المجلد الثالث: الجماعات اليهودية.. التحديث والثقافة 6

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

البلاشفة والجماعات اليهودية

The Bolsheviks and the Jewish Communities

تنطلق رؤية المفكرين الاشتراكيين، ماركس وغيره، من تجربتهم التاريخية في فرنسا وألمانيا والنمسا أساساً. وهي دول لم تكن فيها تجمعات يهودية كبيرة، كما أن اليهود كانوا مُركَّزين في الأعمال التجـارية والمالية، وزاد ارتباطهم بالنظام الرأسـمالي مع تطـوُّر المجتمعات. أما في شرق أوربا وروسيا على وجه الخصوص، فكان الوضع مغايراً تماماً إذ كانت تُوجَد أكبر كتلة بشرية يهودية ذات صفات شبه قومية واضحة تميِّزها اللغة اليديشية، كما أن ظروف التحديث أدَّت إلى تحوُّل قطاعات كبيرة من اليهود إلى بروليتاريا. ولذا، تجاهَل البلاشفة كلاسيكية ماركس عندما كان عليهم أن يتعاملوا مع جزء كبير من هذه الكتلة التي ورثوها ضمن ما ورثوا من روسيا القيصرية. ولم يكن من الصعب عليهم تجاهل كتيب ماركس، لأنه كان من أعماله الأولى ولم تكن أفكاره قد تبلورت بعد. مع هذا، يبدو أن البلاشفة، مثل ماركس من قبلهم، قد خلطوا بين مفهومين مختلفين تمام الاختلاف في منطلقاتهما وفي نتائجهما، وظنوا أنهما شيء واحد. أما المفهوم الأول فهو مفهوم الأمة اليهودية العالمية، وهو مفهوم صهيوني مطلق يفترض وجود وحدة يهودية عالمية ويهدف إلى تأسيس دولة يهودية لجمع الشعب اليهودي. أما المفهوم الثاني، فهو مفهوم اليهود بوصفهم أقلية قومية شرق أوربية لها خصوصيتها التي لا تختلف عن خصوصيات القوميات أو الأقليات الأخرى الموجودة في روسيا القيصرية. وهي خصوصية قد تفصل أعضاء الجماعة اليهودية عن محيطهم الثقافي الروسي أو البولندي، ولكنهـا لا تربطهم بالضـرورة بالجماعات الأخري في بقية العالم، وهذا هو طرح البوند. ولعل هذا الخلط هو نتيجة محاولة البلاشفة والماركسيين عموماً الوصول إلى مستوى تعميم، مرتفع وعلمي، يتجاهل كل الخصوصيات أو يوحِّد بينها بحيث لا يراها، وهذا هو ميراث عصر الاستنارة والنموذج المادي الذي يصر على مستوى عال من البساطة والوضوح والتعميم لا يتفق مع تركيبية الظاهرة الإنسانية. وهذا هو الذي أدَّى إلى تخبُّط السياسة السوفيتية بعض الوقت، وإلى عدم حسم المسألة اليهودية في الاتحاد السوفيتي إلا من خلال التطورات الاقتصادية للمجتمع الاشتراكي (ككل) خارج إطار الحلول النظرية المطروحة وبدون هدي كبير منها.

وقد انطلق لينين من تعريف محدد للأمة استقاه من كارل كاوتسكي، وهو أن الأمة جماعة لابد أن تكون لها أرض تتطوَّر عليها، الأمر الذي لم يكن متوافراً لليهود، ولابد أن تكون لها لغة مشتركة، وهو الأمر الذي توافر ليهود شرق أوربا وحدهم. ولكن لينين، مع هذا، لم ينظر إلى يهود شرق أوربا بوصفهم وحدة مستقلة داخل التشكيل السياسي الروسي والتشكيل الحضاري لشرق أوربا منفصلة عن يهود العالم. ولذا، فقد ناقش القضية من منظور أعلى نقطة تعميم فتساءل: هل اليهود، بشكل عام ومجرد، وفي كل زمان ومكان، يُشكِّلون قومية أم لا؟ وهل هناك وحدة عالمية تنتظم كل اليهود؟ وهل هناك خصوصية مقصورة عليهم أو لا؟ والإجابة على مثل هذا السؤال البسيط بسيطة للغاية، وهي أن كل اليهود بطبيعة الحال لا يشكلون قومية، وأنه لا وجود لأية وحدة بين يهود ألمانيا وبولندا وفرنسا وإنجلترا. فيهود فرنسا يتحدثون الفرنسية، ويهود إنجلترا يتحدثون الإنجليزية، ويهود ألمانيا يتحدثون الألمانية، ويهود شرق أوربا كانوا يتحدثون اليديشية، ويتحدث يهود القوقاز عدة لغات، ولكل جماعة يهودية موروثها الثقافي ووضعها الاقتصادي المتميِّز الذي تحدِّده حركيات المجتمعات التي يعيش في كنفها أعضاء الجمـاعات اليهودية. والخلل يكمن في درجة التعـميم التي ينطوي عليها السؤال، فهو لا يتفق مع طبيعة الظاهرة وتنوُّعها وعدم تجانسها.

وفي تصوُّرنا أن موقف لينين كان سيختلف تماماً لو أنه لم يطرح السؤال بهذه الطريقة، وتخلَّى عن مفهوم « اليهود ككل » و« في كل زمان ومكان »، وخفَّض من مستوى التعميم قليلاً ونظر إلى يهود شرق أوربا داخل الإطار الوحيد الممكن وهو التشكيل الحضاري الشرق أوربي، وطرح حلاًّ لمشاكلهم داخل هذا الإطار باعتبارهم أقلية قومية شرق أوربية.

ولأن اليهود، من وجهة نظر لينين، لا يشكلون أمة، فإن القضية تصبح هي مشكلة اندماجهم أو انعزالهم. ومن ثم، فإن حل المسألة اليهودية هو ببساطة دمجهم، وهي عملية يمكن أن تتم بأن ينخرط اليهود في النضال الثوري إلى جانب المُضطهَدين من الطبقة العاملة وغيرها من الطبقات على أن يذوب أعضاء الجماعة اليهودية في المجتمع الاشتراكي الكبير، أي أن الخاص (يهود شرق أوربا) لابد أن يذوب في العام (المجتمع الثوري الجديد). وهذا هو النمط الكامن في فكر حركة الاستنارة وفي كل الحلول الماركسية.

ولهذا، وقف لينين موقف المعارضة الكاملة لا من فكرة القومية اليهودية العامة العالمية الوهمية (أي الصهيونية)، وإنما أيضاً من فكرة الخصوصية اليديشية المحدودة والمقصورة على يهود شرق أوربا، وهي الفكرة التي طرحها حزب البوند الذي طالب بقدر من الاستقلال الثقافي للعمال اليهود يتناسب مع هويتهم الثقافية المحددة وخصوصيتهم، ولا يختلف عن استقلال الأقليات والطوائف الأخرى، ويترجم نفسه إلى استقلال تنظيمي. كما رفض لينين بالتالي أي استقلال تنظيمي لحزب البوند أو ما سُمِّي «الوحدة الفيدرالية»، ورأى أن مبدأ الاستقلال الذاتي يفي بكل احتياجات اليهود من أعضاء الطبقة العاملة، ويكفل لها أن تقوم بالدعاية لبرنامج الحزب باليديشية، وأن تعقد مؤتمراتها الخاصة، وأن تقدِّم مطالب مستقلة تدخل في برنامج واحد يُعبِّر عن الاحتياجات المحلية وخصوصية الحياة اليهودية. ذلك لأن الهدف النهائي هو اندماج أعضاء الطبقة العاملة من اليهود اندماجاً كاملاً في الطبقة العاملة الروسية. وثمة نظرية تذهب إلى أن معارضة لينين للبوند كانت في واقع الأمر نابعة من اعتبارات عملية سياسية غير نظرية،وأن كل تحليلاته هي عبارة عن مسوغات وديباجات لتبرير رغبته في تصفية البوند.

وكان تروتسكي الزعيم الماركسي اليهودي هو الآخر ضد فكرة القومية اليهودية، ولذا فقد عارض الصهاينة، وكان يرى أن حل المسألة اليهودية لا يكون عن طريق تأسيس دولة يهودية بين دول أخرى غير يهودية، وإنما يكمن في إعادة تركيب المجتمع تركيباً أممياً متماسكاً.إلا أنه عارض أيضاً مفهوم الأقلية اليهودية باعتبارها أقلية قومية شرق أوربية، ولذا عارض البوند.

ولا يخرج موقف ستالين عن موقف الزعماء الماركسيين السابقين، فقـد بيَّن أن اليهـود ككل لا يجمعـهم إلا الدين، وقد يكون لهم طابع قومي، ولكنهم لا يكوِّنون أمة واحدة عالمية، ذلك لأنهم متفرقون اقتصادياً، ويعيشون على أراض مختلفة، ويتكلمون لغات متعددة وليس لهم ثقافة مشتركة. وهذا، مرة أخرى، أمر بدهي واضح. ولكن ستالينارتكب الخلل التحليلي نفسه الذي ارتكبه كل من لينين وماركس وإنجلز من قبله وهو التعامل مع الظاهرة على مستوى تعميم وتخصيص لا يتفق مع طبيعتها، وقد رفض، بطبيعة الحال، فكرة القومية اليهودية العالمية التي تنتظم كل يهود العالم. ولأن مثل هذه القومية غير موجودة، يتم الانتقال إلى الحد الأدنى، أي افتراض عدم وجود أية وحدةعلى الإطلاق، دون البحث عن مستوى وسيط من الخصوصية يتمثل في قومية يهودية يديشية مقصورة على يهود شرق أوربا وحدهم دون سواهم.

وقد تبنَّى خروشوف نفس الموقف المطلق الكلي، في تعليق له بجريدة الفيجارو في 9 أبريل 1959، إذ تحدَّث عن اليهود بشكل عام ومجرد، وبيَّن أن اليهود هم المـسئولون عن فشل تجربـة بيروبيجان « فاليهود منذ أقدم الأزمنة فضلوا الحرف الفردية، وهم لا يحبون العمل الجماعي ولا الانضباط الجماعي، كما أنهم في جميع الأوقات فضلوا أن يكونوا مُشتَّتين. وهم في الواقع فرديون، ومنذ قرون لا تُحصَى، لم يستطيعوا أن يعيشوا مجتمعين، أو أن يستمدوا وجودهم وتوازنهم من أنفسهم ». وهذا حديث لا يختلف عن نقد فولتير أو ماركس لليهود بشكل عام. ولو تخلَّى خروشوف عن مقولة اليهود، وتحدَّث بدلاً من ذلك عن الجماعات اليهودية المختلفة، فربما استطاع أن يُفسِّر الواقع اليهودي في الاتحاد السوفيتي، وأن يبين سبب رفض اليهود الاستيطان في بيروبيجان. ولأن السوفييت يرفضون فكرة أن اليهود يكوِّنون شعباً، فإنهم يرفضون الصهيونية ويعتبرونها حركة رجعية، بل استغلالية.

ومن الواضح أن موقف البلاشفة من المسألة اليهودية، رغم معاداته الضارية للصهيونية ومعاداة اليهود، ورغم اعترافه من البداية باليديشية لغة قومية ورفض الاعتراف باللغة العبرية باعتبارها لغة قومية وهمية، خضع لبعض الوقت للصياغات العامة والمقولات المجردة، مثل مقولة « اليهود ككل ». ولكن هذا الوضع تم تصحيحه فيما بعد بتأسيس منطقة بيروبيجان، إذ كانت هذه الخطوة تعني ضمناً قبول ما رفضه لينين، وهو أنه إذا كان اليهود لا يشكلون أمة بالمعنى المطلق، فيهود روسيا يشكلون أقلية قومية روسية لها وضعها الثقافي المتميِّز ولها خصوصيتها التي لا تستمدها من جوهر يهودي عام، وإنما من تجربتها تحت ظروف اجتماعية وحضارية معينة في شرق أوربا، ولم يبق سوى توفير الأرض لها لتصبح أقلية قومية مثل مئات الأقليات الأخرى في الاتحاد السوفيتي.

وقد حُسمت مسـألة الاندماج والعزلة اليهـودية، في ثلاثينيـات القرن، لا من خلال الأطروحات الماركسية أو البلشفية وإنما من خلال تغيُّرات بنيوية في المجتمع. فمع تصاعد حركة التصنيع داخل الاتحاد السوفيتي، تمتَّع أعضاء الجماعة اليهودية بحراك اجتماعي غير عادي، ونتج عن فرص الترقي أمام اليهود تفتُّت التجمعات اليهودية فزادت معدلات الاندماج واختفت اليديشية تقريباً، ولم تهاجر أعداد كبيرة إلى بيروبيجان. ومما ساعد على الاندماج، الهجرة اليهودية إلى الولايات المتحدة التي كانت تضم كثيراً من العناصر اليهودية الشابة والعناصر ذات التوجه الصهيوني التي كان يمكنها أن تحافظ على عزلة اليهود. ولم تكن عملية الدمج والاندماج سهلة أو بسيطة، فتقاليد معاداة اليهود في الاتحاد السوفيتي قديمة وراسخة وكثيراً ما انعكست من خلال البيروقراطية السوفيتية ذاتها.

وإذا انتقلنا من استعراض موقف الفكر البلشفي إلى تأمُّل موقف الاتحاد السـوفيتي من المسـألة اليهـودية، فإننا نجد الأمر لا يختلف كثيراً. فالقانون السوفيتي يجعل من الصهيونية ومعاداة اليهود جريمتين يعاقب عليهما القانون. وقد أُلغيت جميع التنظيمات الصهيونية وأصبح نشاطها غير شرعي، مع أن روسيا كانت مركز النشاط الصهيوني في العالم. ووقف المندوبون السوفييت، في المنظمات والمؤتمرات الشيوعية، ضد السماح للأحزاب الصهيونية ذات الديباجات الماركسية البوروخوفية بالانضمام إليها حتى لا تكتسب أية شرعية.

البلاشفـــــة والصهيونيـــة

The Bolsheviks and Zionism

أيَّد الاتحاد السوفيتي قيام الدولة الصهيونية، واعترف بها فور قيامها. ولقد تحدَّث المندوب السوفيتي في هيئة الأمم عن الشعب اليهودي الذي لاقى الاضطهاد، أي أنه كان يتحرك داخل الإطار المجرد والعام لمقولة اليهود التي رفضها البلاشفة من قبل، وليس داخل إطار يهود شرق أوربا بوصفهم أقلية قومية.

ونود هنا أن نطرح عدة تساؤلات هي: هل كان الموقف البلشفي والسوفيتي المبدئي ينبع من اعتبارات عقائدية أم أنه كان وليد الاعتبارات العملية وحدها؟ وهل يُعتبَر إصرار السوفييت على أنه لا يُوجَد شعب يهودي، ثم إصرارهم أيضاً على أن يهود اليديشية لا يُشكِّلون قومية سلافية وكذلك طرحهم الاندماج كنوع من الحل، إصراراً نابعاً من النسق الماركسي أو هو حل نابع من الواقع العملي الروسي السوفيتي؟ نحن نميل إلى الاعتقاد بأن التطورات اللاحقة ترجح أن كلاًّ من الاعتبارات العملية والتقاليد السياسية الروسية القيصرية هي التي قررت مسار القضية، كما نرى أن سياسة البلاشفة تجاه يهود الاتحاد السوفيتي امتداد للسياسة القيصرية الشمولية التي كانت تهدف إلى دمج وتذويب أعضاء الجماعة اليهودية باعتبارهم عنصراً غريباً ثقافته ألمانية وولاؤه مشكوك فيه، فألمانيا هي عدو روسيا الأكبر. وهناك من القرائن ما يشير إلى أن مشروع توطين اليهود في شبه جزيرة القرم قد استُبعد بعد البدء فيه نظراً لقرب القرم من ألمانيا، وأنه نُقل إلى بيروبيجان بعيداً عن أي مركز جذب أوربي. ولكن، مع بداية الأربعينيات، وتصاعُد النفوذ النازي الذي كان يشكل تهديداً قوياً للدولة السوفيتية، بدأت الاتصالات بين السوفييت والصهاينة، وشُكِّلت في بداية الأمر لجان يهودية لمناصرة السوفييت ولمناهضة الفاشية. وفي عام 1943، وضمن إطار الاستعدادات للتسوية النهائية لعالم ما بعد الحرب، بدأ السوفييت يتحدثون في إطار أن المشكلة اليهودية ستصبح مشكلة عالمية ملحة مع نهاية الحرب، لا مجرد مشكلة ألمانية أو حتى مشكلة غربية. ومن ثم، فلابد أن يحددوا موقفهم منها بوضوح وفي إطار عالمي.

وفي أكتوبر 1943، قام إيفان مايسكي، نائب وزير الخارجية السوفيتي، بزيارة إلى فلسطين قام خلالها بزيارة الكيبوتسات ومناقشة مشاكل الاستيطان مع بن جوريون وجولدا مائير، ولم يتصل بالجانب العربي قط. ويبدو أن مايسكي بدأ سياسة مراجعة موقف السوفييت من الاستيطان الصهيوني، إذ كان يرى أن « من الواضح أن اليهود الاشتراكيين والتقدميين في فلسطين سيكونون أكثر فائدة لنا من العرب المتخلفين الذين تسيطر عليهم مجموعات إقطاعية من الباشوات والأفندية ». وقد استمرت هذه النغمة طيلة الحرب وبعدها وأصبحت لبنة أساسية في الديباجات الاشتراكية الصهيونية. وأخذ السوفييت يتحدثون عن الدولة الصهيونية باعتبارها الدولة الديموقراطية الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما أنها كانت تسمح للحزب الشيوعي بممارسة نشاطاته بشكل قانوني. كما أن الأحزاب الصهيونية ذات الديباجات الاشتراكية المتطرفة كانت تُشكِّل من وجهة نظرهم نواة للاشتراكية في المنطقة!

ويبدو أن هذا هو المنطق الذي ساد، إذ أن مستشاري ستالين، كما يُقال، قد نصحوه بأن إقامة الدولة الصهيونية في الشرق الأوسط المتخلف ستُدخل عنصراً من عدم الاتزان والصراع في المنطقة وهو ما سيؤدي إلى تثويرها، حتى ولو كانت هذه الدولة نفسها دولة رجعية واستعمارية! وهذا يعني أنه نسب للدولة الصهيونية نفس الدور أو الوظيفة التي نسبها الفكر الماركسي لليهود بوصفهم جماعة وظيفية وسيطة تقوِّض دعائم المجتمع دون أن تقوم هي ببناء المجتمع الجديد. بل كان هناك رأي يذهب إلى أن الدولة الصهيونية ستؤدي إلى نوع من أنواع الاستقطاب الطبقي بحيث تتحالف الرجعية الغربية مع الرجعية اليهودية ويتحالف أعضاء الطبقة العاملة من العرب واليهود ضدأعدائهم الطبقيين، أي أن المنطقة بهذه الطريقة يتم إدخالها في العملية التاريخية الكبرى، عملية استقطاب الرأسماليين والعمال، بحيث يتم استقطاب كل التفاعلاتوالتناقضات في عملية واحدة ذات قطبين متعارضين. ولكن مهما كانت الأسباب والدوافع، فإن التطورات اللاحقة بينت خلل المقدمات.

ويرى بعض المحللين العسكريين أن اندفاع موسكو وانضمامها إلى الولايات المتحدة في تأييد قيام دولة يهودية يُعتبَر خطوة ذكية لإحداث شرخ دائم في العلاقات الأمريكية العربية حول فلسطين. فقد كان السوفييت يدركون أنهم لن يخسروا شيئاً في المنطقة لأنهم لا يملكون شيئاً فيها، على عكس وضع الولايات المتحدة الأمريكية التي ستخسر الكثير من جراء هذا الموقف.

ومهما كانت الديباجات، قومية أو طبقية، بيروقراطية أو ثورية، فإن من الواضح أنه قد تقرَّر توظيف فلسطين وشعبها في خدمة المصالح الإستراتيجية للاتحاد السوفيتي،وكان يُفترَض أن انتشار الاشتراكية يخدم هذه المصالح. وقد تكون هذه الديباجات الاشتراكية زائفة أو حقيقية، ولكن ما يهم هو أن الدولة السوفيتية بدأت تدرك دورهاباعتبارها قوة عظمى وأن من الضروري أن يكون لها دور تلعبه في الصراع.

وقد ظهر هذا الاهتمام العملي بفلسطين، بوصفها عنصراً يُوظَّف في خدمة المصالح، في صورة تحوُّل كامل على المستوى العقائدي وعلى مستوى الخطاب السياسي. ويُلاحَظ أنه، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بدأ تأييد الاتحاد السوفيتي لفكرة الدولة اليهودية في فلسطين يتخذ صوراً واضحة. ففي فبراير عام 1945، عُقد مؤتمر نقابات العمال العالمي في لندن وصوَّت الوفد السوفيتي إلى جانب قرار يؤيد إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. ونص القرار أيضاً على ضرورة إيجاد علاج أساسي عن طريق عمل دولي لإصلاح الخطأ الذي وقع على الشعب اليهودي، وأن تكون حماية اليهود من الاضطهاد والتمييز في أي بلد من بلدان العالم من واجب السلطات الدولية الجديدة. وأن يُعطَى اليهود الفرصة في الاستمرار لبناء فلسطين كوطن قومي عن طريق الهجرة والاستيطان الزراعي والإنماء الصناعي، على أن يكون ذلك مقروناً بتأمين المصالح الشرعية لكل السكان في فلسطين، وتأمين المساواة في الحقوق والفرص كذلك. وهذا جزء لا يتجزأ من الخطاب السياسي الغربي العلماني النفعي الذي لا تثقله أية مثاليات أو مطلقات.

كما اتفق ستالين مع كل من روزفلت وتشرشل في مؤتمر يالطا في فبراير عام 1945 على ضرورة إنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين، وعلى وجوب إزالة كل معوقات الهجرة اليهودية إلى فلسطين فوراً مقابل السماح للسوفييت بإقامة مناطق نفوذهم في أوربا الشرقية. وبادر الاتحاد السوفيتي في يوليو من العام نفسه إلى الاعتراف بالوكالة اليهودية وسمح بفتح مكتب لها في موسكو. ثم قام جروميكو بتأييد قرار التقسيم حتى يتم التعايش بين الشعبين العربي واليهودي في أبريل 1947. وتحدث جروميكو في 13 أكتوبر 1947 من العام نفسه عن ارتباط الشعب اليهودي (التاريخي) بفلسطين، وأشار إلى الظروف التي وجد الشعب اليهودي نفسه فيها نتيجةً للحرب. وهنا لا نجد مجرد منطق ذرائعي، وإنما نجد كل مكونات الخطاب الغربي العنصري تجاه اليهود باعتبارهم شعباً ومادة استيطانية متحركة لها ارتباط أزلي بفلسطين، الأمر الذي يعطيها حقوقاً أزلية في هذه الأرض، خصوصاً أن ما يعانيه اليهود في الغرب لابد من تعويضهم عنه في الشرق، وهذا هو منطق الإمبريالية. كما يمكن استخدام هذا الوضع لخدمة الحضارة الغربية متمثلة هذه المرة في الاتحاد السوفيتي والاشتراكية العالمية والعلمية. وهذا هو الموقف الغربي التقليدي من الجماعة الوظيفية الوسيطة التي تُستخدَم كأداة. ولذا، ليس من المدهش معرفة أن الاتحاد السوفيتي هو أول دولة منحت إسرائيل اعترافاً قانونياً، وبذلك أعطتها مصداقية كانت في أمس الحاجة إليها. ومما يجدر ذكره أن من مجموع إحدى عشرة دولة اعترفت بإسرائيل خلال شهر واحد من إقامتها كان من بينها ستٌ من دول الكتلة الاشتراكية.

ولم تكن علاقة الاتحاد السوفيتي بالصهيونية على مستوى العقيدة النظرية أو على مستوى الاعتراف القانوني وحسب، وإنما امتدت لتشمل الدعم البشري والعسكري، إذ سهَّل السوفييت عملية الهجرة للعديد من يهود بولندا إلى مناطق احتلال الحلفاء في النمسا وألمانيا مدركين أن هؤلاء المهاجرين سيتوجهون في النهاية إلى فلسطين. كما أن تشيكوسلوفاكيا زودت المستوطنين بالأسلحة التي لعبت دوراً أساسياً. ويبدو أن السوفييت في الخمسينيات، حينما اكتشفوا عدم جدوى الدولة اليهودية وعدم نفعها، قطعوا العلاقات السياسية معها ودخلوا في تحالف مع العرب. ولكن، مع تغيُّر سياسة الدولة السوفيتية باتجاه الانفتاح، شهدت العلاقات مع إسرائيل تحسُّناً مرة أخرى، إلى أن فُتحت بوابات الهجرة على مصاريعها أمام من يريد أن يهاجر من أعضاء الجماعات اليهودية.

الطبقة العاملة اليهودية أو البروليتاريا اليهودية

Jewish Working Class or Proletariat

مصطلح «الطبقة العاملة اليهودية» أو «البروليتاريا اليهودية» مصطلح يشبه مصطلحات أخرى مثل «الرأسمالية اليهودية» أو «البورجوازية اليهودية». ويتمثَّل وجه الشبه في افتراض أن ثمة استقلالاً يهودياً، وأن اليهود يشكلون طبقات خاصة مستقلة عن طبقات المجتمع. ونحن نفضل استخدام مصطلحات مثل: «العمال من أعضاء الجماعات اليهودية» أو «العمال الأمريكيون اليهود» وذلك باعتبار أن اليهود يشكلون جزءاً من كل، ويخضعون إلى حدٍّ كبير لحركيات هذا الكل وآلياته وقوانينه.

العمـال من أعضــاء الجماعـات اليهوديـة

Jewish Members of the Working Class

يستخدم كثير من الدارسين مصطلحات مثل «البروليتاريا اليهودية» و«الطبقة العاملة اليهودية». وتشير كلمة «البروليتاريا» في اللغات الأوربية إلى طبقة من السكان لا تملك شيئاً بما في ذلك وسائل الإنتاج التي تستخدمها، وتكسب رزقها من عمل يدها، وتُستخدَم هذه الكلمة مرادفة لكلمة «طبقة عاملة». والبروليتاري هو العامل (مقابل الرأسمالي الذي يمتلك وسائل الإنتاج والفلاح الذي يعمل في الزراعة). ويشكل مفهوم البروليتاريا اليهودية أو الطبقة العاملة اليهودية إشكالية أساسية في الأدبيات التي تتناول وضع الجماعات اليهودية في أوربا. وقد عبَّر عن هذه القضية المفكر الصهيوني بوروخوف في فكرة الهرم الإنتاجي المقلوب، والتي تتلخص في أن اليهود يتركزون في المهن والحرف ويندُر وجودهم في صفوف الفلاحين والعمال على عكس معظم الشعوب الأخرى. وهو بطبيعة الحال مفهوم قيمته التفسيرية والتصنيفية ضعيفة إلى أقصى حد. فاليهود ليسوا شعباً، وإنما جماعات يهودية تضطلع بدور الجماعات الوظيفية وتعيش بين مختلف الشعوب، وتتحدَّد طبيعة وظيفتها ووجودها في الهرم الإنتاجي بين المهنيين وبالقرب من أعضاء الطبقة الحاكمة باعتبارهم أداة في يدها لامتصاص فائض القيمة من المجتمع ولإنجاز أغراض أخرى. وقد تحوَّل بعض أعضاء هذه الجماعات إلى عمال انخرطوا في صفوف الطبقات العاملة المختلفة. ولكل هذا، فإننا نفضل استخدام مصطلحات مثل «العمال من أعضاء الجماعات اليهودية» أو «العمال الأمريكيون اليهود» أو أية صيغة أخرى تؤكد أن العمال من أعضاء الجماعات اليهودية ليس لهم وجود يهودي مستقل وأنهم جزء من كل، وذلك لأن القيمة التفسيريةوالتصنيفية لمثل هذه المصطلحات أعلى بكثير من مصطلح «البروليتاريا اليهودية».

وقد انخرطت أعداد كبيرة من يهود اليديشية في شرق أوربا في صفوف الطبقة العاملة ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر، مع تزايُد معدلات تحديث اقتصادالإمبراطورية الروسية التي كانت تضم أكبر كتلة بشرية يهودية في العالم. كما انخرطت أعداد من أعضاء الجماعات اليهودية بنسبة أصغر في الطبقة العاملة في الإمبراطورية النمساوية.

أما في البلاد الأخرى، مثل الولايات المتحدة وإنجلترا وإلى حدٍّ ما فرنسا، فإن تاريخ العمال من أعضاء الجماعات اليهودية مرتبط بالهجرة من شرق أوربا ولا علاقة له بالحركيات الداخلية للمجتمع في أيٍّ من هذه البلاد.

وقد تركت التحولات الاجتماعية الضخمة في روسيا والنمسا أثرها في أعضاء الجماعات اليهودية، إذ فقد كثير من الحرفيين اليهود وظائفهم بظهور الصناعة الحديثة، وكذا التجار والمرابون اليهود الذين كانوا مرتبطين بالاقتصاد الزراعي. كما أن البورجوازيات الصاعدة والدولة القومية المطلقة التي كانت تريد السيطرة على كل جوانب الإنتاج، حرَّمت على اليهود العمل في بعض الوظائف التي كانوا يضطلعون بها كجماعة وظيفية، مثل صناعة الكحول والاتجار فيها. وأدَّى هذا الوضع إلى وجود عمالة يهودية ضخمة لا تمتلك وسائل الإنتاج وليس لديها رأس مال كاف الأمر الذي جعلها تنخرط في صفوف الطبقات العاملة، وكانت هذه العملية صعبة بعض الشيء في أوربا الشرقية بسبب الميراث الاقتصادي والتقاليد السائدة. أما العناصر المهاجرة، وهي عناصر أكثر حركية في العادة، فلم تجد صعوبة شديدة في التحول إلى عمال بسبب عدم وجود عوائق نفسية أو حضارية أو قانونية، وإن كان الميراث الاقتصادي ووضعهم كمهاجرين قد وجههم نحو قطاعات معينة دون غيرها. ومن الأمور التي تستحق التسجيل أن الصناعات التي كان يملكها يهود داخل منطقة الاستيطان استفادت في بداية الأمر من العمالة اليهودية. أما في الولايات المتحدة، فقد نجح أصحاب مصانع النسيج من اليهود من أصل ألماني في أن يستفيدوا من العمالة اليهودية الوافدة واستغلوها استغلالاً كاملاً فيما يُسمَّى «ورش العَرَق». وقد بلغ عدد العمال من أعضاء الجماعات اليهودية في أوربا، قبل الحرب العالمية الثانية، مليوناً ونصف المليون من مجموع يهود العالم البالغ عددهم نحو ستة عشر مليوناً، منهم: 400 ألف في الولايات المتحدة، و300 ألف في الاتحاد السوفيتي، و300 ألف في بولندا، و100 ألف في فلسطين، و400 ألف في البلاد الأخرى مثل إنجلترا وفرنسا وألمانيا والمجر ورومانيا وبلدان أمريكا اللاتينية. ويُلاحَظ أن هذه الأرقام تشير إلى العمال وحسب، ولا تشير إلى كل العاملين في الصناعة من موظفين إداريين.

وقد ترك الميراث الاقتصادي لليهود أثره في العمال من أعضاء الجماعات اليهودية. فيُلاحَظ تركُّزهم في صناعات بعينها دون غيرها مثل صناعة الملابس والخياطة. وهذا يعود في الواقع إلى اشتغال اليهود بالربا وأعمال الرهونات. وكان من أكثر أعمال الرهونات الملابس المستعملة التي كان اليهودي يُعيد ترقيعها وبيعها. كما أن عدم كفاءة العمال اليهود، بسبب انخراطهم المتأخر في سلك الطبقة العاملة، ساهم في توجيههم نحو صناعات بعينها دون غيرها. وتتسم الصناعات التي تركَّز فيها اليهود بصغرحجمها وقربها من المراحل النهائية للإنتاج مثل إنتاج السلع المُصنَّعة أو نصف المُصنَّعة مقابل إنتاج وسائل الإنتاج، وهي صناعات لا تتطلب كفاءات عالية، بل تستندأحياناً إلى الصناعات المنزلية.

وتدل إحصاءات عام 1897 في روسيا على صدق هذا القول، إذ بلغ عدد العمال اليهود الذين تركزوا في النشاطات الصناعية الأساسية أو الأولية، مثل سبك المعادن، نحو 7.7%. أما في صناعات المرحلة الوسطى أو المرحلة الثانية، مثل صناعات المعادن والنسيج والبناء، فقد بلغت نسبتهم 19,7%، وبلغت نسبة العاملين في صناعات المرحلة النهائية أو صناعات المرحلة الثالثة، مثل الأطعمة والمشروبات والتبغ والملابس، نحو 45,5%.

أما في جاليشيا، ففي المجموعة الأولى الأساسية نجد 9و5%، وفي المجموعة الوسيطة الثانية 14,5%، وفي المجموعة النهائية الثالثة 47,7%. والنمط نفسه يوجد في بولندا، ففي إحصاء عام 1921 نجد أن 1,5% من العمال اليهود يُوجَد في المناجم، و3,4% في صناعة المعـادن، و0,8% في صـناعات الآلات، و2,9% في الصـناعات الكيميائية، و2,9% في صناعة البناء، و5,9% في صناعة الأخشاب، و13,7% في صناعة النسيج، و43,6% في صناعة الملابس، و12,5% في صناعةالأغذية. وقد وُزِّعت البقية على كل الفروع الأخرى. ومعنى ذلك أن العمال اليهود يوجدون أساساً في الصناعات الاستهلاكية. وربما كان الاستثناء الوحيد للقاعدة هوفلسطين، حيث كان العمــال من المسـتوطنين الصهــاينة يعملــون في الصـناعات كافة، وكان هذا جزءاً من المخطط الإحلالي الذي أخذ شكل اقتصاد صهيوني منفصل يكتفي بالعمالة اليهودية. كما يُلاحَظ أنه في الاتحاد السوفيتي، بعد عام 1928، بدأ يتواجد العمال اليهود في جميع الصناعات بما في ذلك الصناعات الثقيلة. ولكن، مع هذا، ظل النمط الأساسي الذي أشرنا إليه سائداً.

وحيث إن العمال من أعضاء الجماعات اليهودية كانوا يتركزون في صناعات خفيفة، لذا نجد أن هذا انعكس على نفوذهم وثقلهم الذي ظل ضئيلاً، فمارسوا ضغطهم من خلال الاتحادات والأحزاب العمالية المختلفة القائمة، أي أنهم لم يشكلوا حركة عمالية يهودية مستقلة. ومع هذا، ظهر حزب البوند الذي حاول تنظيم العمال اليهود من المتحدثين باليديشية. ويُلاحَظ أن حزب البوند لم يكن يتحدث عن طبقة عاملة يهودية عالمية، وإنما كان يتحدث عن عمال يهود في شرق أوربا لهم ظروفهم الثقافية (وربما الاقتصادية) الخاصة، وهو الرأي الذي رفضه البلاشفة. ومع اختفاء الثقافة اليديشية، اختفى تماماً أي أساس لوجود تنظيم عمالي يهودي (يديشي) مستقل. وعلى كلٍّ لم يَعُد هناك عمال يهود في الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، أي أن أحفاد العمال من أعضاء الجماعات اليهودية دخلوا الجامعات وانخرطوا في صفوف المهنيين والطبقة الوسطى وحققوا حراكاً اجتماعياً ابتعد بهم عن إطار العمال والعمل اليدوي.

الحركة الشعبوية الروسية (نارودنكي(

Narodnichestvo (Narodniki)

«الحركة الشعبوية الروسية» حركة ظهرت بين فئة المثقفين الروس في الستينيات من القرن التاسع عشر وعُرفت باسم «نارود نيشيتفو»، وعُرف أتباعها باسم «النارودنيك» نسبة إلى «النارود» أو «الشعب العضـوي» (فولك) وسـنشير إليهم بمصطلح «الشعبويون الروس». وقد اشتد نشاط هذه الجماعة خلال السبعينيات ووصلت إلى ذروتها حينما قام جناحها الإرهابي باغتيال ألكسندر الثاني، قيصر روسيا، عام 1881. وعبَّرت هذه الحركة عن نفسها بالدعوة إلى « العودة إلى الشعب » حيث كان الشعبويون يسعون إلى الاختلاط والاندماج مع الشعب الكادح والعمل على تثويره وخدمة الفلاحين في مطالبهم ومصالحهم اليومية. وجمعت هذه الحركة بين الفكر الاشتراكي الغربي والفكر الماركسي ومفاهيمه حول فائض القيمة ورفض الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج من جهة، ومن جهة أخرى النزعة السلافية المشيحانية وإيمانها بالشعب الروسي، وخصوصاً جماهير الفلاحين، وبالفضائل الكامنة فيه. وفي حين كانت النزعة السلافية ترى أن سرَّ الحياة والحقيقة الدينية مستترة وكامنة في هذا الشعب، كان الشعبويون يؤمنون بأن الحقيقة الاجتماعية كامنة فيه، وأن هذه الحقيقة محجوبة عن الطبقات الحـاكمة المثقـفة التي تقـوم حيـاتها وثقافتها على استغلال عمل الشعب، وبالتالي فيجب على فئة الإنتليجنسيا (المثقفين) التي انفصلت عن الشعب، الذي يعيش ملتصقاً بالأرض، أن تعود إلى الشعب وإلى الأرض. كما آمن الشعبويون بطريق خاص لتطوُّر روسيا وأن بإمكانها الإفلات من مرحلة الرأسمالية البورجوازية وفظائعها والانتقال مباشرة إلى الاشتراكية الحديثة، خصوصاً أن حياة الفلاح تدور حول «الكوميون» أو القرية المشاعية التي مجَّدها الشعبويون مثلما مجَّدها قبلهم أنصار النزعة السلافية واعتبروها نتاجاً أصيلاً للتاريخ الروسي، والنمط المثالي أو الأعلى الذي يجب أن يحتذيه المجتمع بأسره في عمليات الإنتاج والتوزيع.

وانضم كثير من أعضاء الجماعات اليهودية من المثقفين إلى هذه الحركة، وكانوا من دعاة الاندماج الذين يؤمنون بأن حل المسألة اليهودية يأتي من خلال تحرير الجماهير الروسية أولاً، وبالتالي أعطوا أولوية للعمل الثوري داخل الإطار الروسي على العمل من أجل حل مشاكل اليهود. كذلك اعتبروا أن الجماعة اليهودية في روسيا في أغلبها طبقة بورجوازية من التجار والحرفيين المستغلين. وأكد بانيل أكسيلرود (1850 ـ 1928) ـ وهو من أهم المثقفين الروس اليهود من الشعبويين، إيمانه بأن المسألة اليهودية لن تُحَل إلا بتحرير الجماهير الروسية. ومن هذا المنطلق، شارك الثوريون اليهود الشباب الروسي في حركة «الذهاب إلى الشعب الروسي» والعمل الدعائي والتنويري بين جماهير الفلاحين. وكما قال أحد الثوريين اليهود آنذاك: « نحن شعبويون روس، والفلاحون هم إخواننا الطبيعيون ». ولكي يكسبوا ثقة الفلاحين، قام الشعبويون من اليهود وغير اليهود بتعلُّم الزراعة والحرف والتعرف على التقاليد الشعبية للفلاحين وأسلوب حديثهم وارتدوا ملابسهم. بل ذهب بعض اليهود إلى أبعد من ذلك حيث اعتنق بعضهم المسيحية الأرثوذكسية (وذلك رغم أن فلسفة الحركة الشعبوية كانت فلسفة إلحادية ووضعية) حتى يوجدوا رابطة روحية بينهم وبين الفلاحينالمتدينين، فالمسيحية الأرثوذكسية بالنسبة للشعبويين الروس كانت جزءاً من الفلكلور أو الميراث الثقافي الشعبي الروسي. ومن أبرز الشعبويين الروس اليهود جوزيف أبتكمان الذي اعتنق المسيحية، وكذلك ليف ديتش اليهودي المتروِّس الذي ارتدى ثياب الفلاحين وعمل بينهم في القرى الروسية.

ولكن جهود الشعبويين لم تنجح في نهاية الأمر، فهم من ناحية تعرضوا للمطاردة والاعتقال والمحاكمات السياسية من قبَل السلطات. ومن ناحية أخرى، لم تتجاوب معهم جماهير الفلاحين التي وجدت أفكار المثقفين القادمين من المدن غريبة عليهم، كما كان افتقار الشعبويين إلى الدين من دواعي نفور الشعب الروسي المتدين منهم، والذي قام أفراده أنفسهم بتسليمهم إلى أيدي السلطات.

وتُعَدُّ سيرة حياة أكسيلرود وتأرجُحه بين الحلول الشعبوية والثورية من جهة والحل الصهيوني من جهة أخرى نمطاً متكرراً بين كثير من المثقفين الروس اليهود الثوريين. وأكسيلرود هو أحد مؤسسي الحزب الاشتراكي الروسي، وُلد في إقليم شيرنيجون وعاش طفولته في فقر شديد. وقد بدأ أكسيلرود نشاطه الثوري عام 1872 حينما كان طالباً في كييف، وانضم للحركة الشعبوية الروسية. ولكنه اضطر تحت وطأة الاضطهاد القيصري إلى الفرار عام 1874 إلى الخارج حيث عاش لفترة في برلين درس خلالها الحركة الاشتراكية الألمانية، ثم استقر في جنيف حيث واصل نشاطه الثوري. وكان على اتصال وثيق بمنظمة «الأرض والحرية» وقام بتحرير جريدتها. وقد تكونت هذه المنظمة السرية عام 1876 كرد فعل للمطاردة الحكومية.

وعلى صعيد العمل السياسي، اختلف الشعبويون فيما بينهم، إذ اجتمعت آراء الجناح المعتدل على أهمية العمل التنويري والدعائي بين جماهير الفلاحين من أجل تقويض النظام القيصري وفرض نظام ديموقراطي. ولكنهم اختلفوا حول كيفية تنفيذ ذلك المخطط، فآمن الفوضوي باكونين بأنه يكفي تحريض الشعب على الثورة دون أن تسبق ذلك مرحلة تعليم للشعب، وأن قوة الانتفاضات الفلاحية ستنتج عنها تحولات سياسية. أما لافروف، فكان يرى ضرورة تنوير الشعب وتعليم جماهير الفلاحين أولاً على أن تَعقُب ذلك الإصلاحات السياسية والثورة.

أما الجناح الراديكالي، فدعا إلى الإطاحة بالنظام القيصري بالقوة واستيلاء أقلية ثورية على السلطة تفرض سلطانها على جماهير الشعب وتقوم بتعليمه وتنويره إلى أن يصل إلى مرحلة كافية من الثقافة والتعليم تسمح له بالمشاركة في الحكم.

وبعد أن أخفقت حركة المثقفين المتجهة صوب الشعب وتبددت أوهام الشعبويين الروس في الفلاحين، بدأت عودتهم إلى المدن. ومن هنا، بدأ التحول من النشاط السلمي إلى العنف والإرهاب. وقد عمَّق هذا التطور الخلافات بين الجناح المعتدل والجناح الراديكالي داخل الحركة وانتهى بانشقاقها عام 1879 حيث اتجه المعتدلون بقيادة أكسيلرود (الذي عارض اللجوء إلى العنف) وبليخانوف إلى تأسيس منظمة كانت تهـدف إلى توزيع أراضـي النبلاء على الفلاحـين. أما الجنـاح الراديكالي، فاتجه إلى تأسيس منظمة «إرادة الشعب» التي كانت تهدف إلى حل المشكلة السياسية بالقضاء على الملكية المطلقة والاستيلاء على السلطة بأقلية ثورية (عن طريق الإرهاب)، وقامت بتنفيذ سلسلة من الاغتيالات السياسية انتهت باغتيال ألكسندر الثاني في مارس 1881.

ولعب الشعبويون اليهود دوراً نشيطاً في هذه المرحلة أيضاً، خصوصاً في المجال التنظيمي والإداري، حيث ساهموا في تأسيس الحلقات الثورية وتوزيع المنشورات والمطبوعات السرية وتنفيذ عمليات الاغتيال. وكان من بينهم أعرون جوبيت الذي أُعدم عام 1879 بتهمة محاولة اغتيال ألكسندر الثاني، ومارك نيثانسون وأهارون زوندبليفيتش اللذان شاركا في تأسيس منظمة «الأرض والحرية»، وقد كان زوندبليفيتش عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة «إرادة الشعب». وكان من بين طلبة المعهد الحاخامي في فيلنو أولئك الذين انضموا إلى الحركة مثل أهرون ليبرمان وفلاديمير أيوخيلسون (وكان من دعاة استخدام الإرهاب كسلاح سياسي، وشارك في تنفيذ عمليتين إرهابيتين). كذلك شارك جريجوري جولدنبرج الذي كان عضواً في «إرادة الشعب» في العمليات الإرهابية ومات منتحراً عام 1880 بعد اعتقاله وبعد أن اعترف على رفاقه. أما هيسي هيلفمان، فأُدينت بالاشتراك في اغتيال ألكسندر الثاني عام 1881 وتوفيت في السجن.

وأعقب اغتيال ألكسندر الثاني عملية قمع واسعة للحركة أسرعت بأفولها وتمزُّقها. ومع ذلك، نجد أن كثيراً من ملامح الحركة الشعبوية الروسية وجدت طريقها إلى المنظمات اليهودية ذات النزعة القومية أو الصهيونية والتي بدأت تتشكل في تلك الفترة، وذلك في أعقاب ما شهدته أعوام 1881 - 1883 من تزايُد الاضطهاد والهجمات ضد الجماعات اليهودية نتيجة تعثُّر التحديث في روسيا (وهو ما أصاب جميع الأقليات أيضاً)، وقد آمنت هذه المنظمات ومن أهمها جمعيات أحباء صهيون بالنارود، أى الشعب العضوي الكادح، ولكنه في هذه الحالة، في تصوُّرهم، هو « الشعب اليهودي » فدعت إلى ضرورة الذهاب إلى هذا الشعب اليهودي، كما نادت بالعودة إلى الأرض (أي فلسطين) والعمل الزراعي والمشاعية.

ويُعتبَر الحزب الاشتراكي الثوري، الذي تأسَّس عام 1901، وريث الحركة الشعبوية وحزب «إرادة الشعب» الذي ساهم في تأسيسه حاييم جيتلويسكي. وقد حدثت تطورات في فكر أكسيلرود حيث وجد نفسه منجذباً نحو أفكار حركة أحباء صهيون ونحو ضرورة دعوة الشباب والمثقفين اليهود إلى " الذهاب إلى الشعب العضوي " (اليهودي) والعمل بين الجماهير اليهودية. وفي أوائل عام 1882، بدأ في تحضير منشور حمل عنوان "حول مهام الشباب اليهودي الاشتراكي" أعرب فيه عن تبدُّد أوهام الشباب الثوري اليهودي تجاه موقف الحركة الثورية الروسية بالنسبة لمشاكل الجماعة اليهودية في روسيا (وكان بعض زعماء الحركة قد أيَّدوا الهجمات ضد اليهود)، وأكد أن هذه الجماعة تشكل «أمة» وأنها تواجه كراهية قطاع واسع من الجماهير المسيحية بغض النظر عن الانتماءات الطبقية لأعضاء الجماعة. ولكنه فسَّر هذه الكراهية في ضوء الوضع الاجتماعي والاقتصادي الخاص بالجماعة اليهودية في روسيا والذي تكَّون داخل سياق تاريخي معيَّن، حيث يشتغل قطاع واسع من أعضاء الجماعة في الأعمال الوسيطة غير المنتجة التي تنطوي على قدر كبير من استغلال الجماهير الروسية. وقد رأى أكسيلرود صعوبة تحـولهم إلى قطاعات منتجـة في ظل الأوضاع التي كانت قائمةً في روسيا، كذلك رأى صعوبة اندماجهم بين الجماهير الروسية الريفية أو العمالية التي اعتبرها أكثر تخلُّفاً من الناحية الثقافية بالمقارنة باليهود. ومن ثم، شجَّع فكرة الهجرة إلى الخارج سواء إلى الولايات المتحدة حيث يمكنهم التحول إلى طبقة منتجة، أو الانصهار مع السكان المحليين، أو الهجرة إلى فلسطين التي يمكن أن تكون « بفضل الميراث التاريخي، وطن اليهود الحقيقي ودولتهم الصغيرة الخاصة بهم ». وهنا نلاحظ ميلاد الصهيونية الاشتراكية (على طريقة بوروخوف) من رحم الأفكار الشعبوية والثورية الروسية، تماماً كما وُلدت الصهيونية التنقيحية من رحم الفاشية الأوربية، والصهيونية الدبلوماسية من رحم الليبرالية الغربية، وكما وُلدت مدارس الصهيونية كلها من رحم الإمبريالية الغربية والاستعمار الاستيطاني الغربي. وواجهت آراء أكسيلرود هذه معارضة شديدة من رفاقه ومن بينهم رفاقه اليهود، وخصوصاً ليف رايتش الذي أكد أولوية العمل الثوري الاشتراكي على أية اعتبارات إثنية أو قومية أخرى، ونجح في إقناع أكسيلرود بالعدول عن موقفه، والذي حسم أمره في نهاية الأمر لصالح الاتجاه الثوري الاندماجي وتحوَّل تماماً إلى الماركسية وأصبح من المعارضين لكل من حزب البوند والصهيونية.

وفي عام 1883، شارك أكسيلرود في تأسيس حركة تحرير العمل التي تحوَّلت بعد ذلك إلى الحزب الاشتراكي الديموقراطي الروسي، وشارك في تحرير جريدة الحزب (إيسكرا). وبعد انشقاق الحزب عام 1903، انضم أكسيلرود إلى المناشفة وأصبح أحد زعمائهم، وعاد إلى روسيا عقب ثورة فبراير عام 1917. وبعد قيام الثورة البلشفية، اعتزل أكسيلرود العمل السياسي واستقر في برلين حيث ظل معارضاً للنظام البلشفي واتهمه بأن «ديكتاتورية البروليتاريا» التي زعم أنه أقامها ما هي إلا ديكتاتورية مفروضة على البروليتاريا. وقد أصدر عدداً من الأعمال حول الفكر الاشتراكي الديموقراطي إلى جانب مذكراته التي صدرت عام 1922 تحت عنوان حياتي وأفكاري.

البوند (حزب(

The Bund

«بوند» كلمة يديشية معناها «الاتحاد»، وهي الكلمة الأولى في عبارة « الاتحاد العام للعمال اليهود في روسيا وبولندا وليتوانيا ». وهو أهم التنظيمات الاشتراكية اليهودية في شرق أوربا. وقد تأسَّس الحزب داخل منطقة الاستيطان في مقاطعات ليتوانيا وروسيا البيضاء التي كانت تتميَّز بوجود عمال يهود متركزين بأعداد كبيرة نسبياً في الصناعات. كما أن الكثافة السكانية اليهودية ككل كانت عالية إلى حدٍّ ما، الأمر الذي كان يعني عزلة اليهود عن بقية السكان. وعُقد الاجتماع التأسيسي للحزب سراً في فلنا في أكتوبر عام 1897، أي بعد مرور أقل من شهرين على انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول. وحضر الاجتماع ثلاثة عشر مندوباً كان من بينهم ثمانية عمال. وكان الحزب يُعَدُّ أكبر الأحزاب اليهودية وأكثرها جماهيرية، فكان يضم في صفوفه جماهير يهودية يفوق عددها عدد أعضاء المنظمة الصهيونية في شرق أوربا بل في العالم كله. فقد كان عدد أعضاء حزب البوند في الفترة 1903 ـ 1905 ما بين 25 و35 ألفاً، وقيل إن العدد قد وصل إلى 40 ألفاً عام 1905.

ويُقسَّم تاريخ حزب البوند في العادة إلى مرحلتين. ويمكن تقسيم المرحلة الأولى بدورها إلى فترتين، وقد سيطرت في الفترة الأولى من المرحلة الأولى عناصر ثورية من المثقفين على قيادات الحزب. ويُلاحَظ أن برنامج الحزب في سنواته الأولى لم يكن له توجُّه محلي أو يهودي واضح، فكانت قيادته ترى أنه حزب اشتراكي روسي يضطلعبمهمة التجنيد الثوري في القطاع اليهودي للطبقة العاملة. وتقبَّل الحزب يهودية العمال اليهود ولغتهم اليديشية بوصفها مجرد حقائق تؤخذ في الاعتبار. ولذا، أكد الحزب في برنامجه أهمية اللغة اليديشية باعتبارها إحدى الوسائل العملية للوصول إلى الجماهير اليهودية. ولكنه رفض من البداية أية تصورات صهيونية لقومية يهودية عالمية،وطرح بدلاً من ذلك مفهوماً كان يُشار إليه بكلمة «دوإكييت» اليديشية والتي تعني «هنا»، أي الاهتمام بأوضاع أعضاء الجماعة اليهودية (هنا) في شرق أوربا خارج أي إطار يهودي عالمي وهمي. ولذا، كان البوند يعارض التعاون مع الحركات العمالية اليهودية في البلاد الأخرى (وقد ظل الالتزام بهذا المفهوم أحد ثوابت النظرية البوندية). بل إن حزب البوند كان يرى أن وجود حركة عمالية يهودية مستقلة هو مرحلة مؤقتة انتقالية، وأن الهدف النهائي هو الاندماج في الشعب الروسي (أو البولندي).

وفي هذا الإطار، أكد الحزب التزامه بالماركسية واهتمامه بالمصالح العامة للطبقة العاملة ككل بصفة أساسية وبالمصالح الخاصة بالعمال اليهود بالدرجة الثانية، وانضم إلى الحزب العمالي الديموقراطي الاشتراكي الروسي عام 1898، وكان البوند أحد مؤسسي هذا الحزب. وقد كان عدد المندوبين في اللجنة التأسيسية للحزب تسعة من بينهم ثلاثة من أعضاء البوند. وقام الحزب بنشاطات واسعة ذات طابع سياسي في صفوف العمال من أعضاء الجماعات اليهودية الذين كانت تتزايد أعدادهم بسبب تزايُد معدلات التحديث الاقتصادية والتصنيع في روسيا وتعثُّرها من الناحية الاجتماعية مع نهاية القرن. وأدَّى نجاحه في نشاطه إلى تأليب النظام الروسي القيصري ضده.

وفي هذه الآونة، كان المفكران الروسيان اليهوديان سيمون دبنوف وحاييم جيتلوسكي قد صاغا نظريتهما عن قومية الدياسبورا (أو بتعبير أدق قوميات الجماعة اليهودية، وربما أيضاً: القومية اليديشية). وتذهب هذه النظرية إلى أن ثمة ثقافات يهودية مستقلة عن بعضها البعض وعن الحضارات التي يتواجد داخلها اليهود، وأن استقلال اليهود الثقافي النسبي عن محيطهم الحضاري لا يعني ارتباطهم جميعاً على مستوى يهودي عالمي. وأكد دبنوف أن الجماعة اليهودية في شرق أوربا (أي يهود اليديشية) لها هوية ثقافية مختلفة عن الهويات اليهودية الأخرى التي نشأت في أماكن وأزمنة أخرى، وأن هذه الهوية تستحق الحفاظ عليها وتطويرها على أرض شرق أوربا ذاتها دون الحاجة إلى الهجرة إلى فلسطين، وهي الهجرة التي كانت تتم في إطار تصوُّر وجود هوية يهودية عالمية واحدة.

ووجدت هذه النظرية صدى لدى قيادات البوند، خصوصاً أن التأكيد على الخصوصية اكتسب شيئاً من الشرعية الماركسية من القرار الذي اتخذه الحزب الديموقراطي الاشتراكي في النمسا، والذي بمقتضاه غيَّر الحزب بنيته من حزب مركزي إلى حزب فيدرالي قومي يتفق بناؤه مع التعددية القومية التي كانت تسم النمسا آنذاك. كما أن الواقع الفعلي لكثير من أعضاء الحزب كان يؤكد أنهم أقلية قومية شرق أوربية (يديشية) لها لغتها وهويتها الثقافية الخاصة. وقد ساهم التحديث المتعثر في روسيا القيصرية في هذه الآونة في دعم هذه الهوية وفي تعميق كثير من أبعادها، ولعل هذا يُفسِّر سبب تَرعرُع الثقافة اليديشية وازدهارها. وقد أعلن البوند في مؤتمره الرابع عام 1901 أن اليهود يشكلون أقلية إثنية لا دينية وأن مصطلح أمة (كما هو مستخدم في روسيا) ينطبق عليهم. وهنا تبدأ الفترة الثانية من المرحلة الأولى، حيث دعا الحزب إلى إعادة تأسيس روسيا كاتحاد فيدرالي من القوميات مع إدارة ذاتية قومية كاملة لكل أمة دون إشارة إلى الإقليم الذي تسكنه. ومع هذا، تقرر ألا يقوم البوند بحملة من أجل الإدارة الذاتية اليهودية حتى لا يتضخم الشعور القومي لدى أعضــاء الجـماعة اليهودية، الأمر الذي قد يمُـيِّع الوعي الطبـقي للعمـال. ولكن هـذا التحفظ الأخير لم يُطبَّق، وأُلغي رسمياً في المؤتمر السادس (عام 1905). وكان البوند قد أكد في مؤتمره الخامس (عام 1903) حقه كممثل للعمال اليهود في أن يضيف إلى برنامج الحزب الاشتراكي الديموقراطي العام مواد لا تتعارض مع ذلك البرنامج، وتتوجه في الوقت نفسه إلى مشاكل العمال اليهود الخاصة. واقترح البوند على مؤتمر الحزب الاشتراكي عام 1903 الاعتراف بأعضاء الجماعة كأقلية قومية روسية لها حق الإدارة الذاتية مثل بقية الأقليات. لكن الطلب رُفض، فانسحب ممثلو البوند.

ويُلاحَظ تذبذب البونديين بين نظرتين إلى أعضاء الطبقة العاملة من اليهود، إحداهما ترى أنهم يشكلون طبقة عاملة يهودية ذات هوية يهودية شرق أوربية محلية أي يديشية، ولذا لا يمكن دمجها بشكل كامل في الطبقة العاملة الروسية. ويرى الموقف الآخر (البلشفي) أن ثمة طبقة عاملة روسية، وأن العمال اليهود هم جزء لا يتجزأ منها، ومن ثم يكون حل مشكلة اليهود القومية والطبقية هو الاندماج. ويدل تذبذب قيادة البوند على مدى ذكائهم الحضاري ومدى التصاقهم بجماهيرهم التي كانت لها هوية مستقلة آخذة في التبلور. فهذه الجماهير كانت كتلة بشرية كبيرة تَصلُح أساساً لتطوير شخصية قومية شرق أوربية يديشية مستقلة. ولكن، لأن هذه الهوية ليست متبلورة وإنما آخذة في التبلور، طرح فلاديمـير ميـديم (1879ـ 1923)، أحـد منظـري الحزب، فكـرة " الحياد " التي تذهب إلى أنه لا يمكن تحديد الشكل الذي سيحقق من خلاله أعضاء الجماعة اليهودية في شرق أوربا بقاءهم، فهم قد يحتفظون بهويتهم وقد يندمجون في محيطهم الثقافي. وتصبح مهمة البوند بالتالي هي أن يحارب من أجل التوصل إلى إطار سياسي يضمن حرية التطور لكل من الاتجاهين، وألا يتخذ أية خطوات من شأنها أن تساعد على الاستمرارية الإثنية أوعلى عمليات التذويب. ولذا، لم تستمر القطيعة طويلاً مع الحزب الديموقراطي الاشتراكي وعاد البوند إلى التحالف معه عام 1906. وبعد أن مارس الحزب نشاطه بشكل علني بعد ثورة 1905، وسَّع نشاطاته ووصل إلى قطاعات كبيرة من أعضاء الطبقة العاملة من اليهود. ولكنه بدأ ينتكس بعد عام 1908 (وهي الفترة التي شـهدت المـد الرجعي في روسـيا) حيث قُبض على رؤسـاء الحزب وتم نفيهم، وانحصر اهتمام الحزب لبعض الوقت في الأمور الثقافية مثل اليديشية، واشترك في عدة مؤتمرات ومؤسسات ثقافية ذات طابع يهودي روسي عام مثل جمعية تنمية الثقافة بين يهود روسيا.

ورغم تأكيد البوند الهوية اليديشية، وربما بسبب هذا، نجده يقف في حزم ضد الرؤية الصهيونية للقومية اليهودية العالمية التي تضم اليهود في كل زمان ومكان. وقد بيَّنالبوند أن المشروع الصهيوني لن يؤدي إلى حل المسألة اليهودية لأن الدولة الصهيونية لن تستوعب كل يهود العالم، كما أنها تُفقد يهود العالم حقهم في المطالبة بحقوقهمالاقتصادية والاجتماعية والمدنية حيثما وجدوا. ذلك بالإضافة إلى أن إنشاء هذه الدولة يجعل الصراع بين اليهود والعرب أبدياً، كما أن بقاءها يعتمد على رضا يهودالغرب. وقد بيَّن البوند أن الافتراض الصهيوني بأزلية معاداة اليهود بين الأغيار يهدف إلى تمييع الصراع الطبقي وإعاقة تطوُّر شعور المواطنة لدى اليهود وإلى تقويةعقلية الجيتو.

وتبدأ المرحلة الثانية في تاريخ الحزب بحدوث تغيير أساسي في صفوف الحزب في تلك الآونة، إذ انسحب المثقفون من قيادته، وأصبحت أغلبية أعضائه وقياداته من العمال. وزاد التركيز على خصوصية العمال اليهود وعلى خصوصية وضعهم. ولذا، كانت لغة المؤتمر العاشر للحزب (عام 1910) هي اليديشية، كما اتُخذت قراراتتدعو إلى استخدام هذه اللغة في المدارس والمؤسسات وإلى اشتراك الحزب في انتخابات الدوما (البرلمان) لعام 1912. وحينما حدث الانشقاق بين البولشفيك والمنشفيك، انضم البوند إلى المنشفيك لقبولهم مبدأ الإدارة الذاتية، ولأن لينين والبلاشفة بشكل عام رفضوا فهم البوند للمسألة اليهودية (أو المسألة اليديشية) ولخصوصية وضع العمال من يهود اليديشية.

وبعد اندلاع الثورة عام 1917، زادت عضوية البوند بسرعة ووصلت إلى خمسة وأربعين ألف عضو. ولكن أعداداً كبيرة منهم انضمت إلى الحزب الشيوعي، وكوَّن بعض أعضاء الحزب في أوكرانيا حزباً بوندياً شيوعياً، ولكن أعضاءه انضموا أيضاً إلى الحزب الشيوعي بعد تصاعُد الهجمات ضد أعضاء الجماعة اليهودية. وتم القضاءعلى ما تبقى من البوند عام 1919.

وهاجرت شرذمة صغيرة من البوند إلى برلين بعد الثورة، واستمرت في نشاطها الحزبي وأصدرت مجلة.ولم يبق من الحزب سوى أرشيفه الذي نُقل إلى جنيف عام 1927 ثم إلى باريس عام 1933.

وكانت هناك أحزاب بوند في أماكن أخرى من بينها جاليشيا ورومانيا، ولكن أهم هذه الأحزاب هو حزب البوند في بولندا الذي استقل في نشاطاته حين عُزل عن روسيا نتيجة اندلاع الحرب العالمية الأولى. وقد ازداد الحزب راديكالية في بولندا، وانضم إلى الحزب الاشتراكي اليهودي في جاليشيا عام 1919. ثم انضم الحزبان إلى الكومنترن، الأمر الذي تسبَّب في قمع الحكومة لهما. واختفى حزب البوند بين عامي 1920 و1924،ولكنه حينما عاود الظهور في عام 1924 أصبح أكبر حزب عمالي يهودي في بولندا، فأصدر مجلة أسبوعية وأخرى شهرية وجريدة يومية وبلغت عضويته سبعة آلاف (ويُقال 12 ألفاً) إلى جانب منظمة شبابية كانت تضم عشرة آلاف عضو.

ولعب حزب البوند دوراً مؤثراً في الحياة السياسية في بولندا. فاستمر في حربه ضد الصهيونية واليهودية الأرثوذكسية، وكان يحصل على أغلبية الأصوات في انتخابات اتحادات نقابات العمال اليهـود التي كانت تضـم نحـو تسـعة وتسـعين ألف عامل في عام 1939. وساهم الحزب في تأسـيـس منظـمة المدارس اليديشية المركزية، كما كان يسيطر على نحو 80% من كل المؤسسات التعليمية اليديشية. واستمر البوند في معارضته للعبرية.

ووصل البوند في بولندا إلى قمة نفوذه السياسي بين عامي 1936 و1939، حين حصل على أغلبية أصوات اليهود في انتخابات البلديات، نظراً لأنه كان ينظم الجماهير اليهودية وغير اليهودية في الحرب ضد معاداة اليهود. وبعد الاحتلال النازي، اشترك البوند في المقاومة ضده. وقد تم القضاء على البوند مع تصفية معظم أعضاء الجماعة اليهودية في بولندا على يد النازيين.

ويُلاحَظ أن حزب البوند لايزال له فروع في الولايات المتحدة وبريطانيا تضم كبار السن من نشطاء الحزب السابقين في بولندا وروسيا. وقد كوَّنت البقية الباقية من أعضائه وفروعه اتحاداً عالمياً له هيئة تنفيذية مقرها نيويورك، وقد عقدت هذه الهيئة مؤتمراً عاماً في أبريل عام 1965، والمنظمة عضو في الاشتراكية الدولية. ولا يزال الحزب يرفض الفكر الصهيوني ويحاول أن يأخذ موقفاً محايداً من الصراع العربي الإسرائيلي.

ورغم الجماهيرية الواضحة للبوند أثناء فترة نشاطه، سواء في روسيا أو في بولندا، فإن أثره في تواريخ أعضاء الجماعات كان محدداً. ولعل هذا يعود إلى عدة أسباب:

1 ـ ارتبط البوند من البداية بثقافة اليديشـية التي ازدهـرت لفترة محدَّدة، بسبب تعثُّر التحديث في شرق أوربا بعد عام 1880، وحتى في هذه الفترة كان عدد المتحدثينباليديشية آخذاً في التناقص.

2 ـ يحوي برنامج حزب البوند جوانب اندماجية عديدة، ولذا فإن الاختفاء هو في واقع الأمر جزء من البرنامج وتحقق له.

3 ـ أدَّت عملية التصنيع والتحديث، بعد الثورة البلشفية، إلى تصفية التجمعات اليهودية الكثيفة وإلى انتشار أعضاء الجماعات في روسيا، كما أدَّت الإبادة النازية إلى الشيءنفسه بالنسبة لبولندا، الأمر الذي أدَّى إلى تصفية القاعدة الجماهيرية للحزب في البلدين.

4 ـ تولت الدولة السوفيتية، بنفسها، تنفيذ الجانب الثقافي لبرنامج البوند. فاعترفت باللغة اليديشية بوصفها إحدى اللغات الرسمية، وشجعت دراستها، وأنشأت العديد من المؤسسات الثقافية اليديشية، ثم أنشأت أخيراً مقاطعة بيروبيجان وهي التنفيذ العملي للبرنامج البوندي. وإذا كانت اليديشية آخذة في الاختفاء وإذا كان مشروع بيروبيجان لم ينجح، فإن هذا يعود إلى الطبيعة المؤقتة للنهضة الثقافية اليديشية وإلى أن أعضاء الجماعة آثروا الاندماج وما يتبعه من حراك اجتماعي سريع على الاحتفاظ بخصوصيتهم اليديشية. وعلى كلٍّ، فقد كان منظرو البوند غير متأكدين منذ البداية من أن الهوية اليديشية ستنمو وتزدهر، ولذا طالبوا بإطار منفتح يسمح بتطوُّر هوية أعضاء الجماعة إما نحو مزيد من الاندماج أو نحو مزيد من الضمور ثم الاختفاء، وتركوا النتيجة ليحددها مسار التاريخ نفسه. ويبدو أن البديل الثاني هو الذي كتب له أن يتحقق.

فلاديمــير ميــديم (1879-1923(

Vladimir Medem

أحد قادة حزب البوند البارزين في روسيا وبولندا. وُلد في منطقة الاستيطان لأب يعمل كضابط طبيب في الجيش. وكان والده من اليهود المندمجين تماماً في المجتمعالروسي، كما قام بتعميد ابنه في الكنيسة الأرثوذكسية. وقد درس ميديم القانون في كييف. وخلال فترة دراسته، اعتنق الماركسية ثم طُرد من الجامعة عقب اشتراكه في إضراب للطلبة عام 1899، وأمضى فترة قصيرة في السجن عاد بعدها إلى منسك. وكان ميديم يعتبر نفسه روسياً، ولكنه بدأ يوجه اهتمامه نحو الجماهير اليهودية. ودفعه ذلك إلى الانضمام إلى حزب البوند، فأصبح عضواً في لجنة الحزب في منسك وكتب في جريدته. وبعد أن سُجن لفترة أخرى، هرب إلى سويسرا حيث انضم إلى دوائر الطلاب الروس، وانتُخب عام 1901 أول سكرتير لحزب البوند في الخارج. وقام ميديم بتمثيل الحزب في المؤتمر الثاني للحزب الاشتراكي الديموقراطي الروسي المنعقد في لندن عام 1903. وعُيِّن عقب المؤتمر عضواً في اللجنة الخارجية لحزب البوند ثم عضواً في لجنته المركزية عام 1906.

وكان ميديم شديد الاهتمام بالمسألة القومية، فبلور عام 1904 سياسة الحياد التي تبناها حزب البوند كسياسة رسمية له بشأن مستقبل الجماعة اليهودية في روسيا، وهي سياسة تدعو إلى تبنِّي موقف محايد تجاه قضية الاندماج باعتبار أن العوامل الاجتماعية والاقتصادية ستحسم هذه المسألة في نهاية الأمر. ولكن ميديم بدأ عام 1910 في الابتعاد عن هـذه السـياسة والمطـالبـة بضـرورة اتخـاذ موقف أكثر إيجابية تجاه المسـألة القوميـة، وفي تأكيد أن الجماعة اليهـودية جماعة قومية شرق أوربية (يديشية) لها الحق في التعبير عن هوـيتها القومية والثقافيـة مثل سائر القوميات داخل روسيا.

وقد كان ميديم أول من دعا إلى ضرورة أن يتبنى حزب البوند دوراً نشيطاً داخل الإطار التنظيـمي للجمـاعة اليهودية (القهال)، كما طـالب بتأسيـس المدـارس اليديشية وبحق التوقف عن العمل يوم السبت والدفاع عن حقوق العمـال اليهود، ولعب دوراً نشطاً في إحيـاء الصحـافة البونديـة في الفتــرة ما بين عامي 1912 و1913.

سُجن ميديم في وارسو خلال الحرب العالمية الأولى ثم أُفرج عنه عام 1915 بعد انسحاب القوات الروسية. وخلال الاحتلال الألماني لبولندا، أصبح ميديم الزعيم الفكري لحزب البوند بها. وقد عمل على تشجيع اللغة اليديشية، وبدأ يتحدث ويكتب بها ويهاجم الصهيونية بشدة.

ومع قيام الثورة البلشفية وصعود العناصر المؤيدة للشيوعية داخل حزب البوند، وجد ميديم نفسه منعزلاً داخله بسبب هجومه الشديد على البلاشفة وسياستهم، فهاجر إلى الولايات المتحدة عام 1921 واستقر فيها.

انخراط أعضاء الجماعات اليهودية في الحركات الاشـتراكية والثورية

Participation of Members of Jewish Communities in Socialist and Revolutionary Movements

يُلاحَظ وجود كثير من أعضاء الجماعات اليهودية في الحركات الثورية الاشتراكية في كثير من بلاد العالم بنسبة تفوق نسبة انخراط السكان الأصليين في هذه الحركات. وهذه ظاهرة كانت ملحوظة في العالم العربي الإسلامي، إذ يُلاحَظ أن كثيراً من قيادات ومؤسسي الحركات الشيوعية كانوا من اليهود. وليس هذا بمستغرب، فكثير من أعضاء الأقليات ينجذبون إلى الحركات الثورية العلمانية على أمل أن يحقـق لهم المجتمع الثوري العلماني الجديد الحرية الكاملة والمسـاواة التامة. ولكن ذلك، على كل حال، كان ظاهرة عابرة نظراً لأن كثيراً من العناصر اليهودية في الحركة الاشتراكية كانت أجنبية أو من أصل أجنبي ورحلت عن العالم العربي بعد تأسيس الدولة الصهيونية وبعد اتضاح معالم حركة القومية العربية. كما أن هذه العناصر كانت ضمن القيادات وحسب ولم يكن هـناك قط جماهير يهودية بهذا المعنى. ومع الخمسينيات،كانت معظم الحركات الاشتراكية يقودها عناصر عربية محلية. ومع هذا، يذهب بعض الباحثين إلى أن القيادات الشيوعية العربية من أصل يهودي (مثل هنري كورييل) ظلت مسيطرة على الحركات الشيوعية.

أما في العالم الغربي، فيمكن القول بأن غرب أوربا في القرن التاسع عشر (إنجلترا وهولندا وفرنسا وغيرها) لم يكن فيه كتلة بشرية يهودية كبيرة كما أنها كانت مندمجة، وبالتالي لم يكن هناك وجود يهودي ملحوظ لا على مستوى القيادات الاشتراكية ولا على مستوى الجماهير. ولكن من المُلاحَظ أن بعض العناصر الثورية كانت تُجَنَّد من بين المهاجرين من شرق أوربا مع يهود اليديشية. كما أن تمثيل اليهود في الأحزاب الثورية، سواء على مستوى القيادة أو على مستوى الجماهير، كان أعلى من نسبتهم القومية.

أما في وسط أوربا (ألمانيا والنمسا)، فقد كانت أعداد اليهود صغيرة، كما كانت تنتمي أساساً لكبار المموِّلين والطبقات الوسطى، ولذا ارتبط اليهودي في الأذهان بكبار المموِّلين وبالدعاوى الليبرالية. ولم تكن الأحزاب الثورية تضم في صفوفهـا أعـداداً كـبيرة من اليهود بشـكل مطلق. ومع هذا، كان هناك عدد ملحوظ من قيادات الحركات الثورية الاشتراكية والشيوعية، ومن المفكرين الثوريين، من أعضاء الجماعات اليهودية، يمكننا أن نذكر من بينهم كارل ماركس وفرديناند لاسال وكارل كاوتسكي وروزا لوكسمبرج. ولعل هذا الوضع هو الذي أضفى مصداقية سطحية على الادعاءات النازية بشأن المؤامرة اليهودية الكبرى ومحاولة اليهود تحطيم ألمانيا بتطويقها من اليمين واليسار.

أما في شرق أوربا، فكان وجود اليهود في الحركات الثورية على مستوى القيادات والجماهير وجوداً ملحوظاً لا شك فيه. فكان عدد كبير من البلاشفة الروس، مثل زينوفييف وكامينيف وليتفينوف، من أعضاء الجماعات اليهودية، وعلى رأسهم تروتسكي مهندس الثورة البلشفية وقائد الجيش الأحمر. أما على مستوى المشاركة الجماهيرية، فكان حزب البوند الروسي البولندي اليهودي هو أكبر حزب ثوري اشتراكي في العالم عند تأسيسه. وكان الشباب اليهودي ينخرط في سلك الثوار بدرجات متزايدة، فقد كان 30% من المقبوض عليهم في جرائم سياسية عام 1900 (في روسيا) من أعضاء الجماعات اليهودية.

ويمكن تفسير انخراط أعضاء الجماعات اليهودية في الحركات الثورية بشكل ملحوظ على الأساس التالي:

1 ـ كان اليهود يشكلون نسبة كبيرة من القطاع المتعلم في المدن، وهو القطـاع الذي يسـاهم في الحركات الثورية أكثر من القطاعات الأخرى.

2 ـ كان كثير من الشـباب اليهـودي محـروماً من دخول الجامعات الروسية، فالتحقوا بالجامعات في أوربا حيث تم تسييسهم وتثويرهم بدرجة أعلى من أقرانهم.

3 ـ كان اليهود أقلية مُضطهَدة محرومة من حقوقها المدنية. ولذا، نجد أن المثقفين اليهود الذين كان من الممكن في ظروف عادية أن يتحولوا إلى مهنيين عاديين (وهو الأمر الذي حدث فيما بعد) وقد انخرطوا، بدلاً من ذلك، في صفوف القواعد الثورية، كما يحدث في كثير من الحركات الثورية في العالم، حيث نجد أن أعضاء الأقليات المضطهدة يشكلون نسبة عالية فيها.

واستفادت الصهيونية من ظاهرة انخراط أعضاء الجماعات اليهودية بشكل ملحوظ في الحركات الثورية ووظفته لصالحها، إذ أن أحـد الموضوعات الأسـاسـية التي كان يطـرحها تيودور هرتزل في كتاباته، وأثناء مفاوضاته، أن الحل الصهيوني هو الطريقة الوحيدة لتحويل الشباب اليهودي عن الثورة. وقد تم تطوير الصيغة الصهيونية العمالية كمحاولة لاستيعاب الديباجة الثورية الاشتراكية داخل الصهيونية. ومن الأسباب التي أدَّت إلى صدور وعد بلفور، محاولة تجنيد الكتلة اليهودية الضخمة في شرق أوربا ضد الثورة البلشفية.

وبعد الحرب العالمية الأولى، يُلاحَظ تركُّز اليهود في التنظيمات الاشتراكية التي بدأت تتبلور في تنظيمات شيوعية وتنظيمات اشتراكية ديموقراطية. وكانت التنظيمات الشيوعية الدولية معادية للصهيونية ولمعاداة اليهود، ورفضت السماح للأحزاب الصهيونية ذات الديباجات الاشتراكية بالانضمام إليها. وحيث إن الأحزاب الشيوعية كانت تتبع تعليمات الاتحاد السوفيتي في هذا المجال، وفي عدة مجالات أخرى، فإن هذه الأحزاب ناصبت الصهيونية وأحزابها العداء. ولكن هذه الأحزاب ذاتها أيَّدت قيام الدولة الصهيونية حينما فعل الاتحاد السوفيتي ذلك، ثم ناصبت الصهيونية العداء مرة أخرى حينما غيَّر الاتحاد السوفيتي سياسته وأعلن عداءه للصهيونية ودولتها. أما الأحزاب الاشتراكية الديموقراطية، فقد تقبلت الظاهرة الاستعمارية وبالتالي الصهيونية، وأيَّدت المشروع الصهيوني ثم الدولة الصهيونية، وتعاونت مع الأحزاب الصهيونية ذات الديباجة الاشتراكية ومنحتها حق العضوية في الأممية الثانية. وفي الستينيات، ظهرت حركة اليسار الجديد، وكان كثير من زعمائها في الولايات المتحدة وأوربا من أعضاء الجماعات اليهودية، وكان هربرت ماركوز، مُنظِّرها الأساسي، يهودياً. وأخذت هذه الحركة موقفاً معادياً لإسرائيل ومؤيداً للعرب، خصوصاً بعد حرب 1967، وهو ما أدَّى إلى ابتعاد بعض الشباب اليهودي عنها. ولكن، مع هذا، ظلت نسبة عالية من أعضائها من اليهود.

ولا تزال كثير من حركات الرفض الثورية تضم عدداً كبيراً من أعضاء الجماعات اليهودية. وهذه أيضاً ظاهرة ليست مقصورة علىهم وإنما هو أمر شائع بين أعضاء الأقليات.

ويُلاحَظ أننا لا نستخدم اصطلاحات مثل «الاشتراكية اليهودية» أو «الاشتراكيين اليهود» لأن مثل هذه الاصطلاحات تفترض وجود اشتراكية يهودية لا يمكن تفسيرها إلا بالعودة إلى حركيِّات يهودية مستقلة، وأن يهودية الاشتراكي اليهودي هي أهم العناصر التي تفسر سلوكه. وهو ما نجد أن من الصعب قبوله. وفي المداخل الخاصة بالاشتراكيين من أعضاء الجماعات اليهودية وجدنا أنه لا يوجد نموذج تفسيري واحد ينطبق عليهم جميعاً. فبعضهم لعب انتماؤه اليهودي، الديني والإثني، دوراً في انخراطه في الحركة الاشتراكية، والبعض الآخر لم تلعب معه اليهودية أي دور على الإطلاق. وأحياناً نجد أن يهودية الاشتراكي من أعضاء الجماعات اليهودية قد لعبت دوراً سلبياً وجعلته يتخذ موقفاً معادياً لليهود واليهودية، وكثيرون منهم «يهود غير يهود» (على حد تعبير إسحق دويتشر) لا يكترثون باليهود أو اليهودية، وكل ما بقي من يهوديتهم هـو الاسـم، ومـع هـذا صُنِّف كل هـؤلاء باعتـبارهم يهوداً.

وثمة وجود ملحوظ لأعضاء الجماعات اليهودية في قيادة الأحزاب الشيوعية، وخصوصاً في شرق أوربا، بنسبة تفوق كثيراً نسبتهم إلى عدد السكان. كما يُلاحَظ وقوفهم إلى جوار الستالينية، ويجب أن نرى الستالينية هنا باعتبارها «النفوذ الروسي». فرغم الإدعاءات الأممية للنظرية الشيوعية إلا أنه، في مجال التطبيق، ظهرت التوترات العرْقية والإثنية والقومية التقليدية وظهر مرة أخرى خوف الشعوب المحيطة بروسيا (بولندا - المجر - تشيكوسلوفاكيا - رومانيا) من الدب القيصري الذي ارتدى رداءً أممياً شيوعياً. وقد وقف كثير من أعضاء الجماعات اليهودية إلى جانب روسيا، وهو ما جعل منهم ما يشبه الجماعة الوظيفية التي تمثل المصالح الروسية باعتبارها القوة الإمبريالية الحاكمة. وفي هذا استمرار لميراث الجماعة اليهودية في شرق أوربا كجماعة وظيفية استخدمتها الطبقات الحاكمة لضرب الفلاحين وأحياناً النبلاء، الأمر الذي دعم الصورة الإدراكية السلبية لليهود عند شعوب شرق أوربا. ولعل هذا يُفسِّر سخط كثير من شعوب شرق أوربا على «اليهود» رغم اختفاء الجماعات اليهودية تقريباً، إذ لا تزال صورة اليهودي كسوط عذاب في يد الحاكم حية في الأذهان.

الثـــــورة اليهوديــــة

The Jewish Revolution

«الثورة اليهودية» مصطلح أطلقه البعض على الثورة البلشفية عند نشوبها، وهو يفترض أن الثورة البلشفية نظمها اليهود وخططوا لها وعملوا على نجاحها واستفادوا منها. بل يذهب البعض إلى أن الثورة البلشفية، كثورة يهودية، هي إحدى تطبيقات بروتوكولات حكماء صهيون أو المؤامرة اليهودية العالمية الكبرى ضد الجنس البشري. والمدافعون عن هذا التصور يشيرون إلى أن كلاً من كارل ماركس ولينين يهود (وهو أمر مناف للواقع، فأبو ماركس قد تنصَّر، أما لينين فمن المعروف أن خلفيته ليست يهودية)، كما يشيرون إلى وجود عدد كبير من اليهود في صفوف البلاشفة على مستوى الكوادر السياسية العادية والقيادات مثل تروتسكي وكامينيف وزينوفييف.

ولكن الدارس لسير هؤلاء البلاشفة اليهود، ولغيرهم، سيجد أنهم كلهم رفضوا اليهودية بل ساهموا في صياغة السياسة البلشفية تجاه الجماعات اليهودية وفي تطبيقها، وهي السياسة التي أدَّت في نهاية الأمر إلى تصفية التجمعات السكانية اليهودية في روسيا وأوكرانيا (وكانت من أكبر التجمعات في العالم) وإلى تصاعد معدلات الاندماج والعلمنة بينهم. ومن المعروف أن صعود وهبوط القيادات البلشفية اليهودية في ميزان القوى، داخل الحزب وخارجه، لم يكن نتيجة يهوديتهم، وإنما كان بسبب الظروف العامة للصراع داخل الحزب الشيوعي والمجتمع السوفيتي. وقد تحالف كامينيف وزينوفييف مع ستالين ضد تروتسكي، ومن ثم نجح ستالين في إقصائه ونفيه رغم أنه كان ثاني أهم شخص في الحزب. ثم تحالفا معاً ضد ستالين الذي نجح في نهاية الأمر، في القبض عليهما وإعدامهما، وهي أمور تحدث في كل الثورات.

ولا شك في أن عدد أعضاء الجماعة اليهودية المشتركين في الثورة البلشفية والمناصرين لها كان أكبر من نسبتهم إلى عدد السكان. كما أن الجماعة اليهودية استفادت ولا شك من الثورة، ولكن هذا أمر مُتوقَّع من أقلية عانى أعضاؤها من الحكم القيصري في الوقت الذي كانوا يتمتعون فيه بمستوى تعليمي عال.

ولا شك في أن الميراث اليهودي للبلاشفة اليهود قد ترك أثراً في فكرهم وسلوكهم. ولعل تطرُّف تروتسكي كان نتيجةً لهذا الميراث. ولكن تفسير موقفهم بأكمله على أساس من انتمائهم اليهودي أمر غير ممكن، إذ ظل اشتراكهم في الثورة أو انخراطهم في صفوفها خاضعاً لآليات وحركيات المجتمع الروسي إبان الثورة. ومن ثم، فإن مصطلح «الثورة اليهودية» ليست له قيمة تفسيرية عالية، فهو قد يفسر بعض التفاصيل ولكنه يعجز عن تفسيرها جميعاً بكل تركيبيتها.

كما أن مصطلحاً مثل مصطلح «الثورة اليهودية» له مضمون عنصري، إذ يفترض أن اليهودي يظل يهودياً مهما غيَّر آراءه ومهما اتخذ من مواقف، فثمة حتمية ما تفرض نفسها عليه، أي أنه مصطلح ينكر عليه حرية الاختيار. ومن ثم، فهو أيضاً مصطلح صهيوني، فالصهاينة يفترضون أيضاً وجود هوية يهودية ثابتة، لا تتحوَّل ولا تتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان.

وقد عاد مصطلح «الثورة اليهودية» إلى الظهور، إذ بدأ أعداء الشيوعية في الاتحاد السوفيتي يلقون باللوم على اليهود وعلى الثورة اليهودية (أي البلشفية) التي ألحقت الكوارث بمجتمعهم، وأوصلته إلى ما وصل إليه من تفكُّك ودمار.

ماكسيم ليتفينوف (1867-1951(

Maxim Litvinov

اسمه الأصلي مائير مويسيفيتش والسن. ثوري روسي ودبلوماسي سوفيتي، وُلد في بياليستوك في بولندا الروسية لعائلة يهودية من الطبقة المتوسطة. وانضم عام 1899 إلى الحزب الاشتراكي الديموقراطي الروسي المحظور، واعتُقل ونُفي عام 1901، إلا أنه نجح في الفرار إلى سويسرا عام 1902. وفي عام 1903، بعد انقسام الحزب الاشتراكي الديموقراطي، انضم ليتفينوف إلى الجناح البلشفي وعاد سراً إلى روسيا حيث اشترك في ثورة 1905. تعاون مع ماكسيم جوركي في إصدار جريدة الحياة الجديدة، وهي أول جريدة بلشفية رسمية في روسيا. وبعد فشل الثورة، فرَّ مرة أخرى إلى فرنسا ثم إلى إنجلترا بشكل شبه دائم حتى عام 1918. وهناك توطدت علاقته بلينين وتعاون معه بشكل وثيق في نشاط البلاشفة خارج روسيا. وبعد قيام الثورة البلشفية عام 1917، عيَّنته الحكومة السوفيتية الجديدة ممثلاً دبلوماسياً لها لدى الحكومة البريطانية رغم عدم اعتراف هذه الأخيرة بالنظام السوفيتي الجديد. وقد اعتقلته السلطات البريطانية عام 1918 بدعوى قيامه بأنشطة دعائية، ولكنها أفرجت عنه في مطلع عام 1919 مقابل الإفراج عن الممثل الدبلوماسي البريطاني في الاتحاد السوفيتي وبعض الرعايا البريطانيين. ظل ليتفينوف، لمدة عشرين عاماً، يحتل مكانة مهمة في السياسة الخارجية السوفيتية ومثَّل بلاده في العديد من المؤتمرات والمفاوضات المهمة. وعُيِّن عام 1921 في منصب نائب مفوض أو قوميسار الدولة للشئون الخارجية، ثم تولَّى عام 1930 (وحتى عام 1939) منصب مفوض الدولة للشئون الخارجية. ولعب ليتفينوف دوراً مهماً على الجبهة الدبلوماسية لكسب اعتراف العالم بالنظام السوفيتي الجديد، ومثَّل بلاده في المفاوضات مع الولايات المتحدة الخاصة بإقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين (عام 1933). وقد لفت انتباه العالم من خلال مقترحاته الراديكالية التي قدمها في مؤتمر نزع السلاح الذي نظمته عصبة الأمم عام 1927. وفي الفترة بين 1934 و1939، وهي الفترة التي تبنت فيها موسكو سياسة معادية لألمانيا النازية، عمل ليتفينوف على تنمية علاقة الاتحاد السوفيتي بالدول الغربية وأكد ضرورة مواجهة النازية، كما دعا إلى إقامة نظام أمني دولي جماعي يستند إلى شبكة من الاتفاقات الإقليمية والثنائية للمعونة المتبادلة، وكان أول من أطلق عبارة «السلام لا يتجزأ ». ولكن مع التحول الذي طرأ على السياسة السوفيتية وإبرامها معاهدة عدم الاعتداء مع ألمانيا النازية عام 1939 تم إقصاء ليتفينوف من منصبه ومن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وذلك نظراً لموقفه المعادي لألمانيا، وكذلك لأصولهاليهودية، مع أنه لم يسجل نفسه يهودياً. أما بعد الغزو الألماني للاتحاد السوفيتي عام 1941، فقد عاد ليتفينوف للحياة السياسية مرة أخرى وعُيِّن سفيراً لبلاده لدى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1942 وحتى عام 1943. وعاد للاتحاد السوفيتي بعد ذلك وظل يلعب دوراً مهماً في السياسة الخارجية السوفيتية، خصوصاً فيما يخص علاقاتهابالدول الغربية الكبرى حتى اعتزاله عام 1946.

أدولف فارسكي/فارشافسكي (1868-1937(

Adolf Warski-Warszawski

زعيم شيوعي بولندي يهودي، وأحد مؤسسي الحزب الشيوعي البولندي. وُلد في كراكوف لعائلة يهودية مندمجة ومتعاطفة مع الحركة القومية البولندية المطالبة بالاستقلال التي ارتبط بها منذ شبابه. قام بتنظيم الحزب الاشتراكي الديموقراطي في بولندا وشارك في الثورة الروسية لعام 1905، وأُلقي القبض عليه عدة مرات من قبل السلطات القيصرية. وخلال الحرب العالمية الأولى، مثَّل الديموقراطيين البولنديين في المؤتمرات المناهضة للحرب. ومع انتهاء الحرب، شارك في تأسيس الحزب الشيوعي البولندي وكان عضواً في لجنته المركزية ومكتبه السياسي كما انتُخب عن الحزب عضواً في البرلمان البولندي. وبعد أن حُظر نشاط الحزب عام 1930، هاجر إلى الاتحاد السوفيتي واحتل مكانة مهمة داخل القسم البولندي للدولية الشيوعية. وفي أعقاب حملات التطهير الواسعة التي جرت في الاتحاد السوفيتي عام 1937، وُجهت إليه اتهامات بالخيانة والمشاركة في الثورة المضادة وسُجن ثم أُعدم في العام نفسه.

إمـــا جـولدمــان (1869-1940(

Emma Goldman

أمريكية يهودية وكاتبة سياسية فوضوية، وُلدت في ليتوانيا وتعرَّفت إلى الأفكار الثورية أثناء وجودها في سـانت بطرسـبرج. وفي عام 1886، هاجرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية واشتغلت في بعض مصانع الملابس. وفي أواخر الثمانينيات، انضمت إلى الحركة الفوضوية بعد أن أثارتها قضية أربعة من الفوضويين حُكم عليهم بالإعدام عام 1887 بعد إدانتهم، دون أي دليل قاطع، بتهمة تدبير انفجار تسبَّب في مصرع سبعة من رجال الشرطة في شيكاغو. وفي عام 1889، تعرَّفت إلى ألكسندر بيركمان الذي أصبح عشيقها ورفيق دربها. ويُقال إنها دبرت معه محاولة اغتيال رئيس شركة للحديد تسبَّب في مقتل عدد من العمال المضربين عام 1892. وبعد أن باءت هذه المحاولة بالفشل حُكم على بيركمان بالسجن مدة أربعة عشر عاماً. وخلال هذه الفترة، عملت إما جولدمان جاهدة من أجل دفع القضية الفوضوية إلى الأمام. ولم يقتصر نشاطها على جماعات المهاجرين من الألمان أو اليهود ولكنه امتد إلى قطاع واسع من العمال الأمريكيين. وكانت إما جولدمان تتمتع بقدرات خطابية فائقة وألقت العديد من الخطب باللغات الألمانية والروسية واليديشية والإنجليزية. وفي عام 1901، اتُهمت إما جولدمان بالتورط في اغتيال الرئيس الأمريكي آنذاك وليام ماكينلي، ومن خلال المحاكمة اتضح أنها بريئة إلا أن الشبهات التي أحاطت بها أثارت قضية الدور اليهودي في عملية الاغتيال. وفي عام 1906، أسست إما جولدمان مجلة موذر إيرث (أي أمنا الأرض)، وقامت بتحريرها بالتعاون مع بيركمان الذي كان قد أنهى عقوبته في السجن. وهاجمت على صفحات المجلة ظُلم المجتمع الأمريكي ولا أخلاقيته، كما دافعت عن حقوق المرأة وضرورة مساواتها بالرجل، واعتبرت أن كل ما يهفو بداخل المرأة « يجب أن يجد مجالاً للتعبير عن نفسه بشكل كامل ». كما كانت إما جولدمان من أوائل من دافعوا عن تحديد النسل في الولايات المتحدة، وسُجنت عام 1916 بسبب انتهاكها القوانين التي تمنع نشر أية معلومات خاصة بتحديد النسل. كما عارضتالحرب العالمية الأولى وهاجمت الجانبين المتحاربين، ونشطت ضد اشتراك الولايات المتحدة في الحرب وضد التجنيد الإجباري، وهو ما دفع الحكومة الأمريكية عام 1917 إلى إلقائها في السجن لمدة عامين وإغلاق مجلتها.

وفي عام 1919، تم ترحيلها إلى الاتحاد السوفيتي بعد أن تسبَّب قيام الثورة البلشفية في خلق حالة من الذعر في الولايات المتحدة من الشيوعية. ولم تقض إما جولدمان في الاتحاد السوفيتي سوى عامين حيث تركته بعد أن خاب ظنها في النظام الجديد. وقد هاجمت لينين وتروتسكي واعتبرتهما خائنين للاشتراكية لأنهما أسسا شكلاً جديداً من الحكم المطلق والطغيان. واعتبرت أن تجربتها في روسيا أكدت إيمانها بأن الدولة، مهما كانت طبيعتها، تشكل في النهاية سلطة قهرية تمحو خصوصية الإنسان وحريته.

وقد سجلت إما جولدمان تجربتها في روسيا في كتابها خيبة أملي في روسيا (1924). وعاشت لفترة تنتقل من دولة إلى أخرى ثم حصلت على الجنسية البريطانية وتزوجت فوضوياً من ويلز واستقرت في جنوب فرنسا حيث كتبت سيرتها الذاتية عام 1931. وظلت على إيمانها بأهمية حرية الفرد الذي يعمل وفقاً لمعاييره وقيمه، واعتبرت أن الرأسمالية تحكم على الإنسان بحياة من الشقاء والعبودية وأن التعاون الحر بين الجماهير هو السبيل الوحيد نحو خلق مجتمع شيوعي جديد. وقد تُوفيت إما جولدمان في كندا عام 1940 ودُفنت في شيكاغو.

روزا لوكسـمبـورج (1871-1919(

Rosa Luxemburg

ثورية واقتصادية من يهود اليديشية، وإحدى أهم الشخصيات النسائية في تاريخ الاشتراكية الدولية. وُلدت لعائلة يهودية تجارية في مدينة زاموست في بولندا الروسية، وانضمت في شبابها إلى الحزب الاشتراكي الثوري البولندي (البروليتاريا). ثم درست التاريخ الاقتصادي السياسي في جامعة زيورخ حيث حصلت على درجة الدكتوراه عام 1897. وتناولت رسالتها التطور الصناعي في روسيا وبولندا. وشاركت روزا أثناء فترة دراستها في الحركة الاشتراكية السرية للمهاجرين البولنديين في سويسرا. وفي أوائل التسعينيات من القرن الثامن عشر، ساعدت في تأسيس الحزب الاشتراكي الديموقراطي في بولندا وليتوانيا. وعلى خلاف توجُّه الاشتراكيين البولنديين، رفضت روزا فكرة إقامة دولة قومية بولندية مستقلة، واعتبرت أن هدف الطبقة العاملة البولندية يجب ألا يكون تحرير بولندا من روسيا، ولكن التخلص من الحكم القيصري المستبد باعتباره المهمة الاشتراكية الأسمى. ويُعتبر هذا الموقف مقدمة لخلاف روزا اللاحق مع لينين حول مبدأ حق تقرير المصير الوطني والذي اعتبرته متناقضاً مع الاشتراكية. إذ اعتبرت روزا أن انتماءها الحقيقي هو للطبقات العاملة في العالم أجمع، وأن نضالها هو من أجل تحقيق الثورة الاشتراكية ومن أجل إيجاد حلول عالمية كبديل للحلول القومية، وانطلاقاً من هذا الموقف الأممي لم تُبد روزا لوكسمبورج أي اهتمام بإقامة حركة عمالية يهودية.

وقد لعبت روزا لوكسمبورج دوراً مهماً في الحركة الاشتراكية العمالية الألمانية. وهاجرت إلى ألمانيا عام 1898 حيث اكتسبت الجنسية الألمانية من خلال زواج صوري، ثم اتجهت للعمل مع الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني الذي كان يُعتبَر آنذاك أقوى وأكبر أحزاب الدولية الاشتراكية على الإطلاق. كما عملت في الصحافة واكتسبت من خلال مناقشتها الحيوية ونشاطها ضد عناصر المراجعة داخل الحزب، مكانة بارزة داخل الجناح اليساري الثوري للحركة الاشتراكية الألمانية. واهتمت روزا لوكسمبورج بالإضراب العام كأداة مهمة للعمل الثوري وبلورت مفهوم الحركة العفوية أو التلقائية للجماهير كشرط أساسي للإضراب العام، مختلفةً في ذلك مع لينين والبلاشفة الذين اعتبروا الحزب الأداة الرئيسية لذلك. وقد اختلفت مع لينين أيضاً حول مفهوم ديموقراطية البروليتاريا، وأدانت مركزية البلاشفة بعد انقسام الحزب الاشتراكي الروسي عام 1903، كما انتقدت فترة الإرهاب والقمع التي أعقبت ثورة 1917 البلشفية. واشتركت روزا لوكسمبورج في ثورة 1905 ـ 1906 في بولندا وسُجنت إثرها عدة أشهر عادت بعدها إلى برلين لتقوم بالتدريس في الكلية الاشتراكية بها. وقد تعرضت للسجن مرة أخرى بسبب معارضتها الحرب العالمية الأولى التي اعتبرتها حرباً بين قوى إمبريالية. وقد كان لروزا لوكسمبورج مساهمة مهمة في بلورة نظرية الإمبريالية التي اعتبرتها امتداداً للنظام الرأسمالي المتعطش للأسواق. وفي عام 1916، أسَّست بالتعاون مع فرانز مهرنج وكارل لايبنخت المنظمة الثورية (عصبة سبارتاكوس) التي جسدت انفصال الجناح اليساري الثوري عن الحزب الاشتراكي الألماني. وتحوَّلت هذه المنظمة في نهاية عام 1918 إلى الحزب الشيوعي الألماني. وفي يناير عام 1919، وبعد أسبوعين فقط من تأسيس الحزب الشيوعي، تم إلقاءالقبض عليها وعلى لايبنخت في برلين، واغتيلا على أيدي حراسهما من ضباط الجيش وهما في طريقهما إلى السجن.

جوليوس مارتوف (1873-1923(

Julius Martov

ثوري روسي يهودي وزعيم المناشفة. وُلد في إستنبول. وكان جده كاتباً ومحرراً لأول جريدة يومية تَصدُر بالعبرية في روسيا، أما والده فكان من دعاة الاندماج. انخرط مارتوف في النشاط الثوري عام 1891 ونُفي إلى فلنا حيث نشط في الحركة العمالية اليهودية. ودعا مارتوف إلى إيجاد تنظيم عمالي خاص باليهود تكون لغته اليديشية، وهو ما تحقَّق فيما بعد في حزب البوند. وفي عام 1895، انضم إلى لينين لتأسيس اتحاد النضال من أجل تحرير الطبقة العاملة، ثم اشترك معه عام 1901 في تأسيس جريدة إيسكرا لسان حال الحزب الاشتراكي الديموقراطي الروسي. وتخلَّى مارتوف عن موقفه السابق الخاص بالمسألة اليهودية حيث هاجم بشدة التوجه القومي والانفصالي لحزب البوند.

وفي عام 1903، انشق مارتوف عن لينين خلال المؤتمر الثاني للحزب الاشتراكي الديموقراطي وتزَّعم المعارضة المنشفية المطالبة بحزب جماهيري ذي قاعدة واسـعة والرافضة لمبدأ لينين القائل بحزب يستند إلى صفوة صغيرة من المحترفين الثوريين. وشارك مارتوف في ثورة عام 1905، وبعد فشلها نُفي خارج روسيا حيث حرَّرالجريدة المنشفية في باريس. وخلال الحرب العالمية الأولى، كان مارتوف من أقطاب حركة السلام المناهضة للحرب. وفي عام 1917، عاد مارتوف إلى روسيا حيث كان من دعاة الديموقراطية وهاجم الجانب القمعي للنظام البلشـفي الجديد، ولكنه أيَّد نضـاله ضـد التـدخل الأجنبي والثورة المضادة. وبعد حظر نشاط الحزب المنشفي عام 1920، استقر مارتوف في برلين ليتزعم المناشفة المنفيين خارج الاتحاد السوفيتي، وقام بتحرير جريدتهم حتى وفاته. وكان لمارتوف عدد من المؤلفات المهمة من بينها الشعب الروسي واليهود (عام 1908) والذي أكد فيه إيمانه بأن الاشتراكية هي الحل الوحيد للمسألة اليهودية.

ليون تروتسكي (1879-1940(

Leon Trotsky

اسمه الأصلي ليف ديفيدوفيتش برونستاين. ثوري وماركسي وزعيم سوفيتي، وُلد لعائلة يهودية ميسورة الحال في أوكرانيا. درس في جامعة أوديسا، ولكنه ترك دراسته وانخرط في النشاط الثوري، وانضم عام 1896 إلى حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي المحظور. وقد ألقت السلطات القيصرية القبض عليه عام 1898 وأُرسل إلى سيبريا، إلا أنه نجح في الهروب إلى إنجلترا عام 1902 حيث عمل مع لينين في تحرير جريدة إيسكرا لسان حال الحزب الاشتراكي الديموقراطي الروسي، وكان يُدعَى «سوط لينين». وخلال المؤتمر الثاني للحزب عام 1903، الذي شهد انقسام الحزب إلى جناحين، أوضح تروتسكي اختلافه مع لينين وهاجم ما اعتبره النزعات الديكتاتورية للبلاشفة واتخذ موقفاً وسطياً بين المناشفة والبلاشفة، وبلور حينذاك نظرية « الثورة الدائمة» التي اعتبرت أن الثورة البورجوازية في روسيا ستؤدي، من خلال حركياتها وقوة دفعها الذاتية، إلى سرعة مجيء المرحلة الاشتراكية حتى قبل قيام الثورة الاشتراكية في الغرب، أو ما دعاه فكرة اختصار المراحل مقابل فكرة مراحل الثورة الثابتة.

واستمر تروتسكي في نشاطه وكتاباته الثورية سواء في داخل روسيا أو في أوربا أو الولايات المتحدة، حيث لعب دوراً مهماً في ثورة 1905 في روسيا، وكان رئيساً لسوفييت بتروجراد، حيث برزت موهبته التنظيمية والقيادية الفذة. وتعرَّض تروتسكي للسجن في روسيا مرة أخرى عام 1905، وللطرد من فرنسا عام 1916. وقد اتخذ موقفاً معادياً للحرب العالمية الأولى استناداً إلى رؤيته الأممية. ومع اندلاع ثورة فبراير 1917، عاد إلى روسيا وبدأ التعاون مع لينين. وقد ألقت حكومة كرنسكي الانتقالية القبض عليه، ولكن تم الإفراج عنه بعد فترة وجيزة. وأثناء سجنه، انتُخب عضواً في اللجنة المركزية للبلاشفة ورئيساً لسوفييت بتروجراد ولجنتها العسكرية. ونظَّم تروتسكي وقاد الانتفاضة المسلحة التي جاءت بالبلاشفة إلى الحكم في أكتوبر من العام نفسه.

وفي أول حكومة شكلها البلاشفة عام 1917، تولَّى تروتسكي منصب مفوض أو قوميسار الشعب للشئون الخارجية، وترأَّس وفد بلاده لمحادثات السلام في برست ليتوفسك. وقد اختلف تروتسكي مع لينين حول مسألة السلام مع ألمانيا، حيث رفض فكرة السلام بأي ثمن وتبنَّى فكرة إنهاء القتال مع عدم إنهاء الحرب على أمل أن تقوم البروليتاريا الألمانية بثورتها.

وفي عام 1918، تولَّى منصب مفوض الشعب للشئون العسكرية والبحرية حيث عمل على بناء وتنظيم الجيش الأحمر. وإليه يعود الفضل في انتصار البلاشفة في الحربالأهلية التي أعقبت الثورة. قاد تروتسكي الحملة على بولندا التي انتهت بكارثة رغم معارضته لها في البداية. وكان مسئولاً عن ضرب المعارضة الفوضوية واليسارية فيماعُرف بعدئذ باسم « الإرهاب الأحمر »، كما كان صاحب فكرة كتائب العمل الإجباري. ومع وفاة لينين عام 1924، نشب صراع على السلطة بين تروتسكي وستالين انتصر فيه الأخير بفضل تحالفه مع زينوفييف وكامينيف (وهما من البلاشفة اليهود). وقد اختلف تروتسكي مع ستالين حول سياسة بناء الاشتراكية في بلد واحد، فلم يكن تروتسكي يقبل فكرة الاشتراكية داخل حدود دولة واحدة، بل اعتبر أن ذلك لن يتحقق إلا من خلال ثورة اشتراكية على نطاق العالم أجمع. وتزَّعم تروتسكي المعارضة اليسارية الراديكالية شبه الشرعية داخل الحزب، وانضم إليه زينوفييف وكامينيف بعد أن تحـوَّل سـتالين ضـدهما. إلا أن سـتالين نجح، في نهاية الأمر، في إقصاء تروتسكي من المكتب السياسي، وفي طرده من الحزب الشيوعي عام 1927، ثم نفيه إلى تركستان عام 1928 بتهمة التورط في نشاط معاد للثورة. ثم طرده ستالين من الاتحاد السوفيتي نهائياً عام 1929 وجرَّده من الجنسية السوفيتية عام 1932. وقد استمر تروتسكي في الهجوم على ستالين واتهمه بأنه مُمثِّل البيروقراطية البونابارتية. وتنقَّل تروتسكي بين عدة دول واستقر أخيراً في المكسيك عام 1937. وحاول مؤيدو تروتسكي عام 1938 تأسيس دولية شيوعية مستقلة عن موسكو، إلا أنهم فشلوا في تعبئة حركة جماهيرية واسعة مؤيدة له. واتُهم تروتسكي، أثناء المحاكمات التي تمت في موسكو في أواسط وأواخر الثلاثينيات ضد بعض القيادات البلشفية (وكان من بين المتهمين زينوفييف وكامينيف)، بتورُّطه، بالاتفاق مع حكومتي ألمانيا واليابان وبعض العناصر المؤيدة له في الاتحاد السوفيتي، في مؤامرة للإطاحة بنظام ستالين. وقد قامت السلطات السوفيتية بشطب أية إشارة إلى دور تروتسكي في الثورة أو في السنوات الأولى للنظام السوفيتي من السجلات التاريخية الرسمية. واغتيل تروتسكي عام 1940 في المكسيك، ويسود الاعتقاد بأنه اُغتيل بأوامر مباشرة من ستالين.

وقد تأثر تروتسكي، مثله مثل غيره من القادة الاشتراكيين، برؤية ماركس للمسألة اليهودية، والتي ترى أن ثمة ظاهرة يهودية عالمية واحدة وأن ثمة حلاًّ واحداً وهو الثورة الاجتماعية ودمج اليهود. فرفض تروتسكي فكرة القومية اليهودية، كما عارض استقلال اليهود ثقافياً الذي كان يطالب به حزب البوند عام 1903، وأكد وحدة أهداف ومصالح اليهود وغير اليهود داخل المعسكر الاشتراكي. كما رفض الصهيونية باعتبار أن حل مشاكل العصر لا يكون في إقامة دول قومية ولكن بالتطلع إلى مجتمع أممي. ورغم أن تروتسكي أعرب عام 1937 في حديث له لمجلة أمريكية يهودية عن أن تزايُد معاداة اليهود في ألمانيا والاتحاد السوفيتي قد دفعه للاعتقاد بأن المشكلة اليهوديةتحتاج إلى حل إقليمي، إلا أنه رفض أن تكون فلسطين هي الحل. وقد تنبأ بأن الطبيعة الاسـتيطانية الإحلالية سـتحوّل فلسـطين إلى بقعـة صراع ساحقة، وأن الصراع بيناليهود والعرب في فلسطين سيكتسب طابعاً مأساوياً بشكل متزايد وأن "تطوُّر الأحداث العسكرية في المستقبل قد يحوِّل فلسطين إلى فخ دموي لعدد من مئات الآلاف مناليهود". ولذا استمر تروتسكي في تأكيد أن الحل النهائي للمسألة اليهودية لن يتحقق إلا مع تحرُّر الإنسانية من خلال الاشتراكية العالمية. ومع هذا اتجه تروتسكي في نهاية حياته إلى قبول المشروع الصهيوني.

لقد كان تروتسكي من جيل الثوريين الرومانسيين أو على حد تعبير هربرت ريد « كان تروتسكي يوحِّد التاريخ مع ذاته » (فبدلاً من حلول الإله في التاريخ نجد هنا توحُّد الزعيم به بحيث يصبح هو المطلق، أو اللوجوس الذي يضفي عليه معنى، فهو بمثابة الماشيَّح العلماني). ومنذ بداية نشاطه الثوري، اهتم تروتسكي كثيراً بإيجاد دور لنفسه يجعله في صدارة الأحداث. ومع هذا، تُشكِّل نظريته في « الثورة الدائمة » ذروة الحلولية الثورية في الماركسية، فبإمكان الحزب الطليعي أن يقود الطبقة الطليعية إلى الجنة الدائمة رغماً عن حركة التاريخ! ونلاحظ أن قبول تروتسكي فيما بعد فكرة « المركزية الديموقراطية » اللينينية هو أمر طبيعي، حيث ينتهي الأمر إلى أن تقود اللجنة المركزية الحزب الطليعي ويقود الأمين الثوري الذي يمثل التجسيد النقي للفكر البروليتاري اللجنة المركزية.

جريجوري زينوفييف (1883-1936(

Grigori Zinoviev

ثوري روسي، والمؤسس الرئيسي للدولية الشيوعية وأول رئيس للجنتها التنفيذية. وُلد في أوكرانيا لعائلة يهودية بورجوازية، واندمج تماماً في المجتمع الروسـي والحياة الروسية، وتبنَّى الماركسـية منـذ شبابه، وانضم عام 1901 إلى الحزب الاشتراكي الديموقراطي الروسي ثم إلى الجناح البلشفي بعد انقسام الحزب عام 1903. اشترك في ثورة 1905، وبعد فشلها انضم إلى لينين في منفاه وأصبح من المقربين إليه، وكتب العديد من المقالات والمطبوعات والمنشورات التي جسدت فكر لينين، كما شارك في تحرير عدة صحف ومجلات اشتراكية وبلشفية. وخلال الحرب العالمية الأولى، أصدر زينوفييف، بالاشتراك مع لينين، كتابهما المهم ضد التيار الذي هاجما فيه الحرب والقيادات الاشتراكية المنشقة. وصاحب لينين في رحلة القطار الذي أقله إلى روسيا في أبريل من عام 1917. إلا أن زينوفييف اختلف مع لينين عشية الثورة البلشفية حيث عارض فكرة الانتفاضة المسلحة والاستيلاء على السلطة بالقوة خوفاً من التدخل الأجنبي. ورغم هذا الاختلاف، أصبح زينوفييف عام 1922 عضواً في المكتب السياسي ورئيس سوفييت بتروجراد. إلا أن أهم منصب احتله كان رئاسة الكومنترن (أو الدولية الشيوعية) حيث عمل على تشكيل بنيتها وبناء إستراتيجيتها، وعمل من خلالها على دعم حركة الثورة العالمية. ولكن تراجع هذه الحركة في العشرينيات، وفشل الثورة في ألمانيا، أضعفا مركزه العالمي. ولكنه، مع ذلك، ظل داخل دائرة السلطة في الاتحاد السوفيتي. ومع وفاة لينين عام 1924، انضم إلى الترويكا (اللجنة الثلاثية) التي ضمت إلى جانبه ستالين وكامينيف والتي أقصت تروتسكي من السلطة السياسية. إلا أن تبنِّي ستالين سياسة بناء الاشتراكية في بلد واحد واتجاهه نحو الانفراد بزعامة الحزب، دفعت زينوفييف إلى الانضمام عام 1926 إلى جبهة المعارضة التي تزعمها تروتسكي داخل الحزب. وانتهى هذا الصراع على السلطة بهزيمة زينوفييف وخروجه من الحزب عام 1927. وفي عام 1936، وبعد حادثة اغتيال سكرتير الحزب في لينينجراد عام 1934، وُجِّه الاتهام إلى زينوفييف وخمسة عشر آخرين من زملائه بالتورط في مؤامرة ضد نظام ستالين والحزب الشيوعي السوفيتي بالتعاون مع تروتسكي. وقد اعترف المتهمون (ومن بينهم زينوفييف) علناً بالتورط في المؤامرة، وصدر حكم بإعدامه نُفِّذ فوراً في عام 1936. ولم يهتم زينوفييف بالموضوع اليهودي ولم تلعب أصوله اليهودية دوراً واضحاً أو كامناً في تحديد سلوكه أو رؤيته، فقد كان يهودياً مندمجاً تماماً أو يهودياً غير يهودي.

ليو كامينيـف (1883-1936(

Leo Kamenev

اسمه الأصلي ليف بوريسوفيتش روزنولد. ثوري روسي يهودي ورجل دولة سوفيتي، وُلد في موسكو وانضم عام 1901 إلى الحزب الاشتراكي الديموقراطي المحظور ثم إلى جناحه البلشفي عام 1903 بعد انقسام الحزب، وكان من كبار قادة هذا الجناح ومن أقرب المتعاونين مع لينين. وسُجن عام 1902، ثم سُجن مرة أخرى عام 1908بسبب نشاطه الثوري، وهرب إلى سويسرا حيث تعاون مع لينين في تحرير جريدتي الحزب. وفي عام 1904، أرسله لينين إلى بطرسبورج كممثل شخصي له لتحرير جريدة برافدا والإشراف على نشاط الحزب في روسيا. ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، تم إلقاء القبض عليه ونفيه إلى سيبريا. إلا أنه عاد إلى بتروجراد بعد قيام ثورة فبراير 1917. وقد اختلف كامينيف، ومعه زينوفييف، مع لينين حول فكرة الانتفاضة المسلحة والاستيلاء على السلطة بالقوة، حيث فضل قيام جبهة حكومية تضم جميع الأحزاب الاشتراكية. ورغم ذلك الاختلاف، أصبح كامينيف (بعد قيام الثورة البلشفية) واحداً من أكثر الشخصيات قوة وسلطة في الاتحاد السوفيتي، حيث احتل منصب رئيس سوفييت موسكو، كما كان عضواً في المكتب السياسي للحزب. وبعد وفاة لينين عام 1924، قام كامينيف مع ستالين وزينوفييف بتشكيل الترويكا (اللجنة الثلاثية) التي نجحت في إقصاء تروتسكي من السلطة السياسية وانفردت بالسيطرة على الحزب وحكم البلاد.

ولكن، ومع محاولة ستالين الانفراد بالسلطة، انضم كامينيف في الفترة ما بين عامي 1925 و1927 إلى المعارضة التي تزعمها تروتسكي. وبانتهاء هذا الصراع على السلطة بنجاح ستالين، تم طرد كامينيف من الحزب عام 1927 ونفيه إلى منطقة الأورال. وقد عاد كامينيف إلى صفـوف الحزب مرتين، مـرة في عام 1927 ثم مـرة أخرى في عام 1932، وذلك بعد أن اعترف في كل مرة بشكل علني بسلامة الخط الذي ينتهجه الحزب. وبرغم ذلك، وُجِّه الاتهام لكامينيف عام 1936 وإلى كثيرين غيره من القادة البلاشفة بالتورط في مؤامرة ضد نظام ستالين والحزب الشيوعي، وذلك عقب حادثة اغتيال سكرتير الحزب في لينينجراد عام 1934. وكان كامينيف من أبرزالشخصيات أثناء محاكمات موسكو، التي اعترف فيها جميع المتهمين بالتهم الموجهة إليهم. وقد حُكم عليه بالإعدام في أغسـطس عام 1936 ونُفِّذ فيه الحكم فـوراً. ولمتلعب أصـول كامينيف اليهودية دوراً في تحديد رؤيته أو سلوكه.

ميخائيلوفيتش سفيردلوف (1885-1919(

Mikhailovich Sverdlov

ثوري روسي يهودي، وواحد من أهم مؤسسي الحزب الشيوعي السوفيتي، وأول رئيس للاتحاد السوفيتي. وُلد في مدينة نيزني ـ نوفجورود (التي أصبحت مدينة جوركي فيما بعد). انخرط في شبابه في النشاط الثوري وأسس عام 1901 اللجنة الثورية لمدينة نيزني ـ نوفجورود. وفي عام 1909، أسندت إليه اللجنة المركزية للحزب مهمة إعادة بناء تنظيمات الحزب في موسكو. وفي عام 1912، شارك أيضاً في تنظيم وبناء جناح الحزب داخل البرلمان الروسي. وتميَّز سفيردلوف بقدراته التنظيمية في هذا المجال. وقد سُجن مرتين (1902، 1905) ونُفي إلى سيبريا مرتين أيضاً (1910، 1913). وبعد ثورة فبراير عام 1917، أصبح من أهم منظمي الحزب. أما بعد الثورة البلشفية، فقد عُيِّن رئيساً للجنة المركزية التنفيذية الروسية وكأول سكرتير للجنة المركزية للحزب ومن ثم أول رئيس للدولة السوفيتية. وقد عمل عن كثب مع لينين وشاركه في اتخاذ كثير من القرارات الخاصة بسياسات الدولة. وقد سُمِّيت إحدى المدن السوفيتية باسمه بعد وفاته تقديراً لدوره الحزبي والثوري المهم.

كارل راديك (1885-1939(Karl Radek

اسمه الأصلي سوبيلسون. ثوري روسي يهودي وكاتب صحفي، وُلد في جاليشيا، وانضم إلى الحزب الاشتراكي الديموقراطي البولندي فكان مُمثِّلاً صحفياً للجناح اليساري للحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني. وكان كارل ممن صاحبوا لينين عام 1917 في رحلة القطار الذي أقله من سويسرا عبر ألمانيا إلى السويد، وظل في السويدمُمثِّلاً للحزب البلشفي إلى أن اندلعت الثورة البلشفية فعاد بعدها إلى روسيا، وترأَّس قسم وسط أوربا في مفوضية الشئون الخارجية. وبعد اندلاع الثورة في ألمانيا عام 1918، ساعد راديك بشكل سري في تنظيم أول مؤتمر للحزب الألماني الشيوعي بعد أن دخل ألمانيا بشكل غير شرعي. وفي عام 1920، أصبح راديك سكرتيراً للجنة التنفيذية للدولية الشيوعية كما أصبح عضواً باللجنة المركزية للحزب الشيوعي. وفي عام 1924، انضم راديك إلى المعارضة التروتسكية وهو ما أدَّى إلى طرده من الحزب عام 1927 ونفيه إلى جبال الأورال. وفي عام 1930، سُمح له بالعودة إلى صفوف الحزب مرة أخرى بعد أن قدَّم طلباً بذلك أعلن فيه انفصاله عن المجموعة التروتسكية واعترف بأخطائه. وبعد ذلك أصبح راديك كاتباً وصحفياً ومُعِّلقاً ذا وزن ونفوذ في الشئون الخارجية. واشترك عام 1936 في وضع مشروع «دستور ستالين» للاتحاد السوفيتي، ولكنه تعرَّض مرة أخرى عام 1937 للاتهام بالعضوية في المعارضة التروتسكية وبالتآمر ضد الدولة السوفيتية، وقُدِّم للمحاكمة مع غيره من المتورطين في التنظيم التروتسكي حيث حُكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات مع حرمانه من جميع حقوقه السياسية لمدة خمس سنوات ومصادرة ممتلكاته الخاصة. ولم يُعرَف أي شيء عن راديك بعد ذلك وتضاربت الأقـوال عن مصـيره، وإن كان البعـض يُرجِّح أنه تُوفي عـام 1939.

سـيمون ديمانشتاين (1886-1937)

Simon Dimanstien

ثري روسي يهودي وزعيم شيوعي سوفيتي. وُلد في روسيا البيضاء لعائلة يهودية متدينة ودرس في معهد تلمودي حسيدي وتخرَّج فيه حاخاماً. وفي تلك الآونة، وقع تحت تأثير الأفكار الثورية المناهضة للقيصرية فانخرط في النشاط الثوري وانضم عام 1904 إلى الجناح البلشفي للحزب الاشتراكي الديموقراطي الروسي وقام بنشاط دعائي بين العمال اليهود. وأُلقي عليه القبض عدة مرات، وفي عام 1908 حُكم عليه بالنفي إلى سيبريا، ولكنه نجح في الهروب عام 1913 وذهب إلى فرنسا حيث ظل فيها حتى قيام ثورة فبراير عام 1917، وعاد بعد ذلك إلى روسيا. وبعد قيام الثورة البلشفية، عمل مساعداً لستالين ثم رئيساً لدائرة شئون الأقليات حيث كان يُعَدُّ خبيراً في هذا المجال. وعُيِّن أيضاً رئيساً لدائرة الشئون اليهودية. وفي عام 1918، شارك في تأسيس القسم اليهودي (يفسيكتسيا) في الحزب الشيوعي، كما قام بتحرير جريدة يديشية يومية تميَّزت بخطها المعادي للدين والصهيونية وحزب البوند. وكان ديمانشتين مؤمناً بأن الثورة الاشتراكية ستحل مشاكل الجماعة اليهودية في روسيا، وأيَّد الحل الإقليمي للمسألة اليهودية داخل إطـار الدولة السـوفيتية، حيث لعب دوراً مهماً في تأسيس إقليم بيروبيجان. كما حرص أيضاً على ترجمة أعمال لينين إلى اليديشية حتى يتيح الفرصة لأعضاء الجماعات اليهودية للاطلاع على فكر لينين والفكر الاشتراكي.

ونظراً لخبرته في شئون الأقليات، احتل ديمانشتين عدداً من المناصب الإدارية في أقاليم ومقاطعات مختلفة، وكان رئيساً لدائرة العمل في ليتوانيا خلال الحرب الأهلية، وترأَّس الحكومة الإقليمية في روسيا البيضاء كما عُيِّن رئيساً لدائرة التعليم في تركستان، ثم رئيساً لقسم التربية السياسية في أوكرانيا، ثم رئيساً لمجلس إدارة منظمة أوزيت ورئيساً لمعهد الأقليات القومية.

وبعد صعود ستالين إلى السلطة، تقلَّص نفوذ ديمانشتين. ويُرجَّح أنه أُعدم عام 1937 خلال فترة الإرهاب الستاليني.

آنـــا بوكــر (1890-1960(

Ana Pauker

الاسم الأصلي لبوكر هو «حنا رابينسون». وهي زعيمة شيوعية رومانية ووزيرة ونائبة رئيس وزراء. وُلدت في بوخارست لعائلة يهودية أرثوذكسية، وتلقت تعليماً يهودياً تقليدياً ثم قامت بتدريس اللغة العبرية في مدرسة ابتدائية يهودية. وفي عام 1920، انضمت (تحت تأثير خطيبها مارسيل بوكر الذي تزوجته فيما بعد) إلى الحزب الشيوعي المحظور، وقامت بتنظيم خلية شيوعية سرية. وأُلقي القبض عليها وحُكم عليها بالسجن لفترة طويلة عام 1936، ولكن تم الإفراج عنها عام 1941 في عملية تبادل للسجناء بين الاتحاد السوفيتي ورومانيا عقب احتلال القوات السوفيتية لمنطقة بساربيا، وانتقلت إلى موسكو ولم تَعُد إلى رومانيا إلا مع القوات السوفيتية التي دخلتها عام 1944. ورغم أن زوجها أُعدم في الاتحاد السوفيتي أثناء إحدى زياراته له، وذلك في إطار حملة التطهير التي قام بها ستالين ضد البلاشفة القدامى، إلا أن إيمانها بالنظام السوفيتي على ما يبدو لم يتزعزع. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أصبحت بوكر واحدة من أقوى القادة الشيوعيين في رومانيا. وساهمت في تشكيل الجبهة الديموقراطية الرومانية، وتولت منصب سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي. وبعد وصول الشيوعيين للحكم عام 1947، أصبحت وزيرة للخارجية ونائبة لرئيس الوزراء وتمتعت بسلطات واسعة.

وكانت بوكر قد قطعت جميع صلاتها بالجماعة اليهودية في رومانيا كما كانت مناهضة بشدة للصهيونية. ورغم ذلك، سُمح أثناء وجودها في السلطة بهجرة مائة ألف يهودي روماني إلى إسرائيل، ولعل هذا كان في إطار محاولتها تخليص رومانيا من العناصر التي قد تُسبب قلقاً اجتماعياً فيها.

وفي عام 1952، وُجِّهت لبوكر عدة اتهامات من بينها الانحراف اليميني والنشاط الصهيوني وتشجيع الهجرة اليهودية إلى إسرائيل، وطُردت من الحزب الشيوعي وأُعفيت من جميع مناصبها ووُضعت تحت التحفظ في منزلها لعدة سنوات. وقد تعرض عدد من القادة والزعماء الشيوعيين من اليهود وغير اليهود في دول أوربا الشرقية لإجراءات مماثلة في هذه الفترة، وهي إجراءات ارتبطت في المقام الأول بالصراعات السياسية الداخلية وبعلاقات هذه الدول بالاتحاد السوفيتي خلال فترة اشتداد حمية الحرب الباردة.

موسى بيجادي (1890-1957(

Mosa Pijade

ثوري وسياسي يوغسلافي يهودي. وُلد في بلجراد، ودرس فن الرسم في ميونيخ وباريس، ثم انضم عام 1920 إلى الحزب الشيوعي اليوغسلافي المحظور، وسُجن عام 1921 بسبب نشاطه الثوري، ثم سُجن مرة أخرى عام 1925 وحتى عام 1939. وقام خلال هذه الفترة بترجمة رأس المال لماركس إلى اللغة الصربية. وبعد الاحتلال الألماني ليوغسلافيا عام 1941، تحوَّل بيجادي إلى بطل قومي حيث نظَّم المقاومة الشيوعية ضد الاحتلال تحت قيادة تيتو. وبعد تولِّي تيتو قيادة البلاد عقب تحريرها عام 1945، كان بيجادي من أقرب المساعدين له، حيث تولى عدداً من المناصب من أهمها رئاسة الجمهورية الصربية، ومن ثم كان أحد أربعة نواب لرئيس الدولة. كما شارك في وضع دستور يوغسلافيا الجديد ولعب دوراً رئيسياً في رسم سياسة يوغسلافيا تجاه الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشرقية، وكذلك في رسم السياسة التي تبنت يوغسلافيا بموجبها طريقاً مستقلاً عنهما.وقد تولَّى بيجادي رئاسة البرلمان اليوغسلافي، كما كان عضواً في المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب.

لازار كاجــانوفيـتش (1893-1991(

Lazar Kaganovich

ثوري روسي ورجل دولة سوفيتي، وُلد في كييف لعائلة يهودية ريفية. انضم عام 1911 إلى الحزب البلشفي بعد أن غيَّر اسمه من كوجان إلى كاجانوفيتش. وفي عام 1914، أصبح عضواً في لجنة الحزب الشيوعي في كييف، ولعب دوراً نشيطاً في الفترة التي سبقت انـدلاع ثـورة 1917 مباشـرة. وخلال الحرب الأهلية (1918 ـ 1920)، خدم كضابط سياسي في الجيش الأحمر، ثم تولَّى رئاسة الحزب الشيوعي في أوكرانيا في الفترة بين عامي 1925 و1927.وفي عام 1930،ضمه ستالين إلى المكتب السياسي للحزب الشيوعي.وأصبح كاجانوفيتش، طوال الثلاثينيات، الرجل الثاني في الدولة، فأشرف على تنفيذ عدة مشاريع مهمة في الدولة من بينها مترو أنفاق موسكو (الذي حمل اسمه لفترة طويلة) وأعمال بناء السكك الحديدية والصناعات الثقيلة. كما تولَّى مسئولية تنفيذ عملية الزراعة الجماعية في الاتحاد السوفيتي، ونقل ملايين الفلاحين إلى المزارع الجماعية الضخمة المملوكة للدولة. وقد ترأَّس في الفترة ما بين عامي 1933 و1936 لجنة الرقابة داخل الحزب، وأشرف على عمليات التطهير داخله التي شملت آلاف الأعضاء.

وخلال الحرب العالمية الثانية، كان كاجانوفيتش عضواً في وزارة الحرب السوفيتية، ثم عُيِّن بعد الحرب نائباً لرئيس الوزراء ثم نائباً أول لرئيس الوزراء. ووقف كاجانوفيتش إلى جانب ستالين خلال فترة الإرهاب الستاليني التي أعقبت الحرب والتي راح ضحيتها كثير من اليهود وغير اليهود أيضاً.

وفي عام 1957، اتُهم كاجانوفيتش بالاشتراك مع مولوتوف ومالنكوف وغيرهما، في محاولة لإقصاء خروشوف من رئاسة الحزب الشيوعي. ولذلك أُعفي من جميع مناصبه وطُرد من الحزب الشيوعي عام 1961، وحاول العودة إليه بعد سقوط خروشوف ولكنه فشل.

وقد ظل كاجانوفيتش طوال حياته متمسكاً بتأييده لستالين ولعهده وسياساته، ورفض بشدة هجرة اليهود السوفييت إلى إسرائيل، سواء أثناء وجوده في الحكم أو فيما بعد ذلك وحتى وفاته. وعارض وجود قسم خاص لليهود داخل الحزب الشيوعي، كما عارض أيضاً حزب البوند، وهو ما يدل على نزعته الأممية الاندماجية الحادة.

إرنـو جـيرو (1898-1980(

Erno Gero

زعيم شيوعي مجري يهودي، وُلد في بودابست وانضم عام 1918 إلى الحزب الشيوعي واشترك في الثورة التي قادها بيـلا كون عام 1919. وعندما فشلت الثورة في ألمانيا، عاد سراً إلى المجر حيث قام بتحرير جريدة شــيوعية سـرية. وعـاش جيرو لفترة في الاتحاد السوفيتي، كما ساعد العناصر الشيوعية في إسبانيا خلال الحرب الأهلية الإسبانية. وفي عام 1944، عاد إلى المجر مع الجيش السوفيتي وبدأ في احتلال مواقع مهمة في الدولة حيث أصبح وزيراً للنقل ثم المالية ثم وزير دولة ووزيراً للتجارة الخارجية. وأشرف على عمليات إعادة البناء وعلى تنفيذ الخطط الخمسية. وفي الفترة ما بين عامي 1965 و1966، تولَّى منصب نائب رئيس الوزراء كما كان عضواً في المكتب السياسي.

بعد إقصاء ماتياس راكوسي عن الحكم، عُيِّن جيرو سكرتيراً أول للحزب الشيوعي عام 1956. وحاول، خلال فترة حكمه القصيرة، كبح جماح تيار التغيير ولكن دون جدوى. ومع تفجُّر الانتفاضة المجرية، استنجد بالجيش السوفيتي للتدخل، ولكن تم إقصاؤه من الحكم ففرَّ من البلاد. وعاش جيرو عدة سنوات في الاتحاد السوفيتي حيث مُنع من العودة إلى المجر حتى عام 1962. كما طُرد من الحزب الشيوعي.

رودولف سلانسكي (1901-1952(

Rudolf Slansky

اسمه الأصلي رودولف شليزنجر. سكرتير عام الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي الذي أُعدم عام 1952 بتهمة الخيانة العظمى. انضم سلانسكي في شبابه إلى الحزب الشيوعي وصعد سريعاً في صفوفه، ثم وُجِّهت إليه عام 1936 انتقادات حادة من قبَل الدولية الشيوعية (كومنتيرن)، بسبب ما وُصف بأنه « سياسته الانتهازية »، وأُوقفت عضويته بشكل مؤقت من المجموعة القيادية.

وخلال الاحتلال النازي لتشيكوسلوفاكيا، انتقلت قيادة الحزب إلى الاتحاد السوفيتي وأُوكل لسلانسكي خلال فترة الحرب العالمية الثانية عدة مهام مهمة في الجيش، من بينها تجنيد عناصر من أعضاء الحزب للانضمام لوحدات الجيش التشيكي الذي تكوَّن في الاتحاد السوفيتي، وتنظيم عمليات المقاومة المسلحة ضد الألمان. وشارك سلانسكي بنفسه في بعض العمليات العسكرية.

ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية، عُيِّن سلانسكي (عام 1945) سكرتيراً عاماً للحزب الشيوعي التشيكي، وأصبح الرجل الثاني بعد رئيس الحزب الذي أصبح أيضاً رئيس الدولة. وأحكم قبضته على كافة مقاليد الأمور في الحزب وقوات الأمن والجيش، كما كان ينوب عن رئيس الدولة في المؤتمرات الحزبية. وفي عام 1951، مُنح سلانسكي أعلى وسام تشيكي وهو وسام الاشتراكية. ووقع سلانسكي ضحية سلسلة من الاتهامات والمحاكمات التي تعرَّض لها بعض القادة الشيوعيين في دول أوربا الشرقية بهدف تعزيز مواقع القيادات الموالية لموسكو في هذه الدول. ففي عام 1951، أُلقي القبض على سلانسكي وثلاثة عشر آخرين من القيادات الحزبية بتهمة التآمر ضد النظام،فطُرد من عضوية الحزب كما أُعفي من جميع مناصبه الحزبية. ووُجهت إليه ولمجموعة من المتهمين عدة تهم منها التروتسكية والصهيونية والتعاون مع أجهزة الاستخبارات الغربية لإقامة مركز للأنشطة التخريبية المناهضة للدولة. وقُدِّم سلانسكي للمحاكمة عام 1952 واعترف بجميع التهم التي وُجِّهت إليه، وحُكم عليه مع عشرة آخرين بالإعدام وأُعدموا في العام نفسه.

وفيما بعد شُكِّلت لجان لتقصي ملابسات عملية الاستجوابات خلال هذه القضية، وتبيَّن عام 1968 أن قوات الأمن لجأت إلى أساليب غير مشروعة في التحضير لهذه المحاكمات ولانتزاع الاعترافات من المتهمين. وقد دعت اللجنة التي توصلت إلى هذه الحقائق إلى إلغاء قرار طرد سلانسكي من الحزب الشيوعي ورد الاعتبار إليه.

هنري كورييل (1914-1978(

Henri Curiel

سياسي يهودي مُتمصِّر، ومؤسس أحد أهم التنظيمات الشيوعية في مصر خلال الأربعينيات. وهو من أبرز قادة الحركة الشيوعية المصرية في تلك الفترة. وُلد في القاهرة لعائلة يهودية سفاردية قَدمت إلى مصر في منتصف القرن التاسع عشر من إيطاليا، وذلك في الفترة التي شهدت تدفُّق المستثمرين الأجانب على مصر للاستفادة منالأوضاع الاقتصادية والظروف السياسية والقانونية المواتية للاستثمار الأجنبي في مصر. ويبدو أن العائلة ادعت نسبها إلى مدينة ليغورن الإيطالية، وهي خطوة أقدمتعليها على ما يبدو كثير من العائلات اليهودية التي جاءت إلى مصر بعد أن احترق أرشيف المواليد والوفيات في ليغورن، وذلك ليكتسبوا الجنسية الإيطالية ويستفيدوا منالامتيازات الأجنبية. وقد كان والد هنري، دانييل نسيم كورييل، يمتلك مصرفاً صغيراً متخصصاً في الرهونات وإقراض الأموال للفلاحين. أما والدته، زفير بيهار، فجاءت من أسرة يهودية ثرية تعيش في إستنبول وتشتغل بتجارة السجاد. وقد اعتنقت زفير المسيحية الكاثوليكية وعمَّدت هنري وشقيقه راؤول سراً.

تلقَّى هنري تعليمه الابتدائي والثانوي في مدارس الجزويت الفرنسية في مصر، ثم درس الحقوق الفرنسية بالقاهرة حيث كان والده يُعدُّه لإدارة مصرف العائلة. ومما يُذكَر أن البورجوازية الأجنبية في مصر، ومن بينها العائلات اليهودية، كانت تعيش في عزلة اجتماعية وثقافية عن أغلب أفراد الشعب المصري، وكان أبناؤها يتلقون تعليمهم في المدارس الأجنبية والجامعات الأوربية، وكانت الفرنسية هي لغة التخاطب فيما بينهم. وقد عبَّر كورييل عن هذا الانتماء الثقافي الأجنبي بقوله: « كان من الصعب على يهودي إيطالي تخرَّج من مدرسة فرنسية أن يجد نقطة ارتباط حقيقية في بلد مسلم، وكانت فرنسا هي الوطن الوحيد الذي أشعر بالارتباط به بعد أن فقدت إيماني [الديني] مبكراً ». ومع ذلك، نجد أن كورييل اختار، عند بلوغه سن الحادية والعشرين (عام 1935) اتخاذ الجنسية المصرية، متنازلاً بذلك عن جنسيته الإيطالية بما كانت توفر له من امتيازات. وبرَّر كورييل هذه الخطوة بأنها تمت بدافع حبه لمصر ونفوره من هذه الامتيازات، وكذلك تأثره بمظاهرات الطلبة في مصر عام 1935 المطالبة بالاستقلال الوطني وعودة دستور 1923.

وتأثر كورييل في هذه الفترة أيضاً بالفكر الاشتراكي والماركسي الذي تعرَّف إليه من خلال شقيقه راؤول الذي كان يدرس في فرنسا، كما صدمه بؤس أحوال الفلاحين والعمال في مصر، فحسم اختياره لصالح الشيوعية وقرَّر الانخراط في العمل السياسي في مصر لصالح الطبقات الكادحة. كما أن صعود الفاشية والنازية في أوربا كان من الأسباب التي دفعت أبناء الجاليات الأجنبية، وخصوصاً أبناء البورجوازية اليهودية، إلى الاهتمام بدراسة الماركسية. وقد شارك كورييل في الأنشطة المعادية للفاشية، وساهم في إصدار مجلة باللغة الفرنسية تدعو إلى مقاومة الفاشية. ثم انضم عام 1939 إلى الاتحاد الديموقراطي الذي أسسه شقيقه راؤول كورييل بالتعاون مع جورج بوانتي ومارسيل إسرائيل والإيطاليين ساندروكا وباجيلي واليوناني كيبريو والمصري أحمد الأهواني الذي نشط أيضاً في مجال مكافحة الفاشية. وقد كان ذلك الاتحاد يعقد اجتماعاته الأولى في مركز محفل ماسوني إيطالي. وكما يقول كورييل، كان الماسونيون أعداء منطقيين للفاشية التي تضطهدهم وأصبح بعضهم مناضلين شيوعيين.

وفي عام 1941، افتتح كورييل مكتبة بميدان مصطفى كامل، ولعبت هذه المكتبة دوراً مهماً في توفير الأدبيات الماركسية باللغات الأجنبية والعربية، بعد أن كانت هذه الأعمال ممنوعة منذ عام 1924. وكانت هذه المكتبة كذلك حلقة اتصال بالعناصر الماركسية بين جنود قوات الحلفاء المتمركزين في مصر، ومن بينهم جنود الفرقة اليهودية التي عمل الصهاينة على تأسيسها للخدمة في صفوف الجيش البريطاني، وقام عناصرها بتوصيل الكـتب المعادية للفاشية إلى الأسـرى الألمان والإيطاليين. وكانت علاقة كورييل بعناصر هذه الفرقة، بل ثناؤه عليهم واستعداده لمساعدتهم، أحد الأسباب التي أثارت التساؤلات والجدل حول علاقته بالصهيونية فيما بعد. كما أن أنشطته هذه مع جنود الحلفاء أثارت الشكوك حول علاقته بالمخابرات البريطانية. وقد اتهمه الحزب الشيوعي الفرنسي بذلك بالفعل، خصوصاً أنه كان على علاقة صداقة بضابط إنجليزي بالمخابرات البريطانية كان يعمل في مصر خلال الحرب (روبرت براوننج). وقد أكد كورييل أن براوننج كان ماركسياً وانضم بعد الحرب إلى الحزب الشيوعي البريطاني، ونفى أن تكون لعلاقته به أية أبعاد مريبة.

كما اهتم كورييل بتوزيع المنشورات المعادية للفاشية، والتي كانت تدعو المصريين إلى مقاومة التقدم الألماني، خصوصاً أن عناصر عديدة داخل الحركة الوطنية المصرية كانت على استعداد للترحيب والتعاون مع الألمان باعتبارهم أعداء الإنجليز.

ونتيجةً لنشاطه السياسي، اعتُقل كورييل عام 1942. ونظراً لأنه كان قد اكتسب الجنسية المصرية، أُودع معتقل الزيتون مع غيره من المصريين، ودامت مدة اعتقاله بين 6 و7 أسابيع. ولكنها كانت فرصة حقيقية ـ على حد قول كورييل ـ لكي يتلَّمس عن قرب، ولأول مرة، واقع السياسة المصرية، ويدرك مدى رفض المصريين للوجود البريطاني ومن ثم صعوبة استجابتهم لدعوى مقاومة المحور ومساعدة عدوتهم إنجلترا. ومن هنا، أدرك كورييل أن أفضل سبيل للوصول إلى الجماهير المصرية هو الانطلاق من موقف ثابت في عدائه للإمبريالية وتنمية أقوى حركة شيوعية يمكن إقامتها على هذه القاعدة. وراودته في تلك الفترة أيضاً فكرة اعتناق الإسلام كوسيلة لتأكيد مصريته، وهو ما كان بعض أصدقائه من اليهود قد أقدموا عليه بالفعل، إلى جانب تعمُّقهم في دراسة اللغة العربية، ولكنه عدل عن ذلك حتى لا تؤخذ هذه الخطوة على أنها محاولة للهروب من خطر النازية التي كانت تقف على أبواب مصر.

وقد خرج كورييل من المعتقل وهو أكثر اقتناعاً بضرورة بناء تنظيم شيوعي. وبالفعل، أسس عام 1943 «الحركة المصرية للتحرر الوطني (حمتو)». وتأسست في الوقت نفسه منظمتان شيوعيتان أخريان بقيادة عناصر يهودية أيضاً، وهما إيسكرا التي أسسها هيلل شوارتز والتي ركزت على تجنيد عناصر من المثقفين الأجانب والمصريين من أبناء البورجوازية المصرية ذوي الثقافة الفرنسية، ثم منظمة تحرير الشعب التي أسسها مارسيل إسرائيل وركزت على التوجه للعمال.

واتسمت علاقة التنظيمات الثلاثة بالصراع والتنافس والخلاف حول قضايا فكرية وتنظيمية. وظلت هذه الانقسامات والخلافات التي وُلدت بها الحركة الشـيوعة المصرية واحدة من السـمات الملازمة لها بعد ذلك، وهو ما دفع بعض المؤرخين المصريين مثل سعد زهران للتساؤل عن أسباب هذه الانقسامات التي وُلدت بها الحركة الشيوعية والتي لم يكن لها مبرر واضح. وبسبب هذه الخلافات والصراعات، لم تعترف الحركة الشيوعية الدولية بأي من التنظيمات، بل كانت تشتبه وترتاب في نشاطاتهم وترى أنهم ليسوا أكثر من حفنة من البورجوازيين الصغار المنخرطين في معارك ديوك لا تنتهي ولا علاقة لهم بالنضال الثوري. وقد حاول كورييل مدَّ جسور التعاون مع السفارة السوفيتية في القاهرة وأجرى اتصالاً بمستشار السفارة عام 1943. ورغم عدم إقبال الاتحاد السوفيتي على الاعتراف به أو بوجود شيوعيين في مصر، إلا أن هذا الاتصال أثار ضده تهمة العمالة للاتحاد السوفيتي.

وبين قضايا الخلاف، كانت هناك مسألة التمصير والعمالية فقد أصر كورييل على تمصير حمتو، فضمت الحركة غالبية مصرية على جميع المستويات بما في ذلك اللجنة المركزية، على عكس منظمة إيسكرا مثلاً التي أصرت على بقاء قيادة التنظيم أجنبية خالصة. كما اهتمت حمتو بتوسيع القاعدة العمالية في صفوفها وركزت على تجنيدالقيادات العمالية النشيطة، وتحركت في الجيش وفي صفوف الطلبة وكان لها كوادر بين طلبة الأزهر الذين كانوا حلقة الوصل بين الحركة والريف المصري. واهتم كورييل أيضاً بالتحرك بين صفوف النوبيين وتجنيدهم للعمل النضالي وإحباط محاولة الاستعمار فصل النوبة عن مصر، وكان لهم قسم خاص في الحركة، وكذلك كان الأمر مع السودانيين (ثم فُصل هذا القسم فيما بعد ليكوِّن الحركة السودانية للتحرر الوطني التي كانت نواة الحزب الشيوعي السوداني). وكان موقف كورييل من السودان هو المطالبة بحقه في تقرير المصير، إما بالوحدة مع مصر أو الاستقلال التام عنه، وهذه هي أول سباحة ضد التيار العام للحركة السياسية المصرية على حد تعبير د. رؤوف عباس التي كانت تطالب بوحدة وادي النيل تحت التاج المصري.

وقد تبنَّى كورييل أيضاً موقفاً مؤيداً للوحدة العربية حيث اعتبرها حقيقة لابد منها. ومن ثم، فقد أيَّد تأسيس الجامعة العربية وجعل وحدة الشعوب العربية هدفاً من الأهداف السياسية لحمتو. واختلفت معه التنظيمات الشيوعية الأخرى واتهمته بالعمالة للإمبريالية.

أقام كورييل مدرسة لتعليم وتدريب كوادر الحركة في سراي عزبة والده بالمنصورية. ومن السلبيات التي تؤخذ على كورييل (وقد اعترف بها فيما بعد) التركيز على الإعداد الحركي للكوادر وعلى تدريبهم على العمل الجماهيري على حساب الإعداد النظري الكافي، وعلى تأصيل الثقافة الماركسية بينهم.

وقد اهتم كورييل أيضاً بالعمل الجبهوي، حيث كان يرى أن من أهم أسباب فاعلية الحركة الجماهيرية وحدة القوى الوطنية بمختلف اتجاهاتها السياسية، ولذلك انضم مع يسار الوفد والإخوان المسلمين لتشكيل جبهة وطنية عام 1946 عُرفت باسم اللجنة الوطنية للطلبة والعمال (انشق عنها الإخوان فيما بعد). ولعبت هذه اللجنة دوراً رئيسياً في قيادة النضال الوطني عام 1946، وهو ما دفع السلطات لبدء حملة اعتقالات واسعة شملت مائتي شخص فيما عُرف بقضية المؤامرة الشيوعية الكبرى وكان كورييل المتهم الأول فيها. وقد أُفرج عنه بعد عشرين شهراً بعد أن قضت محكمة الجنايات ببراءته.

وفي عام 1947، بدأ التفكير في توحيد صفوف الحركة الشيوعية المصرية. وبالفعل، اتحدت حمتو مع إيسكرا لتكوين الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني (حدتو). ولكن هذا التنظيم الجديد لم يخل من الخلافات الفكرية والتنظيمية التي أسفرت عن انشقاقات وانقسامات جديدة نتجت عنها تنظيمات عديدة أخرى. وكان من أهم نقاط الخلاف مسألة التمصير ودور الأجانب أو المتمصرين في القيادة ومن بينهم هنري كورييل الذي اعتبر، برغم تأييده لمسألة التمصير، أن المطالبة بتخليه عن القيادة نوع من الشوفينية. ومن ناحية أخرى، يذهب بعض مؤرخي هذه الحقبة، مثل مصطفى طيبة، إلى أن السبب الرئيسي وراء انقسام وتَشرْذُم حدتو هو الجانب الانتهازي للوحدة، حيث كانت قيادة كل تنظيم تسعى إلى استقطاب كوادر الطرف الآخر نحوها وإقناعها بسلامة خطها الثوري وأنها تشكل التيار الثوري الوحيد. ويرى طيبة أن هذا الاتجاه ظل مسيطراً على سلوك جميع التنظيمات الشيوعية حتى بعد أن تم استبعاد جميع الأجانب عن الحركة الشيوعية، فكان وراء فشل التحالفات اللاحقة.

ومن أهـم أسـباب الخلاف والانشـقاق في تلك الفترة قضـية فلسطين، وقد كان كورييل وراء الموقف المؤيد الذي اتخذته حدتو بالنسبة لقرار التقسيم عام 1947 ومعارضتها بشدة دخول مصر الحرب. وأسَّس كورييل موقفه هذا من منطلق أممي وطبقي، وأيضاً تمشياً مع موقف الاتحاد السـوفيتي والموقف الشـيوعي العـالمي إزاء قضـية التقسيم. وأدان كورييل كلاًّ من الصهيونية والرجعية العربية والاستعمارين البريطاني والأمريكي، ونادى بالنضال المشترك لليهود والعرب في فلسطين ضد الاستعمار. ورغم رفض كورييل الصهيونية واعتباره إياها حركة بورجوازية متحالفة مع الاستعمار، إلا أنه لم ينكر حق اليهود في فلسطين في الوجود القومي، ودعا إلى التفرقة بين الصهيونية واليهود في فلسطين معتبراً أنهم أصبحوا ذوي سمات مميِّزة تختلف عن يهود الدول الأخرى وأصبحت لهم ثقافتهم ولغتهم ومؤسساتهم الخاصة. وبيَّن كورييل أن رُبع يهود فلسطين من الفلاحين والعمال وأن لهم حقوقاً قومية وسياسية يجب الاعتراف بها ومنحهم إياها، بما في ذلك حق الانفصال وذلك استناداً إلى شروط الأمة التي حدَّدها ستالين. واعتَبرَت حدتو أن الحرب ضد الصهاينة إثارة لحرب دينية لا يُفيد منها سوى المستعمر، ودعت إلى ضرورة تعبئة الجماهير الكادحة لمكافحة الاستعمار أولاً. وانتقد كورييل الدعاوى العنصرية التي حاولت حرف مسيرة الكفاح من كفاح سياسي ضد الاستعمار وضد الصهيونية كحركة استعمارية إلى كفاح عنصري ضد اليهود. وكان لموقف حدتو من قضية فلسطين انعكاس سلبي على شعبية الحركة الماركسية بأكملها رغم أن التنظيمات الشيوعية الأخرى اتخذت موقفاً معارضاً للتقسيم ورغم إدانة الحركة بشكل عام للصهيونية. كما كان موقفه هذا من أهم أسباب اتهامه بالصهيونية، سواء من قبَل معارضيه داخل الحركة الشيوعية أو من قبل القوى السياسية الأخرى في مصر.

وقد اعتُقل كورييل مع غيره من الشيوعيين في مايو 1948 بعد إعلان الأحكام العرفية بسبب حرب فلسطين. لكنه رفض أن يتم الإفراج عنه مقابل قبوله الهجرة من مصر وترحيله إلى إسرائيل، كما فعل بعض الشيوعيين اليهود، فظل في المعتقل مع سائر الشيوعيين المصريين حتى أُفرج عنه عام 1950. وحاول أن يعيد تنظيم صفوف حدتو بعد ظروف الاعتقالات والانقسامات، ولكن أجهزة الأمن المصرية قامت بإبعاده من البلاد في العام نفسه بحجة بطلان إجراءات اكتسابه للجنسية المصرية عام 1935. وقد رفض كورييل الذهاب إلى إسرائيل، وظل لفترة في إيطاليا، ثم نجح في دخول فرنسا حيث استقر في باريس، وهناك كوَّن مجموعة روما للحركة الديموقراطية للتحررالوطني التي تشكلت من العناصر اليهودية التي خرجت من المعتقل في مصر عام 1949 وتوجهت إلى إسرائيل ثم فضَّلت التوجه والاستقرار في فرنسا. وظلت المجموعة على اتصال وثيق بكوادر حدتو في مصر وقدمت العون المادي والمعنوي لمعتقليها في سجون مصر. وفي عام 1958، قرَّر الحزب الشيوعي المصري المتحد حل مجموعة روما وفصل أعضائها لأنهم مجموعة أجنبية ومنعزلة عن الواقع المصري وبعيدة عن رقابة الحزب.

ولم يكن ذلك نهاية نشاط كورييل السياسي، إذ نقل اهتمامه السياسي من مصر إلى الجزائر. فأيَّد حركة التحرير الجزائرية واعتُقل مع قادتها، وبعد نجاح الثورة كان من بين مستشاري بن بللا. كما يبدو أنه كان على علاقة بمنظمات إرهابية وبحركات ثورية ويسارية في العالم الثالث على حد زعم أحد المصادر الفرنسية التي اتهمته بالعمالة للمخابرات السوفيتية.

أما على صعيد الصراع العربي الإسرائيلي، فقد كان كورييل حريصاً على إقرار السلام بين الطرفين. ورغم اعترافه بحق الفلسطينيين في الوجود القومي، إلا أنه ظليؤمن بوجود قومية إسرائيلية ويدين المغامرات التوسعية الصهيونية، لكنه لم يُغيِّر موقفه المتمثل في ضرورة الوجود الآمن لإسرائيل. وكان كورييل قد أدان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، ولكننا بعد حرب عام 1967 نجده (كما جاء في خطاب له أورده جيل بيرو في كتاب رجل من طراز خاص) يقول: « الجماهير الإسرائيلية ترى أن الحرب لم تكن عدواناً من إسرائيل ولكن نضالاً من أجل بقاء بلدهم. فهل يُعقَل أن نطلب منهم العودة إلى وضع يصبحون فيه مهددين بالإبادة والفناء؟ وضع يتعيَّن عليهم أن يتنازلوا فيه عن الثمار التي حصلوا عليها مقابل تضحياتهم الجسيمة وبدون أي مقابل؟ ».

وسعى كورييل في قضية السلام بين العرب وإسرائيل، وكان على صلة بالحزب الشيوعي الإسرائيلي وكذلك ببعض عناصر منظمة التحرير الفلسطينية، وعمل على تدبيراللقاءات بين كلا الطرفين وعلى تشجيع الحوار بينهما.

وقد جاء اغتيال كورييل، والذي يُرجَّح أنه تم بيد أحد أجهزة المخابرات، ليزيد الاتهامات ويعمِّق الشكوك والتساؤلات التي طالما أحاطت به. ومن أهم التساؤلات التي طُرحت حوله بشكل خاص، والحركة الشيوعية المصرية بشكل عام، لماذا عاد هذا التيار إلى الحياة السياسية في مصر، بعد أن غاب وجوده منذ عام 1926، على أيدي عناصر أجنبية أغلبها من اليهود الأجانب أو المتمصرين ومن أبرزهم كورييل؟ فيتساءل محمد سيد أحمد: هل كان الدافع الحقيقي هو إنشاء حركة مستقلة للطبقة العاملة المصرية كما كانوا يدَّعون، أم كان إطلاق حركة رأي عام للمصريين والمثقفين الوطنيين والشباب المتحمس؟ حركة كفيلة بحمايتهم كجالية في وجه توجُّـه العديد من الشباب إلى النازية؟ ويشير سعد زهران إلى أن بريطانيا كانت تشجع في مصر (بعد عام 1936) الأنشطة المعادية للفاشية بين الجاليات الأجنبية، وأن أغلب الذين قاموا بهذه المهمة كانوا من اليهود الماركسيين الذين اجتمع لديهم حافز الخوف من هتلر مع القدرة على استخدام الماركسية. ويتساءل د. رؤوف عباس أيضاً عن السبب الذي دفع شباب البورجوازية اليهودية في مصر بالذات إلى اعتناق الماركسية وتأسيس الحركة الشيوعية دون غيرهم من الشرائح الأخرى من البورجوازية، ولماذا حدث ذلك في ظروف الحرب العالمية الثانية بالذات؟ ويؤكد د. رؤوف عباس على أن هذه الأسئلة تصبح مهمة إذا عرفنا أن الطلائع الماركسية اليهودية جلبت للحركة الشيوعية المصرية داء التكتلية والانقسام، كما جلبت إليها داء الإغراق في المناقشات النظرية والدخول في خلافات أيديولوجية مُصطنعة دون الاهتمام بالنضال السياسي، حتى يبدو الأمر كله وكأنه مُخطَّط مُعَد مُسبقاً.

أما طارق البشري، فيذهب صراحةً إلى أن هذا الوجود اليهودي الأجنبي في الحركة الشيوعية المصرية لم يكن بعيداً عن التحرك الصهيوني في منطقة المشرق العربي المتاخمة لفلسطين، وهو التحرك الذي أسفر عن إنشاء دولة إسرائيل عام 1948. كما يشير إلى أن إلغاء الامتيازات الأجنبية في منتصف الثلاثينيات أثار مخاوف الجاليات الأجنبية من ضياع امتيازاتهم الاقتصادية والاجتماعية فبدأوا يسعون لأن يكون لهم دور ما في الحركة السياسية المصرية ويشجعون عدداً من أفراس الرهان، منها الحركة الشيوعية، وحسبهم منها أن تكون ركيزة لمقاومة التيارين الإسلامي والقومي وهما تياران شعبيان. كما يرى طارق البشري أن الترويج للشيوعية اتفق مع التوجه الأجنبي اليهودي في السعي لتكوين منطقة أيديولوجية في السياسة المصرية وبين الشباب، منطقة تصلح مكاناً وموئلاً للوجود الأجنبي في السياسات المصرية. أما بالنسبة لكورييل ذاته، فيرى طارق البشري أن تكوينه الوجداني يتلاءم بشدة مع أنشطة المخابرات، فهو إنسان منقطع الجذور بارد الفكر والأعصاب، قراراته تتشكل دون دخل لأية عواطف أو غرائز. كما يؤكد أنه رغم رفض كورييل للصهيونية وإنكاره لها، إلا أن تحليله للوضع في فلسطين وموقفه إزاء هذه القضية كان في النهاية لصالح الصهيونية ومشروعها. كما يشير المؤرخون إلى مدى سيطرة العناصر اليهودية الأجنبية والمتمصرة على التنظيمات الشيوعية وحرصها على الاحتفاظ بمواقع القيادة، وأنهم ظلوا يمارسون نفوذاً قوياً على هذه التنظيمات حتى بعد إبعادهم عن مصر.

وأغلب التساؤلات السـابقة تجـد أن من الغـريب وجود اليهود الأجـانب والمتمصرين على رأس التنظيمات الشيوعية في مصر خـلال الأربعينيـات. وتلقـى بعض التفــسرات المطـروحة قـدراً مـن الضـوء على العـوامل التي قد تكـون وراء ذلك. ولا يمكن تفسـير هذه الظاهرة بشكل موضوعي دون أن يُؤخَذ في الاعتبار وضع الجاليات الأجنبية في مصر بشكل عام وأعضاء الجماعة اليهودية بشكل خاص، وذلك داخل إطار التحولات الخارجية الجارية على الساحة الدولية والتحولات والتفاعلات الداخلية الجارية في النسيج الاجتماعي والسياسي للمجتمع المصري في هذه الحقبة التاريخية.

وبدايةً، نجد أن أغلب الجاليات الأجنبية، خصوصاً الطبقة البورجوازية منها، بحكم وجودها على هامش المجتمع المصري وابتعادها عن الحركة السياسية المصرية وعدماهتمامها بها، كانت أكثر ارتباطاً بما يجري في أوربا. ولذلك، فإننا نجد أن كل الجاليات الأجنبية في ذلك الحين، كما يشير مصطفى طيبة، كانت تزخر باتجاهات وتياراتفكرية متعددة تُعتبَر انعكاسات لما كان يجري في أوطانها الأصلية (بما في ذلك الاتجاهات الاشتراكية بمدارسها المختلفة، والليبرالية، بل الفاشية والنازية أيضاً). ومع أن نشاط هذه الاتجاهات كان منحصراً داخل أفراد كل جالية، فإن ذلك لم يَحُل دون ظهور تنظيمات تضم أجانب من جنسيات مختلفة، ولذلك نجد أن أكثر العناصر اليهودية التي اعتنقت الفكر الماركسي كانوا أبناء البورجوازية والجامعات الفرنسية ممن تلقوا تعليمهم في المدارس الثانوية الفرنسية والجامعات الفرنسية، ومن ثم ارتبطوا ثقافياًووجدانياً بفرنسا وتأثروا، كما يقول لنا كورييل نفسه، بالنضال الأوربي (وخصوصاً بانتصار الحزب الشيوعي الفرنسي والجبهة الشعبية في انتخابات 1936)، كما تأثروابالحركة الشيوعية الدولية أكثر من العناصر المصرية، وبتجربة الاتحاد السوفيتي وبأدائه خلال الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً في معركة ستالينجراد.

وكانت هذه الجاليات تتابع عن كثب التطورات الجارية في أوربا ومن بينها صعود الفاشية والنازية والتي عملت، على حد قول رفعت السعيد، على تزايد الاهتمام بالعمل السياسي والاجتماعي بين أعضاء الجاليات (خصوصاً بين اليهود) الذين أثار ذعرهم اشتداد هجمات جيوش المحور على حدود مصر. بالإضافة إلى أن أغلب أعضاء البورجوازية اليهودية في مصر كانوا يحملون الجنسية الإيطالية ويحتلون مواقع بارزة داخل الجالية الإيطالية، ومن ثم فقد كانوا أقرب لتلمُّس أثر امتداد الفاشية إلى أبناء الجالية الإيطالية وتأثيرها عليهم، وساهموا في تشكيل جماعات مناهضة للفاشية لمواجهة هذا الاتجاه داخل الجالية. ومما لا جدال فيه أن أغلب العناصر اليهودية التي ساهمت في تأسيس التنظيمات الشيوعية خرجت من بين صفوف الجماعات التي تأسست أصلاً لمكافحة الفاشية في تلك الفترة، مثل اتحاد أنصار السلام الذي أسسه بول جاكو دي كومب عام 1934، ثم الاتحاد الديموقراطي الذي سبق ذكره. كما كان للتحركات الاجتماعية والسياسية في مصر انعكاسها على وضع الأقليات الأجنبية، ومن أهمها صعود حركة وطنية مصرية قوية معادية للوجود الأجنبي وللبورجوازية المهيمنة على اقتصاد البلاد والمرتبطة بالمصالح الاستعمارية وبالرأسمالية الأوربية. وقد ظهر في الثلاثينيات أيضاً تياران سياسيان، أحدهما ذو اتجاه قومي مصري (مصر الفتاة) والآخر ديني إسلامي (الإخوان المسلمون)، وكلاهما كان معادياً بشدة للوجود الأجنبي. وكان وضع الجماعة اليهودية أكثر حساسية، وخصوصاً مع تصاعُد الصراع حول فلسطين. وقد وجَّه التيار الديني الاتهام لليهود باعتبار أنهم طابور خامس للصهيونية، كما قامت عناصره مع عناصر من مصر الفتاة بالهجوم على بعض الممتلكات والمعابد اليهودية عام 1945 أثناء المظاهرات التي قامت بمناسبة ذكرى وعدبلفور. وقد اتهم كورييل هذين التيارين بالفاشية ومعاداة اليهود.

ولا شك أيضاً في أن إلغاء الامتيازات عام 1937 كان له أعظم الأثر في إثارة مخاوف الجاليات الأجنبية، ومن بينهم اليهود من أعضاء البورجوازية، على مستقبل أوضاعهم ومصالحهم الاقتصادية والاجتماعية، ومن ثم اهتمامهم بالاشتراك في الحياة السياسية والاجتماعية في مصر. ولكن يجب التذكير بأن كورييل اختار التنازل عن هذه الامتيازات بمحض إرادته وذلك عندما اختار الجنسية المصرية عام 1935.

وتبنَّى أعضاء الجماعة اليهودية في مصر ردود أفعال متباينة إزاء هذه التحولات. فاليهود في مصر لم يُشكِّلوا جماعة متجانسة ثقافياً أو اجتماعياً أو طبقياً، بل تنوعت أصولهم الإثنية وجنسياتهم وثقافتهم ولغاتهم ومواقفهم الطبقية ومصالحهم الاقتصادية، ومن ثم اختلفت خياراتهم وتنوع نشاطهم السياسي.

واختار أغلب أعضاء الجماعات اليهودية، وخصوصاً أعضاء البورجوازية اليهودية السفاردية التي كانت تخشى على مصالحها المالية والتجارية في مصر، عدم الانخراط في السياسة وتأكيد ولائهم للدولة والملك ورفض الصهيونية والشيوعية على حدٍّ سواء. في حين اتجه قطاع آخر على رأسهم يوسف أصلان قطاوي وابنه رينيه قطاوي وحاييم ناحوم أفندي كبير حاخامات مصر إلى تأييد الحركة الوطنية المصرية والدعوة إلى ضرورة تمصير أعضاء الجماعة اليهودية ودمجهم في المجتمع المصري. كما أبدى نادي الشباب اليهودي المصري خلال الثلاثينيات والأربعينيات تضامنه مع المطالب الوطنية المصرية بشكل عام ومع حزب الوفد بشكل خاص، ولكن هذا التيار ظلهامشياً للغاية وانحصر في عدد من المحامين والكُتاب والصحفيين اليهود ولم ينجح في تعريب أو تمصير أعضاء الجماعة. واختار قطاع ثالث الصهيونية، وتركزت أغلب هذه العناصر بين اليهود الإشكناز وعناصر الطبقات الدنيا والوسطى من أعضاء الجماعة، وخصوصاً بعد عام 1947، حيث كانت هذه العناصر أكثر القطاعات تضرراً من قوانين التمصير. واختار قطاع رابع الشيوعية، وذلك باعتبارها السبيل الوحيد نحو الاندماج في المجتمع المصري على أسس أممية وعن طريق إجراء تحويل جذري في البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في البلاد. وقد تركزت أكثر هذه العناصر كما أسلفنا بين أبناء البورجوازية الكبيرة والمتوسطة من خريجي المدارس الفرنسية.

ومما سبق، تتضح بعض العوامل التي تُفسِّر نشأة التنظيمات الشيوعية في مصر على أيدي عناصر أجنبية يهودية بشكل خاص. وكان لهذه النشأة ولا شك آثار على طبيعة هذه التنظيمات وسياستها من أهمها تأكيد وتضخيم مفهوم الأممية على حساب المفهوم القومي والخضوع لتقديرات الوطن الاشتراكي الأول (الاتحاد السوفيتي). وقد يُفسِّر ذلك موقف كورييل وحدتو من قضية فلسطين (وإن كان يجب الأخذ في الاعتبار أن التنظيمات الشيوعية الأخرى، تحت قيادة عناصر يهودية أيضاً، قد رفضت قرار التقسيم)، بالإضافة إلى أن كورييل ظل حتى آخر حياته متمسكاً بوجود قومية إسرائيلية وبحق إسرائيل في الوجود الآمن. ولا شك أيضاً في أن ثقافة كورييل الأجنبية، وكذلك ثقافة غيره من الماركسيين الأجانب ونشأتهم على هامش المجتمع المصري وفي عزلة عنه، حال دون صياغة نظرية مصرية لتفسير وتغيير المجتمع المصري العربي، نظرية تستند إلى إدراك حقيقي ودقيق لواقع هذا المجتمع بتفاصيله وتناقضاته وخصوصيته، الأمر الذي نتجت عنه سلسلة من الأخطاء السياسية وما صاحبها من انقسامات وتشرذم.

ورغم علامات الاستفهام التي ظلت تطارد هنري كورييل طوال حياته، فقد ساهم بشكل فعال (كما يذكر د. رؤوف عباس) في أن أصبح الفكر الاشتراكي والماركسي مطروحاً بشكل أكثر إلحاحاً على الساحة السياسية المصرية، وفي إعداد الكوادر المصرية من العمال والمثفقين الذين كانت لهم إسهامات مهمة في الحركة الشيوعية المصرية، وفي تأسيس أكثر التنظيمات الشيوعية المصرية استمراراً وأوسعها قاعدة.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن الحركة الشيوعية المصرية كانت لها إسهاماتها الثرية في المجال الفكري والثقافي والسياسي المصري، ولعبت دوراً بارزاً في حركة التحرر الوطني ضد الاستعمار. وكما يذكر طارق البشري، فإن الحركة الشيوعية قد أغنت السياسات الوطنية بمفاهيم جديدة تتعلق بالمضمون الاجتماعي لحركة التحرر الوطني وبالتصنيف الطبقي للمجتمع وتأكيد أولوية التحرر الاقتصادي والسياسي من الاستعمار.

الجزء الثاني: ثقافات الجماعات اليهودية

الباب الأول: ثقافات الجماعات اليهودية

ثقافات أعضاء الجماعات اليهـودية:تعريف وإشكالية

Cultures of the Jewish Communities: Definition and Problematic

كلمة «ثقافة» لها معنيان أو استخدامان رئيسيان:

1 ـ معنى متسع: أسلوب الحياة في المجتمع بكل ما ينطوي عليه من موروث مادي ومعنوي حي.

2 ـ معنى ضيق: الأنشطة الإبداعية المتميِّزة في الآداب والفنون الأدائية والتشكيلية ونحن نستخدم الكلمة بكلا المعنيين.

وتشير معظم الكتابات التي تتناول أعضاء الجماعات اليهودية إلى «الثقافة اليهودية»، و«التراث اليهودي»، و«الموروث اليهودي». وهذه المُصطلَحات، شأنها شأنمُصطلَحات الاستقلال اليهودي الأخرى، مثل «التاريخ اليهودي» و«القومية اليهودية»، تفترض أن الجماعات اليهودية في العالم ذات حضارة يهودية مستقلة وثقافة يهوديةمستقلة وتراث يهودي مستقل عن حضارة وثقافة وتراث المجتمعات التي يُوجَد أعضاء الجماعة اليهودية فيها، وأن إسهامات اليهود الحضارية المختلفة سواء في بابل فيالعصور القديمة أو في فلسطين في العصور الوسطى في الغرب أو في بولندا والهند والصين في القرن السادس عشر أو في ألمانيا في القرن التاسع عشر أو في الولايات المتحدة واليمن في القرن العشرين، ورغم تنوُّعها الحتمي والمُتوقَّع، تُعبِّر عن نمط واحد (وربما جوهر يهودي). ويستند مفهوم الإثنية اليهودية (وهو مفهوم صهيوني أساسي) إلى افتراض وجود مثل هذه الثقافة المستقلة. بل يُلاحَظ أن الصهاينة أسقطوا المفهوم العرْقي للهوية اليهودية ويؤكدون بدلاً من ذلك البُعد الثقافي (الإثني) لهذهالهوية.

ومفهوم الهوية الإثنية المستقلة تعمَّق حتى تغلغل تماماً في النسق الديني اليهودي ذاته. فاليهودية المحافظة، على سبيل المثال، تدور حول مفهوم التاريخ اليهودي والثقافة اليهودية. وقد أسَّس المفكر الديني الأمريكي اليهودي مردخاي كابلان فرقة يهودية تُسمَّى «اليهودية التجديدية» تستند إلى الإيمان بالحضارة اليهودية والثقافة اليهودية والتراث اليهودي، وإلى أن هذا التراث شيء مقدَّس يشغل المكانة نفسها التي شغلها الخالق في التفكير الديني اليهودي التقليدي. وغني عن القول أن المشروع الصهيوني بأسره يستند إلى رفض الأساس الديني الغيبي للهوية اليهودية ويُحل محلها فكرة الثقافة اليهودية المستقلة.

ونحن نذهب إلى أنه يمكن القول بوجود تشكيلين حضاريين «يهوديين» يتمتعان بقدر محدود من الاستقلال عما حولهما من تشكيلات حضارية:

1 ـ الثقافة العبرية القديمة، التي تمتعت بقدر من الاستقلال داخل التشكيل الحضاري السامي في الشرق الأدنى القديم. ومع هذا ظل هذا الاستقلال محدوداً للغاية بسبب بساطة الحضارة العبرانية وضعف الدولة العبرانية وتبعية الدولتين العبرانيتين (مملكة يهودا ومملكة يسرائيل) للإمبراطوريات الكبرى في الشرق الأدنى القديم (العبرية ـ الآشورية ـ البابلية ـ الفارسية). والتبعية السياسية، بخاصة في العصور القديمة، كانت تؤدي إلى تبعية ثقافية بل دينية. ولذا استعارت الثقافة العبرانية الكثير من حضارات هذه الإمبراطوريات.

2 ـ الثقافة الإسرائيلية (أو العبرية الحديثة). وهذه الثقافة مستقلة ولا شك عن التشكيل الحضاري العربي. ولكنها مع هذا لا تزال جديدة لم تكتمل مفرداتها الحضارية بعد. كما أن الصراع الثقافي الحاد بين عشـرات الجماعـات اليهودية التي انتقلت إلى إسرائيل ومعها تقاليـدها الحضـارية (سـفارد ـ إشـكناز ـ يهود البلاد العربية ـ فلاشاه ـ بنـي إسـرائيل من الهنـد ـ يهود بخـارى ـ يهـود قـرّاءون ـ سـامريون.. إلخ). جعلت بلورة مثل هذه الثقافة أمراً عسيراً.

ولكن العنصر الأساسي الذي يتهدد عملية بلورة خطاب حضاري إسرائيلي مستقل هو أن المجتمع الإسرائيلي مجتمع استيطاني يدين بالولاء الكامل للولايات المتحدة الأمريكية ويعاني من تبعية اقتصادية وعسكرية مذِّلة لها، فهو يدين لها ببقائه وبمستواه المعيشي المتفوق، ولذا فثمة اتجاه حاد نحو الأمركة، يكتسح في طريقه كل الأشكال الإثنية الخاصة التي أحضرها المستوطنون معهم من أوطانهم الأصلية. ومما عمَّق هذا الاتجاه أن المجتمع الإسرائيلي مجتمع علماني تماماً ملتزم بقيم المنفعة واللذة والإشباع المباشر والنسبية الأخلاقية والاستهلاكية، وهذا يتعارض مع محاولة إحداث التراكم الحضاري. ومع ظهور النظام العالمي الجديد والاستهلاكية العالمية، فإن من المتوقع أن تزداد الأمور سوءاً.

وبخلاف الحضارة العبرانية القديمة والثقافة الإسرائيلية الجديدة لا يمكن الحديث عن ثقافة أو حضارة يهودية مستقلة أو شبه مستقلة. فاليهود، مثلهم مثل سائر أعضاء الجماعات والأقليات الدينية والعرْقية الأخرى، يتفاعلون مع ثقافة الأغلبية التي يعيشون في كنفها ويستوعبون قيمها وثقافتها ولغتها. وإن كان هناك درجة من الاستقلال لكل جماعة يهودية عن الأغلبية، فإن هذا الاستقلال لا يختلف عن استقلال الأقليات الأخرى عن الأغلبية، كما أنه لا يعني بالضرورة أن ثمة عنـصراً (عالمياً) مشـتركاً بين كل جماعـة يهودية وأخرى. فالعبرانيون، منذ ظهورهم في التاريخ، تبنّوا حضــارات الأمم الأخرى، ابتداءً من اللغة، ومـروراً بالمفاهـيم الدينية، وانتهاءً بالطراز المعماري. وعلى سبيل المثال، لا يُعرَف طراز معماري يهودي، أو فن يهودي مسـتقل، فهيكل سـليمان كان يتبع الطراز الآشوري الفرعوني (المصري)، ولم يكن يختلف كثيراً عن الهياكل الكنعانية. كما نعلم أن الذي قام بتنفيذه هم عمال مهرة من فينيقيا، وأن الأخشاب قد اُستوردت من هناك أيضاً، وكذلك تتبع المعابد اليهودية في العالم العربي الطراز العربي. أما جنوب الولايات المتحدة في القرن التاسع عشرعلى سبيل المثال، فكانت المعابد اليهودية فيه تُبنَى على الطراز النيو كلاسيكي السائد هناك آنذاك.

وكثير من المنتجات الحضارية التي يستخدمها أعضاء الجماعات اليهودية والتي تعطي انطباعاً بأنها منتجات يهودية خالصة، يظهر بعد التحليل الفاحص أنها في واقع الأمر ليست كذلك. فلحن صلاة النذور مأخوذ من لحن مسيحي، وألحان نشيد الهاتيكفاه (النشيد الوطني الإسرائيلي) مقتبسة من أغنية شعبية رومانية. ونجمة داود الشهيرة لم تصبح رمزاً يهودياً إلا في العصر الحديث بعد أن كانت رمزاً مسيحياً من قبل. والفنانون التشكيليون اليهود في العصر الحديث، أمثال مارك شاجال، ينتمون إلى تراث فني غربي، ولا يمكن رؤيتهم في إطار ثقافة يهودية مستقلة. ولا يُعرف أيضاً تراث أدبي يهودي مستقل، فالأدباء اليهود العرب في الجاهلية والإسلام اتبعوا التقاليد السائدة في عصورهم. وكذلك الأدباء اليهود في الولايات المتحدة وإنجلترا، فإبداعهم الأدبي مرتبط بالتراث الذي ينتمون إليه، وهذ أمر طبيعي.

لا توجد إذن ثقافة يهودية مستقلة، عالمية، تُعبِّر عن وجدان أعضاء الجماعات اليهودية وسلوكهم وإنما تُوجَد ثقافات يهودية مختلفة باختلاف التشكيل الحضاري الذي يُوجَد أعضاء الجماعات اليهودية داخله. ولذا يجدر بنا أن نتحدث عن ثقافة غربية يهودية أو ثقافة عربية يهودية، وبذا نخفض من مستوى تعميمنا حتى يتلاءم مع الظاهرة التي ندرسها. ولكننا لو فعلنا ذلك فإننا سنكتشف، على سبيل المثال، أن الثقافة العربية اليهودية هي، في نهاية الأمر، جزء من الثقافة العربية، ولا تُوجَد ملامح يهودية خاصة إلا في بعض الموضوعات وبعض المضامين المختلفة إذ تظل البنية العامة بنية عربية. ولنضرب مثلاً بيعقوب صنوع (أبو نظارة) أحد رواد المسرح والصحافة الساخرة في مصر. إن يهوديته لا يمكنها أن تُفسِّر أدبه وفكره وحبه للفكاهة، فهذه أمور مصرية صميمة. ولتحاول على سبيل التجربة أن تُفسِّر سيرة حياته الشخصية والفكرية أو قصة النجاح اليهودية في الولايات المتحدة أو عنصرية يهود جنوب أفريقيا في إطار الجيتو اليهودي في شرق أوربا، لو فعلت ذلك لاكتشفت مدى عجز مثل هذا النموذج التفسيري الذي يفترض وجود ثقافة يهودية واحدة عالمية. وقل الشيء نفسه عن الفنان المصري داود حسني، فهو ملحن وموسيقي مصري يهودي ويُقرَن اسمه بموسيقيين من أمثال سيد درويش وكامل الخلعي حيث لعب دوراً بارزاً في نهضة الموسيقى في مصر وفي إثرائها في العقود الأولى من القرن العشرين. وتقوم الإذاعة الإسرائيلية بالإشارة إلى داود حسني باعتباره موسيقاراً يهودياً، وهو أمر يستحق التأمل دون شك إذ أننا لو حاولنا البحث عن أي بُعد يهودي في موسيقاه لأعيتنا الحيلة.

وإذا أردنا بلورة وجهة نظرنا بشكل أكثر حدة (وربما طرافة) وإذا أردنا أن نبيِّن المقدرة التفسيرية لنموذجنا المقترح (مقابل النموذج الصهيوني القائل بالثقافة اليهودية ووحدتها) فلننظر إلى ظاهرة مثل الرقص الشرقي (الذي يُقال له البلدي؛ أي هز البطن). كان هناك العديد من الراقصات المصريات اليهوديات في كاباريهات القاهرة، في فترة الأربعينيات. ويوجد عدد لا بأس به منهن الآن في الولايات المتحدة (خصوصاً كاليفورنيا). ويُوجَد عدد من الراقصات « البلدي» في الدولة الصهيونية، بل توجد مدرسة متخصصة لتدريس هذا « الفن» في إسرائيل. وقد أثار المتدينون اليهود قضية بدلة الرقص الفاضحة أثناء إحدى جلسات الكنيست. فهل أصبح الرقص الشرقي بذلك «فناً يهودياً» وجزءاً من «التراث اليهودي» أم أنه ظل فناً شرقياً، ولا يمكن فهمه أو حتى فهم اشتغال بعض اليهوديات به إلا في إطار آليات وحركيات الحضارة العربية؟

وستتضح المقدرة التفسيرية لنموذجنا التفسيري المقترح (عدم وجود ثقافة يهودية واحدة) حينما نطبقه على الجماعات اليهودية في الحضارة الغربية، إذ سنلاحظ أنه لا توجد ثقافة يهودية غربية واحدة، وإنما ثقافات يهودية بعدد الدول التي يتواجد فيها أعضاء الجماعات اليهودية، فثقافة يهود إسبانيا (السفارد) هي ثقافة إسبانية، تماماً مثلما أن ثقافة يهود ألمانيا ثقافة ألمانية، وثقافة يهود إيطاليا ثقافة إيطالية، وهكذا. ويقول المؤلف الإنجليزي اليهودي آرثر كوستلر إن ما يُعرَف بالتراث اليهودي أو الثقافة اليهودية (بمعنى عام لا بمعنى ديني وحسب) أمر ليس من السهل تعريفه إذ أن كل ما يَصدُر عن أعضاء الجماعات اليهودية في العالم ليس يهودياً بالمعنى المُحدَّد، وليس جزءاً من تراث قائم. فإنجازات اليهود الأفذاذ الفلسفية والعلمية والفنية تتوقف على معطيات ثقافة الشعوب الأخرى وحضاراتها.

ولذا، فإن التعريف الصهيوني للهوية اليهودية الذي ينطلق من الثقافة (أي التعريف الإثني) تعريف عار من الصحة، تماماً مثل التعريف العرْقي. وربما تُبيِّن الصورة العامة في إسرائيل الآن أن أسطورة الثقافة اليهودية هي من قبيل الأكاذيب العقائدية الصهيونية العديدة. فاللغة الأمهرية التي يتحدث بها الفلاشاه، والجعزية التي يتعبدون بها، هي لغات ربما لم يسمع بها الإسرائيليون، تماماً كما لم يسمع الفلاشاه من قبل بالعبرية أو اليديشية.

والنموذج التفسيري الصهيوني بافتراضه وجود ثقافة يهودية واحدة مستقلة يخلق مشكلات لا حصر لها في عملية تعريف من هو المثقف اليهودي، فلا يوجد نمط واحد لتناول المثقفين أو الأدباء اليهود الموضوعات اليهودية. فهناك من يتناول الموضوعات اليهودية من منظور يهودي ما (مثل مائير لفين)، ولكن هناك أيضاً من يتناولها من منظور معاد لليهود (مثل ناثانيل وست)، وثمة فريق ثالث يتجاهل الموضوع اليهودي تماماً في كل كتاباته أو في معظمها (مثل ليونيل ترلنج)، وهناك فريق رابع يتناول الموضوع اليهودي ولكنه يضعه في سياق إنساني عام ويرى أن غربة اليهودي الحادة إن هي إلا تعبير عن أزمة الإنسان (العلماني) الحديث (كما يفعل وودي ألين وإيزاك بابل). وهذا التنوع يجعل من العسير إطلاق اصطلاح «مثقف يهودي» على كل هؤلاء. وفي عام 1989، صدر كتاب بعنوان ذا بلاكويل كومبانيون تو جويش كلتشرThe Blackwell Companion to Jewish Culture (أي دليل بلاكويل للثقافة اليهودية). لكن هذا المعجم لا يضم سوى أسماء المثقفين اليهود داخل التشكيل الحضاري الغربي، ويستبعد كل المثقفين اليهود الشرقيين، مثل يعقوب صنوع وغيره. ولعل محرري هذا المعجم قد فعلوا ذلك ليفرضوا نوعاً من الوحدة عليه. ولكن الوحدة في هذه الحالة هي وحدة غربية وليست يهودية.

ولكن المشكلة الأخرى هي أن هذا المعجم يضم أسماء مثقفين يهود معادين بشكل أساسي لليهودية ولا يمكن فهم فكرهم إلا في إطار تقاليد معاداة اليهود في الحضارة الغربية، فهل يُصنَّف هؤلاء باعتبارهم مثقفين يهوداً يُعبِّرون عن الثقافة اليهودية، بينما يُستبعَد المثقفون الشرقيون اليهود؟

وهناك مشكلة ثالثة وهي مجموعة المثقفين اليهود الذين يؤكدون انتماءهم للحضارة المسيحية باعتبارها مصدراً لوحيهم ولرؤيتهم للكون، مثل بوريس باسترناك وإيليا إهرنبرج (في مرحلة من مراحل حياته). بل هناك فيلسوف روسي يُسمَّى ليف شستوف ظهر اسمه في كتاب حول أهم ثلاثة فلاسفة يهود في العصر الحديث ومعه مارتن بوبر و روزنزفايج. ولكن المعجم الذي نتحدث عنه لم يورد اسمه لسبب وجيه هو أن هذا الفيلسوف الذي وُلد لأم يهودية يُعتبَر فيلسوفاً مسيحياً لأنه يتحدث عن واقعة صلب المسيح باعتبارها أهم حدث تاريخي. ولكن، رغم استبعاد معجم بلاكويل لاسمه، فإننا نجد أن اسمه ورد في الموسوعة اليهودية. وهناك أيضاً حالة نعوم تشومسكي، وهومن أشهر علماء اللغـة في العـصر الحـديث ويجيد العبرية وعاش بعـض الوقت في إسرائيل،ومع هذا تهمل الموسوعات اليهودية كافة ذكره ربما بسبب عدائه لإسرائيلوالصهيونية. فهل موقف المثقف اليهودي السياسي يُسقط عنه إثنيته اليهودية؟

الصفحة التالية ß إضغط هنا