المجلد السابع: إسرائيل.. المستوطن الصهيوني 6

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

الجزء الرابع: النظام الاستيطاني الصهيوني

الباب الأول: الاستيطان والاقتصاد

الاقتصاد الاستيطاني الصهيوني في فلسطين قبل عام 1948: أسباب ظهوره

Zionist Settler Economy in Palestine before 1948: Reasons Leading to Its Emergence

لا يُحكَم على اقتصاد أية دولة بالنجاح أو الفشل من خلال معايير اقتصادية عامة وإنما من خلال مشروعها القومي ككل. ففي النظم الرأسمالية يكون المعيار الأساسي عادةً هو الربح ومراكمة الثروة وربما توسيع نطاق الحرية الفردية، وخصوصاً حرية رأس المال. أما في في النمط الاشتراكي فيكون المعيار هو التقدم العلمي والتكنولوجي الذي لا يتناقض مع مفاهيم العدالة الاجتماعية وسيطرة الطبقة العاملة على وسائل الإنتاج حتى لا تنشأ طبقة رأسمالية تفرض أيديولوجيتها. وإسرائيل قد يكون لها كثير من الملامح "الاشتراكية" وبعض الملامح الرأسمالية (الاقتصاد الحر)، ولكنها لا تنتمي إلى أيٍّ من النمطين، بل تنتمي إلى ما يمكن تسميته «الاقتصاد الاستيطاني» الذي يأخذ أشكالاً متباينة تختلف من مجتمع لآخر، ومع هذا يتسم ببعض السمات الثابتة التي لا تتغيَّر.

ومن أهم هذه السمات أن الاقتصاد الاستيطاني يعطي الأولوية للاعتبارات الاستيطانية على أية اعتبارات أخرى، بمعنى أنه في حالة تعارُض مقتضيات الرشد الاقتصادي (القائمة على حساب التكلفة الاقتصادية والمردود الاقتصادي) مع النشاط الاستيطاني فإن الأولوية لا تكون للاعتبارات الاقتصادية وإنما لضرورات الاستيطان. وأهم هذه الضرورات الأمن والبقاء المادي، وهذا أمر مفهوم تماماً، فالاعتبارات الاقتصادية تعبير عن الرغبة في النجاح الاقتصادي، بينما يرتبط الأمن بوجود الجيب الاستيطاني نفسه، والنجاح الاقتصادي يأتي في المرتبة الثانية بعد البقاء المادي. ويرتبط بالبقاء المادي البقاء الإثني أو الحضاري والاجتماعي وهو يعنى أن جماعة المستوطنين تود الحفاظ على نفسها كجماعة بشرية مستقلة ذات خصائص مستقلة.

وهذا الاستقلال الإثني والاجتماعي مرتبط تمام الارتباط باستمرار جماعة المستوطنين باعتبارها جماعة غازية متفوقة عسكرياً تقوم باستغلال السكان الأصليين وإبادتهم إن لزم الأمر. فهذا الاستغلال يصبح الأساس المعنوي والخلقي الذي يُولِّد الديباجات العنصرية ويبرر عمليات القتل والغزو، وهو يحل مشكلة المعنى بالنسبة للمستوطنين. ولذا تقوم جماعة المستوطنين بعزل نفسها عن السكان الأصليين وتلجأ لشعائر اجتماعية مركبة وقوانين مباشرة لتحقيق هذا الهدف.

والبُعدان (الأمني والثقافي) ليسا منفصلين بأية حال فهما وجهان لعملة واحدة. فالاستقلال الثقافي والحضاري وما يؤدى له من عزلة وما يصاحبه من عمليات استغلال وقهر للآخر تستجلب العداء الذي يؤدي إلى تفاقم المشكلة الأمنية. وتؤدي المشكلة الأمنية بدورها إلى تعميق العزلة الثقافية فالاجتماعية.

يؤدي هذا الوضع إلى إفراز أهم سمات الاقتصاد الاستيطاني، أي جماعيته وعسكريته (التي يسمونها في الخطاب الصهيوني «التعاونية الاشتراكية»). ففي داخل هذا الإطار من العزلة ومع سيطرة الهاجس الأمني يصبح وضع المستوطن بمفرده في مواجهة البيئة الطبيعية والإنسانية المعادية أمراً مستحيلاً، إذ لابد من حشد الجهود البشرية والمادية، ولابد من التنظيم الاقتصادي والعسكري. وهذا ما فعله المستوطنون الصهاينة، فقد حوَّلوا أنفسهم إلى جماعة استيطانية متماسكة منظمة عسكرياً تستبعد العرب، وقاموا بتطوير مؤسسات "اقتصادية" وزراعية لا تخضع لمقاييس الرشد الاقتصادي ولا تنبع من مفهوم الجدوى الاقتصادية وتهدف إلى تكثيف جهود الأفراد وتجميع مصادرهم البشرية (المزارع الجماعية ـ الهستدروت)، وطوَّروا مجموعة من المفاهيم ذات الطابع الجماعي التي لا تكترث بالعائد الاقتصادي (العمل العبري ـ اقتحام الأرض والعمل والحراسة والإنتاج(.

وكما صرح أحد الزعماء الصهاينة، فإن المشروعات الناجحة هي أقل المشروعات نفعاً من الناحية الاستيطانية (لاعتمادها على العمل العربي والمستهلك العربي ولصعوبة الدفاع عنها... إلخ). أما المشروعات الصهيونية الخاسرة مالياً، فهي أكثرها نفعاً لانفصالها الكامل ولاعتمادها على العمل العبري والسوق العبرية، أي أنها النواة الحقيقية للدولة الصهيونية المنفصلة.

وجماعية هذا الاقتصاد أو "تعاونيته" تعبير عن ضرورات الاستيطان العسكرية الأمنية وليست تعبيراً عن رؤية إنسانية ترى أسبقية المجتمع على الفرد والعدالة الاجتماعية على الربح. ولذا نجد أن كل المجتمعات الاستيطانية، وخصوصاً الإحلالية، تأخذ هذا الشكل الجماعي في التنظيم في مراحل الاستيطان الأولى. فالبيوريتان (المتطهرون) المستوطنون الأوائل في الولايات المتحدة كانوا أصحاب واحدة من أكثر الأيديولوجيات الرأسمالية البروتستانتية تطرفاً في فرديتها، ومع هذا نظموا أنفسهم سياسياً واقتصادياً واجتماعياً بشكل جماعي، ففي مواجهة السكان الأصليين كان عليهم أن يفعلوا هذا.

بعد أن تناولنا السمة الأساسية للاقتصاد الاستيطاني (الجماعية) والسبب الأساسي لظهورها (الهاجس الأمني) قد يكون من المفيد الإشارة إلى بعض العناصر المقصورة على المشروع الصهيوني التي دعمت من هذه الجماعية وغلَّبت الاعتبارات الاستيطانية على اعتبارات الجدوى الاقتصادية:

1 ـ ينظر التشكيل الإمبريالي الغربي إلى الدولة الصهيونية باعتبارها قـاعدة عسـكرية متقدمة بالدرجة الأولى، ومركزاً استثمارياً بالدرجة الثانية. ولذا فالاعتبار العسكري بالنسبة للقوة الراعية كان أكثر أهمية من الاعتبارات الاقتصادية.

2 ـ تقوم الدولة الصهيونية والمنظمة الصهيونية "العالمية" بجمع التبرعات من يهود العالم، وهذه التبرعات، شأنها شأن الدعم الغربي، تصب في المُستوطَن الصهيوني من خلال مؤسسات الدولة المختلفة.

3 ـ الدولة الصهيونية دولة وظيفية تتمتع بالدعم السخي الذي يقدمه التشكيل الإمبريالي الغربي، الذي كان يصب في المُستوطَن الصهيوني من خلال مؤسسات الدولةالصهيونية مما يعني تقوية قبضتها وتقوية جماعية الاقتصاد.

4 ـ مما ساعد على تقوية الجانب الجماعي الاقتصادي الصهيوني ظهور النازية في ألمانيا إذ تم عقد معاهدة الهعفراه بين الصهاينة والنازيين التي أدت إلى تدفُّق كثير من المهاجرين اليهود الألمان ورؤوس الأموال على هيئة بضائع ومعدات قدمتها ألمانيا النازية إلى المستوطنين في فلسطين. وبعد قيام الدولة الصهيونية دفعت ألمانيا مبالغ طائلة كتعويضات للدولة الصهيونية عما لحق باليهود من أذى. وكل هذه المعونات تقوي شوكة الدولة والاقتصاد الجماعي.

5 ـ طرحت الدولة الصهيونية نفسها على مستوى الديباجة بوصفها دولة يهود العالم، أما على مستوى البنية فهي دولة استيطانية تحتاج دائماً لمادة بشرية للقتال والاستيطان، ومن ثم فلابد أن تفتح أبوابها للمهاجرين حتى لو تناقض ذلك مع مصالحها الاقتصادية المباشرة.

وتوجد أسباب خاصة بطبيعة المادة البشرية اليهودية التي تم نقلها (أي المستوطنين الصهاينة) دعمت النزعة الجماعية:

1 ـ كانت المادة البشرية التي سيتم نقلها من أوربا تحتاج إلى عملية تحديث وتطبيع (من المنظور الصهيوني)، أي شفاؤها من أمراض المنفى مثل الطفيلية والاشتغال بأعمال السمسرة والمضاربات، أي أنه كان المطلوب تحويل يهود الجيتو إلى شعب منتج يسيطر على كل المراحل الإنتاجية ويحقق لنفسه السيادة الاقتصادية والسياسية. كما أن عملية التحديث هذه كانت تعني في واقع الأمر تحويل يهودي الجيتو (السمسار المرابي) صاحب رأس المال الربوي الذي يستخدمه في عملية استغلال الشعوب (لصالح الأمير أو الحاكم) إلى المستوطن المقاتل الذي يحمل السلاح ضد السكان الأصليين ويقمعهم لصالح القوة الإمبريالية الراعية. وعمليات التحديث هذه كانت تتجاوز معايير الجدوى الاقتصادية، وتتطلب توليد روح جماعية في يهود الجيتو.

2 ـ كان معظم المستوطنين الصهاينة من طبقة البورجوازية الصغيرة أو البروليتاريا الرثة التي صعَّدت حركة الإعتاق أحلامها الطبقية على حين ضيَّقت الرأسماليات المحلية عليها الخناق، الأمر الذي جعلها مهددة دائماً بالهبوط إلى مستوى البروليتاريا. فكانت الصيغة التعاونية وسيلة تحقق قدراً من أحلامهم الطبقية بتحويلهم إلى ملاك زراعيين. ورغم أن الملكية لم تكن كاملة ولا فردية، إلا أنها مع هذا كانت نوعاً من الملكية يُشبع طموحهم الطبقي. فهم لم يصبحوا مجرد أجراء، والمالك لم يكن شخصاً معيناً وإنما شخصية معنوية تُسمَّى «الشعب اليهودي». وقد كان لهذه الملكية الصورية أثرها الكبير في تثبيت كثير من المستوطنين في أملاكهم "التعاونيـة" الجديدة رغم الظروف المعادية.

3 ـ كان من العسير إصدار الأوامر للمستوطنين وكان من الصعب عليهم تقبلها والانصياع لها، بحكم خلفيتهم الطبقية، ولذا كانت الصيغة التعاونية مناسبة لأقصى حد.

4 ـ كان كثير من المستوطنين الصهاينة يحملون أفكاراً وديباجات اشتراكية متطرفة كان لابد من تفريغها وتسريبها. وقد تم ذلك من خلال الاقتصاد الجماعي العسكري، الذي سُمِّي «تعاونياً اشتراكياً» واستُخدمت الديباجات الاشتراكية المتطرفة في تبريره.

5 ـ كان المهاجرون اليهود الجدد يأتون من وسط هامشي ولم تكن لهم خبرة بالزراعة، وبالتالي كانوا دائماً في حاجة إلى مساعدة وإشراف فنيين، ولهذا أمكن تدريب المزارعين الجدد على أيدي المزارعين ذوي الخبرة داخل إطار الاقتصاد الجماعي.

6 ـ كان مجتمع المستوطنين الصهاينة (ولا يزال إلى حدٍّ كبير) مجتمع مهاجرين. ومجتمع المهاجرين يتسم بسيولة كبيرة، فبعد استقرار فريق من المهاجرين كان كثير منهم يترك الأرض بعد قليل ليذهب إلى الولايات المتحدة حيث توجد فرص أفضل للعمل ومستوى معيشي أعلى. وقد تمكَّن الصهاينة من التغلب على هذه الصعوبة عن طريق الصيغة الجماعية لأن انسحاب بعض المزارعين لم يكن يعني التوقف الكامل للعملية الإنتاجية (الأمر الذي كان يمكن أن يحدث في حالة الملكية الفردية) وكانت الحركةالصهيونية تقوم باستبدال مهاجر آخر بمن ترك الأرض.

7 ـ أثبتت الصيغة الجماعية أنها أفضل الصيغ لاستيعاب المهاجرين الجدد، فهي قادرة على إيجاد أعمال ووظائف لهم، لأن المزارع التعاونية والتنظيمات الجماعية الأخرى كانت تشمل كل جوانب الحياة. كما ساهم التنظيم الجماعي في تخفيف حدة الصراعات العرقية داخل جماعات المستوطنين. فكل مهاجر كان ينضم للتنظيم التعاوني الذي تسود فيه قيمه الحضارية ويسيطر عليه بنو جلدته من رومانيين أو روس أو بولنديين وهكذا.

وقد أدرك القائمون على المنظمة الصهيونية والوكالة اليهودية هذه الحقيقة وأن الطريقة الوحيدة المتاحة أمام المشروع الصهيوني ليس مجرد الاستيلاء على الأرض وإنما إدارته على أساس جماعي عسكري. ولذا فرغم أن اتجاهاتهم الأيديولوجية كانت رأسمالية ليبرالية تؤمن بالاقتصاد الحر إلا أنها قبلت عملية التنظيم الجماعي هذه (التعاونية الاشتراكية) وقامت بدعمها وتمويلها بلا تردد ودون التقيد بأية اعتبارات اقتصادية أو أيديولوجية خارجية. فكانت الوكالة اليهودية تقوم بشراء الأرض (من سلطات الانتداب أو بعض الإقطاعيين العرب المقيمين خارج فلسطين أو من خلال وسطاء) باسم «الشعب اليهودي» وتؤجرها لتعاونية عمالية تدفع أجور العمال فيها حسب ما تنتجه كل مجموعة، وعيَّنت مديراً لكل تعاونية من قبَل المنظمة الصهيونية. وقد حل هذا الشكل من الزراعة كثيراً من مشاكل الاستيطان الصهيوني، فعلى سبيل المثال، يستطيع تجمُّع المستوطنين أن يُقسِّم نفسه إلى مجموعتين، تقوم واحدة بالزراعة والأخرى بالحراسة ومطاردة العرب وإرهابهم (والزراعة الصهيونية التي نسميها «الزراعة المسلحة» مرتبطة تمام الارتباط بالعسكرية الصهيونية، بحيث لا يمكن الفصل بينهما، فهما وجه واحد لعملية الاستيطان والاستيعاب). كما أن الحركة الصهيونية تستطيع أن تموِّل هذه التجمعات بحيث لا تؤدي عدم إنتاجيتها، بسبب جهل المستوطنين بشئون الزراعة، إلى سقوط الأرض مرة أخرى في يد العرب. أما المستوطنات التي تمنى بالخسائر الفادحة، فكانت المنظمة الصهيونية تقوم بدفع خسائرها، كما أن المستوطنة الجماعية التي يتلقى أعضاؤها أجرهم من المنظمة الصهيونية العالمية لن تحتاج للعمالة العربية الرخيصة.

وقد انتصر الاقتصاد الاستيطاني مع صعود الأحزاب العمالية إلى مواقع القيادة الصهيونية بانتصار جناح وايزمان في مؤتمر الحركة الصهيونية الذي عُقد في لندن سنة 1921، وتمكنت الأحزاب العمالية من السيطرة على رأس المال اليهودي العام الموجود في تصرُّف الحركة الصهيونية، على أساس أن ذلك يتيح لها فرصة تأسيس اقتصاد عمالي، أي استيطاني، قادر على إخضاع رأس المال الخاص ليعمل وفق أهداف بناء الدولة الصهيونية "الجماعية". واستطاعت الأحزاب العمالية إيجاد خطة لجذب المهاجرين الشبان.

وقد سيطر الهستدروت على الأنشطة الاقتصادية كافة وحدَّد مهامها بأنها توحيد العمال المستخدمين، وإنشاء كتائب العمل وجماعات الزراعة والحرث واستقبال المهاجرين. وكان تأسيس الهستدروت استمراراً لنفس الاستجابة لمعضلة الاقتصاد والأيديولوجيا الاستيطانية. فالهستدروت لم ينشأ للتعبير عن مصالح طبقة عاملة يهودية تبلورت فيفلسطين وإنما أداة لخلق هذه الطبقة، ونواة للاقتصاد العمالي. كما أنه بامتلاكه العديد من المشروعات كان يسعى لتكوين علاقة خاصة جداً مع رأس المال الخاص، وهو ماعبَّر عنه بن جوريون بقوله: "إننا لا نسعى لمشاركة العمال في أعمال يديرها رأس المال الخاص ويشترك العمال في أرباحها، وإنما على العكس نسعى لمشاركة رأس المال الخاص في أعمال يديرها العمال ويشرف الهستدروت عليها، ويأخذ رأس المال الخاص نسبة ثابتة من أرباحها".

وتبدَّى عنصرا الجماعية والأمن باعتبارهما أهم أسس الاقتصاد العمالي في تنظيم الكيبوتس على أسس شبه عسكرية لتفريخ المُستوطن المقاتل، وقد تم تأسيس الهاجاناه بعد تأسيس الهستدروت بعام واحد، وتم تدريب عشرات الآلاف من أعضائها. ثم تأسست بعد ذلك قوتها الضاربة البالماخ عام 1941 لتأدية المهام الصعبة. وكان معظم أعضائها مرتبطين بالكيبوتس، وخصوصاً تلك الكيبوتسات التابعة للحزب الصهيوني ذي الديباجة اليسارية: المابام. وكانت الهاجاناه ضمن مسئولية الهستدروت، وضباطها في معظمهم مسئولون فيه، واعتبرت بمنزلة الجناح العسكري للمجتمع الجديد لتقوم بمهام الحماية وتوفير الأمن للاقتصاد الاستيطاني العمالي.

الاقتصاد الاستيطاني الصهيوني في فلسطين المحتلة بعد عام 1948

Zionist Settler Economy in Occupied Palestine after 1948

لم يختف الهاجس الأمني (الاستيطاني) بطبيعة الحال بعد عام 1948، بل ربما ازداد حدة. وقد تطلَّب هذا استمرار الصيغة الجماعية (التعاونية العمالية) وتهميش الاعتبارات الاقتصادية وتخصيص موارد اقتصادية هائلة لحراسة الحدود لضمان استمرار السيطرة الصهيونية على الأرض والسكان الأصليين واستيعاب المهاجرين الجدد وإعادة تأهيلهم وإتمام المشروع الصهيوني بما يتطلبه من تَوسُّع جغرافي ومحاولة التوصل إلى الحدود الآمنة بشكل نهائي وتحديث الجيش الإسرائيلي وتزويده بكل الأسلحة التي يحتاجها وبناء صناعة سلاح ذات تكنولوجيا عالية متطورة.

وقد تمكنت الأحزاب العمالية من تأسيس نظام اقتصادي تقوم فيه الدولة بالإشراف والتخطيط المركزي الذي يشمل مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية كافة، كما أنها تشرف على كل مجالات النشاط الاقتصادي عَبْر سياساتها الضريبية والنقدية والمالية، وعَبْر سياسة التشجيع والدعم حتى أنه يمكن القول بأن دور الدولة في الاقتصاد الإسرائيلي أكبر من دور أية دولة أخرى في اقتصادها، عدا الدول الشيوعية.

وقد ظل نموذج الصهيونية العمالية، وقوامها الهستدروت، المَعْلم الأساسي للاقتصاد العمالي في فلسطين قبل عام 1948، ثم للاقتصاد الإسرائيلي بعد قيام الدولة، إلى أن بدأ اهتزاز هذا النموذج مع الأزمة الاقتصادية التي بدأت في أعقاب عام 1973، وبلغت ذروتها في منتصف الثمانينيات معلنة عن انتهاء قدرة هذا النمط من الإدارة الاقتصادية على الاستمرار وتجاوز أزماته.

الاقتصـاد العـمـالي

Labour Economy

«الاقتصاد العمالي« مصطلح يكاد يكون مترادفاً مع مصطلح «الاقتصاد الاستيطاني الصهيوني». ونحن نذهب إلى أن ثمة نمطاً عاماً من الاقتصاد الاستيطاني يوجد في كل الجيوب الاستيطانية سمته الأساسية هي الجماعية والعسكرية. هذا النمط يترجم نفسه إلى أشكال مختلفة ولكن الجوهر يظل واحداً. وفي حالة المشروع الاستيطاني الصهيوني أخذ الاقتصاد الاستيطاني شكل الاقتصاد العمالي أو التعاوني الاشتراكي ذي الديباجات الاشتراكية للأسباب التي بيناها في مدخل «الاقتصاد الاستيطاني الصهيوني في فلسطين قبل عام 1948: أسباب ظهوره».

الـرواد الصهاينة (حالوتسيم ـ المسكوب(

Zionist Pioneers (Halutzim; Maskoub)

«الرواد» ترجمة للكلمة العبرية «حالوتسم» ومفردها «حالوتس» أي «رائد». ويُطلَق المصطلح في الكتابات الصهيونية على الصهيوني الذي يهاجر إلى فلسطين ويستوطن فيها ثم يكرس نفسه لبناء المُستوطَن الصهيوني. أما الفلسطينيون العرب فقد أطلقوا عليهم اسم «المسكوب» أي الوافدون من «مسكوبا» أي «موسكو».

والرواد جماعة من المستعمرين الاستيطانيين الذين يدورون في إطار الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة بعد مزجها بالديباجات الشعبوية الروسية الخاصة بالعودة للشعب العضوي (الفولك) والأرض ورفض الطموحات المادية والمصلحة الذاتية وإيثار العمل اليدوي، الذي قد يأتي بعائد مادي منخفض، عن الأعمال غير اليدوية التي قد تأتي بالنجاح المادي البورجوازي، ولذا فهم يحلمون بمجتمع جماعي اشتراكي مفعم بروح التعاون.

كان الرواد يرفضون حياة اليهود في العالم (الدياسبورا) كما خبروها في شرق أوربا، كما كانوا يرفضون الاندماج في مجتمعاتهم الأصلية. وقد ذهبوا إلى أنه لا يمكن حل المسألة اليهودية في شرق أوربا إلا على أساس عودة اليهود إلى فلسطين كي يطهروا أنفسهم عن طريق اقتحام الأرض والعمل والحراسة والإنتاج وتَعلُّم اللغة العبرية والتمسك بالتراث اليهودي. وقد ارتبطت حركة الريادة بالتنظيمات العسكرية الصهيونية ومزارع الكيبوتس (التي يُعَدُّ الانضمام لها ذروة تَحقُّق المثل الأعلى الريادي)، فالريادة هي في نهاية الأمر الزراعة المسلحة التي تهدف إلى تحقيق الاستيطان الإحلالي في فلسطين على حساب الفلسطينيين. وبالتالي، فإن الزراعة المسلحة التي يعمل بها الرواد هي في واقع الأمر الطريقة الصهيونية لتجنيد بعض الشباب اليهودي الثوري من شرق أوربا وتحويلهم إلى مستوطنين يحلون محل الفلسطينيين.

وصورة الرائد هي الصورة التي شكَّلت الوجدان الصهيوني العمالي الاستيطاني. والمجتمع الإسرائيلي كان مجتمع مستوطنين يظنون أنفسهم رواداً حتى عام 1967. وبعد ذلك التاريخ، تغيَّرت الصورة كثيراً. فمع تَزايُد معدلات العلمنة وتَصاعُد أزمة الصهيونية، تراجعت صورة الرائد التقليدية وحلت محلها صورتان:

1 ـ صورة المُستوطن الباحث عن اللذة الذي لا يكترث بأية ديباجات دينية أو إنسانية، فهو شخص لا ينعت نفسه بصفة الرائد ولا يدعي أنه يُحوِّل الصحراء إلى أرض خضراء أو يحمل المحراث بيد والبندقية بالأخرى (كما كان الزعم والادعاء). وهو يرفض التقشف والتضحية بالذات، فهو شخص يبحث عن رفع مستواه المعيشي وعن المزيد من الاستهلاك ويحلم بالحياة في مجتمع تتحكم فيه آليات المشروع الحر وتتدفق عليه المعونات الأمريكية. وقد تَحوَّل الكيبوتس نفسه من مجتمع صغير يبلور قيمة التقشف إلى مكان يتمتع فيه أعضاء النخبة الإشكنازية بالترف والرفاهية. وقد أصبحت المستوطنات الجديدة مزودة بكل أشكال الترف الحديث، كما أن الجيش الإسرائيلي أصبح يزودها بالحماية.

2 ـ صورة المُستوطن الملتحي الذي يستوطن الأرض الفلسطينية باسم الحقوق اليهودية المقدَّسة المطلقة والصهيونية الحلولية العضوية.

والواقع أن الهجرة اليهودية السوفيتية الأخيرة جاءت بالآلاف من الحالمين بالصورة الأولى ومن اتباع ما نسميه «الصهيونية النفعية».

منظمـــات الـــرواد

Halutzim Organizations

ظهر عديد من المنظمات الصهيونية التي كانت تهدف إلى وضع رؤية الرواد الخاصة بالزراعة المسلحة واقتحام الأرض والعمل والحراسة والإنتاج موضع التنفيذ. وكان مناحم أوسيشكين من أوائل المنادين بتكوين مثل هذه التنظيمات التي يلتزم أعضاؤها بالذهاب إلى فلسطين للعـمل لمدة ثلاث سـنوات كنوع من أنواع الخدمة العسكرية للشعب اليهودي، على أن يكون سلاحه المجراف والمحراث وليس السيف أو البندقية (وهو ما يدل على جهله التام بحقائق الاستيطان الإحلالي الذي يتَطلَّب السيف قبل المجراف والبندقية قبل المحراث). وقد نشأت جمعيات في الولايات المتحدة وجنوب روسيا وبولندا ورومانيا تحت أسماء مختلفة. وأولى هذه المنظمات كانت منظمة البيلو للاستيطان في فلسطين ومنظمة عم عولام للاستيطان والهجرة إلى الولايات المتحدة. وظهرت المنظمات في كل مكان، فأسَّس بن جوريون واحدة في الولايات المتحدة عام 1915 حينما كان هناك، وأسَّس ترومبلدور منظمة في روسيا عام 1919.

وقد اكتسبت منظمات الرائد قوة غير عادية مع صدور وعد بلفور الذي حوَّل الفكرة الصهيونية إلى مشروع محدد قابل للتنفيذ من خلال آلية الإمبريالية، فتزايد عدد المنظمات. ولكن نشوب الثورة البلشفية أدَّى إلى تأثير معاكس، وخصوصاً أن كثيراً من أعضاء جماعات الرواد هم من الشباب الثوري الذي أصبح بوسعه التعبير عنتَوجُّهه الثوري من خلال التجربة السوفيتية.

وقد عُقد مؤتمر لمنظمات الرواد في الاتحاد السوفيتي عام 1918، ويُعَد ترومبلدور الأب الفعلي والروحي لهذه المنظمات، وقد أصبح المثل الأعلى بعد مقتله على يد المقاومة العربية عام 1920. ثم عُقدت عدة مؤتمرات بعد ذلك. وقد أصدر المؤتمر المنعقد عام 1923 قراراً بأن جماعات الرواد جزء عضوي من كل من الطبقة العاملة اليهودية وطبقة البروليتاريا العالمية وأكد حتمية الصراع وأن المنظمة ستحارب ضد الرأسمالية في كل أشكالها وأن كل عضو يرفض فكرة الكيبوتس وينضم إلى موشاف عوفديم لن يسمح له بالانضمام لبرامج التدريب. وقد تم تبنِّي هذه القرارات في أغسطس 1923، وانقسمت منظمات الرواد إلى شرعيين وغير شرعيين، إذ طالب الشرعيون بالصراع الطبقي الأممي والحياة الجماعية، بينما ذهب غير الشرعيين إلى أن هناك حركة عمالية يهودية مستقلة.

وقد شهد عام 1926 نجاح التجربة السوفيتية في توطين اليهود وتحويلهم إلى عنصر منتج في الوقت الذي كان فيه الاستيطان في فلسطين يعاني أزمة، وانتهى الأمر بأن سحبت السلطات السوفيتية اعترافها بجمعية الرواد عام 1928 وألقت أعضاءها في السجن.

وقد أُسِّست منظمات للرواد في وسط أوربا والولايات المتحدة وغيرها من البلدان. ويُلاحَظ أن صعود النازي للسلطة لم يَعُق نشاطها، فالنازيون لا يمانعون في أية نشاطات تؤدي إلى إفراغ أوربا من اليهود والنشاط الصهيوني الاستيطاني يؤدي إلى ذلك. ومما يلفت النظر أن منظمات الرواد لم يكن لها فروع في اليمن أو البلاد العربية التي كانت تضم أقليات يهودية ذات طابع عربي، بل انصب نشاطها على اليهود الإشكناز أو اليهود العرب ذوي الطابع الأوربي مثل بعض قطاعات اليهود في مصر وسوريا.

وقـد ارتبطـت منظمات الرواد من البداية بفكرة الغزو المسـلح لفلسطين. فقد حارب كثير من الرواد مع الفيلق اليهودي عام 1917، وكان هذا ترجمة عملية لتفكير بن جوريون في تكوين جيش من العمال يسير إلى فلسطين ليحررها للشعب اليهودي. وفي عام 1919، حضر ترومبلدور مؤتمراً لجمعيات الرائد، وكان قد فَقَد الأمل في تكوين جيش قوامه مائة ألف يهودي في روسيا ليهاجم فلسطين ويستوطنها، وطالب بإنشاء جيش قوامه عشرة آلاف جندي من الرواد ليحل محل الحامية الإنجليزية.

وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية، كان عدد أعضاء منظمات الرواد 100 ألف. وقد نشر الهستدرت إحصاءً عام 1927 يقول إن 43% من كل العمال في فلسطين و80% من أعضاء الكيبوتس تم تدريبهم في جمعيات الرواد قبل استيطانهم فلسطين. وقد تَوقَّف نشاط الجمعيات مع تأسيس الدولة الصهيونية. وفي الوقت الحالي، تتبع كل حركات الشباب الصهيونية قسم الشباب والحالوتس في المنظمة الصهيونية.

الحركـــة التعاونيــة

Cooperative Movement

«الحركة التعاونية» هي أهم تعبير عن الصهيونية العمالية، وتعود جذور الفكر التعاوني الصهيوني إلى الفكر التعاوني الغربي والفكر الشعبوي الروسي وإلى أوضاع أعضاء الجماعات اليهودية في شرق أوربا، وخصوصاً في مرحلة التحديث المتعثر حيث تأزَّم وضعهم باعتبارهم بقايا جماعة وظيفية فقدت دورها التقليدي. وقد أُسِّست الحركة التعاونية اليهودية كمحاولة لتركيز قوى صغار التجار والمموِّلين اليهود حتى يمكنهم التصدي للمنافسة، ومن ثم فهي لم تكن حركة احتجاج على المجتمع التنافسي التعاقدي الذي أسسته الرأسمالية بقدر ما كانت آلية للبقاء داخله ولتحسين فرص التنافس.

وقد بدأت الحركة التعاونية اليهودية في روسيا بين الحرفيين اليهود الذين كوَّنوا جمعيات تعاونية تمنحهم تسهيلات ائتمانية تساعدهم على شراء الأدوات التي يستخدمونها وعلى تخزين منتجاتهم وعلى التأمين على حياة الأعضاء. وقد ساهم الأثرياء من اليهود الأمريكيين والألمان في تحويل هذه التعاونيات كجزء من محاولتهم تحويل اليهود إلى قطاع اقتصادي منتج (كما يقول الاصطلاح الصهيوني) وذلك حتى لا تزداد الهجرة من شرق أوربا إلى بلاد الغرب، الأمر الذي كان يهدد مصالحهم الاقتصادية ووضعهم الاجتماعي. وقد انتشرت التنظيمات التعاونية في روسيا حتى أصبحت تضم 400 ألف عضو (يعولون حوالي مليون ونصف مليون شخص، أي حوالي ثُلث يهود روسيا في ذلك الوقت). ومما له دلالة أن هذه التعاونيات كانت مُقسَّمة على النحو التالي:

36% تعاونيات صغار التجار

32% صناع مهرة

7.5% فلاحون

2% عمال

21.5 % تعاونيات مختلفة

أي أن الحركة التعاونية اليهودية في روسيا كانت أساساً حركة لحل مشاكل الطبقة البورجوازية الصغيرة، ونشأت في هذه التربة. والقول نفسه ينطبق على الحركة التعاونية في بولندا التي كانت تضم خُمس يهود بولندا (وقد تركت هذه النشأة البورجوازية الصغيرة أثرها في بناء الحركة التعاونية للصهيونية الاستيطانية فيما بعد).

وقد نقل المستوطنون اليهود في الأرجنتين نمط التنظيم التعاوني معهم إلى وطنهم الجديد (دون أية ادعاءات عقائدية أو مثالية بشأنها) فأنشأوا تعاونيات زراعية، ولكن لم يُقدَّر لها النجاح أو الانتشار (وهي آخذة في الاختفاء التدريجي) نظراً لانصراف المستوطنين في الأرجنتين عن الزراعة إلى الأعمال التجارية، ومن ثم فقد أسسوا تعاونيات مصرفية، إن صح التعبير، فساهم أكثر من 15 ألف يهودي في تأسيس تعاونية البنك التجاري عام 1917 وبنك الشعب اليهودي عام 1921.

ومن أطرف الأشكال التعاونية، تعاونية الباعة الجائلين اليهود التي كانت تأخذ شكل مخازن مفتوحة في كل المدن التي يذهب إليها البائع اليهودي الجائل. فإذا كان البائع عضواً في التعاونية تَوجَّه إلى المخزن التعاوني وأخذ ما يريد من بضائع بشروط ائتمانية سهلة. كما أن وجود المخازن في معظم المدن أعفى البائع المتجول من مشقة حمل بضائعه معه أينما ذهب واكتفى بحمل عينات من السلع فحسب، فإذا ما باع كمية من السلع تَوجَّه إلى المخزن وحصل على الكمية المطلوبة ووردها للزبون. وقد تطوَّر هذا الأسلوب بحيث اكتفى البائع المتجول بعرض العينة على الزبون على أن يتوجه الأخير بنفسه إلى المخزن التعاوني، وهذا لا يختلف كثيراً عن الطريقة الشائعة في الولايات المتحدة وأوربا للبيع بالكتالوج. وهذه التعاونيات التجارية منظمات رأسمالية في بنائها وحركياتها وأغراضها، ولكنها تستخدم أساليب تعاونية باعتبار أن الأسلوب التعاوني هو أكثر الأساليب ملاءمة للمستوطنين اليهود في الأرجنتين الذين يريدون ممارسة نشاط رأسمالي، ولكن حجم رأس مال كل منهم على حدة يحول دون ذلك.

وقد استمرت بعض التعاونيات اليهودية بعد الثورة السوفيتية، وبعد وصول الشيوعين للحكم في بولندا. وكان الغرض من التعاونيات في الإطار الاشتراكي الجديد هو إعادة تدريب اليهود مهنياً حتى يكتسبوا من الخبرات ما يؤهلهم للاندماج في المجتمع إذ يبدو أن ما يُسمَّى «هامشية اليهود» قد استمرت حتى الثلاثينيات في الاتحاد السوفيتي وحتى الخمسينيات في بولندا.

ولا تختلف الحركة التعاونية الصهيونية في فلسطين في جذورها التاريخية ولا في رؤيتها عن الحركة التعاونية اليهودية في أوربا. فالحركة التعاونية الصهيونية كانت متأثرة بأفكار سيركين وجوردون وبوروخوف وأوبنهايمر. وقد تحدَّث سيركين وجوردون عن العمل الجماعي اليهودي كوسيلة لنبذ الهامشية والطفيلية ولاكتساب هوية جديدة يهودية منفصلة. ولذلك ترجمت هذه الأيديولوجية نفسها إلى مفاهيم عنصرية مثل مفهوم اقتحام الأرض والعمل والحراسة والإنتاج ومفهوم العمل العبري. أما أوبنهايمر فقد قنَّن هذه التعاونية الانفصالية، إن صح التعبير، فقد كان من المطالبين بما كان يسميه «الاستعمار الكبير» الذي كان يعني الاستيلاء على كل الأرض الفلسطينية بشكل جماعي على عكس «الاستعمار الصغير» الذي يقوم على أساس دعم أثرياء الغرب والتسلل. والاستعمار الكبير لن يتم إلا عن طريق إنشاء شبكة من المستعمرات الزراعية والقرى التعاونية على أساس الاعتماد الذاتي، إذ لا بقاء لليهود في فلسطين إلا بالزراعة وإقامة اقتصاد زراعي وتكوين طبقة من الفلاحين والمزارعين لضمان استقرار المدن اليهودية. وقد طالب أوبنهايمر بأن تظل الأرض كلها ملكاً أزلياً للشعب اليهودي كما طالب بإحياء القوانين الزراعية لإسرائيل القديمة بعد تجديدها، وإدخال قوانين السنة السبتية وسنة اليوبيل. وطالب أوبنهايمر بعدم السماح بقيام سلطة قوية لكبار الملاك لأن هذه السلطة في عرقلتها تطبيق القانون كانت لها اليد الطولى في انهيار الدولة العبرانية القديمة، أي أن أوبنهايمر كان يؤيد الحركة التعاونية كاستمرار للتقاليد الدينية وكترجمة لمطامح الشعب اليهودي في الانفصال وفي ممارسة شعائره الدينية التي هي من أهم مظاهر انفصاله.

وإذا كانت هذه هي التبريرات النظرية للحركة التعاونية الصهيونية، فهي تعتبر ديباجات تبرر ظاهرة برزت بشكل برجماتي لم تَدخُل النظرية في تشكيله. فقد ظهرت أولى التعاونيات الصهيونية في فلسطين كامتداد طبيعي واستمرار تلقائي للتعاونيات اليهودية في شرق أوربا وهي التعاونيات التي كانت قد ظهرت كوسيلة عملية لتحسين دخول الأعضاء فيها (وليس كمحاولة اشتراكية بدائية من جانب العمال المُستغَلين للوصول لصيغ تنظيم اقتصادية جماعية تراحمية تختلف عن الصيغ الرأسمالية السائدة والمبنية على التنافس والتناحر والاستغلال). ومن المُلاحَظ أن التعاونيات اليهودية الأولى التي نشأت في فلسطين كانت تعاونيات استهلاكية، كما كانت هناك تعاونيات تسويقية، وتعاونيات عمالية تقيم للعمال مطابخ ومغاسل ونوادي لأن معظمهم كان مُقتلَعاً من تربته خارج أي بناء أسري. ومن أشهر التعاونيات العمالية التنظيم التعاوني لعمال البناء الذي كان يتفاوض مع الزبائن والمؤسسات من أجل الحصول على عقود البناء (وهذه التعاونيات هي التي تحولت فيما بعد إلى أشهر شركة يملكها الهستدروت وهي شركة سوليل بونيه للبناء). وإلى جانب كل هذا، كانت هناك تعاونيات لصغار الملاك الزراعيين للمساهمة في زراعة الأرض وتسويق المنتجات الزراعية.

ومع هذا، فإن الصيغة التعاونية الصهيونية ظلت حقيقة قائمة على المستوى العملي المباشر وحسب، ولم يتم اكتشافها واكتشاف إمكانياتها الاستيطانية الصهيونية بشكل واع إلا عام 1904. وقد تم ذلك بالصدفة المحضه، فبعد موت هرتزل ازداد النشاط الاستيطاني، وقد ظهرت بعض التعاونيات في فلسطين كاستجابة مباشرة وتلقائية لمتطلباتالاستعمار الاستيطاني الإحلالي (الذي يدور في إطار محاولة الاستيلاء على الأرض وإفراغها من سكانها العرب وإحلال عنصر يهودي محلهم). وقد تبيَّن أن الحركةالصهيونية الدبلوماسية أو العامة (التوطينية) قادرة على شراء الأراضي، ولكنها كانت غير قادرة على توطينها (وهو الأمر الذي يمكن أن تقوم به الصهيونية العمالية الاستيطانية وحدها). وحيث إن تمويل الأفراد قد تَعذَّر، فقد تقرَّر أن تبقى الأراضي التي يشتريها الصندوق القومي اليهودي ملكية جماعية على أن تُؤجَّر للمجمعات العمالية التي يدفع لها أجراً حسب كمية إنتاجها، وقد عُيِّن مدير لهذه المجمعات من قبَل الحركة الصهيونية.

وقد حدث أن قام نزاع حاد بين المدير المعيَّن من قبَل الحركة الصهيونية والمستوطنين في إحدى المستوطنات، فاتخذت المنظمة الصهيونية قراراً بعقاب المدير والعمال، ولكنها عدلت عن هذا واكتفت بفصل المدير وبدأ تطبيق نظام التسيير الذاتي، وهكذا بدأت الحركة التعاونية الصهيونية والصيغ الاشتراكية الأخرى.

وقد قُدِّر لهذه الصيغة الجماعية التعاونية أن تسود رغم وقوع الحركة الصهيونية تحت تأثير كبار المموِّلين اليهود والإمبريالية العالمية، وذلك لأنها كانت الطريقة الوحيدة القادرة على ترجمة الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة إلى حقيقة واقعية، فهي الصيغة التي قامت بعزل المستوطنين وتحويلهم إلى جماعة استيطانية قتالية متماسكة يمكنها الصمود أمام السكان الأصليين.

ولعل أكبر دليل على أن الحركة التعاونية الصهيونية ضرورة حتَّمها الاستيطان الإحلالي فحسب، دون أي ارتباط بأيديولوجيا أو رؤية اشتراكية إنسانية، هو وجود منظمات تعاونية عمالية وتعاونية تابعة لكل الأحزاب بغض النظر عن انتمائها الديني أو الطبقي أو الفكري، بل توجد مدرسة تلمودية/ناحال في إسرائيل، أي مدرسة تلمودية تأخذ شكل مستوطنة زراعية تعاونية عسكرية.

ويعكس الهستدروت في تركيبه الشامل التعاوني الرأسمالي بنية الحركة التعاونية الصهيونية وجذورها التاريخية، فهو تنظيم نقابي ولكنه في الوقت نفسه أكبر رأسمالي في إسرائيل. ومما هو جدير بالذكر أن هذه الحركة التعاونية آخذة في الاختفاء والضمور التدريجي بعد أن أدَّت غرضها، بينما القطاع الخاص من الاقتصاد آخذ في التوسُّع على حسابها.

اقتحــام الأرض والعــمل والحراســة والإنــتاج

Conquest of Soil, Labour, Guarding, and Production

«اقتحام الأرض والعمل والحراسة والإنتاج» مجموعة من المفاهيم الصهيونية العمالية المترابطة التي تشكل عصب الأيديولوجية الصهيونية العمالية:

1 ـ اقتحام الأرض:

كان مفهوم اقتحام الأرض أحد الأسس التي يستند إليها البرنامج الصهيوني الاستيطاني، وهو مفهوم ينادي بالاستيلاء على أرض فلسطين واستغلالها حتى يمكن إنقاذها من أيدي الأغيار وبناء المستعمرات اليهودية. وعن طريق غزو الأرض يُطهِّر اليهودي نفسه من طفيليته التي كانت تسمه كشخصية هامشية تعمل بالتجارة والربا في الدياسبورا (أي في أنحاء العالم)، حيث كان يعيش منفياً محرماً عليه ـ حسب التصوُّر الصهيوني ـ العمل في الزراعة والاحتكاك بالطبيعة ومصادر الحياة. فاقتحام الأرض لم يكن الدافع إليه اقتصادياً فحسب وإنما كان نفسياً أيضاً.

ولكن الاقتحام الحقيقي للأرض لم يتم بالطرق السلمية ولا حتى عن طريق التسلل والشراء، فالصندوق القومي اليهودي لم يتمكن خلال 45 عاماً (من تاريخ تأسيسه حتى عام 1947) من الحصول إلا على 3.9% من مساحة فلسطين، بينما نجد أن الهاجاناه (وشتيرن والإرجون) قد استولت في أقل من عام واحد (1948) على مساحة قدرها 76% من مجموع مساحة البلاد.

2 ـ اقتحام العمل:

لو كان الاستعمار الصهيوني استعماراً استيطانياً وحسب، لاكتفى باقتحام الأرض ولكنه استعمار استيطاني إحلالي، ولذا لم يكن هناك مفر من البحث عن أداة أخرى لتحقيق الإحلال، وقد وجد الصهاينة ضالتهم المنشودة في مفهوم اقتحام العمل. وفي إحدى مؤتمرات العامل الفتي، أكد جوزيف واتكين أن اقتحام الأرض واقتحام العمل صنوان لايفترقان، يكمل الواحد منهما الآخر. وكلا المفهومين يعود في الأصل إلى المفكر الصهيوني العمالي الحلولي جوردون الذي كان يرى أن اليهودي في الدياسبورا يقومبأعمال كتابية وحسابية ومالية، ولذا فهو يحيا حياة مُشوَّهة ينقصها الانفعال والإبداع، كما أنه لا يتمتع بأية سيادة ولا مشاركة في صنع القرارات التي تؤثر في حياته. ولذا، يجب على اليهودي أن يعود للأرض لا ليملكها فحسب وإنما ليشتغل فيها بالأعمال اليدوية الشاقة ويقهرها حتى يصبح هو نفسه محتلاًّ من قبَل العمل اليدوي. والعمل اليدوي هو إحدى وسائل الرجوع إلى عالم الطهارة والحواس والطبيعة ووسيلة الاتحاد الصوفي بها. ولذا يجب أن يعمل العامل اليهودي من أجل العمل ذاته، وهو بهذا سيطبّع نفسه ويتخلص من هامشيته وطفيليته ويحل إشكالية الهرم الطبقي اليهودي المقلوب إذ يصبح هناك عمال وفلاحون ومن ثم يكتمل تكوين الشعب اليهودي، كما أنه سيحل إشكاليةالعجز وانعدام السيادة وعدم المشاركة في السلـطة إذ أن هـذا الشـعب اليهودي الذي اقتحم العمل وأكمل تكوينه الطبقي يمكنه أن يؤسس دولة ذات سيـادة يمارس اليهود منخلالها صنع القرار ويتحكمون في مصيرهم.

وقد قام الحاخام الصهيوني كوك، العارف بأسرار القبَّالاه، بالدفاع عن فكرة اقتحام العمل، مستخدماً مصطلحاً حلولياً عضوياً، إذ يقول: "لقد أدرنا ظهورنا للاهتمام بحياتنا الجسدية ولتطوير أحاسيسنا كما أهملنا كل ما له علاقة ملموسة بحقيقة الجسد لأننا أصبحنا فريسة لمخاوفنا، لقد كان ينقصنا الإيمان بقدسية الأرض". ونحن نرى أن ثمة تشابهاً بنيوياً بين مفهوم اقتحام العمل وبين المفهوم الحسيدي للخلاص بالجسد الذي يؤكد أن روح الإنسان تستطيع، من خلال الانتشاء الجسدي والغوص في الأشياء المادية، أن تتسامى لتصل إلى درجة عالية من الطهارة والشفافية والسمو الروحي. والحديث عن اقتحام العمل وطهارة العمل العبري لم يكن أمراً مجازياً بل كان حرفياً إلى أقصى درجة، فلقد قام بعض العمال العرب الذين استأجرهم المستوطنون الصهاينة بغرس أشجار غابة هرتزل، فقام العمال اليهود باجتثاثها ثم أعادوا غرسها في اليوم التالي من خلال العمل العبري الطاهر.

والحديث عن اقتحام العمل والعمل اليدوي بهذا الشكل الرومانتيكي يدل على الجذور الطبقية البورجوازية الصغيرة للصهيونية العمالية التي جاءت جماهيرها من بين قطاعات اجتماعية فشلت في التأقلم مع أوضاعها الطبقية والاقتصادية الجديدة في شرق أوربا، ولم تتمكن من اللحاق بمن هاجر إلى الولايات المتحدة أو غرب أوربا، فكان عليها أن تبحث عن بنيان اقتصادي جديد يمكنها أن تتكيف معه، فوجدت ضالتها المنشودة في العودة إلى عالم زراعي مقدَّس في أرض الأجداد المقدَّسة!

ولكن الدافع وراء اقتحام العمل لم يكن نفسياً/طبقياً فحسب، بل كانت هناك ضرورات عملية يحتمها واقع الاستعمار الاستيطاني الإحلالي في فلسطين، فالأرض التي هاجر إليها اليهود لم تكن خالية من السكان، ولذا كان يتحتم إجلاؤهم وشَغْل أعمالهم. وقد أدرك المستوطنون منذ البداية أهمية العمل العبري كأساس للاستيطان الإحلالي، فاستئجار العمال العرب كان يعني أن المُستوطَن الصهيوني سيظل معتمداً على العرب غير مستقل عنهم، كما أنه في نهاية الأمر سيجعل تحقيق أغلبية يهودية أمراً مستحيلاً. ولذا، لم يكن هناك مفر من إحلال العامل اليهودي محل العامل العربي، وكان خلق وظائف جديدة للمهاجرين الجدد أمراً حتمياً، وهو أمر كان من العسير تحقيقه دون اللجوء إلى اقتحام العمل.

وقد قاوم بعض المستوطنين هذا المفهوم الصهيوني العمالي لتَناقُضه مع مصالحهم الاقتصادية، فالرأسمالي اليهودي كان يفضل العامل العربي الكفء قليل التكلفة علىالعامل العبري غير الكفء مرتفع التكلفة. وقد قام الصهاينة العماليون بتنظيم إضرابات عديدة ضد الرأسماليين اليهود الذين لا يحافظون على نقاء أو طهارة المُستوطَن، إلاأن الصهاينة العماليين كانوا مع هذا يؤكدون أن غزو الأرض لم يكن يتم لحساب الطبقة العاملة اليهودية وحدها وإنما لحساب الشعب اليهودي ككل وأن التناقض بينهم وبينالرأسماليين لم يكن ينصب إلا على نقطة جزئية خاصة بإصرار الفريق الآخر على استئجار العمل العربي.

وكمحاولة لحل هذا التناقض، لجأ المستوطنون إلى استيراد بعض اليهود الشرقيين من اليمن، فالعامل اليمني كان عاملاً عبرياً (مقدَّساً) يُرضي المطامع الإحلالية لدى الصهاينة العماليين، وهو كذلك عامل عربي رخيص يُرضي شراهة الصهاينة الرأسماليين. ولكن المشكلة زادت تفاقماً لأن العمال اليمنيين لم يكونوا سعداء بأحوالهم، الأمر الذي اضطر المستوطنين إلى وقف استيراد اليهود من اليمن.

ولم يحقق شعار اقتحام العمل أي نجاح، فحتى عام 1914 لم يزد عدد العمال اليهود عن 12% من القوة العاملة في فلسطين. ولذلك، اقترح جوزيف واتكين إنشاء مزارعالكيبوتس كوسيلة لجَعْل العامل الزراعي مالكاً زراعياً أيضاً، ذلك أن واتكين كان يعلم أن الجذور البورجوازية للعمال اليهود كانت تجعل تحولهم إلى مجرد عمال أمراًعسيراً عليهم، كما أن غياب الرباط العاطفي بينهم وبين الأرض كان سبباً لهجرة كثير منهم إلى الولايات المتحدة. وقد نجحت مزارع الكيبوتس في تحقيق أحلام البورجوازية اليهودية الصغيرة المهاجرة في أن تصبح مالكة، كما أنها ثَبتتها في الأرض وربطتها بها، أي أن مزارع الكيبوتس أصبحت الوسيلة المزدوجة لاقتحام الأرض والعمل معاً، وقد أصبح شعار اقتحام العمل من مبادئ هذه المزارع.

3 ـ اقتحام الحراسة:

إذا أضفنا إلى كل هذا شعار اقتحام الحراسة المرتبطة أيضاً بمزارع الكيبوتس، وهو شعار يطلب من اليهود أن يقوموا بحراسة أنفسهم بدلاً من استئجار عرب أو شراكسة،اكتشفنا أن الكيبوتس هو التجسيد العملي للاستيطان الصهيوني الإحلالي بكل رومانتيكيته وشراسته الزراعية والعسكرية. وقد اعتنقت فرق العمال مبدأ العمل والدفاع (عفوداه وهاجاناه) أو جمعت بين شعاري اقتحام العمل بحرمان العمال العرب من حق العمل واقتحام الأرض بالاستيلاء على أراضي فلسطين تحت ستار العمل. وقد تكونت قوات الهاجاناه والبالماخ في معظمها من سكان مزارع الكيبوتس والموشاف من العمال غزاة الأرض والعمل.

4 ـ اقتحام الإنتاج:

وحتى يكتمل انعزال المستوطنين، ظهر شعار "اشتروا الإنتاج" واتخذ ذلك طابعاً منظماً لمقاطعة المنتجات العربية ومنع التعامل مع العرب وشراء المنتجات اليهودية وحدها والتعامل مع اليهود وحدهم. وقد قام الهستدروت بفرض العمل العبري والاستهلاك العبري إن صح التعبير. وبذا، تكون الدائرة قد اكتملت: من غزو مسلح للأرض، لغزو مسلح للعمل، لانغـلاق اقتصادي حضاري كامل لا يـزال يسـم إسـرائيل بكل مؤسسـاتها الاقتصادية والعسـكرية، وفي هذا تكمن صهيونية الدولة الصهيونية.

العـمـل العـبري

Hebrew Labour

«العمل العبري» من المفاهيم الصهيونية العمالية المحورية. وملخص هذا المفهوم أن اليهودي العائد إلى أرض الميعاد يجب عليه أن يتخلص من أدران المنفى العالقة به، ويمكنه إنجاز هذا ليس فقط بأن يمتلك الأرض (كما يفعل يهود الدياسبورا الذين يعملون بالمهن الطفيلية مثل الإتجار في العقارات) وإنما يجب أن يعمل فيها بنفسه وبيديه، وهو بذلك يُخلِّص الأرض من العمال الأغيار ويُطبِّع نفسه ويتخلص من هامشيته وطفيليته ويتحكم في مصيره السياسي إذ أنه سيؤسس دولة يهودية بإمكان اليهود أن يمارسوا من خلالها صنع القرار السياسي ويتخلصوا من العجز الذي وسمهم تاريخياً. ولهذا المفهوم الصهيوني بُعده الاستيطاني الإحلالي الذي تغطيه ديباجات اشتراكية رومانسية، فهو يعني في واقع الأمر إحلال المُستوطَن الصهيوني محل الفلاح العربي.

وقد تساقط مفهوم العمل العبري من خلال الممارسات اليومية، فقد تزايدت الطفيلية الاقتصادية في إسرائيل وتزايد الاعتماد على العمالة العربية. وبعد الانتفاضة وتَصاعُد الهجمات الفدائية حاول التجمع الاستيطاني الصهيوني أن يستغنى عن العمال العرب، فلم يجد أحداً من المستوطنين الصهاينة ليعمل فاضطر لاستيراد عمالة أجنبية من تايلاند ورومانيا يبلغ عددهم 48 ألف (33 ألف موجودون بشكل قانوني، و15 ألف بشكل غير قانوني يعملون أساساً في الزراعة وقطاع البناء).

ويشكل الأجانب نسبة عشرة في المائة من اليد العاملة في إسرائيل (عام 1997) ويعملون كذلك في قطاعي البناء والزراعة أو خدماً في المنازل. وبعد ما كانوا حتى وقتقريب موضع ترحيب، باتو يثيرون ردود فعل معادية. وتعتقد السلطات الإسرائيلية أن "مشاكل اجتماعية" عدة نشأت من تدفق العمال الأجانب الذين تضاعف عددهم خمس مرات في ثلاث سنوات، وخصوصاً بسبب الإقفال شبه المستمر للأراضي الفلسطينية. (انظر: «الصهيونية العمالية» - «اقتحام الأرض والعمل والحراسة والإنتاج»).

الهستدروت

Histadrut

اختصار للمصطلح العبري «هستدروت هاكلاليت شل هاعوفديم هاعفريم بايرتس يسرائيل» أي «الاتحاد العام للعمال العبريين في إرتس يسرائيل». ثم حُذفت كلمة «العبريين» من اسمه عام 1969. وقد أنشأ الصهاينة هذا الاتحاد العمالي عام 1920 لا ليمثل أية طبقة عاملة وإنما ليساهم في توطين المهاجرين الصهاينة وليبلور وينمي، بالاشتراك مع الوكالة اليهودية، جماعة المستوطنين الصهاينة في فلسطين حتى تصبح بناءً استيطانياً متكاملاً توجد داخله طبقة عاملة. وقد عبَّر بن جوريون عن هذه الفكرة بمصطلحه الغيبي حينما قال: "ليس الهستدروت نقابة عمالية ولا حزباً سياسياً ولا هو تعاونية وجمعية لتبادل المنفعة، إنه أكثر من ذلك. الهستدروت هو اتحاد شعب يقوم ببناء موطن جديد ودولة جديدة وشعب جديد، ومشاريع ومستوطنات جديدة، وحضارة جديدة. إنه اتحاد للمصلحين الاجتماعيين لا تمتد جذوره إلى بطاقة عضويته الخاصة بل إلى المصير المشـترك والمهمـات المشـتركة لجميع أعضائه في الموت والحياة"، أي أن دينامية الهستدروت هي دينامية صهيونية استيطانية إحلالية. ولذا يمكننا القول بأن الهستدروت ليس «اتحاد عمال» كما قد يوحي اسمه، وإنما هو مؤسسة صهيونية استيطانية بالدرجة الأولى، بل أهم المؤسسات الاستيطانية على الإطلاق، فهو المؤسسة الوحيدة داخل الحركة الصهيونية التي تشرف على معظم النشاطات، وتتحرك داخلها كل الأحزاب وتربط المُستوطَن الصهيوني بالجماعات اليهودية في العالم. إنها التجربة الصهيونية بالدرجة الأولى.

وقد نص قانون إنشاء الهستدروت على أنه يُعتبَر أداة لعملية الاستيطان، ولتنشيط الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين. ومن هذا الهدف تعددت مجالات عمل الهستدروت وأدواته التنفيذية: فهو اتحاد للتعاونيات، ومؤسسة لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهيئة للتأمين الصحي، وجمعية لتقديم الخدمات الثقافية والتعليمية. ولذا تضم لجنته التنفيذية الإدارات التالية: التنمية والاستيعاب ـ المساعدة المتبادلة ـ التوظيف والتدريب المهني ـ العمـال الأكاديمـيين ـ والشئون الدينيـة ـ الشئون العربية والتعليم العالي ـ التعويضات.

وتتضح طبيعة الهستدروت الخاصة في أن الأعضاء يشتركون فيه مباشرةً ويدفعون رسوماً تتراوح بين 3 ـ 4.5% من أجورهم إلى صندوقه المركزي، ثم يلتحقون بالاتحاد العمالي الخاص بهم، أي أنهم ينتمون أولاً للمؤسسة الاستيطانية ثم ينتمون إلى اتحاد عمالي أيضاً. والهستدروت في هذا يشبه الأحزاب السياسية في إسرائيل فهي الأخرى مؤسسات استيطانية وأحزاب أيضاً. وقد يكون من الصحيح أن الطابع الاستيطاني للأحزاب والهستدروت قد خفت بعض الشيء بعد إعلان الدولة ولكن الطابعالاستيعابي (وهو الامتداد الطبيعي للاستيطانية أو استيطانية ما بعد 1948 بالتحديد) قد زادت حدته. ويجري التخطيط والتنفيذ في الهستدروت والمؤسسات التابعة له من خلال المؤتمر القومي (السلطة التشريعية) والمحلي العام (السلطة العليا) واللجنة التنفيذية (أعلى سلطة تنفيذية).

وكان الهستدروت ومنشآته الاقتصادية بمنزلة العمود الفقري للاقتصاد العمالي الصهيوني، فمنذ تأسيسه عام 1920 يقوم بإنشاء مستعمرات زراعية ومؤسسات صناعية. ففي عام 1921 أسَّس بنك هابوعاليم (بنك العمال)، وبعد سنتين أسَّس شركة حفرات هعوفديم (شركة العمال). ومنذ عام 1927 ونشاط الهستدروت يتجه نحو تأمين رأس المال اللازم لإدارة مؤسساته الاقتصادية.

ويُعَد الهستدروت من "كبار أصحاب العمل" في إسرائيل، وهو أكبر جسم اقتصادي في الدولة، وأكبر مستخدم منفرد للعمال. ويضم الهستدروت مجموعتين كبيرتين من المصالح الاقتصادية، المجموعة الأولى تضم التعاونيات التي تنقسم بدورها إلى نوعين أساسيين: المستوطنات التعاونية مثل الموشافيم والكيبوتسات، والتعاونيات الإنتاجية والخدمية التي تضم أكبر شركتين للمواصلات (إيجيد ودان).

والمجموعة الثاني تضم مجموعة شركات ضخمة تابعة لشركة العمال (الشركة الأم) في فروع الصناعة والبناء والتجارة والمصارف. وأهم مؤسـسات الهـستدروت الصناعية مجموعة كور، التي يعمل في شركاتها نحو 23 ألف عامل في 100 مصنع تقريباً، وتملك أهم شركات صناعة الإلكترونيات، وتضم شركة سوليل بونيه، وشركة تاديران، ومصانع سولتام، وصحيفة دافار. وفي الخدمات المصرفية، يمتلك الهستدروت جزءاً كبيراً من بنك هابوعاليم، ويشارك في ملكية بنوك ومؤسسات مالية أخرى. كما أن الهستدروت يشارك في الاستثمار في شركة كلال وشركة تسيم وسايتكس. وقد أشرنا إلى امتلاكه شركتي إيجد ودان، واحتكاره فرع المواصلات العامة. وفيالتجارة يمتلك الهستدروت شركة همشبير، وشركة تنوفا.

ويدل توزيع ملكية المنشآت الصناعية أن حصة الهستدروت النسبية قد ازدادت في السبعينيات ومنتصف الثمانينيات، كما أن حجم صادرات المنشآت الاقتصادية التابعة للهستدروت قد ازداد ازدياداً مطرداً ولا سيما في القطاع الزراعي حيث وصلت نسبة ما صدره عام 1985 إلى 77% من الصادرات الزراعية، و23.5% من الصادرات الصناعية. ويقوم الهستدروت بالاشتراك الفعلي في تقرير سياسات المؤسسات الاقتصادية التي لا يشترك في ملكيتها، سواء مباشرةً أو من خلال شركات العمال أو عن طريق مندوبين له في مجالس إدارة هذه المؤسسات. وهو ما يدعِّم هيمنة الهستدروت وسيطرته على القطاع التعاوني في الاقتصاد الإسرائيلي. وهو يشترك في الهيئة الاقتصادية العليا التي تخطط للاقتصاد الصهيوني وتنسق بين القطاعات الثلاثة وهي العام والخاص والتعاوني.

وقد بدأت مكانة الهستدروت في التدهور منذ أواخر الثمانينيات نتيجة الأوضاع الاقتصادية المتردية في إسرائيل في تلك الفترة (التي نجمت عنها بطالة واسعة النطاق) ونتيجة انهيارات في بعض أنشطة ومشاريع الهستدروت ووجِّهت الاتهامات لزعامة الهستدروت بسوء الإدارة والمحسوبية والفساد، حتى قرر الكنيست في مايو 1995 وضع الهستدروت. تحت إشراف المراقب العام للدولة إثر الكشف عن فضائح فساد بعض قيادات حزب العمل الذين قاموا باستغلال موارد الهستدروت في تمويل الحملات الانتخابية.

ويقوم الهستدروت بصفته ممثلاً للعمال والمستخدمين والنقابات المهنية بالتفاوض مع اتحاد الصناعيين والحكومة في شأن الأجور وشروط العمل وهو دور نقابات العمال الطبيعي. ولكن هوية الهستدروت كصاحب عمل، وليس كاتحاد عمال فقط، تظهر في أن مورده الأساسي ليس من اشتراكات الأعضاء وإنما نتيجة استثمارات تجارية، كما أن إضرابات العمال يمكن أن تتم ضده وليس بمساندته، بل إن الهستدروت يقوم كثيراً بدور المهدئ للطبقة العاملة حتى تستمر في الإنتاج داخل البناء الصهيوني.

ويضم الهستدروت في عضويته فئات متعددة ذات مصالح متضاربة في الغالب. فهو يضم في صفوفه، بالإضافة إلى العمال، الأغلبية الساحقة من الموظفين والمستخدمين في الحكومة وفي نشاطات القطاعين العام والخاص، وكل أعضاء الحركة الزراعية التعاونية (الكبيوتسات والموشافيم)، وشرائح مهنية واسعة تنتمي بوضوح إلى الطبقة الوسطى مثل: الأطباء، والمهندسين، والمحامين، والأكاديميين، والمعلمين... إلخ.

ويضم الهستدروت نحو 1.8 مليون عضو (عمال مع عائلاتهم) يشكلون 58% تقريباً من السكان، وهو يُوظِّف 25% من اليد العاملة في مختلف مؤسساتها الاقتصادية، ويغطي برنامجه للتأمين الصحي أغلبية التأمين الصحي في إسرائيل، ويدير أهم النوادي الرياضية (هابوعيل) الذي يوجد له 600 فرع منتشرة في جميع أنحاء إسرائيل.

ويساهم الهستدروت بدور مهم جداً في عملية التربية والتعليم وذلك من خلال الجهاز الرسمي والمؤسسات غير الرسمية. فهو يملك مؤسسات كثيرة لمختلف الأجيال، يختص معظمها بحقول تعليمية محددة.

وفي إحصاء قام به الهستدروت بين أعضاء أحد المؤتمرات القومية في السبعينيات (وكان يبلغ عددهم 1001) عن رؤيتهم لأنفسهم قال 64.6% منهـم (أو حوالي 885) أنهـم يعـتبرون أنفسـهم مديرين أو موظفين، وقـرَّر 16% إنهـم أصحاب مهن حرة وقـرَّر 9.3% أنهم مزارعون، بينما قال 5.3 فقط أنهم صناع وحرفيون. وفي إحصاء آخر بين أعضاء الهستدروت عن سبب التحاقهم بهذا التنظيم "النقابي" قرر 27% منهم أنهم انضموا للاستفادة من خدمات كوبات حوليم (أو التأمين الصحي)، و26% لا يعرفون سبب انضمامهم أساساً، و18% انضموا لأن رب العمل طلب ذلك، و5% فعل ذلك من باب طاعة الوالدين. ولا يذكر الإحصاء شيئاً عن الأربعة وعشرين في المائة الباقية ـ أي أن الهستدروت في بنائه واقتصادياته ووعي أعضائه بأنفسهم ليس له علاقة كبيرة باتحادات نقابات العمال.

ويمكن النظر للهستدروت على أنه تنظيم اقتصادي يأخذ "شكلاً جماعياً" لمساعدة التجمع الاستيطاني/الصهيوني بعماله ورأسمالييه، وهو تجمُّع لا يمكن أن يأخذ شكلاً رأسمالياً تقليدياً بسبب وضعه الشاذ في المنطقة إذ أن عليه أن يخوض الحرب تلو الحرب للدفاع عن نفسه وبالتالي عليه أن يجند المستوطنين دائماً في تنظيمات عسكرية اقتصادية متماسكة، وهو ما يفرض أشكالاً جماعية قد تشبه التنظيمات الاشتراكية من بعض النواحي، ولكنها خالية من أي محتوى إنساني ثوري. ومما دعِّم هذه الأشكال الجماعية أن المنظمة الصهيونية العالمية وصهاينة العالم لا يمكنهم التعامل مع رأسماليين إسرائيليين مباشرةً، بل لابد أن تتعامل المؤسسات مع مؤسسات مثلها، فيقومالهستدروت بتلقِّي المساعدات، وتوزيعها على كل طبقات الكيان الصهيوني عمالاً ورأسماليين، أي أن الأشكال الجماعية التي يمثلها الهستدروت لا علاقة لها بأية منطلقات ثورية إنسانية، وإنما هي جزء من استيطانيته. ولعل أكبر دليل على ذلك أن كل اتجاه صهيوني، بغض النظر عن انتمائه الأيديولوجي قبل إنشاء الدولة، كان يحاول أنيكون له "هستدورته الخاص" به. فيوجد هستدروت للصهاينة التصحيحيين، وآخر للدينيين، تماماً كما كان هناك تنظيم عسكري للعماليين وآخر للتصحيحيين. وقد استمرت بعض هذه الهستدروتات بعد إنشاء الدولة. ثم انضمت له عام 1965 للاستفادة من نشاطاته وخدماته ومحاولة التأثير فيه من الداخل دون أن تغيِّر آراءها فيما يتعلق بدوره. ومما يدل أيضاً على أن الأشكال الجماعية التي يدعو لها الهستدروت لا علاقة لها بالاشتراكية وإنما هي جزء من دوره الاستيطاني (والاستيعابي فيما بعد) أن حزب حيروت الذي يمثل أيديولوجية الاقتصاد الحر عضو في الهستدروت ويحررز انتصارات لا بأس بها، وأن حزب الأحرار الرأسمالي والأحزاب الدينية كلها ممثلة داخل الهستدروت.

وارتباط الهستدروت بالاستيطان يظهر في علاقته بالعسكرية الصهيونية، فقد أُسِّست الهاجاناه بعد عام واحد من تأسيس الهستدروت. وقد كان الهستدروت مشرفاً عليها، كما كان 60% من رجال الهاجاناه والإرجون وشتيرن ينتمون إلى عضويته، كما أنه يقوم بإعالة عائلات الرجال المتطوعين في الجيش سواء قبل عام 1948 أو بعده. ومثل معظم المؤسسات الاستيطانية الصهيونية نجد أن الهستدروت مؤسسة عسكرية/اقتصادية موجهة أساساً ضد العرب، ولذا نجد أن هذا الاتحاد العمالي أُسِّس لتنفيذ سياسة اقتحام العمل وفلسفة العمل العبري، فكان يرفض تشغيل العرب بل طرد أعضاءه الشيوعيين عام 1923 بسبب إثارتهم قضية تأجير العمل العربي، كما كان ينظممظاهرات ضد الرأسماليين اليهود الذين يستأجرون عمالاً عرباً. ولكن بعد ظهور الدولة وبعد أن ثبتت أركانها، ومع ازدياد الحاجة للأيدي العاملة العربية أخذ في التنازلتدريجياً عن هذا التشدد. وسمح الهستدروت بانضمام العمال العرب لعضويته ولكن العمال العرب لا يتمتعون من الناحية الواقعية بالمزايا التي يتمتع بها العمال اليهود،فأجورهم أقل كثيراً من أجور نظرائهم، كما أنهم أكثر تعرضاً للبطالة. وكثيراً ما تثار قضية العمال العرب داخل الهستدروت، إلا أنها غالباً ما تنتهي إلى لا شيء، بل على العكس من ذلك يساهم الهستدروت في تسهيل وإيجاد الظروف الملائمة لتهجير العمال العرب إلى الخارج.

الهستدروت إذن جزء عضوي ورئيسي في المجتمع الصهيوني الاستيطاني، وقد ترتَّب على قوة وسطوة الهستدروت وتعدُّد مجالات تأثيره أن أصبح الشخص الذي لا ينتمي إليه يجد مشقة كبيرة في الاستمرار في الحياة، فهو لا يستطيع أن يحصل على الخدمات بسهولة ـ وأهمها الحصول على عمل والخدمات الصحية ـ وإذا حصل عليهافبتكاليف باهظة.

ويعتبر الهستدروت الأداة الأساسية التي تعبِّر من خلالها التفاعلات السياسية في المجتمع عن قراراتها في مختلف نواحي الحياة، إذ أن التنظيم التشريعي والتنفيذي للهستدروت يتكون من ممثلين عن الأحزاب بحسب نسبة قوتها الانتخابية، وبالتالي فإن سياسات الهستدروت في النهاية ليست سوى انعكاس للتفاعل بين وضع الأغلبيات والأقليات الحزبية. بل يمكن القول بأن سياسات الهستدروت تُقرَّر داخل الأحزاب وليس في المؤتمر القومي، ولعل هذا هو أحد العناصر التي تفسر انصراف الأعضاء عن الاشتراك في انتخاب مندوبي المؤتمر، ففي عام 1959 وصل عدد المشتركين إلى 84% ثم انخفض إلى 65% عام 1969 ثم انخفض إلى 56.5% عام 1989.

ويضم الهستدروت أربعة تشكيلات رئيسية مختارة على أساس حزبي، فالمؤتمر العام يُنتخَب كل أربعة سنوات بواسطة قوائم الأحزاب، ثم يَنتخب المؤتمر العام مجلساً تنفيذياً ويختار هذا بدوره لجنة تنفيذية، ثم المكتب الإداري ـ ويقع في قمة التشكيل الهرمي ـ فيتولَّى تصريف الشئون المعقدة اليومية المتعلقة بتنفيذ قرارات المجلس واللجنة.

وقد كان من أهم أسباب نجاح الهستدروت في ممارسة أدواره المتعددة سيطرة الأحزاب العمالية حتى سنة 1977، وجزئياً بعد ذلك، وهو ما أتاح لها مساندة اقتصاد الهستدروت. كما أن احتفاظ حزب العمل بموقعه ومركزه في الحياة السياسية الإسرائيلية يعود إلى علاقته القوية بالهستدروت. ومنذ عام 1932 حينما كان الماباي الموجِّه الفعلي، كانت له أكثرية مطلقة في المجلس التنفيذي للهستدروت. ولم يتغيَّر الوضع كثيراً حتى الستينيات، فالتجمُّع العمالي (المعراخ) أحرز نسبة مئوية قدرها 88.5% من الأصوات في انتخابات الهستدروت عام 1965. وتتضح لنا هذه العلاقة أكثر بمعرفة أن بن جوريون كان أول سكرتير عام للهستدروت. ولكن تجب الإشارة إلى أن هيمنة المعراخ والصهيونية العمالية آخذة في التآكل، ولذلك يُلاحَظ تآكل النسبة المئوية التي حصل عليها المعراخ في الانتخابات الأخيرة. ففي انتخابات أعوام 1981، 1985، 1989 حصل تحالف حزب العمل على نسبة 64%، 67%، 64% على التوالي أما الليكود فحصل على 26%، 21%، 27% على التوالي.

وفي انتخابات الهستدروت في مايو 1994 فازت قائمة مستقلة بقيادة حاييم رامون (أحد أعضاء حزب العمل السابقين) بنسبة 47%، أما حزب العمل فحصل على 32%، وحصل الليكود على 17%، وبذلك انتهت سيطرة حزب العمل على الهستدروت التي استمرت مدة 70 عاماً. ولكن رامون ومجوعته عادت إلى صفوف حزب العمل بعد اغتيال إسحق رابين عام 1995 حيث شغل منصب وزير الداخلية في حكومة شيمون بيريز. وفي 26 ديسمبر 1996 نفَّذ الهستدروت إضراباً عن العمل شل مظاهر الحياة في إسرائيل احتجاجاً على السياسة الاقتصادية لحكومة الليكود وميزانيتها لعام 1997. وقد قامت الأحزاب العربية في إسرائيل لأول مرة منذ تأسيسها ومنذ قبول العرب كأعضاء كاملين في سنة 1969 بتشكيل قائمة موحدة لخوض انتخابات الهستدروت عام 1989.

ولابد من الحديث عن علاقة رأس المال الخاص في إسرائيل بالهستدروت، فنجد أنه في عام 1960 كان القطاع الخاص في إسرائيل يساهم بـ 58.5% من الإنتاج، وكان القطاع العام يساهم بـ 21.1%، والهستدروت 20.4%. وفي عام 80 / 81 ساهم القطاع الخاص بـ 54% والقطاع العام بـ 24% والهستدروت 22%، وفي التسعينيات زادت نسبة مشاركة القطاع الخاص. ولكن مساهمة الهستدروت في الإنتاج الصناعي تتم أيضاً من خلال القطاع الخاص إذ يمتلك الهستدروت 50% من مؤسساته مناصفة مع بعض شركات القطاع الخاص، أي أن مساهمته الحقيقية في الإنتاج هي 10% وحسب. ولا تزيد اليد العاملة التي يستخدمها عن 17.5% (1965). وحسب هذه الخريطة لم يكن بُد أن يهيمن القطاع الخاص على الحكم في إسرائيل وأن تُطرَد البيروقراطية العمالية، ولكن تكوين إسرائيل الاستيطاني يفرض على الطبقة الرأسمالية (وتنظيماتها الحزبية) أن تظل في المرتبة الثانية (على عكس البنى الاستيطانية الأخرى مثل جنوب أفريقيا وروديسيا حيث يستولى الرأسماليون دائماً على الحكم). وهذا يرجع لخصوصية الاستيطانية الصهيونية فهي استيطانية/إحلالية طردت السكان الأصليين وهو ما جعلها تخلق طبقتها العاملة والزراعية الخاصة (على عكس الطبقات الحاكمة في جنوب أفريقيا التي تشكل طبقة من الرأسماليين والملاك الزراعيين)، كما أن الاستيطانية الصهيونية مُموَّلة من الخارج عن طريق الجماعات اليهودية في العالم والدول الإمبريالية (على عكس جنوب أفريقيا وروديسيا). كل هذا يساعد على إحكام هيمنة البيروقراطية العمالية متمثلة في الهستدروت على المجتمع الإسرائيلي، وهو ما يعوق نشوء طبقة رأسمالية محلية تلعب دوراً قيادياً. بل إننا نجد أن الهستدروت يؤثر بصورة مباشرة وغير مباشرة في القطاع الخاص الإسرائيلي (وفي بناء المجتمع الاقتصادي ككل). فالهستدروت يتحكم في الأجور وغالباً ما يعمد إلى تعديلها في ضوء ارتفاع تكاليف المعيشة وليس في ضوء الإنتاجية، ويؤدي ارتفاع الأجور وعدمتكافئها مع معدل الإنتاجية إلى اتجاهات تضخمية تسبب بدورها ارتفاع الأسعار وتكاليف المعيشة الذي يؤدي بدوره إلى ارتفاع الأجور ـ والمحصلة النهائية لهذه العملية هوظهور «الشعب الطفيلي»، أي أولئك الأجراء وأصحاب المعاشات الذين لا يتناسب دخلهم مع طاقتهم العملية المستغلة. وقد سبَّب هذا انخفاضاً في الإيرادات والأرباح العامة من الاستثمارات الخاصة والفردية. وقد نجم عن هذا الوضع هبوط حماس الرأسمالية المحلية الصغيرة الضعيفة الأمر الذي يضطر رأس المال الإسرائيلي للتعاون مع الشركات الغربية والاستثمارات الأجنبية، أي أن مشاركة الهستدروت "الاشتراكية" في الاقتصاد ينتج عنها مزيد من التبعية لرأس المال العالمي وفقدان الاتجاه والرؤية المحددة.

هذا، وكان الهستدروت يلعب دوراً أساسياً في الدفاع عن الصورة الإسرائيلية في الأوساط الاشتراكية والثورية في العالم، وله علاقات قوية بالتنظيمات النقابية الاشتراكيةالديموقراطية، ويلعب الهستدروت دوراً خطيراً في تخريب الحركة النقابية في العالم الثالث، إذ أنشأ المعهد الأفرو ـ أسيوي للدراسات العمالية، وهو معهد ظهر أن وكالةالمخابرات الأمريكية كانت تموله، كما كان الهستدروت يصدر جريدة دافار وله دار نشر خاصة به.

الكيبوتـس: نموذج مصغـر للاستعمار الاستيطاني الصهـيوني

Kibbutz: Micro-Paradigm of Zionist Settler Colonialism

«الكيوبتس» كلمة عبرية تعني «تجمُّع» وجمعها «كيبوتسيم» وتصغيرها «كيبوتساه». وهي شأنها شأن معظم المصطلحات الصهيونية (مثل «عالياه» بمعنى «الارتفاع» أو «السمو» والتي تعني «الهجرة إلى إسرائيل») لها بُعد شبه ديني. ولعل الاصطلاح الديني اليهودي «كيبوتس جاليوت» أو «تجميع المنفيين» ولم شمل كل يهود العالم في فلسطين هو الذي استقى منه الصهاينة هذه التسمية. وتُستخدَم الكلمة في الكتابات الصهيونية للإشارة إلى مستوطنة تعاونية تضم جماعة من المستوطنين الصهاينة، يعيشـون ويعملون سـوياً، ويبلغ عـددهم بين 450 و600 عضو، وإن كان العدد قد يصل إلى ألف في بعض الأحيان.

ويُعدُّ الكيبوتس من أهم المؤسسات الاستيطانية التي يستند إليها الاستعمار الصهيوني في فلسطين المحتلة. بل يُقال إن الكيبوتس هو أهم المؤسسات السياسية والاجتماعية على الإطلاق داخل الكيان الصهيوني. وهو مؤسسة فريدة مقصورة على المجتمع الصهيوني. إذ لا توجد أية مؤسسة تضاهيها في الشرق الأوسط أو خارجه (وإن كنا نجد بعض مواطن الشبه بينها وبين بعض المؤسسات التي تضم جماعات وظيفية قتالية مثل الأنكشارية والمماليك). بل يمكن النظر للكيبوتس باعتباره مؤسسة نماذجية لتوليد جماعة وظيفية شبه عسكرية، ولعل مركزيته تعود إلى أن الدولة الصهيونية نفسها دولة وظيفية.

ورغم تنوُّع انتماءات الكيبوتسـات السـياسـية فإن كل المستوطنات، شأنها شأن الأحزاب السياسية في إسرائيل، تلتزم بالرؤية الصهيونية وبالخط الصهيوني، بل إنها كوَّنت عام 1963 تنظيماً عاماً لحركة الكيبوتس تشترك فيه كل المزارع الجماعية بغض النظر عن انتمائها السياسي. وتدين كل الكيبوتسات بالولاء للحركة الصهيونية، وهذا أمر منطقي تماماً لأنها مشاريع غير مربحة ومموَّلة من قبَل هذه الحركة.

وحتى ندرك مدى أهمية الكيبوتس داخل الكيان الصهيوني، سنورد بعض الإحصاءات التي قد تعطي القارئ فكرة واضحة ومثيرة عن مدى إسهام هذه المؤسسة في المجتمع الصهيوني. فعلى سبيل المثال لا الحصر، بلغت نسبة أعضاء الكيبوتس في النخبة الحاكمة (أي بين قيادات المجتمع الإسرائيلي) سبعة أضعاف نسبتهم في المجتمع (ويكفيأن نذكر أن بن جوريون وموشيه ديان وشيمون بيريز وييجال آلون وغيرهم من أبناء الكيبوتسات). ومع أن أهمية الكيبوتس آخذة في التناقص إلا أن النسبة في الوقت الحاضر لا تزال أربعة أضعاف. وكان ثُلث الوزراء الإسرائيليين من 1949 حتى 1967 من أعضاء الكيبوتس، كما أن 40% من إنتاج إسرائيل الزراعي و7% من صادراتها من إنتاج الكيبوتسات، و8% من إنتاجها الصناعي.

ويمكن القول بأن تاريخ نشأة الكيبوتس وتطوره وبنيته وما لحق به من تآكل وما يواجهه من أزمات يجعل منه نموذجاً مصغراً للاستيطان الصهيوني: أصوله ـ تاريخه ـ طبيعته ـ أزمته. ولذا فدراسة الكيبوتس أمر مهم من الناحية المنهجية من منظور دراسة الصهيونية والاستيطان الصهيوني.

الكيبوتس: السمات الأساسية

Kibbutz: Main Traits

السمة الأساسية للكيبوتس، شأنه شأن أية مؤسسة استيطانية إحلالية، أنه مؤسسة عسكرية بالدرجة الأولى. فعلى سبيل المثال، كان اختيار موقع الكيبوتس يتم لاعتبارات عسكرية بالدرجة الأولى، ثم لاعتبارات زراعية بالدرجة الثانية. وتظهر طبيعة الكيبوتس العسكرية في أن أعضاءه لا يتدربون على الزراعة وحسب، وإنما على حمل السلاح أيضاً. ويقوم الكيبوتس بغرس القيم العسكرية في أعضائه من خلال الدعاية الأيديولوجية والتربية الرسمية وغير الرسمية اليومية، وبخاصة من خلال أسلوب الحياة.

وقد ساهمت الكيبوتسات في إنشاء الكيان الصهيوني والحركة الاستيطانية الإحلالية، قبل وبعد إنشاء الدولة الصهيونية. فقامت الكيبوتسات بتنظيم الهجرة غير الشرعية إلىفلسطين منذ عام 1934. واستمرت في هذا النشاط حتى بعد أن تأسست منظمة خاصة للهجرة غير الشرعية عام 1939.

وبسبب تكامل الاستيطان والقتال، زاد عدد مزارع الكيبوتس بعد الثلاثينيات أثناء الثورة العربية. فقبل هذا التاريخ كانت مزارع الموشاف (وهي مزارع تعاونية أقل جماعية ولا تتسم بالصبغة العسكرية) تنمو بنسبة تفوق مزارع الكيبوتس. ولكن بعد عام 1936 تغيَّرت النسبة لصالح الكيبوتس (ويُلاحَظ كذلك أنه بعد إنشاء الدولة وبظهور الجيش الإسرائـيلي الذي يضـطلع بمهـام الدفاع زاد عدد مزارع الموشاف مرة أخرى، وتراجع عدد الكيبوتسات).

لعبت الكيبوتسات دوراً بارزاً في منظمة الهاجاناه العسكرية الصهيونية قبل عام 1929. وتؤكد موسوعة الصهيونية وإسرائيل أن كل أعضاء الكيبوتسات كانوا أعضاء في الهاجاناه، وأن عدداً كبيراً من ضباط الهاجاناه أتوا من الكيبوتسات. وتضيف الموسوعة أن هذا لم يكن غريباً على الإطلاق "لأن بنية الكيبوتس نفسها ونظامه يشبهان من بعض النواحي التنظيم العسكري". فأعضاء الكيبوتس ليسوا مرتبطين بأي بناء أسري، ولم يكن مفروضاً عليهم توفير الرزق لأعضاء أسرهم، وإنما كانوا أفراداً لا تربطهم أية أواصر صداقة مع أحد، ويمكن اسـتدعاؤهم للخـدمة العسـكرية كلما وحيثـما دعـت الحاجـة لذلك (فهم بنيوياً مثل الجنـود المرتزقة). كما أن معظـم أعضـاء الكيبوتسات في تلك الفترة ذكوراً كانوا أم إناثاً، كانوا شباناً في سن الخدمة العسكرية ليس بينهم أطفال أو عجائز. ولذا كان من السهل إقامة الكيبوتسات بسرعة والدفاع عنها بصلابة.

وقد قامت حركة الكيبوتسات في السنوات الأخيرة من حكم الانتداب البريطاني بدور أساسي في "خلق الحقائق" بإنشاء مستوطنات جـديدة في المناطق النائية. فاسـتوطن أعضاء الكيبوتس في شمال النقب، وجبال القدس ومناطق أخرى. وقد أنشأ المستوطنون الصهاينة ما يزيد عن 52 مستوطنة من نوع السور والبرج، وكان من بينها 37 مزرعة كيبوتسية.

وحينما قررت الهاجاناه إنشاء وحدات الصاعقة النظامية (البالماخ) ولم تكن تملك الاعتمادات الكافية، بادرت حركة الكيبوتس بتجنيد الأعضاء ورتبت ساعات العمل لهم بحيث أصبح في مقدور عضو الكيبوتس أن يعمل نصف شهر في المزرعة الجماعية، والنصف الآخر في صفوف البالماخ. ولذا حينما اندلعت حرب عام 1948 بعد إعلان قيام الدولة الصهيونية كان حوالي 2000 عضو في البالماخ يعيشون في 41 كيبوتس.

وكانت الكيبوتسات تشكل مواقع للترسانات العسكرية ومصانع للذخيرة، لذلك كانت القوات البريطانية تهاجم الكيبوتسات دائماً بحثاً عن الذخائر وعن أعضاء البالماخ كما حدث يوم 29 يونيه 1946 حينما هاجمت القوات البريطانية عشرات الكيبوتسات.

وقد استمر الكيبوتس في أداء هذا الدور الأساسي في المؤسسة العسكرية بدرجات متفاوتة، فساهم في التوسع الصهيوني في الأراضي العربية التي احتُلت عام 1967، كما أنه لا يزال ينهض بدور مهم في عملية الاستيطان التي تتم في الضفة الغربية (وإن كانت الأشكال الأخرى من الاستيطان مثل الموشاف هي الأكثر شيوعاً الآن).

ولا تزال نسبة كبيرة من القيادات العسكرية في الجيش النظامي والاحتياط تأتي من هناك. فعلى سبيل المثال، ورد في إحدى الإحصاءات أن رُبع ضباط جيش الكيان الصهيوني وثلث الطيارين المقاتلين أعضاء في الكيبوتس. ولعل أكبر دليل على أن الكيبوتس يمثل العمود الفقري للعسكرية الصهيونية هو أن 33% من ضحايا حرب 1967 من أبناء الكيبوتس (ولنتذكر أن نسبتهم القومية هي أقل من 4%). ويقوم أبناء الكيبوتس بأشق المهام العسكرية وأخطرها، كذلك المهام السرية في الداخل والخارج ذات الطابع الانتحاري (مثل عملية مطار عنتيبي في أوغندة). ويوجد عدد كبير منهم في الوحدات الخاصة مثل المظليين والضفادع البشرية.

ورغم أن الكيبوتس مؤسسة عسكرية إلا أنها ليست مؤسسة عسكرية بالمعنى المألوف للكلمة، وإنما هي جماعة وظيفية عسكرية استيطانية (مملوكية) وظيفتها هي القتال والاستيطان، وما عدا ذلك من وظائف فثانوي. ويتضح هذا في الطبيعة المملوكية لنمط الحياة. وبالفعل نجد أن الحياة داخل الكيبوتس جماعية إلى أقصى حد، كما نجد أن أشكال التعبير الفردية في حكم المنعدمة، فملكية الأرض والمباني والأدوات، بل أحياناً الملابس الشخصية، ملكية جماعية.

وحينما ينضم عضو للكيبوتس فهو لا يشتري شيئاً لأنه لن يملك شيئاً، وحينما يترك الكيبوتس فإنه لا يبيع شيئاً ولا يأخذ معه شيئاً (وإن كانت السنوات العشرون الأخيرة بدأت تشهد منح العضو مكافأة مالية صغيرة في بعض الأحيان). ولا يتقاضى الأعضاء مرتبات وإنما يحصلون على كل احتياجاتهم الأساسية دون مقابل مثل الطعام والمسكن والملبس وأحياناً إصلاح الملابس وغسلها، والرعاية الطبية ورعاية الأطفال والتعليم. أما احتياجات الفرد الأخرى مثل شراء بعض السلع الاستهلاكية الصغيرة (إناء زهور مثلاً) أو قطع الملابس الكمالية وتكاليف الإجازات التي يقضيها خارج الكيبوتس فيقوم بدفع تكاليفها بنفسه من مصروف جيبه الشهري الذي يعطيه له الكيبوتس، وإن تبقى معه أي مبلغ من النقود فعليه أن يعيده لصندوق الكيبوتس (بل كان من المحظور على أي عضو حتى عهد قريب أن يكون له حساب خاص في البنك).

ويقوم أعضاء الكيبوتس بالعمل في أحد الأنشطة التي يقوم عليها الكيبوتس. مع ذلك فإن بعضهم يقوم بالعمل خارج نطاق الكيبوتس سواء في المشروعات التي يتولى الكيبوتس تنفيذها في الأقاليم أو في مؤسسات الدولة أو في أماكن أخرى. وفي هذه الحالة يستمر هؤلاء في العيش داخل الكيبوتس ويستفيدون من خدماته الاجتماعية إلى جانب تناول الطعام، ويحصلون على الخدمات نفسها التي يحصل عليها بقية الأعضاء إلى جانب قيامهم بتناوب خدمات الحراسة. وهذه الخدمات التي تحصل عليها هذه الشريحة من الأعضاء بالطبع ليست بالمجان، ولكنهم يحصلون عليها مقابل تنازلهم للكيبوتس عن مرتباتهم التي يتقاضونها في الخارج. ولا يتمتع أعضاء الكيبوتس بأية حياة أسرية مستقلة، فهم يتناولون معظم الوجبات سوياً (وعدم تناول الطعام مع الجماعة في الكيبوتس يُعَدُّ رفضاً لها وارتداداً إلى حياة الجيتو). والأطفال كذلك يعيشون بعيداً عن والديهم، لا يقومون بزيارتهما إلا بعض الوقت بعد الدراسة وبعد ساعات العمل.

وإضعاف الروابط الأسرية في الكيبوتس يتم لحساب الروابط القومية ولحساب الولاء للدولة أو المؤسسة. فالفرد الذي لا يعيش حياة خاصة به، والذي ليس له ذكريات فردية، ولا يربطه أي رباط بأي إنسان آخر، هو الفرد القادر على الانتماء بسهولة ويسر إلى جماعته الوظيفية، وهو الإنسان القادر على تكريس ذاته لوظيفته مهما بلغت من لا إنسانية، وهو الإنسان القادر على الإيمان بمجردات وأوهام ليس لها سند في الواقع. ويبدو أن التنشئة الاجتماعية في الكيبوتس تهدف إلى هذا أساساً. فالطفل الذي يعتمد على المؤسسة (لا على أبيه أو أمه) في معيشته وملبسه، تضعف العلاقة بينه وبين أبويه وتَقوَى بينه وبين المؤسسة التي يتبعها بعد ولادته ببضعة أيام حيث يوضع في بيت الأطفال ويمكث هناك مدة سنة ينتقل بعدها إلى بيت الصغار. وفي تلك المرحلة يُسمَح للأبوين باصطحاب طفلهما إلى البيت لقضاء بضع ساعات معهما.

وفي سن الرابعة يُرسَل الطفل إلى دار الحضانة، وينتقل منها إلى المدرسة الابتدائية عند بلوغه السابعة. والمرحلة النهائية من النظام التعليمي هي المرحلة الثانوية التي يدخلها الطفل في سن الثانية عشرة حتى يبلغ الثامنة عشرة. وعبر كل هذه المراحل يُلقَّن الطفل العقيدة والقيم الصهيونية ويدرس مواد دراسية مثل المادة التي تُسمَّى «الوعي اليهودي».

ولكل كيبوتـس كبير مدارسـه الخاصة بجميع مراحل النظام التعليمي. وتشترك الكيبوتسات الصغيرة سوياً وتنشىء المدارس الخاصة بها. ومستوى التعليم في هذه المدارس عال، وخصوصاً أن المدرسين فيها من أعضاء الكيبوتس، ولذلك فهم يتسمون بنفس التفاني في خدمة الجماعة، فهم لا يُضربون عن العمل لزيادة الأجر، كما هو الحال معزملائهم في النظام التعليمي العام. وعند بلوغ الثامنة عشرة يقوم عضو الكيبوتس بأداء الخدمة العسكرية الإلزامية (لمدة ثلاثة سنوات) وعند عودته قد ينضم إلى إحدىالجامعات أو المعاهد الفنية.

وهكذا ينشأ عضو الكيبوتس من المهد إلى اللحد دون الدخول في علاقة إنسـانية فردية مباشـرة. فهـو دائماً عضو في هذه المؤسـسة أو تلك، وهو ما يجعله إنساناً قادراً على تلقِّي الأوامر دون تفكير أو احتجاج. وكثير من أطفال الكيبوتس يفقدون كل صلة بآبائهم بعد بلوغهم الثالثة عشرة، وهم في هذا يشبهون المماليك الذين كانوا يُختَطفون من بلادهم في سن مبكرة، ثم يُنشَّئون تنشئة جماعية تفقدهم فرديتهم وإنسانيتهم، وتحوِّلهم إلى جماعة محاربة ليس لها روابط اجتماعية أو إنسانية، متفرغة تماماً للقتال وحسب.

وكانت جماعية الكيبوتس في بداية الأمر لا تلتزم بأية معايير، فقد كان كل شيء مملوكاً ملكية جماعية حتى الملابس الداخلية. ولم تكن هناك حمامات منفصلة للرجال والنساء. ولكن بعض هذه الأشكال الجماعية المتطرفة قد اختفت وإن احتفظ الكيبوتس بطابعه الجماعي الأساسي.

وتظهر جماعية الكيبوتس في طريقة الإسكان، الذي يتبع خطاً واحداً متكرراً من كيبوتس لآخر. إذ تُقسَّم مباني المزارع الجماعية إلى قسمين: المساكن والمباني الأخرى. أما المساكن فهي عادةً وحدات متقاربة يتكون كل منها من طابق واحد، تقع بين مجموعة من الأشجار، وكل وحدة سكنية مقسمة إلى شقتين أو ثلاثة، وتتكون كل شقة منغرفة صغيرة يقطنها رجل وامرأة. ويتم تنظيف الثياب وكيها في بيت الغسيل العام. وأثاث هذه المنازل بسيط إن لم يكن متواضعاً، وإن وُجد تليفزيون أو جهاز ستيريو فيوضع عادةً في غرفة المعيشة الجماعية.

ويضم الكيبوتس أيضاً عدة مبان: مبنى الثقافة (وهو من أهم المباني)، ومبنى الاجتماعات، وحمام سباحة، وقطعة أرض مخصصة للرياضة. وعلى مقربة من المجموعة السكنية من المباني توجد المجموعة الإنتاجية، وتضم حظائر الحيوانات والمصانع والمزارع نفسها. وتوجد منازل الكيبوتس وصالة الطعام والمدرسة وقاعة الاجتماعات والمباني الأخرى في وسط الكيبوتس، أما المزارع والمصانع والحقول فإنها تلتف من حوله (وهو ما يبيِّن طبيعته العسكرية).

ويهدف التصميم المعماري للكيبوتس إلى إضعاف الروح الأسرية وتقوية الروح الجماعية، فكثير من أعضاء الكيبوتس يرون أن الزواج مؤسسة بالية لابد من التخلي عنها، فهي مظهر من مظاهر الجيتوية والفردية التي ينبغي التخلي عنها. وحتى الآن لا يتطلب عقد الزواج سوى التقدم بطلب للحصول على غرفة مشتركة، وعند الطلاق يُلغَى هـذا الترتيب. بل في بعـض الأحيان تم إلغاء تعبير «شاب» و«شابة»، وأحياناً يُشار للأزواج على أنهما «زوج» بمعنى «اثنين»، وقد نتج عن كل هذا بطبيعة الحال ارتفاع معدلات الطلاق.

ومن أهم العناصر التي تحافظ على جماعية الكيبوتس وتدعمها وتحوِّلها إلى ممارسة حياتية يومية، لجان الأمن التي كانت تقوم بالتجسس على الأعضاء وبتفتيش غرفهم وفتح خطاباتهم. وتقوم هذه اللجان بالتنسيق مع الجيش وتؤدي كثيراً من وظائف الدولة، أي أنها تضطلع بوظيفة ترويض أعضاء الكيبوتس وترشيدهم واستئناسهم لصالح المؤسسة الحاكمة. وتتم هذه العملية من خلال ممارسة ضغط اجتماعي هائل مباشر، فالكيبوتس مجتمع كامل صغير. وقد وصف موتكي يحزقيلي، وهو مدرس في أحد الكيبوتسات، هذه الروح الجماعية التي تهدف إلى تفريخ المقاتلين بقوله: إن عضو الكيبوتس ينشأ في جو كثيف من الناحية الجسمية والعقلية، فديناميات الكيبوتس الاجتماعية قاسية لأقصى درجة. فالجماعة هي التي تقرر نوع الموسيقى الذي ستسمعه وأية آلة موسيقية ستلعبها وفي أية وحدة عسكرية ستكون خدمة عضو الكيبوتس العسكرية. وإذا رفض أحد الأعضاء التطوع في الجيش واتخذ موقفاً من حرب لبنان (على سبيل المثال) تقوم لجنة الأمن بعملية تحريض ضده من خلال أعضاء الأسرة الكيبوتسية، فيُتهم بأنه ليس محارباً ولا مقاتلاً، بل يُتهم في رجولته، ويتم هذا الأمر في محيط الحياة العامة الخارجية، وفي محيط الأسرة، وفي حياته الخاصة، الأمر الذي يجعل الضغوط ذات تأثير قوي.

ومن المبادئ الأساسية التي تنطلق منها حركة الكيبوتس، مبدأ الديموقراطية والمساواة بين الأعضاء في كل شيء. ويترجم هذا نفسه إلى ما يُسمَّى «سياسة الحكم الذاتي». إذ تتخذ كل القرارات الخاصة بالكيبوتس من خلال نظام إداري يتم بالانتخاب. والسلطة العليا هي المؤتمر العام للكيبوتس، الذي يضم جميع الأعضاء ويأخذ شكل اجتماع أسبوعي (عادةً يوم السبت).

ولكن مع هذا يبدو أن سلطة المؤتمر العام للكيبوتس لا تمتد إلا إلى التفاصيل. إذ تظل القرارات الأساسية بشأن إدارة مزارع الكيبوتس وتحديد سياستها الإنتاجية والاقتصادية متروكة لأمانة اتحادات مزارع الكيبوتس بالاشتراك مع أمانات الأحزاب التي تنتمي إليها. وتوضع هذه القرارات موضع التنفيذ داخل الكيبوتس من خلال فئة صغيرة من الأفراد يتناوبون المراكز القيادية فيما بينهم. ولعل هذا يُفسِّر انصراف الأعضاء عن حضور مثل هذه المؤتمرات التي من المفروض أن تكون لها كل السلطة. ولذا نجد أن السلطة داخل الكيبوتس تتركز في يد السكرتير العام للمؤتمر والمدير الاقتصادي.

ومن أشكال المساواة المتطرفة في الكيبوتس، المساواة بين الرجل والمرأة، فيقوم الجميع بالأعمال اليدوية نفسها، شاقة كانت أم هيِّنة. وقد بلغ البعض في تطرفه أنه أنكر على المرأة حقها في التزين، لأن هذا من شأنه أن يخلق الحواجز والتفرقة بين الرجل والمرأة. وقد نجح الكيبوتس إلى حدٍّ كبير في إعداد الكثير من النساء للقوات المسلحة الإسرائيلية، وإن كان معظمهن يقمن بأعمال إدارية، مثل الأعمال الكتابية والتمريض في الميدان، ويبتعدن عن المهام القتالية.

وهذا الحديث عن المساواة والديموقراطية يجب ألا يعمينا عن حقيقة الكيان الصهيوني التسلطية العنصرية. فالمساواة قد تكون أمراً مطبقاً داخل أسوار الكيبوتس، وحتى هذاأمر مشكوك فيه، ولكنها لا تتعداه على الإطلاق، إذ يظل محظوراً على العرب(بل على اليهود الشرقيين الذين جاءوا من بلاد عربية) الانضمام لهذه الكيبوتسات، فهي شأنهاشأن الجيش الإسرائيلي، مؤسسة إشكنازية (يهودية غربية بيضاء).

ومن المفاهيم الأخرى التي تستند إليها حركة الكيبوتس (شأنها في هذا شأن الحركة التعاونية الصهيونية)، مفهوم العمل العبري الذي يذهب إلى أن اليهـودي كي يشفي نفسـه من طُفيليته الجيتوية ومن ضعفـه وخوره، لابد أن يعمل بيديه، وأن الأمة اليهودية لن تصبح أمة بمعنى الكلمة إلا إذا ضمَّت في صفوفها عمالاً وفلاحين. ومن هنا يصبح العمل اليدوي الطريقة التي يُولَد بها اليهودي الجديد ليحل محل يهودي الجيتو القديم.

ولكن العمل اليدوي، شأنه شأن الجوانب الأخرى للحياة في الكيبوتس، هو رد فعل للظروف في فلسطين والنسق الصهيوني الفكري. فالصهيوني الذي يعمل بيديه سيشفي نفسه من أمراضه الهامشية والطفيلية (وهذا هو الجانب العقائدي) ولكنه لن يضطر إلى اسـتئجار العرب، وبالتالي سـيتمكن من طردهـم (وهذا هو الجانب العملي).

ولكن لا الجماعية ولا العمل اليدوي نجحا في جعل الكيبوتس مشروعاً اقتصادياً ناجحاً، إذ ظل الكيبوتس في الماضي والحاضر جزءاً من الاقتصاد الاستيطاني الذي يعتمد بالدرجة الأولى على التمويل الخارجي. والكيبوتس لا يختلف كثيراً عن الدولة الصهيونية التي تعتمد على المعونات الخارجية. وكما أن الدول العظمى تمول إسرائيل، نجد أن الوكالة اليهودية تدعم المستوطنات وتمولها، ويأخذ هذا الدعم أشكالاً مختلفة، فالمساحات الشاسعة التي حصل عليها الكيبوتس (وهي رأسماله الثابت الأساسي)، حصل عليها دون مقابل عن طريق الاغتصاب من العرب، وهو لا يدفع عنها سوى إيجار زهيد للوكالة اليهودية. وتنال الكيبوتسات معاملة مفضلة من حيث الإعفاء من الضرائب وتقديم المساعدات والهبات المالية والقروض المعفاة من الفوائد أو بفوائد منخفضة. وتوفر الدولة والمصادر الصهيونية الرسمية الوقود والأسمدة والكهرباء والمياه، كما يوجد سعران متفاوتان لمياه الري، واحد يُطبَّق على العرب والآخر يُطبَّق على يهود مزارع الكيبوتس. هذا بالإضافة إلى الإجراءات الخاصة التي تُتخذ لحماية مستوطنات الكيبوتس والتسهيلات الائتمانية التي تُمنح لها، أي أن اكتفاء مزارع الكيبوتس الذاتي الذي تروج له بعض المراجع الصهيونية، يشبه من بعض الوجوه اكتفاء إسرائيل الذاتي الممول. وإذا كانت الدول العظمى تمول إسرائيل وتدعمها حتى تحوِّلها إلى قاعدة عسكرية لا تملك أسباب البقاء بمفردها، فإن الحركة الصهيونية تموِّل المستوطنات والكيبوتسات للسبب نفسه، إذ كلما ازداد التمويل والدعم، ازداد اعتماد المستوطنات والمستوطنين على المؤسسة الصهيونية. وبالتالي يصبح التمويل من قبيل التكبيل، إذ حينما ينضم الإسرائيلي إلى إحدى المستوطنات فهو لا يدفع شيئاً حقاً، ولكن تُنفَق عليه أموال باهظة (نفقات تعليم وإسكان وخلافه)، ولذلك يصبح من العسير عليه الانسحاب من المشروع الذي انضم إليه.

الكيبوتس: تحـولاته الجوهرية

Kibbutz: Radical Changes

إذا كان الكيبوتس هو المجتمع الصهيوني مصغراً ومبلوراً، فأزمته هي أيضاً أزمة هذا المجتمع مصغرة ومتبلورة. والتحولات التي طرأت عليه هي تعبير مصغر متبلور عن التحولات التي طرأت على العقيدة الصهيونية. وثمة مظاهر كثيرة لتحولات الكيبوتس وللأزمة التي يواجهها يمكن أن نذكر منها ما يلي:

1 ـ المرأة:

حاولت الحركة الكيبوتسية ـ كما أسلفنا ـ أن تقضي على بعض المؤسسات الاجتماعية الإنسانية ـ مثل الزواج والأسرة بحجة أنها مؤسـسات بورجوازية قـديمة بالية، وأن «التقـدم» يتطلب أن نطرحها جانباً. بل إن كثيراً من الكيبوتسات حاولت أن تلغي الفروق بين الرجل والمرأة حتى يتم «تحرير» المرأة تحريراً كاملاً، ولذلك تم توزيع العمل بين الأعضاء بغض النظر عن الأساس الجنسي، وأصبح من الممكن أن يوكل للمرأة أي عمل أو وظيفة. ومما ساعد على هذا الاتجاه أن تنشئة الأطفال الجماعية، بعيداً عن نفوذ الوالدين «أعفى» المرأة من وظيفة الأمومة، وهي الوظيفة التي تعوقها في جميع المجتمعات الأخرى عن القيام بوظائف الرجال وأعمالهم.

هذا البرنامج التحرري برنامج غير إنساني، ينكر الكثير من حقائق الحياة البيولوجية والنفسية التي لا مناص من قبولها. ولذلك ليس من قبيل الصدفة أن أولى المشاكل التي واجهها الكيبوتس هي مشكلة المرأة التي يهدف إلى "تحريرها" من سجنها البيولوجي وإلى "إعفائها" من أمومتها. ولكن ما حدث أن المرأة لم تجد الخلاص في الكيبوتس، بل أصبحت من أكبر عناصر عدم الاستقرار فيه للأسباب التالية:

أ ) الأعمال اليدوية التي توكل لها شاقة ومضنية في غالب الأحيان، وهو ما يسبب لها العناء والإجهاد.

ب) لم يتمكن الكيبوتس من تحقيق المساواة التامة بين الرجل والمرأة بسبب العوامل البيولوجية، فالمرأة الحامل غير قادرة على القيام بالأعمال الشاقة، وكثيراً ما تترك وظيفتها وتستعصي عليها العودة إليها بسبب قيام غيرها بها، بل إن كثيراً من المناصب القيادية في الكيبوتس آلت إلى الرجال لهذا السبب.

جـ) نتيجة كل هذه الظروف وجدت المرأة نفسها في قطاع الخدمات (الطبخ والتنظيف والغسيل) وهو قطاع لا ينال احترام أعضاء الكيبوتس لأنه "قطاع غير إنتاجي"، ولذا تحس المرأة إحساساً عميقاً بالنقص. كما أن كثيراً من هذه الأعمال غير خلاق وممل، وبخاصة إذا كان يؤدّى للغير بشكل دائم وخارج نطاق الأسرة المباشرة، ويقال إن المرأة التي تعمل في الكيبوتس في قطاع الخدمات، تقضي ثماني ساعات يومياً في إعداد الطعام أو غسل الملابس.

د) وهـناك أخيراً رغبة المرأة في استرجاع أمومتها التي "تحرَّرت" منها، وبيتها الخاص الذي "أُعفيت" منه، وأطفالها الذين "تخلصت" منهم.

لكل هذه الأسباب نجد أن المرأة وراء المطالبة بالملكية الفردية والحياة الخاصة (وهي عكس الحياة الجماعية شبه العسكرية التي يتطلبها الكيبوتس)، بل إن كل الذكور الذين تركوا الكيبوتسات إنما فعلوا ذلك بسبب تعاسة المرأة وعدم رضاها عن أوضاعها. وهناك عدد كبير من النساء يرغبن في ترك الكيبوتس ولا يمكنهن ذلك بسبب ظروف الأزواج.

2 ـ الترف:

التقشف سمة من السمات الأساسية في الحياة داخل الكيبوتس، باعتباره مؤسسة عسكرية، ويظهر هذا التقشف في تحريم تملُّك الأفراد للأرض أو للآلات. وينصرف التحريم أحياناً إلى الأشياء الشخصية مثل الملابس. وقد كان التقشف يظهر أيضاً في أسلوب الحياة نفسها، من تحريم لتناول الطعام على انفراد إلى ممارسة أية نشاطات فردية. وجو التقشف هذا يشكل أساس التنشئة الاجتماعية العسكرية، وهو تكتيك عرفه المماليك من قبل، وعرفته كل المجتمعات التي كانت تعتمد على جماعات من المحاربين المرتزقة لحماية أمنها.

ولكن هذا الجانب من الحياة في الكيبوتس بدأ هو الآخر بالتآكل. فعلى سبيل المثال، بدأت تظهر الجماعات المنفصلة (للرجال والنساء)، ثم بعد ذلك الحمامات المستقلة لكل أسرة، وظهرت كذلك المطابخ المستقلة، بل أحياناً المسكن المستقل (غرفتان وصالة ـ في العادة ـ وملحق مكوَّن من مطبخ وحمام).

وبعض هذه المساكن مؤثث تأثيثاً فاخراً ويحتوي على أدوات ترفيه مثل الستيريو والتليفزيون الملون. ويُقال إن حمى الفيديو بدأت تكتسح إسرائيل بما في ذلك الكيبوتسات. وتجدر الإشارة إلى أن هناك سيارات خاصة بالكيبوتس تقوم بنقل الأعضاء إلى المدينة، وبإمكان العضو أن يحجز سيارة ليستخدمها بمفرده. وقد وصف أحد الكُتَّاب كيبوتس دجانيا عام 1986، بمناسبة مرور 75 عاماً على تأسيسه، فأشار إلى الترف الذي لم يحلم به المؤسسون الأوائل، مثل ملاعب التنس وحمام السباحة الذي تكلَّف نصف مليون دولار، وغرفة الطعام التي تكلَّفت مليون ونصف مليون دولار. ولنلاحظ هنا أن الابتعاد عن حياة التقشف ينتج عنه نوع من الاسترخاء، ولكن الأهم من هذا أنه يفت في عضد الاتجاه الجماعي الذي يُعدُّ ركيزة أساسية للشخصية العسكرية.

ولعل من أهم التطوُّرات الأخرى في هذا الاتجاه (وهو تطور يُعَدُّ سلبياً من وجهة نظر مؤسسي الكيبوتس وقياداته)، هو عودة الأسرة للظهور كما يتضح في عودة المسكن المستقل، وفي انضمام كثير من الأطفال إلى ذويهم وقضائهم كل أو معظم أوقات فراغهم في «منازلهم» أو وحداتهم السكنية المستقلة، بعيداً عن المدرسة وعن مؤسسات الكيبوتس المختلفة. بل إن بعض الكيبوتسات بدأت في إنشاء مساكن تشبه شقق الطبقات المتوسطة في أي بلد غربي حديث.

وبينما كان تناول الطعام على انفراد يُعَدُّ عودة للجيتوية أصبح الآن أمراً أكثر شيوعاً، وخصوصاً أن الصالة الملحقة بالمنزل المستقل أخذت تتحول بالتدريج إلى غرفة طعام يتناول فيها أعضاء الأسرة الواحدة بعض وجباتهم اليومية (ولكن مع هذا تظل طقوس الطعام الجماعي أمراً مهماً جداً في الكيبوتس).

وإلى جانب تقلُّص التقشف على مستوى الحياة الفردية، نجد أنه آخـذ أيضاً في التقلـص على مسـتوى الحياة الجماعـية في الكيبوتس ككل. فيُلاحَظ مثلاً أن بعض الكيبوتسات لها متحف خاص بها (ونهب آثار فلسطين من الهوايات الصهيونية الأثيرة. ويُعَدُّ موشي ديان، ابن الكيبوتس، من أكبر لصوص الآثار في الكيان الصهيوني). ويوجد الآنفنانون مقيمون في الكيبوتسات، إذ وجدوا أن أسلوب الحياة في هذه المزارع الجماعية يوفر لهم الراحة والدعة المطلوبة كما أنه يوفر الأمان المالي. وبعض هؤلاء الفنانينليسوا أعضاء في الكيبوتسات، وهذا في حد ذاته يُعَدُّ تطوراً عميقاً ـ أن يُسمح لمُستوطَن صهيوني أن يعيش داخل الكيبوتس دون أن يكون عضواً فيه.

ومن أشكال الرفاهية الأخرى في الكيبوتس صالونات التجميل (الكوافير) لتصفيف شعر النساء، وقيام الكيبوتس بتنظيم رحلات لزيارة المسارح والمتاحف في المدن الكبيرة. بل إن الكيبوتس يقوم بتنظيم رحلات سياحية إلى الخارج لأعضائه الذين يقومون بجولاتهم داخل وخارج إسرائيل كجماعة، كما أنه يمول أعضاءه الذين يقومون بدراسات جامعية وعليا، فهم يحصلون على ما يشبه الإجازة الدراسية بمرتب. وقد نشرت إحدى الصحف مؤخراً مفردات متوسط دخل عضو الكيبوتس، فبيَّنت أن دخله الفعلي السنوي يضعه في شرائح المجتمع الإسرائيلي العليا.

من كل هذا يمكننا أن نستنتج أن الصورة النمطية المألوفة عن حياة التقشف داخل الكيبوتسات لم تعد دقيقة، وأن أعضاء الكيبوتسات قد لا يملكون شيئاً مثل المماليك، ولكنهم، شأنهم شأن المماليك أيضاً، يرفلون في حلل النعيم، ويكوِّنون في نهاية الأمر تشكيلاً طبقياً متميِّزاً، يتحكم في المجتمع وينعم بخيراته.

3 ـ من الزراعة إلى الصناعة:

أشرنا إلى أن الطابع الزراعي العسكري للكيبوتس ليس مجرد صفة عرضية، وإنما سمة بنيوية (أي لصيقة ببنيته)، ومن هنا أيضاً فإن تحوُّله من الزراعة إلى الصناعة يُعدُّ تحولاً بنيوياً عميق الدلالة، لأنه سيترك أثره في نمط الحياة داخله، وهذا ما يحدث الآن.

وقد بدأ هذا التحول في أواخر الخمسينيات حينما حقق الكيان الصهيوني فائضاً زراعياً كبيراً، ووُصف الكيبوتس حينئذ بأنه «عدو الدولة» اللدود، فكان على الكيبوتس حينئذ أن يتحول بالتدريج ليضمن لنفسه النجاح والبقاء الاقتصادي.

وقد يكون من المفيد أن نذكر بعض الحقائق التي قد تُعطي القارئ فكرة عن هذا التحوُّل. ففي عام 1960 كان 30 % من أعضاء الكيبوتس يعملون في الصناعة، أما عام 1970، فقد بلغت نسبتهم 45% وتزيد النسبة الآن عن 50%.

ولم تَعُد مزارع الكيبوتس «مزرعة جماعية» وإنما أصبحت مجموعة من المشروعات الصناعية الضخمة، تساوي ملايين الدولارات. وقد وصف مراسل الواشنطن بوست كيبوتس دجانيا بأنه «كيبوتس يديره مصنع». وقد نجم عن هذا الانتقال تحوُّل في طبيعة الكيبوتس ونشوء عدد من المشاكل التي لم يضعها مؤسسو الكيبوتس في الحسبان:

أ ) نظراً لطبيعة الكيبوتس الإحلالية التي أشرنا إليها يتحتم على الأعضاء أن يعملوا بأنفسهم، وهذا أمر مناسب لمهنة الزراعة، ولكنه غير مناسب للمشروعات الصناعية التي تتطلب أيادي عاملة وخبراء يتم تدريبهم خارج الكيبوتس في المعاهد والكليات الفنية المختلفة ولا يدينون بالولاء له. ويحاول الكيبوتس أن يحل المشكلة عن طريق الاستعانة بالصناعة الأوتوماتيكية أو عن طريق مشاركة العمال الحضريين الذين يعملون في الكيبوتس دون أن يصبحوا أعضاء فيه.

ب) نظراً لانصراف عدد كبير من أعضاء الكيبوتسات إلى الأعمال الصناعية بدأت العمالة العربية الأجيرة تظهر مرة أخرى داخل الكيبوتس للقيام بالأعمال الزراعية، وهذا يُعَدُّ ـ من وجهة نظر صهيونية ـ ضربة في الصميم لمفهوم العمل العبري.

جـ) انقسم العاملون في الكيبوتس إلى فريقين: أحدهما يعمل بالزراعة والآخر يعـمل بالـصناعة، وهو ما خلق كثيراً من التـوترات. ومما عقَّـد الأمور، أن المشروع الصناعي على عكس المشروع الزراعي، يجب أن يكون حجمه كبيراً نوعاً ما، والكيبوتس كان المفروض فيه أن يظل حجمه صغيراً حتى يتسم بالدينامية وحتى تُمكن إدارته ذاتياً، بل يمكن القول بأن الإدارة الذاتية للكيبوتس أصبحت أمراً عسيراً جداً بعد زيادة القطاع الصناعي داخله، لأن القضايا التي يواجهها أعضاء الكيبوتس تتطلب خبرة المتخصصين، وهذا أمر غير متاح للأعضاء العاديين الذين لم يتلقوا تدريباً أو تعليماً خاصاً.

لكل هذا، يمكن القول بأن الانتقال من الزراعة إلى الصناعة قد أضعف تماسك الكيبوتس كمؤسسة، وولَّد داخلها مجموعة من التوترات التي تؤثر في مقدار فعاليتها ومدى إسهامها في الكيان الصهيوني.

4 ـ من التضامن الاشتراكي إلى التماسك العرْقي:

يبدو أن الكيبوتس رغم كل الادعاءات الطليعية والتجريبية قد بدأ يأخذ شكل العائلة الكبيرة المكتفية بذاتها أو القبيلة الصغيرة المنغلقة على نفسها.

وقد نشأ الكيبوتس في بداية أمره كتنظيم اشتراكي حديث، من الوجهـة النظرية على الأقل، أسـاس التضـامن فيه هـو الولاء الأيديولوجي، بل "هوجمت عملية تكوين وحدات عائلية، بدعوى أنها تضر بوحدة المجتمع". وفُسِّر الاتجاه الجماعي في الكيبوتس على أنه تعبير عن المُثُل الاشتراكية التي تنطلق منها هذه المؤسسة الزراعية/ العسكرية.

ولكن رغم نقطة الانطلاق هذه فإن الطبقية والظروف السياسية والتاريخية فعلت فعلها، وازدادت العائلات وتوسعت، وتحوَّل الكيبوتس إلى جماعة منغلقة، يتزاوج أفرادها فيما بينهم. فيُلاحَظ أن الزيادة الطبيعية طوال الخمسين عاماً الماضية هي المصدر الأساسي للزيادة في عدد سكان الكيبوتسات، أما الاستيعاب الاجتماعي من الخارج فيُشكل الآن ظاهرة هامشية. وفي الوقت الحاضر يعيش قرابة 9% من سكان الكيبوتسات في مستوطنات قامت قبل عام 1950، ووصلت إلى الجيل الثالث والرابع. فالمجتمع الكيبوتـسي قد أصـبح "مجتمـعاً عائلياً متوارثاً" ـ "مجتمعاً طبيعياً" ـ "مجتمعاً متعدد الأجيال"، أي أن الكيبوتس لا يستند إلى التضامن العقائدي والاشتراكي المزعوم، وإنما إلى التضامن العائلي أو القَبَلي أو الجيتوي (الصهيوني).

بل يبدو أن الأطر الأيديولوجية الأولى لم تكن سوى ستار كثيف يغطي "قرابة الدم بين اليهود" التي كانت بمنزلة الملاذ الحقيقي، أما هؤلاء الذين لم يؤمنوا بقرابة الدم هذه، فقد خرجوا إلى صفوف الاشتراكية الليبرالية أو الماركسية في صيغة إنسانية عامة أو إلى مواطنة العالم، ولم يصلوا إلى الكيبوتس، أي أن انغلاق الكيبوتس العائلي (وربما الجيتوي) على نفسه لم يكن تطوراً عرضياً وإنما كان أمراً كامناً منذ البداية، وكانت الصهيونية «الدموية»، أي التي تستند إلى قرابة الدم، أساس بقائه الحقيقي رغم ادعاءاته الاشتراكية الصاخبة.

الكيبوتـس: الأزمـــة والعزلـة

Kibbutz: Crisis and Isolation

تناولنا في المدخل السابق تلك التطورات والتناقضات التي تفاعلت داخل الكيبوتس وأدَّت إلى تحول بعض سماته البنيوية. ولكن ثمة عوامل أخرى تخص علاقة الكيبوتس ككل مع المجتمع الاستيطاني في فلسطين المحتلة أدَّت إلى أزمته وعزلته.

1 ـ قيام الدولة الصهيونية:

من المعروف أن عدد الكيبوتسات لم يزد كثيراً بعد عام 1948، بل انخفض عدد سكان الكيبوتسات بالنسبة لعدد السكان في الكيان الاستيطاني من 7.1% عام 1947 إلى 3.7% عام 1962، وقد زاد عدد سكان الكيبوتسات قليلاً بعد ذلك التاريخ، ولكن مع هذا لا يمكن القول بأن الكيبوتس استعاد ما كان له من جاذبية وبريق. ويقال إنه بانتهاء مرحلة الاستيطان الأولى (حتى عام 1948) انتهى دور الكيبوتس وتحوَّل إلى مؤسسة لا تتمتع بمركزيتها السابقة، وأصبح دورها مقتصراً على أعضائها وحسب. كما يقال إن أعضاء الكيبوتس لم يعودوا رواد الاستيطان وطليعة التجمع الاستيطاني، كما كانوا من قبل، وإنما هم عاملون بالصناعة ومديرو أعمال صناعية ومستهلكون مترفون.

إن الكيبوتس باختصار ـ حسب هذا الرأي ـ لم يعد سوى مجرد جيب خاص، مغلق على نفسه، ولم يعد يعبِّر عن الآمال الصهيونية. فالكيبوتس قبل عام 1948 كان أداة الاستيطان والاستيعاب الكبرى، ثم حلت الدولة الصهيونية محل الكيبوتس في أداء كلتا الوظيفتين بعد عام 1948. فالاستيلاء على الأرض العربية تقوم به المؤسسةالصهيونية الحاكمة من حكومة وشرطة ومخابرات وأجهزة قمعية أخرى، وبخاصة الجيش الذي أوكلت إليه مهمة القتال وقمع أية محاولات عربية لاسترداد الأرض (وإن كانت عملية الاستيطان قد ظلت تابعة للوكالة اليهودية، قبل إنشاء الدولة وبعده، فهي التي تقوم بتمويلها، ولكن الذي اختلف هو أدوات التنفيذ، إذ حل محل الإرهابالكيبوتسي الإرهاب الحكومي، الذي يشكل الكيبوتس جزءاً منه وحسب).

وهذا القول ينطبق على استيعاب المهاجرين، إذ أصبحت هناك أجهزة حكومية خاصة أوكلت لها هذه المهمة. وقد أثبت الكيبوتس بالذات عدم كفاءته في المهمة الاستيعابية، حيث إنه مؤسسة متماسكة لها قيمها الخاصة وإحساسها بمكانها ومكانتها، بينما كان المتوقع منها كمؤسسة استيعابية أن تفتح ذراعيها لكل المستوطنين الجدد بغض النظر عن انتمائهم العقائدي أو العرْقي، وهو الأمر الذي رفضه المهيمنون على الكيبوتس باعتبار أنه سيفقده تماسكه وشخصيته المستقلة والفريدة، ومكانته الخاصة.

ولعل من أهم العوامل التي أدَّت إلى تآكُل مكانة الكيبوتس وصول الليكود برئاسة بيجن ومن بعده شامير إلى السلطة عام 1977. فمن المعروف أن الكيبوتس كان تابعاً دائماً للصهيونية العمالية التي يمثلها المعراخ العمالي الذي حكم الكيان الصهيوني منذ تأسيسه حتى عام 1977. وعندما كانت الأحزاب العمالية في الحكم وكانت معظم قياداتها مثل بن جوريون وبيريس ورابين من أبناء الكيبوتس، كانت الكيبوتسات تتمتع برعاية الدولة ومعوناتها وتسهيلات أخرى عديدة، وهو أمر لم يستمر بطبيعة الحال مع صعود الليكود إلى الحكم.

2 ـ الأزمة الاقتصادية:

الكيبوتس يعتمد في تمويله على المؤسسة الصهيونية، فهو ليس استثماراً اقتصادياً، ومع هذا يُلاحَظ ارتباك أحواله المالية )وإن كان يجب ألا نفصل ذلك عن الوضع الاقتصادي المتردي بشكل عام في الكيان الصهيوني(. ويبدو أن الكيبوتسات، شأنها شأن كثير من المؤسسات والأفراد في المجتمع الصهيوني، قد دخلت حلبة المضاربات (وأعمال الجيتو الهامشية الطفيلية). فقد تراكمت على مر السنين أرباح الكيبوتسات، ولكن بدلاً من إعادة استثمارها في الاقتصاد بشكل إنتاجي، راح أعضاء النخبة الاشتراكية في إسرائيل يبحثون عن الأرباح السريعة والثروة الفورية عن طريق المضاربات وشراء السندات، حتى أصبح هذا النوع من الاستثمار يشمل ثلث دخل الكيبوتسات (وهكذا ينتقل الكيبوتس من الزراعة إلى الصناعة ومن الصناعة إلى سوق الأوراق المالية ـ والطفيلية والهامشية).

3 ـ عزلة الكيبوتس البنيوية والثقافية:

من المشاكل الرئيسية التي يواجهها الكيبوتس في الوقت الحالي ازدياد عزلته وانفصـاله عن المجتمع الصهيوني، وهو ما يزيد تآكُل مكانته. والكيبوتس بحكم تكوينه خلية مغلقة، يتبع نمط حياة مستقلة يختلف عن نمط الحياة المحيط به في عديد من الوجوه، رغم أنه يبلور تقاليد هذا المجتمع ويخدم أهدافه. والكيبوتس في هذا يشبه طبقة المماليك الذين كانوا ينشئون في خلايا اجتماعية مغلقة، يتعلمون ويتدربون على حمل السلاح في عزلة عن المجتمع، رغم أنهم الطبقة المحاربة الأساسية وربما الوحيدة فيه. ويمكن القول بأن اتجاه الكيبوتس التدريجي نحو الصناعة قد يؤدي به، في نهاية الأمر، إلى الامتزاج بالمجتمع الصهيوني، ولكن يبدو أن حركة الكيبوتسات شيَّدت مؤسستها الصناعية المستقلة التي تقوم بتمويل المشروعات الصناعية الكيبوتسية وتسهيل التعامل بين القطاعات الصناعية الموجودة في كل كيبوتس، ولذا نجد أن القطاع الصناعي في الكيبوتس منغلق على نفسه، منفصل اقتصادياً عن بقية البيئة، شأنه في هذا شأن الكيبوتس نفسه.

وانفصال الكيبوتس ثقافياً أمر واضح للجميع، ويقال إنه أصبح يشكل الآن ثقافة مستقلة داخل إسرائيل، فأطفال الكيبوتس يذهبون إلى مدارس خاصة بهم منذ الطفولة إلى أن يبلغوا الثامنة عشرة من العمر، وحتى بعد أن يذهبوا إلى الجامعة ويتخرجوا فيها، فهم يحتفظون بانفصالهم وتميزهم. وكما بيَّنا في مدخل سابق يتبع أعضاء الكيبوتس نمط حياة مترفاً يختلف عن نمط حياة بقية أعضاء المجتمع الصهيوني، الأمر الذي يعمق من عزلته الحياتية والثقافية. إن الكيبوتس كخلية صهيونية طليعية تحوَّل إلى تشكيل ثقافي طبقي قَبَلي (أو عائلي) مستقل، ومن هنا ازدادت عزلته وتآكلت مكانته.

4 ـ انحسار الأيديولوجية الصهيونية وأثرها على الكيبوتس:

ولكن لعل العنصر الأساسي المؤثر في الكيبوتس وهو العنصر الذي بدأ يغيِّر توجهه وأهدافه بعمق، هو انحسار الأيديولوجية الصهيونية تدريجياً، التي بدأت تتحول من كونها دليلاً للعمل لأعضاء التجمع الصهيوني إلى محط سخريتهم. وقد أشرنا في مدخل سابق إلى أن الشحنة العقائدية الأولى التي دفعت الصهاينة إلى الاستيطان في فلسطين في ظروف صعبة جداً، كانت تخفي قدراً كبيراً من العلاقات التقليدية وقرابة الدم ـ أو ما يمكن تسميته أيضاً «الانغلاق الجيتوي»، وأن الحديث عن الأممية والأخوة الإنسانية كانت من قبيل الديباجات التسويغية. ومهما كان الأمر، فإن هذه الديباجة التي كانت تجعل الصهيوني مقاتلاً شرساً قد استُنفدت أو فترت إلى حدٍّ كبير، ولم يَعُد الدافع العقائدي واضحاً، ولم تَعُد الديباجة الاشتراكية الصهيونية هي المهيمنة أو حتى الغالبة على هذا المجتمع الصهيوني الصغير أو على المجتمع الصهيوني الكبير، كما لم تَعُد محل جاذبية حقيقية بالنسبة لأعضاء الجماعات اليهودية في العالم.

وتتضح أزمة الصهيونية وانحسارها أكثر ما تتضح في عملية الاستيطان. فالحركة الصهيونية أصبحت غير قادرة على العثور على «يهود» لتوطينهم في المستوطنات الجديدة. ولذلك فبرغم كل الادعاءات الرنانة والبرامج الضخمة التي تهدف إلى توطين الألوف، يظل كثير من المستوطنات بدون مستوطنين (بل إن مستوطنات شمال النقب هي الأخرى مهددة بفقدان مستوطنيها). والكيبوتس ليس استثناء من القاعدة، ففي أواخر السبعينيات بلغت نسبة الذين يتركون الكيبوتس 50% من مجموع الرجال البالغين ومعظمهم من الأعمار بين 20 ـ 30، وهي أهم أعمار بالنسبة للكيبوتس. ومنذ الستينيات أصبحت الزيادة في الكيبوتس مرهونة بالتكاثر الطبيعي هناك ومدى بقاء أعضاء الكيبوتس في مستوطنتهم، فيصل معدل الأولاد في عائلة الكيبوتس اليوم إلى ثلاثة أولاد. وحتى يضمن أي مجتمع لنفسه التجدد الطبيعي للسكان فإن المطلوب أن يبلغ عدد أولاد العائلة في هذا المجتمع ما بين 2 ـ 3 أولاد. ولكن عندما تصل نسبة من يغادرون الكيبوتسات إلى 50% فإن تَجدُّد السكان هناك يحتاج على الأقل إلى ما بين 4 ـ 5 أولاد للعائلة الواحدة. ويؤدي هذا الوضع إلى زيادة اليأس بين أعضاء الكيبوتس، وهو ما يؤدي بدوره إلى زيادة ترك الكيبوتس ومغادرته ـ أي أن الأزمة الديموجرافية التي تهدد المشروع الصهيوني الاستيطاني قد وجدت طريقها إلى الكيبوتس.

ويظهر انحسار الصهيونية أيضاً في تغيير دوافع الاستيطان وديباجاته، فبدلاً من الحديث عن بناء الوطن القومي وتطبيع الشخصية اليهودية والذوبان في الشعب اليهودي،تقوم الوكالة اليهودية بمحاولة جذب للمستوطنين عن طريق التوجه لدوافعهم المادية النفعية، فتدفع آلاف الدولارات لبناء مستوطنات مريحة مترفة، مكيفة الهواء، فيهامستشفيات ورياض أطفال، ويقوم الجيش الصهيوني بحراستها، وتمهد لها الطرق الخاصة بعيداً عن مراكز تجمُّع العرب. ويقال إن الاستيطان يمثل الآن أكبر أسباب استنزاف الخزانة الإسرائيلية (ذلك "الصنبور الذي لا يُغلَق" على حد قول أحد المعلقين السياسيين في إسرائيل). في مثل هذا الجو يصبح الكيبوتس غريباً، وشيئاً مرفوضاً لأن المُستوطَن الصهيوني الجديد ذا التوجه المادي النفعي لا يحترم كثيراً قيم الكيبوتس التقشفية المملوكية، وهو ما يؤدي إلى مزيد من تآكل مكانة الكيبوتس.

ولكن، لا يمكن عزل الخلية عن الجسم الأكبر، ولذا وجدت هذه القيم النفعية الفردية طريقها إلى الكيبوتس. ومن أهم المشاكل التي يواجهها الكيبوتس في الوقت الحاضر انسحاب كثير من أعضاء الكيبوتسات للعمل خارجها نتيجة ضعف الإيمان بالمبادئ والقيم الصهيونية التي تأسست عليها الكيبوتسات. والسبب الرئيسي لترك الكيبوتس الذي يذكره معظم المغادرين هو "أن الموازنة الشخصية لم تَعُد كافية لتمويل النفقات اليومية"، أي أن النموذج الفردي النفعي الذي تصوَّر مؤسسو الكيبوتس أنهم بإمكانهم القضاء عليه آخذ في تأكيد نفسه.

ويجب ألا ننظر إلى مظاهر التحول المختلفة، التي طرأت على الكيبوتس، الواحد بمعزل عن الآخر، فتآكل مكانة الكيبوتس وعزلته لا تمكن رؤيتها بمعزل عن زيادة الترف داخله أو عن تَحوُّله من التضامن الاشتراكي إلى التضامن العرْقي. ولا تمكن رؤية العنصر الأخير بمعزل عن انتشار الرؤية النفعية الفردية في المجتمع الصهيوني وداخل الخلية الكيبوتسية وانحسار الأيديولوجية الصهيونية عنهما، فهذه جميعاً ليست سوى جوانب مختلفة تعبِّر عن الظاهرة نفسها.

5 ـ اليهود الدينيون والكيبوتس:

لابد أن نشير ابتداءً إلى أن ثمة تياراً إلحادياً شرساً وقوياً داخل الحركة الصهيونية يحارب كل الأديان وضمن ذلك الديانة اليهودية نفسها. وأن الحركة الكيبوتسية التي وُلدت في أحضان الصهيونية العمالية، كانت إلحادية التوجه منذ بدايتها ترفض اليهودية قلباً وقالباً. ولا يزال هذا هو الحال في معظم الكيبوتسات. وقد كتب أحد الإسرائيليين المؤمنين باليهودية خطاباً لجريدة الجيروساليم بوست يستنكر فيه أن المتطوعين اليهود الذين أتوا من الخارج محرَّم عليهم ممارسة شعائرهم الدينية داخل الكيبوتسات، وأن مدارس الكيبوتس تعلِّم الأطفال أن ارتداء التيفلين (شال الصلاة عند اليهود) عادة من مخلفات العصور الوسطى.

وقد رد عليه أحد أعضاء الكيبوتسات في العدد نفسه وأخبره أن الكيبوتسات مؤسسة علمانية، وأن المتطوعين الذين يأتون للكيبوتسات عليهم ألا يتوقعوا من المزارع الجماعية أن تغيِّر أسلوب حياتها، وأن تقدم له خدمات تعليمية تتصل بعقائد وعادات (أي الدين اليهودي) تقع خارج نطاق طريق الحياة التي يقبلها أعضاء الكيبوتس.

إن الحركة الصهيونية كانت ولا تزال في أساسها حركة علمانية شاملة ومع ذلك أخذ الاتجاه الصهيوني الديني في التعاظم، وبخاصة منذ عام 1967. وقد عبَّر هذا عننفسه على شكل تزايد الديباجات الدينية في الكيان الصهيوني. ولكن الأهم من هذا هو أن الحركة الاستيطانية التوسعية لم تَعُد حكراً على الصهيونية العمالية، بل على العكس أصبحت الجماعات شبه الدينية مثل جوش أيمونيم وحركة إسرائيل الكبرى، هي وحدها المطالبة بالاستمرار في الاستيطان. ولذا أصبحت العمود الفقري والقوة المحركة للحركة الاستيطانية ككل، ومعظم المستوطنات التي أُنشئت في الضفة الغربية مستوطنات صهيونية دينية، تؤمن بضرورة تبني الأشكال الدينية اليهودية (دون مضمونها الخلقي أو الروحي(.

6 ـ اليهود الشرقيون والكيبوتس:

ومما يزيد عزلة الكيبوتـس أنه بالدرجة الأولى مؤسـسة إشكنازية، والحركة الصهيونية قد بدأت أساساً كحركة إشكنازية تتوجه إلى يهود الغرب، ولم تحاول قط قبل 1948، أن تهجِّر يهود البلاد العربية من السفارد الشرقيين. بل إن آرثر روبين عالم الاجتماع الصهيوني، قال إن اليهودي ـ حسب تصوُّره ـ هو الإشكنازي فحسب، أما السفارد فهم ليسوا يهوداً على الإطلاق، أو على الأقل لا نصيب لهم في المشروع الصهيوني.

ولذلك حينما أُعلن قيام الدولة الصهيونية عام 1948 لم تكن دولة يهودية وإنما إشكنازية بالتحديد، ولكن مع هجرة اليهود العرب والسفارد من البلاد العربية مثل العراق واليمن ومصر والمغرب، تحوَّل التركيب السكاني في الدولة الصهيونية وأصبحت غالبية سكانها من الشرقيين. ولكن الكيبوتس مع هذا احتفظ بتركيبه الحضاريالإشكنازي. ورغم أنه مؤسسة استيطانية واستيعابية، إلا أنه لم يضم في صفوفه سوى يهود إشكناز ولم يستوعب سوى القادمين من الغرب. وإن حدث أن انضم بعض الشرقيين إلى عضوية أحد الكيبوتسات فإنهم عادةً ما يعانون من العزلة والتفرقة العنصرية. ولعل أكبر دليل على مدى عزلة الكيبوتس عن المجتمع الصهيوني ككل أن 50% من اليهود الشرقيين ممن استُطلع رأيهم، أشاروا إلى أنهم لم يروا في حياتهم أحد الكيبوتسات.

ولعل الأمر لو توقَّف عند الجهل بالكيبوتس لأصبح بالإمكان تنظيم حملة إعلامية للتوعية، ولكن من الواضح أنه أصبح مكروهاً لا من الإسرائيليين العاديين وحسب وإنما من أعضاء تجمُّع المعراخ أيضاً، أي من اليمين واليسار. أما بالنسبة لليسار فأعضاؤه يرون الكيبوتس مؤسسة "نخبوية" تتكون من "أرستقراطية ملاك الأراضي" و"رأسماليين اجتماعيين"، بل ومستغلين للطبقة العاملة. أما بالنسبة للكراهية من اليمين، سواء من أثرياء الإشكناز أم فقراء السفارد والعرب اليهود، فهي شاملة. وفي محاولة تفسير هذه الظاهرة يُقال إن الرأي الشائع في بيسان (المدينة التي دُرس موقف سكانها من الكيبوتس) هو أن الكيبوتسات استولت على خير الأراضي في فلسطين المحتلة، وأنها تحصل على القروض والتسهيلات الائتمانية. وأن هذا لا يترك الكثير للمدينة. بل إن سكان المدينة ككل يرون أن وجود الكيبوتس يعوقها عن أيِّ تطوُّر أو توسُّع، لأن الأرض المجاورة للمدينة، مجالها الحيوي إن صح التعبير، تابعة للكيبوتس. ويشكو أثرياء المدينة بالذات من أن وجود الكيبوتس جعلهم غير قادرين على شراء منازل (فيللات) خارج نطاق المدينة.

أما الفقراء فيرون أن الكيبوتس يتمتع بمستوى معيشي راق (حمامات سباحة ـ تليفزيونات ملونة ـ طمأنينة مالية) ولذا فهم يطلقون على الكيبوتس اصطلاح «إسرائيل الجميلة» أي (إسرائيل الثرية). ويشير سكان بيسان إلى أن فرص العمل في الكيبوتس في الوظائف المهمة مغلقة دونهم، ولا يوجد سوى العمالة اليدوية الرخيصة، ومعظم سـكان بيسـان من المغرب. وقد سـافر الأثرياء والمتعلمون منهم إلى فرنسا، ولم يهاجر إلى إسرائيل سوى الفقراء ومن لم يحصلوا على قدر عال من التعليم. ولذا، فإنعلاقة الكيبوتس بالمدينة هي علاقة السيد بالخدم. وفي الوقت الذي يعاني فيه سكان المدينة من البطالة يتمتع سكان الكيبوتس بالعمالة الكاملة. ويعبِّر سكان المدينة عنسخطهم على مدارس الكيبوتس الممتازة الموصدة دون أبنائهم ويرون أن نظام التعليم الكيبوتسي المستقل لا يسهم إلا في تعميق الهوة بين أبناء «الشعب الواحد».

وإذا كانت العلاقة بين مدينة بيسان والكيبوتس المجاور لها علاقة نمطية متكررة فيمكننا القول بأن حركة الكيبوتسات تمر بأزمة حقيقية، وأن معمل تفريخ المزارعين/المقاتلين لم يَعُد يلعب دوره السابق في الكيان الصهيوني. وبدأت تظهر أجيال جديدة من أبناء الكيبوتسات ينضمون إلى حركات الاحتجاج داخل المجتمع الصهيونيويتعاطون المخدرات بشراهة ويرفضون التطوع للخدمة العسكرية، الأمر الذي يشكل أزمة حقيقية بالنسبة للتجمُّع الصهيوني.

7ـ رفض الخدمة العسكرية:

لوحظ في الآونة الأخيرة أن ثمة تغيرات عميقة قد طرأت على موقف أعضاء الكيبوتسات من الخدمة العسكرية ومن موقفهم العسكري تجاه الدولة الصهيونية. وفي محاولة تفسير هذا الوضع يشير بعض المحللين إلى أزمة الكيبوتس وعوامل الصراع داخله. فالكيبوتس كما قلنا مؤسسة عسكرية/زراعية تتسم بالجماعية والتقشف وتهدف إلى تفريخ الجنود الصهاينة. ولذلك حينما تبدأ المرأة داخل الكيبوتسات المطالبة باستعادة دورها كأم وكزوجة، وحينما تطالب بإرجاع الأسرة كمؤسسة فإنها بذلك تمثل تحدياً للتوجه العسكري العام للكيبوتس الذي يحاول عزل الفرد عن العلاقات الأسرية حتى يصبح محارباً كاملاً.

والشيء نفسه ينطبق على زحف مظاهر الترف على الكيبوتس من أجهزة تليفزيون ملونة إلى رحلات للخارج، فالترف هو الآخر يصيب الروح العسكرية بالتراخي، كما أن تحوُّل الكيبوتس من الزراعة إلى الصناعة يعني تحوُّله إلى مؤسسة صناعية تعتمد على العمل الأجير، بحيث يتحول عضو الكيبوتس من فلاح يمارس العمل اليدوي ويزداد خشونة واعتماداً على النفس إلى مدير أعمال يأنف من العمل اليدوي ويغرق في الأعمال الذهنية! والأيديولوجية الصهيونية نفسها ـ كما أسلفنا ـ آخذة في التآكل، وبدأ يحل محلها أيديولوجية فردية، حيث يضع المواطن الصهيوني مصلحته فوق مصلحة الوطن.

وقد انعكس كل هذا على سلوك أعضاء الكيبوتس نحو أبناء المجتمع الذي يعيشون فيه، إذ يُلاحَظ زيادة الفردية بينهم والرغبة في التعبير عن الذات، وخصوصاً أن الكيبوتس يعاني من العزلة في مجتمع معظم توجهاته الآن استهلاكية ترفية. ولذا فعضو الكيبوتس الذي يؤثر مصلحته الشخصية على مصلحة المجتمع ككل إنما يبيِّن أنه ابن المجتمع، مجتمع الكيبوتس الصغير والمجتمع الصهيوني الكبير. ويربط بعض المراقبين بين هذه الاتجاهات الفردية وبين زيادة هجرة أعضاء الكيبوتس من إسرائيل.

وفي مجال تفسير ظاهرة العزوف عن الخدمة العسكرية يمكن القول بأن الجيل الجديد لم يَعُد مشغولاً بمشكلة "أمن" إسرائيل انشغال الأجيال السابقة، وخصوصاً أنه أصبح يرى المجتمع الصهيوني بنفسه وقد تحوَّل إلى مجتمع توسعي بشكل صريح له مطامح استعمارية واضحة. إن أكذوبة «جيش الدفاع الإسرائيلي» (الاسم الرسمي للجيش الصهيوني) لم يَعُد من الممكن تقبلها، فهذا الجيش الدفاعي يصول ويجول في لبنان ويرسل قذائفه لضرب المفاعل الذري في العراق، ويتحدث رؤساؤه عن أمن إسرائيل الذي يمتد من باكستان إلى المغرب وعن إعادة رسم حدود العالم العربي بما يتفق والمخطط الصهيوني ويقوم أبناؤه بكسر عظام المنتفضين.

كما أن هذا المواطن الإسرائيل عضو الكيبوتس، قرأ الكثير من الحقائق عن الإرهاب الصهيوني، ورأي بنفسه على شاشة التليفزيون ومن خلال وسائل الإعلام الأخرى، المذابح الصهيونية في صبرا وشاتيلا وقانا، وهي مذابح يصعب وصفها بأنها دفاعية.

كما أن المجتمع الصهيوني بادعاءاته الديموقراطية عن نفسه يسمح بإدارة كثير من المناقشات العلنية عن الحرب وأسبابها، وهو أمر يولِّد شكوكاً عديدة في نفس المستوطن الصهيوني.

وأخيراً لا يمكن أن ننسى عاملاً أساسياً وهو أن هذا المستوطن الصهيوني في حالة حرب دائمة مع العرب منذ عام 1882، العام الذي وطئت فيه أقدام أجداده من المستوطنين أرض فلسطين، وهي حرب لم يخمد لها أوار، بل ازدادت اشتعالاً، رغم أنه وقَّع عدة «معاهدات سلام».

لكل هذا نجد أن ثمة تصدعات في جدار الكيبوتسات العسكري الصـارم، وأنها لم تَعُـد معمل تفـريخ الجندي الصهيوني كما كانت من قبل.

هذا الإطار يفسر موقف كثير من أعضاء الكيبوتسات الذين يرفضون الذهاب إلى القتال، بل يرفضون المؤسسة العسكرية الصهيونية برمتها، وينضمون إلى حركات الرفض. وهم يتحدثون عن دعاة الحرب باعتبارهم «الكولونيلات» (وهي كلمة لها إيحاءات سلبية، إذ تشير إلى الدكتاتوريات العسكرية في أمريكا اللاتينية أو إلى حكومة الضباط في اليونان في منتصف السبعينيات، الذين يعتنقون العسكرية والغزو).

وقد أفصح بعض أعضاء الكيبوتس عن مخاوفهم من "أن يموتوا دونما هدف" في لبنان "فهي ليست حربنا، إذ فرضها علينا بيجن وشارون فرضاً". وهذا الموقف الرافض يعبِّر عن نفسه من خلال أغنية شائعة في الكيبوتسات الآن تقول: اشرب وصاحب النساء... فغداً سوف تذهب هباءً.

وحتى لا نتصور أن أعضاء الكيبوتسات جميعاً قد أصبحوا فجأة من الرافضين، أو أنهم ينادون بالعدالة والانسحاب من فلسطين، يجب أن نُذكِّر أنفسنا ببعض الحقائق وهيأن 20% من كل الضباط الجدد في الجيش الإسرائيلي هم من أعضاء الكيبوتس، وأن 83% من شباب الكيبوتس ينضمون للوحدات الخاصة. فالكيبوتسات لا تزال مؤسسة عسكرية صهيونية تحمل لواء الاستيطان والاغتصاب. ولكن بسبب أهميتها وحيويتها ومركزيتها فإن أي تغيُّر قد يطرأ عليها (حتى ولو كان صغيراً) وأية أزمة تواجهها (مهما كانت أبعادها) تُعَدُّ أمراً بالغ الخطورة والأهمية.

الخصـخصة وتطبيع الاقتصاد الإسرائيلي (العمالي(

Privatization and the Normalization of Israeli (Labour) Economy

ظهر اتجاه في إسرائيل يطالب بالتخلي عن الاقتصاد العمالي التعاوني (الاستيطاني) وتهميش مؤسساته وإدارة الاقتصاد الإسرائيلي على أساس الاقتصاد الحر وأولويات المنطق الاقتصادي المعتادة، عَبْر تقليص دور الدولة والقطاع العام وتحويل الاقتصاد الإسرائيلي العمالي إلى اقتصاد رأسمالي، بعد أن فَقَد قدرته على مواجهة المشكلة الاقتصادية منذ مطلع السبعينيات بسبب الآثار السلبية لإشراف الدولة المباشر على الاقتصاد، ومناخ الاعتماد على المساعدات. ومما يساعد على هذا الاتجاه الاتجاهاتالسائدة الآن في العالم من اتجاه نحو الخصخصة والعولمة وهو اتجاه تضغط في اتجاهه الولايات المتحدة حتى تستطيع إسرائيل أن تلعب دوراً اقتصادياً في منطقة الشرقالأوسط بحيث يتراجع دورها القتالي إلى حدٍّ ما. ولا شك في أن الليكود يرى أن فك الاقتصاد العمالي يؤدي إلى تفكيك القواعد الانتخابية لحزب العمل المتمثلة فيالهستدروت والكيبوتس وغيرها من المؤسسات. وقد تبنَّى حزب العمل هذه السياسة أيضاً وتوسَّع في الإجراءات الرامية للإصلاح الاقتصادي منذ عودته للحكم عام 1992.

ولكن هذا الاتجاه يصطدم بالحقيقة البنيوية الأساسية وهي أن الطبيعة الاستيطانية الإحـلالية للكيان الصـهيوني (الهـجرة الاستيطانية ـ الاستيعاب ـ التوسع ـ الأمن ـ قمع السكان الأصليين) تتطلب ترتيب الأولويات الاقتصادية بصورة تختلف عن متطلبات السوق في إطار النظام الرأسمالي. فالبنية الاقتصادية الرأسمالية (الليبرالية/الاقتصادية) تتناقض مع متطلبات التوسع الصهيوني (جغرافياً ـ بشرياً) وضرورة التفوق العسكري وأولوية إنتاج الأسلحة المتطورة وتوزيع المدخرات وفق هذه الأولويات الإستراتيجية وليس وفق الكفاءة الاقتصادية. فأهم

سمات الاقتصاد الإسرائيلي أنه اقتصاد محمي (بالإنجليزية: بروتكتيد إيكونومي( protected economy.

ويمكن أن نضرب بعض الأمثلة على أسبقية الضرورات الاستيطانية على الاعتبارات الاقتصادية. كانت نسبة البطالة في إسرائيل عام 1993 حوالي 11% (أعلى معدل في تاريخ إسرائيل) وكانت نسبتها بين المهاجرين السوفييت 30%. فلو كانت الاعتبارات الاقتصادية تسبق الضرورات الاستيطانية لأوقفت الدولة الصهيونية (الاستيطانية) الهجرة من الخارج، ولكنها مع هذا ظلت تشجع المهاجرين وتلتزم بمنحهم معونات مالية سخية لتحقيق مستوى معيشي مرتفع بل التزمت إيجاد أعمال لهم. ويتم كل هذا بالاستدانة من الخارج (عشرة مليارات دولارات). والاستدانة هنا لا تتم بهدف زيادة الاستثمارات أو توسيع رقعة الاقتصاد الحر أو توفير المزيد من الخدمات للمجتمعوإنما تحقيق هدف استيطاني هو تشجيع الهجرة للوافدين بغض النظر عن مقدرة المجتمع الإسرائيلي الاستيعابية، وبغض النظر عن قلق اليهود الشرقيين من هجرة مجموعة من الإشكناز ستدفعهم درجة أو درجتين أسفل السلم الاجتماعي والطبقي، وبغض النظر عن استجابة السكان الأصليين الذين يرون أن مثل هذه الهجرة هي في واقع الأمر تكريس لوضع التشرد والغربة الذي يعيشون فيه وهو ما يزيد مقاومتهم.

ويمكن أن نضرب مثلاً آخر من قطاع البناء، الذي يُعَد من أهم القطاعات في الاقتصاد الإسرائيلي، والبناء يعني بالدرجة الأولى بناء المستوطنات، وهي عملية استيطانية محضة، غير خاضعة لمعايير الجدوى الاقتصادية العادية. إذ يتم اختيار موقع المستوطنة بناءً على اعتبارات عسكرية. وقد يحتاج الأمر لنزع ملكية أراضي بعض العرب وطردهم منها (الأمر الذي يسبب المزيد من المقاومة التي تسبب بدورها خسارة اقتصادية). ثم يتم تأسيس المستوطنة قبل أن يكون هناك مستوطنون، ثم يُعلَن عن تأجير المنازل فيها بأسعار غير اقتصادية لجذب المستوطنين، وتتم حراستها بتكلفة باهظة.

والعمالة العربية أساسية في قطاع البناء، ولو كانت الاعتبارات الاقتصادية هي الأهم لتم تشغيل آلاف العرب فيها بشكل دائم ومستمر. ولكن مثل هذا الوضع يهدد أمن إسرائيل العسكري والاجتماعي إذ يعني سقوط قطاع اقتصادي مهم في أيدي السكان الأصليين ووجودهم بشكل دائم داخل تجمُّع المستوطنين. كما أن السلطات العسكرية كثيراً ما تضطر إلى منع العمال العرب من الذهاب إلى مواقع أعمالهم بعد قيام أحد العرب بإحدى العمليات "الإرهابية" أو "الانتحارية" ("الفدائية" أو "الاستشهادية" في مصطلحنا). وحيث إن المستوطنين الصهاينة يرفضون العمل في أعمال يدوية مثل البناء فإنه يتم استيراد عمال كوريين وفلبينيين ورومانيين!

وحالة قطاع البناء هي حالة ممثِّلة لكثير من الحالات. إذ ينطبق الشيء نفسه على الزراعة الإسرائيلية. فلو سادت الاعتبارات الاقتصادية لتم استخدام الأيدي العاملة العربية على نطاق أوسع في الكبيوتسات والمزارع الجماعية وبشكل أكثر علنية ورشداً. ولكن مثل هذا الأمر يتناقض مع المُثُل العليا الصهيونية ومع قوانين الصندوق القومي اليهودي الذي ينص على ضرورة ألا يعمل في الأرض التي يمتلكها الشعب اليهودي سوى اليهود (ومع هذا "يتسرب" العرب بأعداد كبيرة في قطاع الزراعة وقطاع البناء وغيرها من القطاعات الاقتصادية(.

ويمكننا القول بأن ما يُقال له "الطرق الالتفافية" هي صورة متبلورة لأسبقية الاستيطاني على الاقتصادي، فهي طرق تكلف الكثير لإنشائها وحراستها، ومع هذا تستمرالدولة الصهيونية في تشييدها حتى لا تحدث أية مواجهة بين المستوطنين والسكان الأصليين وحتى يتمتع المستوطنون بعزلتهم!

ويُعتبَر قطاع الخدمات بصفة عامة أهم قطاعات الاقتصاد الإسرائيلي بلا استثناء، فهو يمثل نحو 78.4% من الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي عام 1994، بينما يمثل قطاع الصناعة 16.8% والزراعة 4.8% في العام نفسه، طبقاً لبيانات تقرير البنك الدولي الصادر عام 1996. ويبدو هذا الوضع شديد التطرف حيث يشكل قطاع الخدمات نسبة أعلى حتى من الدول الصناعية التي يتزايد فيها الوزن النسبي لهذا القطاع، وتقترب هذه النسبة من مثيلتها في هونج كونج التي تُعَد مركزاً مالياً وتجارياً وإقليمياً ودولياً بالأساس وتعتمد على علاقاتها بالاقتصاديات الأخرى. وتعود ضخامة قطاع الخدمات لكون إسرائيل مجتمعاً استيطانياً يتلقى مساعدات وتحويلات ضخمة من الخارج (انظر: «المعونات الخارجية للدولة الوظيفية»)، ويقوم بإنفاق أجزاء كبيرة منها على خدمات لم يكن الاقتصاد الإسرائيلي ليتمكن من توفيرها لولا المساعدات الخارجية. كما أن التجمُّع الصهيوني يلجأ دائماً لرشوة المهاجرين حتى لا ينزحوا عن المستوطن الصهيوني. ومن ثم فإن ضخامة قطاع الخدمات هو ضرورة بنيوية للمجتمع الاستيطاني ولا يمكن تقليصه.

ورغم كل هذه العوائق البنيوية إلا أنه تم الإعلان عن برنامج موسَّع للخصخصة في التسعينيات يتم على أساسه بيع جزئي وكلي لبعض المشروعات العامة، واتباع سياساتالتحرير الاقتصادي في المجالات المالية والنقدية والائتمانية. وقد شهد الاقتصاد الإسرائيلي، منذ منتصف الثمانينيات، تزايداً في وزن القطاع الخاص مقابل ضمور وزنالقطاع العام الذي يشمل ملكية الدولة والهستدروت، وذلك من ناحية العمالة والمؤسسات في القطاع الصناعي. حيث بلغ نصيب القطاع الخاص من العمالة 77.8% عام 1994 بعد أن كان 66.6% عام 1985، في حين بلغ نصيب القطاع العام 22.2% في نفس العام بعد أن كان 33.4% عام 1985، وبلغ نصيب القطاع العام من المنشآت الصناعية 2.7%، والقطاع الخاص 97.3%.

ومع عودة الليكود إلى الحكم عام 1996، فإن المصلحة السياسية لليكود قد تجعله يندفع في اتجاه تقليص القطاع العام الذي هيمن عليه تاريخياً أشخاص ينتمون لحزب العمل، فجاء في برنامج الليكود أن الحكومة ستقوم بخصخصة الشركات الحكومية كافة باستثناء الشركات أو بعض أقسام الشركات التي لها تأثير أمني.

ولكن ثمة تناقض أساسي بين هذا الاندفاع الليكودي نحو الخصخصة وأيديولوجية نيتنياهو الاقتصادية المعلنة. فهي، على حد قول عزمي بشارة، أيديولوجية يمينيةتتماثل مع الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة،وكلمة الخصخصة هي المفتاح،وتخفيض المصروفات العامة، وبالتالي الضرائب أيضاً. ولكن قاعدة حزب الليكود البشرية وقاعدة حزب شاس مثلاً، تضم في صفوفها أوساطاً واسعة من المسحوقين، والطبقات الوسطى الدنيا، ومن المهمشين اقتصادياً، وإذا ما تابعت الحكومة سياسة الخصخصة فلابد من تفجُّر صراع داخل الائتلاف الحاكم وداخل الليكود نفسه. ويلوح أيضاً تناقض بين الموقف القومي اليميني الأمني التوجه والداعي إلى تجنيد طاقات المجتمع كافة في المواجهة وبين الموقف الليبرالي الاقتصادي، فالنزعة الأولى تتطلب التعامل مع المجتمع كجماعة عضوية وليس مجرد سوق. وللتعويض عن فقدان أواصر التكافل الاجتماعي أمام بروز الفوارق الطبقية، وتراجع القطاع العام أمام قوانين السوق تزيد القوى اليمينية في ديماجوجيتها القومية. وسوف تزيد من الاهتمام المعطى للتربيةالدينية اليهودية، وكل ما من شأنه إعادة إنتاج الجماعة العضوية في الوعي بعد غيابها في الواقع.

غير أن هناك رأي يذهب إلى أن إسرائيل ستحاول ، رغم كل هذا، التكيف مع المتغيرات العالمية، وخصوصاً بعد نشوء منظمة التجارة العالمية وسريان اتفاقيةالجات، وأنها ستعمل على تحرير اقتصادياتها من القيود الحكومية والبيروقراطية، بل إنها سارت فعلاً على هذا الطريق، وأن ما سيذلل لها كل الصعوبات ويحل سلبيات وأعباء إعادة الهيكلة والخصخصة ليس الأساليب العادية التي تتبعها أية دولة أخرى في ظروف مماثلة، وإنما من خلال المساعدات والتبرعات والقروض، ومن خلال الاندماج السهل بين الشركات الإسرائيلية والشركات المتعددة الجنسيات، وخصوصاً أن لدى هذه الأخيرة فروعاً وأسهماً في إسرائيل وفي شركاتها العامة والمشتركة. وهذا التحرير لن ينعكـس سلباً لا على مسـتوى رفاهية المجتمع الإسرائيلي، ولا على أولويات إسرائيل الاقتصادية، ولا على مستوى دعم الإنفاق العسكري للأسباب المذكورة آنفاً.

ونحن نميل إلى القول بأن عملية تطبيع الاقتصاد الإسرائيلي المحمي وخصخصته هي مسألة صعبة جداً إن لم تكن مستحيلة بسبب وضع التجمُّع الصهيوني كتجمُّع استيطاني وما نجم عن ذلك من سمات بنيوية تقف عائقاً في طريق التطبيع. كما أن الهاجس الأمني يقوِّض كثيراً من محاولات التطبيع،إذ أن الإجراءات الأمنية المشددة تعوق تدفق السلع والعمالة.

التســـوية الســـلمية وتطبـيــع الاقتصــاد الإســـــرائيلي (العمالي(

Peaceful Settlement and the Normalization of Israeli (Labour) Economy

يُعَد شيمون بيريز صاحب الدعوة الأشهر لتطبيع الاقتصاد الإسرائيلي إقليمياً، وإنهاء حالة العزلة الإقليمية للاقتصاد الإسرائيلي. فالمشروع الإسرائيلي، في ظل عملية التسوية، يقتضي توفير مناخات اقتصادية تطبيعية تهمش بل تلغي الشأن القومي التاريخي، وتحل محله شأناً جيو/اقتصادياً جديداً، وهذا ما دعاه «الشرق الأوسط الجديد» باعتباره وحدة متكاملة اقتصادياً وأمنياً وسياسياً، ليصبح جاذباً أسـاسياً للاسـتثمار الأجنبي وجـسراً وحـيداً للاقتصاد الإقليمي والدولي معاً.

وتحدث البعض في إسرائيل عن «الصهيونية الاقتصادية» و«الصهيونية التقنية» اللتين تشكلان تحولاً وانتقالاً إلى مرحلة الهجوم الاقتصادي الموسعة مع تَقدُّم عملية التسوية وهو ما يقود إلى رفع معدل النمو الاقتصادي بما يجلبه من زيادة الاستثمار في مجال البنية التحتية والمشروعات المشتركة مع الدول العربية، وفتح أسواق جديدة في المنطقة وخارجها بعد وقف المقاطعة الاقتصادية العربية، واعتماد الشركات متعددة الجنسيات إسرائيل مركزاً إقليمياً.

وقد بدا واضحاً أن المطلوب هو دمج إسرائيل في المنطقة، إلا أن الإشكالية لا تتعلق بالاندماج في حد ذاته، وإنما بشروط هذا الاندماج. فالاندماج الأمثل باقتصاديات المنطقة، من وجهة النظر الإسرائيلية، يجب أن يتم من خلال سيطرة إسرائيل على عمليات الوساطة المالية بالمنطقة وتنفيذ مشاريع مشتركة في مجالات محددة تتم بإشراف الأجهزة الحكومية حتى لو قام بتنفيذها القطاع الخاص، وهي مشروعات يمكن أن تتم بين أنظمة اقتصادية تختلف بعضها عن بعض كلياً. أما النوع الثاني من الاندماج الذي يتم عَبْر إقامة منطقة تجارة حرة فهو مرفوض لأنه يتطلب إحداث تغييرات بنيوية في اقتصاد كل الدول المشتركة لإزالة التباين بينها وهو ما يتطلب تقليص دور الدولة،وترك المبادرة للقطاع الخاص.

إن خصائص الاقتصاد الإسرائيلي وحمائيته تحول دون إمكانية اندماجه في إطار النوع الثاني، فالدولة الاستيطانية الصهيونية، لن تقبل رفع يدها عن التدخل في المجال الاقتصادي، نظراً إلى ما سيحدثه ذلك من آثار في مستويات المعيشة، ونظراً لما يتطلبه استمرار هجرة اليهود من استثمارات ودعم حكومي حيث يبرز التناقض بين الاعتبارات الاقتصادية والاعتبارات الاستيطانية.

ومن الأسباب الأخرى التي تعوق اندماج إسرائيل في المنطقة هو تجارة إسرائيل الخارجية التي تحتل موقعاً مهماً في الاقتصاد الإسرائيلي. فالحجم الأكبر من هذه التجارة يتجه إلى الدول الرأسمالية، وخصوصاً الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوربي، ويظل الهدف الإسرائيلي الرئيسي توطيد علاقاتها الاقتصادية بتلك الدول، واعتبار دول المنطقة بمنزلة "حديقة خلفية" لإسرائيل. كما أن هيكل الصادرات الإسرائيلية لا يساعد على الاندماج التجاري بالمنطقة، إذ أن القوة الشرائية في أغلب دول المنطقة لا تسمح بأن تكون المنطقة سوقاً للماس، كما أنه من غير المنتظر أن تقوم إسرائيل بتصدير السلاح، أو التكنولوجيا (العسكرية بالأساس) إلى الدول العربية. بالإضافة إلى كل هذا يمكن أن نشير إلى تَشوُّه هيكل الأسعار في إسرائيل، فهي لا تتحدد وفقاً لاعتبارات العرض والطلب وإنما تتم، في إطار نموذج الصهيونية العمالية الذي لا يزال سائداً، وفقاً لعمليات معقدة من التفاوض السياسي. فسعر البيض مثلاً يتحدد عن طريق مفاوضات بين وزارتي المالية والزراعة من جهة، و من جهة أخرى منظمات مربيالدواجن (التي يدعمها الصندوق القومي اليهودي والوكالة اليهودية)... إلخ. فالاقتــصاد الإسرائيلي مُسيَّس بشكل كبير وهو ما يضفي عليه طابعاً حمائياً عالياً ويحد من إمكانيات اندماجه تجارياً مع المنطقة. ومن هنا فإن مصلحة الاقتصاد الإسرائيلي لا تتمثل في تحرير التجارة في المنطقة، وإنما في القيام بدور الوسيط الذي يقوم بتسويق المنطقة للخارج (وخصوصاً في برامج السياحة)، بالإضافة إلى تسويق الخارج للمنطقة، وهو الأهم للمنطقة، عن طريق استثمار علاقات إسرائيل مع الولايات المتحدة وأوربا (أو حتى مجرد الإيحاء بأنها تستطيع التسويق لخارج المنطقة). كل هذا يعني أن الدولة الوظيفية القتالية أصبحت دولة وظيفية ربوية.

إن من الخطأ الشديد تهميش أهمية ومعاني البُعدين السياسي والأمني في تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، وتكشف المبالغة في أهمية مدلولات البُعد الاقتصادي للتسوية عن غياب الإلمام الكافي ببنية الاقتصاد الإسرائيلي وتوجهاته وتحولاته، وخصوصاً أن المردود الاقتصادي للتسوية السياسية على إسرائيل لا ينحصر في حدود علاقتها بالمنطقة، بل يتعدى ذلك إلى توطيد وتوسيع علاقاتها بمراكز الاقتصاد العالمي، وربما كان هذا هو الجانب الأهم من زاوية رؤية الدولة الإسرائيلية لمستقبلها، حيث تستمر في أداء وظيفتها كوكيل للقوى الدولية للمحافظة على مصالحها في المنطقة.

ويمكن القول بأنه رغم طموح اليمين الإسرائيلي للاستفادة من مكاسب تطبيع العلاقات الاقتصادية مع العرب، إلا أن برنامجه السياسي، الذي لا يعطي أولوية للطرح الشرقأوسطي، يُعرْقل عملية التطبيع الاقتصادي مع العرب، وينشط العلاقات مع الدول الغربية بالإضافة إلى الدول النامية الأكثر تقدُّماً مثل كوريا الجنوبية والهند والصين.

أما على المستوى الدولي، فتركز الاتجاهات الرامية لتطبيع الاقتصاد الإسرائيلي على مستقبل التدفقات الرأسمالية على إسرائيل في مرحلة ما بعد انتهاء، أو على الأقل احتمال انخفاض، المعونات. حيث تسعى إسرائيل حالياً لجذب نوع مختلف من رؤوس الأموال سواء في شكل استثمارات أجنبية مباشرة FDI أو في شكل استثمارات فيحوافظ الأوراق المالية (بالإنجليزية: بورتفوليو إنفستمنت Portfolio Investment)، وفي هذا الإطار تم إنشاء ما يُعرَف بصندوق إسرائيل الأول الذي بدأ طرح أوراقهالمالية في البورصات منذ أكتوبر 1992.

ولكن الاقتصاد الإسرائيلي سيظل في حاجة ماسة إلى المعونات، وفي هذا الصدد تثير إسرائيل قضية الذهب الألماني في المصارف السويسرية بهدف الحصول على مساعدات وتعويضات تصل إلى حوالي 40 مليار دولار خلال السنوات العشر القادمة.

وتتركز تجارة إسرائيل الخارجية مع الدول الغربية، ففي عام 1994 استوعبت سوق الولايات المتحدة 31% من صادرات إسرائيل وغطت 18% من الواردات الإسرائيلية، وبلغت النسبتان 29.2% و53.6% لدول الاتحاد الأوربي. وبقدر ما تتيحه هذه العلاقة الاقتصادية من فرص لتعظيم قدرة إسرائيل الاقتصادية، بقدر ما تكشف عن قدر الضـغط الــذي يسـتطيع شركـاء إسرائيل أن يمارســوه عليـها لتستمر الدولة الوظيفية داخل الإستراتيجية المعدة لها.

ومن المؤكد أن هذه التوجهات، التي يتبناها حالياً جهاز الدولة في إسرائيل، لا تتعارض فقط مع أدبيات الصهيونية العمالية، وإنما تصطدم أيضاً بمصالح فئات عديدة داخل المجتمع الإسرائيل وخارجه، الأمر الذي ينقل المناظرة حول تطبيع الاقتصاد الإسرائيلي إلى مستوى أكثر تركيباً، حيث يصبح السؤال: هل مستقبل الدولة مرهون بالتخلي عن المشروع الصهيوني؟ أم أن الفترة القادمة ستشهد صيغة تلفيقية، ولا نقول توفيقية، تجمع بين صهيونية الخطاب وبعض الممارسات، على الصعيد السياسي والعسكريمثلاً، وتدويل الممارسات الاقتصادية، وهو ما تحاول إسرائيل أن تقدمه حالياً؟ وفي هذه الحالة فإن التساؤل يثور حول إمكانية نجاح مثل هذا النموذج.

فهذا النموذج، الذي سيستمر في إسرائيل حتى بداية القرن الواحد والعشرين على الأقل، لا يعدو أن يكون مجرد مسكن لا علاجاً للأزمة، وهو يحوي من التناقضات ما يجعله غير قادر على الاستمرار. فالمنطق الاقتصادي الجديد، والتطبيع بمستوياته الثلاثة، يقتضي إجراء مجموعة من التنازلات السياسية لإيجاد مناخ يسمح بتدفق رؤوس الأموال (غير المسيَّسة) سواء لتمويل الخصخصة، أو في شكل استثمارات جديدة تنهي حالة الركود والتضخم، ناهيك عن دفع التعاون الإقليمي، الأمر الذي يتعارض بطبيعة الحال مع صهيونية الخطاب والممارسة السياسية.

ومن ناحية أخرى، فإن الخروج من الأزمة التي يمر بها الاقتصاد الإسرائيلي، وهي في أحد أبعادها جزء من أزمة النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي الناجمة عن اتجاه معدل ربحية رأس المال نحو التناقص بشكل مستمر، قد يقتضي الاستمرار في السيطرة على الأراضي المحتلة، وهو ما يتعارض بدوره مع تقديم تنازلات سياسية لجذب رؤوس الأموال.

ومن هنا، فإن بنود الأجندة الاقتصادية التطبيعية لا تتناقض في مجموعها مع الأجندة السياسية المتشددة وحسب، وإنما تتناقض أيضاً مع بعضها البعض! ويتضح هذا التناقض بجلاء من تأمل الأجندة الاقتصادية التي أعلنها الائتلاف الحاكم في إسرائيل وما تعهَّد به من الاستمرار في الاستيطان وعدم المساس بمخصصات التعليم، في الوقت الذي سيتم فيه خفض الضرائب وتقليص عجز الموازنة العامة! والواقع أن تنفيذ هذه التعهدات (التي تعني زيادة النفقات العامة وخفض الإيرادات العامة) في وقت واحد يكاد يكون مستحيلاً من الناحية العملية.

هذه المجموعة المركبة من التناقضات تشير إلى عمق الأزمة التي يمر بها الاقتصاد الصهيوني، فاستمرار نموذج الصهيونية العمالية الذي ساد منذ العشرينيات مستحيل، وتطبيع الاقتصاد الإسرائيلي يهدِّد خصوصيته الصهوينية، وخصوصاً أن المنطق الاقتصادي لا يعمل في فراغ، وإنما تصطدم الأجندة الاقتصادية بأجندات أخرى سياسيةوعسكرية واستيطانية، الأمر الذي يكشف مدى هشاشة النموذج الذي يحاول الالتفاف حول المعضلة الأساسية التي تفرض نفسها على الاقتصاد الإسرائيلي وتحتِّم عليه الاختيار بين أن يكون اقتصادياً، أي نمطاً رشيداً لتخصيص الموارد، وبين أن يكون صهيونياً.

الاقتصاد الإسرائيلي عام 1997

Israeli Economy 1997

يمثل عام 1997 نقطة تحول أساسية في الأداء الاقتصادي الإسرائيلي. فبعد فترة الانتعاش التي شهدها الاقتصاد الإسرائيلي خلال النصف الأول من التسعينيات، تراجعت معدلات النمو بشكل حاد لتبلغ 2.5% عام 1997، وارتفعت معدلات التضخم والبطالة لتصبح 12% و8% على التوالي، الأمر الذي يهدد بعودة حالة التضخم الركودي Stagflation التي عاشتها إسرائيل منذ منتصف السبعينيات، ويطرح - من ناحية أخرى - التساؤل حول أسباب هذه الأزمة، ومدى قدرة الاقتصاد الإسرائيلي على تجاوزها في المدى القريب.

ولا يمكن في الواقع إدراك أبعاد هذه الأزمة إلا في إطار خاصيتين أساسيتين حكمتا أداء الاقتصاد الإسرائيلي عبر مراحل تطوره المختلفة منذ إنشاء الدولة. ويمكن إجمالهما فيما يلي:

1 - هيمنة الأيديولوجيا على الاقتصاد وإعطاء الاعتبارات المتعلقة باستيعاب المهاجرين وبناء الدولة أولوية عن الاعتبارات الاقتصادية المحضة. كل هذا يفسِّر من ناحية التضخم المفرط في الإنفاق الحكومي على مشاريع البنية الأساسية اللازمة لاستيعاب المهاجرين والاستيطان خلال مرحلة النمو السريع للاقتصاد الإسرائيلي (1954 - 1973)، ويفسِّر من ناحية أخرى عجز حكومة الليكود الأولى عن خفض العجز في الميزانية نظراً لتزايد الإنفاق الحكومي لتمويل النشاط الاستيطاني، ثم الحرب في لبنان.

كما تظهر هذه المشكلة بجلاء في التناقضات التي تحتويها عناصر الأجندة الاقتصادية للائتلاف الحاكم، وما تعهد به من الاستمرار في الاستيطان، وعدم المساس بمخصصات التعليم ومخصصات المعاشات في الوقت الذي سيتم فيه خفض الضرائب وتقليص العجز في الموازنة العامة. ومن الواضح أن تنفيذ هذه التعهدات التي تعني زيادة النفقات العامة وخفض الإيرادات العامة في وقت واحد وهو أمر مستحيل من الناحية العملية. كل هذا يعكس تخبط الائتلاف الحاكم بين الاعتبارات الاقتصادية التي تحتم خفض العجز في الموازنة وبين الاعتبارات السياسية ومطالب الأحزاب الأعضاء في الائتلاف.

2 - ارتبطت فترات النمو في الاقتصاد الإسرائيلي بالأساس ببتدفقات البشر (عن طريق الهجرة) والأموال (عن طريق المعونة)، أو العمل ورأس المال بالتعبير الاقتصادي من الخارج، فيرى الاقتصادي الإسرائيلي يورام بن بورات أن 75% من النمو الذي شهده الاقتصاد الإسرائيلي تم بفضل المعدلات المرتفعة لنمو عوامل الإنتاج (رأس المال والعمل) و25% منه فقط بسبب التحسن في الكفاءة الإنتاجية.

ويفسِّر ذلك نجاح إسرائيل في تنفيذ استثمارات ضخمة على الرغم من وجود إدخار محلي سالب في أغلب الفترات، فقد كانت التدفقات الخارجية للمساعدات هي الوسيلة الأساسية لسد الفجوة بين الاستثمار والإدخار، وهي التي مكَّنت إسرائيل من تحقيق مستوى معيشي مرتفع على الرغم من المعدلات المرتفعة لتزايد السكان - بفعل الهجرة - والزيادة المطردة في الإنفاق العسكري.

ومن ناحية أخرى - وبنفس المنطق - فقد كانت الهجرة الكبيرة لليهود من الاتحاد السوفيتي في أوائل التسعينيات، وضمانات القروض التي حصلت عليها إسرائيل من الولايات المتحدة لتوطينهم هي المحرك الرئيسي للنمو الذي شهدته إسرائيل منذ أوائل التسعينيات، والذي انتشلها بشكل مؤقت من حالة الركود التضخمي التي كانت تسيطر عليها.

فمع بداية التسعينيات، نجح الاقتصاد الإسرائيلي في تحقيق واحداً من أعلى معدلات النمو في العالم في هذه الفترة، حيث بلغ في المتوسط 5.5% خلال الفترة من 1990 - 1996، ويرجع هذا النمو بالأساس - كما هو الحال في فترات النمو السابقة التي شهدها الاقتصاد الإسرائيلي - إلى النمو في عوامل الإنتاج (العمل ورأس المال). فبالنسبة للعمل، شهدت هذه الفترة آخر موجات الهجرة الكبيرة التي تدفقت على إسرائيل، الأمر الذي ساهم في تنشيط الطلب على العديد من السلع والخدمات (مثل السلع المعمرة والإسكان)، وأعطت دفعة كبيرة لقطاع البناء الذي نما بمعدلات متسارعة.

وعلى صعيد رؤوس الأموال، فقد اعتمدت إسرائيل في البداية على ضمانات قروض الإسكان التي قدمتها حكومة الرئيس الأمريكي بوش (10 مليار دولار) لتوطين المهاجرين، ومنذ عام 1994، انعكس التقدم في عملية السلام على زيادة قدرة الاقتصاد الإسرائيلي على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة FDI والتي تجاوزت لأول مرة في تاريخ إسرائيل المليار دولار عام 1995.

كما اقترنت هذه الفترة من النمو أيضاً بتضخم الإنفاق الحكومي للمساعدة على استيعاب المهاجرين من ناحية، ثم في فترة لاحقة لاعتبارات انتخابية، فقد قام إفرايم شوحاط وزير المالية في حكومة حزب العمل بزيادة الإنفاق على الرواتب والتأمينات الاجتماعية والمعاشات للعاملين سعياً لاجتذاب أصواتهم في انتخابات عام 1996، كما تعهدت حكومة حزب العمل بعدم المساس بالمخصصات المالية للمعاشات.

وهكذا جاءت حكومة الليكود الحالية لتحصد ثمار الأداء الاقتصادي لحكومة العمل، والتي تتمثل في ارتفاع عجز الموازنة، وزيادة معدلات التخضم (12% عام 1997) نتيجة للتوسع في الإنفاق الحكومي، في الوقت الذي كانت فيه معدلات الهجرة تتراجع ومعها معدلات النمو التي بلغت 2.5% عام 1997، كما زادت نسبة البطالة إلى 7.6% عام 1996 ثم 8% عام 1997، وانخفضت معدلات الاستثمار بنسبة 9% خلال عام 1997، وتراجعت الواردات من السلع الرأسمالية (لتعكس توقعات رجال الأعمال السلبية حول احتمالات عودة الانتعاش الاقتصادي)، الأمر الذي هدَّد بعودة حالة التضخم الركودي التي شهدتها إسرائيل منذ منتصف السبعينيات.

والواقع أن الليكود واليمين الإسرائيل يتبنيان تقليدياً برنامجاً اقتصادياً محافظاً يركز على خفض عجز الموازنة والميزان التجاري، بل إن أول حكومة ليكودية في تاريخ إسرائيل وصلت إلى السلطة كما سبق أن أشرنا في أعقاب فترة التضخم الركودي التي شهدتها إسرائيل بعد عام 1973.ويتميَّز برنامج الحكومة الحالية بتركيزه على إحداث تغيير جذري في بنية الاقتصاد الإسرائيلي يشمل تغيير تركيبة الأجور، وزيادة المنافسة في الأسواق، وتطوير سوق رأس المال، وتشجيع الاستثمارات الأجنبية والصناعات التصديرية، الأمر الذي لا يتم - من وجهة نظر الحكومة الحالية - إلا بتقليص حجم القطاع الحكومي ودور الحكومة في النشاط الاقتصادي وخصخصة الشركات المملوكة ملكية عامة.

وقد شكَّل بنيامين نتنياهو فور توليه رئاسة الوزراء لجنة وزارية للخصخصة تضم رئيس الوزراء ووزيري المالية والعدل ومحافظ بنك إسرائيل، بالإضافة إلى إنشاء مجلس اقتصادي اجتماعي برئاسة يعقوب فرانكل محافظ بنك إسرائيل يتبع مكتب رئيس الوزراء، الأمر الذي يعكس حرص نتنياهو على أن يكون تحرير الاقتصاد الإسرائيلي وخصخصته خاضعين لإشرافه المباشر.

غير أن قدرة السياسات التي تتبعها الحكومة الحالية على احتواء الأزمة الاقتصادية وإنعاش الاقتصاد الإسرائيلي مرة أخرى تظل محدودة، نظراً للاعتبارات التالية:

1 - طبيعة التوازنات السياسية في الائتلاف الحاكم، ففي الوقت الذي تحاول فيه حكومة اللكيود أن تتبع سياسات مالية انكماشية لخفض العجز في الموازنة تجد نفسها مضطرة إلى تقديم تنازلات عديدة وزيادة الإنفاق الحكومي في بعض المجالات لإرضاء شركائها في الائتلاف الذين يمارسون ضغوطاً عديدة لزيادة المخصصات المالية لهم، فعلى سبيل المثال اضطرت الحكومة لكي تتمكن من تمرير موازنة عام 1997 إلى زيادة المخصصات المالية لاستيعاب المهاجرين بمقدار 72 مليون شيكل إرضاءً لحزب إسرائيل بعالياه، وزيادة المخصصات للأحزاب الدينية بمقدار 36 مليون شيكل... إلخ.

2 - دور الهستدروت الذي يعارض أي مساس بمخصصات المعاشات، وقد نظم إضرابين عامين في النصف الأخير من عام 1997 شارك في كل منهما أكثر من نصف مليون إسرائيلي احتجاجاً على محاولات الحكومة تقليص هذه المخصصات في إطار سياساتها المالية الانكماشية. والواقع أن المواجهة بين الهستدروت والحكومة تكتسب - إلى جانب طابعها الاقتصادي المتمثل في الخلاف حول السياسات المالية وسياسة الخصخصة التي تتبعها الحكومة الحالية - أبعاداً سياسية نظراً لكون الهستدروت قاعدة الاقتصاد الصهيوني العمالي (الاستيطاني) ومركز التأييد التقليدي لحزب العمل.

3 - تضارب عناصر البرنامج الاقتصادي بسبب هشاشة الائتلاف الحاكم، وما تتيحه هذه الهشاشة للأحزاب الصغيرة من فرص لابتزاز الحكومة، على عناصر الأجندة الاقتصادية التي تقدمها الحكومة الحالية، وما تتعهد به من التوسع في الاستيطان (لإرضاء أحزاب كالمفدال مثلاً) واستيعاب المهاجرين (لإرضاء حزب إسرائيل بعالياه) في الوقت الذي ستقوم فيه بخفض الضرائب (لإنعاش الاقتصاد الإسرائيلي) وتقليص العجز في الموازنة العامة واحتواء التضخم، وهي أهداف تتطلب اتباع سياسات متعارضة، ويستحيل تحقيقها في آن واحد.

4 - تعارض الأجندة الاقتصادية مع الأجندة السياسية للائتلاف الحاكم، فبنود الأجندة الاقتصادية لا تتعارض مع بعضها البعض وحسب، وإنما تتعارض في مجموعها مع الأجندة السياسية القائمة على التوسع في الاستيطان والتشدد في عملية السلام. فالسياسات الاقتصادية الجديدة تقتضي إجراء مجموعة من التنازلات السياسية في عملية السلام لخلق مناخ يسمح بتدفق رؤوس الأموال غير المسيسة سواء للمساهمة في تمويل الخصخصة، أو في شكل استثمارات جديدة تنهي حالة الركود التضخمي، ناهيك عن دفع التعاون الاقتصادي الإقليمي، الأمر الذي يتعارض بطبيعة الحال مع السياسات المتشددة للائتلاف الحاكم، والتي تسببت في هبوط معدلات الاستثمار في العامين الأخيرين، وتراجع عدد السياح لإسرائيل (اعتباراً من النصف الثاني من عام 1996). كما أن الحصار الذي فرضته إسرائيل على المناطق المحتلة يحرمها من جهود العمالة الفلسطينية ذات الأجر المتدني التي يكفل تشغيلها بأجور منخفضة ضمان حد معقول من الربحية لرأس المال ومن ثم حفز النشاط الاقتصادي.

5 - تراجع عناصر النمو الذي أصاب مصادره، بتراجع النمو في عوامل الإنتاج الذي شهدته إسرائيل في أوائل التسعينيات كما سبق وأشرنا، ومن غير المنتظر أن تشهدإسرائيل نمواً مشابهاً في عناصر الإنتاج على المدى القريب.

فمن غير المتوقع أن تشهد إسرائيل موجة هجرة كبيرة على غرار الموجة الأخيرة لهجرة اليهود السوفييت التي أدت إلى زيادة سكان إسرائيل بمعدل 3% سنوياً خلال الفترة من 1990 - 1995. بل إن الإحصاءات الأخيرة تشير إلى أنه منذ منتصف التسعينيات (أي بعد حركة الهجرة الأخيرة) أصبح تعداد يهود أوربا الشرقية لأول مرة في التاريخ أقل من تعداد نظرائهم في أوربا الغربية، وهو ما يعني أن المعين الرئيسي قد بدأ ينضب.

والخلاصة أن عام 1997 شهد بدايات تفجر أزمة الاقتصاد الإسرائيلي في إطار المشروع الصهيوني، والتي تحتم عليه الاختيار بين ضرورات البقاء الاقتصادي، وضرورات الوجود الاستيطاني. فالاقتصاد الإسرائيلي عليه، بعبارة أخرى، أن يختار بين أن يكون اقتصاداً رشيداً وبين أن يكون صهيونياً استيطانياً.

الصفحة التالية ß إضغط هنا