اللباب علل البناء والإعراب 3

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 260 ]

باب المصدر

المصدر مشتقٌّ مِنْ صَدَرت الإبل عن الماء إذا انصرفت ووَّلته صدروها وسمِّي بذلك لأنَّ الفعل صدر عنه هذا مذهب البصرييّن

وقال الكوفيُّون المصدر مشتق من الفعل والدليل على الأول أمران

أحدهما أنَّ المصدر يدلّ على الحدث فقط والفعل يدلُ على الحدث والزمان وما يدلُّ على معنى واحد كالمفرد وما يدلُّ على معنيِيْن كالمركَّب والمفرد قبل المركَّب

والثاني أنَّ المصدر جنس يقع على القليل والكثير والماضي والمستقبل فهو كالعموم والفعل يختصُّ بزمان معيَّن والعام قبل الخاصّ وقد شُبَّه المصدر بالنقرة من الفّضَّة في أنَّها فضَّة فقط وما يتخذ منها من مرآة أو قاروة ونحو ذلك بمنزلة الفعل من حيث أنَّ فيه ما في المصدر وزيادة كما أنَّ المرآة فيها الفضَّة والصورة المخصوصة

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 261 ]

واحتجّ الكوفيُّون بأنَّ الفعل يعمل في المصدر والعامل قبل المعمول وهذا لا يصلح دليلاً على ما ذهبوا إليه من وجهين

أحدهما أنَِّ الاشتقاق يوجد من جهة المعاني والتصريف لا من باب العامل والمعمول والثاني أنَّ الحرف يعمل في الاسم وليس الحرف مشتّقاً من الاسم وكذلك الفعل يعمل في الأعلام والأجناس التي ليست مصادر ولا يقالُ هي مشتقِّة منه

فصل

وإنَّما سمّي المصدر مفعولاً مطلقاً لوجهين أحدهما أنَّه المفعول على التحقيق ألا ترى أنَّ قولك ( ضربت ) أي أوجدت الضرب بخلاف قولك ضربت زيداً فإنك لم توجد زيداً وإنَّما أوجدت به فعلاً

والثاني أنَّ لفظ المصدر مجرَّد عن حرف جرّ فلا يقال ( به ) ولا ( فيه ) ولا ( له ) ولا ( معه ) وإنَّما كان كذلك لأنَّه لو قيل لك - وقد ضربت مثلاً - ما فعلت قلت الضرب وإذا قيل لك بمن أوقعت الضرب قلت بزيد فقيَّدته بالباء ولو قيل في أيِّ زمان أو في أيِّ مكان لقلت في يوم كذا وفي مكان كذا ولو قيل لأيِّ غرض لقيل لكذا وكذا فقد رأيت كيف تقيَّدت هذه المفاعيل بالحروف ما عدا المصدر

فصل

والمصدر يذكر لأحد أربعة اشياء

أحدها توكيد الفعل كقولك ضربت ضرباً ف ( ضرباً ) نائب عن قولك ( ضربت ) مَّرةً أخرى لأنَّ التوكيد يكون بتكرير اللفظ وإنَّما عدلوا إلى المصدر كراهية إعادة اللفظ بعينه ولأنَّ الفعل الثاني جملة والمصدر ليس بجملة فكان أخصر وأبعد من التكرير والثاني أن يذكر لبيان النوع كقولك ضربت ضربا شديدا ذكرت ( ضرباً ) لتصفه بالشدَّة التي يدلُّ عليها الفعل

والثالث أن يذكر لتبيين العدد ويحتاج فقي ذلك إلى زيادة على المصدر وتلك الزيادة ( تاء ) التأنيث ) نحو قولك ضربت ضربة فإنَّ التاء تدلُّ على المرة وهنا يثنَّى ويجمع نحو ضربتين وضربات لأنَّ لفظ الفعل لا يدل على العدد فذكر المصدر لتحيل هذه الزيادة

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 262 ]

بالباء لو قيل في أيَّ زمان أو في أيَّ مكان لقلت في يوم كذا وفي مكان طذا لو قيل لأيَّ غرض لقيل لكذا وكذا فقد رايت كيف تقيَّدت هذه المفاعيل بالحروف ما عدا المصدر

فصل

والمصدر يذكر لأحد أربعة اشياء أحدها توكيد الفعل كقولك ضربت ف ( ضرباً ) نائب عن قولك ( ضربت ) مَّرةً أخرى لأنَّ التوكيد يكون بتنكير اللفظ وإنَّما عدلوا إلى المصدر كراهية إعادة اللفظ بعينه لأنَّ الفعل الثاني جملة والمصدر ليس بجملة فكان أخضر وأبعد من التكير والثاني أن يذكر لبيان النوع كقولك ضربت ضربا شديدا ذكرت ( ضرباً ) لتصفه بالشدَّة التي يدلُّ عليها الفعل والثالث أن يذكر لتبيين العدد ويحتاج في ذلك إلى زيادة على المصدر وتلك الزيادة ( تاء التأنيث ) نحو قولك ضربت ضربة فإنَّ التاء تدلُّ على المرة وهنا يثنَّى ويجمع نحو ضربتين وضربات لأنَّ لفظ الفعل لا يدلُّ على العدد فذكر المصدر لتحصيل هذه الزيادة

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 263 ]

والرابع أنْ يذكر المصدر لينوب عن الحال كقولك قتلته صبراً أي مصبوراً أو محبوساً ويذكر في باب الحال

فصل

وتقوم الآلة مقام المصدر كقولك ضربته سَوْطاً ف ( سوط ) هنا اسم للضربة بالسوط وإنَّما جاز ذلك لم بين الفعل والآلة من الملابسة وحصل من هذا شيئان الاختصار والتنيبه على أنَّ الفعل كان بالآلة المخصوصة ولولا ذلك لقلت ضربته ضربةً بسوط وليس السوط ههنا منصوباً على تقدير حذف حرف الجرّ لثلاثة أوجه

أحدها أنَّ حذف الحرف ليس بقياس والثاني أن في قولك ( سوطاً ) دلالة على المرّة الواحدة ألا ترى أنَّك تقول ضربته أسواطاً ولو كانت الباء مرادة لم تدلّ على ذلك

والثالث أنَّك تقول ضربته مائة سوط ولا تريد مائة ضربة بسوط إذ لو أردت ذلك لكان المعنى أنَّ جميع الضربات بآلة واحدة وليس المعنى عليه بل يقول ضربته مائة سوط وإن كانت كلُّ ضربة بآلة غير الآلة الأخرى

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 264 ]

فصل

والعددُ المضاف إلى المصدر ينتصب نصب المصدر كقولك ضربته ثلاث ضَرَبات لما بين العدد والمعدود من الملابسه والاتِّصال وكذلك صفة المصدر إذا أضيفت إليه كقولك سرت أشدّ السير لأْنَّ الصفه هي الموصوف في المعنى وأنما قدّمت لتدلَّ على المبالغه

فصل

ولا يثنَّى المصدر ولا يجمع ما دام جنساً لدلالته على جميع أنواع الحدث وإنَّما يثنَّى ويُجمع ما لا يدُلَّ واحدُهُ إلاَّ على مقدار واحد فإنْ اختلفت أنواعُه ثُني وجمع لأنَّ كلّ نوع منها متّميِّز عن الآخربصفه تخصُّه فيصير بمنزلة أسماء الأعلام وكذلك إن زيد فيه ( تاء التأنيث ) كالضربة فإنه يدلُّ على الواحد لا غير فإذا وجدت فيه أعداد احتيج إلى ما يدلُّ عليها

فصل

وأمَّا قولهم ( قعد القرفصاء ) و ( اشتمل الصماء ) فاختلفوا في الاسم المنصوب هنا على ثلاثة أقوال

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 265 ]

أحدهُا أنَّه منصوب بالفعل الذي قبله لأنَّ ( القرفصاء ) نوع من القعود و ( الصمَّاء ) نوع من الاشتمال فإذا عمل ( قعد ) في القعود الجامع لأنواعه كان عاملاً في نوع منه لدخوله تحت الجنس هذا قول سبيويه

ومن البصرييَّن من قال هو صفة لمصدر محذوف تقديره ( القعدة القرفصاء ) فعلى هذا في الكلام حذفٌ ولكنَّ العاملَ في الصفة العامل في الموصوف غير أنَّه بواسطة

ومن النحويَّين من قال ينتصب بفعل محذوف دلَّ عليه ( قعد ) تقديره تقرفص القرفصاء وفي ذلك تعسُّف مستغنى عنه لأنَّ ( تقرفص ) لو استعمل لكان بمعنى ( قعد ) فإذا وجدت لفظة ( قعد ) كانت أولى بالعمل إذ هي أصل ( تقرفص )

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 266 ]

فصل

ومن ذلك ( أبغضه كراهية ) و ( أعجبني حبّاً شديدا ) فالاسم هنا يتنصب بالفعل الذي قبله لأنَّه يقرب من معناه

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 267 ]

باب المفعول به

قد ذكرنا في باب الفاعل علَّة انتصاب المفعول والكلام في هذا الباب في أقسام الفعل في اللزوم والتعدِّي وهو على ضربين لازم ومتعدّ

فاللازم مالا يفتقر بعد فاعله إلى محلٍّ مخصوص يحفظه كقولك قام وجلس وأحمرَّ وتدحرج فإن اتَّصل به جارّ ومجرور كقولك ( جلست إليه ) كان الجارّ والمجرور في موضع نصب كأنَّك قلت أتيته وعاشرته ونحو ذلك

وأمَّا المتعَّدي فما افتقر بعد فاعله إلى محلٍّ مخصوص يحفظه وذلك على ثلاثة أضرب

أحدها لم تستعمله العرب إلاَّ بحرف جرّ كقولك مررت بزيد ف ( مررت ) يفتقر إلى مَمْرورٍ به ولكنْ لم يستعمل إلاَّ بالباء وكذلك عجبت من زيد فإنْ جاء في الشعر شيء بغير حرف فضرورة

والضرب الثاني يستعمل بحرف جرٍّ تارةً وبغير حرف جرٍّ أخرى وكلّ ذلك اختيار كقولك نصحت لك ونصحتك ففي الموضع الذي استعمل بغير حرف

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 268 ]

لا يقال حذف الحرف منه لأنَّ حذف حرف الجرّ ليس بقياس وفي الموضع الذي ذكر لا يقال هو زايد لأنَّ زيادة الجارّ ليست بقياس أيضاً وإذا جاء الأمران في الاختيار دلّ على أنَّهما لغتان

والضرب الثالث ما يتعدى بنفسه وهو علىثلاثة أضرب أحدُها يتعدى إلى واحد ك ( ضربت زيدا ) ونحوه من أفعال العلاج وك ( أبصرت زيداً ) وغيره من أفعال الحواس فأمّا ( سمعت ) فالقياس أن يتعدّى إلى واحد ممَّا يسمع كقولك سمعت قولك وصوتك فأمَّا قولُهم سمعنا زيداً يقول ذلك ف ( زيد ) هنا لّما كان هو القائل واتَّصل به ما يدلُ على المسموع جُعل مفعولاً أوَّل و ( يقول ) في موضع المفعول الثاني لأنَّ القول والقائل متلازمان فأمَّا قوله تعالى ( هل يَسمعونَكُم إذْ تَدعُونَ ) ففيه قولان

أحدهما أنَّ التقدير هل يسمعون دعاءكم كما قال في الأخرى ( لا يسمعوا دعاءكم ) والآخر أنَّ المفعول الثاني محذوف أي يسمعونكم إذ تدعون

والضرب الثاني متعدًّ إلى مفعولين فمنه ( ظننت وأخواتها ) وقد ذُكرت

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 269 ]

ومنه متعدٍّ إلى مفعولَيْن ثانيهما غير الأوَّل نحو أعطيت زيداً درهماً لأنَّ الإعطاء يقتضي آخذا ومأخوذاً ويجوز تقديم أحدهماعلى الآخر إلا أن يؤدِّي إلى اللبس كقولك أعطيت زيدا عمراً فكل واحد منهما يصلح أن يكون آخذاً وأن يكون مأخوذا فإذا لم يبن أحدهما من الآخر إلا بتقديم الآخذ لزم تقديمه كما يلزم في الاسمين المقصورين أن يتقدّم الفاعل

فصل

وقد يكون الفعل متعدياِّ إلى مفعول واحد بنفسه وإلى آخر بحرف الجرِّ ثمَّ يحذف الحرف فيتعدى إليه الفعل بنفسه كقوله تعالى ( واختارَ موسى قومَه سبعينَ رجلاً ) والتقدير من قومه فأن قيل لم لا يكون الثاني بدلاً من الأوَّل قيل لأنَّ الاختيار يقتضي أن يكون المختار بعضاً من كلٍّ لأنَّ ما هو واحد في نفسه لا يصحُّ اختياره وإذا لم يكن بدٌّ من مختار منه لم يصحّ البدل ومن ذلك قولهم 48 -

( أمرتك الخير ... ) - البسيط - أي بالخير وأمَّا قوله تعالى ( فاصدَعْ بِما تُؤمَر ) ففيه وجهان أحدُهما أنَّ ( ما ) مصدريَّة أي بالأمر وهو المأمور به

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 270 ]

والثاني هي بمعنى ( الذي ) فتقديره بالذي تؤمر بالصدع به ( ثم ) حذفت ( الباء ) ووصل الضمير فصار ( بصدعه ) ثَّم حذف ( الصدع ) فصار ( تؤمر به ) ثم حذفت الباء والهاء دفعة واحدة في قول سيبويه وعلى قول الأخفش حذف ( الباء ) فصار ( تؤمره ) ثمَّ حذفت الهاء

فصل

فيما يعدّي الفعل وهي خمسة الهمزة كقولك فرح زيد وأفرخته وتشديد العين كقولك فرَّحته ومعناها واحد والباء كقولك فرحت به ومعناه غير معنى الأوليَّن والتمثيل المطابق للأوَّلين ذهبت بزيد أي أذهبته كقوله تعالى ( ولو شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ ) وسين استفعل وزائدها وهما الهمزة والتاء كقوله خرج الشيء واستخرجته وألف المفاعلة نحو جلس زيدٌ وجالسته وقربت من البلد وقاربته

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 271 ]

باب المفعول فيه

وهو الظرف وهو أسماء الزمان والمكان وسَّميت بذلك لأنَّ الأفعال تقع فيها وتحلُّها ولاتؤثرّ فيها فهي كالإناء والحالُّ فيه غيرُه ولذلك سمَّاها بعضهم ( أوعيهً ) وبعضهم ( محالَّ )

فصل

والذي يطلق عليه ( الظرف ) عند النحويِّيِن ما حَسُنَ فيه إظهارُ ( في ) وليست في لفظه لأنَّ الحرف الموضوع لمعنى الظرفيه ( في ) فإذا لم تكن ودلَّ الاسم عليها صار مسمَّى بها

فصل

ولم يبن الظرف لأنَّه لم يتضمَّن معنى ( في ) بدليل صحَّة ظهورها معه ولو كان متضمِّناً معناها لم يصحّ إظهارها معه كما لا يصحُّ ظهور الهمزة مع ( أين ) و ( كيف ) وإنَّما حذفت ( في ) للعلم بها

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 272 ]

فصل

وإنَّما عمل الفعل في جمبع اسماء الزمان لأنَّ صيغة الفعل تدلُّ عليه كما تدلُّ على المصدر إلاَّ أنَّ دلالتها على الزمان من جهة حركاته وعلى المصدر من جهة حروفه وكلاهما لفظ

أحدهما أنَّها تخصُّ جزءاً من الجهة التي تدلُّ عليها ك ( الأمام ) فإنَّه لا يتناول بعض ما قابلك بل يقع علىتلك الجهة إلى آخر الدنيا كما أنَّ ( قام ) يدلُّ على ما مضى من الزمان من أوَّله إلى وقت إخبارك كذلك ( يقوم ) يصلح للزمان المستقبل من أوَّله إلى آخره والثاني أنَّ هذه الجهات لا لبث لها إذْ هي بحسب ما تضاف إليه وتتبدل بحسب تنقُّل الكائن فيها فقولك ( خلف زيد ) يصير أماماً له عند تحوّله أو يميناً له أو يساراً و ( خلف زيد ) هو أمامٌ لعمرو ويمينٌ لخالد ويسارٌ لِبِشْرٍ كما أنَّ الزمان لا لبث له بخلاف المكان المختصّ فإنَّه بمنزلة الأشخاص إذ كان بجثّة محددة كالدار والبصرة فمن هنا لا تقول جلست الدار كما تقول جلست خلفك

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 273 ]

فأمَّا قولهم هو منِّي مَنَاظَ الثريا ومزجر الكلب إذا أرادوا البعد ومقعد القابلة ومقعد الإزار ففيه وجهان أحدُهما أنَّ الأصل فيها تستعمل ب ( في ) لكنَّهم حذفوها تخفيفاً كما قالوا 49 -

( أمرتك الخير ... ) - البسيط -

والثاني أنَّ هذه الأمكنة لّما أُريد بها المبالغة ولم يقصد بها أمكنة معيَّنة محدودة صارت كالأمكنة الْمُبْهمة

مسألة

تقول دخلت البيت بغير في ) واختلف النحويُّون فيه فقال سيبويه هو لازم وإنَّما حذفت ( في ) تخفيفا لكثرة الاستعمال وقال الجرميُّ هو متعدٍّ مثل ( بنيت ) و ( عمرت ) ونحو ذلك

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 274 ]

أحدُها أنَّه لو كان متعدَّياً هنا لكان متعدياً في كلّ موضع صحَّ معناه فيه وليس الأمر على ذلك ألا ترى أنَّك تقول دخلت في هذا الأمر ولو قلت دخلت الأمر لم يستقم مع أنَّ معناه لابستُ الأمر ووليته

والوجه الثاني أنَّك تقول دخلنا في شهر كذا و ( في ) هنا غير زائدة لأنَّهم لم يستعملوه بغير ( في ) ولأنَّ الأصل ألاَّ يزاد حرف الجرّ

والثالث أنَّ مصدر دخلت ( الدخول ) وكلّ مصدر كان على ( فعول ) ففعله لازم كالجلوس والقعود

والرابع أنَّ نظيره ( غُرْتُ وغُصْتُ وغِبْتُ ) وكلّها لازم ونقيضه ( خرجت ) وهو لازم أيضاً وذلك يُؤنِسُ بكون ( دخلت ) لازماً

فصل

يجوز أن يجعل ظرف الزمان والمكان مفعولاً به على السَّعة وتظهر فائدته في موضعين

أحدُهما أن تضيف إليه كقولهم 50 -

( يا سارق الليلةِ أهل الدارْ ... ) - الرجز

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 275 ]

كما تقول يا سارق ثوبِ زيد ولا يجوز أن يكون هنا ظرفاً لأنَّ ( في ) مع الظرف مقدَّرة وتقدير ( في ) يمنع الإضافة

والثاني أنَّك إذا أخبرت عنه - وهو مفعول به - لم تأت بحرف الجرّ مع ضميره كقولك يوم الجمعة سرته فإن جعلته ظرفاً قلت سرت فيه

وإنَّما جاز حذف ( في ) مع الظرف دون ضميره لأنَّ لفظ الظرف يدلُّ على الحرف إذ كان صريحاً في الظرف والضمير لا يختصُّ بالظرف بل يصلح له ولغيره وأمّا قول الشاعر

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 276 ]

-

( فلأبغينَّكُمُ قَناً وعُوارضا ... ولأقبلنَّ الخيل لابةَ ضَرْغَدِ ) - الكامل - ف ( قنا ) و ( عوارض ) و ( لابة ضرغد ) أمكنة معينَّة وعدَّى الفعل إليها بنفسه كما عدَّى ( دخلت ) بنفسه وقيل جعلها مفعولاً بها على السعة

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 277 ]

باب المفعول له

من شرط المفعول له أن يكون مصدراً يصحّ تقديره باللام التي يعلّل بها الفعل والمفعول له هو الغرض الحامل على الفعل ولّمَّا كان كّل حكيم وعاقل لا يفعل الفعل إلاَّ لغرض جُعلُ ذلك الغرضُ ( مفعولاً من أجله ) وهو منصوب بالفعل الذي قبله لازماَ أو متعديِّا لأنَّ الفعل يحتاج إليه كاحتياجه إلى الظرف وكما حذف حرف الجرّ في الظرف جاز هنا ويجوز أن يكون المفعول له نكرةً بلا خلاف كقولك زرتك طمعاً فأمَّا المعرفة فذهب الجمهور إلى جواز جعلها مفعولا له ومنعه الجرميُّ والدليل على جوازه قول العجَّاج 52 -

( تركبُ كُلَّ عاقرِ جُمْهورِ ... مخافةً وزعل المحبورِ )

( والهولَ من تهوَّل الهُبور ... )

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 278 ]

و ( الهول ) هنا معطوف على ( مخافة ) ولأنّ الغرض قد يكون معروفاً عند المخاطب فإذا ذكر علم أنَّه المعهود عنده ولذلك تجوز المعرفة مع ظهور اللام كقولك ( أتيتك للطمع ولا فرق بين ظهور اللام وحذفه في المعنى ويجوز تقديم المفعول على الفعل لتصرّف العامل وأنّ المفعول له كالظرف في تقدير الحرف

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 279 ]

باب المفعول معه

كلُّ اسم وقع بعد الواو التي بمعنى ( مع ) وقبلها فعل وفاعل فذلك الاسم منصوب واختلفوا في ناصبه

فمذهب سيبويه والمحقِّقين انَّه الفعل المذكور كقولك ( قمت وزيداً ) فالناصب ( قمت ) لأنَّ الاسم منصوب والنصب عمل ولا بدَّ للعمل من عامل و ( الواو ) غير عاملة للنصب ولاشيء هنا يصلح للعمل إلاَّ الفعل

فإنْ قيل الفعل هنا لازم والواو غير معدِّية له إلى المنصوب قيل المتعدِّي إلى الاسم ما تعلّق معناه به والواو علقّت الفعل بالاسم فكان الناصب هو الفعل بواسطة الواو كما كان الفعل عاملاً في المستثنى بواسطة ( إلاَّ ) لأنَّها علَّقتْ الفعل بما بعدها ولم تصلح هي للعمل

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 280 ]

وقال الزجاج الناصب له فعل محذوف تقديره ( قمت ) أو ( لابست ) أو ( صاحبت ) زيداً ولا يعمل الفعل المذكور لحيلولة الواو بينهما وهذا ضعيف لأنَّ الفعل المذكور إذا صحَّ أن يعمل لم يُجْعَل العمل لمحذوف وقد صحَّ بما تقدَّم وأمَّا الواو فغير مانعة لوجهين

أحدُهما أنَّ بها ارتبط الفعل بالاسم فأثَّر فيه في المعنى فلا يمنع من تأثيره فيه لفظاً والثاني أنَّها في العطف لا تمنع كقولك ضربت زيداً وعمراً فالناصب ل ( عمرو ) الفعل المذكور لا الواو ولا فعلٌ محذوف

وقال الكوفْيُّون ينتصب على الخلاف وقد أفسدناه في باب ( ما ) ومعنى كلامهم أنَّ الاسم الثاني غير مشارك للأوَّل في الفعل المذكور فلم يرفع لذلك بل نصب كما ينصب المفعول للخلاف

وقال أبو الحسن الأخفش ينتصب الاسم انتصاب الظروف لأنَّه ناب عن ( مع ) كما أنَّ ( غيراً ) في الاستثناء تعرب إعراب الاسم الواقع بعد ( إلاّ ) وهذا ضعيفٌ لبعد ما بين هذه الأسماء وبين الظروف و ( مع ) ظرف و ( الواو ) قائمة

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 281 ]

مقامها في المعنى فإذن ليس في اللفظ ما يصلح أن يكون ظرفا ولا فرق بين تقوية الفعل بحرف الجرِّ والواو حتَّى يتَّصَل معناه بالاسم إلاَّ أنَّ حرف الجرِّ عمل والواو لا تعمل فكان وصول الفعل إلى الاسم بعد الواو كعمل الفعل في موضع الجارّ والمجرور

فصل

وإنَّما حذفت ( مع ) اختصاراً وتوسُّعاً وإنَّما أقيمت مُقامها دون غيرها لتقارب معناهما لأنَّ ( مع ) للمصاحبة و ( الواو ) للجمع والاجتماع مصاحبة

فصل

والفرق بين الرفع والنصب هنا انَّك إذا رفعت كان الاسم الثاني كالاوَّل في نسبة الفعل إليه وإذا نصبت كان الفعل للأوَّل ولكن تبعاً للثاني مثاله اذهب أنت وزيداً إذا رفعت كنت آمراً لهما بالذهاب وإن نصبت كنت آمراً للمخاطب دون زيد حتّى لو لم يذهب زيدٌ لم يلزم المخاطب الذهاب وإنَّما يلزمه متابعة زيد في الذهاب

وتقول كنت أنا وزيد أخوين إذا رفعت ثنَّيت الخبر وإذا نصبت لم تجز المسألة لأنَّك لو صرَّحت ب ( مع ) لم تجز التثنية كقولك كنت مع زيد أخوين

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 282 ]

فصل

ولايجوز تقديم المفعول معه على العامل فيه ولا على الفاعل كقولك والخشبة استوى الماء واستوى والخشبة الماء وإنَّ الواو ولإنَّ كانت بمعنى ( مع ) فمعنى العطف لا يفارقها فلو قُدِّمت لتقدَّم المعطوف على المعطوف عليه وذلك غير جائز في الاختيار

فصل

وإذا لم يكن فى الكلام فعلٌ لم يجز النصب فيما بعد الواو بمعنى ( مع ) لأنَّ الواو مقويَّةٌ للفعل حتَّى يصل إلى الاسم فيعمل فيه فإذا لم يكن فعل لم يكن عامل يقوَّي

وقد أجازوا النصب في موضعين أحدهما قولهم ما أنت وزيداً

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 283 ]

والثاني كنت أنت وزيداً فالرفع والنصب فيهما جائزان فالرفع على تقدير وما زيد فإنَّما تقول ذلك في المنع من التعُّرض به والنصب على تقديرما تكون أنت وزيداً وكيف تكون أنت وزيداً فأضمروا ( كان ) لكثرة دورها في الكلام ولذلك أضمروها في مواضع منها إنْ خيراً فخير

فصل

وأكثر البصريين يذهب إلى أنَّ هذا الباب مقيس لصحَّة المعنى فيه وتصوُّر عامل النصب وامتنع قوم منهم من القياس على المسموع منه لأنَّ إقامة الحرف مقام الاسم مع اختلاف معناهما وعملهما غيرُ مقيُس فيقتصر فيه على السماع

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 284 ]

باب الحال

الحالُ مؤنثة لقولك في تصغيرها ( حويلة ) وحقيقتها أنَّها هيئة الفاعل أو المفعول وقت وقوع الفعل المنسوب إليهما

وأصلها أن تكون اسماُ مفرداً لأنَّها تستحقُّ الإعراب وكلُّ معرب مفرد والأفعال ليست مفردة وإنّما لزم أن تكون نكرة لثلاثة أوجه

أحدها أنَّها في المعنى خبر ثان ألا ترى أنَّ قولك جاء زيدٌ راكباً قد تضمَّن الإخبار بمجيء زيد وبركوبه حال مجيئه والأصل في الخبر التنكير

والثاني أنَّ الحال جواب من قال كيف جاء و ( كيف ) سؤال عن نكرة

والثالث أنَّ الحال صفة للفعل في المعنى لأنَّ قولك جاء زيد راكباً يفيد أنَّ مجئيه على هيئة مخصوصة والفعل نكرة فصفته نكرة

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 285 ]

وإنَّما وجب أنْ تكون مشتقَّة لأنَّها صفة وكلّ صفة مشتقة فإنَّ وقع الجامد حالاً فهو محمول على المعنى كقولك هذا زيدٌ أسداً أي شجاعاً جزئياً و ( هذه ناقة الله لكم آيةً ) أي دالَّة معَّرفة وكذلك نظائره

وإنَّما لزم أن تكون منتقلة لأنَّها خبر في المعنى والأخبار تتجدَّد فيجهل المتجدِّد منها فتمسّ الحاجة إلى الأعلام به

وإنَّما قدرت ب ( في ) لأنَّها مصاحبة للفعل على ما ذكرنا والمصاحبة مقارنة الزمان وعلامة الزمان ( في ) وإنَّما لزم أن يكون صاحبها معرفة أو كالمعرفة بالصفة لأنَّها كالخبر والخبر عن النكرة غير جائز لأنَّه إذا كان نكرة أمكن أن تجري مجرى الحال صفة فلا حاجة إلى مخالفتها إيَّاه في الإعراب

وقد جاءت أشياء تخالف مأصَّلنا رُدَّت بالتأوليل إلى هذه الأصول فمن ذلك وقوع الحال معرفة كقولهم 53 -

( أرسلها العراك ... ) - الوافر

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 286 ]

والتحقيق أنَّ هذا نائب عن الحال وليس بها بل التقدير أرسلها معتركةً ثم جعل الفعل موضع اسم الفاعل لمشابهته إيْاه فصار ( تعترك ) ثمَّ جعل المصدر موضع الفعل لدلالته عليه ويدلُّ على ذلك أنَّ الحال وصفٌ وصيغ الأوصاف غيرُ صِيَغ المصادر

ومن ذلك رجع عودُه على بدئه ففي هذه المسألة الرفع والنصب ففي الرفع وجهان

أحدُهما هو فاعل - رجع ) والثاني هو مبتدأ و ( على بدئه ) الخبر وأمَّا النصب ففيه قولان

أحدُهما هو مفعول به أي ردّ عوده وأعاده كقوله تعالى ( فإنْ رجَعَك اللهُ )

والثاني هو حال والتقدير رجع عائداً ثمَّ يعود ثَّم عوده كما تقدَّم ومثل ذلك افعله جهدك أي مجتهداً ثَّم يجتهد قثَّم ثمَّ جهدك

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 287 ]

ومن ذلك كلَّمته فاه إلى فيَّ تقديره مكافحاً أو مشافهاً ثمَّ حذف هذا وجعل ( فاه إلى فيَّ ) نائباعنه ويجوز ( فوه إلى فيَّ ) والجمله على هذا حال

ومن ذلك مجيء صاحب الحال نكره كما جاء في الحديث ( ( فجاء رسول الله على فرس سابقاً ) في قول من جعله حالا من الفرس فإنْ كانت الرواية هكذا أمكن أن يكون ( سابقا ) حالاً من الفاعل وإنْ كانت الرواية لا يمكن فيها ذلك حُمل على مجيء الحال من النكرة والفرق بينها وبين الصفة أنّك لو قلت على فرس سابق فجررت جاز أن يكون معروفاً بالسبق ولا يكون سابقا في تلك الحال وإنْ نصبت لزم أن يكون سبق في تلك الحال

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 288 ]

ومن ذلك وقوع الجامد حالاً كقولك بيَّنت له حسابه باباً باباً والتقدير بيَّنته مفصلاً

ومن ذلك الحالُ المؤكدة كقوله تعالى ( وهو الحقّ مصدقاً لما معهم ) وقول الشاعر 54 -

( أناابنُ دارةَ مَعْروفاً بها نَسَبي ... فَهَل بدارةَ ياللنَّاسِ مِنْ عارِ ) - البسيط - وإنَّما كانت هذه الحال مؤكّدة لأن الحق لا يكون إلاَّ مصدِّقاَّ للحق وإنَّما جيء بها لشدَّة توكيد الحقّ بالتصريح المغني عن الاستنباط والعامل في هذه الحال ما في الجملة من معنى الفعل تقديره وهو الثابت مصدَقِّا وصاحب الحال الضمير في ثابت

فصل

والعامل في الحال ضربان فعلٌ ومعنى فعل فالفعل مثل أقبل وجاء ونحوهما فهذا يجوز فيه تقديم الحال على صاحبها وعلى العامل فيه لأنَّ العامل

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 289 ]

قويّ متصرّف والحال كالمفعول وقال الفرَّاء لا يجوز تقديمها لما يلزم من تقديم الضمير على ما يرجع إليه وهذا ليس بشيء لأنَّ النيَّة به التأخير فيصير كقولهم في أكفانه لُفَّ الميت ومنه قوله تعالى ( فَأوْجَسَ في نَفسِهِ خِفيةً موسى )

وأمَّا العامل المعنويّ فكأسماء الإشارة كقولك هذا زيد قائماً وإنَّما عمل لأنَّ معناه أُنَبِّهُ وأشير إليه في حال قيامه ولا يتقدم الحال على هذا العامل لأنَّه غير متصرف والتقديم تصُّرف فلا يستفاد بغير متصِّرف

وأما تقديمها على صاحب الحال فجائز كقولك هذا قائماً زيد لأنَّها بعد العامل فإنْ قيل هلاَّ عملت أسماء الأشارة في المفعول به قيل المفعول به غير الفاعل فلو عملت فيه أسماء الإشارة بمعناها لعملت فيه جميع الحروف نحو ( ما ) و ( همزة الاستفهام ) ومعلوم أنَّها لا تعمل فيه والعلَّة في ذلك أنَّ معنى الحرف في

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 290 ]

الاسم فلو عمل فيه بمعناه لصار العامل في الاسم المعنى القائم به ولأنَّ الحروف نابت عن الجمل فلو عملت كانت كالجمل

فأمَّا عمل المعنى في الحال فلأنَّها تشبه الظرف إذ كانت تقدّر ب ( في ) إلاَّ أنَّ الظرف قد يتقدم على العامل المعنويّ بخلاف الحال والفرق بينهما من وجهين أحدُهما أنَّ الحال تشبه المفعول به إذ كانت ظرفاً على الحقيقة والثاني أنَّها تشبه الصفة والعامل في الصفة هو العامل في الموصوف والموصوف إمَّا فاعل وإمَّا مفعول به

فصل

فأمَّا تقديم الحال على العامل إذا كان ظرفاً فقد أجازه أبو الحسن بشرط تقدُّم المبتدأ عليها كقولك زيد قائماً في الدار وتقدم الظرف عليهما كقولك في الدار قائماً زيد ولا يجوز عند الجميع قائماً زيدٌ في الدار ولا قائما في الدار زيد واحتجّ بشيئين

أحدُهما أنّ تقديم أحد الجزئين كتقديمهما لتوقّف المعنى عليهما

والثاني أنّ الظرف متعلّق بالفعل فكأنّ الفعل ملفوظ به

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 291 ]

والجواب أنّ الظرف على كلّ حال غير عامل بلفظه فصار كأسماء الإشارة وتقدّم أحد الجزئين لا يخرجه عن أن يكون معنويّاً وأن التقديم تصرّف والظروف لا تصرّف لها ثم هو باطل بقولك زيد قائماً هذا إذا جعلت ( زيداً ) مبتدأ و ( هذا ) خبره وأمَّا تعلّقه بالفعل فلا يوجب جواز التقديم لأنّ العمل للظرف لالذلك الفعل وربما قيل إنّ عمل الظرف أضعف من عمل معنى الإشارة لأنّ الفعل يصحّ إظهاره مع الظرف فتبيّن أنّ العمل للفعل وأمَّا معنى الإشارة فلا يجتمع مع اسم الإشارة فصار اسم الإشارة بمنزلة نفس العامل

فصل

ولا يجوز تقديم حال المجرور عليه لأنَّ العامل في الحال هو العامل في صاحب الحال والعامل في صاحبها هو الحرف المعلّق بالفعل فصار كالشيء الواحد فتقديمها على الجارّ يفصل بين الفعل والحرف ولأنّ حرف الجرّ لا تصرّف له وهو العامل في صاحب الحال وليس له معنى يعمل به فامتنع قولك ( مررت قائما بزيد ) و ( قائما مررت بزيد ) والقيام لزيد

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 292 ]

وقال بعض النحويّين يجوز تقديمها عليه واحتّج بقوله تعالى ( وما أرسلناك إلاّ كافّةً للناس ) وبقول الشاعر 55 -

( فإنْ تكُ أذْوادٌ أُصِبْنَ ونِسْوَةٌ ... فَلَنْ يذْهبوا فَرْعاً بقتلِ حبالِ ) - الطويل - أي بقتل حبال فَزْعاً أي هدراً والجواب أمّا ( كافّة ) فحال من الكاف لا من الناس والهاء فيها للمبالغة والتقدير ما ارسلناك إلاّ كافّةً للناس كفرهم وأمَّا ( فرغا ) فحالٌ من الفاعل أي فلن يذهبوا ذوي فرغ

فصل

العامل الواحد يعمل في أكثر من حال كقولك جاء زيدٌ راكباً ضاحكاً لأنَّ الحال كالظرف والعامل قد يعمل في ظرفين من المكان والزمان والمعنى لا يتناقض وقال البصرييَّن لا يعمل إلا في واحدة لأنَّها مشبَّهه بالمفعول والفعل لا يعمل

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 293 ]

في مفعولين فصاعداً على هذا الحدّ فإن وقع ذلك جعلت الحال الثانية بدلاً من الأولى أو حالا من المضمر فيها

فصل

الفعل الماضي لايكون حالاً إلاَّ ب ( قد ) مظهرة أو مضمرة كقولك جاء زيد ركب لأنَّ الحال إمَّا مقارنة أو منتظرة والماضي منقطع عن زمن العامل وليس بهيئة في ذلك الزمان و ( قد ) تقربه من الحال وقال الكوفيُّون يجوز ذلك لأنَّ أكثر ما فيه أنَّها غير موجودة في زمان الفعل وذلك لا يمنع لا تمنع الحال المقدَّرة

والجواب أنَّ الفرق بينهما أنَّ الحال والاستقبال متقاربان لأنَّ المنتظر يصير إلى الحال ولذلك احتملها الفعل المضارع والماضي منقطع بالكلِّية فأمّا قوله تعالى

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 294 ]

( أو جاؤوكم حصرت صدورهم ) فقيل التقدير قوماً حصرت فالفعل صفة لا حال وقيل هو دعاء مستأنف وقيل لفظه ماض والمعنى على المضارعة أي جاؤوكم تحصر صدورهم لأن الحصر كان موجوداً وقت مجيئهم فحقه أنّ يعبّر عنه بفعل الحال وقيل التقدير قد حصرت

فصل

والأحوال أربعة منتقلة مقارنة كقولك جاء زيد راكبا لانّ الركوب قارن المجيء وليس بلازم لمجيئه إذْ من الجائز أن يجيء ماشياً ومقارنة غير منتقلة وهي المؤكدة كقوله تعالى ( وهو الحقّ مصدّقاً لما معهم ) فالتصديق للحق مقارنٌ للحقِّ وغير منتقل عنه والعامل في هذه الحال معنى الجملة كأنه قال وهو الثابت مصدَّقاً وحال منتقلة غير مقارنة بل منتظرة كقولك مررت برجل معه صقر

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 295 ]

صائداً به غداً فالصيد غير مقارن لمرورك بل مقدَّر لأنَّه كان متهيئا لذلك فعبر عن المال بالحال ومنه قوله تعالى ( وخرُّوا له سُجَّداً ) وحالٌ موطّئة للحال الحقيقية كقولك مررت بزيد رجلاً صالحاً ف ( رجلاً ) موّطئ للحال ومنه قوله تعالى ( ولقد صرَّفنا في هذا القرآن ) ثَّم قال ( قُرآناً عربيّاً )

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 296 ]

باب التمييز

وهو تخليص الأجناس بعضها من بعض ويسمى البيان والتبيين والتفسير والممَّيز هو الاسم المحصل لهذا المعنى وهو على ضربين جمع ومفرد فالجمع ضربان مجرور ومنصوب فالمجرور ما يضاف إليه العدد من ثلاثة إلى العشرة ويكون نكرة ومعرفة نحو ثلاثة أثواب وثلاثة الاثواب ونبين علَّة كونه جمعا في باب العدد إن شاء الله تعالى

وأمَّا المنصوب المجموع فالواقع بعد اسم الفاعل المجموع كقوله ( بالأخسرين أعمالاً ) وأمَّا المفرد فعلى ضربين أحدهما منصوب وهو الواقع بعد ( أحد عشر ) إلى ( تسعة وتسعين ) والاصل في ذلك أن يأتي ب ( مِنْ ) والجمع المعرّف باللام كقولك عشرون من الدراهم ف ( من ) تجمع هنا التبعيض وبيان الجنس والألف واللام مع الجمع للاستغراق وكذلك المعنى لأنَّ قولك عندي عشرون مُبْهَم في

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 297 ]

كلّ معدود وهي بعض ذلك المعدود فإذا اردت بيان جنسها قلت ( من الدراهم ) و ( من الغلمان ) إلا انهم حذفوا مِنْ والألف واللام واقتصروا على واحد منكور من الجنس لحصول الغرض به مع الاختصار

فصل

والعامل في هذا الاسم ( عشرون ) ونحوها لأنَّه اشبه اسم الفاعل المتعدّي لأنَّه مجموع بالواو والنون ونونه تسقط في الإضافة وهو مفتقر إلى الاسم الذي بعده فصار ( عشرون درهما ) مثل ( ضاربون رجلاً ) فهو مشبه بالمفعول به

فصل

وأمَّا ( أحد عشر ) إلى ( تسعة عشر ) فإنَّه يشبه ( عشرين ) في أنَّه عدد مبهم وأنَّ إضافته ممتنعة لأن الاسم الثاني صار ك ( النون ) في ( عشرون ) إذ كان تماما له ولانَّ المركب أصله التنوين كقولك خمسة وعشرة وبعد التركيب لم يبطل

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 298 ]

معنىالتنوين مع وجود التنوين أو النون يلزم نصب المميز فكذلك مع ما يقوم مقامه

فصل

وكذلك كلّ منّون يفتقر إلى ممّيز كقولك ( هذا راقودٌ خلا ) لأنَّ التنوين يمنع الإضافة فإنْ أضفت فقلت ( رطل ذهب ) احتمل أن يكون بمعنى ( اللام ) وبمعنى ( مِنْ ) وأذا نصبت لم تكن إلاَّ بمعنى ( مِنْ ) لأنَّها الموضوعة للتبيين وكذلك النون في ( منوان وقفيزان )

فصل

فأمَّا المضاف كقولك لله درّه شجاعاً وعلى التمرة مثلُها زبداً وما في السماء قدر راحةٍ سحاباً فكل هذا ينتصب فيه المميّز بما قبله لشبهه بالمنوَّن المبهم لأنَّ مثل التمرة قد يكون زبدا أو غيره والمضاف إليه يمنع إضافة مثل إلى الزبد وهو مقدار كما أنَّ ( عشرين ) مقدار وقيل التقدير على التمرة زبْدٌ مثلها فلما أخرته انتصب لأنَّك جعلته فضلة كما في قولك طبت به نفسا

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 299 ]

فصل

ومن ذلك هو أحسن الناس وجهاً فأمَّا هو أحسن منك وجهاً ف ( منك ) جرى مجرى المضاف إليه لأنَّه مبين له وتتَّمة ومعمول له

فصل

وإذا قلت زيدٌ أفره عبدٍ فجررت كان ( زيد ) عبداً لأنَّ أفعل لا تضاف إلاَّ إلى ما هي بعضُه والأصل زيدٌ أفره العبيد فاختصر وأنْ نصبت فقلت أفره عبداً لم يكن زيٌد عبداً بل كان العبيدُ له والوصف في المعنى لعبيده أي عبيده أفره العبيد كما تقول هوأكثر مالاً وأقل شرّاً

فصل

ومن التمييز طبت به نفساً ف ( نفساً ) منصوب بالفعل وأصله طابت نفسي به ثَّم أردت المبالغة فنسبت الطيب إليك فجعلت ما كان مضافاً إليه فاعلاً

فحدث من أجل ذلك إبهام فأمكن أن يكون طبت به نسباً وعرضاً وثوباً وذكراً فإذا قلت ( نفساً ) بيَّنت الطيَب إلى أيّ شيء هومنسوب في الحقيقة وانتصاب ( نفس ) على تشبيه اللازم بالمتعدي لأنَّ ( طبت ) لا تتعدَّى

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 300 ]

فصل

ولا يحوز تقديم المنصوب هنا على الفعل وقال المازنيّ والمبرّد والكوفَّيون هو جائز كقولك نفساً طبت به

وحجَّة الأوَّلين أنَّ المنصوب هنا فاعل في المعنى وإنما حول عن ذلك ونسب الفعل إلى المضاف إليه مبالغة ثَّم ميزَّ بذكر ما هو فاعل في الأصل فلو قدم لصار كتقديم الفاعل على الفعل وذلك باطل كذلك ههنا ويدلّ عليه أنَّه مميز فلم يتقدم على العامل فيه كالمميز في ( نعم ) وفي ( الأعداد ) واحتجّ الآخرون بقول الشاعر 56 -

( أتهجرُ ليلى للفراق حبيبها ... وما كان نفسا بالفراق يطيب ) - الطويل - وقالوا لأنَّ العامل في هذا المنصوب فعل متصرف فجاز تقديمه عليه كالحال

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 301 ]

والجواب عن البيت من ثلاثة أوجه أحدها أنَّ الرواية ( وما كان نفسي ) فهو اسم كان

والثاني أنَّ نصبه على أنَّه خبر كان أي ما كان حبيبها نفساً أي إنساناً يطيب بالفراق

والثالث أنَّه من ضرورة الشعرفلا يحتج به على الإعراب في الاختيار وأمَّا القياس على الحال ففاسدلأن الحال فضلة مخصة والمميز هنا في حكم اللازم وهو الفاعل فافترقا فأمَّا تقديم المميَّز على الفاعل نحو ما طاب نفساً زيدٌ فجائز لتقدم الفعل عليه

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 302 ]

باب الاستثناء

وهو استفعال من ( ثنيت عليه ) أي عطفت والتفت لأن المخرج لبعض الجملة منها عاطف عليها باقتطاع بعضها عن الحكم المذكور وحده أنَّه إخراج بعض من كل ب ( إلاَّ ) أو ما قام مقامها وقيل هو إخراج ما لولا إخراجه لتناوله الحكم المذكور

فصل

وأصل أدوات الاستثناء ( إلاَّ ) لوجهين

أحدهما أنَّها حرف والموضوع لأفادة المعاني الحروف كالنفي والاستفهام والنداء والثاني أنَّها تقع في جميع ابواب الاستثناء للاستثناء فقط وغيرها يقع في أمكنة مخصوصة منها ويستعمل في أبواب أُخر

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 303 ]

فصل

والمستثنى من موجب ب ( إلاَّ ) منصوب بالفعل المقدم وما في معناه بواسطة ( إلاَّ ) وروي عن الزَّجاج أنَّ نصبه ب ( إلاَّ ) لانّها في معنى أستثني وقال الكوفيون ( إلاَّ ) مركَّبة من ( إنَّ ) و ( لا ) فإذا نصبت كان ب ( إنَّ ) وأذا رفعت كان ب ( لا ) وحجة الأوَّلين أنَّ الفعل هو الاصل في العمل إلاَّ انّ الفعل هنا لا يصل إلى المستثنى بنفسه وب ( إلاَّ ) وصل إليه فصار كواو ( مع ) وكحروف الجر ويدلَّ عليه أنَّ ( غيراً ) في الاستثناء منصوبة بالفعل من غير واسطة لّمَّا كانت مبهمة كالظرف واتَّصل الفعل بها بنفسه وليس ثَّم ما يصح عمله فيها إلاَّ الفعل وأمَّا الزّجاج فيبطل مذهبه من أوجه أحدها ما ذكرناه من ( غير ) ولا يصح معها تقدير ( أسنتني ) لأنّه يصير ( زيد ) داخلاً في حكم الأول وغيره مخرجاً منه وهذا معنى فاسد

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 304 ]

والثاني أن إعمال الحروف بمعانيها غير مطرد ألا ترى أن ( ما ) النافية وهمزة الاستفهام وغيرهما لا تعمل بمعانيها وكذلك إلا والثالث أنه ليس تقدير ( إلا ) ب ( أستثني ) أولى من تقديرها ب ( تخلَّف ) أو ( امتنع ) ونحوهما مما يرفع والرابع أن المستثنى يرفع في مواضع مع وجود ( إلا ) في الجميع فلو قدرت ب ( أستثني ) لما جاز إلا النصب والخامس أنا إذا قدرنا ( أستثني ) صار الكلام جملتين وتقديره بالجملة الواحدة أولى وأما مذهب الفراء فيبطل من ثلاثة أوجه أحدها أنَّ دعوى التركيب فيها خلاف الأصل فلا يصار إليه إلاَّ بدليل ظاهر ولا دليل بحال والثاني أنَّه لو سلم ذلك لم يلزم بقاء حكم واحد من المفرديين كما في ( لولا ) و ( وكأن ) لا بدليل ظاهر ولا دليل بحال والثاني أنَّه لو سلم ذلك لم يلزم بقاء حكم واحد من المفردين كما في ( لولا ) وكأنَّ وغيرهما لأنَّ التركيب يحدث معنى لم يكن وبحدوثه يبطل العمل

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 305 ]

والثالث أنَّ النصب ب ( إنَّ ) فاسد لأنَّها إذا نصبت افتقرت إلى خبر ولا خبر و ( لا ) لا تعمل الرفع ولو عملت لافتقرت إلى خبر أيضاً

فصل

والبدل في النفي بعد تمام الكلام أوْلى لأمرين

أحدهما أن العمل فيهما واحد وهو أولى من اختلاف العمل

والثاني أنَّك إذا جعلته بدلاً كان لازماً في الجملة كما أن المستثنى منه كذلك وهو أوْلى من جعله فضلة إذ كان الاستثناء لازما في المعنى المطلوب فيكون اللفظ كذلك

فصل

وإنما لم يجز البدل في الموجب لفساد معناه وذلك انَّ ( إلاّ ) يخالف ما بعدها ما قبلها وإذا قلت قام القوم إلاَّ زيد كان كقولك قام إلاّ زيد ف ( زيد ) إنْ جعلته في المعنى قائما لم يكن ل ( إلاَّ ) معنى وإنْ نفيت عنه القيام احتجت إلى تقدير فاعل ولا يصح لأنَّه يصير قام كلَّ واحد وهذا محال

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 306 ]

فصل

ولا يجوز عند جمهور النحويين أن يكون المستثنى أكثر الجملة مثلله عليّ عشرة إلاَّ ستة أوجه أحدها أنَّ الاستثناء في الاصل دخل الكلام للاختصار أو للجهل بالعدد كقولك قام القوم إلاَّ فاستثناء ( زيد ) كان للجهل بعدد من قام منهم أو للاطالة بتعديدهم ولا شبه أنَّ قوله عليَّ أربعة أحضر من قوله عشرة إلاَّ ستَّةفإن قلت فعشرة إلاَّ أربعة جائز معنى مع أنَّ ( ستّة ) أخضر قيل جاز للمعنى الآخر وهو الجهل فأنَّه قد يعرف العدد القليل ولا يعرف الكثير وإذا الكثير عرف القليل هذا هو الأصل والوجه الثاني أنَّ التعبير عن الأكثر جائز فدخل الاستثناء ليرفع الاحتمالوتعيينه للاكثر وهو عكس التوكيد لأنه يعينه للكل ويمنع من حمله على الأكثر كقولهم قام القوم كلهم

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 307 ]

فصل

وإنما يختار النصب دون البدل في غير الجنس لأن البدل في حكم المبدل منه فيما ينسب إليه وفي أنه يسقط الأول ويقوم الثاني مقامه فعند ذلك يصير أصلاً في الجملة وكونه من غير الجنس لا يلزم ذكره لأن اللفظ الأول لا يشتمل عليه حتى يخرج بالاستثناء فيتمحض فضلة في المعنى فيجعل صفة في اللفظ وهو كقولك ما بالدار أحد إلا وتداً ومن اختار البدل راعى اللفظ وفائدة استثناء غير الجنس ثلاثة أشياء الإعلام بعموم الأول وأن الثاني من آثار الأول وإثبات ما كان يحتمل نفيه

فصل

ومما قام مقام إلا من الأفعال ( ليس ) و ( لا يكون ) و ( عداً ) وما بعدهن منصوب وإنما دخلت هذه الأفعال في الإستثناء لما فيها من معنى النفي وما بعد ( ليس ) و ( لا يكون ) خبر لهما كقولك قام القوم ليس زيداً أي ليس بعضهم زيداً والضمير ههنا يوجد على كل حال لأنه ضمير ( بعض ) و ( لا يكون ) إسمها مظهراً هنا للإختصار و ( لا يكون ) ك ( إلاَّ ) في أنه ليس بعدها سوى المنصوب ولذلك لا يجوز العطف على المنصوب بها فلا تقول جاء القوم ليس زيداً ولا عمراً

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 308 ]

وأمَّا ( ما عدا ) و ( ما خلا ) فأفعال كلها لأنها صلات ل ( ما ) ولا تكون الحروف صلة والفاعل فيها مضمر وموضع ما وصلتها حال كقولك قام القوم ما عدا زيدا أي عدوَّ زيد والمصدر هنا حال أي متجاوزين زيداً

فصل

وإنّما تعين النصب في المستثنى إذا تقدَّم ولم يجز البدلُ لانَّ البدل تابع للمبدل منه كالصفة والتوكيد وكما لا يجوز تقديمهما لئلاّ يصيرا في موضع المتبوع كذلك هنا فيجب أن يخرج مخرج الفضلات ليكون في لفظه دلالة على أنَّه ليس بأصل

فصل

وإنَّما أعربت ( غير ) إعراب الاسم الواقع بعد ( إلاَّ ) لأنَّها اسم تلزمه الإضافة فمن حيث كانت اسماً يجب ان تُعْرب ومن حيث أضيفت يحب أن يكون [ ما بعدها مجرورا ويجب أن يكون ] إعرابها إعراب الاسم المستثنى لأنَّها اسمٌ في حيَّز المستثنى ولم يحتّج إلى حرف مقّو لإبهامها وشبهها بالظرف فيصل الفعل إليها بنفسه

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 309 ]

فصل

وأمّا ( سوى ) فهي ظرف في الأصل ولا تستعمل في الاستثناء إلاَّ منصوبة إذا وقعت بعد تمام الكلام ليتوفرَّ عليها حكم الظروف وقد جاءت غير ظرف قليلاً

فصل

وأمَّا ( حاشا ) فمذهب أكثر البصريين أنَّها حرف جرّ وقد جاء ذلك في الشعر

وقال المبِّرد والكوفيَّون هي فعل لأشياء أحدها تصرَّفها نحو ( أحاشي ومحاشى ) وأصلها من حاشية الشيء أي طرفه فقولك قام القوم حاشا زيداً أي صار في حاشية وناحية عنهم والحروف لا تتّصرف والثاني أنَّ الحذف يدخلها قالوا حاش لله وحش لله

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 310 ]

والثالث أنَّ حرف الجرّ يتعلّق بها كقولك ( حاشا لله ) وذلك من خصائص الأفعال والجواب أمَّا التصَّرف فليس على ما ذكر فأمَّا ( حاشا ) فمشتق من لفظ الحرف كما قالوا سألته حاجة فلولا أي قال لولا كذا لفعلت كذا وقالوا هلّل أي قال لا اله الا الله وبسمل أي قال بسم الله وهو كثير

فامَّا الحذف فقد دخل الحروف قالوا في ربَّ ( رُبّ ) وفي سوف ( سَوْ ) وفي لعلَّ ( علَّ ) في أحد المذهبين وأمَّا اللام في ( لله ) فزائدة ولا تعلق بشيء ويدلك عليه قولك جاء القوم حاشا زيد بغير لام ولم يُقَلْ إن اللام محذوفة

فصل

وأمَّا ( خلا ) فقد جرَّ بها قوم ونصب بها آخرون وجعلوها فعلاً من ( خلا

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 311 ]

يخلو ) وأمَّا ( عدا ) فمثل خلا وأمَّا ( ماخلا ) و ( ما عدا ) ففعلان لما تقدَّم في موضعه وأجاز أبو عليّ في كتاب الشعر أن تكون ( ما ) في ( ما عدا ) زائدة فتجرّ ما بعدها وتابعه الربعي على ذلك

فصل

ولا يجوز تقديم المستثنى على جميع الجملة كقولك إلاَّ زيداً ضُرب القوم لأنَّ إلاَّ بمنزلة ( واو مع ) لما ذكرناه هناك وهي تشبه ( لا ) العاطفة كقولك قام القوم لا زيدٌ وهذان لايتقدَّمان على العامل فكذا قولك ( إلاَّ ) فإنْ وقعت بين أجزاء الجملة جاز كقولك 57 -

( ألا كُلُّ شيءٍ ما خلا الله باطلُ ... )

وكقولك أين إلاَّ زيداً قومك وعلى هذا تقول ما ضرب إلاَّ زيدا قومك قال أصحابنا إن استثنيته من ( قومك ) جاز ومنْ اصحابنا منْ لم يجزه والفرق أنَّ الفاعل أصل في الجملة

فصل

ولا يعمل ما بعد ( إلاَّ ) فيما قبلها كقولك قومك زيداً إلاَّ ضاربون لأنَّ تقديم الاسم الواقع بعد ( إلاَّ ) عليها غير جائز فكذلك معموله لما تقرَّر أنَّ المعمول

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 312 ]

لا يقع إلاَّ حيث يقع العامل إذ كان تابعاً له وفرعاً عليه فإن جاء في الشعر أُضْمِر له فعل من جنس المذكور

فصل

ويجوز أن تقع ( إلاَّ ) صفةً بمعنى ( غير ) فيجري ما بعدها على ما قبلها كقولك له عندي مائة إلاَّ درهم فترفع كما ترفع ( غيراً ) هنا إذا جعلتها وصفاًَ فليزمك المائة بكمالها وإن نصبت ( درهماً ) لزمك تسعة وتسعون على أصل الباب وكذا إذا قلت غير درهم فنصبت ( غيراً )

فصل

إذا وقع استثناء بعد استثناء كان الاخير مستثنى من الذي قبله فما يبقى منه هو المستثنى من الذي قبل قبله فعلى هذا إذا قال له عليَّ عشرةً الأ تسعة ثَّم على ذلك نقص واحداً إلى أنَّ قال ( إلاَّ واحداً ) لزمه خمسة دراهم ولك في تحقيق ذلك طريقان

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 313 ]

احدهما أن تأتي إلى آخر العدد فتسقطه من الذي قبله على ما بيَّنا فيسقط ههنا من اثنين فيبقى واحد فتسقطه من ثلاثه فيبقى اثنان فتُسقطهما من الأربعة فيبقى اثنان فتسقطهما من الخمسة فيبقى ثمَّ على ذلك إلى العشره قيبقى خمسة والطريق الثاني أن تجمع العشرة والثمانية والستة والأربعة والاثنين وتسقط ما بين كلّ استثنائين ثمَّ تجمع ذلك فيكون ثلاثين وتجمع ما أسقطت فيكون خمسة وعشرين فتسقطها من الثلاثين فيبقى خمسة وهذا يخرج على قول من أجاز استثناء الأكثر ومن لم يجزه ففيه وجهان أحدُهما أنَّ جمع الاستثناء باطل لأن الأوَّل بطل لأنه أكثر فيبطل ما يتفرع عليه

والثاني أنَّه يبطل الأكثر إلى أن يصل إلى النصف فيصّح ثَّم ينظر في الباقي على هذا السياق

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 314 ]

باب كم

وهي اسم لوجود حدّ الاسم وعلاماته فيها وإنَّما بنيت في الاستفهام لتضمنَّها معنى همزة الاستفهام وبنيت في الخبر لمشابهتها ( ربّ ) من أوجه أحدها أنَّها تختصُّ بالنكرة كما تختص ( ربّ ) بها والثاني أنَّها لغاية التكثير كما أن ( ربّ ) لغاية التقليل والجامع بينهما الغاية في طرفي العدد والثالث أنَّ ( كم ) لها صدر الكلام كما أنَّ ( ربُ ) كذلك والمراد بذلك أنَّه لا يعمل فيها ما قبلها فإنْ قلت قد يدخل على ما هذا سبيله حرف الجرّ فيعمل فيه قيل حرف الجرّ الداخل عليها مما يتعلًّق بما بعدها كقولك بكم رجل مررت فيؤخّر العامل الأصلي وإنَّما قدَّمت الباء لأنَّها وصلة بين العامل والمعمول فلو أخرتهما جميعاً لم تتحقَّق الوصلة

ومعظم النحويّين يقول حُملت على نقيضتها وهي ( ربّ ) والحقُّ ما خبرتك به وهو معنى كلامهم لأنَّهم لا يعنون أنَّ حكم الشيئين واحد لعلَّة تضادّهما بل بين الضدَّين معنى يشتركان فيه

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 315 ]

فصل

وبُنيتْ على السكون لأنَّه الأصل ولم يوجد مانع من خروجه على ذلك

فصل

وإنَّما افتقرت ( كم ) إلى ( مبيّن ) لأنَّها اسم لعدد مبهم فيذكر بعدها ما يدلُّ على الجنس المراد بها

فصل

وإنَّما ميّزت الاستفهامية بالمنصوب لأنَّها جعلت بمنزلة عدد متوسّط وهو من أحد عشر إلى تسعة وتسعين لأنَّ المستفهم جاهل بالمقدار فجعلت للوسط بين القليل والكثير

فصل

والحكمة في وضعها الاختصار والعموم الذي لا يستفاد بصريح العدد ألاَّ ترى أنَّك إذا قلت أعشرون رجلاً جاءك لم يلزمه أنْ يُجيبك بكميَّة بل يقول ( لا ) أو ( نعم ) وإذا قال ( لا ) لم يحصل لك منه غرض السؤال مع الإطالة وإذا قلت كم رجلاً جاءك استغنيت عن لفظ الهمزة والعدد وألزمت الجواب بالكميّة فإنْ

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 316 ]

قيل لو كانت ( كم ) هنا للوسط من العدد لم جاز أن يُبدل منها القليل ولا الكثير وقد جاز أن تقول كم رجلاً جاءك أخمسة أم أكثر أو مائة أو أكثر قيل الجيّد في مثل هذا أنْ يُبدلَ منها العدد الوسط لما ذكرنا وإنَّما جاز خلافه لأنَّ ( كْم ) مبهمة في نفسها تحتمل القليل والكثير والوسط ولهذا يصحُّ الجواب بكَّل منها وإنَّما جعلت بمنزلة الوسط في نصب المميّز فقط

فصل

وأمَّا ( كْم ) الخبريَّة فتجرُّ ما بعدها لأنَّها اسم بُيّن بعدد مجرور فكان هو الجار ك ( مائة رجل ) ونحوه

وذهب بعضهم إلى أنَّه مجرور ب ( من ) محذوفة لأنَّك تظهرها كقولك كم من جبل ونحوه وكم من عبد ولَمَّا عُرف موضعها بقي عملُها بعد حذفها كما في ربّ مع الواو والمذهبُ الأوَّل أقوى لأنَّ حرف الجرّ ضعيف فلا يبقى عمله بعد حذفه ولهذا كُّل موضع حذفت فيه حرف الجرّ نصبته إلاَّ في مواضع دعت الضرورة إلى تقدير عمل الحرف المحذوف ولا ضرورة ههنا لأنَّ ( كْم ) اسم والإضافة من أحكام الأسماء فإنْ قلت لو كان مضافاً لأعرب ك ( قبل ) و ( بعد ) قيل هذا غير لازم فإنَّ ( لدنْ ) مبنية مع الإضافة

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 317 ]

فصل

ولا تميز الاستفهاميَّة إلاَّ بالمفرد لأنَّها كالعدد الذي نابت عنه وأمَّا الخبريَّة فالجيَّد فيها كذلك لأنَّها ك ( مائة وألف ) ويجوز أن تبيّن بالجمع حملاً على العشرة وما دونها

فصل

ومن العرب مَنْ ينصب ما بعد الخبرية كما ينصب بعد مائة إذا نوّن كقول الشاعر 58 -

( إذا عاش الفتى مائتين عاماً ... فقد ذهب اللذاذةُ والفتاء ) - الوافر -

ومنهم مَنْ يجرُّ بالاستفهاميَّة حملاً على الخبريَّة

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 320 ]

باب العدد

أنَّما لم يُضَف ( واحد واثنان ) إلى مميّز لما فيه من إضافة الشيء إلى نفسه كقولك ( أثنا رجلين ) ولأنَّ قولك ( رجل ورجلان ) يدلُّ على الكّميَّة والجنس وليس كذلك ( رجال ) لأنَّه يقع على القليل والكثير فيضاف العدد إليه فتعلم الكّميَّة بالمضاف والجنس بالمضاف إليه

فصل

وإنَّما ثبتت ( الهاء ) في العدد من الثلاثة إلى العشرة في المذكّر دون المؤنث للفرق بين المذكّر والمؤنَّث المميَّزين وكان المذكَّر بالتاء أوْلى لوجهين أحدُهما أنَّ العدد جماعة والجماعة مؤنثة والمذكَّر هو الأصل فأقَّرت العلامة على التأنيث في المذكَّر الذي هو الأصل وحُذِفَتْ في المؤنَّث لأنَّه فرع

والثاني أنَّ الفرق لا يحصل إلاَّ بزيادة والزيادة يحتملها المذكَّر لخفَّته ولذلك منع التأنيث من الصرف لثقله

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 321 ]

وقيل المعدود ملتبسٌ بالعدد وإضافته كاللازم فأغنى تأنيث المضاف إليه عن تأنيث العدد وخرج في المذكَّر على ألاصل

فصل

وإنَّما أضيف هذا العدد إلى جموع القلَّة لاشتراكهما في العلَّة وجموعُ القلَّة جمعُ التصحيح وأربعة من التكسير وهي ( أفْعُل وأفعال وأفْعِلَة وفِعْلة ) وما جاء فيه من جموع الكثرة فعلى خلاف الأصل

فصل

وإنَّما سكَّنت الشين من ( عشْر ) إذا أضيفت إلى المؤنَّث وهي مفتوحة في المذكَّر لثقل التأنيث إذ كانت الحركة كالحرف في بعض المواضع

فصل

وإنَّما بني من ( أحدَ عشرَ ) إلى ( تسعة عشَر ) غير ( أثني عشر ) لتضمُّنه معنى واو العطف والاصل ثلاثة وعشرة فركَّب اختصاراً ومعنى العطف باقٍ في الاسم يبنى لتضُّمنه معنى الحرف

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 322 ]

وأنَّما حرّك الاسمان لأن لهما أصلاً في الإعراب والبناء حادث وكانت الفتحة أوْلى لوجهين أحدُهما أنَّ الاسم طال

والثاني أنَّ الاسم الثاني بمنزلة ( تاء التأنيث ) إذ كان مزيداً على الأوَّل لمعنى ويفارقه في بعض المواضع وتاء التأنيث تفتح ما قبلها فكذلك هذا

فصل

فأمَّا ( اثنا عشر ) فالاسم الأوَّل معرب لأوجه

أحدها أنَّهم أرادوا الدلالة علىأنَّ الأصل في هذه الأعداد الإعراب كما صححَّوا الواو في ( قَوَد ) و ( استحوَذ )

والثاني انَّ علامة الإعراب هي حرف التثنية فلو أبطلت لبطل دليل التثنيه والثالث أنَّ ما عداه من المركَّب جرى مجرى الاسم الواحد وإعراب الاسم الواحد لا يكون في وسطه

وامَّا ( اثنان ) فبغير تاء في المذكَّروبتاء في المؤنَّث كما كان قبل التركيب ويجوز في المؤنَّث حذف الهمزه وإثباتها

فصل

وأما ( عشَرَ ) ههنا فبنيت لوقوعها موقع النون المحذوفه من ( اثني ) لا على

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 323 ]

جهة الإضافه فبنيت كما أنَّ النون مبنيَّه ويدلُّ على أنَّه غير مضاف أنَّ الحكم المنسوب إلى المضاف غير منسوب إلى المضاف إليه كقولك قبضت درهم زيد والحكم هنا منسوب إلى الاثنين والعشرة كقولك قبضت اثني عشر درهماً

فصل

وإنَّما ثبتت ( التاء ) من ( ثلاثة عشر ) إلى ( تسعة عشر ) لأنَّها كذلك في مرتبة الآحاد وحذفت من ( عشر ) لئلاّ تجتمع علامتا تأنيث وعكس ذلك في المؤنَّث حملاً على ( ثلاث نسوة ) وثبتت التاء في ( عشرة ) لئلاّ يخلو الاسم من علامة التأنيث وقيل ثبتت فيه التاء ليوافق الاسم المميّز بعده إذ كان للمجاورة أ ثر في الموافقة

فصل

أمَّا ( أحدَ عَشَر ) في المذكَّر فلا علامة للتأنيث فيه لأنَّ ( أحداً ) قبل التركيب لا علامة فيه فبقي على ذلك وأمَّا ( عشر ) فبغير تاء كما ذكرنا في ( ثلاثة عشر ) وأمَّا في المؤنَّث فثبتت العلامتان لأنَّ ( إحدى ) قبل التركيب تلحقها علامة التأنيث كقولك ( واحدة ) و ( إحداهما ) فبقيت عليها في

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 324 ]

التركيب وأمَّا ( عشرة ) فالتاء لما ذكرنا في ( ثلاث عشرة ) ولهذه العلَّة قُلْتَ في المؤنَّث ( اثنتا عشرة ) بالعلامتين

فصل

وأمَّا ( عشرون ) فاسم موضوع لعشرتين وليس بجمع تصحيح على التحقيق لأنَّ أقلَّ هذا الجمع ثلاثة فلو كان ( عشرون ) جمع تصحيح لكان أقلَّ ما يقع عليه ثلاث عشرات

وحكي عن الخليل أنَّه جَمْعُ ( عِشْر ) من أظماء الإبل وذلك أن العشر منها ثمانية لأنَّها ترد الماء يوماً وتتركه ثمانية وترده اليوم العاشر فلا يحتسب بيومي الورود فتكون العشرون عِشْرَيْنِ ونصفاً فجمع على التكميل وفي هذا القول بُعْدٌ

وأمَّا كَسْرُ العَيْنِ مِنْ ( عِشْرين ) فقيل كان الأصل أن يقال ( عشرتان ) وهم أثنتان من هذه المرتبة فكُسِرَ كما كًسِرَ أوَّل اثنين

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 325 ]

وقيل العشرة تؤنَّث وجمعها لا يؤنَّث فكسر أوَّله في الجمع عوضاً من التأنيث إذ كان يؤنّث بالياء نحو تضربين والكسرة من جنس الياء

وأمَّا على قول الخليل فالكسرة فيه كسرة الواحد

فصل

وأمَّا ( ثلاثون ) إلى ( تسعين ) فأسماء مشتقَّةٌ من ألفاظ مرتبة الآحاد وليس ( ثلاثون ) جمع ( ثلاث ) إذ لو كان كذلك لكان أقلُّ ما يقع عليه ثلاثون ( تسعة ) لأنَّها ثلاث ثلاثات

فصل

وأمَّا ( المائة ) وما تكرَّر منها فتضاف لأنَّها عدد مفرد فأضيف إلى مميّزه كالعشرة وما دونها وإنَّما كان المميّز مفرداً لأن المائة أقرب إلى ما تُمّمَ بالمفرد وهو تسعون فقد جمعت شبه الآحاد والعشرات

فصل

وكان القياسُ أنْ يقال ( ثلاث مئات أو مئين ) وكذا إلى تسعمائة كما تقول ( ثلاث نسوة ) إلاَّ أنَّهم أضافوها إلى الواحد حيث طال الكلام بإلاضافة إلى

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 326 ]

( المائة ) وإضافة المائة للدرهم ونحوه ولأنَّ المميّز مفرد فلو جمعوا ( مائة ) وهي عدد - لأضافوا جمع العدد إلى المميّز المفرد وليس له أصل لأنَّ مرتبة الآحاد تضاف إلى الجمع

فصل

فأمَّا ( الألف ) فكالمائة لأنَّها تليها وإنَّما قالوا ثلاثة آلاف درهم فأضافوا إلى الجمع لأنَّ مرتبة الآلاف كمرتبة الآحاد إذ لم تكن مرتبة رابعة ولذلك يبقى لفظ العشرة والمائة فيها بخلاف المراتب الأُوَل فإنَّ كلاً منها إذا جاوز التسعة تجدّد له اسمٌ لم يكن

فصل

إذا أردت تعريف العدد المضاف أدخلت أداة التعريف على الاسم الثاني فتعرَّف به الأوَّل نحو ثلاثة الرجال ومائة الدرهم كقولك غلام الرجل ولا يجوز ( الخمسة دراهم ) لأنَّ الإضافة للتخصيص وتخصيص الأوَّل باللام يغيه عن ذلك

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 327 ]

فأمَّا ما لم يضف منه فأداة التعريف في الأوَّل نحو الخمسة عشر درهماً إذ لا تخصيص هنا بغير اللام وقد جاء شيءٌ على خلاف ما ذكرناه وهو شاذّ عن القياس والاستعمال فلا يقاس عليه

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 328 ]

باب النداء

يجوز كسر نون النداء وضمُّها مثل ( الهِتاف ) و ( الُهتاف ) ولام النداء ( واوٌ ) لقَوْلهم نَدَوْتُ القوم إذ جلست معهم في النادي وهو مَجْلِسُهم الذي يُنادي فيه بعضهم بعضا ومصدُره الندوة

فصل

وحروفه ( ياء ) و ( أيْ ) و ( أيا ) و ( هيا ) و ( الهمزة ) وفي الندبة حرف آخر وهو ( وا ) والغرض منها تنبيه المدعوّ ليسمع حديثك فأمَّا نداء الديار وغيرها فعلى طريقة التذكّر والتذكير

فصل

والنداء تصويت لا يحتملُ التصديقَ والتكذيبَ وقيل أنْ كان يصفه نحو ياء فُسَقُ ويا فاضلُ كان خبراً لاحتماله ذلك وهذا يوجب أنْ يكون خبراً في الأعلام لأنِّك إذا أقبلت على إنسان فقلت يا زيد أ مكن أن يقول كذبت لست زيداً

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 329 ]

فصل

والمنادى منصوب اللفظ والموضع واختلف في ناصبه فقال بعضهم الناصبُ له فعل محذوف لم يستعمل إضهاره وهو ( أنادي وأدعو وأنَّبهُ ) ونحو ذلك وذلك لأنَّ ( يا ) حرف والأصل في الحروف ألاَّ تعمل ولأنَّها لو عملت لكان لشبهها بالفعل وشبهُها بالفعل ضعيفٌ لقلّة حروفها لا سيَّما الهمزة التي هي على حرف واحد فتعيَّن أن يكون العامل فعلاً لكنَّه استغني عن إظهاره لدلالة ( يا ) عليه

وقال آخرون العامل فيه حرف النداء لأنَّه أشبه الفعل من ثلاثة أوجه أحدُها أنَّ معناه معنى الفعل بل أقوى من حيث أنَّ لفظ الفعل عبارة عن الفعل الحقيقيّ كقولك ( ضرب ) و ( يا ) هي العمل نفسه وتعبّر عنه ب ( نادى ) والثاني أنَّها أميلت وليس ذاك إلاَّ لشبهها بالفعل والثالث أنَّه يعلَّق بها حرف الجرّ في قولك يالزيد وحرف الجرّ لا يتعلَّق إلاَّ بالفعل أو ما عمل عمله

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 330 ]

وأمَّا عملها في الخبر ففيه اختلاف سنذكره على أنَّ عملها فيه لا يوجب بناءه لأنَّ علَّة البناء وجدت في الاسم دون الخبر ويدلُّ عليه أنَّ البناء لأجل التركيب ونحن نجعل الاسمين المركَّبين بمنزلة اسم واحد وهو مع هذا مخالف للقياس فكيف نجعل ثلاثة أشياء بمنزلة شيء واحد

وأمَّا البناء ففير حادث ب ( لا ) من حيث هي عاملة بل حادث بالتركيب وتضُّمنه معنى الحرف كما أنَّ ( يا ) في النداء تعمل النصب في المعرب فإذا دخلت على المفرد بُني لابهابل بشيء آخر وأمَّا جعل حركة المبنيّ هنا الفتح ففيه أوجه

أحدُها أنَّ الفتح اختير لطول الاسم بالتركيب كما اختير في خمسةَ عشَر

والثاني أنَّ النفي هنا لَمّا خرج عن نظائره خرج البناء عن نظائره والثالث أنَّهم لو بنوه على الكسر لكانت مثل الحركة التي يستحقُّها هذا الاسم في الأصل إذ اصلُه لا من رجل ولو بني على الضمِّ لكانت حركته في حال عمومه كالحركة في حال خصوصه ففرَّقوا بينهما وعدلوا إلى الفتح

ويدلَّ على فساد مذهب من قال هو معرب أنَّه لو كان كذلك لنوَن كما يُنَّون اسم إنَّ فإنْ قيل إنَّما لم ينَّون لأنَّ ( لا ) ضعفت إذ كانت فرعَ فرعِ فرعٍ وذلك أنَّ ( كان ) فرعٌ في العمل على الأفعال الحقيقّة و ( إنَّ ) فرع على ( كان ) و ( لا ) فرع على ( إنَّ ) فلمَّا ضعف خولف باسمها بقيَّة المعربات

فصل

وإنَّما بني المفرد العلم في النداء والنكرة المقصودة لوجهين أحدهما أنَّه صار مع حرف النداء كالأصوات نحو ( حوبَ ) و ( هِيدَ ) و ( هلا ) زجر الإبل و ( عَدَسْ ) في زجر البغال لأن الغرض من الجميع التنبيه وليس بمخبر عنه ولا متصل بمخبر عنه ولذلك بنيت حروف التهجّي

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 331 ]

والثاني أنَّه أشبه المضمر في أنَّه مخاطب غير مضاف والأصل في كلَّ مخاطب أنّ يذكر بضمير الخطاب كقولك أنت يا أنت وقد جاء ذلك في النداء قال 59 -

( يا أبْحَرُ بنَ أبْحَرٍ يا أنْتا ... أنت الَّذي طُلَّقْتَ عام جُعْتا ) - الرجز - والواقع موقع المبنيَّ يُبْنى

فصل

وإنَّما بني على حركة لأنَّ بناءه عارض فحرَّك لينفصل عمَّا بناؤه لازم وحرَّك بالضمَّ لثلاثة أوجه

أحدُها أنَّه قوي بذلك زيادة في التنبيه على تمكَّنه والثاني أنَّ المنادى يكسر إذا أضيف إلى الياء ويفتح إذا أضيف إلى غيرها فضُمَّ في الإفراد لتكمل له الحركات كما فعلوا ذلك في قبلُ وبعدُ والثالث أنَّهم لو فتحوه أو كسروه لالتبس بالمضاف فصاروا إلى ما لا لَبْس فيه

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 332 ]

فصل

وإنَّما أعرب المضاف والمشابه له والنكرة غير المقصودة على الأصل ولم يوجد المانع من ذلك فإنَّ المانع في المفرد شبهُهُ بالمضمر والمضاف لا يشبه المضمر لأمرين أحدُهما أنَّ المضمر لا يضاف

والثاني أنَّ تعريف المضاف بالإضافة وتعريفُ المضمر هنا بالخطاب وكذلك المشابه للمضاف طال طولاً فارق به المضمر أو عمل فيما بعده والمضمر لا يعمل وكذا النكرة الشائعة لا تقع موقع المضمر فهذا لبيان عدم الموجب للبناء

ويمكن أن يقال علَّة البناء موجودة وهي ما تقدَّم ولكن تعذَّر البناء في المضاف إلى ياء المتكلم بتلك العلَّة لأنَّه بني لعلَّة أخرى والمضاف إلى غيره صار كالمنوَّن لأنَّه المضاف إليه يحلّ محلَّ التنوين والتنوين لا يكون بعد حركة البناء ولأنَّه لو بُني الأوَّل لم يكن عاملا في الثاني ولو بنيا لفسد الأمَريْن

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 333 ]

أحدُهما أنَّ النداء دخل على الأوَّل دون الثاني والثاني أنَّهما كانا يكونان كالمركَّب

فصل

وإنَّما جاز في صفة المبني المفرد هنا النصُب على الموضع لأنَّ موضع الموصوف نصب ويجوز رفعها حملاً على لفظ الموصوف وجاز ذلك في المنادى دون غيره من المبنيَّات لأنَّ حركة البناء فيه تشبه حركة المعرب لأنه مطرد مع ( يا ) لا يكون مع غيرها كما لا تحذف حركة الإعراب إلاَّ بعامل ولذلك جاز حمل وصف ( لا ) على الموضع تارة وعلى اللفظ أخُرى بخلاف ( أمْسِ ) و ( هؤلاء ) فإنَّهما مبنيَّان على كلَّ حال لا عند شيء يشبه العامل

فصل

فأمَّا الصفة المضافة فليس فيها غير النصب لأنَّ الصفة لا تزيد على الموصوف والموصوف المضاف ينصب البتَّة فالصفة أوْلى

فصل

والمعطوف الذي فيه الألف واللام وهو جنس كالصفة في الوجهين كقوله تعالى ( يا جبال أوّبي معه والطير ) لأنَّ ( يا ) لا تليه فصار كالصفة

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 334 ]

فأمَّا الألف واللام في القياس ونحوه فكذلك وقال المبرَّد الرفع فيه أحسن لأنَّه علم والألف واللام فيه زائد أو في حكم الزائد

فصل

فإنْ كان المعطوف ليس فيه لام التعريف فله حكم نفسه فتقدَّر معه ( يا ) كقولك يا زيد وعمرو ويا زيدُ وعبدالله لأنَّك تقدر أن تقول ويا عمرو وأجاز قوم النصب فيه بكلّ حال حملاً على الموضع

فصل

والتوكيد كالوصف فيجوز في المفرد الرفع والنصب كقولك يا تميم أجمعون وأجمعين فإن كان مضافاً نصبت البتة كالصفه كقولك يا تميم كلّكم فتنصب ويجوز ب ( الكاف ) لأنَّه مخاطب وب ( الهاء ) لأنَّ الاسم الظاهر غائب فيعود الضمير إليه بلفظ الغيبة

فصل

ولا تدخل ( ياء ) على الألف واللام لأمرين

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 335 ]

أنَّ ( الألف واللام ) للتعريف و ( يا ) مع القصد إلى المنادى تخصّصه وتعنيّه ولا يجتمع أداتا تعريف والوجه الثاني أنَّ ( اللام ) لتعريف المعهود والمنادى مخاطب فهما مختلفان في المعنى / وقد جاء ذلك في ضرورة الشعر قال 60 -

( فيا الغلامانِ اللذانِ فرّا ... أيَّاكما أن تُكْسباني شرّاً ) - الرجز - وأمَّا قول الآخر 61 -

( أحبُّكِ يا التَّي تيَّمتِ قَلْبي ... وأنتِ بخيلةٌ بالودّ عَنَّي ) قفيل هو من هذا الباب وقيل الألف واللام فيه زائدتان وتعريف الموصول بالصلة

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 336 ]

وأمَّا اسم الله تعالى فتدخل عليه لثلاثة أوجه أحدُها أنَّ الألف واللام فيه لغير التعريف لأنّه سبحانه واحدٌ لا يتعدَّد فيحتاج إلى التعيين ودخول ( يا ) عليه للخطاب والثاني أن الألف واللام عوض من همزة ( إله ) وذلك أنَّ الأصل فيه ( الإله ) فحذفت الهمزة حذفاً عند قوم وعند آخرين القيت حركتها على ( اللام ) ثَّم أدغمت إحداهما في الأخرى فنابت اللام عن الهمزة فأجتمعت مع ( يا ) من هذا الوجه والثالث أنَّه كثر أستعمالهم هذه الكلمة فخفَّ عليهم إدخال ( يا ) عليها

وقد اختص هذا الاسم بأشياء لا تجوز في غيره منها ( يا ) ومنها تفخيم ( لامه ) إلاَّ إذا انكسر ما قبلها ومنها قطع همزته في النداء وفي القسم إذا قلت ( أفألله ) ومنها اختصاصه ب ( تاء القسم ) ومنها لحوق ( الميم ) في آخره

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 337 ]

فصل

وأمَّا قولُهم يا أيَّها الرجل ف ( أيّ ) مفرد منادى مبنيّ وفي ( ها ) وجهان أحدُهما أنّهم أتَوْا بها عوضاً من المضاف إليه لأنَّ حقّ ( أي ) أن تضاف والثاني أنها دخلت للتنبيه لتكون ملاصقة للرجل حيث امتناع دخول ( يا ) عليه

وأمَّا الرجل فصفة لأيّ على اللفظ لأنَّه المنادى في المعنى ولذلك لا يسوغ الاقتصار على ( أيَّها )

وإنَّما أتي ب ( أيّ ) هنا توصُّلاً إلى نداء ما فيه الألف واللام ومن هنا لم يجز نصبه عند الجمهور وأجازه المازنيّ كسائر الصفات وإنَّما اختاروا ( أّياً ) هنا لأنَّها أسم معرب فيه إبهام يصلح لكل شيء

فصل

فإنْ وصفت الرجل هنا رفعت الصفة وإنْ كانت مضافة لأنَّ الموصوف معرب وإذا حملت تلك الصفة على موضع ( أيّ ) جاز النصب والرفع في المفرد ولم يكن في المضاف إلى النصب

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 338 ]

فصل

والميم الزائدة في قولك ( اللهم ) عوض من ( يا ) وقال الكوفيَّون أصله ( يا الله أمّنا بخير ) وهو غلط لوجهين أحدُهما أنَّه لو كان كذلك لكثر الجمع بينهما ولّمَّا لم يأتِ ذلك إلاَّ في الضرورة عُلم أنَّه عوض فلم يجمع بينه وبين المعوض والثاني أنَّه يصحُّ أنْ يقع بعد هذا الاسم ( أمّنا بخير ) وما أشبهه كقولك اللهم أغفر لي وأن يقع بعده ضدُّ هذا المعنى كقولك اللهم العنْ فلاناً وما أشبهه

فصل

العَلَم إذا نودي بقي على تعريفه ومنهم من قال ينكَّر ثّم يتعرَّف بالقصد والإشارة وحجَّةُ الأوَّل من وجهين أحدهما أنَّك تنادي من لا يشاركه غيره في اسمه كقولك ( يا الله ) و ( يا فرزدق ) ولو تنكَّر لصار له نظائر فيتعَّين بالقصد

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 339 ]

والثاني أنَّ ( يا ) تدخل على النكرة غير المقصودة نحو ( يا رجلاً ) ولو كانت ( يا ) تحدث التعريف لحدث بها هنا وكذلك المضاف نحو يا عبدالله وتعريفه بالإضافة لا بالقصد

واحتجَّ الآخرون بأنَّ ( يا ) تُحْدِثُ التعريف في النكرة المقصودة فكذلك في العلم تحدثه بالخطاب ولن يصحّ ذلك إلاَّ بنزع التعريف الأوَّل ولذلك لم تدخل على الألف واللام

فصل

إذا كان المنادى علماً أو كنية ووصف ب ( ابن ) مضافٍ إلى علم أو نكرة جاز فيه الضمّ على الأصل والفتح إتباعاً لفتحة نون ابن ولا يكون ذلك في غير هذا الموضع لأنَّ العلم والكنية يكثر استعمالهما مع الوصف ب ( ابن ) للحاجة إلى التعريف بالنسب فيصير الموصوف والصفة كشيء واحد فيفتحان كالمركَّب

فصل

وتدخل ( لام الاستغاثة ) على المنادى إعلاماً بالاستغاثة إذ ليس كلّ منادى مستغاثاً به وتتعلَّق بحرف النداء وتفتح كما تفتح مع ضمير المخاطب

فأمَّا ( لام المستغاث له ) فتكسر لأنَّه غير واقع موقع الضمير

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 340 ]

وأمَّا المعطوف علىالمستغاث به فتكسر لامه لأنَّ واو العطف تغني عن الفرق بفتح اللام فتكسر كما تكسر مع كلَّ ظاهر

فصل

ويحذف حرف النداء من كلّ منادى إلاَّ النكرة والمبهم أمَّا النكرة فإنَّها لا تتعرَّفُ هنا إلاَّ ب ( يا ) الدالَّة على القصد والإشارة فإذا لم تكنْ بقي على تنكيره ولذلك إذا ارادوا تعريفه باللام جاؤوا ب ( يا أيُّها ) فلو حذفوا للحق الإجحاف

وأمَّا المبهم فلشدَّةِ إبهامه يحتاج إلى مخصص [ فلو حذف المخصّص لبقي على إبهامه ] ولذلك جاز أن يكون المبهم وصفاً ل ( أيّ ) في النداء كما كان اسم الجنس

فصل

إذا ناديت المضاف إلى نفسك وكان الأوَّل صحيحاً فلك فيه أوجه أحدُها حذف الياء نحو يا غلامِ لأنَّ الكسرة تدلُّ عليها في الإثبات والثاني إثباتها ساكنة على الأصل والثالث فتحها لأنَّ حقَّ ياء الضمير الفتح كالكاف

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 341 ]

والرابع إبدال الفتحة كسرةً والياء الفاً ليمتدّ الصوت زيادة مدّ والخامس حذفُها وضمُّ الميم وتريد في هذا الوجه ما أردت في الإضافة

فإنْ كان بين الياء والاسم المنادى اسم آخر لم تحذف نحو يا غلام أخي ويا ابن صاحبي لأنَّ الوسط ليس بمنادى وقد جاء الحذف في يا ابن عِمي ويا ابن أمّي ويا ابن صاحبي وفيه أيضاً الوجوه التي ذكرت في غلام إلاَّ أنَّ منهم من يحذف الياء ويفتح الميم فيقول يا ابن أمَّ وفيه وجهان أحدُهما أنَّه ركَّب الاسمين كخمسة عشر والثاني أنَّه اراد ( ابن أمّا ) فحذف الألف لطول الكلام اجتزاء بالفتحة وإنَّما أختصَّ هذان الاسمان بهذا الحكم في النداء لكثرة استعمالهما

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 342 ]

باب الندبة

هي ( فُعْلة ) من ( ندبته ) أي حثثته فكأنَّ النادب يحثُّه حزنه على الندبة أو يحثُّ السامع على الحزن على المندوب وحروفها ( وا ) و ( يا ) وقيل ( آ ) أيضاً وأكثر من يتكلّم بها النساء لضعف قلوبهنَّ

فصل

وتُزاد في آخر المندوب إذا وُقِفَ عليه ( الألف ) ليزداد مدُّ الصوت ليشيع حال المندوب ويدل علىتفجُّع النادب وتزاد عليها ( هاءٌ ) لتبيين الألف فإن حذفت الهاء لم تأت بالألف لئلاّ يظن أنَّها بدل من ياء المتكلَّم

فصل

ولا يندب إلاَّ العلم أو المضاف إذا كان المندوب مشهوراً به ليكون عذراً للنادب كقولك وازيداه واعبد الملكاه وامن حفر بئر زمزماه وانقطاع ظهرياه

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 343 ]

فصل

وإذا خفت من إثبات الألف لّبْساً قلبتها من جنس الحركة التي قبلها كقولك في غلامه ( واغلامهه ) ولا تقول ( اغلامهاه ) لئلاّ يلتبس بغلامها للمؤنَّث وتقول إذا ندبت غلامك ( واغلامكيه ) ولا تقول ( واغلامكاه ) لئلاّ يلتبس بالمذكر وعلى هذا فَقِسْ

فسأله

لا يجوز أن تلحق علامة الندبة الصفة نحو ( وازيد الظريفاه ) وأجازه الكوفيَّون ويونس

ووجه المذهب الأوَّل من وجهين أحدُهما أنَّ الصفة غير مندوبة ولا لازمة للمندوب فلم تلحقها علامة الندبة بخلاف المضاف إليه لأنَّه من تتمَّة المضاف والثاني أنَّ الصفة اسم معرب مفرد فلا تلحقها علامة الندبة كالنكرة وعلَّة ذلك ألاَّ يصير مبنيّاً

واحتجَّ الآخرون من وجهين

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 344 ]

أحدُهما ما سمع من عربيّ فصيح ضاع منه قدحان من خشب فندبهما واجمجمتيّ الشاميّتيناه والثاني أنَّ الصفة في بعض المواضع تلزم كصفة ( أيّ ) في باب النداء وصفة ( من ) و ( ما ) النكرتين فجرى مجرى المضاف إليه ولأنَّها توضحّ كما يوضحّ

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 345 ]

باب الترخيم

وهو في اللغة لينُ الصوت وانقطاعُه قال ذو الرَّمة 62 -

( لها بَشَرٌ مثلُ الحريرِ ومنطقٌ ... رخيمُ الحواشي لاهراء ولا نزْرُ ) - الطويل - وبهذا المعنى سمَّي الترخيم والنداء لأنَّك تحذف من آخر الاسم فينقص الصوت ويضعف

فصل

والترخيمُ حذفُ آخرِ الاسم المنادى المبنيّ الزائد على ثلاثةِ أحرف غير المؤنَّث أمَّا اختصاصه بالآخرِ فلأنَّ ما بقي من الاسم يدلُّ على ما يحذف من آخره إذا كان مشهوراً ولا يدلُّ آخره على أوَّله وأمَّا اختصاصه [ بالمنادى فلأنَّ النداء قد كثر فيه التغيير لأنَّه موضع تخفيف وتنبيه بالأسماء المشهورة ]

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 346 ]

وأمَّا أختصاصه بالمبنيِّ فلأمرين أحدُهما أنَّه معروف بنفسه لا بالإضافة وذلك بُني كما بني ضمير الخطاب والثاني أنَّه لو حذف من المعرب لسقط منه الإعراب وحرفه وذلك إجحاف والمبنيُّ لا يسقط منه إلاَّ حرفُ لا إعراب فيه

مسألة

لا يجوز ترخيم المضاف إليه وقال الكوفُّيون يجوز وحجَّة الأوَّلين أنَّ المضاف لإليع معرب غير منادى فلم يرخمَّ في الاختيار كما لولم يكن قبله منادى

واحتجَّ الآخرون بما جاء في الشعر من ذلك نحو 63 -

( يا آل عكرم ... ) ومن [ الطويل ]

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 347 ]

-

( أبا عرو ... ) - الطويل - يريد يا عكرمةُ ويا عروة ولأنَّ المضاف إليه تتمّة للمنادى فصار كأنَّه آخره والجواب أمَّا الشعر فلا حجَّة فيه لأنَّه ممَّار رخَّم في غير النداء للضرورة وأمَّا المضاف إليه فهو معربٌ غير منادى كما سبق

فصل

ولا يجوز ترخيم الثلاثي غير المؤنثَّ وقال الكوفَّيون يجوز إذا كان الأوسط متحرَّكاً نحو ( عُمَر )

حجَّة الأوَّلين أنَّ الثلاثيّ أقلُّ الأصول فحذفه إجحاف ولم يرد به سماع يسوغَّ الأخذ به واحتجَّ الآخرون بأنَّ في الاسماء المعربة ما هو على حرفين نحو ( يد ) و ( دم ) و ( غد )

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 348 ]

والجواب أنَّ تلك الأسماء محذوفة اللامات اعتباطاً فلا يقاس عليها ولذلك قلّت جداً فإنْ قيل رخَّموا ( ثُبة ) قيل إنَّ تاء التأنيث كاسم ركَّب مع اسم بدليل أنَّ ما قبلها لا يكون إلاَّ مفتوحاً فتحذف كما يحذف الثاني من المركَّب فكأنَّ الترخيم لم يحذف من الاسم شيئاً

مسألة

إذا رخّمت الرباعيّ لم تحذف منه سوى حرف واحد وقال الفرَّاء إن كان الثالث ساكناً حذفته مع الأخير نحو ( سِبَطْر ) تقول ( يا سِبَ ) واحتجَّ لذلك بأنَّه إذا بقي الساكن اشبه الأدوات وهذا فاسد لوجهين أحدُهما أنَّ بناء المتحرَّك يلحقه بالأدوات ولم يمتنع والثاني أنَّ الاسم بعد ترخيمه قد بقي على زنة لا نظير لها في الأسماء كحذف الثاء من ( حارث ) فإنَّه جاء على ( فاعِ ) ولا نظير له فعلم أنَّ الحذف هنا والبناء عارضان لا يعتدُّ بما يخرج عن النظائر لأجلهما ويؤكَّد ذلك أنَّ ماقبل آخره مكسور يحذف وتبقى الكسرة وهي تشبه ما يكسر لالتقاء الساكنين وهو مع ذلك جائز

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 349 ]

فصل

ولا ترخمَّ النكرة لأنَّها في الأصل وصفُ ل ( أيّ ) فلم يجتمع عليها حذف الموصوف وحذف آخرها وما جاء في الشعر نحو 65 -

( يا صاح ... ) - البسيط - شاذّلا يقاس عليه

فصل

ولا يرخَّم المبهم وإن زاد على ثلاثة أحرف لأوجه أحدُها أنَّه ضعف بالإبهام فلا يضعف بالحذف والثاني أنَّ إبهامه يقرَّبه من النكرة والنكرة لا ترخَّم والثالث أنَّه في الأصل وصفٌ ل ( أيّ ) فلم يجمع بين حذفين والرابع أنَّه وصف ل ( أيّ ) والأوصاف لا ترَّخم مع الموصوفات فكذلك ما هو في تقديرها

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 350 ]

فصل

ولا يحذف من الاسم الذي فيه تاء التأنيث شيء غيرها وإنَّ كان ما قبلها زائداً لأنَّها بمنزلة اسم ضمّ إلى اسم على ما ذكرنا من قبل

فصل

إذا ناديت الصفة التي فيها تاء التأنيث لم تحذفها نحو ( يا فاسقة ) لئلاّ يلتبس بالمذكَّر فإنْ كانت علماً جاز

فصل

إذا رخَّمت ( طيلسانا ) حذفت الألف والنون لأنَّهما زائدتان وضَمْمت السين وإنْ شئت فتحتها هذا إذا فتحت اللام فإن كسرتها لم يجز ترخيمه عند المبرَّد قال لأنَّه على وزن لا نظير له وهو ( فَيْعِل ) وأجازه السيرافي وغيره وقالوا لأنَّه قد يبقى بعد الترخيم بناء لا نظير له في غيره نحو يا حار وقد بيَّنا ذلك قبلُ

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 351 ]

فصل

فإنْ سمَّيت ب ( حُبْلَوِي ) أو ( حبليان ) لم يجز أنْ ترخِّمه على قول من قال يا حارُ بالضمّ لأنَّ الواو والياء هنا ينقلبان ألفين فيصير ( فُعلى ) وألف فُعلى لا تكون منقلبة أبداً لكنَّها للتأنيث وأجازه السيرافيّ وعلَّل بنحو ما تقدَّم

فصل

وللعرب في الباقي بعد الترخيم مذهبان أحدُهما تركه على ما كان عليه وهو الأجود لأنَّ بقاءه على ذلك ينبَّه على الأصل والثاني أنْ يضم على كلَّ حال ويجعل كأنَّه اسم قائم برأسه / وفائدة اختلاف المذهبين أنَّك إذا رخَّمت علىالمذهب الأوَّل تركت الحرف الباقي علىحاله ولم تغيَّره على ما يوجب قياس التصريف وإذا رخَّمته على ا لمذهب الثاني غيَّرته على ما يوجبه قياس التصريف وإذُّ عرفت هذا الأصل استغنيت عن الإطالة بالمسائل

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 352 ]

باب حروف الجرّ

إنَّما سمِّيت كسرة الإعراب جرّاً لتسفُّلها في الفم وانسحاب الياء التي من جنسها على ظهر اللسان كجرّ الشيء على الأرض ومنه قيل لأصل الجبل جرُّ لتسفَّله

والكوفَّيون يسمُّونه ( خفضاً ) وهو صحيح المعنى لأنَّ الانخفاض الأنهباط وهو تسفُّل

فصل

وإنَّما عملت هذه الحروف لاختصاصها بأحد القبيلين وقد ذكرنا علَّة ذلك في باب ( أنَّ ) وإنَّما عملت الجرّ دون غيره لأمرين احدُهما أنَّ الفعل عمل الرفع والنصب فلم يبقى للحرف ما ينفرد به إلاَّ الجرّ والثاني أنَّ الحرف واسطة بين الفعل وبين ما وما يقتضيه فجعل عمله وسطاً والجرُّ من ( الياء ) وهي من حروف وسط الفم بخلاف الرفع فإنَّه من الضمَّ والضمُ من الواو والواو من الشفتين وبخلاف النصب فإنّه من الألف والألفُ من أقصى الحلق

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 353 ]

فصل

والأصل في الجرّ للحروف لأمرين أحدُهما أن أصل العمل للأفعال والحروف دخلت موصولة لها إلى الأسماء فلَمَّا اختصَّت عملت فكانت تلو الأفعال في العمل أما الأسماء فمعمول فيها فلم تكن عاملة والثاني أن الإضافه تقدَّر بالحرف فدلَّ ذلك على أنَّه الأصل وإنمَّا عملت في الأسماء لما يذكر في مواضعه

فصل

و ( مِنْ ) على أوجه

أحدهُا ابتداء غايه المكان كقولك سرت من البصرة فالبصرة مبتدأ السير وقال ابن السرَّاج تكون ( من ) لابتداء غايه الفعل من الفاعل كما ذكرناه ولابتداء غاية الفعل من المفعول كقولك نظرت من الدار إلى الهلال من خلل السحاب ف ( من الدار ) مكان الفاعل و ( من خلل السحاب ) مكان المفعول وقال غيره

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 354 ]

( من خلل السحاب ) حال من الهلال ويمكن أنَّ يكون ( من الدار ) حالاً من الناظر

والثاني التبعيض وعلامتُه أنْ يصلح مكانَها ( بعضٌ ) كقولك أخذت من المال وقال المبرَّد هي لابتداء المكان أيضاً والتبعيض مستفاد بقرينة فإنَّ قلت أخذت من زيد مالاً جاز أنَّ تعلّق ( من ) بأخذت وأنَّ تجعلها حالاً من المال أي مالاً من زيد فلما قدَّمت صفة النكرة صارت حالاً

والثالث أنَّ تكون بمعنى البدل كقوله تعالى ( أرضيتم بالحياة الدينا من الآخرة ) أي بدلاً من الآخرة وموضعها حال ومنه قوله ( ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة ) أي بدلاً منكم

والرابع أن تكون لبيان الجنس كقوله ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) [ أي الرجس الحاصل من جهة الأوثان ] وهذه أشبه بالتي هي للابتداء فأمَّا قولك زيد أفضلُ من عمرو ف ( من ) فيه لابتداء الغاية والمعنى ابتداء معرفة فضل زيد من معرفة فضل عمرو أي لَمَّا قيس فضله بفضل عمرو بانت زيادتُه عليه

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 355 ]

والخامس أن تكون زائدة وذلك في غير الواجب نحو ما جاءني من أحد و ( هل تحسُّ منهم من أحد ) وإنَّما زيدت هنا للتوكيد فقط لأنَّ أحداً من اسماء العموم

فأمَّا قولك ما جاءني من رجل ف ( من ) زائدة من وجه لأنّك لو حذفتها لاستقام الكلام وغير زائدة من وجه لأنَّها تفيد استغراق الجنس ألا ترى أنَّك لو حذفتها لنفيت رجلاً واحداً كقولك ما جاءني رجلٌ بل رجلان وإذا أثبتَّها دللت بذلك على أنَّه لم يأتك رجلٌ ولا أكثر

مسألة

لا تجوز زيادة ( مِنْ ) في الواجب وأجازها الأخفش ودليلنا أنَّ ( مِنْ ) حرف والأصل في الحروف أنَّها وُضعت للمعاني اختصاراً من التصريح بالاسم أو الفعل الدالّ على ذلك المعنى كالهمزة فإنَّها تدلُّ على استفهام فإذا قلت أزيدٌ عندك أغنت الهمزة عن ( أستفهم ) وأخذت من المال أي بعضه وما قصد به الاختصار لا ينبغي أن يجيء زائداً لأنَّ ذلك عكس الغرض وإنَّما جاز في مواضع لمعنى من تأكيد ونحوه ولايصحُّ ذلك المعنى هنا ألا ترى أنَّك لو قلت ضربت من رجل لم تكن مفيداً ب ( من ) شيئاً بخلاف قولك ما ضربت من رجل

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 356 ]

واحتجَّ الآخرون بقوله تعالى ( ويكفِّر عنكم من سيئاتكم ) و ( يغفر لكم من ذنوبكم ) والمراد الجميع والجواب أنَّ ( مِنْ ) هنا للتبعيض أي بعض سيئاتكم لأنَّ أخفاء الصدقّة لا يمحِّص كل السيئات وأمَّا ( من ذنوبكم ) فالتبعيض أيضاً لأن الكافر إذا اسلم قد يبقى عليه ذنب وهو مظالم العباد الدنيويَّة أو تكون ( من ) هنا لبيان الجنس

فصل

و ( إلى ) لانتهاء الغاية وهي مقابلة ل ( مِنْ )

وقال قوم تكون ( إلى ) بمعنى ( مع ) كقوله تعالى ( ولا تأكلوا أموالهم ' إلى أموالكم ) و ( من أنصاري إلى الله ) ( ويزدكم قوَّة إلى قوَّتكم ) ( وأيديكم إلى المرافق ) وهذا كلُّه لا حجَّة فيه بل هي للانتهاء والمعنى لا تضيفوا أموالهم إلى أموالكم وكنَّى عنه بالأكل كما قال ( لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) أي لا تأخذوا و ( من أنصاري ) أي من ينصرني إلى أن

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 357 ]

أُتَّم أمرَ الله أو موضعها حال أي من أنصاري مضافاً إلى الله ومثله ( إلى قوَّتكم ) وأمَّا قوله ( إلى المرافق ) ففيه وجهان أحدُهما أنَّها على بابها وذاك أنَّ المرفق هو الموضع الذي يتَّكئ الإنسان عليه من رأس العضد وذلك هو المفصل وفويقه فيدخل فيه مِفْصَلُ الذراع ولا يجب في الغسل أكثر منه والثاني أنَّ ( إلى ) تدلُّ على وجوب الغسل إلى المرفق ولا تنفي وجوب غسل المرفق لأنَّ الحدّ لا يدخل في المحدود ولا ينفيه التحديد كقولك سرت إلى الكوفة فهذا لا يوجب دخول الكوفة ولا ينفيه وكذلك المرفق إلاَّ أنَّ وجوب غسله ثبت بالسَّنة

فصل

ومعنى ( عن ) المجاوزة والتعدِّي وقولك أخذت العلم عن فلان مجاز لأنَّ علمه لم ينتقل عنه ووجه المجاز أنك لّمَّا تلقَّيته منه صار كالمنتقل إليك عن محلَّه

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 358 ]

فصل

وقد يكون ( عن ) اسماً يدخل عليه حرف الجرّ فيكون بمعنى جانب وناحية قال الشاعر 66

( ولقد أراني للرماح دريئةً ... مِنْ عَنْ يميني مرَّة وأمامي ) - الكامل -

وهي إذا كانت اسماً مبنيَّة لشبهها بالحرف في نقصانها لأنَّك لا تقول جلست عن كما تقول جلست ناحية وجانباً

فصل

وأما ( في ) فحقيقتها الظرفيَّة كقولك المالُ في الكيس وقد يتجوَّز بها في غيرها كقولك فلان ينظر في العلم لأنَّ العلم ليس بظرف على الحقيقه ولكن لَمَّا قيَّد نظره به وقصره عليه صار العلم كالوعاء الجامع لما فيه

وقد تكون بمعنى السبب كقوله وآله وسلَّم ( ( في النفس المؤمنه

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 359 ]

مائة من الإبل ) ) أي تجب بقتلها الإبل ووجه المجاز أنَّ السبب يتضمَّن الحكم والحكم يلازمه فصار للحكم كالظرف الحافظ لما فيه

فصل

وأمَّا ( على ) وتكون حرف جرّ وحقيقتها للدلالة على الاستعلاء كقولك زيد على الفرس فتكون مجازاً فيما ما يغلب الأنسانَ كقولك عليه كآبة أي تغلبه وتظهر عليه وعليه دَيْنٌ أي لزمه الانقياد بسببه كانقياد المركوب لراكبه وهو معنى قول الفقهاء ( على ) للإيجاب

فصل

وقد تكون اسماً بمعنى فوْق مبنيّاً وتقلب ألفها ياء مع الضمير كقول الشاعر 67 -

( غَدَتْ من عليه بعدما تمَّ ظِمْؤها ... تصلُّ وعن قيْضِ بزيزاءَ مَجْهَلِ ) - الطويل

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 360 ]

يعني قطاة فارقت بيضها بعدما تَّم عطشها وإنَّما بينت لنقصانها كما ذكرنا في ( عن ) وقلبت ألفها ياءً حملاً على حالها وهي حرف وألفها من واو لأنَّها من علا يعلو

فصل

وأمَّا ( لام الجرَّ ) فمعناه الاختصاص وهذا يدخل فيه الملك وغيره لأنَّ كلّ ملك اختصاص وما كلّ اختصاص ملكاً وقولك السرج للدَّابة للاختصاص ولام التعليل كقولك جئتُ لإكرامِك للاختصاص أيْضاً لا للملك

فصل

وتكسر هذه اللام مع المظهر غير المنادى وتفتح مع المضمر غير الياء وإنَّما حرَّكت وأصلها السكون لأنَّها مبتدأ بها وفي كسرها وجهان أحدُهما الفرق بيننها وبين لام الابتداء فإنَّها في بعض المواضع تلتبس بها فجعل في نفسها ما يمنع من وقوع اللبس وأُمِنَ اللبسُ في المضمر فردَّت إلى الأصل وكسرت مع الياء إتباعاً وإنَّما أُمنَ اللبسُ مع الْمضمر لأنَّ الضمير الواقع بعد لام الابتداء منفصلٌ وبعد لام الجرِّ متصَّل واللفظان مختلفان والوجه الثاني أنَّ اللام تعمل الجرّ فجعلت حركتها من نفس عملها ومع المضمر لا عمل لها في اللفظ فخرجت على الأصل ولأنَّ الضمائر تردَّ الأشياء إلى أصولها

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 361 ]

فصل

وأمّأ ( الباء ) فللإصاق في الأصل وتستعمل في غيره على التشبيه بالإلصاق كقولك مررت بزيد أي حاذيته والتصقت به وتقول أُخذ بذنبه أي ذنبه سبب لذلك والسبب يلازمه حكمه غالباً والملازمة تقرب من الإلصاق وتكون للبدل كقولك بعته بكذا فهي للمقابلة كما أنَّ السببية للمقابلة وتكون زائدة وسنذكر أقسامها في الحروف

فصل

و ( الكاف ) للتشبيه تكون في موضعٍ حرفاً لا غير يجوز أن تقع صلة كقولك الذي كزيد عمرو ولو كانت هنا أسماً لما تَّمت الصلة بها وتكون في موضع اسماً لا غير مثل أنْ تكون فاعلة كقول الشاعر 68 -

( أتنتهون ولَنْ ينهى ذوي شطَطٍ ... كالطعن يهلكُ الزيتُ والفتلُ ) والفاعل لا يكون إلاَّ اسماً مفرداً وإذا دخل عليها حرف الجرّ كانت اسماً كقوله

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 362 ]

-

( يَضْحكن عن كالبَرَدِ الْمُنْهَمَّ ... ) - الرجز - وتكون في موضعٍ محتملةً لهما كقولك زيدٌ كعمرو ومررت برجل كالأسد وجاء زيد كالأسد وتكون زائدةً ويذكر في موضعه

فصل

فإنْ قيل لم فتحت ( الكاف ) وكسرت ( اللام والباء ) قيل الأصل في الحروف الأحاديَّة الفتح لأنَّها يبتدأ بها والابتداء بالساكن الذي هو الأصل الأوَّل مُحال فحرِّكت والضرورة تندفع بأخفَّ الحركات إلاَّ أنَّ ( الباء واللام ) كسرتا لما ذكرنا قبلُ فأمَّا ( الكافُ ) فتكون حرفاً وتكون اسماً فبعدت من اللام والباء فردَّت إلى ألاصل وقيل إنَّ الكاف من أعلى الحلق ففيها نوع من استعلاء فكسرها مستثقل وقيل هي قريبة من مخرج الياء فيثقل كسرها كما يثقل كسر الياء

فصل

وأمَّا ( واو القسم وتاؤه ) ففرعان على الباء فُردَّا إلى الفتح الذي هو الأصل

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 363 ]

فصل

وإنَّما لم تدخل ( الكاف ) في الاختيار على مضمر لتردُّدها بين الاسم والحرف وذلك اشتراك فيها والاشتراك فرع والضمائر تردُّ الأشياء إلا أصولها ولا أصل لها ولهذه العلَّة لم تدخل حتَّى على المضمر وقيل لّمَّا لم تكسر ( الكاف ) لم تدخل على المضمر لأنَّ من المضمرات ما يوجب كسر ما قبله وهو ياء المتكلِّم فألحق باقيها به بخلاف اللام والباء فأمَّا الواو والتاء فيذكران في القسم

فصل

وأمّا ( رُبَّ ) فحرفٌ عند البصريَّين واسمٌ عند الكوفيِّين وحجَّة الأوَّلين من أوجه أحدُها أنَّ معناها في غيرها فكانت حرفاً كسائر أخواتها والثاني أنَّ ما بعدها مجرور أبداً ولا معنى للإضافة فيها فتعيَّن أنَّ تكون حرف جر

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 364 ]

والثالث أنَّها تتعلَّق أبداً بفعل وهذا حكم حرف الجرّ

وحجّة الآخرين من أوجهٍ أحدُها أنَّه أخبر عنها فقالوا 70

( ... وربَّ قتل عار ) - الكامل - فرفع ( عار ) يدلُّ أنَّه خبر عنها والثاني أنَّها لوكانت حرف جرّ لظهر الفعل الذي تعدّيه ولا يظهر أبداً والثالث أنَّها نقيضّة ( كَمْ ) وكم اسم فما يقابله اسم يدلُّ عليه أنَّها جاءت للتكثير ك ( كم )

والجواب أمَّا الإخبار عن ( ربّ ) فغير مستقيم لأنَّ ( ربّ ) ليس لها معنى في نفسها حتَّى يصحَّ نسبة الخبر إليها ولذلك تكون الصفة تابعة للمجرور ب ( ربّ ) في التذكير والتأنيث والإفراد والجمع و ( ربّ ) متَّحدة المعنى فعلم أنَّ الخبر ليس

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 365 ]

عن ( ربّ ) فأمّا قوله ربّ قتل عارٌ فشاذّ والوجه فيه أنَّه خبر مبتدأ محذوف أي ( هو عار ) والجملة صفة لقتل وأمّا الفعل الذي تتعلَّق به ( ربّ ) فيجوز إضهاره غير أنَّهم اكتفوا بالصفة عنه في كثير من المواضع لظهور معناه وأمَّا حملها على ( كْم ) فلا يصحّ لوجهين أحدهما أنَ الأسميَّة لا تثبت في معنى بالإلحاق في المعنى ألا ترى أنَّ معنى ( مِنْ ) التبغيض ولا يقال هي اسم لأنَّها التبعيض وكذلك معنى ( ما ) النفي وهي حرف وهو اسم فعلم أنَّ الأسمَّية تعرف من أمر آخر والثاني أنَّ ( كم ) اسم لعدد ولذلك يخبر عنها وتدخل عليها حروف الجرّ ولو جعل مكانها عهدد كثير أغنى عنهاكقولك مائة رجل أو ألف رجل وربّ للتقليل والتقليل كالنفي ولذلك استعملوا ( أقلّ ) بمعنى النفي كقولهم أقلّ رجل يقول ذاك إلاَّ زيد أي ما رجل

فصل

وتُضمر ( رُبّ ) بعد الواو والجرُّ بها وقال المبرِّد والكوفيُّون الجرّ بالواو وحجَّة الأوَّلين أنَّ الواو في الأصل للعطف والعطف يكون للأسماء والأفعال والحروف فهي غير مختصة وما لا يختصُّ لا يعمل إلاَّ أن ينوب عن مختّص لا يظهر

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 366 ]

معه البتة ك ( واو القسم ) فإنَّها تدخل على ( الباء ) وهما للقسم ومن هنا لم تعمل حروف العطف لأن العامل يظهر معها فكذلك ( واو ربّ ) هي للعطف وتدخل على ( ربّ ) كما تدخل عليها ( الفاء ) و ( بل ) وقد أضمرت بعد ( الفاء ) و ( بل ) ولم يقلْ أحدّ إنَّهما تجرَّان فكذلك الواوفمن ( الفاء ) قول الشاعر 71 -

( فإمَّا تعرضنَّ أميمَ عنِّي ... وينزغْك الوشاةُ أولو النياطِ )

( فحور قد لهوتُ بهنَّ عينٍ ... نواعَم في البرود وفي الرياط ) - الوافر - ومن بلْ قول الراجز 72 -

( بل بلدٍ ملءُِ الفِجاج قَتَمُهْ ... لا يشترى كتَانُه وجَهْرَمُهْ ) - الرجز - فإن قيل الواو قد تأتي في أوَّل الكلام وليس هناك معطوف عليه قيل إن لم يكن المعطوف عليه في اللفظ فهو مقدَّر وهذه وهذه طريقة للعرب في أشعارهم وفيما ذكرناه جواب عمَّا يتعلقون به

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 367 ]

فصل

وإنَّما وجب ل ( ربّ ) صدرُ الكلام لأنَّها تشبه حروف النفي إذ كانت للتقليل والقليل في حكم المنفيّ وإنَّما أختصَّت بالنكرة لأن القليل يتصوَّر فيها دون المعرفة وإنَّما لم تدخل على مضمر لأن الضمائر معارف وأمَّا قولُهم ربّه رجلاً فشاذّ مع أنَّ هذا الضمير نكره لأنَّه لم يتقدم قبله ظاهر يرجع إليه بل وجب تفسيره بالنكرة بعده ولم يستعمل إلاَّ مذكراً مفرداً

فصل

وتُكَفُّ ( رُبَّ ) ب ( ما ) فتدخل على الفعل الماضي خاصَّة لأنَّه تحقَّق فأمَّا قوله تعالى ( ربّما يودُّ اللذين كفروا ) ففيه وجهان أحدُهما أنَّ ( ما ) نكرة موصوفة أي ربّ شيء يودّه والثاني هي كافَّة ووقع المستقبل هنا لأنَّه مقطوع بوقوعه إذا خبراً من الله تعالى فجرى مجرى الماضي في تحقٌّقه وقيل هو على حكاية الحال

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 368 ]

فصل

وقد حكي تخفيف الباء من ( رب ) وتحريكها بالفتح وحكي فتح رائها وحكي زيادة تاء التأنيث عليها فقيل ( ربت ) فمنهم من يقف عليها ( تاء ) ليفرّق بين الحرف والاسم ومنهم من يقلبها ( هاء ) لتحرُّكها كالتاء في الاسم

ودخول التاء لا يدلُّ على أنَّها اسم لأنها قد دخلت على ( ثُمَّ ) وهي حرف بلا خلاف وكذا حذف إحدى اللامين لا يدلُ على انها اسمٌ من حيث أنَّ الحذف تصرّف والحروف تبعد عن التَّصرُّف لأنَّ الحذف قد جاء في الحروف كقولهم ( سَوْ أفعل ) في سوف وفي ربّ أحسن من اجل التضعيف

فصل

فأمَّا ( حاشا ) و ( خلا ) فيذكران في الاستثناء وأمَّا ( حتَّى ) فلها باب وكذلك ( مُذْ ) و ( مُنْذُ )

اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 369 ]