المجلد السادس: الصهيــونيــــة 1

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

الجزء الأول: إشكاليات وموضوعات أساسية

الباب الأول: التعريف بالصيهونية

الصهـيونيــــة : إشـــكالية التعريــف

Zionism: The Problem of Definition

كلمة «صهيونية» يصـعب تعريفها بشـكل مبـاشر للأسـباب التالية:

1 ـ التعريفات الشائعة في المعاجم الغربية تشير إلى "الأمل الصهيوني" وليس إلى الظاهرة الصهيونية، فتُعرَّف الصهيونية، على سبيل المثال بأنها "الحركة الرامية إلى عودة اليهود إلى وطن أجدادهم إرتس يسرائيل حسبما جاء في الوعد الإلهي والآمال المشيحانية لليهود!" وغني عن القول أن الأمل الصهيوني أو المتتالية المفترضة أو المتوقعة تختلف كثيراً عن الواقع الصهيوني أو المتتالية المتحققة.

2 ـ تختلط التعريفات بالاعتذاريات والمنظورات المختلفة بحيث لا تمكن التفرقة بين الواحد والآخر، فالصهيونية قد تكون من منظور البعض هي تحقيق الآمال المشيحانية، ولكنها من منظور البعض الآخر مخطط استعماري استيطاني.

3 ـ يشير المصطلح إلى نزعات وحركات ومنظمات سياسية غير متجانسـة، بل متناقضة أحياناً، في أهدافهـا ومصالحهـا ورؤيتها للتاريخ، أو في أصولها الإثنية أو الدينية أو الطبقية.

4 ـ قد يُستخدَم المصطلح مع صفة تحدُّ من حقله الدلالي أو تُوسِّعه كأن نقول «الصهيونية العمالية» و«الصهيونية المسيحية». بل هناك أيضاً «صهاينة صهيون» وهم معارضو مشروع شرق أفريقيا باعتبار أن دعاة هذا المشروع هم صهاينة بدون صهيون (كما أشار بعض دعاة الصهيونية الإثنية العلمانية إلى صهيونية هرتزل باعتبارها «صهيون بلا صهيونية«).

وإذا كانت الصهيونية تعني "تهجير بعض أعضاء الجماعات اليهودية إلى فلسطين وتوطينهم فيها"، فبأي معنى إذن يمكننا الحديث عن «صهيونية الدياسبورا» أو «الشتات» (الجماعات اليهودية في العالم)،أي صهيونية اليهودي الذي يرفض أن يشترك في عملية الاستيطان الصهيوني وإن كان في الوقت نفسه يرى أن هذا الاستيطان هو الحل الوحيد لمشاكل اليهود؟ ولعل هذا هو الذي حدا بالمفكر الصهيوني العمالي بوروخوف إلى أن ينحت مصطلحاً في غاية الأهمية اختفى من الأدبيات والتواريخ الصهيونية وهو «صهيونية الصالونات»، ويعني صهيونية الطبقة الوسطى التي تهتم بالجوانب الحضارية والثقافية والإثنية (أي ما يُسمَّى «الوعي اليهودي») ولا تهتم كثيراً بالاستيطان. كما نحت آخر (بعد تأسيس الدولة الصهيونية) مصطلح «صهيونية دفتر الشيكات» وهي صهيونية اليهودي الذي يُحدث أصواتاً صهيونية عالية ولكنه يكتفي بدفع مبلغ من المال للمنظمة الصهيونية. ولذا، فإن الصفة هنا في الواقع لا تُعدِّل دلالة المصطلح وحسب، وإنما تغير معناه تغييراً جوهرياً.

5 ـ وهنا يجب أن نثير قضية تتصل بالمجال الدلالي. فإن قَبلنا بأن الصهيوني "هـو من يدعـو إلى تهجير اليهود إلى فلسـطين وتوطينهم فيها"، فهل يمكن أن نُطلقالمصطلح على دعوة المعادين لليهود بطرد اليهود من أوطانهم وتوطينهم في فلسطين؟ بل هل يمكن أن نُطلق المصطلح على المشاريع النازية المختلفة للتخلص من اليهود؟ وهل يمكن الحديث عن النازيين كصهاينة؟ وعلى كل حال، فإن هذا ما فعله أدولف أيخمان أثناء محاكمته. فقد أشار إلى نفسه باعتباره صهيونياً يحاول أن يضع شيئاً من الأرض الراسخة تحت أقدام اليهود (باعتبار أن اليهود شعبٌ بلا أرض، أما الأرض الراسخة فهي فلسطين، أرض بلا شعب).

الصهـيونيــــة : تاريـــــخ المفهـــــوم والمصطــلح

Zionism: The History of the Concept and the Term

لم يُسك مصطلح «الصهيونية» إلا في القرن التاسع عشر، ولكنه مع هذا يُستخدَم للإشارة إلى بعض النزعات في التاريخ الغربي، بل داخل النسق الديني اليهودي قبل هذاالتاريخ. وسنحاول فيما يلي أن نرصد بعض استخدامات المصطلح ونوردها ـ على قدر المستطاع ـ في تسلسلها التاريخي، مع العلم بأن كل دلالة جديدة لا تنسخ بالضرورة ما سبقها، وإنما تُضاف إلىها فتزيد المجال الدلالي اتساعاً وتناقضاً وتجعل المصطلح تركيباً جيولوجياً تراكمياً:

1 ـ الصهيونية بالمعنى الديني: تشير كلمة «صهيون» في التراث الديني اليهودي إلى جبل صهيون والقدس، بل إلى الأرض المقدَّسة ككل، ويُشير اليهود إلى أنفسهم باعتبارهم «بنت صهيون». كما تُستخدَم الكلمة للإشارة إلى اليهود كجماعة دينية. والواقع أن العودة إلى صهيون فكرة محورية في النسق الديني اليهودي، إذ أن أتباع هذه العقيدة يؤمنون بأن الماشيح المخلِّص سيأتي في آخر الأيام ليقود شعبه إلى صهيون (الأرض ـ العاصمة) ويحكم العالم فيسود العدل والرخاء. ولكلمة «صهيون» إيحاءات شعرية دينية في الوجدان الديني اليهودي، فقد جاء في المزمور رقم 137/1 على لسان جماعة يسرائيل بعد تهجيرهم إلى بابل: "جلسنا على ضفاف أنهار بابل وذرفنا الدمع حينما تذكرنا صهيون". وقد وردت إشارات شتى في الكتاب المقدَّس إلى هذا الارتباط بصهيون الذي يُطلَق عليه عادةً «حب صهيون»، وهو حب يعبِّر عن نفسه من خلال الصلاة والتجارب والطقوس الدينية المختلفة، وفي أحيـان نادرة على شكل الذهاب إلى فلسطين للعيش فيها بغرض التعبد. ولذا، كان المهاجرون اليهود الذين يستقرون هناك لا يعملون ويعيشون على الصدقات التي يرسلها أعضاء الجماعات اليهودية في العالم. وقد كان العيـش في فلسـطين يُعَد عملاً من أعمال التقوى لا عمـلاً من أعمال الدنيا، وجزاؤه يكون في الآخرة أو في آخر الأيام، ولذا فإنه لا تربطه رابطة كبيرة بالاستيطان الصهيوني، وخصوصاً أن اليهودية الحاخامية (الأرثوذكسية) تُحرِّم محاولة العودة الجماعية الفعلية إلى فلسطين وتعتبرها تجديفاً وهرطقة ومن قبيل «دحيكات هاكتس» أي «التعجيل بالنهاية». فاليهودية تؤمن بأن العودة إلى أرض الميعاد ستتم في الوقت الذي يحدده الرب وبطريقته، وأنها ليست فعلاً بشرياً يتم على يد البشر. وهذه النزعة الصهيونية الدينية (التي تؤكد عنصر تجاوز المادة) لا علاقة لها بالاستيطان الصهيوني الفعلي والمادي في فلسطين ولا حتى بما يُسمَّى «الصهيونية الدينية» في الوقت الحالي.

2 ـ يُطلَق اصطلاح «الصهيونية» أيضاً على نظرة محددة لليهود ظهرت في أوربا (وخصوصاً في الأوساط البروتستانتية في إنجلترا ابتداءً من أواخر القرن السادس عشر) وترى أن اليهود ليسوا جزءاً عضوياً من التشكيل الحضاري الغربي، لهم ما لبقية المواطنين وعليهم ما عليهم، وإنما تنظر إليهم باعتبارهم شعباً عضوياً مختاراً وطنه المقدَّس في فلسطين ولذا يجب أن يُهجَّر إليه. وقد استمر هذا التيار المنادي بتوطين اليهود في فلسطين حتى بعد أن خمد الحماس الديني الذي صاحب حركة الإصلاح الديني. ويُطلَق على هذه النزعة اسم «الصهيونية المسيحية»، وهي تمارس في الولايات المتحدة الآن بعثاً جديداً وخصوصاً في بعض الأوساط البروتستانتية (الأصولية) المتطرفة.

3 ـ مع تَزايُد معدلات العلمنة في المجتمعات الغربية، ظهرت نزعات ومفاهيم صهيونية في أوساط الفلاسفة (ولا سيما الرومانسيين) والمفكرين السياسيين والأدباء، تنادي بإعادة توطين اليهود في فلسطين باعتبار أنهم شعب عضوي منبوذ تربطه علاقة عضوية بها استناداً لأسباب تاريخية وسياسية بل"علمية". ويُطلَق على هذا الضرب من الصهيونية «صهيونية غير اليهود» أو «صهيونية الأغيار».

4 ـ يُلاحَظ حتى الآن أن مصطلح «صهيونية» نفسه لم يكن قد تم سكه بعد، ومع هذا كان مفهوم الصهيونية مفهوماً مُتداوَلاً على نطاق واسع بين الفلاسفة والمفكرين والشعراء والمهووسين الدينيين. ولكن مع تبلور الهجمة الإمبريالية الغربية على الشرق، وبخاصة الشرق الإسلامي، ومع تبلور الفكر المعادي لليهود في الغرب (بسبب ظهور الدولة العلمانية المركزية التي همَّشت اليهود كجماعة وظيفية)، ومع تصاعد معدلات العلمنة بدأ مفهوم الصهيونية نفسه في التبلور والتخلص من كثير من أبعاده الغيبية الدينية أو الرومانسية وانتقل إلى عالم السياسة والمنفعة المادية ومصالح الدول.

5 ـ ليس من الغريب إذن أن نجد أن نابليون بونابرت أول غاز غربي للشرق الإسلامي في العصر الحديث وواحد من أهم المعادين لليهود في العالم الغربي (كما يدل على ذلك سجله في فرنسا) وواحد من أهم دعاة العلمانية الشاملة هو أيضاً صاحب أول مشروع صهيوني حقيقي، إذ دعا الصهاينة إلى الاستيطان في "بلاد أجدادهم"!

6 ـ أصبح مفهوم الصهيونية مفهوماً أساسياً في الخطاب السياسي الغربي عام 1841 مع نجاح أوربا في بلورة مشروعها الاستعماري ضد العالم العربي والإسلامي الذي حقق أول نجاح حقيقي له في القضاء على مشروع محمد علي في تحديث مصر والدولة العثمانية، ومع تفاقم المسألة اليهودية التقت المسألة الشرقية بالمسألة اليهودية وساد التصوُّر القائل بإمكان حل المسألتين من خلال دمجهما.

7 ـ تمت بلورة المفاهيم الصهيونية وملامح المشروع الصهيوني بشكل كامل في الفترة بين منتصف القرن التاسع عشر وعام 1880 على يد المفكـرين الصهاينة غــير اليهـود لورد شافتـسبري ولورانـس أوليفانت. وقد لخص شافتسبري التعريف الغربي لمفهوم الصهيونية في عبارة أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض (في كلمات تقترب كثيراً من الشعار الصهيوني)). وقد حاول أوليفانت أن يضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ.

8 ـ يُلاحَظ أننا نضع تاريخ تطوُّر مفهوم الصهيونية في سياق التاريخ الفكري والسياسي والعسكري الغربي، ولا نعود إلى العهد القديم أو ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» (إلا في محاولة دراسة الديباجات). فحتى العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر لم يكن يربط اليهود أو اليهودية علاقة كبيرة بالصهيونية كفكرة أو مفهوم أو مشروع سياسي واقتصادي عسكري. وقد كان هذا هو الرأي السائد في الأوساط الصهيونية حتى عهد قريب. فأول تاريخ رسمي للصهيونية، كُتب بتكليف من المنظمة الصهيونية وكتبه ناحوم سوكولوف (الذي تولى رئاسة المنظمة الصهيونية بعض الوقت) مكوَّن من جزأين كرِّس معظمها لتاريخ الصهيونية بين غير اليهود.

9 ـ بدأت النزعات الصهيونية تظهر بين اليهود أنفسهم في أواخر القرن التاسع عشر مع تفاقم المسألة اليهودية، وعبَّرت عن نفسها في بادئ الأمر عن طريق المساعدات التي كان أثرياء اليهود في الغرب يدفعونها للجمعيات التوطينية المختلفة التي كانت تهدف إلى توطين يهود شرق أوربا في أي بلد (ويشمل ذلك فلسطين) حتى لا يهاجروا إلى غربها فيعرِّضوا مكانتهم الاجتماعية وأوضاعهم الطبقية للخطر.

10 ـ عبَّرت النزعة الصهيونية في شرق أوربا عن نفسها من خلال جماعات أحباء صهيون التي حاولت التسـلل إلى فلسـطين للاسـتيطان فيها. وتُوصَف هذه النزعات أيضاً بأنها «صهيونية» رغم اختلاف الدوافع بين الفريقين الأول والثاني.

11 ـ وقد نحت المصطلح نفسه المفكر اليهودي النمساوي نيثان بيرنباوم في أبريل 1890 في مجلة الانعتاق الذاتي وشرح معناه في خطاب بتاريخ 6 نوفمبر 1891 قال فيه إن الصهيونية هي إقامة منظمة تضم الحزب القومي السياسي بالإضافة إلى الحزب ذي التوجه العملي (أحباء صهيون) الموجود حالياً. وفي مجال آخر (في المؤتمر الصهيوني الأول 1897 صرَّح بيرنباوم بأن الصهيونية ترى أن القومية والعرْق والشعب شيء واحد، وهكذا أعاد بيرنباوم تعريف دلالة مصطلح «الشعب اليهودي» الذي كان يشير فيما مضى إلى جماعة دينية إثنية، فأصبح يشير إلى جماعة عرْقية (بالمعنى السائد في ذلك الوقت)، وتم استبعاد الجانب الديني منه تماماً. وأصبحت الصهيونية الدعوة القومية اليهودية التي جعلت السمات العرْقية اليهودية (ثم السمات الإثنية في مرحلة لاحقة) قيمة نهائية مطلقة بدلاً من الدين اليهودي، وخلَّصت اليهودية من المعتقدات المشيحانية والعناصر العجائبية الأخروية، وهي الحركة التي تحاول أن تصل إلى أهدافها من خلال العمل السياسي المنظم لا من خلال الصدقات. ورغم أن بيرنباوم كان يهدف إلى الدعوة إلى ضرب جديد من التنظيم السياسي مقابل جهود أحباء صهيون التسللية، فإن المصطلح استُخدم للإشارة إلى الفريقين معاً.

وبعد المؤتمر الصهيوني الأول 1897 في بازل، تحدَّد المصطلح وأصبح يشير إلى الدعوة التي تبشر بها المنظمة الصهيونية وإلى الجهود التي تبذلها، وأصبح الصهيوني هو من يؤمن ببرنامج بازل (في مقابل المرحلة السابقة على ذلك، أي مرحلة أحباء صهيون بجهودها التسللية المتفرقة)

12 ـ بعد ذلك، بدأت دلالات الكلمة تتفرع وتتشعب، فهناك «صهيونية سياسية» (يُشار إليها أحياناً بعبارة «الصهيونية الدبلوماسية»)، وأخرى «عملية»، وتبعتها «الصهيونية التوفيقية». وكل صهيونية لها توجُّهها وأسلوبها الخاص وإن كانت جميعاً لا تختلف في الهدف النهائي. وتذهب الصهيونية التوفيقية إلى أن كل الاتجاهات الصهيونية غير متناقضة بل يكمل الواحد منها الآخر، ومن ثم يَسهُل التوفيق بينها.

13 ـ تَبلور المفهوم الغربي للصهيونية تماماً في وعد بلفور الذي مُنح "للشعب اليهودي" (أُسقطت عبارة "العرْق اليهودي") والذي أشار للعرب باعتبارهم الجماعات غير اليهودية، أي أن اليهود أصبحوا شعباً بلا أرض وفلسطين أصبحت أرضاً بلا شعب.

14 ـ ثم ظهرت بعد ذلك «الصهيونية الثقافية» و«الدينية» التي أضافت إلى الصهيونية البعد الإثني (الديني والعلماني).

15 ـ ثم ظهرت «الصهيونية الديموقراطية» و«الصهيونية العمالية» و«الصهيونية التصحيحية» و«الصهيونية الراديكالية«.

16 ـ وبعد عام 1948، ظهرت «صهيونية الدياسبورا«.

ونحن نذهب إلى أنه يوجد في الواقع صهيونيتان لا صهيونية واحدة (صهيونية توطينية وصهيونية استيطانية). ومع هذا، فإنهما يُشار إليهما بدالٍّ واحد: «صهيونية». وذلك برغم أنهما ظاهرتان مختلفتان تماماً، لهما جذور مختلفة وقيادات وأهداف مختلفة.

17 ـ ويُشبِّه يوري أفنيري الصهيونية بالبيوريتانية (بالإنجليزية: بيوريتانيزم Puritanism) في أمريكا، فهي أيديولوجيا الأصول التي أدَّت إلى ظهور المجتمع الأمريكي، ولكنها ماتت ولم تَعُد لها فعالية في هذا المجتمع. ويرى الكاتب الإسرائيلي بوعز إفرون أن على الإسرائيلي في علاقته بالصهيونية أن يكون مثل الأمريكي في علاقته بالبيوريتانية. وبذا، تصبح الدوافع الأيديولوجية أو الاقتصادية التي دفعت الرواد الأوائل (الصهاينة أو البيوريتان) إلى الاستيطان (في فلسطين أو الولايات المتحدة) موضوعاً ذا أهمية تاريخية أو أكاديمية محضة، وليس موضوعاً أساسياً.

ويتحدث الكاتب الإسرائيلي أبراهام يهوشاوا عن الصهيونية بوصفها حركة إنقاذ عملية ظهرت حلاًّ للمأزق اليهودي منذ قرن (أي المسألة اليهودية في شرق أوربا)، وهو يعتقد أن العملية قد وصلت إلى نهايتها، أي أن الصهيونية كانت ولم تَعُد.

18 ـ وهناك مصطلح «الصهيونية الجغرافية» الذي ورد في رسالة بعث بها يوسف ضياء الدين الخالدي رئيس بلدية القدس إلى حاخام فرنسا الأكبر صادوق كاهن (الصديق المقرب لكلٍّ من هرتزل ونوردو) يُذكِّره بأن فلسطين جزء لا يتجزأ من الإمبراطورية العثمانية ويسكنها غير اليهود، ويتنبأ بقيام حركة شعبية ضد الصهيونية فيما لو استمرت الحال على ما هي عليه، ولذا فقد نصح الصهاينة بالتخلي عن «الصهيونية الجغرافية»، أي الربط بين صهيون وفلسطين وبضرورة البحث عن أرض أو بلاد أخرى. ولعل هذا المصطلح هو المحاولة العربية الوحيدة لسك مصطلح مسـتقل لوصف الظاهرة. وهو مصـطلح دقـيق إلى حدًّ كبير، فهو يفصل بين الصهيونية وبين أية ديباجات دينية أو علمانية، ويبين أن المستهدف هو الأرض الفلسطينية. كما أن التركيز على عنصر الجغرافيا يبين أن عنصر التاريخ الحي قد استُبعد، ولذا فقد أشار الخالدي في خطابه إلى أن فلسطين هي بلاد اليهود "تاريخياً"، بمعنى أن جزءاً من تاريخهم مرتبط بها، ولكنه تاريخ متحفي بائد، إذ أن فلسطين أصبحت الآن جزءاً من التاريخ العربي الإسلامي. والواقع أن كلمة «جغرافية» تبين شراهة المشروع الصهيوني واستعماريته وإنكاره تاريخ المنطقة ووجود أهلها.

19 ـ وفي الوقت الحاضر، فإن كلمة «صهيونية» تعني في العالم العربي "الاستعمار الاستيطاني الإحلالي في فلسطين الذي تَرسَّخ بدعم من الغرب". وتحمل الكلمة إيحاءات دينية لدى كثير من العرب المسلمين أو المسيحيين الذين يرون أن الصراع العربي/الإسرائيلي صراع ديني.

20 ـ لا تحمل الكلمة أي معنى ديني في بلاد العالم الثالث، ولا تشارك شعوب العالم الثالث في الديباجات الصهيونية المختلفة عن "حق" اليهود بسبب اضطهادهم في أوربا أو عن الرابطة الأزلية بأرض الميعاد. وتحمل الكلمة تقريباً الدلالات نفسها التي تحملها في العالم العربي.

21 ـ وحتى نُبيِّن مدى خلل المجال الدلالي، يمكن أن نشير إلى أن الصهيونية حركة عنصرية حسب أحد قرارات هيئة الأمم وأنها ليست كذلك حسب قرارات أخرى.

22 ـ يُلاحَظ أن أزمة الصهيونية عبَّرت عن نفسها من خلال عدد لا ينتـهي من المصطلحات تنـاولناهـا في الباب المعنون «أزمة الصهيونية«.

وقد حاولنا في هذه الموسوعة أن نحدِّد معنى لفظ «صهيونية» ومجاله الدلالي من خلال ما سميناه «الصيغة الصهيونية الأساسية» التي تحوَّلت إلى «الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة» والتي تم تهويدها وأصبحت «الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة اليهودية» أو «المُهوَّدة». وقد عرَّفنا الديباجات والانقسامات المختلفة التي تعطي مضموناً للكلمة.

ويمكن اشتقاق فعل من كلمة «صهيونية» فنقول «صَهْيَنَ»َ (بالإنجليزية: زايونايز zionize). ويُستخدَم المصدر من هذا الفعل عادةً بشكل شبه مجازي فيُقال «صهينة يهود العالم» بمعنى أن تسيطر العقيدة الصهيونية على بعض جوانب وجودهم لا كلها، ويُقال «صهينة اليهودية» بمعنى أن الرؤية الصهيونية للكون تصبح هي القيمة الحاكمة داخل النسق الديني اليهودي. وصهينة اليهود واليهودية هي الشكل الخاص الذي تتخذه عملية علمنتها.

الصهـيونيـة: تعريـف

Zionism: Definition

تتسم التعريفات الشائعة في المعاجم الغربية للصهيونية بضعف مقدرتها التفسيرية. فإن كانت الصهيونية هي حركة القومية اليهودية وعودة اليهود لأرض الأجداد (كما تقول بعض المعاجم)، فكيف نُفسِّر أن أغلبية هذا الشعب اليهودي الساحقة لا تزال تعيش في «المنفى» متمسكة به، تدافع عن حقوقها فيه؟ وكيف نُفسِّر امتلاء مخيمات اللاجئين بملايين الفلسطينيين؟ كيف نُفسِّر ما يقومون به من مقاومة؟ ولذا لابد من طرح تعريفات جديدة أكثر تركيبية وشمولاً وتفسيرية تتجاوز كل الاعتذاريات والديباجات (الصهيونية والعربية) لنصل إلى بعض الثوابت الكامنة. وسنحاول إنجاز هذا من خلال عملية تفكيك لما هو ظاهر واكتشاف لما هو كامن وبلورته ثم نعيد التركيب ونطرح تعريفاً جديداً، له مقدرة تفسيرية أعلى.

ونحن نذهب إلى أن ثمة صيغة صهيونية أساسية شاملة تُشكل التعريف الحقيقي للصهيونية، وثمة عقد صامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية، كامن في هذهالصيغة، وثمة مادة بشرية مُستهدَفة (أعضـاء الجماعات اليهـودية خارج فلسطـين والعـرب الذين يعيشـون فيها).

المـادة البشـرية المستهـدفة

Targeted Human Material

«المادة البشرية المُستهدَفة» اصطلاح نستخدمه للإشارة إلى المادة البشرية اليهودية التي تشير إليها الصيغة الصهيونية الأساسية باعتبار أنها شعب عضوي منبوذ نافع سيتم نقله خارج أوربا لتوظيفه، أي أن المصطلح يشير إلى اليهود باعتبارهم جماعة وظيفية استيطانية. واصطلاح «المادة البشرية» ليس من ابتداعنا فقد ورد في كتابات هرتزل الزعيم الصهيوني وفي تصريحات أيخمان الموظف النازي.

ويُلاحَظ وجود مادة بشرية أخرى مُستهدَفة هي «العرب». ولكن مع هذا لم يأت لهم ذكر في العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية، ومن ثم لا تشـير إليهم التعريفـات الصـهيونية من قريب أو بعيد، ولكن من المعروف أن السكان الأصليين المغيبين يكون مصيرهم، في المخططات الاستعمارية الغربية، هو عادةً الإبادة أو الطرد.

الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة

Underlying Zionist Premises

«الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة» مصطلح قمنا بصكه للإشارة إلى الثوابت والمسلمات النهائية الكامنة في الاتجاهات الصهيونية كافة مهما اختلفت دوافعها وميولهاومقاصدها وطموحاتها وديباجاتها واعتذارياتها. ولا يمكن وصف أي قول أو اتجاه بأنه صهيوني إن لم يتضمن هذه المسلمات، فهي بمنزلة البنية العامة الكامنة وهي التيتُشـكِّل الأسـاس الكامـن للإجماع الصهيوني. ويمكن تلخيصها فيما يلي:

أ) اليهود شعب عضوي منبوذ غير نافع، يجب نقله خارج أوربا ليتحوَّل إلى شعب عضوي نافع.

ب) يُنقل هذا الشعب إلى أي بقعة خارج أوربا [استقر الرأي، في نهاية الأمر، على فلسطين بسبب أهميتها الإستراتيجية للحضارة الغربية وبسب مقدرتها التعبوية بالنسبة للمادة البشرية المستهدفة] ليُوطَّن فيها وليحل محل سكانها الأصليين، الذين لابد أن تتم إبادتهم أو طَرْدهم على الأقل [كما هو الحال مع التجارب الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية المماثلة[.

جـ) يتم توظيف هذا الشعب لصالح العالم الغربي الذي سيقوم بدعمه وضمان بقائه واستمراره، داخل إطار الدولة الوظيفية في فلسطين.

وهذه الصيغة الشاملة لم يُفصح عنها أحد بشكل مباشر، إلا بعض المتطرفين في بعض لحظات الصدق النماذجية النادرة. ولكن عدم الإفصاح عنها لا يعني غيابها، فهي تشكل هيكل المشروع الصهيوني والبنية الفكرية التي أدرك الصهاينة الواقع من خلالها.

ويُلاحَظ أن كثيراً من الأُسس التي تستند إليها الصيغة الشاملة قد اختفى بفعل التطورات التاريخية. فيهود العالم الغربي قد تناقص عددهم واندمجوا بشكل شبه تام في مجتمعاتهم، ولم يَعُد هناك مجال للحديث عن "عدم نفعهم". كما أن عملية نَقْل اليهود ونفي العرب اكتملت معالمها إلى حدٍّ كبير، وخصوصاً أن الترانسفير بعد تأسيس الدولة أصبح عملية هجرة تتم في ظلال قانون العودة. أما بالنسبة للسكان الأصليين فقد تم نفي غالبيتهم عام 1948، ولكن بعد عام 1967 أصبح من الصعب التخلص منهم. وما تبقَّى من الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة هو دولة وظيفية يدعمها الغرب ويضمن بقاءها وتقوم هي على خدمته وعلى تجنيد يهود العالم وراءها لخدمتها وخدمة العالم الغربي، وهذا ما يُشكِّل أساس الإجماع الصهيوني.

وعلى كلٍّ ما يتم الإفصاح عنه هو الصياغة المهوِّدة للصيغة الصهـيونية الأساسـية الشـاملة، فهي أكثر صـقلاً، وتبدو أكثر إنسانية، ولذا فإنها تحقق القبول الذي لا يمكن أن تحققه الصيغة غير المهودة بسبب إمبرياليتها وماديتها الشاملة.

الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة: تاريخ

Underlying Zionist Premises: History

لم تظهر الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة كاملةً بين يوم وليلة، وإنما ظهرت بالتدريج، وكان يُضاف لكل مرحلة عنصر جديد إلى أن اكتملت مع صـدور وعـد بلفور وتحوَّلت إلى الصـيغة الصهيونية الأسـاسية الشاملة. والواضح أن الصيغة الصهيونية الأساسية تضرب بجذورها في الحضارة الغربية. وفيما يلي تاريخ موجز لمراحل تشكُّلها واكتمالها:

1 ـ تضرب الصيغة بجذورها في موقف الحضارة الغربية من الجماعات اليهودية وفي وضعهم داخلها، وهو موقف صهيوني ومعاد لليهود في آن واحد؛ أو صهيوني لأنه معاد لليهود. فاليهود شعب مختار عضوي متماسك (شعب شاهد ـ جماعة وظيفية)، ووجوده في مجتمع ما ليس له أهمية في حد ذاته وإنما بمقدار ما يخدم الوظيفة الموكلة إليه. وحين يفقد الشعب وظيفته، لابد من التخلص منه عن طريق نَقْله (أو ربما إبادته). ومن هنا، فإن نقطة الانطلاق (الشعب العضوي المنبوذ) هي الرقعة المشتركة بين معاداة اليهود والصهيونية، وهي صيغة خروجية تصفوية إذ تطالب بإخراج اليهود من أوربا وتصفيتهم، فالعنصر الأول بشقيه هو جوهر عداء اليهود وهو أيضاً المقدمة الأساسية للصهيونية.

2 ـ وأضيف لهذه الصيغة العنصر الثاني (الكامن تاريخياً وبنيوياً في العنصر الأول) وهو اكتشاف نفع اليهود، ومن ثم إمكانية توظيفهم خارج أوربا (وإصلاحهم). وقد اكتُشف هذا الجزء أو تم تأكيده ابتداءً من القرن السـابع عشـر، عصـر ظـهور الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية. ويُلاحَظ أن ما يميِّز الصهيونية عن معاداة اليهود هو هذا الجزء. فكلاهما يرى اليهود عنصراً غير نافع يوجد داخل الحضارة الغربية ولكنه لا ينتمي إليها ولا حل للمشكلة إلا بإخراج اليهود. وبينما يلجأ أعداء اليهود إلى إخراج اليهود بشكل عشوائي عن طريق طردهم أو إبادتهم دون تخطيط أو ترشيد، فإن الصهاينة يرشِّدون العملية كلها ويرون إمكانية إخراج اليهود بشكل منهجي وتحويلهم إلى عنصر نافع. كما يُلاحَظ أن مكـونات هـذين العنصرين (المنبوذين ـ النافعين الذين يمكن توظيفهم) هي ذاتها السمات الأساسية للجماعة الوظيفية. ومن ثم، فإن اكتشاف نفع اليهود كان أمراً متوقعاً، إذ أن ذلك لصيق ببنية الجماعة الوظيفية وهو سر وجودها وبقائها، إذ أنها لا يمكن أن يكتب لها البقاء في مجتمع إلا إذا كانت "نافعة" و"تلعب دوراً ضرورياً".

3 ـ تظـل الصيغة الصهيونيـة حتى نهاية القرن التاسـع عشـر مجرد فكرة، ولكنها تتحول إلى حركة منظمة بعد مرحلة هرتزل وبلفور ومضمونها أن يتم التوظيف من خلال دولة وظيفية على أن تشرف على العملية إحدى الدول الاستعمارية الكبرى في الغرب التي تُؤمِّن للمستوطنين موطئ قدم وتضمن بقاء واستمرار الدولة الوظيفية الاستيطانية. ومع وعد بلفور، يصبح المكان الذي ستقام فيه الدولة الوظيفية هو فلسـطين وتتحـول الصيغة الأسـاسية إلى الصـيغة الشـاملة.

ولنا أن نلاحظ أن المفهوم الكامن وراء الصيغة الأساسية الشاملة في الصهيونية الغربية مفهوم محوري في الحضارة الغربية، فلم يتم إدراك اليهود وحدهم من خلاله وإنما تم إدراك كل المنحرفين اجتماعياً، فمثلاً كان يتم نَقْل المساجين إلى أستراليا وتوظيفهم هناك بحيث يتحوَّلون إلى عناصر صالحة؛ أعضـاء في الحضـارة التي نبـذتهم ونقلتهم.

والصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة محايدة تماماً، فهي صيغة علمانية نفعية مادية تماماً، رغم كل ما قد يحيط بها من ديباجات مسيحية أو رومانسية، فهي ترى اليهود، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، باعتبارهم مادة نافعة لا قداسة لها. وهي تنظر لوجود اليهود في العالم الغربى نظرة سلبية لابد من وضع نهاية له. ولذا، فهي صيغة تدعو اليهود إلى إنهاء السلبية الدينية والعودة المادية العلمانية إلى فلسطين دون انتظار أي أمر إلهي (الأمر الذي يتنافى مع العقيدة المسيحية الكاثوليكية واليهودية الأرثوذكسية)

والصيغة تُعلمن اليهود (فهم مادة نافعة تُنقَل)، كما تُعلمن المكان الذي سيُنقَلون إليه (فهو مجرد حيز)، وتُعلمن سكانه الأصليين (فمصيرهم إما النـقـل أو الإبـادة)، وتُعلمن وسـيلة النقـل (فهي الإمبريالية)

والصيغة الأساسية الشاملة هي القاسم المشترك الأعظم بين كل الصهيونيات: صهيونية اليهود ـ صهيونية غير اليهود ـ صهيونية اليهود المتدينين ـ صهيونية اليهود العماليين ـ صهيونية اليهود المتمسكين بإثنيتهم ـ صهيونية اليهود غير اليهود، وذلك بغض النظر عن الديباجات والاعتذاريات وزوايا الرؤية. ولا شك في أنها تصلح أساساً تصنيفياً للتفرقة بين الصهيونية وغيرها من الحركات التي توجهت للقضايا نفسها.

والصيغة الشـاملة تصلح أيضاً إطاراً لكتابة تاريخ عام للصهيونية، باعتبارها حركة فكرية سياسية اقتصادية اجتماعية في الحضارة الغربية (لا بين أعضاء الجماعات اليهودية وحسب)، بحيث لا يتم الفصل بين صهيونية اليهود وصهيونية غير اليهود كما هو مُتَّبع، وإنما يُنظَر إليهما كمراحل مترابطة في سياق تاريخي حضاري واحد.

والصيغة الشاملة هي الأساس الذي يستند إليه ما نسميه «العقد الصهيوني الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية بشأن يهود الغرب»، فهذا العقد يتيح الفرصة أمام يهود الغرب لأن يحققوا من خـلال الخروج من العالم الغربي ما فشـلوا في تحقيقـه من خـلال البقاء فيه. وعلى المستوى السياسي، يمكن القول بأن الصيغة الشاملة تعني ربط حل المسألة اليهودية (المادة البشرية المستهدفة) بالمسألة الشرقية (المجال الذي ستُنقَل فيه لتُوظَّف لصالح الحضارة الغربية). وقد تم تهويد الصيغة الشاملة من خلال مجموعة من الديباجات بحيث أصبحت «الصيغة الشاملة المُهوَّدة»، وذلك حتى يتحقق لليهود استيطانها.

ويُلاحَظ أنه في الوقت الحاضر بعد أن استقرت أوضاع الجماعات اليهودية في الغرب، وبعد دمجهم وتَناقُص أعدادهم أصبحت العناصر الأخيرة في الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة هي العنصر الأساسي (دولة وظيفية يدعمها الغرب ويضمن بقاءها وتقوم هي على خدمته وعلى تجنيد يهود العالم وراءها لخدمتها وخدمة العالم الغربي). وأصبح هــذا هو أسـاس الإجـماع الصهيوني.

الصهيونيـة البنيوية

Structural Zionism

«الصهيونية البنيوية» هي تَشكُّل بنية المجتمع وعلاقاته بحيث يضطر أعضاء الجماعة اليهودية إلى الهجرة إلى فلسطين والاستيطان فيها. و«الصهيونية البنيوية» مرتبطة تمام الارتباط بـ «المعاداة البنيوية للسامية». بل إن المعاداة البنيوية لليهود واليهودية (أي أن تلفظ بنية المجتمع نفسها أعضاء الجماعات اليهودية الأمر الذي يجعل حياتهم مستحيلة داخل هذا المجتمع ويجعلهم "شعباً عضوياً منبوذاً") هي الشرط الأساسي لظهور الصهيونية البنيوية. ومن ثم فالصهيونية البنيوية لا تختلف كثيراً عن الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة. فإذا كانت "الصيغة الشاملة" تشكل النموذج، فالصهيونية البنيوية هي تَحقُّق هذه الصيغة من خلال بنية المجتمع نفسه، حتى تصبح الجماعة اليهودية شعباً عضوياً منبوذاً غير نافع. ولكن حينما ننظر لبقية الصيغة الشاملة (نقل اليهود خارج أوربا ـ توظيفهم لصالح أوربا) نجد أنها ليست جزءاً من بنية المجتمع وإنما نتيجة مخطط صهيوني، أي أن البنيوي ليس الصهيونية وإنما» معاداة اليهود واليهودية«

وقد استخدم أحد المراجع مصطلح «صهيونية بنيوية» للإشارة لما حدث في كوبا بعد اندلاع ثورة كاسترو فقد كان القائمون بالثورة متعاطفين جداً مع أعضاء الجماعة اليهودية ويسَّروا لهم كل السُبل ليحققوا ذاتهم الدينية والإثنية. ومع هذا قامت حكومة الثورة بتأميم كثير من المصانع وإغلاق الكازينوهات وقطاع البغاء، وهي قطاعات كان يوجد فيها أعضاء الجماعة اليهودية بشكل ملحوظ. ولذا بدأ نزوح اليهود عن كوبا، حتى اختفت الجماعة اليهودية تماماً. ووُصف هذا الوضع بأنه صهيونية بنيوية، وهو ينم عن عدم فَهْم للواقع وفشل في إدراكه. فما حدث هو عملية تأميم نتج عنها تصفية بعض القطاعات الاقتصادية، وتصفية القائمين عليها يهوداً كانوا أم غير يهود. كما أن أعضاء الجماعة اليهودية الذين "خرجوا" لم "يعودوا" إلى فلسطين المحتلة، وإنما اتجه معظمهم إلى الولايات المتحدة، كما فعلت الآلاف غيرهم من المواطنين الكوبيين الذين رفضوا المشاركة في الثورة أو ممن فقدوا وظائفهم نتيجة التوجهات الاشتراكية للثورة.

الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة المهودة

Underlying Judaized Zionist Premises

«الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة المُهوَّدة» هي «الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة» بعد أن اكتسبت ديباجات ومسوغات يهودية جعل بإمكان المادة البشريةالمستهدفة استبطانها. فالصيغة الشاملة تُعلمن اليهود تماماً وتُحوْسلهم إلى أقصى حد، وهي أيضاً تُعلمن الهدف من نقلهم والأرض التي سيُنقَلون إليها. وليس من السهل على المرء قبول أن يتحول إلى وسيلة وأن يُنقَل كما لو كان شيئاً لا قيمة له إلى أرض (أي أرض). ولذا، نجد أن المقدرة التعبوية للصيغة الشاملة تكاد تكون منعدمة، إذ أنهاتفترض أن ينظر اليهود إلى أنفسهم بشكل براني، وهذا أمر مستحيل بطبيعة الحال.

وقد طوَّر هرتزل الخطاب الصهيوني المراوغ الذي فتح الأبواب المغلقة أمام كل الديباجات اليهودية المتناقضة التي غطت، بسبب كثافتها، على الصيغة الأساسية الشاملةوأخفت إطارها المادي النفعي حتى حلَّت، بالنسبة لأعضاء الجماعات اليهودية في الغرب بل بالنسبة لمعظم قطاعات العالم الغربي، محل الصيغة الأساسية الشاملة.

وقد تم إنجاز هذا بأن قامت الصهيونية الإثنية (الدينية والعلمانية) بإسقاط ديباجات الحلولية الكمونية (التي تلغي الحدود بين الإله والأرض والشعب وتخلع القداسة على كلما هو يهودي) على الصيغة الشاملة بحيث يتحول اليهود من مادة نافعة إلى كيان مقدَّس له هدف وغاية ووسيلة ورسالة. وتجعل عملية نقله مسألة ذات أبعاد صوفية أو شبه صوفية نبيلة. لكل هذا أصبح من السهل على المادة البشرية أن تستبطن الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة وأصبح من السهل التحالف بين الدينيين والعلمانيين: الجميع يتفق على قداسة الشعب ورسالته (ومطلقيته) ويختلفون حول مصدر القداسة وتجلياتها. ورغم كثافة الديباجات وإغراقها في الحلولية، تظل الثوابت كما هي، وتظل الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة كما هي.

وتذهب الصيغة المُهوَّدة إلى أن العالم هو «المنفى» وأن اليهود يشكلون «شعباً عضوياً واحداً» لابد أن يُنقَل من المنفى (فهو شعب عضوي منبوذ) إلى فلسطين «أرض الميعاد». ورغم هذا الاتفاق المبدئي إلا أن الديباجات تختلف، فالشعب العضوي المنبوذ لا يُنبَذ بسبب كونه جماعة وظيفية فقدت دورها أو لأنه قاتل المسيح، وإنما لعدد من الأسباب تتغيَّر بتغيُّر صاحب الديباجة منها أنه شعب مقدَّس مكروه من الأغيار في كل زمان ومكان بسبب قداسته (الصهيونية الإثنية الدينية) أو بسبب تركيبه الطبقي غير السوي (الصهيونية العمالية) أو لأن هويته الإثنية العضوية لا يمكن أن تتحقق إلا في أرضه (الصهيونية الإثنية العلمانية [الثقافية]) أو لأنه شعب ليبرالي عادي يود أن يكون مثل كل الشعوب، وخصوصاً الشعوب الغربية (الصهيونية السياسة). ومهما اختلفت الأسباب، فإن هذا الشعب ينظر إلى نفسه فيرى كياناً عضوياً مطلقاً له قيمة إيجابية ذاتية (بل يجد أنه المطلق وموضع الحلول والكمون(.

أما الهدف من النقل فليس التخلص من اليهود أو تأسيس دولة وظيفية تقوم على خدمة الغرب وإنما هو إصلاح الشخصية اليهودية وتطبيعها وتأسيس دولة اشتراكية تحقق مُثُل الاشتراكية (الصهيونية العمالية) أو الاستجابة للحلم الأزلي في العودة وتحقيق رسالة اليهود الإلهية وتأسيس دولة تستند إلى الشريعة اليهودية (الصهيونية الدينية) أو تحقيق الهوية اليهودية وتأسيس دولة يهودية بالمعنى العلماني تكون بمنزلة مركز روحي وثقافي ليهود العالم (الصهيونية الإثنية العلمانية) أو تحقيق مُثُل الحرية وتأسيس دولة ديموقراطية غربية (الصهيونية السياسية). كما اكتسب المكان الذي سيُنقل إليه الشعب معنى داخلياً إذ تصبح الأرض هي الأرض الوحيدة التي تَصلُح للخلاص (المشيحاني أو الاشـتراكي أو الليبرالي)، فهي «أرض الميعـاد» الإثنـية الدينية أو العلمانية، بل إن خلاص الشعب هو خلاص الأرض، وهو نفسه مشيئة الإله.

وآليات الانتقال ليست الاستعمار الغربي أو العنف والإرهاب وإنما هي "القانون الدولي العام" متمثلاً في وعد بلفور (في الصياغة الصهيونية السياسية) أو "تنفيذاً للوعد الإلهي والميثاق مع الإله" (في الصياغة الدينية) أو بسبب قوة اليهود الذاتية (في الصياغة الصهيونية التصحيحية). كما أن النتيجة النهائية واحدة وهي تحويل اليهود إلى مسـتوطنين صهاينة وطرد الفلسـطينيين من وطـنهم وتحويلهم إلى مهاجرين. وعلى هذا، فإن عملية نقل اليهود من المنفى إلى فلسطين (سواء بسبب الوعد الإلهي أو بسبب وعد بلفور) تؤدي إلى نقل الفلسطينيين خارج وطنهم (إلى المنفى(.

ويُلاحَظ أن الصهيـونية التصحيحية هي أكثر التيارات الصهيونية صراحة، فهي تُفصح عن الارتبـاط بالاستعمار ووظيفـية الدولـة وضرورة اللجوء للعنف، فهـي تقـتربمن الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة ولا تختفي إلا وراء الحد الأدنى من الديباجات.

وقد اتجهت الصيغة المُهوَّدة لقضية يهود الغرب المندمجين في مجتمعاتهم والذين لا ينوون (لعدة أسباب خاصة بهم) الانتقال إلى أرض الميعاد الاشتراكية أو الرأسمالية أو اليهودية. فقبلت قرارهم هذا نظير تلقِّي دعمهم والتفافهم حولها على أن تلزم الحركة الصهيونية الصمت تجاه فضيحة الصهاينة الذين لا يهاجرون ومن هنا ولدت الصهيونيتان: الاستيطانية والتوطنيه.

وقد تنبَّه كثير من المفكرين الصهاينة إلى وجود الصيغة الشاملة المُهـوَّدة أو اليهـودية من وجهـة نظـرهم (رغــم أن أحداً منهم لم يُسمِّها)، فيشير حاييم لانداو، على سبيل المثال، إلى أن البرنامج الصهيوني يدور حـول فكرة ثابـتة واحـدة "وكل القيم الأخرى إن هي إلا أداة في يد المطلق"، ثم يحدد هذا المطلق على أنه "الأمة". وقد وافقه موشيه ليلينبلوم، وكان ملحداً، على قوله هذا: "إن الأمة كلها أعز علينا من كل التقسيمات المتصلبة المتعلقة بالأمور الأرثوذكسية أو الليبرالية في الدين. فلا مؤمنين وكفار،فإن الجميع أبناء إبراهيم وإسحق ويعقوب... لأننا كلنا مقدَّسون سواء كنا غير مؤمنين أو كنا أرثوذكسيين". والمعنى أن الشعب كله هو مركز الحلول، تجري في عروقه هذه القداسة بشكل متوارث. أما كلاتزكين، فإنه يوضح القضية بما ينم عن الذكاء في مقاله «الحدود» حيث يبين أن اليهودية تعتمد على الشكل لا على المضمون (الشكل يعني في واقع الأمر بنية العلاقات الكامنة وليس الشكل بالمعنى الدارج للكلمة). وهذا الشكل الأسـاسي ـ كما يقول ـ هو تخليص "الشعب اليهودي" للأرض. أما المضامين الروحية أو الفكرية، فهي تختلف بشكل جذري، ولكن هذا لا يهم لأن مضمون الحياة نفسه (أي واقعها) سيصبح قومياً عندما تصبح أشكالها قومية. وقد تنبَّه هؤلاء المفكرون الصهاينة ـ وأولهم ديني متطرف في تَديُّنه والآخران علمانيان ـ إلى أن ثمـة فكـرة ثابتـة، جوهـراً ما، "مطلقـاً" على حـد قـول الأول، و"شكلاً أساسياً" أو "قداسة معيَّنة" على حد قول المفكرين الآخرين. كما تنبهوا إلى أن هذا الجوهر هو الثابت وأنه يُغيِّر ما عداه ويُحوِّره ويسمه بميسمه. وقد حددوه بأنه مفهوم الأمة اليهودية.

أرض بـــــلا شــــــعب لشــــــعب بــــــلا أرض

A Land without a People for People without a Land

شعار صهيوني يصعب معرفة تاريخ ظهوره. ولكن يمكن القول بأنه صياغة معلمنة للرؤية الإنجيلية القائلة بأن فلسطين هي أرض الميعاد والأرض المقدَّسة، وأن اليهود هم الشعب المقدَّس، ومن ثم فالشعب المقدَّس لابد أن يعود للأرض المقدَّسة، فهو صاحبها.

ولعل أول من قام بعلمنة الصياغة هو اللورد شافتسبري الذي تحدث في منتصف القرن التاسع عشر عن "الأرض القديمة للشعب القديم". ثم اكتملت عملية العلمنة في الصياغة الحالية «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». ويبدو أن إسرائيل زانجويل هو صاحب الصياغة الأخيرة.

ومهما كان الأمر فهذا الشعار السوقي الساذج هو إفراز طبيعي للخطاب الحضاري الغربي الحديث، الذي ينبع من الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية التي قامت بعلمنة الرؤى الإنجيلية وحولتها من صياغات مجازية تتحقق في آخر الأيام بمشيئة الإله إلى شعارات استيطانية حرفية تتحقق الآن وهنا بقوة السلاح. وهذه الرؤية للكون (الطبيعة والبشر) باعتباره مادة استعمالية، تضع الإنسان الغربي في المركز ومن ثم يصبح العالم كله فراغاً بلا تاريخ وبلا بشر، وإن وُجد بشر فهم مادة استعمالية عرضية لا قيمة لها، ومن ثم تصبح فلسطين أرضاً مأهولة بلا شعب. ويصبح الفلسطينيون مادة استعمالية لا قيمة لها في حد ذاتها.

ويخضع أعضاء الجماعات اليهودية لنفس العملية فهم بدلاً من أن يكونوا الشعب المقدَّس بالمعنى المجازي يصبحون الشعب اليهودي بالمعنى الحرفي، وحيث إنهم شعب، فهم إذن لا ينتمون للحضارة الغربية التي لا تضم سوى الشعوب الغربية ومن ثم لا أرض لهم.

لا يبقى بعد هذا إلا عملية الحوسلة والتوظيف التي تأخذ شكل ترانسفير مزدوج: تحريك اليهود من المنفى إلى الأرض، وتحريك السكان الأصليين من الأرض إلى المنفى، وكل هذا يتم تحت رعاية الحضارة الغربية ولخدمة مصالحها، وهذا هو المشروع الصهيوني.

ويتسم شعار «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» بتناسقه اللفظي الساحر، فهو ينقسم إلى قسمين متساويين يستخدم كل قسم القدر نفسه من الكلمات. وكلمة «بلا» في القسمين هي المركز الثابت والعنصر المشترك، وما يتحرك هو كلمتا «الأرض» و«الشعب» فيتبادلان مواقعهما تماماً كما سيتبادل اليهود والعرب مواقعهم.

ويتسم الشعار بالتماسك العضوي والوحدة الكاملة، فلا يوجد حرف زائد ولا توجد كلمة ليست في موضعها، وهو تعبير جيد عن الرؤية العضوية المغلقة التي تسم الخطاب الغربي الحديث، الذي يُفضِّل الصيغ الجميلة المتماسكة لفظياً، بحيث تصبح الصيغة مرجعية ذاتها مكتفية بذاتها كالأيقونة. وقد ينبهر المرء بجمال العبارة فينسى أنها عبارة إبادية، تعني اختفاء العرب وتغييبهم. والترجمة السياسية للعبارة في وعد بلفور هي الإشارة للعرب باعتبارهم «الجماعات غير اليهودية». وقد عبَّر الشعار عن نفسه فيما نسميه مقولة «العربي الغائب» في الخطاب الصهيوني العنصري. ونحن نذهب إلى أن إدراك العالم الغربي للفلسطينيين لا يزال يتحرك في إطار مقولة «أرض بلا شعب» ومن هنا سلوكه الذي قد يبدو لا عقلانياً بالنسبة لنا.

والصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة هي تنويع تفصيلي على شعار أرض بلا شعب. فالشعب العضوي المنبوذ هو الشعب بلا أرض الذي سيُنقل لأرض يتم إبادة شعبها أوطردهم، وبذلك يصبح الشعب المنبوذ شعباً نافعاً داخل إطار الدولة الوظيفية.

وغني عن القول أن هذه الصيغة الصهيونية السوقية التي تكشف المضمون الحقيقي للصهيونية وتبيِّن نزعتها العنصرية الإبادية الشرسة، قد اختفت تماماً من الخطابالصهيوني، وحل محلها صيغ أكثر صقلاً وتركيباً، مثل «الحقوق المطلقة للشعب اليهودي» التي تعني في واقع الأمر أن حقوق الآخرين (العرب) نسبية عرضية ومن ثم يمكن تهميشها، وفي نهاية الأمر إلغاءها. كما أن الخطاب الصهيوني بعد عام 1967 وبعد ضم الأراضي الفلسطينية التي تحوي كثافة بشرية عالية اضطر أن يعترف بوجود شعب على الأرض، فلجأ لعملية تحايل كي يفرض الشعار القديم على الواقع. فمفهوم الحكم الذاتي الإسرائيلي يعني حقوق الفلسطينيين دون أن يكون لهم أي حقوق على الأرض (أي أن الفلسطينيين أصبحوا شعباً بلا أرض). كما أن الطرق الالتفافية هي تعبير عن اعتراف ضمني بوجود الشعب الفلسطيني الذي لا يملك المستعمرون إلا "الالتفاف" حوله.

القوميــة اليهوديـة

Jewish Nationalism

«القومية اليهودية» عبارة مرادفة لمصطلح «الصهيونية» وهي تفترض أن اليهود يشكلون جماعة قومية أو شعباً يهودياً. فالنسق الديني اليهودي، من حيث هو تركيبجيولوجي، يحوي داخله تياراً قومياً قوياً جداً يرتبط ارتباطاً تاماً بالبنية الحلولية، إذ يرى اليهود أنفسهم كياناً دينياً متماسكاً يُسمَّى «بنو يسرائيل» يتمتع بعلاقة خاصة مع الإله الذي يحل فيهم ويمنحهم درجة عالية من القداسة ويتولى قيادتهم وتوجيه تاريخهم القومي المقدَّس الفريد الذي بدأ بخروجهم من مصر. وقد أرسل الإله التوراة إليهم باعتبارهم شعبه المختار. ولذا، فإن اليهودية، من هذا المنظور، قومية دينية، وهي بذلك لا تختلف كثيراً عن الأديان الوثنية الحلولية حيث يقتصر الدين والإله على شعب واحد دون غيره من الشعوب. وتتلخص مهمة هذا الشعب اليهودي المقدَّس في أنه يقف شاهداً على التاريخ وعلى وجود الإله أمام الشعوب الأخرى.

اليهودية، إذن، من هذا المنظور، هي دين قومي عرْقي، أو قومية دينية مقدَّسة تمزج الوجود التاريخي المتعيِّن والتصور الديني المثالي. ولذلك، فهي ديانة حلولية تعرف ثنوية الأنا والآخر ولكنها لا تعرف الثنائية الفضفاضة الناجمة عن الإيمان بإله واحد منزَّه. ولذا فاليهودية لا تفرِّق بين الإله والتاريخ أو بين الأرض والسماء. ولذلك، فإننا نجد أن الملكوت السماوي وآخر الأيام يكتسبان في اليهودية الحلولية طابعاً قومياً، فهما مرتبطان بمجئ الماشيَّح الذي يأتي ليعود بشعبه إلى أرض الميعاد. وقد عرَّفت الشريعة اليهودية اليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية أو من تهوَّد، وقد اعتمدت بذلك تعريفاً قومياً دينياً للهوية.

هذا من ناحية الرؤية. أما من ناحية الواقع التاريخي المتعيِّن، فنحن نرى أنه لا تُوجَد قومية يهودية أو شعب يهودي وإنما جماعات يهودية منتشرة في العالم تحكَّمت في صياغتها حركيتان أساسيتان متكاملتان:

1 ـ فالجماعات اليهودية لم تكن قط تشكل كتلة بشرية متماسكة تتبع مركزاً ثقافياً أو دينياً واحداً يحدد معايير مثالية أو واقعية يصوغ أعضاء هذه الجماعات رؤيتهم لأنفسهم وأسلوب حياتهم تبعاً لها، بل لم يكن لديهم ميراث ثقافي أو ديني واحد. فالجماعات اليهودية كانت منتشرة في كثير من بقاع الأرض داخل معظم التشكيلات الحضارية المعروفة وداخل البنَى التاريخية والقومية المختلفة، تتفاعل معها وتساهم فيها وترقى برقيها وتتخلف بتخلفها. فاليهودي في الأندلس كان عربياً، واليهودي في روسيا كان روسياً، وفي اليمن كان يمنياً، وهو أمريكي في الولايات المتحدة. وقد أدَّى هذا إلى تحوُّل أعضاء الجماعات اليهودية إلى تركيب جيولوجي غير متجانس، ولا يختلف ذلك عن العقيدة اليهودية بخاصيتها الجيولوجية.

2 ـ وقد كان معظم الجماعات اليهودية يشكل جماعات وظيفية، وهي جماعات تحافظ على عزلتها وانفصالها، ويساعدها المجتمع على ذلك حتى يتيسر لها أن تلعب دورهاالوظيفي. فهي، إذن، ذات سمات إثنية خاصة تميِّز كل واحدة منها عن أعضاء الأغلبية في المجتمعات التي يعيش اليهود بين ظهرانيها. ولكن هذه السمات الإثنية لم تكن قط سمات قومية عامة تسم كل اليهود أينما كانوا. فرغم أن كل جماعة يهودية كانت منفصلة عن محيطها، فإنها كانت تحدِّد هويتها من خلاله، كما أن انفصالها عن محيطها لا يعني بالضرورة اتصالها بأعضاء الجماعات اليهودية الأخرى. فاليديشية الجرمانية كانت تَعزل أعضاء الجماعة اليهودية عن محيطهم الثقافي السلافي في بولندا. ولكنها، مع هذا، لم تَكُن لها أية علاقة باللادينو (اللاتينية) التي كانت تَعزل يهود السفارد عن محيطهم العربي الإسلامي في الدولة العثمانية. أما العبرية (وهي اللغة الوحيدة المشتركة)، فقد ظلت من ناحية الأساس لغة الصلاة واللغة التي كُتبت بها النصوص الدينية وحسب، أي أن العنصر المشترك لم يتعد في جوهره الصلوات والعبادات وبعض المؤلفات. وظلت العلاقة بين أعضاء الجماعات اليهودية علاقة دينية أو وظيفية باعتبارهم أعضاء في الجماعة الدينية نفسها أو أعضاء في جماعات تضطلع بالوظيفة نفسها في كثير من المجتمعات. وعلى كلٍّ، لم تكن الرابطة الدينية بمعزل عن الوظيفة الاقتصادية أو الاجتماعية تماماً إذ أن الجماعة الوظيفية تضرب حول نفسها العزلة ويساعدها في ذلك المجتمع المضيف. وتُعدُّ العقائد الحلولية من أهم آليات العزلة.

لكن المجتمع الغربي استغنى عن الجماعات الوظيفية، وأخذ في تصفيتها بعدة طرق منها مساعدة أعضاء هذه الجماعات (ومن هؤلاء اليهود) على التخلص من خصوصيتهم الإثنية، وفي دمجهم في المجتمع أو تشجيعهم على الاندماج. واستجابةً لذلك، ظهرت حركة التنوير وحركة اليهودية الإصلاحية اللتان قامتا بتعريف ما يُسمَّى «الهوية اليهودية» تعريفاً دينياً.

وقد عارضت الصهيونية هاتين الحركتين، وراحت تعمل على تحويل كلٍّ من الإحساس بالانتماء الديني إلى جماعة دينية واحدة والارتباط العاطفي بأرض الميعاد إلى شعور قومي وبرنامج سياسي. كما قامت الصهيونيةبعلمنة المفاهيم الدينية. فبعد أن كانت كلمة «شعب» تعني أن اليهود جماعة دينية قومية، أصبحت الكلمة في المعجم الصهيوني تعني «الشعب» بالمعنى القومي والعرْقي الذي كان سائداً في أوربا في القرن التاسع عشر. وقد تأثر الفكر الصهيوني بفكرة الشعب العضوي، أي الفولك، فنظر الصهاينة إلى اليهود كشعب عضوي قوميته عضوية وعناصره كافة (الأرض والتراث والشخصية واللغة... إلخ) مترابطة عضوياً. وقد تعمقت هذه الفكرة في كتابات دعاة الصهيونية الإثنية العلمانية الذين نادوا بأن الانتماء القومي لليهود يستند إلى ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» و«التراث اليهودي»، وما العقيدة اليهودية سوى جزء عضوي من هذا التراث. أما دعاة الصهيونية الإثنية الدينية، فإنهم يرون أن اليهودية دين قومي أو قومية دينية، وأن ما يربط اليهود كشعب هو دينهم القومي أو قوميتهم الدينية.

وقد انطلق المشروع الصهيوني من هذا الافتراض، وأُسِّست الدولة الصهيونية تحقيقاً لفكرة القومية اليهودية. ولكن من الواضح أن القومية اليهودية هي رؤية غير واقعية وبرنامج إصلاحي ليس له ما يسنده في الواقع التاريخي، فقد كان اليهود في القرن التاسع عشر، عند ظهور الصهيونية، خليطاً هائلاً غير متجانس: بينهم يهود اليديشية من الإشكناز، ويهود العالم العربي، ويهود العالم الإسلامي من السفارد، واليهود المستعربة. كما كان هناك القرّاءون والحاخاميون الذين انقسموا بدورهم إلى أرثوذكس ومحافظين وإصلاحيين، هذا غير عشرات الانقسامات الدينية والإثنية والعرْقية الأخرى. وقد أطلق الصهاينة على كل هؤلاء اسم «الشعب الواحد» أو «أين فولك» حسب تعبير هرتزل. لقد طرحوا شعارهم، ونجحوا في تهجير نسبة مئوية محدودة وحسب إلى إسرائيل. بل إن الهجرة في كثير من الأحيان، لم تكن تتم لأسباب قومية وإنما لأسباب نفعية محضة. ويواجه الصهاينة أزمة في المصادر البشرية نتيجة لأن سلوك أعضاء الجماعات اليهودية في العالم لا يَصدُر عن إيمانهم بمقولة «القومية اليهودية». ومن هنا، فإن الهجرة اليهودية ما زالت متجهة إلي الولايات المتحدة من ناحية الأساس. وهكذا، فإننا نجد أن أغلبية أتباع القومية اليهودية لا يزالون في المنفى يرفضون العودة إلى وطنهم القومي. ويتضح زيف مقولة «القومية اليهودية» في فشل الدولة اليهودية في تعريف اليهودي، أي في تعريف ما يُسمَّى «الهوية اليهودية». وحينما يهاجر أعضاء الجماعات اليهودية المختلفة إلى أمريكا اللاتينية، فإنهم يكتشفون عدم تجانسهم، إذ أن اليهودي الألماني يكتشف أن الصفات الإثنية المشتركة بينه وبين المهاجر الألماني غير اليهودي أكثر من السمات المشتركة بينه وبين أعضاء الجماعات اليهودية الآخرىن. وقد ظهرت هذه القضية في أمريكا اللاتينية أكثر من أية منطقة أخرى في العالم. وفي الولايات المتحدة، وفي دول الهجرة الأخرى مثل كندا وأستراليا، تُطرَح على المهاجرين هوية قومية جديدة عليهم تَبنِّيها. وقد فعل المهاجرون اليهود ذلك بكفاءة شديدة، واحتفظوا بشيء من يهوديتهم، ولكن هذه الملامح اتضح أنها مجرد ملامح يهودية داخل شخصية أمريكية واضحة. أما في أمريكا اللاتينية، فلا توجد هوية قومية جديدة، وإن وُجدَت فهي كاثوليكية أي استمرار للموروث الأوربي للقارة. وقد امتثل المهاجرون اليهود لهذا النمط، فأكدت كل جماعة يهودية مهاجرة ميراثها الإثني السابق، الأمر الذي أدَّى إلى تبعثر اليهود تماماً وانقسـامهم إلى عشـرات الجـماعات وإلى ظهـور انعدام تجانسهم بحدة. ويوجد في المكسيك، على سبيل المثال، عشرات الجماعات اليهودية من بينها جماعتان سوريتان، أي من أصل سوري، إحداهما دمشقية والأخرى حلبية! لكلٍّ منهما مؤسساتها. وفي الآونة الأخيرة، بدأت الحواجز تَسقُط، ولكن هذا يتم داخل إطار أمريكي لاتيني لا داخل إطار يهودي.

وتحاول الدولة الصهيونية بذل محاولات جاهدة لدمج المهاجرين الوافدين إليها. ولكن، مع هذا، يتضح عدم تجانسهم في انقسامهم الحاد. وحتى لو قُدِّر النجاح لمحاولة إسرائيل مَزْج أعضاء الجماعات اليهودية، فإن ثمرة هذه المحاولة لن تكون «الشعب اليهودي» وتحقيق «القومية اليهودية» وإنما ستكون كياناً جديداً يمكن تسميته «الشعب الإسرائيلي» و«القومية الإسرائيلية».

ويرفض كـثير من المفكـرين اليهود، وكذلك التنظيمات اليهودية، فكرة القومية اليهودية، إما من منظور ديني أو من منظور ليبرالي أو اشتراكي، فيرون أن اليهود ليسوا شعباً وإنما أقلية دينية، كما يرون أنهم ينتمون إلى الشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها. ويرفض دعاة قومية الجماعات (الدياسبورا) فكرة القومية اليهودية العالمية المجردة والمرتبطة بفلسطين، ويرون أنه إذا كان ثمة انتماء قومي يهودي فهو عبارة عن انتماءات قومية مختلفة متنوعة مرتبطة بمجتمعات سواء أكانت هذه المجتمعات في شرقأوربا أم كانت في الولايات المتحدة. ومن ثم، يمكننا أن نتحدث عن «الجماعة اليهودية القـومية في شــرق أوربا» التي لا تختلف عن الأقليات القومية الأخرى، ولكن لايمكننا أن نتحدث عن «الشعب اليهودي» بشكل عام. وثمة تيار فكري داخل إسرائيل يُسمَّى «الحركة الكنعانية» (نسبة إلى أرض كنعان) يرفض فكرة القومية اليهودية ويطرح بدلاً منها فكرة «القومية الإسرائيلية».

وتتواتر كلمة «الشعب» في الكتابات الدينية عند اليهود، ولكن المقصود بهذه الكلمة هو جماعة دينية ذات عقيدة دينية وانتماء ديني واحد. كما نجد مصطلحات دينية مماثلة، مثل «الشعب المختار» و«أمة الروح» و«الشعب المقدَّس»، وهي مصطلحات تهدف إلى الإشارة إلى تجمُّع ديني أو أخلاقي وحسب.

ولكن الصهيونية تستخدم التشابه بين المصطلح الديني والمصطلح القومي الشائع كدليل على أن اليهود أول شعب ظهر على الأرض وأول قومية في التاريخ. ومن ثم، فلابد أن يبتعد الباحث العربي عن استخدام مصطلحات مثل «الشعب اليهودي» و «القومية اليهودية» أو حتى «الصراع العربي اليهودي» لأنه لا يوجد بين الدين الإسلاميوالقومية العربية من ناحية والدين اليهودي من ناحية أخرى أي صراع سياسي مسلح أو غير مسلح، وإنما الصراع عربي إسرائيلي، أي صراع بين العرب والمسـتوطنين الصهاينة الذين اسـتوطنوا فلسـطين عن طريق العنـف.

وفي بطاقة تحقيق الشـخصية عند الإسـرائيليين، توجد ثلاثـة بنـود: المواطنة، والدين، والقومية. فجميع المواطنين «إسرائيليون» ومن ذلك العرب. أما الدين، فيختلف فيه مواطن عن آخر، فهو الإسلام بالنسبة إلى المسلمين، والمسيحية بالنسبة إلى المسيحيين، واليهودية بالنسبة إلى اليهود. أما القومية، فهي عربية عند العرب، وبالنسبة إلى الإسرائيليين اليهود فلابد أن تكون القومية هي «اليهودية»، إذ لابد أن يتفق بندا الدين والقومية (في حالة اليهود) حسب الرؤية الصهيونية.

الوطـن القـومي اليهودي

Jewish National Home

«الوطن القومي» مصطلح يتواتر في الكتابات الصهيونية والمعادية لليهود، ويعني أن اليهود لا ينتمون إلى أوطانهم وإنما إلى وطن قومي واحد هو فلسطين التي يُشار إلىها أيضاً باسم «إرتس يسرائيل»، أو «إسرائيل» أو «أرض الميعاد» أو «الأرض المقدَّسة» أو «الأرض» وحسب. كما يعني المصطلح أن البلاد التي يقيم اليهود فيها إنما هي منفى أو مَهْجَر أو بابل (بإيحاءات السبي البابلي) أو مصر (بإيحاءات العودة والخروج). ويعني المصطلح أيضاً أن اليهود في حالة شتات يشكلون دياسبورا، وهي حالة يشعرون بها منذ هَدْم الهيكل على يد تيتوس. وقد ورد المصطلح في وعد بلفور، رغم احتجاجات قيادة الجماعة اليهودية في إنجلترا، واكتسب شرعية سياسية منذ ذلك التاريخ.

لكن مصطلح «الوطن القومي» مصطلح ليست له مقدرة تفسيرية عالية، إذ أن كثيراً من الوقائع التاريخية لا تسانده. ومن الثابت تاريخياً أن عدد اليهود خارج فلسطين فاق عددهم داخلها قبل هدم الهيكل. كما أن من الثابت أن أكبر الهـجرات في تواريخ الجماعـات اليهودية، والتي بدأت في أواخر القرن التاسع عشر، اتجهت إلى الولايات المتحدة (ولو كانت فلسطين وطن اليهود القومي لاتجهوا إليها). وقد بلغت نسبتهم نحو 80% من جملة المهاجرين اليهود، بل لم يَعُد يُشار في الأدبيات الصهيونية إلى الولايات المتحدة باعتبارها منفى وإنما أصبح يُشار إليها باعتبارها وطناً قومياً آخر لليهود، وباعتبارها أيضاً «البلد الذهبي» (باليديشية: جولدن مدينا) الذي يحقِّق تطلعات المهاجرين المادية. ولا ندري هل هي وطن قومي ثان أم هي وطن قومي أول بالنسبة إلى اليهود؟ ففي الخطاب السياسي يأتي مصطلح «الوطن القومي» دائماً في صيغة المفرد إذ لا معنى له في صيغة المثنى أو الجمع. وعلى كلٍّ، فقد حسم يهود الولايات المتحدة القضية بأن حوَّلوا إسرائيل (فلسطين) من وطن قومي إلى مسقط الرأس والوطن الأصلي السابق، أما الولايات المتحـدة فهي الوطـن القـومي الحالي الذي يعيشون فيه بالفعل، وبذا أصبح الأمريكيون اليهود أمريكيين يهوداً على غرار الأمريكيين العرب أو الأمريكيين الأيرلنديين. ولكن هذا يعني أن أسطورة الذات الجديدة تصفي الأسطورة الصهيونية، إذ أن مسقط الرأس (إسرائيل) هو البلد الذي يهاجر اليهودي منه لا إليه!

الدولـة اليهوديــة

The Jewish State

«الدولة اليهودية» اصطلاح مرادف لمصطلح «الدولة الصهيونية». ونحن نفضل المصطلح الأخير لدقته إذ يفترض المصطلح الأول أن دولة إسرائيل هي استمرار للمملكة العبرانية المتحدة التي يُشار إليها بـ (الكومنولث الأول). كما أن الاصطلاح يفترض وحدة اليهود في العالم، وأن هذه الدولة دولتهم التي تعبِّر عن إرادتهم وتطلعاتهم، وهذا أبعد ما يكون عن الصحة إذ لا تزال دولة إسرائيل هي دولة 20% من يهود العالم وحسب.

وعلاوة على كل هذا، يفترض المصطلح أيضاً يهودية هذه الدولة، وهذا أمر محل نقاش حتى في إسرائيل نفسها. فالدولة الصهيونية لا ترتبط بأية قيم أخلاقية يهودية، بل تسلك حسبما تملي عليها مصلحتها العملية. ولعل إيمانها بمصلحتها العملية هو الذي جعلها تحوِّل نفسها إلى ثكنات عسكرية يصعب وصفها باليهودية. ويُلاحَظ أن سكـان إسـرائيل من الصـابرا لا يشعرون بالانتماء اليهودي، بل إن بعضهم يُكن الاحتقار ليهود العالم (الدياسبورا) الهامشيين. ولعله أمر طريف حقاً أن هذه الدولة التي تصف نفسها باليهودية لم تصل بعد إلى تعريف لليهودي.

ولذا، يظل مصطلح «الدولة الصهيونية» أكثر دقة وتحدداً في وصف الكيان الصهيوني، فهو يؤكد استيطانية الكيان القائم الآن في الشرق العربي وطموحاته الإحلالية، ويفصله عن أية تصورات دينية أو عاطفية.

الصهيونية العالمية

World Zionism

«الصهيونية العالمية» ترجمة للمصطلح الإنجليزي «ورلد زايونيزم World Zionism». وقد شاع المصطلح في اللغة العربية. ويفترض هذا المصطلح أن الصهيونية حركة عالمية، أي تمارس نشاطها في أنحاء العالم بين جميع أعضاء الجماعات اليهودية في كل البلاد. وثمة خلل أساسي في المصطلح يعود إلى ما يلي:

1 ـ نشأت الصهيونية في الغرب في البلاد الاستعمارية (البروتستانتية) في بداية الأمر، ثم تبناها يهود العالم الغربي (في شرق أوربا ثم غربها) لأغراض مختلفة. فالصهيونية ليست عالمية من ناحية النشأة، وخصوصاً أن 90%من يهود العالم كانوا يوجدون داخل التشكيل الحضاري الغربي مع نهاية القرن التاسع عشر وهي المرحلة التي نشأت فيها الصهيونية.

2 ـ كانت الصهيونية ولا تزال جزءاً من التاريخ الاقتصادي والسياسي والحضاري، والإمبريالية الغربية هي الآلية الأساسية لتحويل الصهيونية من مجرد فكرة إلى دولةاستيطانية.

وعلى هذا، فإن الصهيونية لم تنشأ في العالم ككل أو داخل التاريخ العالمي بشكل مطلق، أو حتى بين كل أعضاء الجماعات الدينية والإثنية اليهودية المتناثرة في العالم، وإنما هي إفراز تشكيل حضاري محدَّد في لحظة زمنية محددة ولا يمكن دراستها خارج هذا التشكيل، ولا يمكن فهمها دون الرجوع إلى مراحل تطوره وأزماته والطريقة التي يحل بها هذه الأزمات. لكن هذا لا يعني، بطبيعة الحال، إسقاط السمات التي تُشكِّل خصوصية الحركة الصهيونية الغربية.

ولعل الإنسان الغربي أطلق صفة «العالمية» على الصهيونية للأسباب التالية:

1 ـ ينظر الخطاب الإنجيلي إلى اليهود باعتبارهم شعباً مختاراً وجزءاً من الدراما الكونية التي يتحرك في إطارها تاريخ العالم والعالمين. والتاريخ اليهودي ـ حسب الرؤية الإنجيلية ـ تاريخ مستقل عن تاريخ الأغيار. ومع هذا، يشكل هذا التاريخ الركيزة الأساسية لتاريخ العالم. وهذا الخطاب الإنجيلي متغلغل تماماً في الوجدان الغربي.

2 ـ بعد أن ظهرت الصهيونية بين يهود الغرب، قامت بصهينة معظم يهود العالم، خصوصاً بعد إنشاء الدولة الصهيونية، ومن ثم فهي حركة عالمية بهذا المعنى. ولابد أن نسارع بالقول بأن الغالبية الساحقة من يهود العالم توجد الآن إما داخل التشكيل الحضاري الغربي (فرنسا ـ إنجلترا ـ روسيا) أو داخل التشكيل الاستعماري الاستيطاني الغربي (الولايات المتحدة ـ كندا ـ أستراليا ونيوزيلندا ـ أمريكا اللاتينية ـ جنوب أفريقيا ـ إسرائيل)، وعلى وجه التحديد داخل التشكيل الاستعماري الاستيطاني الأنجلو ساكسوني.

3 ـ الحركة الإمبريالية التي حوَّلت الصهيونية إلى كيان استيطاني هي حركة عالمية رغم أصولها الغربية، فقد جعلت العالم كله مجالاً لحركتها والتهامها وافتراسها. والإمبريالية عالمية لا لأنها حركة نشأت بين كل البشر وإنما لأنها حوَّلت البشر كلهم إلى مستعمر أو مستعمَر. وتكتسب الصهيونية صفة العالمية من ارتباطها بالإمبريالية الغربية العالمية.

4 ـ يُلاحَظ أن الأدبيات السياسـية الغربيـة، الصهيونيـة وغير الصهيونية، تستخدم كلمة «عالمي» بمعنى «غربي». ولعل هذا يعود إلى أن الإنسان الأبيض في الغرب في القرن التاسع عشر كان يتصوَّر أنه مركز العالم وقمة رقيِّه، وأن الحضارات الأخرى حضارات متخلـفة ستتطور لتلحـق به وتصـل إلى النموذج الحضاري العالمي نفسه. ويُلاحَظ في كتابات هرتزل أنه حينمـا يتحدث عن ضـرورة إقامة المشـروع الصهيـوني "بضمان القانون الدولي العام"، فإن عبارة (القانون الدولي العام) تعني هنا (القانون الغربي). ولذا، والتزاماً بالدقة، يجب أن نتحدث عن (الصهيونية الغربية) أو عن (الصهيونية) وحسب دون وصفها ليكون مفهوماً أنها حركة غربية وليست عالمية.

الباب الثانى: التيارات الصهيونية

التناقضات الأساسية الثلاثة بين الحــركات الصهـيونية المختلفــة

Three Basic Contradictions between Different Zionist Trends

قَبل كل الصهاينة الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة (والعقد الصامت بين الحضارة الغربية والمنظمة الصهيونية بشأن يهود العالم) ثم تم تهويد هذه الصيغة حتى يمكن تجنيد المادة البشرية المستهدفة. وقد ظهرت مجالات عديدة للخلاف بين الصهاينة قد تبدو لأول وهلة عميقة ولكنها في واقع الأمر سطحية إلى حدٍّ كبير، إذ أن رقعة الاختلاف تظل محكومة بالقبول المبدئي والجوهري للصيغة الأساسية الشاملة.

وحتى يمكننا طرح إطار تصنيفي جديد للتيارات الصهيونية المختلفة سنحاول حَصْر مصادر الخلاف وكيف تبدت في عدة نقاط محدَّدة.

وفي تصوُّرنا توجد ثلاثة مصادر أساسية للخلاف:

1 ـ الخلاف بين الصهاينة التوطينيين والاستيطانيين وهو ما نسميه «إشكالية الصهيونيتين».

2 ـ الخلافات الأيديولوجية المختلفة بين الصهاينة، وهي الخلافات التي تعبِّر عن نفسها في عدة نقاط أهمها الخلاف بشأن الدولة الصهيونية (موقفها ـ حدودها ـ توجُّههاالأيديولوجي.. إلخ).

3 ـ الخلاف بين الصهاينة الإثنيين الدينيين والإثنيين العلمانيين.

الصهـيونيتان: التوطينيـة والاسـتيطانيـة

Two Zionisms: Settlement and Settler Colonial Zionism

تُستخدَم كلمة «صهيونية» للإشارة إلى عدة مدلولات مختلفة يمكن أن تضمها جميعاً الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة، وهي الصيغة التي تم تهويدها بحيث أصبحتصالحة كإطار لكلٍّ من الصهاينة اليهود والصهاينة غير اليهود. وتوجد داخل هذه الوحدة العامة عدة انقسامات لعل أهمها ما نسميه «الصهيونيتين». فنحن نذهب إلى أنه يوجد ضربان أساسيان من الصهيونية: صهيونية توطينية وأخرى استيطانية، لكلٍّ اتجاهه وتاريخه وجماهيره:

1 ـ صهيونية توطينية. وقد ظهرت في بداية الأمر بين الصهاينة غير اليهود (من المسيحيين والعلمانيين) وبين يهود الغرب المندمجين، وعلى وجه الخصوص أثرياؤهم. ثم عبَّرت الصهيونية التوطينية عن نفسها في الصهيونية الدبلوماسية وصهيونية الدياسبورا. وجمهور هذه الصهيونية هم مؤيدو المشروع الصهيوني في العالم الغربي ويهود الغرب الذين يؤيدون المشروع الصهيوني ولكنهم لا ينوون الهجرة، وهم يشكلون غالبية يهود وصهاينة العالم، وكذلك كل يهود غرب أوربا والولايات المتحدة تقريباً.

2 ـ صهيونية استيطانية: وقد ظهرت في بداية الأمر على هيئة صهيونية تسللية ثم تحوَّلت إلى صهيونية استيطانية بعد مرحلة هرتزل وبلفور. وأهم التيارات الاستيطانية التيار العمالي، ويأتي معظم الصهاينة الاستيطانيين من يهود شرق أوربا.

وتقسيم «توطيني/استيطاني» ينصرف إلى المجال الذي يختاره كل صهيوني ليمارس نشاطه. ولنا أن نلاحظ وجود انقسامات فرعية داخل كل تيار بشأن التوجه السياسي (اشتراكي/رأسمالي) والموقف من التراث والهوية (ديني/علماني). ويجب ألا نتصور أن هناك فصلاً قاطعاً بين الفريقين، فثمة تشابك وتداخُل بين الصهيونيتين (التوطينية والاستيطانية) قد يتبدَّى في الشخص الواحد نفسه، كما هو الحال مع وايزمان الذي قضى معظم حياته يقوم بنشاط في الخارج نيابة عن الداخل، ولكنه عاد بعد إعلان الدولة ليترأسها ويصبح من المستوطنين (وإن كان قد عاش في عزلة نظراً لأن زعيم الصهاينة الاستيطانيين ـ بن جوريون ـ لم يكن يرغب في أن يشاركه وايزمان السلطة). ويظهر هذا التداخل في شخصية آحاد هعام، فيلسوف الصهيونية الإثنية العلمانية، الذي قام بجهود دبلوماسية ثم استوطن فلسطين نهائياً، ولكنه مع هذا ظل يشعر بالغربة فيها وبالحنين إلى المنفى والشتات!

ويظهر التداخل في الوقت الحاضر حين يقرر يهودي من دول الكومنولث المستقلة (الاتحاد السوفيتي سابقاً) الهجرة إلى إسرائيل فيبدأ بالحديث عن هويته اليهودية ورغبته العارمة في الهجرة إلى وطنه القومي المزعوم، ثم يحصل على تأشيرة على أساس نيته الصهيونية الاستيطانية. ولكنه يغيِّر رأيه في النمسا ويقطع مسار هجرته ويتجه إلى الولايات المتحدة بدلاً من إسرائيل لينخرط في صفوف صهاينة الخارج التوطينيين. وهناك بطبيعة الحال الصهاينة الاستيطانيون الذين يتركون إسرائيل ليستوطنوا الولايات المتحدة ويستمروا في تأييد المشروع الصهيوني (ولكن من منظور توطيني هذه المرة).

والجدير بالذكر أن للاتجاهات الصهيونية المختلفة فروعاً في الداخل والخارج. فهناك فروع للأحزاب العمالية مثل الماباي والمابام في الولايات المتحدة، ولكن الأساس التصنيفي يظل هو الأساس الذي نقترحه. فمثلاً، رغم أن التنظيم الذي يُقال له الماباي في الخارج مرتبط بتنظيم الماباي في الدولة الصهيونية من الناحية التنظيمية، فإن التنظيمين يؤديان وظيفتين مختلفتين تماماً، ولا يشتركان بالتالي إلا في الاسم والديباجات السياسية والعقائدية التي تتسم بالعمومية الشديدة (مثل الإيمان بأزلية الشعب اليهودي وعدم التفريط في شـبر من أرض إسرائيل الكبرى والإيمان بالاقتـصاد الاشـتراكي، وهكذا). ويكتفي أعضاء عمال صهيون في الولايات المتحدة أو إنجلترا بإرسال الأموال والتوقيعات وبرقيات التأييد، كما يحضرون كل المهرجانات الصهيونية ويرسلون الرسائل إلى الصحف المحلية وإلى أعضاء الكونجرس دفاعاً عن الدولة الصهيونية. وأما أعضاء الحزب المماثل في إسرائيل فهم الذين يقومون بالنشاط الاستيطاني من استيلاء على الأرض وقتال ضد السكان الأصليين وغزو أراضي الدول المجاورة.

ولا يعني هذا أن الصهيونية أصبحت وحدة متكاملة، بين التوطينيين والاستيطانيين، بل العكس. فقد ظلت التوترات تعبِّر عن نفسها بحدة، وكل ما حدث أنه تم امتصاصها (وليس استيعابها) من خلال الخطاب الصهيوني المراوغ. وأهم هذه التوترات الصراع الذي نشب على قيادة المنظمة الصهيونية بين الصهاينة التوطينيين والصهاينة الاستيطانيين بعد إنشاء الدولة. وقد حُسم الخلاف باستيلاء الاستيطانيين على المنظمة تماماً. وحتى بعد إنشاء الدولة تظهر صراعات، فبعض الصهاينة التوطينيين لا يقنع بالعمل في مجاله في الخارج ويحاول أن يفرض توجهات بعينها على الداخل كما حدث في حالة برانديز. ويحدث أحياناً أن الصهاينة الاستيطانيين لا يقنعون بالدعم المالي والسياسي ويطلبون من الصهاينة التوطينيين أن يتخذوا مواقف أكثر راديكالية كما حدث في المؤتمر الثامن والعشرين (1972حينما تقدَّم بعض الصهاينة الاستيطانيين بمشروع قرار ينص على أن القادة الصهاينة الذين لا يستوطنون في إسرائيل بعد فترتين من الخدمة يفقدون الحق في ترشيح أنفسهم مرة أخرى، فانسحب كل مندوبي الهاداساه (أكبر تنظيم صهيوني في العالم والذي يمثل أكثر من نصف الوفد الأمريكي) احتجاجاً على الاقتراح. وحدث الشيء نفسه تقريباً حينما وقعت الأزمة بين الدينيين والعلمانيين في إسرائيل مؤخراً إذ قامت جماعة من العلمانيين بحرق معبد يهودي، وقامت جماعة من الدينيين برش الإعلانات الإباحـية في محـطات الأتوبيس، فألقىالمفكر الإسرائيلي العلماني شلومو أفنيري بالتبعة على يهود الولايات المتحدة، الإصلاحيين والمحافظين المندمجين التوطينيين (والذين لا يكفون عن الشكوى من التزمتالديني في إسرائيل) قائلاً لهم إنه لو هاجر منهم 100 ألف وحسب، فإن هذا سيرجِّح كفة العلمانيين وسيتم تكوين الحكومة دون الحاجة إلى أصوات الأحزاب الدينية.

والعكس يحدث أحياناً، إذ يجد الصهاينة التوطينيون أن سلوك حكومة المستوطنين تسبب لهم كثيراً من الحرج في مجتمعاتهم الديموقراطية، كما يحدث عادةً بعد ارتكابالمذابح الواضحة (مثل مذبحة صبرا وشتيلا) وبعد الغزوات الفاضحة (غزو لبنان)، إذ يصبح من الصعب الحفاظ على أساطير كثيرة مثل «إسرائيل المُحاصَرة» أو «إسرائيل الباحثة عن السلام» وكما يحدث بعد حادثة مثل حادثة بولارد (المواطن الأمريكي اليهودي الذي قام بالتجسُّس على حكومة بلده لصالح الدولة اليهودية(.

ولكن معظم هذه الخلافات خلافات سطحية إذ تظل الصهيونية بشقيها التوطيني والاستيطاني متسمة بالوفاق. وقد عاد وفد الهاداساه المنسحب إلى قاعة المؤتمر بعد أن قرر منظمو المؤتمر أن مشروع القرار المقدم لم يكن دستورياً، ولا يزال معظم الصهاينة التوطينيين يؤيدون الدولة الصهيونية علناً ويقفون وراءها رغم كل توسعاتها. وتتولىالمؤسسة الصهيونية القضاء على معظم الجماعات اليهودية والصهيونية المنشقة، وقد فعلت ذلك مع بريرا، وتحاول الشيء نفسه الآن مع التنظيمات اليهودية التي لا تقبل الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة، أو توجِّه لها بعض النقد.

بعــض الاخـتــلافات الصهيونيــة بشأن الدولـة الصهيونيـة

Some Zionist Disagreements Regarding the Zionist State

«الدولة الصهيونيـة» مفهوم صـهيوني محوري. والمشروع الصهيوني، في أهم صوره، يرى أن الحل الوحيد للمسألة اليهودية هو إنشـاء "دولة يهودية ذات سـيادة" (شعارالمؤتمر الصهيوني الأول 1897]). ويُلاحَظ أن ثمة ترادفاً في الخطاب الصهيوني بين عبارتي «الدولة الصهيونية» و«الدولة اليهودية». وقد أصبحت الصيغة الصهيونيةالأساسية صيغة أساسية شاملة بعد أن تم تحديد الدولة الصهيونية إطاراً لعملية التوظيف. وقد قام هرتزل بصياغة المفهوم والعقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركةالصهيونية الذي تتعهد بمقتضاه الحضارة الغربية بأن تقـوم بنقل اليهـود إلى فلسطين وتأسيس دولة وظيفية لهم فيها، ورعايتها وحمايتها وضمان بقائها واستمرارها نظير أنيقوم اليهود على خدمة مصالح الغرب. ومع صدور وعد بلفور، يستقر المفهوم تماماً وتتحدد ملامحه وآليات تطبيقه.

ومع هذا، بدأت الدعوة لإنشاء الدولة قبل هذا التاريخ بين الصهاينة غير اليهود من المفكرين والزعماء أصحاب المطامع الاستعمارية في الشرق. وكانت هذه الدعوة غريبة على الجماهير اليهودية وعلى المفكرين اليهود، لأنهم كانوا إما متدينين ينتظرون مقدم الماشيَّح المخلِّص ليعود بهم ليؤسس هو الدولة (دون أي تَدخُّل بشري)، أو علمانيين يدافعون عن الاندماج في أوطانهم. وقد طرح المفكر الصهيوني موسى هس الفكرة في منتصف القرن التاسع عشر في كتابه ذي الطابع الاستعماري الواضح روما والقدس، ولكن الكتاب لم يُتداوَل بين أعضاء الجماعات اليهودية ولم يكن معروفاً لديهم. وقد عالج ليو بنسكر الفكرة نفسها في كتابه الانعتاق الذاتي، غير أن فكره ظل مقصوراً على بعض قطاعات المثقفين في شرق أوربا، ثم تعرَّض هرتزل للموضوع نفسه في كتابه دولة اليهود وجعلها فكرة أساسية. وقد أدرك هرتزل حتمية الاعتماد على الإمبريالية كآلية لتحقيق المشروع الصهيوني، وضرورة أن تكون الدولة الصهيونية دولة وظيفية تابعة تستند شرعيتها إلى الوظيفة التي تضطلع بها وتحصل الدعم الاستعماري بسببها.

وقد أصبحت الدولة بعد مرحلة هرتزل وبلفور جزءاً من الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة. وكما هو الحال عادةً، نجد أن الإجمـاع الصـهيوني لا ينصـرف إلا إلى هذه الصيغة الأساسية الشاملة، أما ما عدا ذلك فهو موضع خلاف وصراع (دون قتال) بسبب الطبيعة المراوغة للخطاب الصهيوني. وقـد واجهـت الفكرة معارضة من اليهـود الإصلاحيين، وبعض اليهود الأرثوذكس ودعاة القومية اليديشية، وحزب البوند والاشتراكيين، وذلك لأسباب مختلفة. كما أن الصهاينة التوطينيين عارضوا فكرة الدولة في بداية الأمر خوفاً من أن يُتهَموا بازدواج الولاء. ولم يُكتَب للفكرة أن تتحقق إلا حينما تبنَّت الدول الإمبريالية المشروع الصهيوني ثم فرضت التجمع الاستيطاني على الواقع العربي.

والفكر الصهيوني يشبه في بنيته بنية العقائد العلمانية الشاملة في التشـكيل الحـضاري الغربي الحـديث. فمع تزايد معـدلات العلمنة، تزايدت أهمية الدولة حتى أصبحت الركيزة الأساسية للمجتمع ومصدر تماسكه الوحيد (بدلاً من القيم الدينية)، ثم أصبحت الدولة المطلق موضع التقديس الذي يحل محل الكنيسة والإله وأصبحت مصلحة الدولة العليا الإطار المرجعي للمنظومة القيمية. ومع ظهور القومية العضوية، أصبحت الدولة الإطار الذي يعبِّر الشعب العضوي من خلاله عن ذاته ويحقق تماسكه العضوي. ثم يصل هذا التيار إلى ذروته مع الفكر الهيجلي إذ أصبحت الدولة الأداة التي تتوسل بها «الفكرة المطلقة» لتحقيق ذاتها، بل أصبحت تجسد الفكرة المطلقة في التاريخ.

والفـكر الصهيوني لا يختلف، إلا في التفاصـيل، عن الفكر الغربي، فالدولة اليهودية هي الإطار الذي سيعبِّر الشعب العضوي المنبوذ )أي المادة البشرية التي سيتم نقلها) عن هويته من خلاله. وتكتسب الدولة في الفكر الصهيوني دلالة أخرى هي فكرة الدولة الراعية الغربية. فقد أدرك الصهاينة من اليهود في مرحلة هرتزل أنهم لن يتأتى لهم تحقيق مشروعهم القومي إلا من داخل مشروع استعماري غربي. ومن هنا كان البحث عن دولة غربية عظمى تقوم بعملية نقل اليهود وتوطينهم وتأمين موطئ قدم لهم والدفاع عنهم ضد السكان الأصليين.

وبالتدريج، اكتسبت الدولة اليهودية أبعاداً دينية مطلقة وأصبحت هي آلية تَحقُّق الحلم المشيحاني بل مركز الحلول. وبعد إعلان الدولة الصهيونية بدأ كثير من اليهود ينظرون إليها باعتبارها الكنيس المركزي وإلى رئيس وزرائها باعتباره الحاخام الأعظم. ومع انتشار لاهوت موت الإله بين اليهود، أصبحت الدولة حرفياً هي تَجسُّد المطلق في العالم، الآن وهنا، فهي على حد قول أحد المفكرين اليهود «العجل الذهبي» (وقد تراجع هذا التيار نحو تقديس الدولة مع الانتفاضة وظهور لاهوت التحرير بين اليهود(.

وقد نشأت عدة صراعات بين الصهاينة حول عدة قضايا نوجزها فيما يلي:

1 ـ موقع الدولة:

دارت أولى الصراعات حول موقع الدولة، وهو صراع دار بين الاستيطانيين والتوطينيين (قبل مرحلة هرتزل وبلفور). فالتوطينيون الذين كان همهم التخلص من اليهود كانوا في عجلة من أمرهم، ولذا كانوا على استعداد "لأن يلقوا باليهود في أي مكان" (عبارة نوردو وجابوتنسكي) سواء في فلسطين أو خارجها. ومن هنا المشاريع الصهيونية المختلفة (العريش ـ شرق أفريقيا ـ الأحساء ـ ليبيا ـ مدغشقر.. إلخ). وقد حُسم الأمر بعد بلفور فوُضعت فلسطين تحت الانتداب ودخلت الفلك الاستعماري وتقرَّر تحويلها إلى مكان لتوطين اليهود ومن ثم توقَّف الحديث عن موقع الدولة.

2 ـ آليات إنشاء الدولة:

يختلف الصهاينة فيما بينهم حول أسلوب إنشاء الدولة. ففي البداية كان هناك الصهيونية التسللية التي وقعت أسيرة وهم كبير، إذ تصوَّر التسلليون أن بإمكانهم الاستيطان دون مساعدة الإمبريالية الغربية وقد اختفى هذا التيار مع تأسيس المنظمة الصهيونية.

ولكن حتى بعد تأسيس المنظمة وقبول المظلة الإمبريالية اختلف الصهاينة فيما بينهم. فدعاة الصهيونية الدبلوماسية (الاستعمارية) كانوا يرون أن الطريق الأسلم هو التفاوض مع القوى الاستعمارية والتأكد من ضمانها للدولة. أما دعاة الصهيونية الإثنية العلمانية، فقد كانوا يرون ضرورة اتباع أسلوب العمل الثقافي البطيء بين جماهير اليهود في العالم وفي فلسطين. أما الصهاينة العماليون الاستيطانيون، فكانوا يرون أن خير وسيلة هي خَلْق الحقائق الاستيطانية في فلسطين. وكان بعض التصحيحيين (التوطينيين) ممن ضاقوا ذرعاً بالوجود اليهودي في المنفى يجدون أن خير وسيلة هي التحالف الفوري مع القوى الإمبريالية وفَرْض أغلبية يهودية على الفلسـطينيين بالقوة العسـكرية لإنشـاء وطن يهودي على ضفتي نهر الأردن. وكان جوزيف ترومبلدور يحلم باختزال كل المسافات الزمانية والمكانية بتكوين جيش يهودي جرار قوامه 100 ألف يهودي يقتحم فلسطين ويستوطن فيها، ثم عدل عن خطته «الرهيبة» وأخذ يفكر في جيش قوامه عشرة آلاف. لكنه لم يتمكن من تحقيق حلمه العسكري الضخم الأول ولا حلمه العسكري الهزيل الثاني. ولا تزال الإشكالية تعبِّر عن نفسها وإن أصبحت تنصرف إلى آليات إدارة الدولة وإلى كيفية التعامل مع العرب.

3 ـ حدود الدولة:

ظهر خلاف عنيف بين الصهاينة حول حدود الدولة. وهذا يعود إلى عدة أسباب، من بينها أن إرتس إسرائيل ليست ذات حدود معروفة، كما أن الدولة العبرانية القديمة لم تكن لها حدود مستقرة. وكان هناك من الصهاينة مَنْ يدرك أهمية الموازنات الدولية ويقنَع بحدود تتفق مع قرار الدولة الراعية. ولكن كان هناك أيضاً مَنْ لا يدرك هذه الموازنات ويظل يدور في إطار الرؤى الحلولية الدينية والتاريخية القديمة وأحلام النيل والفرات. وبعد إنشاء الدولة، لم تُحسَم المسألة قط. فهناك من يحاول ربط حدود الدولة بالكثافة البشرية اليهودية. ومع تصاعد الأزمة السكانية الاستيطانية ظهر دعاة ما يُسمَّى «الصهيونية السوسيولوجية» أو «الصهيونية السكانية» المهتمون بالطابع اليهودي للدولة، وهم يطالبون بحد أدنى على عكس دعاة ما يُسمَّى «الصهيونية العضوية الحلولية» و«صهيونية الأراضي»، فهؤلاء يصرون على الحد الأقصى. وتعبِّر الإشكالية عن نفسها في الوقت الحاضر من خلال الحديث عن الحدود الآمنة للدولة، إذ تتغير الرؤية للحدود بتغيُّر الرؤية لأمن الدولة ومقوماته.

4 ـ التوجُّه الأيديولوجي للدولة:

لم تتعرض الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة بعد بلفور للتوجُّه الأيديولوجي للدولة، إذ يبدو أن الصهاينة التوطينيين كانوا واعين بحقائق الموقف في فلسطين، وبصعوبات الاستيطان. كما لم يكن توجُّه الدولة الصهيونية يعنيهم من قريب أو بعيد مادامت تؤدي الأغراض المطلوبة منها، مثل إبعاد يهود شرق أوربا عنهم، والقيام بدور المدافع عن المصالح الإمبريالية. ولذلك، فإنهم لم يمانعوا قط في تأييد بعض الأفكار والممارسات الصهيونية التي ترتدي زياً اشتراكياً. ولعل الصيغة المراوغة التي توصلت إليها المنظمة الصهيونية العالمية بشأن الاستيطان كانت محاولة للتوفيق بين كل الصهاينة والجمع بينهم وراء الحد الأدنى الصهيوني، فقد تحدَّد هدف الحركة الصهيونية في الحصول على أراض في فلسـطين كي تكون ملكاً للشـعب اليهـودي ولا يمكن التفريط فيها، وأن يكون الصندوق القومي اليهودي قائماً كلياً على تبرعات تلقائية من اليهود في جميع أنحاء العالم. فالهدف هنا لم يحدد شكل الدولة الصهيونية، ولا شكل ملكية الأرض، ولا المُثل الاجتماعية أو العقائدية الظاهرة أو الكامنة، وإنما تحدَّث فقط عن الحصول على أرض فلسطين كي تكون ملكاً للشعب اليهودي بشكل مبهم ومجرد. ولهذا، يَصعُب الحديث عن يمين أو يسار داخل الحركة الصهيونية، فمن الناحية البنيوية يتفق الجميع على الحد الأدنى.

أما الشكل الاجتماعي والمضمون الطبقي لهذه الدولة، فهو أمر متروك لكل فريق بحيث يستمر الحوار بشأنه أو الصراع حوله دون قتال. بل إننا نجد أن الرأسماليين الصهاينة يقبلون بعض الأشكال الاشتراكية وأن الاشتراكيين يقبلون كثيراً من الممارسات الرأسمالية، كما أن المتدينيين يغضون الطرف عن كثير من ممارسات أعضاء النخبة الإلحادية. وكثير من أعضاء النخبة يؤدون بعض الشعائر الدينية رغم إلحادهم، إذ يدرك الجميع أن ثمة صيغة أساسية تنتظمهم جميعاً.

5 ـ التكوين السكاني للدولة:

نشأ صراع حول التكوين السكاني للدولة، إذ تنبَّه بعض الصهاينة منذ البداية إلى أن طبيعة الدولة الصهيونية كدولة إحلالية شاملة ستُؤلِّب السكان الأصليين ضدها وتجعلها تعيش في صراع دائم، ومن ثم ظهرت فكرة الدولة ثنائية القومية التي دعا إليها بوبر وماجنيس وجماعة إيحود وحزب المابام. ولكن معظم الصهاينة أصروا على الطبيعة الإحلالية الشاملة للدولة الصهيونية. وقد خمد الصراع بين الفريقين ولكنه عاد إلى الظهور في أشكال أخرى، من بينها الصراع بين دعاة الصهيونية السوسيولوجية ودعاة صهيونية الأراضي.

6 ـ نطاق سيادة الدولة:

طُرح سؤال بشأن نطاق سيادة الدولة الصهيونية: هل هي دولة الشعب اليهودي بأسره، داخل حدودها وخارجها، أم أنها دولة المسـتوطنين الصهاينة (وهو الصـراع نفسهبين التوطينيين والاستيطانيين). ويحاول الاستيطانيون أن يؤكدوا أن الدولة هي دولة الشعب اليهودي بأسره، ولذا تم إعلان قيام الدولة عن طريق مجلس قومي يتحدث باسم كل اليهود، سواء في فلسطين أو في خارجها.

وقد أصدرت الدولة الصهيونية قوانين كثيرة، وأقامت هيئات مختلفة بهدف ترجمة مفهوم الشعب اليهودي إلى واقع قائم. ومن أهم هذه القوانين قانون العودة الذي يمنح جميع اليهود حق مغادرة مسقط رأسهم والعودة إلى "وطنهم القومي". وتعمل المنظمة الصهيونية العالمية على تكريس الوحدة اليهودية دون أية مراعاة للحدود الوطنية للدول المختلفة. ويحدد ميثاق المنظمة مهمتها بأنها "لمُّ شمل المنفيين في أرض إسرائيل التاريخية، وتدعيم وحدة الشعب اليهودي".

وتأسيساً على هذا الهدف الصهيوني/الإسرائيلي، وعلى أساس هذا الأسلوب في العمل، فإن ميثاق المنظمة الصهيونية العالمية يتحدث عن واجبات المنظمة تجاه الدولة، مثل "تقوية دولة إسرائيل"، و"تعبئة الرأي العام العالمي" لتأييدها، ووردت بالميثاق أيضاً إشارة إلى "الأنشطة التي تتم خارج إسرائيل"، وقد أدَّى هذا المفهوم إلى درجة من التوتر. فالتوطينيون حاولوا، من خلال المنظمة، فَرْض سيطرتهم على الدولة، ولكن الاستيطانيين نجحوا في عزلهم والهيمنة على المنظمة. وقد استمر الصراع بعد انتصارالاستيطانيين، إذ يحاول التوطينيون أن يؤكدوا أن الدولة ليست لها سيادة عليهم وإنما على مواطنيها وحسب. وهذا اتجاه له صداه في إسرائيل إذ توجد جماعات ترى أن الدولة الصهيونية هي دولة الإسرائيليين وحسب (الحركة الكنعانية وغيرها).

وهكذا نرى أن الاختلافات بين الاتجاهات الصهيونية المختلفة إنما ينصرف إلى موقع الدولة والآليات المتبعة في إنشائها (وإدارتها) أو حدودها أو توجُّهها الأيديولوجي أوتكوينها السكاني أو نطاق سيادتها. ولكن ثمة اتفاقاً على المبدأ نفسه، أى ضرورة إنشاء الدولة. كما أن هناك قبولاً للعقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية بشأن وظيفية الدولة. ومن هنا كانت الوحدة الأساسية بين كل الصهاينة.

ومع هذا، لجأت الحركة الصهيونية إلى أسلوب التدرج لتعلن عن حدها الأدنى الصهيوني بسبب الموازنات الدولية، وبسبب العلاقة المتوترة بين الاستيطانيين والتوطينيين، وبسبب الخوف من السكان المحليين. ويمكننا متابعة هذا التدرج بتأمل قرارات المؤتمرات الصهيونيـة المختلفة. فإذا ما نظرنا إلى قرارات المؤتمر الصهيوني الأول (1897 ثم إلى قرارات مؤتمر بلتيمور (1942)، ثم إلى قرارات المؤتمر الصهيوني السابع والعشرين الذي عُقد في القدس (1968 للاحظنا التباين الشاسع ولرأينا كيف أن الحركة صاعدة من الحد الأدنى إلى الحد الأقصى. فقد صيغت قرارات المؤتمر الأول بشكل لا يزعج الأغيار (المطلوب عونهم في ذلك الوقت) ولا يزعج حكومة سويسرا (التي عُقد على أرضها المؤتمر) ولا يزعج يهود الغرب المندمجين (المطلوب دعمهم) ولا ينبه السكان الأصليين (المطلوب تصفيتهم). ولذلك طلب المؤتمر إقامة «وطن قومي» (وليس دولة) في فلسطين يضمنه «القانون العام» (وليس الاستعمار الغربي ولا العنف أو الإرهاب). كما دعا المؤتمر إلى تقوية الوعي والعواطف اليهودية وحسب دون أن يؤدي هذا إلى أي ازدواج في الولاء. ولم تصبح فكرة الدولة الصهيونية الشعار الرسمي للحركة الصهيونية إلا عام 1942 في مؤتمر بلتيمور، غير أن المُؤتمرين الصهاينة عبَّروا في قرارات هذا المؤتمر عن أملهم في انتصار الإنسانية والديموقراطية وما شابه ذلك، كما رحبوا بالتعاون مع العرب وبالبعث العربي اليهودي المشترك. وبرغم أن المطلقات الحلولية بدأت في الظهور، فإن الصياغة ظلت ديموقراطية ليبرالية إلى حدٍّ كبير. أما قرارات المؤتمر السابع والعشرين الذي عُقد بعد حرب يونية وبعد "توحيد" القدس على الطريقة الصهيونية وبعد ضم أراض عربية، فقد جعلت حدود الدولة الصهيونية تقترب بعض الشيء من تصوراتهم عن الحدود التاريخية أي المقدَّسة. ونحن هنا نجد الحلولية العضوية تسفر عن وجهها وأن الأهداف المعلنة قد قطعت شوطاً كبيراً في رحلتها إلى المطلق، فأصبحت أهداف الصهيونية هي وحدة الشعب اليهودي، ومركزية دولة إسرائيل في حياته، وتجميع المنفيين من الشعب اليهودي في وطنه التاريخي عن طريق الهجرة من جميع البلاد، وتدعيم دولة إسرائيل القائمة على مُثُل الأنبياء في العدل والسلام، والمحافظة على أصالة الشعب اليهودي بتنمية التعليم اليهودي واللغة العبرية اليهودية والثقافة اليهودية وتقوية التحالف الإستراتيجي مع الحضارة الغربية.

الصـراع بــين الإثنـــيين الدينيــين والإثنــيين العلمانيــين

Conflict between Religious and Secular Ethnic Zionists

نشب صراع حاد بين الصهاينة الإثنيين الدينيين والإثنيين العلمانيين. ولفهم طبيعة الصراع بإمكـان القـارئ أن يعـود للأبواب التالية: «الصهيونية والعلمانية الشاملة» ـ «الصهيونية الإثنية الدينية» ـ «الصهيونية الإثنية العلمانية«.

مـــواطن الاختـــلاف بــين التيــارات الصهيونيـة المختلفـة

Points of Disagreement between Various Zionist Trends

قد يكون من المفيد حصر بعض الموضوعات الأساسية التي يختلف الصهاينة بشأنها، وكل موضوع سيأخذ شكل سؤال يجيب عنه كل تيار صهيوني بطريقته. ويُلاحَظ أن طريقة الإجابة على السؤال تُحدِّدها ثلاثة عناصر أساسية: هل الصهيوني توطيني أو استيطاني؟ هل الصهيوني إثني ديني أو إثني علماني؟ هل الصهيوني اشتراكي أورأسمالي... إلخ؟ (كان هناك تساؤلات تُطرَح قبل مرحلة هرتزل وبلفور تم حسمها فيما بعد وقد استبعدناها من قائمة الأسئلة على قدر المستطاع).

1 ـ ما الموقف من اليهودية؟

* عقيدة الشعب اليهودي التي يجب اتباعها.

* فلكلور الشعب اليهودي الذي يجب الحفاظ عليه.

* تراث ميت يشكل عبئاً على الشعب اليهودي لابد من التخلص منه.

2 ـ من هو اليهودي؟

* إشكنازي وحسب.

* كل يهود العالم.

* من يؤمن باليهودية.

* من وُلد لأم يهودية.

* من تهود حسب الشريعة (أى على يد حاخام أرثوذكسي).

* من يشعر في قرارة نفسه أنه يهودي.

* من يكتشف أن جده كان يهودياً.

3 ـ ما الموقف من ظاهرة العداء لليهود؟

* ظاهرة حتمية أزلية.

* ظاهرة سلبية يمكن القضاء عليها أو تخفيف حدتها.

* ظاهرة سببها اليهود أنفسهم (باعتبار أنهم شعب مختار أو شعب طفيلي أو شعب يرفض الاندماج أو شعب ذو وضع طبقي متميِّز).

4 ـ ما طبيعة هذا الشعب اليهودي؟

* شعب مقدَّس.

* شعب مختار.

* طبقة وسطى هرمها الإنتاجي مقلوب.

* مجموعة من الطفيليين.

* شعب مثل كل الشعوب.

* قومية عضوية.

5 ـ من ينبغي نقله من أعضاء هذا الشعب؟

* كل اليهود (وتصفى الدياسبورا).

* الفائض اليهودي البشري وحسب.

* فقراء اليهود.

* يهود اليديشية.

* أي يهودي غير مندمج.

6 ـ ما سبب النقل (نظرية الحقوق)؟

* كي يعود الشعب المختار لأرض الميعاد ليؤسس دولته.

* كي يعود اليهود (الشعب الشاهد) إلى أرض الميعاد حيث يتم تنصيره تعجيلاً بالخلاص.

* طفيلية اليهود التي لابد من القضاء عليها (أي تطبيع الشخصية اليهودية).

* فائض بشري لابد من التخلص منه.

* ضحايا دائمون للأغيار.

* مادة استيطانية جيدة.

* رُسُل الحضارة الغربية البيضاء الذين سيأتون بالتقدم ويشكلون قاعدة للاستعمار الغربي.

* تثوير المنطقة على يد الاشتراكيين اليهود عن طريق إقامة مجتمع اشتراكي.

* مساعدة الإمبريالية الغربية.

7 ـ ما طبيعة الدولة الصهيونية؟

* وطن قومي وحسب.

* دولة رأسمالية.

* دولة اشتراكية.

* دولة دينية.

* دولة فاشية.

* دولة مستقلة عن الغرب.

* دولة تابعة للغرب.

8 ـ ما حدود الدولة؟

* قرار التقسيم.

* حدود 48.

* ضفتا نهر الأردن.

* من النيل إلى الفرات.

* حدود عملية تتحدد حسب عدد المهاجرين المستوطنين.

* حدود جغرافية آمنة.

* حدود تحددها القوة الذاتية للدولة.

9 ـ ما وظيفة الدولة؟

* دولة قومية للشعب اليهودي.

* واحة للديموقراطية الغربية.

* مكان لتطبيع اليهود وتخليصهم من طفيليتهم.

* قاعدة للمصالح الغربية (ضد الوحدة العربية وفي مواجهة القومية العربية والشيوعية).

* مكان يحقق اليهود فيه هويتهم الدينية والإثنية.

* مكان يحقق اليهود فيه مستوى معيشياً مرتفعاً.

* مركز ثقافي لكل يهود العالم.

* قاعدة للنظام العالمي الجديد (ضد الإسلام).

10 ـ ما علاقة يهود العالم بالدولة؟

* هي الدولة التي يستوطنون فيها والتي عليهم أن يستوطنوا فيها.

* دعم الاستيطان.

* تكوين مراكز قوة وضغط (لوبي) في بلادهم لدعم الدولة.

* التبعية للدولة اليهودية.

* تبعية الدولة اليهودية لهم.

* الدولة هي مجرد مركز ثقافي لهم.

11 ـ ما فلسطين؟

* أرض الميعاد.

* موقع إستراتيجي بين آسيا وأفريقيا.

* بقعة جيدة للاستثمار.

12 ـ ما مصير العرب؟

* لابد من رحيلهم من خلال الإقناع.

* لابد من رحيلهم من خلال العنف.

* دولة مزدوجة الجنسية.

إن شقة الخلاف واسعة حيث يجيب كل تيار صهيوني عن الأسئلة بطريقة مختلفة. ومع هذا، تظل البنية الكامنة هي الصيغة الشاملة التي تفترض أن المادة البشرية اليهودية سيتم نقلها إلى فلسطين لإقامة دولة وظيفية بمساعدة الاستعمار الغربي. ثم تضاف إليها أية ديباجات تروق للصهيوني. فالمادة البشرية يمكن أن تكون الشعب المختار أو طليعة الطبقة العاملة... إلخ.

التيــــــارات الصهيونيـــــة: إطـــار تصنيــفي

Zionist Trends: Framework for Classification

نستخدم مصطلح «التيارات الصهيونية» للإشارة إلى التيارات الفكرية والتنظيمية داخل الحركة الصهيونية. ويُلاحَظ أننا لم نستخدم كلمة «مدارس» لأن هذه الكلمة قد توحي بأن ثمة اختلافات عميقة وجوهرية بين تلك التيارات، وهو أمر مناف للحقيقة. أما الصراعات داخل التيارات المختلفة فنشير إليها باعتبارها «اتجاهات».

وتعود الوحدة الأساسية بين التيارات الصهيونية المختلفة إلى أنها تدور في إطار الصيغة الصهيونية الأساسية بعد أن تحولت إلى صيغة أساسية شاملة وبعد تهويدها. فمهما احتدم الصراع بين تيار وآخر، يظل هناك الاتفاق المبدئي على الأهداف النهائية وعلى آليات تنفيذها. ومع هذا، تحدُث بعض الانقسامات داخل التيارات الصهيونية يمكن تصنيفها على النحو التالي:

أولاً: التقسيم على أساس مجال النشاط الصهيوني.

ينقسم الصهاينة من هذا المنظور إلى صهاينة استيطانيين يمارسـون نشـاطهم في فلسطين، وإلى آخرين توطينيين في الخارج (انظر: «الصهيونيتان» ـ «الصهيونية التوطينية» ـ «الصهيونية الاستيطانية»).

ثانياً: التقسيم على أساس إثني (ديني/علماني).

ينقسم الصهاينة من المنظور الإثني إلى تيارين: صهيونية إثنية دينية وأخرى إثنية علمانية (انظر: «الصهيونية الإثنية الدينية» ـ «الصهيونية الإثنية العلمانية»). والتقسيمان السابقان يتعاملان مع اليهود على مستويين مختلفين، ومن ثم فهما لا يتداخلان ولا يوجد بينهما أي تناقض. وثمة تكامل بينهما، فيمكن أن تبذل الصهيونية التوطينية (التي استوعبت الصهيونية الدبلوماسية والسياسية الاستعمارية وصهيونية يهود الغرب المندمجين) الجهود المكثفة وتقوم بالمحاولات الدائبة لتأمين الدعم الاستعماري وإيجاد آليات إخلاء أوربا من اليهود ونَقْلهم خارجها. وتصوغ الصهيونية الإثنية (الدينية والعلمانية) المصطلح اللازم لإثارة حماس الجماهير المطلوب نقلها، وذلك بإطلاق اسم «الشعب اليهودي» عليها وبربطها عاطفياً بفلسطين، أو «إرتس يسرائيل» كما يسمونها. أما الصهيونية العمالية الاستيطانية، فإنها تُقدِّم المظلة العسكرية والسياسية الواقعية واللازمة لعملية الاستيطان في بيئة معادية. وفي تصوُّرنا أن هذه الطريقة لتصنيف التيارات الصهيونية ذات قيمة تفسيرية عالية وتشكل الإطار الحقيقي للانقسامات الصهيونية.

ثالثاً: التقسـيم على أسـاس إثني (إشـكنازي/سـفاردي، وغربي/شرقي(.

فرغم عدم اشتراك يهود البلاد العربية في إفراز الفكر الصهيوني أو الحركة الصهيونية، ورغم أن الصهيونية (بشقيها الشرقي الاستيطاني والغربي التوطيني) لم تتوجه إليهم بشكلٍّ خاص ولم تحاول تجنيدهم بشكل عام وواسع قبل عام 1948، إلا أن إنشاء الدولة قد خلق حركيات تتخطى إرادتهم. كما أن حاجة الدولة الصهيونية إلى طاقةبشرية (بعد عزل يهود الشرق أو اختفائهم، وبعد رفض يهود الغرب الهجرة)، جعلها تهتم بهم وتجندهم وتفرض عليهم في نهاية الأمر مصيراً صهيونياً، أي الخروج من أوطانهم. كما أن رغبتهم في الحراك الاجتماعي (فيما نسميه الصهيونية النفعية) قد ساعدت على ذلك. وقد استقرت أعداد كبيرة منهم في الدولة الصهيونية، وإن كان من الملحوظ أن أعداداً أكبر قد استقرت خارجها.

والانقسام على أساس إثني (إشكنازي/سفاردي، وغربي/شرقي) هو انقسام مهم وخطير، فرغم أنه لم يؤثر في الأطروحات الفكرية النظرية الصهيونية الأساسية إلا أنه ترك أعمق الأثر في حركيات الدولة الصهيونية.

رابعاً: التقسيم على أساس العقيدة السياسية.

ينقسم الصهاينة من المنظور السياسي إلى قسمين أساسيين: اشتراكي (عمالي) ورأسمالي ليبرالي من دعاة المشروع الحر. وهو تقسيم ذو قيمة تفسيرية ضعيفة، وذلك بسبب طبيعة الدولة الصهيونية الوظيفية وقيام الإمبريالية الغربية بتمويلها بكل قطاعاتها الرأسمالية والاشتراكية. وهناك تصنيفات سياسية أخرى مثل انقسام الصهاينة إلى ديموقراطيين وفاشيين، وهكذا. لكن هذا التقسيم لا يقل في ضعفه من ناحية مقدرته التفسيرية عن التقسيم على أساس اشتراكي/رأسمالي للسـبب السابق نفسه. ولعله، بعد تَسـاقُط المنظـومة الاشـتراكية في العالم، لم تَعُد لهذا التقسيم قيمة كبيرة. وهناك أيضاً الانقسام على أساس حدود الدولة ومستقبلها.

ونحن نقترح هذا الإطار كأساس تصنيفي لكل التيارات الصهيونية إذا نظرنا إليها من منظور الصهيونية ككل لا من منظور إسرائيل وحسب. ولذا، فإننا نذهب إلى أن الصهيوني لابد أن يكون واحداً من أربعة انتماءات محتملة:

1ـ أ) صهيوني توطيني ديني.

ب) صهيوني توطيني علماني.

2ـ أ) صهيوني استيطاني ديني.

ب) صهيوني استيطاني علماني.

وخريطة الأحزاب في التجمُّع الصهيوني تعكس هذه الاختلافات، فتُقسَّم الأحزاب حسب الأيديولوجية (مشروع حر مثل الليكود و"عمالية" مثل المعراخ). وحسب ازدواجية الديني/العلماني (أحزاب دينية مثل مزراحي وأحزاب علمانية مثل ميرتز). وحسب ازدواجية الشرقي والغربي (حزب جيشر السفاردي وحزب إسرائيل بعاليا الروسي). وحسب الموقف من حدود إسرائيل وتكوينها السكاني (موليديت وميرتس). ويمكن أن يعكس حزب واحد كثيراً من هذه الازدواجيات أو يتأرجح بينها (شاس السفاردي الديني الذي يؤيد التوسع وضم الأراضي أحياناً ويتراجع عن ذلك أحياناً). ولكن الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة تظل في البداية العقد الاجتماعي الصامت والمرجعية النهائية التي يتقبلها الجميع.

الصهيونية التوفيقية

Synthetic Zionism

مصطلح «الصهيونية التوفيقية» تعبير آخر عما يُسمَّى «الصهيونية التركيبية» (بالإنجليزية: سينثيتيك زايونيزم Synthetic Zionism). وهو مصطلح استخدمه وايزمان في المؤتمر الصهيوني الثامن 1907 حين طالب الصهاينة العمليين والصهاينة الدبلوماسيين بمزج أساليبهم في العمل. وقد أكد وايزمان أنه لا يرفض الأساليب الدبلوماسية (الاستعمارية) ولكنه يجدها غير كافية في حد ذاتها إذ لابد أن يساعدها نشاط استيطاني، وهو بذلك يكون قد قَبل الصهيونية الاستيطانية والصهيونية التوطينية.

وقد عبَّر أتو ووربورج، رئيس المنظمة منذ عام 1911 وحتى عام 1920، عن هذه الصهيونية التوفيقية بشكل أدق إذ قال: إن "الحق التاريخي الذي تستند إليه ملكيتنالفلسطين... لا تأثير له وحده وفي حد ذاته على الدول الكبرى. بل يتوجب علينا إيجاد صيغة عصرية لذلك الحق تضاف إليه. وهذه الصيغة تقوم على برهنتنا، إن لم يكن شرعياً أو حقوقياً (دي جوري de jure) فبحكم الواقع الفعلي (دي فاكتو de facto)، على أن فلسطين تخضع اقتصادياً لنفوذنا، وأن جميع ما أحرزته تلك البلاد من تَقدُّم كبير وملموس يرجع في الأصل إلى مبادرتنا وقوة وسائلنا الاقتصادية وفعاليتها ولم ينشأ إلا بفضلها". وهو هنا لا يشير إلى الصهيونية الدبلوماسية التوطينية وحسب، أو إلى الصهيونية الاستيطانية وحسب، وإنما يشير أيضاً إلى الصهيونية الإثنية (الحق التاريخي)، كما أنه ينظر إلى فلسطين من منظور التيارات الصهيونية الثلاثة وإن كانيؤكد أهمية الاستيطان وسياسة خلق الحقائق.

ولعل كلمات أوسيشكين (بعد وفاة هرتزل) هي أدق التصريحات، فقد اقترح العودة لا إلى صهيونية أحباء صهيون الاستيطانية ولا إلى الصهيونية الروحية (الصهيونية الإثنية) ولا إلى الصهيونية الدبلوماسية (التوطينية) وإنما إلى مزيج من هذه التيارات الثـلاثة معاً، أي إلى الصهـيونية السياسـية كما نص عـليها برنامج بازل. وهي، إذن، دعوة إلى الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة المُهوَّدة وإلى وحدة كل التيارات الصهيونية داخل إطار هذه الوحدة.

وقد حقق الصهاينة قدراً كبيراً من الوحدة عبر تاريخهم. فأثناء المحادثات بشأن وعد بلفور، نجد أن وايزمان التوطيني يبذل جهوداً دبلوماسية غير عادية ويستفيد من التغيرات الدولية من أجل تحقيق هدف استيطاني (استصدار ضمان دولي لعملية الاستيطان الصهيوني في فلسطين)، وفي خلفية هذه النشاطات كان يوجد آحاد هعام (أستاذ وايزمان ومؤسِّس التيار الصهيوني الإثني العلماني) يزودهم منذ عام 1908 بالمشورة وينصحهم بأن يبحثوا عن موافقة وتأييد بريطانيا لمشاريعهم الاستيطانية المختلفة. ثم يَصدُر وعد بلفور بالفعل على هيئة رسالة موجهة إلى أحد أثرياء الغرب المندمجين الذين غيَّروا موقفهم من رفض المشروع الصهيوني إلى قبوله.

ويمكننا أن نقول إن الصهيونية الحقة، شأنها في هذا شأن إسرائيل، هي الصهيونية التي تمزج جميع التيارات الصهيونية؛ عمـالية كانت أو رأسـمالية، راديكالية أو تصحيحية، دينية أو علمانية، توطينية أو استيطانية، ذلك أن صهاينة الخارج يتحركون على الصعيد السياسي لصالح المُستوطَن الصهيوني ويقومون بتجنيد يهود العالم وراءه ويجمعون الضرائب لدعمه (الصهيونية التوطينية، أي كل التيارات الصهيونية في الخارج). ويقوم المستوطنون بخلق حقائق جديدة (الصهيونية الاستيطانية، أي التيارات الصهيونية المختلفة في الداخل). وتصر الصهيونية في الداخل على وحدة الهوية اليهودية (صهيونية إثنية)، وهي هوية نابعة من التراث الديني (صهيونية إثنيةدينية) وفق أحد التيارات الدينية، أو لا علاقة لها بالدين وإنما تنبع من التراث (صهيونية إثنية علمانية) حسب تصوُّر التيار العلماني. ومع ذلك، وبغض النظر عن كل هذه التصنيفات، نجد أن جميع التيارات الصهيونية تشترك في الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة المُهوَّدة، وفي الاعتماد شبه الكامل على الدعم الإمـبريالي من خــلال الراعي الإمبريالي والجماعة اليهودية في الغـرب. ولذا، فيمكننا أن نزعم أن جميع الصهاينة، في نهاية الأمر، توفيقيون.

الصهيونية: القيم السياسية

Zionism: Political Values

يجتمع في الإطار السياسي النظري للصهيونية نظم أساسية ومختلفة من القيم: اليهودية التي تمت صهينتها، والعنصرية، والقومية السياسية، والقومية العضوية، والاشتراكية، والليبرالية، الأمر الذي يجعل مبدأ "القوة" كأساس للمشروعية السياسية - ولا نقول للشرعية (المبدئية) - المبدأ الأساسي الذي يحكم مدركات التعامل السياسي الإسرائيلي. ولذا يتحكَّم هذا المبدأ في الحياة والمستقبل الإسرائيليين تحكُّماً يتجاوز في مداه وعمقه تأثير طاقات أيٍّ من تلك النظم المختلفة من القيم. ولإيضاح هذا، يتوجب تحديد ما نعنيه هنا بتلك النظم من القيم، وبمبدأ القوة كأساس للتعامل السياسي، وذلك في إطار تناولنا الصهيونية باعتبارها تلك العقيدة السياسية التي تدعو يهود العالم للتجمُّع في فلسطين لتكوين وبناء الدولة الإسرائيلية.

ويمكن القول بأن المنهجية "التلفيقية" هي السمة البارزة في خطاب الصهيـونية، لا ينهض الجـانب الدعوي من هذا الخطاب بدونها، سواء في التعامل مع القوى غير اليهودية، أو في التعامل مع الجماعات اليهودية نفسها، أو في بناء فكرها نفسه. ولبيان ذلك علينا ملاحظة أن أياً من نظم القيم السياسية إنما يتكون، كغيره من نظم القيم الأخرى، من قيمة جماعية عليا (كالديموقراطية: احتراماً للكرامة الإنسانية، في نسق قيم الحضارة الغربية الحديثة)، يرتبط بها ويعبِّر عنها نسق من القيم السياسية الفردية.

وعَبْر هذا النسق من القيم السياسية الفردية، يتميَّز أيُّ نسق من القيم عن أنساق القيم الأخرى تميُّزاً لا يتحدد بالضرورة بهذه القيم كمفردات، بل يتحدد بالعلاقة فيما بينها فينسق القيم الذي يجمعها. فنسق القيم الشيوعي، في رفضه نسق القيم الغربي الليبرالي، لا يرفض مفردات قيمه السياسية الفردية، من حرية ومساواة وعدالة، ولكنه في الأساس يرفض أولوية قيمة الحرية على المساواة والعدالة؛ ويتبنَّى المساواة كقيمة سياسية عليا في نسق قيمه، جاعلاً لها الأولوية على الحرية مثلاً، منطلقاً في ذلك من فهمالشيوعية للعلاقة بين الظاهرة السياسية والظاهرة الاقتصادية، التي تعتبر مفهوم "الكفاف الاقتصادي" أساساً للديموقراطية السياسية. بل تمضي أبعد من ذلك لتعتبر أن تحقُّق "العدالة" مرهون بتحقُّق المساواة الفعلية في الأوضاع الاقتصادية.

ولكن الأمر جدُّ مختلف بالنسبة للصهيونية إذ نجد أنفسنا أمام إطار من القيم تتداخل فيه أنساق من القيم، وليس مجرد مفردات من القيم. وهي بطبيعتها أنساق مختلفة، غير منسجمة مع بعضها البعض. وهو ما يجعل محاولة تبيُّن سمات نسق قيم الصهيونية عملية صعبة، بل قد تكون غير ممكنة، ما لم نلحظ السمة التلفيقية فيها بين أنساق منالقيم وليس بين مفردات.

وأول تلك الأنساق هي اليهودية التي تمت صهينتها أو الصهيونية ذات الديباجات الدينية اليهودية، ونعني بها تلك المعتقدات من اليهودية التي توظِّفها الصهيونية في مشروعها لبناء الدولة الصهيونية. ولا نقصد بذلك أن هذا التوظيف يتوافر على رؤية معرفية كلية، على درجة من الثبات المنهجي، تفسر الوجود السياسي، وتقيِّم الحركة السياسية، بصورة منطقية ومتجانسة. فاليهودية بوصفها تركيباً جيولوجياً تراكمياً عاجزة وعصيِّة تماماً على الانصهار في مثل تلك الرؤية المعرفية المحددة. غير أن هذه السمة الجيولوجية التراكمية نفسها، بما تشتمل عليه من أنساق وأفكار ومعتقدات ومفاهيم متعددة ومختلفة ومتناقضة، جعلت من اليسير على الصهيونية أن تختار الإطار المعتقدي أو المنطلق القيمي المناسب والمطلوب، لتقييم كل حركة أو مرحلة سياسية أو تبريرها، والتعامل معها؛ كما أنها (أي السمة التركيبية الجيولوجية التراكمية) تسمح بتفسير أو تبرير كل حالة سياسية، أو حتى الوجود السياسي نفسه، وذلك كله تبعاً لتغيُّر الإطار - أو حتى الظرف - التاريخي والسياسي والاجتماعي، أو تبعاً لاختلاف طبيعة التوظيف المعتقدي المطلوب سواء كان دعوياً يتجه إلى تأكيد رابطة الولاء والانتماء اليهودي للكيان الصهيوني، أو دعائياً يرمي إلى كسب التعاطف والتأييد الخارجي (الدولي) لهذا الكيان. ومع أن مثل هذا التوظيف التلفيقي يعمل على صبغ الصهيونية وشحنها بالمفاهيم والأطروحات المتناقضة الأمر الذي يدفعها في النهاية للانفجار والتفتت الفكري، إلا أنه يهيئ لها من جهة أخرى، وبخاصة في ظل ظروف وتحالفات دولية مواتية، استمراراً مرحلياً ما دامت تواجه بيئة سياسية واهنة أو مسترخية فكرياً وسياسياً، كما هو الحال في البيئة الثقافية والسياسية العربية الراهنة، وذلك بغض النظر عن الطاقات والإمكانات الفكرية والسياسية الكامنة لهذه البيئة (العربية).

إن مقولة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» مثلاً، إنما تعبِّر في توظيفها، الدعوي والدعائي، عن تلك المنهجية الصهيونية التلفيقية، حيث يتم إحياء مفاهيم وتقاليد معينة في هذا التراث وتجاهُل أخرى، وذلك تبعاً لما يتطلبه الإطار التاريخي أو الظرف السياسي والاجتماعي، الذي تجرى فيه عملية التوظيف التلفيقية تلك. فعلى المستوى الدعوي المعني بتأكيد الانتماء والولاء اليهودي، وبخـاصة نحـو المشروع الصهيوني، يمكن توظيف المفاهيم الحلولية في التراث اليهودي كما يمثلها الثالوث الحلولي: الإله والأرض والشعب، فيحل الإله في فلسطين لتصبح أرضاً مقدَّسة، ويحل في يهود العالم ليصبحوا شعباً مقدَّساً، ومختاراً من الإله للتمركز في الأرض المقدَّسة، من أجل خلاصهم وخـلاص العالم بأن ويتولوا قـيادته حضارياً. ويمكن في مسـتهل المشروع الصهيوني، وعَبْر هذا التوظيف، اعتبار الأرض المقدَّسة أرضاً بلا شعب، فالأغيار (من عرب فلسطين) يمكن اعتبارهم مستباحين ومدنَّسين (بخلاف الشعب المقدَّس)، فيستوي بذلك وجودهم وعدمه.

وعندما يؤدي نضال عرب فلسطين إلى أن يصبح وجودهم وانتماؤهم لأرضهم حقيقة عصيّة أمام التوظيف الدعائي (لهذا الطرح الدعوي)، فيمكن حينئذ - وعند اللزوم - تخفيف الطابع العنصري والحلولي الفج لمفهوم الاختيار، والاستعاضة عنه بمفهوم «البروليتاري الأزلي» كتصور لليهودي الذي أختير منذ الأزل لتأدية رسالة أزلية اشتراكية (كما هو الحال عند المفكر الصهيوني الاشتراكي نحمان سيركين) ثم يوظِّف هذا المفهوم لكسب تأييد الاشتراكيين ومعسكرهم من جهة، ومن جهة أخرى لخلق وتأكيد علاقة انتماء فعلية بين اليهودي وأرض فلسطين. كما يمكن أيضاً توظيف مفهوم اليهودي باعتباره «الديموقراطي الأزلي» الذي تحدَّث عنه لويس برانديز باعتبار أن اليهودي هو الجدير بحمل رسالة الديموقراطية (وخصوصاً في الوسط العربي الغريب عنها) ما دام الإله قد اختار اليهود للحوار الحق معه دون باقي أمم الأرض. وبالطبع، يمكن أن تجد هذه المفاهيم سندها داخل التركيب الجيولوجي التراكمي لليهودية، وذلك عبر إحياء فكرة "الاختيار الرسالي" التي دعت إليها اليهودية الإصلاحية، إلى جانب حركة التنوير اليهودية، وكلتاهما تمردت على فجاجة الطابع العنصري للرؤية اليهودية الحلولية لمفهوم الاختيار.

هذا على صعيد تبرير وإضفاء المشروعية على الوجود الصهيوني السياسي نفسه، وهو تبرير يتم التعبير عنه، دعوياً ودعائياً، على مستوى مفكري وقادة المشروع الصهيوني أنفسهم. غير أن بإمكاننا تتبُّع هذه السمة التلفيقية، على مستوى تقييم تيارات وقوى يهودية في الكيان الصهيوني، لمشروعية هذا الكيان، وذلك في إطار مسيرته السياسية ومدى نجاحه في فَرْض وجوده الإقليمي والدولي. ويمكن أن نأخذ مثلاً على ذلك رؤية مثل تلك التيارات أو القوى للمشروع الصهيوني، في ضوء العقيدة المشيحانية التي تؤمن بأن خلاص اليهود وجَمْعهم من الشتات إنما يكون بقدوم الماشيَّح في آخر الأيام.

لقد ظلت أكثرية التيارات والجماعات الدينية اليهودية تحافظ على موقف غير صهيوني من المشروع الصهيوني (الانتظار لمشيئة الإله). ولكن هذه التيارات بدأت بعد إعلان الدولة الصهيونية تنقاد بالتدريج للتعايش مع المفهوم الصهيوني للعودة. وبعد حرب 1967، بدأت أحزاب دينية صهيونية عديدة تنظر إلى نتائج هذه الحرب باعتبارها معجزة و"إشارة ربانية" إلى بداية الخلاص، وأن دولة إسرائيل ما هي إلا مقدمة مجيء الماشيِّح المخلِّص، مضفية بذلك على دولة إسرائيل سمات دينية مشيحانية. بل اعتبرها البعض استجابة لنداء الرب، بل هي "الإرادة الإلهية نفسها" (على حد تعبير الحاخام كوك الأب الروحي لحركة جوش إيمونيم).

كذلك تتضح هذه المنهجية التلفيقية على صعيد مبادئ وأُسس النظام السياسي والاجتماعي في الكيان الصهيوني، وسواء أتعلَّق ذلك بتصور الصهيونية لهذه المبادئ والأُسس أم تعلَّق بتعاملها معها. وهكذا، فإن الصهيونية توظف فكرة العودة مثلاً لحث أكبر عدد من يهود العالم على الهجرة إلى فلسطين، بينما يظل التساؤل حول المعيار المحدد للهوية اليهودية (من هو اليهودي؟) بغير جواب حاسم من مؤسسة دولة إسرائيل، لئلا يقود - كما رأت جولدا مائير مثلاً - تبنِّي معيار متساهل لتحديد الهوية اليهودية إلى اندماج يهود الخارج في مجتمعاتهم، بينما يقود التشدد في ذلك إلى عواقب وخيمة على بنية الكيان الصهيوني نفسه في فلسطين؛ وعبر مثل هذا التوظيف (العملي) الذي تمارسه هنا جولدا مائير أحد أقطاب الصهيونية العمالية لأطروحات الصهيونية الإثنية، يظل تحديد من هو اليهودي خاضعاً، عن وعي وتصميم، لاعتبارات ظرفية غير عقائدية، وذلك رغم المحورية المركزية الطاغية لصفة اليهودي في المشروع الصهيوني.

ويخضع تحديد مبادئ وأُسس الحياة الاجتماعية والسياسية في الكيان الصهيوني لتوازن معقد بين التيارات والقوى والأحزاب التي يُقال لها "علمانية" من جهة، ومن جهة أخرى التيارات ذات الديباجات الدينية فيها. ومع هذا لا يمكن الاكتفاء بإرجاع غياب الحسم العقائدي، في قضية مركزية في محوريتها، تهيمن على تعريف "المواطنة" نفسه، إلى غَلَبة إرادة العلماني على إرادة الديني في مركز القرار الإسرائيلي. فمن المعروف أن تشريـعات "اليهودية الحاخـامية" (كما تعبِّر عنهـا التشريعات التلمودية)، تسـيطر على تنظيم الأحوال الشـخصية في الكـيان الصهيوني، وذلك رغم أن الإحصاءات الاستطلاعية تشير (عام 1987 إلى أن 84%من يهود هذا الكيان لم يطَّلعوا على التلمود قط. كما نجحت الأحزاب الدينية (عام 1950)، على سبيل المثال، في فرض إرادتها في أن تكون لها اليد الطولى في الإشراف على النظام التعليمي في معسكرات المهاجرين اليهود في فلسطين، وذلك بالرغم مما يفرضه هذا من تأثير داخلي جذري على مستقبل النظام السياسي والاجتماعي في الكيان الصهيوني.

إن ما سبق من أمثلة يُظهر أن المعوَّل عليه في نهاية المطاف، بالنسبة للصهيونية، ليس إطاراً معتقدياً معيناً مستمداً من إحدى طبقات التركيب الجيولوجي التراكمي للعقيدة اليهودية، يتم تبنِّيه والثبات عليه؛ وإنما تفرض كل مرحلة حلاً مؤقتاً كل ما يُشتَرط فيه أن يكفُل التميُّز، ولكنه تميُّز لا مضمون له وإنما هو تميُّز وكفى. ولذلك، فحينما يعني التمسك بهوية (صلبة) للتميُّز (تحدِّد مثلاً من هو اليهودي؟)، فإن التميُّز من حيث هو اختلاف عن الآخر، يصبح مصدر تهديد، ومن ثم يتم العدول عنه، ويتم تبنِّي تعريف للهوية يسمح بقدر من السيولة. وهي ظاهرة تتبدى في الحيرة والصراع داخل الكيان الصهيوني، حول الخيارات المستقبلية لمضمون تميُّزه، وهي قضية وثيقة الصلة بالصراع العربي الصهيوني: القبول بدولة فلسطينية مستقلة في سبيل نقاء الكيان الصهيوني؟ أم السماح بالوجود العربي داخل إطار الدولة الصهيونية، في سبيل إسرائيل الكبرى؟ إن الصراع هنا هو صراع بين الرؤية الصهيونية التقليدية (الحلولية المادية الصلبة) التي تتمسك بمفاهيم مثل إسرائيل الكبرى جغرافياً، والرؤية الإسرائيلية البرجماتية (الحلولية الشاملة السائلة) التي لا تُمانع في التنازل عن هذا المفهوم في سبيل الوصول إلى إسرائيل العظمى اقتصادياً. وهو ما يعكسه توجُّه اتفاقيات أسلو (1993وما بعدها، التي تمت بقيادة تيار فاعل في المؤسسة الإسرائيلية تنَّبه قبل عقود من هذه الاتفاقيات (وبخاصة عبر شيمون بيريز) إلى عناصر الحيرة والصراع التي تكتنف عملية حَسْم هوية المشروع الصهيوني. فكانت اتفاقيات أوسلو إيذاناً بتكريس توجُّه إسرائيل كبرى مختلفة: يعمل، وذلك بعد أن واتته الفرصة بعد حرب الخليج الثانية (1991)، على إرساء نظام شرق أوسطي متمركز اقتصادياً حول الكـيان الصهيوني؛ أي أنه توجُّـه يعـمل، عن وعي وإرادة، على تمييز الكيان الصهيوني بسطوة سائلة حلولية صهيونية اقتصادية، وذلك على حساب تميُّزه بهويته الحلولية الصهيونية العنصرية الصلبة.

وباختصار، فإن المنهجية التلفيقية تهيمن بالضرورة، على تصوُّر الصهيونية لأُسس تبرير مشروعية الوجود الصهيوني السياسي نفسه، فضلاً عن مبادئ وأُسس النظام السياسي والاجتماعي في الكيان الصهيوني؛ والاصطدام (الكامن دوماً والمتفجر دورياً)، الذي يقع بين هذه المنهجية التلفيقية من جهة، وبين حقائق الواقع والحقيقة الصلبة من جهة أخرى، لا يقودها إلى إعادة النظر في عناصر رؤيتها المعرفية (اليهودية الحلولية التراكمية)؛ بل يدفعها (متأثرة طبعاً بحلوليتها اليهودية التراكمية هذه) إلى إعادة تشكيل مبادئها وأُسسها بنفس المنهجية التلفيقية. إنها تلفيقية مسكونة بهدف البقاء المتميِّز، تجعل مبدأ القوة المادية أساساً لتبرير مشروعيتها وتقييم، ثم إعادة تشكيل، مبادئ وأُسس حركتها ونُظُمها. ويُبرز وصف ديفيد بن جوريون للجيش الإسرائيلي بأنه "خير مفسِّر للتوراة"، هذه التلفيقية بجلاء وهي التلفيقية التي كانت تجعل بن جوريون يُفسِّر التوراة والتلمود، فضلاً عن الواقع والتاريخ، من خلال توظيف انتصارات جيش الدفاع الإسرائيلي. إن قيم اليهودية التي تمت صهينتها كرافد أصيل في تركيب إطار قيم الصهيونية، إنما تجعل مبدأ القوة مثاليتها وقيمتها العليا المحددة.

الباب الثالث: العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية

العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية بشأن يهود العالم

Silent Contract between Western Civilization and the Zionist Movent regarding Western Jewry

«العقد» هو اتفاق بين طرفين يلتزمان بمقتضاه تنفيذ بنوده، أما «العقد الصامت» فهو عقد ضمني غير مكتوب لا يتم الإفصاح عنه أو التصريح به. والعقد الصامت في أغلب الأحيان غير واع ومع هذا فهو يعبِّر عن نفسـه من خـلال سـلوك الأفراد والجـماعات والمؤسسات.

ويمكن القول بأن كل مجتمع إنساني يستند إلى عقد صامت بين أعضائه ينطلق من بعض المقولات الأولية القَبْلية التي يؤمن بها أعضاء هذا المجتمع، وتستمد السلطة الحاكمة شرعية وجودها واستمرارها من هذا العقد. والحديث عن «العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية» هو محاولة من جانبنا لتسمية شيء كامن مهم مُتضمَّن لم يُسمِّه أحد من قبل، رغم المقدرة التفسيرية للمصطلح.

وقد ظل تاريخ الصهيونية متعثراً قبل ظهور هرتزل وظلت الصهيونية فكرة غير قادرة على التحقق لأسباب عديدة من أهمها أن دعاة الفكر الصهيوني كانوا من الصهـاينة غير اليهـود أو من أعداء اليهود، الأمر الذي جعل أعضاء المادة البشرية المستهدفة (أي اليهود) يرفضون الدعوة إلى استيطان فلسطين. كما أنه لم تكن هناك أية أطر تنظيمية تضم كل الجماعات اليهودية. وعلاوة على هذا كان هناك يهود الغرب المندمجين الذين كانوا يرون أن المشروع الصهيوني يهدد وجودهم ومكانتهم وكل ما حققوه من مكاسب.

وقد حل هرتزل كل هذه الإشكاليات، فقام بوضع العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية استناداً للصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة التي نبعت من صميم هذه الحضارة ومن تاريخها الفكري والاقتصادي والسياسي. ولم يكتف هرتزل بوضع العقد وإنما قام بتأسيس المنظمة الصهيونية التي طرحت نفسها كإطار تنظيمي يمكن من خلاله توقيع العقد مع الحضارة الغربية وفرض الصيغة الصهيونية الشاملة على الجماهير اليهودية بحيث تتحول هذه الجماهير إلى مادة استيطانية ويدخل المشروع الصهيوني إلى حيز التنفيذ. كما طوَّر هرتزل الخطاب المراوغ الذي جعل بالإمكان إرضاء مختلف قطاعات يهود العالم الغربي (في غرب أوربا وشرقها)، بل استيعاب كل ما قد يجد من مشاكل في المستقبل، الأمر الذي فتح الباب أمام تهويد الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة.

وهرتزل، واضع العقد الصامت، لم يكن مفكراً من الطراز الأول أو مُنظِّراً قادراً على التجريد وإنما كان صحفياً ذكياً سطحياً قليل الثقافة وخبرته السياسية محدودة، ولذا فإن تَوجُّهه كان برجماتياً عملياً. ومع هذا، فإن كتاباته تضم مادة هذا العقد الصهيوني الصامت كما تضم كتابات من لحقه مواد تكميلية للعقد.

وكما أسلفنا هذا عقد صامت، غير مكتوب، أي أن كلمة «عقد» هنا تُستخدَم مجازاً. ومع هذا يمكننا القول بأن هذه الصورة المجازية ليست من نحتنا إلا بشكل جزئي. فهي تتواتر في الأدبيات الصهيونية غير اليهودية (وهذا أمر متوقع، فهي صهيونية كانت تنظر لليهود كعنصر نافع غريب يمكن توظيفه) ثم انتقلت الكلمة إلى كتابات الصهاينة اليهود. فقد أشار هرتزل في المؤتمر الصهيوني الأول (1897 إلى ضرورة التفاهم التام مع الوحدات السـياسيـة المعنية حتى يتم الحديث عن حقـوق الاسـتعمار وعن المنافع التي سيقدمها الشعب اليهودي برمته مقابل ما يُعطَى له. كما أشار إلى أن هذا سيأخذ شكل اتفاقية وإلى أن الاتفاقية سوف تصاغ على أساس الحقوق (التي ستُمنَح لليهود) وعلى أساس تعهدات قانونية معترف بها. وحينما طلب القيصر ولهلـم الثـاني من هـرتزل أن يلخـص لـه مطـالب الصهيونيـة، قـال هـذا "تشارتر charter"، أي «ميثاق» أو «براءة» أو «عقد شركة». وكان الصهاينة يشيرون إلى وعد بلفور باعتباره هذا الميثاق أو البراءة أو العقد الذي مُنح للحركة الصهيونية.

وقد كان هرتزل يهدف إلى تحديث المسألة اليهودية، ولذا فقد كان من اللازم أن يستخدم (فعلاً أو ضمناً) اللغة التعاقدية النفعية التي تفهمها الحضارة الغربية.

وإذا حاولنا ترجمة هذا العقد الصامت الذي يستند إلى الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة والصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة المُهوَّدة إلى لغة تعاقدية بسيطة، فإنه سيأخذ الشكل التالي: عقد بين المنظمة الصهيونية (كمتحدث غير مُنتخَب باسم يهود شـرق أوربا وغربها) وبين العالم الغربي (وضمنه المعـادون لليهود)، وتفاهم ضمني بين يهود غرب أوربا ويهود اليديشية. تتعهد الحركة الصهيونية بمقتضى هذا العقد بإخلاء أوربا من يهودها (أو على الأقل الفائض البشري اليهودي) وتوطينهم في منطقة خارج هذا العالم الغربي (داخل دولة وظيفية)، ويتحقق نتيجة ذلك ما يلي:

1 ـ الهدف الأكبر:

يُؤسِّس المستوطنون، في موقعهم الجديد، قاعدة للاستعمار الغربي، وتتعهد الصهيونية بتحقيق مطالب الغرب ذات الطابع الإستراتيجي ومنها الحفاظ على تَفتُّت المنطقة العربية.

2 ـ أهداف أخرى:

أ ) يتم بذلك تخليص العالم الغربي من اليهود الزائدين، باستيعابهم في ذلك الجيب وتحويل فيض المهاجرين من يهود اليديشية.

ب) عن طريق نَقْل اليهود، ستقوم الحركة الصهيونية بالسيطرة على الشباب اليهودي وتسريب طاقته الثورية من خلال القنوات الصهيونية.

جـ) ستقوم الحركة الصهيونية بحشد يهود العالم وراء المشروع الصهيوني الغربي بحيث يصبحون عملاء ووكلاء للغرب أينما كانوا.

د ) ستقوم الحركة الصهيونية بتجنيد يهود الغرب المعروفين بثرائهم ليدعموا هذا المشروع الغربي دون أن تطالبهم بالهجرة.

هـ) عن طريق نقل اليهود، ستقضي الصهيونية على معاداة اليهود في الغرب.

ونظير ذلك، سيقوم الغرب (ككل) برعاية هذا المشروع ودَعْمه، كما أنه سيساعد الحركة الصهيونية في الهيمنة على يهود العالم الغربي (الذين يشكلون غالبية يهود العالم).

ولم يتوجه العقد بطبيعة الحال لمشكلة السكان الأصليين وكيفية حلها، ومع هذا يمكن القول بأن الحل مُتضمَّن في تَعهُّد الدول الغربية بضمان بقاء الدولة الوظيفية، الأمر الذي يعني استعدادها لاستخدام الآليات المألوفة المختلفة ضد السكان الأصليين من طَرْد أو إبادة أو محاصرة.

وبرغم تناقض بنود العقد، إلا أنه تم توقيعه (مجازاً) وأصبح قيام الصهيونية بـ "خدمة اليهود والمسيحيين" (على حد قول نوردو) ممكناً وبتوظيف المادة البشرية اليهودية في خدمـة الحضارة الغربيـة، ولذا "سـتقام الصلوات في المعـابد ]اليهودية] من أجل نجـاح هذا المشروع، وسـتُقام الصلـوات في الكنائـس أيضاً" (على حد قول هـرتزل).

وقد أُضيف بعد ذلك عقد تكميلي أو تفاهم بين يهود الغرب التوطينيين ويهود شرق أوربا الاستيطانيين بحيث تَكفَّل يهود الغرب بالجانب التوطيني بدعم المُستوطَن الصهيوني مالياً والضغط من أجله سـياسياً شريطة ألا تناقض مصالح المُستوطَن الصهيوني مصالح بلادهم، وبحيث يكتسبون شيئاً من هويتهم من خلال تَوحُّدهم العاطفي مع المُستوطَن الصهيوني مع بقاء ولائهم لأوطانهم، كما يتعيَّن على الصهاينة الاستيطانيين ألا يقوموا بشيء من شأنه إحراجهم أمام حكوماتهم أو وَضْع ولائهم لأوطانهم موضع الشك. أما الاستيطان والقتال والدفاع عن المصالح الإستراتيجية، فيقوم به الاستيطانيون في صهيون: أرض الميعاد والقتال.

وقد لعبت الصياغة الصهيونية المراوغة دوراً أساسياً في صياغة العقد وترويجه. كما تم توقيع العقد بإصدار إنجلترا وعد أو عقد بلفور. وقد عبَّر العقد عن نفسه عبر تاريخالصهيونية من خلال مذكرات تفاهم واتفاقيات عسكرية وإستراتيجية ودعم عسكري ومالي وسياسي فعلي.

الصفحة التالية ß إضغط هنا