواهر كثيرة، أي أن عالم الأشكال الإنسانية الظاهر يُردُّ لا إلى حركة المادة اللاإنسانية وإنما إلى عالم العقل والعلاقات الكامنة فيه (التي تستعصى على الدراسة التجريبية الكمية(.

العقل الإنساني، إذن، هو أعمق البنَى عند تشومسكي. وهذا العقل ليس عقلاً سلبياً ولا صفحة بيضاء، كما يرى السلوكيون والتجريبيون، وهو لا يكتسب أفكاره تدريجياً (بشكل تراكمي) من البنية المحيطة به ويدور في إطار أنساق مغلقة مصمتة اختزالية، وإنما هو عقل نشط فعال إذ توجد فيه إمكانات إبداعية وملكات مفطورة كامنة فيه هي أشكال وبنَى قَبْلية تتبع قواعد معيَّنة ذات مقدرة توليدية وتلعب دوراً أساسياً في عملية اكتساب المعرفة. وهذا يعني أن الإنسان لا تتحكم فيه الدوافع الخارجية أو البيئية وأن قدراته الإبداعية التوليدية تمنحه قدراً كبيراً من الاستقلال والحرية. وهذا يعني أن الإنسان يدور في إطار أنساق مركبة مفتوحة.

لهذا نجد أن نقطة الانطلاق عند تشومسكي عقلانية جوانية استدلالية، وليست تجريبية برانية استقرائية، فهو يبدأ من العام والبنية والنمط ومن المعطيات القَبْلية الكامنة في عقل الإنسان ولا يدع العقل يقف على عتبات البيانات والمعطيات الحسية والبراهين الجزئية والبيئة المادية وكأنه شحاذ فقير عاجز، بل يقف كالأمير القوي الذي يعطي أكثر مما يأخذ. ولذا، فإن صياغة الفروض العلمية والنماذج التفسيرية ـ حسب تصوُّر تشومسكي ـ أمر منوط بالعقل والخيال، وليس أمراً خاضعاً للحواس. لكن هذا لا يعني بطبيعة الحال أن الحواس قد تم إلغاؤها، فهي مسألة أسبقية، ونحن هنا أمام ثنائية هرمية يسبق الإنسان فيها الطبيعة، ويسبق العقل فيها الحواس، ويسبق الخيال الفعال فيها التلقي السلبي للمعطيات الحسية.

ويرى تشومسكي أن أهم الإمكانات الكامنة في عقل الإنسان هي مقدرته اللغوية. فاللغة تمثل لحظة فارقة في تاريخ الكون، فهي ما يُميِّز الإنسان عن الكائنات الأخرى التي تعيش معه في هذه الأرض، ولكنها ليس لها الفطرة اللغوية. ولغة البشر مختلفة بشكل جوهري عن لغات الحيوانات وطرق التواصل بينها. ولذا، فإن تشومسكي يتحدث عن «معجزة اللغة»، فبها يُكوَّن المجتمع وتتقدم الحضارة ويظهر الفكر (وتشومسكي في هذا ينهج منهج سابير الذي كان يذهب إلى أن اللغة تستحق الدراسة لأنها ظاهرة إنسانية فريدة ولا يستطيع الإنسان التفكير بدونها). وإن أردنا استخدام مُصطلَحنا لقلنا إن ظهور اللغة يعني تَراجُع الإنسان الطبيعي (المادي) وظهور الإنسان الإنسان أوالإنسان الرباني.

ويُعرِّف تشومسكي اللغة بأنها المقدرة التي يمتلكها كل المتحدثين بلغة ما لإنتاج وفهم عدد لا محدود من الجُمل المفهومة، لكلٍّ منها بناؤها الصحيح وذلك من خلال النحو، وهو مجموعة من القواعد والمبادئ الكامنة يربط من خلالها الإنسان بين الأصوات والمعاني بطريقة محددة (نحو تحويلي توليدي). وهذه المقدرة ليست مجرد عادة يكتسبها الإنسان من العالم الخارجي وإنما هي ملكة فطرية موروثة يُولَد بها (والقدرة الموروثة سمة لا يمكن دراستها تجريبياً، إذ لا يمكننا عزل فرد ومراقبة نمو هذه الفعالية عنده(.

وكدليل على رؤيته (الثورية التوليدية) للغة باعتبارها مفطورة في العقل، يشير تشومسكي إلى الزمن الذي يقضيه الطفل البشري (الذكور منهم والإناث، الأذكياء منهم والأغبياء) لتعلم لغته الإنسانية، فهذا الطفل يتعلم لغته بسرعة وبلا جهد وبكفاءة عالية، رغم أنه محاط بكم كبير من الكبار الذين كثيراً ما يكسرون قواعد اللغة ويُصدرون أصواتاً لا معنى لها ظناً منهم أنهم بذلك يقلدون لغة الطفل ويتواصلون معه. ورغم كل هذا، يتعلم الطفل الإنساني أسس لغته بيُسْر من خلال هذه العينات العشوائية غير المثالية خلال عام (وهو وقت أقصر من الوقت الذي يستغرقه بعض الرجال في تعلُّم قيادة سيارة) مع أن وصف قواعد أية لغة قد يستغرق عدة سنوات من الباحثين. ويصل الطفل إلى مرحلة امتلاك ناصية اللغة بين سن الخامسة والسادسة، أي أنه يتملك ناصية نظام لغوي متكامل، مُكوَّن من مجموعة هائلة ومركبة من القواعد ويتطلب استخدامه كثيراً من قواعد المنطق (الاستقراء والقياس) وقواعد التحويل وقواعد الترتيب التي لو تعلمها الطفل لاستغرق في ذلك عشرات السنين.

ويضرب تشومسكي مثلاً بإحدى قواعد التحويل التي يتعلمها الطفـل في اللغـة الإنجليزية. فصيـاغة السـؤال في اللغـة الإنجليزية يكـون عن طـريق وضع فعل الكينونة (تو بي to be) في أول الجملة. فمثـلاً عبـارة « ذا مان إز تول The man is tall" تصبح « إز ذا مان تول؟ Is the man tall ?". ولكن في جملة أخرى مثل "ذا مان هو إز هير إز تول The man who is here is tall" تصبح "إز ذا مان هو إز هير تول؟ Is the man who is here tall? ". ولو الأمر كان آلياً ومكتسباً لقام الطفل بتحريك «إز is» الأولى ولأصبح السؤال "إز ذا مان هو هير إز تول؟ Is the man who here is tall?" وهي صيغة سليمة من الناحية الميكانيكية ولكنها خطأ من الناحية اللغوية. ويُفسِّر تشومسـكي بأن عقـل الطـفل بإمكاناته الكامنة فيه يعــرف أن عـبارة "who is here" مرتبطة باسم الفاعل في وحدة واحدة لا يجوز أن تُقسَّم عند الإتيان بصيغة السؤال عن الجملة كلها. ولذلك فهو ينقل is الثانية في هذه الجملة وليس is الأولى إلى بداية الجملة.

واللغات البشرية كافة، رغم تنوعها وتعددها، تشترك في بنيانها العميق. فهي كلها تعبير عن القوالب أو البنَى اللغوية أو الأشكال الثابتة والعالمية نفسها. ونقط التشابه بين اللغات أكثر أهمية من مواطن الاختلاف. ولا يمكن تفسير العناصر العالمية للغة (بالإنجليزية: لنجوستيك يونيفرسالز linguistic universals) إلا بالقول بأن العقل يُوجَد كامناً فيها (يستخدم تشومسكي أحياناً تعبيرات مثل: «مُبرمَج فيه» أو «مُشفَّر فيه»، وثمة اختلاف عميق بين الكامن والمُشفَّر)، وأن هناك برنامجاً محدداً موروثاً يحوي البنَى كافة. وهذا يُذكِّرنا بموقف كانط من الصفات المجردة المنطقية لأنماط الفكر، وهي أنماط حادثة ولكنها مستقلة عن التجربة. ورغم الصلة الواضحة بينه وبين كانط، إلا أن تشومسكي نفسه يشير إلى كل من ديكارت وروسو وفلهلم فون هومبولت باعتبارهم أسلافه الفكريين. ومع هذا، تجب الإشارة إلى أن كانط لم يستخدم كلمات مثل «مُبرمَج» أو «مُشفَّر»، فالمقولات القَبْلية عنده محاطة بالأسرار. ولعل هذا سر إنكار تشومسكي كون كانط سلفه الحقيقي وإصراره على ديكارت، بسبب النزعة الرياضية المنطقية عند الأخير، أي الشكلية الصارمة التي تنتهي إلى الواحدية الصارمة، والبحث المحموم عن تفسيرات بيولوجية (الغدة الصنوبرية) حتى لا يكون هناك أيُّ مجال للميتافيزيقا!

ويتحدث تشومسكي عما يسميه «النحو العالمي» وهو تعبير عن الثوابت اللغوية العالمية، ولذا يُنكر تشومسكي وجود لغات بدائية، تماماً كما يُنكر كلود ليفي شتراوس وجود نظم معرفية بدائية أو ما يُسمَّى «قبل المنطقي».

واللغة الإنسانية أفضل مرآة تعكس العقل، فثمة تَماثُل بين بنيتي العقل واللغة، أي أن اللغة هي بمنزلة البناء السطحي لبنية أكثر عمقاً هي العقل الإنساني. وهذا، في الواقع، هو منهج البنيويين والتوليديين كافـة: أن يـروا بنـية ظاهرة مـا (الأساطير ـ طريقة الطهي ـ اللغة ـ الرموز) ويحاولون من خلال دراستها أن يدرسوا بنية العقل البشري. وهم في هذا يدافعون عن العقل البشري وإبداعه ضد هجوم دعاة وحدة العلوم والنماذج التجريبية الطبيعية المادية.

في إطار هذا تتحدد وظيفة علم اللغة بأنها « دراسة النحو » أو بمعنى أدق « دراسة أبنية الجملة » (بناء الجملة هو ترتيب كلمات الجملة في أشكالها وعلاقاتها الصحيحة، وكذلك تركيب واستعمال الكلمة أو العبارة في جملة). ومهمة اللغوي كشف مجموعة القواعد والمبادئ التي يمكن أن تُفسِّر الجُمل الممكنة (grammatical-permssible) كافة للغة ما، أي أنه يحاول الوصول إلى البنية الكامنة للغة بكل علاقاتها وتحويلاتها المتشابكة. وهو جهد أقرب إلى البحث المنطقي الرياضي وأبعد ما يكون عن المهمة التقليدية عند اللغوي في إعداد المعاجم وتعريف المعاني وتَطوُّرها التاريخي. ولكن علم اللغة، بذلك، وبسبب تماثل بنية اللغة مع بنية العقل، يصبح « علم اكتشاف قدرة الإنسان على الإدراك ونمو هذه القدرة من خلال اللغة » و« علم إدراك خصائص العقل الإنساني وتركيبه والسلوك الإنساني الحر الذي تحكمه القواعد وإمكانيات العقل الحر والمبدع داخل إطار نسق من القواعد التي تعكس الخواص الداخلية لعقل الإنسان ». وهذه هي النقطة التي يلتقي فيها علم اللغة بعلم السياسة بالفنون، أي أن هذه هي النقطة التي تشكل القاعدة الأساسية في فكر تشومسكي وهي مصدر الثنائية لديه. ومشروع تشومسـكي لعلم اللـغة هو تأسـيس نظـرية عامة عن بنية اللغة الإنسانية، نظرية تتسم بالعمومية بالقدر الذي يكفي لأن تنطبق على جميع اللغات، ولكنها ليسـت من العمـوم بحيث تنطبق (أي النظرية) على أي نظام اتصالي، أي أن علم اللغة يجب أن يحدد الصفات العامة والأساسية للغة الإنسان بطريقة تُبقي الإنسان وتستبعد الكائنات الأخرى.

وكما أن نظرية تشومسكي في اللغة تؤكد الوحدة، فإن هناك التنوع فيها والذي يجب أن تُفسِّره أية نظرية لغوية. ولإنجاز هذا، يُقدِّم تشومسكي ثنائية أخرى: الكفاءة المثالية أو المقدرة الموروثة (البنية العميقة)، وهي مقدرة الفرد على إنتاج وفهم عدد غير محدد من الجُمل وتحديد الخطأ وتَلمُّـس الغمـوض من جهة، والأداء الفعلي (البنية الظـاهرة)، أي عملية استخدام هذه القدرة في نسق محدد، من جهة أخرى. والمقدرة « المثالية » تتحقق في كل لغة بشكل جزئي (يرى تشومسكي أن دور الجماعة يقتصر على تشخيص النظام اللغوي إذ تقوم الجماعة بتحديد المقدرة اللغوية عن طريق استبعاد بعض الإمكانات اللغوية، أي فرض حدود على المقدرة اللغوية الكامنة التي تحويالثوابت اللغوية العالمية كافة).

ورغم أهمية الأداء اللغوي الفعلي، فإن علم اللغة لابد أن يُركز على الكفاءة المثالية وحسب، وعلى الثوابت اللغوية التي تتمثل في قواعد وتراكيب اللغة. هذا لأن دراسة الأداء الفعلي والاستخدامات المختلفة للغة بكل ما يكتنف ذلك من المصاعب والتفاصيل والتعقيدات الفعلية للواقع، يَصعُب التعامل معه على نحو رياضي علمي صارم (وهنا يبدأ الجانب الآخر الخاص بالبرمجة والتشفير في منظومة تشومسكي يُطل برأسه). وقد اكتشف كثير من علماء الإنسانيات والاجتماع إمكانية تطبيق منهج تشومسكي التوليدي البنيوي على العـلوم الإنسـانية كافة، بل وعلى الإبداع الفني.

إن النظام المعرفي (الكلي والنهائي) عند تشومسكي يستند إلى ثنائية الإنسان والطبيعة وإلى الإيمان بأن البشر مختلفون عن كل من الحيوانات (النموذج العضوي) والآلات (النموذج الآلي)، وأن هذا الاختلاف لابد أن يُحترَم، فهذا هو أساس كرامة الإنسان وإخوة البشر. هذا الإيمان باستقلالية العقل عن البيئة المحيطة به وإبداعه، هو أساس هجومه على الفلسفة الوضعية والتجريبية، فهي فلسفات لا تكترث بالبنَى العميقة، أي ما يُميِّز الإنسان عن بقية الكائنات. فالمدرسة السلوكية تكتفي بوصف البنية السطحية في أشكالها المادية المنطوقة (المسموعة) والمكتوبة ولم تتجاوز ذلك إلى التعرف على البنية العميقة.

ويرى السلوكيون أن الإنسان يجب أن يبتعد عن دراسة ما يُسمَّى «الأفكار» (بالإنجليزية: أيدياز ideas أو ثوتس thoughts) وأن يركز على المثيرات والاستجابات، أي على العناصر البرانية التي يمكن وَصفُها كمياً. كما أن السلوكيين ركزوا على مبادئ أنماط السلوك التي تنطبق على الأنواع كافة (الإنسان والحيوان) وعلى أنواع السلوك كافة (من الاكتشاف إلى التواصل إلى كسب الرزق). أي أن السلوكيين ركزوا على البراني والعام واللاشخصي (وهذه هي صفات الطبيعي/المادي) وأنكروا الجواني والخاص والفريد. ومن ثم، قضى السلوكيون عشرات السنين يدرسون سلوك الفئران وغيرها من الحيوانات ويُعمِّمون النتائج على الكائنات الأخرى بما في ذلك الإنسان ـ بل وخصوصاً الإنسان ـ (سمَّى تشومسكي هذا «بلاي آكتنج آت ساينس play-acting at science» أي «اللعب بالعلم»).

وقد ركز اللغويون الوصفيون على وصف البنية السطحية للغة أو لهجة ما مع عدم تَجاوُز ذلك إلى ما وراء المستوى السطحي الظاهر. ويركز علماء المقارنات على مقارنة ظواهر جزئية مثل مقارنة الصوت الواحد أو الصيغة الواحدة أو النمط الواحد في اللغات. واهتم علم اللغة التاريخي بمتابعة التغيرات اللغوية في اللغة الواحدة وربطها بتاريخ الحضارة. كما اهتم علم اللغة الاجتماعي بعلاقة اللغة بالتغيرات في المجتمع. لقد اهتمت هذه المدارس كافة بعملية رصد البيانات كمياً دون تقديم نموذج تفسيري يُفسِّر قدرة المتكلم وحدسه اللغوي. فكل هذه المدارس والاتجاهات ترى الإنسان آلةً صماء تُخزَّن فيها الأنماط التحويلية، وهي غير قادرة على إدراك الكل بشكل مبدع. ولذا، فإن العقل اللغوي ـ بالنسبة للسلوكيين على سبيل المثال ـ يقوم على أساس استدعاء النمط اللغوي المُختزَن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وعلى هذا، يرى تشومسكي وجوب تأسيس علوم اجتماعية تدرس الطبيعة البشرية باعتبارها كياناً مستقلاً عن الطبيعة/المادة لضمان حرية الإنسان وتعميقها، وهذه العلوم لابد أن تكون ذات أسس راسخة في الطبيعة البشرية ذاتها. ولابد أن ينبع العمل الاجتماعي من تَصوُّر لطبيعة المجتمع في المسـتقبل وأن يسـتند إلى بعض الأحكام الواضحة بشأنه، وهي أحكام تستند بدورها إلى رؤية للطبيعة البشرية. فمفهوم الطبيعة البشرية مفهوم محوري عند تشومسكي، وهو يشير إلى كيفية التوصل إليها من خلال الدراسة الإمبريقية إذ أن هذه الطبيعة تتبدَّى في سلوك الإنسان وإبداعاته المادية والفكرية والاجتماعية.

ولكن مفهوم الطبيعة البشرية بالنسبة لتشومسكي ليس مفهوماً إمبريقياً محضاً، ففي حوار له مع بيل مويرز طرح عليه هذا الأخير الإشكالية الهوبزية بطريقة ماكرة إذ سأله: « هل تعتقد أن البشر يحنون بطبيعتهم للحرية... أم أنهم على استعداد لأن يخضعوا للنظام مقابل الأمن والأمان؟ »فكان رد تشومسكي قاطعاً: « هذه مسائل خاصة بالإيمان لا المعرفة، تُوجِّه آمالك نحو ما تؤمن به.. وأنا أحب أن أؤمن بأن الناس قد وُلدوا أحراراً، ولكنك إن طلبت مني دليلاً على ذلك لما أمكنني أن أعطيك إياه ». فسأله مويرز في دهشة: "أنت تتحدث عن الإيمان، فهل «تؤمن» بالحرية؟" فأجابه تشومسكي: "أحاول ألا يكون إيماني غير عقلاني، فنحن يجب أن نسلك على أساس معرفتنا وفهمنا معتمام العلم بأن معرفتنا محدودة... ولكنه، على أية حال، إيمان خاضع لاعتبارات الحقائق والعقل". وتشومسكي، بهذا، قد طبَّق على الطبيعة البشرية نفسها المنهج العقلاني الذي طبقه على البحث اللغوي، وهو أمر منطقي أن نبدأ بما نتصوره المقدرة المثالية ثم ندرس الأداء الفعلي: المثالي قبل المادي، والعقلي قبل الحسي، والإنساني قبل الطبيعي.

وفي ضوء هذه الأولويات يمكننا أن نتوصل إلى أن المنظومة الأخلاقية عند تشومسكي تستند إلى الثنائية المبدئية (ثنائية الإنسان والطبيعة) وتتفرع عنها ثنائيات أخلاقية الشق الأول منها هو الإنساني الإيجابي والثاني هو السلبي (ويمكـن أن نقـول بشيء من التحـفظ «الطبيعي »)، وفيما يلي بعض هذه الثنائيات: حرية/تَحكُّم ـ إبداع/تنميط ـ تضامن وجماعية/تعظيم الربح وأنانية وطمع ـ مبدئي/برجماتي ـ تَوازُن بيئي/استغلال بيئي ـ تلقائية/اتجاه نحو الترشيد والتحكم ـ مساواة/هرمية ـ الديموقراطية/الشمولية ـ الاشتراكية/الرأسمالية ـ الفوضوية/هيمنة الدولة ـ الإمبريالية/التحرر ـ البقاء بطريقة جديرة بالاحترام/البقاء بأي ثمن (يستخدم تشومسكي كلمة «ديسنت decent» الإنجليزية فيقول " ديسنت سيرفايفال decent survival» وكلمة «سيرفايفال survival» في الإنجليزية تستدعي إلى الذهن مباشرةً العبارة الداروينية القبيحة «سيرفايفال أوف ذا فيتسيت survival of the fittest» أي «البقـاء للأصلـح». والأصلـح هـنا هو الأقوى، ومن ثم فهو بقاء يمكن أن نسميه «إن ديسنت indecent» أي «بطريقة غير لائقة» (ومن الواضح أن استخدام تشومسكي لهذه الكلمة الضعيفة في هذا السياق، وهو عالم اللغة، يدل على محاولته تحاشي كلمات أشد قوة. ويمكن ترجمة كلمة «ديسنت decent» بكلمات مثل: مهذب ـ لائق ـ مُرضي ـ مقبول ـ جدير بالاحترام. وكلها كلمات تشير إلى وجود معيارية ما ومرجعية ما دون الإفصاح عنها، فهي كلمات تشي بالثنائية وتتحاشاها في آن واحد).

في هذا الإطار، يعارض تشومسكي الرؤية الهوبزية الداروينية النيتشوية ومنطق القوة الصماء، فالتضامن الإنساني (خلافاً للصراع المادي) هو آلية البقاء الجديرة بالاحترام. وهو، لهذا، يرفض التفسيرات الآلية (مثل تفسيرات السلوكيين) لأنها تفشل في تفسير طبيعة البشر التي تميل نحو الحرية والإبداع وتفشل في تفسير وعي الإنسان. وهي تفسيرات تُلغي ثنائية الإنسان والطبيعة، فالإنسان، من منظور سلوكي، شأنه شأن الكائنات الأخرى، ليست عنده مقدرة توليدية تضمن حريته، وإنما هو مجموعة من العادات المكتسبة من خلال عملية تطويع (وتكييف). ولذا يكون هدف المجتمع، من منظور سلوكي، زيادة التحكم في الفرد وتطويعه، فالسلوكية والإمبريقية مرتبطتان تماماً بعملية التحكم. وكل هذا يؤدي إلى ظهور « الخبراء » الذين يدَّعون أنهم خبراء في حقل لا تُوجد فيه بالضرورة خبرة علمية إذ يجب أن تسود فيه الاعتبارات الخلقية الإنسانية العامة.

وانطلاقاً من هذه الثنائية، يطرح تشومسكي صورة المجتمع الإنساني المثالية، فهو مجتمع يتكون من تجمعات طوعية تلقائية تقضي على البنَى الهرمية القمعية. وهو يذكر باستحسان كبير مقولة ماركس عن العمل في المجتمع المثالي، حيث يصبح العمل لا مجرد وسيلة للحياة وإنما تعبيراً عن حاجة إنسانية كبرى، فيصبح العامل مدفوعاً للعمل بنزعته الجوانية التلقائية (لا القسر الخارجي البراني). ورغم مثالية هذه الصورة، إلا أن تشومسكي يبيِّن أن هناك دلائل إمبريقية عليها. فالأسرة، على سبيل المثال، كيان اجتماعي يعبِّر بشكل جيد عن الإمكانات الكامنة عند الإنسان إذ لا يحاول أفراد الأسرة تعظيم الربح وإنما يتعاملون مع بعضهم البعض داخل إطار من التضامن والتعاون.

وينادي تشومسكي بما يسميه «الاشتراكية التحررية». وهي نزعة فوضوية (بالمعنى الفلسفي) معادية لا للرأسمالية وحسب وإنما معادية أيضاً للتنظيم المركزي للدولةالاشتراكية. كما ينادي بما يُسمَّى «النزعة النقابية الفوضوية» (« ارتباطات حرة لمنتجين أحرار») وهو يرى أن الكيبوتس في الدولة الصهيونية من أهم التجارب التييتحقق فيها هذا المثل.

ورغم هذه الفوضوية والنزوع الشديد نحو الحرية والتلقائية، لا يجد تشومسكي أية غضاضة في أن يُمجِّد دور العلم الحديث والتكنولوجيا باعتبار أنها آليات يمكنها أن تريح الإنسان من ضرورات العمل وتُحقّق له أساساً لنظام اجتماعي يستند إلى الترابط الحر والتحكم الديموقراطي ( « إن كان لدينا الإرادة في أن نفعل ذلك »)

في مقابل هذه الصورة الوردية، يضع تشومسكي النظام الرأسمالي الذي يستند إلى مفهوم الإنسان الطماع التنافسي الذي يُعظّم الثروة والقوة، الخاضع لعلاقات السوق، وهو مفهوم معاد للطبيعة البشرية كما يراها تشومسكي (وفي سياق آخر، يقول « معاد لقوانين الطبيعة » دون أن يبيِّن ما المقصود: الطبيعة البشرية أم الطبيعة المادية بعامة؟ وهو غموض له مدلوله العميق الذي يشبه التأرجح بين الكمون والبرمجة كما سنبين فيما بعد). فحفنة من الرجال يُتخَمون بالسلع الاستهلاكية التي لا حاجة لهم بها، بينما الملايين الجائعة تحتاج الضروريات. والرأسمالية، بحكم بنيتها، لا يمكنها أن تفي باحتياجات البشر، لاستحالة الوفاء بها إلا من خلال قنوات اجتماعية. ولا يمكن أن يحل محل الرأسمالية التقليدية رأسمالية الدولة الشمولية أو رأسمالية الدولة المسلحة (التي بدأت تظهر في الولايات المتحدة) أو دولة الرفاه البيروقراطية المركزية ولا حتى الدولة الاشتراكية المركزية. فالدولة آلية كبرى للتحكم والهيمنة، بنية قوة وليست كياناً إنسانياً أخلاقياً. وتشومسكي يعارض، بطبيعة الحال، السوق الحر ويرى أنه من أهم آليات التحكم والهيمنة.

ويُلاحظ تشومسكي أن عملية الهيمنة لم تَعُد تتم من خلال القمع وإنما تتم من خلال الإغواء، ومن هنا يلعب الإعلام دوراً أكثر خطورة من دور الدولة، كما أن للشركات التجارية الضخمة دوراً يفوق دور الدولة، كما يلعب الخبراء دوراً مهماً في عملية القمع من خلال الإغواء (والخبراء هم أشخاص يعتقدون أن عندهم إجابات علمية تستند إلى خبرتهم العلمية في مجالات لا تحتاج، في واقع الأمر، إلا للرؤية الأخلاقية. وقد عرَّف كيسنجر الخبير بأنه الشخص القادر على الإفصاح بوضوح ودقة عن إجماع أهل القوة) فيتكاتف كل هؤلاء لتخليق الإجماع والرأي العام الحر. ومن هنا تأكيد تشومسكي دور اللغة والمفردات والأسلوب، فهي آلية أساسية لتخليق الإجماع ومن ثم كَبْت الإبداع والحرية. فيُلاحظ تشومسكي أن المُصطلَحات في اللغة السياسية تُستخدَم بشكل مختلف ومعكوس تماماً بحيث تُظهر الكلمات نقائض ما يُضمر القائلون، بحيث تُعطي الكلمات مدلولات تختلف عن مقصودها اللغوي وتُجرِّدها من معناها الأصلي. ففي القرن التاسـع عـشر سُمِّي الاحتلال «حماية»، والهيمنة « انتداباً »، والنهب الاستعماري « عبء الرجل الأبيض ورسالته »، ثم استُبدلت بهذه التسميات المضللة تسميات أخرى لا تقل عنها ضلالاً وتضليلاً إنما تتفق مع ما يُسمَّى «روح العصر». فدخلت إلى المعجم السياسي المتداول كلمات جديدة مثل: «المعونات الدولية » ـ « القروض » ـ « نقل التكنولوجيا » ـ « الاعتماد المُتبادَل »، وكل هذه المُصطلَحات لا تخرج عن مضمون الاحتلال والتبعية والاستنزاف بصور جديدة.

ومن بين هذه الكلمات ذات المدلول المضلل في الاستعمال السياسي الدولي كلمة « الإرهاب » بحيث أصبحت القوى الاستعمارية والمنظمات الدوليـة الخادمــة لها تسـتخدم الكلمة «الإرهـاب الدولي » كمرادف لتعبير « الحرب المشروعة » التي هي حرب الضعفاء ضد الأقوياء بحيث أصبح من يقذف حجراً أو يُطلق رصاصة على من يحتل أرضه ويسلبه كرامة المواطن « إرهابياً مدفوعاً»، على عكس المحتل الذي يبدو وكأنه بالاحتلال يؤدي حقاً تُقِّره الأعراف، فقد تبلور كل هذا في اتجاهين أساسيين:

1 ـ أصبح القتل والنهب بالجملة يُسمَّى «حرباً مشروعة» ويُسمَّى من يمارسها «إمبراطوراً»، أما القتل والنهب بالتجزئة فتُسمَّى «إرهاباً» ويُسمَّى من يمارسها «لصًّآ أو قرصاناً».

2 ـ ما تمارسه الولايات المتحدة يُسمَّى «حرباً» وما يُمارَس ضدها «إرهاب».

فمُصطلَح «إرهابي» مثلاً تستخدمه كلٌّ من إسرائيل وأمريكا والإعلام « العالمي » للإشارة إلى الفدائيين الفلسطينيين أو أي شخص يقف ضد مصالحهم مع أنهما أكبر دولتين إرهابيتين في العالم. وكلمة «توازن» هي الأخرى أصبحت تعني « حماية المصالح الأمريكية »، فحينما تظهر قوة قومية محلية تحاول الدفاع عن مصالحها تُوصَف بأنها تخل بالتوازن، بينما كل ما فعلته هو محاولة فرض توازن جديد يفي بمصالح الشعب على عكس التوازن القديم.

كما أن عملية تخليق الإجماع التي تقوم بها المؤسسات الحكومية وغير الحكومية قد حققت نجاحاً منقطع النظير، إذ تَحوَّل المواطن العادي في الغرب إلى إنسان مُنمَّط مُدجَّن مطوَّع لا توجد في عقله أية بنَى داخلية ثابتة ولا حاجات جوانية ذات صفة ثقافية أو اجتماعية، ولذا فهو إنسان مرن طيِّع تماماً؛ قادر على التَحوُّل والتلون يسهل تشكيل سلوكه من خلال سلطة الدولة أو مدير الشركة أو التكنوقراطية أو اللجنة المركزية (إنسان يذكرنا بالإنسان ذي البُعد الواحد عند ماركوز وغيره من فلاسفة مدرسة فرانكفورت)، وبذا يتم تهميش الجماهير وتبقى السلطة في يد الدولة والشركات والخبراء.

ويؤمن تشومسكي، شأنه شأن فلاسفة مدرسة فرانكفورت، بنظرية التلاقي. فهو يرى أنه لا يوجد فارق كبير بين الاتحاد السوفيتي (سابقاً) والولايات المتحدة الأمريكية. فالخلاف الوحيد بينهما أن الإمبريالية السوفيتية كانت تمارس نشاطها داخل حدودها (فالاتحاد السوفيتي كان دولة مترامية الأطراف)، بينما ذراع الولايات المتحدة تمتد خارج حدودها في أرجاء العالم كافة. وفي إطار هذا التلاقي، يشير تشومسكي إلى النظام الذي نشأ في العالم الغربي بعد عصر النهضة باعتبـاره « نظـام ما بعـد كولومبـوس» (مكتشف أمريكا) أي أنه نظام واحد، ويصفه بأنه نظام مبني على القرصنة والنهب.

وبعد أن عرضنا المنظومات المختلفة عند تشومسكي (المعرفية واللغوية والأخلاقية والسياسية)، وقبل أن نعرض لآرائه في الأداء السياسي في أنحاء العالم، قد يكون من المفيد أن نتوقف عند بعض التناقضات العميقة التي تسم فكره. فتشومسكي فوضوي ملتزم بالعلم والتكنولوجيا (ولهما منطقهما الرياضي الحتمي الصارم الذي يتجاوز حرية الأفراد وأغراضهم). وهو يؤمن بأن عقل الإنسان حر بسبب الأنساق الكامنة فيه ولكنه يعود ويسميها « برنامج » و«شفرة». وهو يقف بشدة ضد الرأسمالية والسوق الحر باسم الدفاع عن الحرية، ويتعاطف مع التخطيط العقلاني الذي يعني ضرورة اكتشاف القواعد وتطبيعها كما يعني المزيد من الترشيد. وهو يرى أن الأسرة مؤسسة يتم فيها تلاقي الإنسان بأخيه الإنسان في إطار من التراحم، ولكنه يرى أن الكيبوتس (المبني على تصفية الأسرة لصالح التنظيم الجماعي) أكثر المؤسسات مثالية. وهو فوضـوي يؤمن بالتلقـائية الكاملة وبصوت الشعب، ولكن حين سألته ماذا لو أخطأ الشعب، رد قائلاً: "لابد إذن من توجيهه" (فقلت له: "من أي منظور؟ ومن يعطينا هذا الحق؟").

هذا التناقض يضرب بجذوره في تَناقُض عميق في فكر تشومسكي. وأثناء زيارته للقاهرة عام 1994 طرحت عليه قضية العلم النازي والتجريب النازي وقضية الطبيعة، وهو مُصطلَح يستخدمه كما أسلفنا بشكل مبهم أحياناً. سألت تشومسكي: ما الطبيعة؟ وهل هناك داخل البشر ما يُميِّزهم عن الطبيعة أم أنهم جزء لا يتجزأ منها لا يتجاوزها قط؟ وأشرت إلى بعض آرائه التي عرضت لها من قبل، ولعبارة « معجزة اللغة » على وجه التحديد وسألته ألا تعني هذه العبارة خرقاً لقوانين الطبيعة والمادة في حالة الإنسان، أو على الأقل انقطاعاً وعدم استمرار. ومضمون سؤالي كان، في واقع الأمر، عن الثنائية العميقة التي تسم رؤيته وعن التمركز حول الذات في نسقه المعرفي. ولكن تشومسكي، شأنه شأن كل الفلاسفة الغربيين العلمانيين، يحاول أن يُنكر أية ثنائية حينما يُواجَه بالتضمينات الفلسفية لنسقه المعرفي. ولذا ضاق تشومسكي ذرعاً بسؤالي وأجاب إجابة تنم عن الضيق وقال: الطبيعة هي كل ما هناك، والطبيعة لا تُردُّ إلى شيء خارجها (نيتشر إز إرديوسابل Nature is irreducible). وقد عُدت إلى كتاباته أبحث عن إجابة أكثر تفصيلاً وإفاضة، فوجدت أن تشومسكي الذي يؤكد كمونية الأفكار يرى أنها في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير إن هي إلا جزء من بيولوجيا الإنسان (شأنها في هذا شأن الجوانب الفسيولوجية التشريحية). ولذا، لا يتردد تشومسكي في أن يصف مَلَكة اللغة (معجزة اللغة) في مُصطلَح بيولوجي مادي حتمي صرف. فاكتساب الطفل للغة لا يختلف عن تغييره أسنانه من الأسنان اللبنية إلى الأسنان الناضجة، وكالمراهق حين تتغيَّر خصائصه التشريحية. فاللغة تنمو فسيولوجياً، تماماً مثل أية صفات تشريحية أخرى، من تلقاء نفسها، أي أن كلمة «كامن» تصبح «فسيولوجي» أو «فيزيائي»، والبنَى العقلية الكامنة هي بنَى فيزيائية. والكمون لا يعني في واقع الأمر سوى البرمجة البيولوجية أو التشفير (بالإنجليزية: بروجرام program وكود code)، وهي كلمات تشير إلى نظم مغلقة حتمية. ولا يتردد تشومسكي في أن يصف نظمنا العقيـدية بأنهـا النـظم التي يقـوم العقل (باعتباره بنية بيولوجية) بإنتاجها. ويرى تشومسـكي أن العقل قد « صُمم » لتوليدها (بالإنجليزية: ديزاينيد designed] وهي كلمة تعني « تصميم » ولكنه تصميم هندسي لآلة، أي أن الكلمة التي تشير إلى الإبداع تستدعي في الوقت نفسه نظاماً مغلقاً حتمياً). ويبدو أن هذه ليست مجرد صور مجازية لوصف شيء يصعب وصفه باللغة المباشرة وإنما هو وصف حرفي إذ أن تشومسكي يشير إلى العقل باعتباره عضو التفكير (بالإنجليزية: منتال أورجـان mental organ) أو وحـدة قياسية (بالإنجليزية: موديول module)؛ فالعبارة الأولى وصف عضوي للعقل، والثانية وصف آلي،وكلاهما مغلق وحتمي. وكل النظريات العلمية التي تم تطويرها عبر تاريخ البشرية مستمدة من حصيلة محدودة من النظريات الممكنة وفرتها لنا الجينات (النظام البيولوجي) وتتناقلها الأجيال. وهكذا توارى الإبداع وحلت محله الحتمية البيئية والاجتماعية (التي نادى بها السلوكيون والتي هاجمها تشومسكي) وهي حتمية بيولوجية.

إن تشومسكي قد رفض في إحدى المناظرات العامة (عام 1975) أية مفاهيم برانية مثل «سياق» و «تَفاعُل»، فبينما كان بياجيه يرى أن تَطوُّر الطفل يتم من خلال تفاعله مع سياقه، أصر تشومسكي في تفسيره تَطوُّر لغة الطفل على عدم وجود أي مبرر لتَبنِّي مفاهيم التعليم التدريجي عن طريق الاكتساب، ورفض استيعاب اللغة في أيٍّ من نظم التمثيل الإدراكي الأخرى مثل تصنيف الأشياء وتَخيُّل الصور حتى تحتفظ اللغة بتفرُّدها كلحظة فارقة. وهو، بذلك، يصل إلى قمة تمجيد الحرية والإبداع. ولكنه يُفسِّر اللغة بعد ذلك على أساس برنامج شفرة كامنة في نظام الإنسان البيولوجي، وأن ما هو بيولوجي هو حتمي صارم مطلق. بل ويرى البعض أن الحتمية البيولوجية (المسوغ النظري للنظريات العرْقية والهيمنة الإمبريالية) أشد ضراوة ولا إنسانية من الحتميات البيئية والاجتماعـية. فبإمكان البشر التحكم في البيئة وتغيـيرها، ولكنهـم يعجزون (حتى الآن على الأقل) عن التحكم في الجينات وتغييرها.

ولكن تشومسكي يرى العكس، فالحتمية البيئية والاجتماعية مرتبطة في نظره باستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، على عكس الحتمية البيولوجية، فهي مصدر الحرية لأنها نابعة من داخل الإنسان كامنة في عقله لا تحدها حدود برانية، ولذا فإن الحتمية البيولوجية تُولِّد في نفسه قدراً كبيراً من التفاؤل والالتزام بالقيم الأخلاقية والإيمان بالمستقبل. ورغم تفاؤله بشأن الحرية، إلا أن نسقه الحتمي البيولوجي يؤدي به (من حيث لا يشعر) إلى العداء للتاريخ ثم إعلان نهايته. ويمكن القول بأن ثمة عداء للتاريخ في منظومة تشومسكي يتبدَّى في موقفه من اللغويات الاجتماعية والمقارنة، وفي تبجيله المتطرف للعلم والتكنولوجيا وعقيدة التقدم (والعداء للتاريخ إحدى سمات الموقف البنيوي الأساسية وكذلك تفسيراته الكمونية العقلية التوليدية). أما فيما يتصل بنهاية التاريخ، فإن تشومسكي ـ كما أسلفنا ـ يرى أن النظريات العلمية والرؤى الإنسانية مستمدة من حصيلة محددة من الرؤى (البرامج الوراثية) وفرتها لنا الجينات ويتناقلها البشر عبر الأجيال من خلالها. ولكن هذه النظريات (الشفرات ـ البرامج) العلمية قاربت على النضوب لأن العصر الحديث يضم أناساً كثيرين يُوفِّر لهم المجتمع وقت الفراغ اللازم والتسهيلات اللازمة لعملية البحث العلمي وكشف البرامج الكامنة. وما تبقى من موضوعات ليس بإمكان العقل إدراكها، فهي قد تبقى كذلك إلى نهاية الزمان لأنها تقع خارج نطاق النظريات (البرامج) المتاحة للإنسان بيولوجياً (أي أن تشومسكي قد أحل البيولوجوس محل اللوجوس).

هنا سألت تشومسكي مجموعة من الأسئلة: ما الفرق إذن بينه وبين السلوكيين إذا كان كل شيء بيولوجياً فيزيائياً مُشفَّراً في الجينات؟ وإذا كان علينا أن نتبع الطبيعة (البرامج الطبيعية التي صُـمِّمت مسبقاً) أفلا يمكن إذن دراسة الإنسان كما تُدرَس الفئران (وهذه خطيئة السلوكيين الكبرى)؟ ألا يمكن لهؤلاء الخبراء أن يوفروا علينا الكثير من العناء ويدرسوا الموضوع (الإنساني) بآلاتهم العلمية الدقيقة؟ ثم دفعت السؤال إلى ناحية حساسة وسألته: كيف يمكن التصدي لمجموعة من العلماء (النازيين) الذين يرون أن بإمكانهم إسعاد البشر إن قَبل البشر أن يخضعوا للتجريب ويُذعنوا للنتائج العلمية، فهؤلاء الخبراء بوسعهم أن يستخلصوا لنا قوانين الطبيعة التي يمكن على أساسها تأسيس المجتمع وتحديد ما هو خير وما هو شر وما هو نافع وما هو ضار؟ وماذا لو قال هؤلاء الخبراء إن المسنين والمعوقين واليهود يقفون ضد قوانين الطبيعة (الإنتاجية - السعادة المادية)؟ ماذا يمكن أن نقول لهؤلاء الخبراء؟ أي أنني ألمحت إلى أن هذه العقلانية المادية تؤدي إلى الواحدية والعقلانية التكنولوجية والتي تؤدي بدورها إلى التجريبية والوضعية والسلوكية والهيمنة والتحكم. فبيَّن تشومسكي أن كلمة «فيزيائي» (أي مادي) حسب تَصوُّره قد تم توسيع مدلولها تدريجياً لتغطي أي شيء يمكن فهمه، ولذا فالكلمة لا تُعرَّف بمعزل عن العقل. ومضمون الكلمة سيتسع ليغطي كل الخصائص التي يكتشفها العقل، فأشرت إلى أن المرجعية النهائية في هذه الحالة ستظل هي العالم المادي والفيزيائي، أي أن الإنسان يُستوعب في الطبيعة وذكَّرته بالعبارة التي استخدمها «الطبيعة لا يمكن أن تُردُّ لأي شيء خارجها »، وهذا هو الافتراض السلوكي الأساسي، ثم أشرت إلى أحد أهم الأنماط الفكرية العامة في الحضارة الغربية: محاولة التجاوز من خلال المادة. ثم أشرت إلى أن الأفكار الكامنة يمكن أن تكون إيجابية أو سلبية، وأنه في إطار الحتمية البيولوجية التي يتحرك في إطارها لا يوجد مجال لقبول البعض ورفض البعض الآخر، فالطبيعة هي كل ما هناك وعليناقبولها والإذعان لها! وقد طلبت من تشومسكي أن يُفسِّر لي ظاهرة ما بعد الحداثة في الغرب، وهي فلسفة تقف على طرف النقيض من فلسفته، فهو يؤمن بمعجزة اللغة ومقدرة الإنسان على توليد نظم اتصالية تستند إلى إنسانية مشتركة، أما ما بعد الحداثة فتؤدي إلى انفصال الدال عن المدلول وإلى عطب اللغة واستحالة التواصل ومن ثم إلى انسحاب العقل واستحالة إقامة العدل. وكان الهدف من السؤال أن أُبيِّن له أن النظم الفلسفية المادية يمكن أن تؤدي إلى أي شيء، وأن إيمانه بالإنسان، النابع من إيمانه بمعجزة اللغة، هو إيمان نابع من شيء كامن في الإنسان، ولكنه مُتجاوز للنظام الطبيعي (أي نابع من ثنائية مبدئية). فكان رده هذه المرة جافاً وصارماً إذ قال: إن ما بعدالحداثة نتاج ثرثرة المثقفين الفرنسيين الذين يجلسون على المقاهي يضيِّعون وقتهم فيما لا يفيد!

الصفحة التالية ß إضغط هنا