المجلد الثالث: الجماعات اليهودية.. التحديث والثقافة 1

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

الجزء الأول: التحديث

الباب الأول: من التحديث إلى ما بعد الحداثة

البروتسـتانتية (القـرنان السـادس عشر والسابع عشـر)

(Protestantism (Sixteenth and Seventeenth Century

ثمة علاقة وثيقة بين البروتستانتية من جهة والعقيدة اليهودية والجماعات اليهودية من جهة أخرى. ولعل من أكثر العناصر أهمية شكل الحلول في كل من البروتستانتية واليهودية. فبدلاً من الحلول الفردي المؤقت المنتهي (في شخص المسيح أو في الكنيسة، جسد المسيح) نجد أن الحلول يكون في الشعب أو الجماعة، وهو حلول مستمر تنجم عنه حلولية ثنائية صلبة. ويمكن، انطلاقاً من هذا، عقد مقارنة بين العقيدتين لنكتشف بعض نقاط التشابه بينهما (وبإمكان القارئ أن يعود للقسم المعنون «الرأسمالية والجماعات اليهودية» حيث تعرضنا لبعض نقاط الاختلاف والاتفاق). وقد خلق هذا التشابه تربة مواتية في أوربا لتقبُّل اليهودية، وهي تربة لم تكن موجودة في أوربا الكاثوليكية.

وإلى جانب هذا، نجد أن النزعة الأصولية التبسيطية الاختزالية في البروتستانتية جعلت الإصلاحيين يفضلون المبادئ اليهودية البسيطة التي يستطيع القوم فهمها على تعقيدات اللاهوت الكاثوليكي. وقد أكدت البروتستانتية الجانب العبراني في المسيحية على حساب ما وسمته بأنه الجانب الهيليني أو الوثني، وهو ما خلق تعاطفاً مع اليهود ومع الثقافة الدينية اليهودية، خصوصاً أن الكتاب المقدَّس أصبح أكثر الآثار الأدبية شيوعاً، فبدأ الاهتمام باللغة العبرية والتلمود والقبَّالاه.

وقد أثار اللاهوت البروتستانتي قضية شديدة الخطورة وهي قضية الخلاص. فالخلاص ليـس ممكنا من خلال إقامة الشـعائر المقدَّسة، إذ أن مفتاح الخلاص أصبح من خلال النعمة الإلهية والاختيار الإلهي المستمر للبقية الصالحة. ومع تزايد أهمية الاختيار ومركزيته، طُرح سؤال عن العلاقة بين الميثاق والعهد الجديد، هل يفسخ العهدُ الجديد العهدَ القديم أم يُضاف إليه؟ وهذا ما يطرح سؤالاً آخر: هل يظل اليهود شعباً مختاراً؟

كانت المسيحية الكاثوليكية ترى نفسها «إسرائيل الحقيقية» (باللاتينية: إسرائيل فيروس Israel verus). وكان رأي الكنيسة الكاثوليكية أن مجئ المسيح قد نقض العهد الإلهي لإسرائيل وأنهاه. فبعد المسيح لا وعد ولا اختيار إلا لمن آمن بالخلاص وسعى إليه. وباب الخلاص مفتوح لكل الناس بلا استثناء، وعلى اليهود أن يؤمنوا بالمسيح مثلهم مثل غيرهم إذا أرادوا الخلاص. أما النبوءات الخاصة بعودة اليهود فكانت تُؤوَّل على أنها تحققت حينما أعادهم قورش إلى فلسطين. أما الفقرات الأخرى التي تتنبأ بمستقبل مُشرق لإسرائيل، فقد كانت تنطبق ـ حسب تفسير القديس أوغسطين ـ على إسرائيل الجديدة وحسب، أي الكنيسة المسيحية. وبعد ظهور المسيح وإنكار اليهود له أصبح اليهود إسرائيل الجسدية الزائفة والشعب المختار للعنة الإله وأصبحت اليهودية إسماً لا ديناً. ونتيجةً لذلك، كانت الكنيسة الكاثوليكية تفصل بين العبرانيين القدامى الذين كانوا يُعتبَرون شعباً مثالياً وإسرائىل التي ورثتها الكنيسة الكاثوليكية من جهة، واليهود المعاصرين الذين كانوا يقفون في ضعفهم وذلتهم شعباً شاهداً على عظمة الكنيسة من جهة أخرى.

كان التفسير البروتستانتي لهذه القضية جدَّ مختلف إذ أكد على ديمومة اختيار اليهود رغم التناقض بين الوعد القديم بالاختيار والوعد الجديد بالخـلاص. فبحسـب وجهة النـظر البروتسـتانتية، لم يتغيَّر الميثاق. وقد فسر كالفن كلمة «الجديد» بمعنى «التجديد». وكما أن العهد الجديد لا يحتوي على نقض لما كان قديماً، فمحتوى الوعد واحد إنما أخذ أبعاداً جديدة، فالوعد لم يقم بحد ذاته بل ارتبط بمفهوم الوفاء به، أي أن الإله لم يُعط الوعد لليهود دون أن يتعهد بأن يفي به. والمسيح في نظر كالفن هو الوفاء بالعهد أو الوعد الإلهي دون نقض لما كان قبله، وهذا، على حد قول كالفن، ما قال به المسيح نفسه: إنه ما جاء لينقض الناموس بل ليكمله، وإن كلامه لن يزول حتى يتم الكل. فنعمة الإله على اليهود في رأي كالفن لا يمكن إهمالها كعمل عظيم كان في الماضي ومرّ عليه الزمن بل هو متضمَّن في حياة الكنيسة، أي أنه وعد أزلي. ولأنه أزلي، فإن الماضي يشبه الحاضر ويشبه المستقبل، وثمة استمرارية صلبة تؤدي إلى التفسيرات الحرفية. وتقوم التفسيرات الحرفية بتحويل نصوص العهد القديم وقصصه الديني إلى حقائق ووقائع (حوادث) تاريخية. كما ساد الاعتـقاد بين البروتسـتانت بأن اليهـود المعاصـرين هم العبرانيون القدامى، وهم الفلسطينيون الغرباء في أوربا الذين سيعادون إلى فلسطين عندما يحين الوقت، ومن ثم ظهرت العقيدة الألفية الاسترجاعية وحلت محل فكرة الشعب الشاهد. وقد أدَّى هذا إلى ظهور ضرب من الفكر الصهيوني الاسترجاعي الذي يطالب بعودة اليهود إلى فلسطين.

ومما ساعد على ذلك، نزوع البروتستانت نحو الخلط بين المقدَّس والتاريخي وبين المطلق والنسبي. فالوجدان البروتستانتي دائب البحث عن قرائن وإشارات (مادية) من الإله، ودائم الانتظار للرؤي (أبوكاليبس) التي تتحقق داخل التاريخ، وهذا جزء من نزعته الحرفية. وهذه الرؤية صهيونية في بنيتها، فهي رؤية تنكر التاريخ المتعيِّن،وتنتقل بسهولة من العهد القديم إلى فلسطين وبالعكس، وهي تحوِّل اليهود المعاصرين إلى شعب الإله المختار، الذي له حقوق أزلية في أرض الميعاد. ومما يجدر ذكره أنالأسطورة الاسترجاعية هي أسطورة صهيونية ومعادية لليهود في آن واحد. فهي ترى أن الخلاص لا يتم إلا بتحقيق عودة اليهود إلى وطنهم وتنصيرهم، أي التخلص منهم عن طريق التهجير والتنصير. وما حدث بعد ذلك في الاستعمار الاستيطاني هو إقرار أن الخلاص يتم عن طريق التخلص من اليهود بتهجيرهم، أما التنصير فلم يعد أمراً ذا بال في المجتمع العلماني الغربي الحديث.

وقد تزامن ظهور البروتستانتية وحركة الإصلاح الديني مع تزايُد النشاط التجاري الرأسمالي في المجتمعات الغربية. ويرى ماكس فيبر أن ثمة علاقة تبادلية بين الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية الرشيدة )فالبروتستانتية هنا هي «تهويد» للمجتمع المسيحي بالمعنى الذي استخدمه ماركس). وقد كان اليهود جماعة وظيفية وسيطة تعمل بالتجارة والأعمال المالية مثل الربا، وهو ما زاد من أهميتها ونشاطها في المجتمع وخروجها عن هامشه وتحركها نحو مركزه. وقد وجد اليهود المارانو، المطرودون من شبه جزيرة أيبريا الكاثوليكية ومن محاكم التفتيش، ملجأ في الدول والمدن البروتستانتية مثل أمستردام وهامبورج ولندن وغيرها. ولم تَعُد الجماعات اليهودية تنفرد بكونها الأقليات الدينية في المجتمع، إذ كانت توجد الفرق البروتستانتية في الدول الكاثوليكية والفرق الكاثوليكية في الدول البروتستانتية التي كان أعضاؤها يواجهون رفضاً ومقاومة عنيفة أكثر من تلك التي كان يواجهها أعضاء الجماعة اليهودية. ففي أمستردام التي كان يُقال لها القدس الثانية، كان المجتمع البروتستانتي هناك يرحب باليهود ويضطهد الكاثوليك. وقد حاول المفكر الهولندي هيوجو جروتيوس (من منظِّري فكرة القانون الدولي العام والقانون الطبيعي) أن يُعرِّف المصادر المشتركة بين المسيحية واليهودية في بحثه المعنون حقيقة الدين المسيحي فبيَّن أن الفرق المسيحية (الكاثوليكية أو البروتستانتية) كان يُنظَر لها باعتبارها مصدر خطر حقيقي داخلي يفوق كثيراً الخطر اليهودي، فاليهود جماعة معزولة ضعيفة قليلة العدد وهامشية، وكان المجتمع يجيد التعامل معها. كما ظهرت فرق بروتستانتية متطرفة، كالمعمدانيين، هدَّدت البناء السـياسي والاجتماعي ذاته، فضلاً عن أنها كانت ذات جذور جماهيرية راسخة.

ولقد خلخل ظهور البروتستانتية في حد ذاته الإطار المسيحي الكاثوليكي العالمي الموحَّد، فبدأت تظهر تعددية عقائدية في المجتمع الغربي. ويشكل هذا، بطبيعة الحال، بداية تقهقر العقيدة المسيحية وتزايد العلمنة في المجتمع الغربي. وقد ألقى انقسام النخبة الحاكمة إلى بروتستانت وكاثوليك بظلال من الشك على العقيدة ذاتها، الأمر الذي أدَّى بدوره إلى ظهور أو تشجيع الشك الفلسفي واليقين الإلحادي والحركة الإنسانية التي تحوِّل الإنسان إلى مطلق يحل محل الإله.

وقد ساهم مارتن لوثر في إشاعة جو التسامح تجاه أعضاء الجماعات اليهودية في بادئ الأمر، حيث تصوَّر أن بإمكانه هداية اليهود وتنصيرهم. ففي عام 1520 هاجم لوثرهؤلاء الذين يضطهدون اليهود، وأدان اضطهادهم من قبل الكنيسة الكاثوليكية محتجاً بأن المسيحيين واليهود ينحدرون من أصل واحد. بل ورفض لوثر المقولة الإقطاعية الدينية الغربية التي ترى أن اليهود هم أقنان البلاط أو المَلك، ووجد أنهم على حق في رفض المسيحية في صورتها الكاثوليكية الوثنية. ووردت كل هذه الأفكار في كتابه الذي نشره عام 1523، وطُبع سبع مرات في العام نفسه، بعنوان عيسى وُلد يهودياً. ودفاع لوثر عن اليهودية هو جزء لا يتجزأ من نزعته التبشيرية، أي أنه غير مهتم باليهود في حد ذاتهم وإنما مهتم بهم بمقـدار إمكـان تنصـيرهم، فهو يختم كتابه هذا بقولـه: " إذا أردنا أن نجعلهم خيراً مما هم، فعلينا أن نعاملهم حسب قانون المحبة المسيحي لا قانون البابا، علينا أن نحسن وفادتهم وأن نسمح لهم بأن يتنافسوا وأن نتيح لهم فرصة فهم الحياة والعقيدة المسيحيتين، وإذا أصر بعضهم على عناده فما الضرر في ذلك؟ نحن أنفسنا لسنا جميعاً مسيحيين صالحين". وقد عارض لوثر حرق التلمود ومصادرة الكتب الحاخامية، ولعل هذا هو ما حدا بالسلطات الكنسية إلى أن تعتبر لوثر « يهودياً » و« راعياً لليهود » و« شبه يهودي ». بل وتصوَّر بعض اليهود أيضاً أنه يهودي متخفٍّ من يهود المارانو.

ولكن موقف لوثر تغيَّر في أواخر الثلاثينيات، إذ اتخذ موقفاً متطرفاً متعصباً يفوق في تطرفه موقف الكنيسة الكاثوليكية. فالكنيسة الكاثوليكية كانت دائماً ملتزمة بالدفاع عن اليهود وبحمايتهم باعتبارهم الشعب الشاهد، أما لوثر فأسقط هذا الدور تماماً (ضمن ما أسقط من مؤسسات وسيطة). ويُلاحَظ أن تزايُد اشتغال المسيحيين بالتجارة كان له جانبه المظلم بالنسبة لأعضاء الجماعات اليهودية إذ كان ذلك يعني تزايُد التنافس معهم. وقد أدَّى الإصلاح الديني إلى فتح الباب على مصراعيه للاجتهادات والانشقاقات، فظهرت مجموعات المسيحيين الذين تمسكوا بحرفية العهد القديم والذين اتخذوا طابعاً يهودياً، كما هو الحال مع جماعة السبتيين الذين كانوا يستريحون يوم السبت بدلاً من يوم الأحد. وكتاب لوثر خطاب ضد السبتيين يتضمن هجوماً حاداً على اليهود الذين اتهمهم بأنهم يجمعون الأنصار لعقيدتهم. ثم ظهر في عام 1542 كتابه عن اليهود وأكاذيبهم ، أما عام 1543 فشهد نشر كتاب عن شيم هامفوراش ، أي الاسم الذي لا يُنطَق به، والكتابان يتضمنان سيلاً من الشتائم والهجوم على اليهود إذ وصفهم بأنهم خبثاء ولصوص وقطاع طرق وديدان مقزِّزة. ولكن الجدير بالذكر أن لوثر كان عنيفاً في هجومه على كل أعدائه من أمراء وأساقفة وبابوات ومحامين وغيرهم. وقد تأثر لوثر في كتابيه بيهوديين متنصرين. والأكاذيب التي يتحدث عنها لوثر تتعلق بمفهوم الاختيار والميثاق مع الخالق من خلال الختان في سيناء، وإيمان اليهود بأن الرب أعطاهم إرتس يسرائيل (أي فلسطين) والقدس. واستخدم لوثر في كتابه كل الاتهامات التي كانت توجَّه إلى اليهود في العصور الوسطى، مثل تهمة الدم وتسميم الآبار، واتهمهم بأنهم يلعنون المسيحيين في معـابدهم، ووصف اليهـودية بأنهـا أصبحت شكلاً من أشكال الوثنية. كما أوصى لوثر بضرورة إحراق معابد اليهود وتدمير منازلهم وأن يُجمَعوا كالقطيع في الحظائر حتى يتحققوا من أنهم ليسوا أسياداً في بلادهم وإنما غرباء في المنفى، وأن يخضعوا للسخرة، وأن تُسلب منهم كتب الصلوات الخاصة بهم والتلمود وأن يُمنع الحاخامات من تلقين تعاليم دينهم وأن لا يُسمح لهم بالسفر من خلال طرق الإمبراطورية.

وصاغ لوثر في هذا الكتاب فكرة الشعب العضوي المنبوذ صياغة متبلورة، فهو يطالب بعدم إعاقة اليهود عن العودة إلى أرضهم في يهودا (أي فلسطين) ويوصي بتزويدهم « بكل ما يحتاجون إليه في رحلتهم لا لشيء إلا لنتخلص منهم، إنهم عبء ثقيل وهم بلاء وجودنا ». ونحن نرى في هذه العبارات نمطاً متكرراً في الحضارة الغربية. فمعاداة اليهود تُترجم نفسها دائماً إلى دعوة صهيونية، أي طرد اليهود وتوطينهم في فلسطين. وتشبه عبارات لوثر بعض العبارات التي وردت في المقدمة التي كتبها بلفور، صاحب الوعد المشهور، لكتاب تاريخ الصهيونية الذي كتبه ناحوم سوكولوف. وكانت آخر موعظة ألقاها لوثر، قبل موته بأربعة أيام، نوعاً من الهجوم على اليهود والمطالبة بطردهم.

وأثناء محاكمات نورمبرج، صرح جوليوس سترايخر بوجوب محاكمة لوثر بدلاً منه لأن كل ما قاله هو عن اليهود قاله لوثر من قبله، وإن كان بشكل أكثر تطرفاً وحدة. ومن الأمور الجديرة بالتأمل أن ألمانيا هي بلد الإصلاح الديني أي البلد الذي فك الحلول الإلهي (النعمة) من الكنيسة وأطلق عقاله ليفيض على كل الدنيا وكل الناس فيتوحدوا بالإله. وبلد لوثر هو أيضاً البلد الذي ظهر فيه هيجل صاحب المنظومة الحلولية المتطرفة التي تصل إلى مرحلة وحدة الوجود التاريخية أو مرحلة نهاية التاريخ، وهو أيضاً بلد نيتشه الذي اكتشف أن وحدة الوجود تؤدي إلى موت الإله، وهو أخيراً بلد هتلر الذي نصب نفسه إلهاً يحكم بلده في إطار من الحلولية بدون إله.

ومع هذا، يُلاحَظ أن موقف الكنيسة اللوثرية من اليهود أثناء الفترة النازية يختلف باختلاف البلد والانتماء السياسي، فالأوساط المحافظة كانت تؤيد النازيين في حين وقفت العناصر الليبرالية ضدهم. وبينما كان موقف الكنيسة في ألمانيا ممالئاً للنازيين، وقفت الكنيسة اللوثرية ضدهم في السويد والدنمارك. بل إن بعض كبار المفكرين اللوثريين الألمان تنبهوا إلى العلاقة الوثيقة بين فكرة الشعب الواحد الصهيونية، والأفكار النازية التي تُقدِّس التراث القومي. وفي عام 1982، عُقد مؤتمر بمناسبة مرور خمسمائة عام على مولد لوثر وحضره ممثلون عن الكنائس اللوثرية، وأعلن الحاضرون فيه رفض أفكار مؤسس الكنيسة اللوثرية المتصلة باليهود.

ولا يتسم موقف المفكر الديني البروتستانتي جون كالفن (1509 ـ 1564) بهذا الوضوح والعنف، فلم تكن لديه علاقة كبيرة بأعضاء الجماعات اليهودية سواء في فرنساأو سويسرا. ومع هذا، فقد كتب كالفن كتيباً أخذ شكل حوار بين يهودي ومسيحي يحاول كل منهما أن يدافع عن عقيدته ويدحض عقيدة الآخر.

ولكن أثر كالفن في أعضاء الجماعات اليهودية يظهر بشكل غير مباشر، فقد أباح كالفن الربا، وهو ما أسبغ شرعية على أحد النشاطات الاقتصادية الأساسية للجماعات اليهودية. كما أن البروتستانتية الكالفنية التي ابتدعها كالفن، والتي سيطرت على معظم العالم الأنجلو ـ ساكسوني، ساهمت في ظهور الرأسمالية حسب أطروحة ماكس فيبر. وهو الأمر الذي ترك أثراً عميقاً في اليهود. وقد كان اهتمام كالفن بالعهد القديم بالغاً، كما ركز تركيزاً قوياً على النزعة القانونية والتقيد الحرفي والمفرط بالقانون. ومن هنا كان قربه من روح العقيدة اليهودية واتهامه، مثل كثير من المفكرين البروتستانت الأوائل، بأنه يهودي أو من دعاة التهويد. وثمة صدى لهذا الاتهام حتى في كتابات ماركس الذي وصف سيطرة البورجوازية على المجتمع بأنها عملية تهويد له.

ويُلاحَظ أن ثمة علاقة وثيقة بين البروتستانتية من جهة والصهيونية والجماعات اليهودية من جهة أخرى:

1 ـ تأثرت اليهودية بالإصلاح الديني، فظهرت اليهودية الإصلاحية في ألمانيا (مهد الإصلاح الديني) متأثرة بفكر الإصلاح الديني المسيحي بشكل عام وبفكر لوثر علىوجه الخصوص. وقد صرح الفيلسوف اليهودي هرمان كوهين أنه لا يرى أي فارق بين التوحيد اليهودي والبروتستانتية.

2 ـ لاحظنا ظهور الفكر الاسترجاعي الصهيوني داخل الفكر البروتستانتي. ويمكن الإشارة إلى أن كثيراً من يهود أوربا كانوا، ابتداءً من القرن السابع عشر، يستقرون في البلاد البروتستانتية (هولندا وإنجلترا... إلخ)، والتي كان لها النصيب الأكبر في التشكيل الاستعماري الاستيطاني الغربي. ولذا، نجد أن معظم يهود العالم مركزون في البلاد البروتستانتية الاستيطانية التي تتحدث الإنجليزية: الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا. ولم يَعُد لهم وجود يذكر في البلاد الكاثوليكية. ومع هجرة اليهود السوفييت، سيتركز يهود العالم إما في البلاد البروتستانتية أو في إسرائيل.

3 ـ يُلاحَظ ارتباط الحركة الصهيونية بالبلاد البروتستانتية. وقد تبنت إنجلترا المشروع الصهيوني بعد منافسة قصيرة مع ألمانيا وتبعتها الولايات المتحدة، وذلك بينما كان هناك دائماً رفض للمشروع الصهيوني في الأوساط الكاثوليكية. ويُلاحَظ أنه، مع تزايُد انتشار البروتستانتية في أمريكا اللاتينية، يُتوقع تزايد التعاطف مع المشروع الصهيوني.

4 ـ ارتبطت هجرة أعضاء الجماعات اليهودية في العصر الحديث بالتشكيل الاستعماري الاستيطاني البروتستانتي الأنجلوساكسوني، ولذا نجد أن الغالبية الساحقة من يهود العالم توجد في الولايات المتحدة وكندا وجنوب أفريقيا وأستراليا ونيوزيلندا (وأخيراً إسرائيل التي هي جزء من هذا التشكيل الأنجلو ساكسوني).

5 ـ ثمة علاقة غير مباشرة بين البروتستانتية والجماعات اليهودية تتحدد في أن الرأسمالية، حسب أطروحة فيبر، وُلدت في المجتمعات البروتستانتية، كما أن ميلاد الرأسمالية الرشيدة كان أهم حدث في تاريخ الجماعات اليهودية، خصوصاً في الغرب.

6 ـ ولا يزال كثير من غلاة البروتستانت يأخذون بالتفسير الحرفي للعهد القديم، وينظرون إلى فلسطين باعتبارها أرضاً مرتبطة باليهود، وينظرون إلى اليهود باعتبارهم العبرانيين القدامى، ويتفشى في صفوفهم تفكير صهيوني وحُمَّى استرجاعية ألفية. ويرى كثير منهم أن دولة إسرائيل هي تحقيق للنبوءات التي وردت في العهد القديم.

لكن هذا لا يعني أن ثمة علاقة عضوية أو سببية بين البروتستانتية والصهيونية. وكما أسلفنا، تحوي الرؤية الاسترجاعية البروتستانتية قدراً كبيراً من كراهية اليهود ورفضهم. وتتحدث إذاعات غلاة البروتستانت في الولايات المتحدة عن ضرورة عودة اليهود، ولكنها ترى أيضاً أن هتلر هو سوط العذاب الذي أرسله الإله لتعذيب اليهود لإنكارهم المسيح.

عصــر النهضـة (القـرنان السـادس عشـر والسـابع عشـر(

The Renaissance (Sixteenth and Seventeenth Century)

رغم التفتح العام الذي شهدته الحضارة الغربية في عصر النهضة، فإنه لم تكن له مردودات إيجابية على أعضاء الجماعات اليهودية. وربما يعود هذا إلى وضع اليهود الخاص داخل المجتمع الغربي وإلى أنهم لم يكونوا جزءاً من القوى الاجتماعية التي أدَّت إلى ظهور النهضة والاستنارة فيما بعد. كما أن بنية المجتمع، برغم تغيرها في كثير من الوجوه، ظلت جامدة وتقليدية. ولذا، لم يشهد عصر النهضة (بشـكل عام) تغـيراً جـوهرياً في أحوال أعضاء الجماعات اليهودية، كما لم تحدث تطورات فكرية عميقة إلا في بعض الجماعات مثلما حدث في إيطاليا في بداية عصر النهضة. وكانت أوربا خالية من اليهود بعد أن طُردوا من إسبانيا عام 1492، ومـن البرتغـال عام 1496، ومن نافار وصـقلية وســردينيا عام 1498، ومن سويسرا وألمانيا عام 1490. أما إنجلترا وفرنسا، فكانتا قد طردتا أعضاء الجماعات اليهودية في فترة سابقة ولم يسمح لهم بالاستيطان فيهما. ولم تكن هناك جماعات يهودية إلا في شرق أوربا (بولندا) التي كانت خارج نطاق عصر النهضة (في بدايته)، أو في بعض الإمارات الألمانية التي استقبلت اليهود الذين كانوا قد طُردوا من إمارات أخرى. كما كان يوجد بعض اليهود في المدن/الدول الإيطالية في بداية عصر النهضة. بل إن هذه الفترة شهدتتكريس عزلة اليهود، وشهدت تحوُّل الجيتو من المكان الذي كانوا يعيشـون فيه إلى المكان الذي يتعين عليهم العيـش فيه. فمع عصر النهضة، فقدت كثير من الجماعاتاليهودية في غرب أوربا دورها كجماعة وظيفية وسيطة تعمل بالتجارة والربا وحلت محلها جماعات مسيحية محلية أو دولية.

ومع هذا، شهدت تلك الفترة بعض التحولات العميقة للجماعات اليهودية، وهي تحولات كان مقدراً لها أن تتصاعد في الفترات التاريخية اللاحقة بعد تزايُد أعداد يهود بولندا، وبدأ تشابكهم مع طبقة الشلاختا داخل إطار الإقطاع الاستيطاني في أوكرانيا (نظام الأرندا). ويُلاحَظ بدايةً الانفجار السكاني بين يهود بولندا الأمر الذي أدَّى إلى تحوُّلهم إلى الغالبية الساحقة من يهود العالم. كما بدأ يهود المارانو في تكوين مراكزهم السكانية والثقافية فى أمستردام وبوردو وسالونيكا (وفي كثير من مدن الدولة العثمانية) وكان يُطلَق عليهم «السفارد» أو «البرتغاليين». وكان السفارديون على مستوى ثقافي رفيع (نظراً لاحتكاكهم بالثقافة العربية الإسلامية)، وكانت النخبة بينهم على دراية بالأمور المصرفية المتقدمة. وكانت تربطهم فضلاً عن ذلك علاقات وثيقة باليهود السفارديين في الإمبراطورية العثمانية، الأمر الذي سهل عليهم القيام بالعملياتالتجارية الدولية، وبذلك أمكنهم أن يلعبوا دوراً في الاقتصاد الجديد. وقد بدأ الأدب والفن في عصر النهضة ينفتحان على المواضيع العبرية واليهودية، فرسم رمبرانت يهودأمستردام (ومن بينهم إسبينوزا) وأبطال العبرانيين. ويُلاحَظ أن الأعمال الأدبية بدأت هي الأخرى تعالج شخصيات مثل شمشون ويهوديت وإستير.

ومن المفارقات أنه حين بدأت أوربا في نبذ اليهود، اكتسب يهود أوربا مركزية بين يهود العالم بسبب ثقلهم السكاني (إذ أصبحوا يشكلون غالبية يهود العالم) وزاد وزنهم الثقافي مع تزايُد طباعة الكتب العبرية، وكذلك بسبب تزايد أهمية أوربا في العالم مع تزايد غزواتها الإمبريالية لأركان المعمورة الأربعة. ويُلاحَظ أن ظاهرة يهود البلاط بدأت في هذه الفترة ولكنها لم تتبلور إلا في القرن السابع عشر الميلادي. وقد بدأ تحرُّك أعضاء الجماعات اليهودية مع التشكيل الاستيطاني الغربي في هذه المرحلة، وهي عملية انتهت في الوقت الحاضر بوجود معظم يهود العالم في بلاد استيطانية.

ويُلاحَظ أنه، في هذه الفترة، بدأ ظهور الفكر الصهيوني بين المسيحيين في البلاد البروتستانتية على وجه العموم وفي إنجلترا على وجه الخصوص. وهو فكر يذهب إلى أن خلاص العالم لن يتم إلا بالاستيلاء على فلسطين واسترجاع اليهود، أي عودتهم لها، وتنصيرهم حتى يتم الإعداد لعودة المسيح المخلِّص. والفكرة الصهيونية هي ذاتها الفكرة الاسـترجاعية مع إحلال العنصـر اليهودي محل العنصر المسـيحي.

وعصر النهضة، كما أسلفنا، هو عصر الاكتشافات الجغرافية وبدايات الرأسمالية المركنتالية برغبتها في التوسع. ومن ثم، بدأت الفكرة الاسترجاعية في كسب المؤيدين لها، وبخاصة في البلاد البروتستانتية، وبدأ الحديث عن عودة اليهود إلى صهيون أي فلسطين. وبدأت محاولات إنشاء مستوطنات يهودية خارج أوربا، وقد جرت أولى المحاولات الاستيطانية في العالم الجديد. ولكن عصر النهضة، وانقلابه التجاري، والأفكار الصهيونية المسيحية التي سادت خلاله، لم تكن سوى إرهاصات للثورة الفرنسية والصناعية وللحركة الإمبريالية التي تركت أثرها العميق في العالم بأسره، وفي الجماعات اليهودية بطبيعة الحال.

عصــر الاســتنارة (القـــرن الثــامن عشـر)

The Enlightenment (Eighteenth Century)

كان التيار الفكري الأساسي في هذه الفترة هو فكر حركة الاستنارة، وهو فكر يدعو إلى تحرير الإنسان من الغيبيات بهدف ترشيده. وهي عملية ترشيد أدَّت، فيما أدَّت، إلى تطويع الإنسان لخدمة الدولة المركزية المطلقة. وقد أدَّى ذلك إلى الهجوم على كل أشكال الغيب والخصوصية وكل الجيوب الإثنية. ولا شك في أن هذا الفكر، وكذلك التحولات الاجتماعية التي أدَّت إليه ونجمت عنه في الوقت نفسه، قد تركا أعمق الأثر في أعضاء الجماعات اليهودية في العالم بأسره، فقد استفادوا من هذه التحولات أيما استفادة مع أنهم اصطدموا بها في نهاية الأمر. والواقع أن هذه العملية التاريخية هي التي قضت على الجيتو وأعتقت اليهود، ولكنها قضت أيضاً على دورهم كجماعة وظيفية وسيطة، وزادت من معدلات الاندماج والعلمنة بينهم.

ويُلاحَظ أن حركة أعضاء الجماعات اليهودية في أوربا خلال العصور الوسطى في الغرب كانت قد أخذت شكل الانسحاب أو الهجرة إلى الماضي؛ فكانت هجرة من أوربا الغربية، حيث نشأت طبقات تجارية محلية، إلى الشرق السلافي حيث كان نمط التنظيم الاجتماعي شبيهاً بأوربا في العصور الوسطى وحيث كان بوسع أعضاء الجماعات اليهودية الاستقرار في مسام المجتمع وعلى هامشه ليلعبوا دوراً حدودياً. وكان اليهود المنسحبون هم أساساً اليهود الإشكناز الذين يشتغلون بالتجارة البدائية والربا، وكان أكبر تجمُّع لهم في هولندا وروسيا، وهو التجمُّع الذي نشأت فيه المسألة اليهودية (والأفكار الصهيونية فيما بعد). وقد استمرت هذه الحركة حتى بداية القرن السابع عشر الميلادي حين بدأت الدولة العثمانية (التي كانت تستوعب الفائض الأوربي من اليهود) في التجمد.

أخذت الهجرة اليهودية منذ ذلك التاريخ تتجه نحو بلاد وسط وغرب أوربا، وهي البلاد التي كانوا قد طُردوا منها. وقد عاد اليهود إلى هذه البلاد بعد أن تساقط النظام الإقطاعي الوسيط وظهر حكم الملكيات المطلقة التي حطمت سلطة الأمراء الإقطاعيين وظهرت الدولة المركزية المطلقة. وكان يهود المارانو، بما لديهم من خبرة في الأمور المالية والتجارة الدولية، عنصراً أساسياً في الحركة الثانية لليهود.

وفي عام 1612، سمحت هامبورج ليهود المارانو (وهم من السفارد) بالاستيطان فيها، وقد أعلن بعضهم يهوديته صراحة بعد الاستيطان. أما في فرنسا، فكان هناك بعض الجيوب اليهودية. ومع عصر النهضة، تغيَّرت الصورة. ففي أواخر القرن السادس عشر الميلادي، سُمح لبعض اليهود السفارد من المارانو بالاستيطان في بوردو وبايون. كما تم ضم منطقة الألزاس واللورين التي كانت تضم يهوداً من الأشـكناز، وبـعدها انتـشر اليهود، وبخاصة من الألزاس، في كل فرنسا. أما في إنجلترا، فقد سُمح بعودة اليهود عام 1664، وأُسِّس معبد يهودي في لندن عام 1690 ولم يكن هناك، في إنجلترا، جيتو يهودي بالمعنى المعروف، ولم تُفرَض عليهم هناك أية قيود.

وقد هاجر يهود المارانو أيضاً إلى هولندا واستوطنوا في أنتورب، ثم في أمستردام، وتحالفوا مع البروتستانت في حربهم ضد الهيمنة الإسبانية، كما لجأ بعض يهود المارانو إلى الإمبراطورية العثمانية. وكان نمط الهجرة يأخذ في العادة شكل استيطان سفاردي في البداية ثم يتوافد المهاجرون الإشكناز.

وقد أدَّى هذا، في بداية الأمر، إلى تزايُد عدم تجانس اليهود داخل القارة الأوربية. وفي داخل كل مدينة، كانت الجماعات اليهودية مستقلةً الواحدة عن الأخرى تماماً، ففي إيطاليا مثلاً كانت هناك جماعة يهودية إيطالية وأخرى إسبانية سفاردية وثالثة ألمانية إشكنازية، وكانت كل جماعة منفصلة عن الأخرى وتتصارع معها في بعض الأحيان. بل كانت الجماعة الواحدة تنقسم إلى عدَّة أقسام حسب المدينة التي ينتمي إليها أعضاؤها أصلاً.

ومع هذا، كان هناك فريقان أساسيان هما: السفارد ممن يتحدثون اللادينو، والإشكناز المتحدثون باليديشية، وبخاصة بعد أن انضمت الجماعات الصغيرة الأخرى إلى أحد الفريقين وفقدت هويتها بينهم. وتركز يهود المارانو في شبه جزيرة أيبريا وثغور البحر الأبيض المتوسط، وداخل الدولة العثمانية، وداخل أوربا، وفي العالم الجديد. أما اليهود الإشكناز فقد تركزوا في شرق أوربا وداخل بعض مدن وسط ألمانيا.

وكان الهرم الطبقي لليهود في الغرب يتكون من خمس أو ست طبقات. وعلى قمة الهرم، كانت تقف نخبة صغيرة من كبار المموّلين ويهود البلاط ويهود الأرندا ووكلاء الأمراء، وكان هؤلاء يُشكِّلون قيادة الجماعة اليهودية كما هو الحال مع يهود البلاط في وسط أوربا، والمهاماد في غربها، والقهال في شرقها، تليها طبقة أكبر من كبار التجار والوكلاء التجاريين وأصحاب المعامل. أما الطبقة الثالثة، وهي أكبرها حجماً، فهي جمهور الباعة الجائلين وبائعو الملابس القديمة وغيرهم من صغـار التجار. وكانت هناك طبـقة رابعة صغيرة من الحرفيين. وفي أسفل الهرم، كانت توجد قاعدة كبيرة من الجائلين والمتسوّلين والمتعطِّلين.

وكما ذكرنا من قبل، كان بناء بعض المجتمعات الغربية فيما قبل الثورة الفرنسية هرمياً جامداً، وكانت حقوق الفرد تزداد بارتفاع مستواه الطبقي والاجتماعي. ولذا، لم يكن للفلاحين والأقنان أية حقوق تُذكَر. وكذلك الوضع بالنسبة ليهود ألمانيا، إذ كان يهود البلاط في قمة المجتمع ولهذا فقد كانوا يتمتعون بكل الحقوق تقريباً، أما يهود الجيتو فلم تكن لهم حقوق تذكر. وكان أعضاء الجماعة اليهودية في بروسيا يُقسَّمون حسب وضعهم في المجتمع ومدى نفعهم للدولة، وهو تقسيم تبنته فيما بعد معظم دول أوربا في القرن الثامن عشر الميلادي وتبنته روسيا في القرن التاسع عشر الميلادي.

وكانت قاعدة الهرم الطبقي اليهودي تمتد من القرى إلى المدن، وُيلاحَظ خلو هذا الهرم من الطبقة الوسطى المرتبطة بالصناعة ومن التجار متوسطي الحال ومن العمال والفلاحين والنبلاء. وكان أعضاء الجماعة اليهودية، نظراً لعلاقتهم المباشرة مع الحاكم من خلال يهود البلاط أو كبار المموِّلين الذين لعبوا دور الوسطاء (شتدلان) بين الحاكم وأعضاء الجماعة، أحسن حالاً من بقية أعضاء المجتمع الخاضعين لأهواء النبلاء وموظفي بقايا النظام الإقطاعي الذي لم يكن له قانون موحَّد أو قواعد ثابتة. وبرغم تزايد اندماج أعضاء الجماعات اليهودية في مجتمعاتهم، فقد ظلت الجماعات اليهودية محتفظة بشيء من تماسكها وبكثير من مؤسساتها، وهو ما جعلها منفصلة نوعاً ما عن المجتمع ومنعزلة عنه ومتمتعة بهوية شبه مستقلة.

وبعد تناقص دور اليهود كجماعة وظيفية وسيطة تتشكَّل من تجار صغار ومرابين، بدأت الحضارة الغربية تحوِّلهم مرة أخرى إلى جماعة وظيفية وسيطة أخرى تضطلع بالدور التجاري نفسه ولكن بما يُعبِّر عن التغيرات التي خاضها المجتمع الغربي. فبعد أن كان أعضاء الجماعة اليهودية هم الإسفنجة أو الأداة التي يمتص بها الحاكم الإقطاعي فائض القيمة من داخل مجتمعه، تحولوا إلى أداة يستخدمها حاكم الدولة المطلقة في النشاطات التي تقوم بها هذه الدولة داخل وخارج حدودها، إذ لم تعُد هناكضرورة لامتصاص فائض القيمة لأن مؤسسات الدولة كانت تقوم بذلك على وجه أفضل. ومع هذا، استمر بعض أعضاء الجماعة اليهودية في لعب دور الجماعة الوسيطة القديمة أي التجارة البدائية والربا، وهؤلاء هم اليهود الذين كانوا يوجدون في قاعدة الهرم. والواقع أن معظم، إن لم يكن كل، أعضاء الجماعات اليهودية (في قمة الهرم وقاعدته) كانوا يضطلعون بأشكال مختلفة من الوساطة.

وقد كوَّنت الجماعات اليهودية في هذه المرحلة شبكة علاقات تجارية على مسـتويين: عالمي متقـدم، ومحلي بدائي. فكـان كبار المموِّلين اليهود، من يهود البلاط وغيرهم، يربطون بين الدول المختلفة ويسدُّون احتياجات الأمراء للأموال وحاجات الجيوش إلى التموين. فكان يهود الأرندا في بولندا يزوّدون يهود البلاط في وسط أوربا بالأخشاب والمحاصيل الزراعية التي كان يحتاج إليها غرب أوربا ووسطها بسبب زيادة عدد السكان آنذاك. وكان بوسع يهود أمستردام تدبير المعادن النفيسة التي قد يحتاج إليها نبلاء شرق أوربا أو وسطها. كما كانت تساندهم القاعدة الكبيرة من كبار تجار الجملة، والسماسرة والوكلاء التجاريين الذين كان يساندهم آلاف الباعة الجائلين وصغار تجار العملة والحرفيون اليهود الذين كانوا يعملون في العادة بالقرب من الوسيط اليهودي فيقومون بتقطيع الماس والصياغة والنسيج وخياطة الملابس وإصلاحها.

ولهذا السبب، كان بوسع كبار المموِّلين اليهود، من يهود البلاط أو غيرهم، أن يدبِّروا أية كمية من الذهب يريدها الإمبراطور أو الأمير، ويعدوا له التموين اللازم للحملات العسكرية التي يجرِّدها، وذلك في أسرع وقت ممكن ورغم ظروف الحرب. كما كان بوسعهم، من خلال الشبكة نفسها، القيام بأعمال التجسس لصالح هذا الفريق أو ذاك، وتوصيل المعلومات بسرعة غـير متوفرة لأيٍّ من الفريقين المتحاربين، وذلك من خلال حلقة الاتصال اليهودية، سواء مع يهود الأرندا في بولندا أو يهود المارانو في الدولة العثمانية، أو المئات من صغار التجار والمموِّلين اليهود في طول أوربا وعرضها.

وقد استفادت كل دول أوربا المتحاربة من هذا الهرم التجاري اليهودي الممتد، فاستفاد منهم الكاثوليك والبروتستانت، والألمان والسويديون. ولذا، لم يمس أيٌّ من الأطراف المتحاربة أعضاء الجماعات اليهودية بأذى. ومن هنا، فإن الادعاء النازي بأن اليهود استفادوا من الحرب له أساس من الصحة، ولكنه لا يصور الحقيقة بأكملها، ولا يُفسِّرها.

وترجع إلى هذه الفترة بداية ارتباط الجماعات اليهودية بالاستعمار الغربي الحديث، وبخاصة في جانبه الاستيطاني، وكذلك تزايد اهتمام الغرب بالجماعات اليهودية باعتبارها عنصراً استيطانياً مالياً يشجع التجارة. فعلى سبيل المثال، كان أغلبية المستوطنين الأوربيين في سورينام من اليهود، وثار العبيد عليهم هناك. وقد سيطر المموّلون اليهود على كثير من أشكال التجارة الإستراتيجية، واشتركوا في كثير من المشاريع الاستعمارية، فساهموا في شركة الهند الشرقية الهولندية وفي غيرها من الشركات. كما اشتركوا في تجارة العبيد بنشاط كبير. واستوطنت بعض الجماعات اليهودية في العالم الجديد، وهو ما وسع نطاق الشبكة التجارية اليهودية.

ويُلاحَظ أن أعضاء الجماعات اليهودية في شرق أوربا كانوا مرتبطين بالاقتصاد الإقطاعي التقليدي فيها، وبالنبلاء من خلال نظام الأرندا. أما في الغـرب والوسـط، فكانوا جزءاً من اقتصاد الدولة المطلقة، وبخاصة في مجال التجارة والنشاط الكولونيالي، أي تلك النشاطات المرتبطة بأهداف الدولة القومية الجديدة. وكان القاسم المشترك بين هذه النشاطات أن أعضاء الجماعات اليهودية كانوا في أغـلب الأحـيان مرتبطين بأهداف الحاكم ومعادين لكثير من طبقات المجتمع. كما أنهم، رغم تراكم ثرواتهم، لم يصبحوا قط جزءاً من الاقتصاد الرأسمالي الجديد، فلم يستثمروا أموالهم في الصناعات الجديدة بل ظلوا بمنأى عنها. وظل رأس المال اليهودي مرتبطاً بالدولة، فحين كان رأس المال اليهودي يؤسس المصانع، كانت هذه المصانع تابعة للدولة. ولأنهم لم يؤسسوا مصانع مستقلة، فقد ظلوا تحت حماية الدولة، لا علاقة لهم بالرأسماليين الآخرين ولا بالجماهير ولا بأيٍّ من الطبقات المهمة في المجتمع، ولذا فإنهم لم يساهموا في تطور الرأسمالية الرشيدة.

وكان أعضاء الجماعة اليهودية في الدولة المطلقة، وبخاصة في المراحل الأولى من تاريخها، إحدى أدوات التوحيد وفرض المركزية، بل كانوا أداة على درجة كبيرة منالكفاءة والموضوعية والحياد نظراً لوجودهم خارج المجتمع الغربي.

ووضع الجماعات اليهودية في المجتمع الغربي كجماعة وظيفية وسيطة، وعلاقتهم الخاصة بالنخبة الحاكمة، يُفسِّر سرَّ تدهورهم بعد صعودهم. وتشكل الفترة من اندلاع حرب الثلاثين عاماً (1618 ـ 1648 حتى توقيع معاهدة أوترخت عام 1713، بعد حرب الخلافة الإسبانية، قمة ازدهار الجماعات اليهودية، والتي تلتها مرحلة التدهور، فقد كان الحاكم يصادر أموال اليهودي بعد موته وهو ما كان يعوق أي تراكم رأسمالي. وكان الملك يرفض أحياناً دفع ما عليه من ديون، فيدفع جزءاً منها وحسب، الأمر الذي كان يؤدي إلى القضاء على ثروة المموّل اليهودي. وكان هذا أمراً سهلاً على الحاكم، نظراً لعدم وجود قاعدة جماهيرية تساند اليهودي، ونظراً لاعتماده الكامل والمذل على الحاكم. وكانت علاقة الشك المتبادل بين الحاكم والمموِّل اليهودي، رغم حاجة الواحد منهما إلى الآخر، تؤدي بالمموِّل إلى تهريب جزء من رأسماله خارج حدود البلد الذي يعيش فيه، فقد كان الشك يجعل من المستحيل على أعضاء الجماعة اليهودية أن ينتموا انتماءً قومياً كاملاً.

وقد بدأ التدهور بين السفارد في أواخر القرن السابع عشر الميلادي، فلم يعد هناك وكلاء يهود لأي بلاط أوربي في مدينة هامبورج ذات الأهمية التجارية. وعلى سبيل المثال، حينما عُيِّن مندوب يهودي للبلاط الدنماركي في أمستردام، اضطر مجلس الشيوخ بضغط من الجماهير إلى رفض الاعتراف به. كما انتقلت وكالتا إسبانيا والبرتغال في أمستردام من أيدي أعضاء الجماعة اليهودية في أوائل القرن الثامن عشر الميلادي. ولحق هذا التدهور نفسه بأعضاء الجماعة اليهودية من السفارد البرتغاليين في أمستردام، فتناقص استثمارهم في التجارة الدولية وفقدوا جزءاً كبيراً من رأسمالهم في مضاربات البورصة.

وحدث الشيء نفسه بالنسبة إلى يهود ألمانيا، إذ دخلت السياسة المركنتالية الألمانية في مرحلة جديدة بعد عام 1720، فبدأت تحمي الصناعات والبضائع المحلية ومنعت استيراد الصوف والمواد الخام الأخرى. وكان ازدهار الجماعة اليهودية في ألمانيا يستند إلى استيراد البضائع من هولندا وإنجلترا. ومن أهم البضائع التي كانوا يستوردونها الأقمشة الهولندية وبضائع أخرى من التي طُبِّق عليها الحظر. وقد أدَّى كل هذا إلى تدهور وضع الجماعات اليهودية. ورغم تحسن وضعهم لفترة وجيزة (عام 1740) بسبب حرب الخلافة النمساوية، إلا أنهم لم يعودوا إلى سابق عهدهم، بل تزايد عدد الفقراء بينهم، فقد تضاعف مثلاً عدد فقراء اليهود السفارد البرتغاليين في أمستردام أربع مرات في فترة لا تتجاوز بضعة أعوام إذ زاد من 115 إلى 415، إلى نحو 40% من جملة أعضاء الجماعة السفاردية. وقد بدأ كبار المموِّلين اليهود بنقل رأسمالهم من التجارة اليهودية التقليدية إلى الصناعات الجديدة التي لم تكن صناعات يهودية (إن صح التعبير)؛ إذ كانت الدولة المطلقة تضع القوانين التي تجعل من الصعب على صاحب رأس المال اليهودي أن يستأجر يهوداً وحسب.

أما فيما يتصل بيهود بولندا، فقد كانت هجمات شميلنكي أول ضربة تلقوها ثم تلتها الفوضى السياسية التي تسببت في اضمحلال الجماعة اقتصادياً. ووضعت معاهدة أوترخت حداً لحالة الحرب التي ازدهرت بسببها الجماعات اليهودية، وساد السلام الذي ساهم في القضاء على الأساس الاجتماعي للتجارة اليهودية وفي القضاء على الحاجة إليها. وأثَّر هذا أيضاً على يهود الأرندا إذ لم تَعُد أوربا في حاجة إلى المحاصيل الزراعية أو الأخشاب. أما التجارة الكولونيالية، فقد بدأت تتسع وتحتاج إلى قاعدتين بشرية ورأسمالية واسعتين للغاية؛ وهو ما جعل رأس المال اليهودي الهزيل بدون أهمية كبيرة. وقد أدَّى تقسيم بولندا ثم اختفاؤها، كوحدة سياسية مستقلة، إلى تقسيم أهم وأكبر تجمُّع يهودي على الإطلاق. ولذا، فمع النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي، بدأ يتفاقم ضعف الحالة الاقتصادية ليهود أوربا: شرقها ووسطها وغربها. وبدأ أعضاء الجماعات اليهودية يعانون من الهامشية وانعدام الإنتاجية، لا لكسل طبيعي فيهم وإنما بسبب التطورات الاجتماعية والثقافية السريعة. وظهرت ظاهرة الشحاذ اليهودي (باليديشية: شنورير)، وهذه كلها جوانب مما يُسمَّى «المسألة اليهودية». ومما يجدر ذكره أن هذه المرحلة شهدت أيضاً تقلُّص نفوذ الجماعة اليهودية في الدولة العثمانية، وذلك نظراً لتزايُد النفوذ الغربي الذي شجع الأقليات المسيحية على حساب الجماعات اليهودية. وأخذ نصيب يهود الدولة العثمانية من تجارتها الدولية يتناقص ابتداءً من القرن السابع عشر الميلادي، حتى اختفى تماماً مع نهاية القرن الثامن عشر الميلادي.

وكان أعضاء الجماعة اليهودية مرتبطين بالنظام السياسي الإقطاعي والدولة الإقطاعية في بولندا وفي غيرها من الجيوب نظراً لارتباطهم بالنخبة الحاكمة، ففي بداية الفترةالتي نتناولها كان أعضاء الجماعة يقفون على مقربة من الدولة المطلقة ويخدمون أهدافها ومآربها. ولذا، فقد كانوا عرضة لهجوم أعداء السلطة الحاكمة نتيجة التطورالتاريخي وتزايد نفوذ الدولة المطلقة ورغبتها في تصفية الجيوب الإثنية والدينية المختلفة كافة وكل الجماعات الوظيفية الوسيطة بما في ذلك تلك الجمـاعات التي خدمتهابعـض الأوقات. ومن هنا جاء دور الجيب اليهودي، فقررت الدولة المطلقة أن تحل مسألتها اليهودية على طريقتها المألوفة وهي ترشيد اليهود، بإخضاعهم للإجراءات نفسها التي طبقت على مواطني الدولة المطلقة. وإذا كان الهدف من هذه العملية أن تصل الدولة إلى الفرد مباشرة بحيث يمكنها توظيفه لصالحها تماماً، وإدارته من خلال مؤسساتها العامة، فإنها لذلك أخذت شكل تحرُّك على مستويين؛ مؤسسي وفردي. فعلى مستوى المؤسسات، أُلغيت كل المؤسسات اليهودية الوسيطة مثل القهال والمهاماد وغيرها. ولكن ثمة أسباباً داخلية خاصة باليهود ساهمت في عملية ضعف المؤسسات الوسيطة ومن بينها ازدياد عدم التجانس المهني والوظيفي بين أعضاء الجماعات اليهودية وتدنِّي المستوى الحضاري والثقافي لقيادتهم، الأمر الذي جعل هذه القيادات غير مؤهلة لتمثيل الجماعة اليهودية أمام الحكام غير اليهود. أما على المستوى الفردي، فقد حدث ترشيد اليهود وتطبيعهم أي تحويلهم إلى إنسان عصر الاستنارة الطبيعي. وقد سُميَّت العملية «عملية إصلاح اليهود»، أي تخليصهم من هامشيتهم وطفيليتهم وانعدام إنتاجيتهم وتحويلهم إلى عناصر نافعة يمكن توظيفها مع ما يوظَّف من عناصر مادية وبشرية أخرى في خدمة الدولة، ويمكن دمجها مع بقية المادة البشرية التي تكوِّن مواطني الدولة. ولم يكن هذا الأمر مقصوراً على أعضاء الجماعة اليهودية فقد أكد فكر حركة الاستنارة الحرية الشخصية وضرورة الحكم على الفرد من منظور مدى نفعه للدولة، ولذا كانت عملية الإعتاق والتحرير تتم بهدف زيادة نفع الإنسان وتحويله إلى مواطن منتج مستهلك (وقد وجدت فكرة تطبيع اليهود وتحويلهم إلى عناصر نافعة طريقها إلى الفكر الصهيوني).

وقد تدخلت الدولة المطلقة في أخص خصوصيات الفرد اليهودي: متى يتزوَّج؟ ومن يتزوَّج؟ وأين يقيم؟ وماذا يرتدي؟ وكيف يحلق شعر رأسه؟ ومما يجدر ذكره أن الدولة المطلقة لم تكن تتدخل في شئون اليهـود وحسـب، بل كانت تتدخل في شئون كل الرعايا. ففي عام 1666، أصدرت الدولة الفرنسية قراراً يقضي بأن يُعفَى من الضرائب كل من يتزوج وهو دون العشرين، وذلك حتى يبلغ سن الخامسة والعشرين. كما كان يُعفَى من الضرائب ربُّ كل أسرة يبلغ عدد أفرادها عشرة، بشرط ألا يكون أحدهم منخرطاً في سلك الرهبان! وصدر قرار عام 1669 بفرض غرامة على الآباء الذين لا يزوجون أولادهم قبل سن العشرين، أو بناتهم قبل سن السادسة عشرة!

كما تدخلت الدولة المطلقة في الأمور الدينية، فألغت المحاكم الحاخامية، وحرَّمت دراسة التلمود قبل سن السابعة عشرة، وهي إجراءات كانت تهدف إلى تحديث أعضاء الجماعة اليهودية وعلمنتهم حتى يصبحوا جزءاً عضوياً نافعاً يساهم في الإنتاج القومي للدولة. وهي كذلك عملية لم تنطبق ـ كما أسلفنا ـ على أعضاء الجماعة وحدهم وإنما على أعضاء المجتمع كافة. كما أن السلطات التي كانت تمارسها الدولة لم تختلف في أساسياتها عن السلطات التي كانت تمارسها الإدارة الذاتية اليهـودية. بل ربما كانت السـلطات الحكومية أكثر ليبراليةً وعقلانية، ولكنها مع هذا كانت أكثر قسوة بسبب ضخامة حجمها وبُعدها عن الفرد. ويظهر ذلك بشكل أكثر حدَّة في حالة أعضاء الجماعة اليهودية بسبب خصوصيتهم اليهودية، وبسبب أن عمليتي العلمنة والتحديث استخدمتا في البداية ديباجات مسيحية أخفت الجوهر العلماني التحديثي عن المسيحيين من مواطني الدولة المطلقة ومن ثم زادتها إيلاماً بالنسبة إلى اليهود.

وإذا كانت عملية الإصلاح ترتبط بأسماء حكام مطلقين مثل جوزيف الثاني ونابليون بونابارت وألكسندر الثاني، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، فإنها لم تختلف كثيراً عن السياسة التي طرحتها الثورة الفرنسية. فالفكر الكامن في الملكيات المطلقة والجمهوريات الثورية هو فكر عصر الاستنارة، والنموذج الكامن هو نموذج الإنسان الطبيعي. ومع هذا، كان وضع أعضاء الجماعة اليهودية وطريقة حلّ المسألة اليهودية يختلفان من بلد إلى آخر بحسب مستوى تطوُّر هذا البلد. فبالنسبة إلى الإمبراطورية النمساوية المجرية التي كانت تضم النمسا والمجر وبوهيميا ومورافيا، ثم جاليشيا التي كانت تضم كتلة يهودية كبيرة نوعاً ما، حاول الإمبراطور جوزيف الثاني أن يدمج اليهود في الإمبراطورية فأصدر عدة تشريعات في الفترة من 1781 إلى 1789 كما أصدر عام 1782 براءة التسامح التي كانت تهدف إلى تحديث المجتمع ككل وإلى إلغاء انعزالية اليهود المتمثلة في مؤسسات الإدارة الذاتية. وحدَّدت التشريعات حقوق النبلاء، كما استهدفت تحسين أحوال الفلاحين والحد من سلطان رجال الدين الكاثوليكي. وقد أُلغيت الشارة اليهودية التي كان على اليهود ارتداؤها خارج الجيتو. كما أُلغي كثير من القوانين التي كانت تحد من حركتهم، فأصبح من حقهم ممارسة أية حرفة وأن يعملوا بالتجارة والصناعة أو في أية وظيفة مدنية أو عسـكرية، وأصبح من حقهم أن يشيِّدوا منازل خاصة بهم في أي مكان. ومُنحوا حق التمتع بشرف الخدمة العسكرية عام 1787، كما حُظر عليهم استخدام اليديشية، وبخاصة التجار الذين كان عليهم أن يكتبوا حساباتهم بالألمانية. كما أصبح من المحظور على أعضاء الجماعات اليهودية ارتداء أزياء خاصة بهم، بل وفرضت عليهم الأزياء الأوربية، ومُنع الآباء من تدريس التلمود لأبنائهم قبل اكتمال دراستهم، وفُرض عليهم اختيار أسماء جديدة ألمانية. وقد حاولت حكومات الإمارات والدويلات الألمانية تطبيق سياسة ترمي إلى دمج اليهود، فأصدر فريدريك الأكبر ميثاقاً يضمن لهم حرية العبادة ولكنه يحدد في الوقت نفسه مكان سكناهم ونسبة المصرح لهم بالزواج.

وقد خاض اليهود في روسيا وبولندا عملية تحديث مماثلة في مرحلة لاحقة، وإن كانت قد أخذت شكلاً خاصاً نظراً لخصوصية وضع اليهود فيها ونظراً لتعثر عملية التحديث. هذا على عكس الوضع في فرنسا وإنجلترا وهولندا، وهي بلاد ذات بورجوازيات محلية قوية لم تخش منافسة التاجر اليهودي ولم ترفض توطين اليهود، وبخاصة المارانو، بل أتاحت أمامهم فرصة الاشتغال بجميع الحرف. وكانت اللاأهلية الشـرعية (القانونية) المفروضة عليـهم محدودة وآخذة في الاختفاء، كما لم تظهر في مثل هذه البلاد مسألة يهودية إذ أخذت فيها المسألة اليهودية شكلاً غير مستعص على الحل لأن الجماعة اليهودية لم تكن جسماً غريباً فيها، ولم تكن أيضاً متميِّزة اقتصادياً أو اجتماعياً أو ثقافياً، كما أن عدد أعضائها كان صغيراً. وكان لمعظم هذه البلاد مشروع استعماري قوي في فترة مبكرة، وأمكنها عن طريقه حلّ كثير من مشاكلها الاجتماعية.

وكما أسلفنا، كان الاقتصاد المركنتالي يمثل تحدِّياً للمسيحية وقيمها، ومن ثم شكَّل تحدِّياً للاقتصاد التقليدي المسيحي المبني على القيم المسيحية التقليدية. وكانت التجارة اليهودية عنصراً مهماً من عناصر التحدي التي ساهمت في تقويض دعائم الاقتصاد التقليدي. وتمثَّل هذا التحالف بين القوى المدافعة عن المركنتالية والتجارة اليهودية فيما يُسمَّى «فيلوسيمتزم )Philo-Semitism» حب السامية) أي التحيُّز لليهود وحبّ المعرفة التي ينقلونها. وقد شهدت هذه المرحلة بالفعل تزايُد الاهتمام بالدراسات العبرية، وهو اهتمام على مستوى من المستويات يُعدُّ تحدِّياً للقيم المسيحية والتقليدية ويُعبِّر عن تراجعها فهو من ثم شكل من أشكال العلمنة. كما أنه مرتبط بظهور الشك الفلسفي في هذه المرحلة، أي أن حب السامية أو التحيز لليهود هو تعبير آخر عن تزايُد معدلات العلمنة في المجتمع الغربي. وقد تنبه بعض رجال الكنيسة إلى أن هذا الاهتمـام باليهودية والدراسـات العبرية يشـكل هجوماً مقنَّعاً على المسيحية.

ولعب المارانو دوراً أساسياً في علمنة الجماعات اليهودية، فقد كانوا كتلة بشرية متحركة لا جذور لها في بقعة جغرافية. ومن ثم، ساهموا بشكل فعّال في عملية التحديث والعلمنة على المستويين الاقتصادي والثقافي باشتراكهم في التجارة الدولية وفي بناء الدولة المطلقة، وبنشرهم لأول مرة كتباً وضعها يهود ولكن بإحدى اللغات الأوربية، وبإشاعتهم فكرهم الديني الذي كان جوهره تفكيراً لادينياً رافضاً لليهودية الحاخامية دون قبول دين آخر. وكانت اليهودية الحاخامية في ذلك الوقت قد بدأت تدخل أزمتها العميقة التي أودت بها في نهاية الأمر كعقيدة لأغلبية اليهود، إذ تحجرت تماماً داخل الجيتو وأصبحت خالية من المعنى منفصلة عن الواقع. وظهرت القبَّالاه لسد الفراغ النفسي والمعرفي، كما ظهر إسبينوزا من صفوف المارانو ووجه سهام نقده لليهودية وللفكر الديني بشكل عام، وترك اليهودية دون أن يؤمن بدين آخر. وبذلك، وضع إسبينوزا أساس اليهودية العلمانية بل والعلمانية ككل. وظهر شبتاي تسفي في الفترة نفسها، فطرح تصوراته التي قوَّضت دعائم اليهودية وتحدَّت القيادة الحاخامية الأرثوذكسية وأحرز شعبية غير عادية، بل وانضم إليه عدد كبير من الحاخامات. والواقع أن نجاح الشبتانية هو أكبر دليل على مدى عمق التغير الذي حدث لليهود واليهودية. وقد تزايدت معدلات العلمنة بين اليهود وتزايد ابتعادهم عن تراثهم الديني وغربتهم عنه بل واحتقارهم له، وهو احتقار كان يشعر به حتى المتدينون منهم. ومما عجل بعملية العلمنة أن قيادات الجماعات اليهودية انتقلت من يد الحاخامات إلى يد الأثرياء، من أمثال يهود البلاط الذين كانوا مُستوعَبين في الحضارة الغربية العلمانية حيث استمدوا شرعيتهم من تقبُّل مجتمع الأغيار لهم، هذا المجتمع الذي تشبهوا به وبطرقه، ولذا فقد كانوا هم النموذج الذي يُحتذى بين من يودُّون تحقيق النجاح.

وأدَّت عمليات التحديث والعلمنة التي قامت بها الدولة المطلقة إلى ظهور نواة مستنيرة داخل الجماعات اليهودية يُقال لها «المسكليم» أي دعاة الاستنارة، وهي جماعات كانت منتمية بشكل شبه كامل للفكر الغربي غير اليهودي. كما ظهرت في صفوف اليهود جماعات مهنية وقطاعات اقتصادية مرتبطة بالاقتصاد الغربي الرأسمالي الجديد. لكل هذا، انتشر فكر عصر الاستنارة بينهم، وكانت الجماعات اليهودية عشية الثورة الفرنسية والانعتاق السياسي مهيأة لتقبُّل تحولات عنيفة. وتُعَدُّ معظم الفلسفات اليهودية الحديثة التي طُرحت في القرن التاسع عشر الميلادي، مثل الصهيونية وقومية الجماعات (الدياسبورا)، استجابات لهذه التحولات.

وقد أخذت الفكرة الصهيونية تتغلغل في الفكر الغربي، الديني والعلماني، حتى أصبحت الإطار المرجعي الأساسي الذي يتم إدراك اليهود من خلاله، وأصبحت فلسطين مرتبطة في الذهن الغربي باليهود. ومع تزايد معدلات العلمنة في المجتمع الغربي، لم تختف الفكرة بل تم ترشيدها، واستُبعدت منها العناصر الغيبية مثل الشعب الشاهد والعقيدة الاسترجاعية، واكتسبت شكلاً علمانياً وأصبحت جزءاً من المشروع الاستعماري الغربي، فدعا توماس شيرلي إلى أن توطين اليهود في إنجلترا « لا لأنهم يهود وإنما لأنهم عنصر تجاري ».

وقد ساد الخطاب العلماني في نهاية الأمر وضمر الخطاب الديني وتحوَّل إلي ديباجات تستخدمها شخصيات هامشية. وشهدت هذه المرحلة بروز ظاهرة معاداة اليهودبالمعنى العرْقي الحديث. والواقع أن فكر عصر الاستنارة، بطرحه فكرة الإنسان الطبيعي، وجد أن الخصوصية اليهودية تشكل تحدِّياً لهذه الفكرة. ولكن الفكر التنويري، بتأكيده على فكرة نفع الإنسان، وبانطلاقه من فكرة الإنسان الطبيعي العام، طلب من أعضاء الأقليات أن يُطبِّعوا أنفسهم ويرشِّدوها وأن يتَّبعوا القانون العام. ومن ثم طُلب منهم أن يتخلوا عن خصوصيتهم وعن كل ما يميِّزهم كأقلية إثنية أو دينية في الحياة العامة، ثم انسحب ذلك على الحياة الخاصة أيضاً حتى أصبح الجميع مواطنين نافعين، أي أن ما بدأ كمحاولة لإعتاق الأقليات انتهـى بعملية دمجها وتذويبها، وهو النمــوذج الكـامن في عصـر الاسـتنارة: تحرير الإنسان من المطلقات ثم تفكيكه وتذويبه.

ويجب التنبه إلى أن عداء مفكري الاستنارة للخصوصية لم يكن مقصوراً على الخصوصية اليهودية بل كان هذا العداء عاماً لسائر الخصوصيات. كما كان بعض أعداءالخصوصيات المحلية يجدون أن خصوصية البريتون والفلامنج والأوكستينيان تسبب لهم قدراً من الضيق أكبر مما تسببه الخصوصية اليهودية. وكان مفكرو عصر الاستنارة يهاجمون المسيحية تحت ستار الهجوم على اليهودية (التي كانوا يسمونها «المسيحية البدائية»). ومن هذين العنصرين، ظهر الهجوم الشرس على اليهود في فكر الاستنارة. ولقد شكلت فكرة الشعب العضوي المنبوذ التي سادت في الفكر الغربي، وهي علمنة لبعض المفاهيم الدينية، الإطار المشترك للفكر الصهيوني والمعادي لليهود.

ومع العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر الميلادي (1770)، بلغ عدد يهود العالم مليونين ومائتين وخمسين ألفاً، كان يوجد منهم في أوربا مليون وسبعمائة وخمسون ألفاً، أي الأغلبية العظمى، وكانت أغلبيتهم من يهود اليديشية في روسيا وبولندا وجاليشيا.

الرومانسية والعداء للاستنارة (القرن التاسع عشر(

(Romanticism and the Counter-Enlightenment (Nineteenth Century

تأثر المفكرون اليهود في العالم الغربي بالرومانسية والفكر المعادي للاستنارة في النواحي التالية:

1 ـ الفكر العنـصري الغـــربي هـو إحدى ثمار الفـكر المعـادي للاستنارة.

2 ـ فكرة القومية العضوية (والشعب العضوي [فولك])، وهي فكرة تضرب بجذورها في الفكر المعادي للاستنارة، هي حجر الزاوية في الفكر الصهيوني.

3 ـ اليهودية المحافظة واليهودية التجديدية متأثرتان بالفكر المعادي للاستنارة.

ونحن نذهب إلى أن الصهيونية، في بعض جوانبها، حركة «رومانسية»، فالرومانسية هي عودة إلى مطلق لا زمني متجسد في شيء ما يوجد في الزمان والمكان يُطلَق عليه بشكل عام «الطبيعة» وإن كان يأخذ أسماء أخرى، والصهيونية هي عودة إلى مطلق متجسد في الزمان والمكان: فهي عودة للأرض أو لروح الشعب اليهودي. أما فيما يتصل بالجوانب السياسية والاقتصادية فيمكن العودة للباب المعنون «التحديث وأعضاء الجماعات اليهودية».

الجماعات اليهودية في عصر ما بعد الحداثة (القرن العشرون(

Jewish Communities in the Age of Post-Modernism (Twentieth Century)

مع نهاية القرن التاسـع عـشر، وتزايد هيمـنة الإمبريالية على العالم، تبدأ الصهيونية في إحكام قبضتها على الجماعات اليهودية في الغرب. ويصبح تاريخ الجماعات اليهودية، من الناحية السياسية، هو تاريخ صهينة هذه الجماعات أو رفضها للصهيونية ومحاولتها التملص منها. وقد تناولنا هذا الجانب وخلفياته التاريخية والفكرية والسياسية في المجلد الخامس.

ولكن من الناحية الحضارية والثقافية، يدخل أعضاء الجماعات اليهودية عصر ما بعد الحداثة فيزداد اندماجهم في مجتمعاتهم ولا يوجد أي تمايز مهني أو حرفي قسري،كما لا يوجد أي تمييز ضدهم. ويزداد تهميش اليهودية الحاخامية في حياة أعضاء الجماعات اليهودية، فهم يصبحون إما يهـوداً إثنيين (أي ملحدين) أو يهـوداً إصلاحيين أو محافظين، وهي صيغ يهودية مخففة للغاية فقد بعضها كل علاقة باليهودية الحاخامية المعيارية. فهم، على سبيل المثال، يتقبلون الشذوذ الجنسي ويسمحون بقيام أبرشياتللشواذ جنسياً يقودها حاخامات (من الذكور والإناث) من الشواذ أيضاً ويظهر لاهوت موت الإله (تناولنا هذا الجانب في الأبواب الأخيرة من المجلد السادس(.

ويظهر ما نسميه «الهوية اليهودية الجديدة»، وهي هوية غربية تماماً تغطيها قشرة زخرفية يهودية لا تؤثر في جوهر سلوك أعضاء الجماعات اليهودية. ويُلاحَظ أن المفكرين من أعضاء الجماعات اليهودية يصبحون جزءاً عضوياً من الفكر الغربي الحديث، فهوسرل ودريدا (رغم أصولهما اليهودية) مفكران غربيان تماماً. (انظر الأبواب الخاصة بالفكر والفلسفة وعلم النفس والاجتماع في هذا المجلد(.

الباب الثانى: العلمانية (والإمبريالية) واليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية

الحلولية والتوحيد والعلمنة: حالة اليهودية (أطروحة ماكس فيبر وبيتر برجر(

Pantheism, Monotheism, and Secularism: Judaism as a Case Study-Max Weber's and Peter Berger's Theses

من القضايا الأساسية التي أُثيرت في علم الاجتماع الغربي قضية علاقة التوحيد والتجاوز بالعلمنة، إذ يذهب بعض المفكرين إلى أن التوحيد هو الذي يؤدي إلى العلمنة عَبْر مرحلتين:

1 ـ مرحلة ترشيد العبادة وحياة المؤمن والعالم بأسره في إطار التوحيد والمطلق المتجاوز.

2 ـ يعقب هذا مرحلة أخرى يَضْمُر فيها المطلق تدريجياً (وتحل المرجعية الكامنة محل المرجعية المتجاوزة) إلى أن يختفي الإله تماماً. حينئذ يتم ترشيد حياة الإنسان والعالم بأسره في إطار الواحدية المادية.

وهي إشكالية قد تبدو غريبة بعض الشيء، ولكنها إشكالية مهمة للغاية يمكن فهمها حين تُفهم حلقات المتتالية التي يطرحها دعاة هذا النموذج التفسيري. ونحن نطرح تصوُّراً مغايراً ومتتالية مختلفة تستند إلى تعريفنا للعلمانية (الشاملة) باعتبارها منظومة كامنة في الحلولية الكمونية وليس في التوحيد. فنحن نرى - كما أسلفنا - أنه لا يوجد فرق جوهري بين الحلولية الكمونية الروحية والحلولية الكمونية المادية، وأن وحدة الوجود الروحية هي في أساسها وحدة الوجود المادية، أي العلمانية الشاملة.

ولنبدأ بتعريف العلمانية (الشاملة) بأنها رؤية واحدية تدور في إطار المرجعية الكامنة المادية؛ تَرُدّ الكون بأسره إلى مبدأ واحد كامن فيه. ومن ثم فهي لا تفرِّق بين الإنسان والطبيعة بل تراهما مادة واحدة (نسبية) لا قداسة لها، خاضعة لقانون طبيعي واحد، ومن ثم يمكن إخضاعها للمقاييس الكمية الرياضية دون الرجوع إلى أية قيم مطلقة (معرفية كانت أو أخلاقية) بهدف زيادة التحكم فيها وتوظيفها، أي أنها رؤية تستبعد الإنسان المركب الرباني وتستبعد أيضاً مقدرته على تجاوز ذاته الطبيعية والطبيعة/المادة ليحل محله الإنسان الطبيعي المادي.

وقد أشرنا إلى أن الترشيد هو إعادة صياغة الواقع والذات في ضوء « نموذج ما ». وقد يكون هذا النموذج دينياً (الإله المتجاوز)، ولكن يمكن أيضاً أن يكون مادياً كمونياً متمركزاً حول الإنسان وعقله أو متمركزاً حول الطبيعة/المادة. وما يهمنا في سياق هذا المدخل هو النموذج الثاني، والأكثر شيوعاً في العصر الحديث، وهو النموذجالواحدي المادي الذي يجعل الطبيعة/المادة (لا عقل الإنسان) هي موضع الكمون. والترشيد العلماني هو ترشيد مادي يأخذ شكل تبنِّي الأساليب العلمية الموضوعيةوالبيروقراطية اللاشخصية في عملية تفسير الواقع وإدارة المجتمع وإعادة صياغته ورفض الالتفات إلى التقاليد والأعراف الأخلاقية والموروثة وكل المطلقات المتجاوزةوالثنائيات، وهي عملية شاملة تُخضع كل شيء لقانون الأرقام والعقل. والترشيد، بهذا المعنى، هو عملية تجريد للعالم في إطار النموذج الواحدي الكموني المادي بحيثيُستبعَد كل ما لا يتطابق مع هذا النموذج، أي كل ما هو متجاوز لعالم الطبيعة/المادة. والعلمنة أيضاً عملية تطبيع، أي إدراك الإنسان باعتباره ظاهرة طبيعية وجزءاً عضوياً لا يتجزأ من الطبيعة/المادة، وعلى أساس أن ما يسري عليها يسري عليه، أي أن العلمنة هي عملية نزع القداسة عن الكون ورؤيته في إطار قانون مادي واحدكامن فيه، ومن ثم فهي عملية ترشيد وتجريد وتطبيع. ويُشكِّل هذا التعريف إطار مناقشتنا لآراء عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر وآراء عالم الاجتماع الأمريكي بيتر برجر في موضوع علاقة التوحيد بالترشيد ومن ثم العلمنة، وتطبيق هذا على حالة اليهودية.

يذهب ماكس فيبر إلى أن اليهودية، بوصفها ديانة توحيدية، قامت بدور أساسي في عملية الترشيد. فديانات الشرق الأقصى الحلولية الكمونية تهدف إلى أن يصبح المؤمن في حالة اتزان مع نفسه ومع الطبيعة ومع الخالق. وهي تختزل المسافة بين الإنسان من جهة والإله والطبيعة من جهة أخرى، فهي ديانات ترى الإله حالاًّ في الطبيعة والإنسان كامناً فيهما. أما الديانات التوحيدية فهي تخلق مسافة بين الخالق والمخلوق إذ أن الخالق متجاوز للطبيعة والإنسان منزَّه عنهما، ولذا لم يَعُد هدف المؤمن هو توازن علاقته مع نفسه ومع الدنيا وعالم الطبيعة وإنما التحكم فيها. ويرى فيبر أن هذه المحاولة للتحكم في الذات والعالم، باسم مَثَل أعلى موحَّد، هي خطوة أولى نحو الترشيد. واليهودية، باعتبارها أولى الديانات التوحيدية، لعبت (حسب تصوره) دوراً حاسماً في هذا المضمار، فهو يرى مثلاً أن السحر يعوق التقدم وترشيد الحياةالاجتماعية والاقتصادية. واليهود هم أول من تحرروا من نير السحر، فقد أسقطوا الآلهة المختلفة وحولوها إلى شياطين لا قداسة لها. ويعود هذا إلى تبنِّي اليهودية لما سماهفيبر «الروح الشعبية أو الجماهيرية» التي تتلخص رؤيتها فيما يلي:

1 ـ صاغت الروح الشعبية فكرة العدالة الإلهية (بالإنجليزية: ثيوديسي theodicy) وهي قضية لماذا خلق الإله العادل الشر. والرد اليهودي على هذه القضية رد عقلاني، فالإله كيان عقلاني رشيد، ويأتي بأفعال ذات دوافع عقلانية مفهومة للإنسان، والإنسان كيان حر مسئول عما يقترفه من آثام وعما يأتيه من أفعال خيِّرة.

2 ـ حارب المدافعون عن الرؤية الشعبية ضد فكرة أن قرارات الخالق نهائية ولا يمكن تغييرها، وطرحوا بدلاً من ذلك فكرة أن الإنسان، من خلال طاعة الخالق وتنفيذ وصاياه، يمكنه أن يحوز الرضا فيكافئه ويرفع عنه العذاب. ولكن الإنسان، داخل هذا الإطار الأخلاقي، لا يتسم بالخيلاء أو الثقة بالنفس، وهو ما يسميه فيبر «سيكولوجيا الفرسان»، فخالق الجماهير يتطلب الطاعة والتواضع والثقة فيه.

3 ـ تنظر الروح الشعبية إلى المبادئ الأخلاقية باعتبارها نسقاً من الأخلاقيات العملية المرتبطة بالحياة واحتياجاتها.

4 ـ ولذا،فإنها تخلو من أية عناصر سحرية، فالإنسان الذي لا يطيـع الخالق سـيُنزل به العقـاب،ولا يمكن لأية صيغ سحرية أن تنقذه منه.

وحسب تصوُّر فيبر، كانت السمتان الثالثة والرابعة هما الإضافة الإبداعية للتراث اليهودي الديني التوحيدي التي لم تظهر في الديانة المصرية أو البابلية (وهو رأي غريب بعض الشيء يغرق في التعميمات الكاسحة، ولكننا لن نناقشه حتى نستمر في عرض أطروحة فيبر). وقد ساهمت طبيعة المجتمع العبراني في تطوير السمات الأربعة السابقة كلها (التي يمكن أن نسميها «توحيدية» باعتبار أنها تؤكد مسئولية الإنسان الأخلاقية وحريته وعدم جدوى اللجوء للسحر والقرابين) لأنه كان مجتمعاً بدائياً مقسماً إلى قبائل تدخل في علاقة متكافئة فيما بينها في زمن الحرب، علاقة تستند إلى عقد أو ميثاق أو عهد (بالعبرية: بريت) يُعقَد بين القبائل من جهة ويهوه (إله الحرب) من جهة أخرى. وقد ظهرت يسرائيل باعتبارها «شعب إله الحرب» (وهذا هو المعنى الحقيقي لكلمة «يسرائيل» حسب تصور فيبر). ولم يكن هناك إطار ثابت يضم كل هذه القبائل، وإنما كانت هذه القبائل تدخل في علاقة مؤقتة تحت قيادة كاريزمية يُطلَق عليها اسم «القضاة»، وهم « أنبياء حروب » على حد قول فيبر. وكان الجميع متساوين داخل هذا الإطار، فكلهم يضطلعون بالوظائف نفسها ويؤدون الواجبات نفسها ويتمتعون بالحقوق نفسها. وقد كان هذا ممكناً لأن التكنولوجيا العسكرية كانت بدائية جداً، إذ كانت الحروب تتم إما على الأقدام وإما على ظهور البغال. وكان على الجميع أن يتحملوا الأعباء نفسها ويتجشموا المصاعب نفسها، ومن ثم ظهرت فكرة العهد التي ظلت شائعة في صفوف الجماهير اليهودية بكل ما تنطوي عليه من عقلانية وأخلاقية ومساواة بين أعضاء المجتمع العبراني، إذ كان المذنب يُطرَد من حظيرة الدين أو يُرجَم بالحجارة، الأمر الذي يعني استبعاد السحر كوسيلة للتقرب من الخالق.

ثم ظهر النظام الملكي العبراني وغيَّر هذا الوضع تماماً، فقد أعاد صياغة البناء الطبقي للمجتمع وشكل حرساً ملكياً خاصاً وجيشاً نظامياً وإدارة مركزية يتبعها نظام كهنوتي تابع للبلاط الملكي.

وقد تزامن ذلك مع تغيُّر فنون الحرب وأدواتها، إذ ظهرت العربات الحربية والأحصنة. وكان المجتمع العبراني، قبل ظهور الملكية، مكوناً من ثلاث طبقات:

أ) طبقة أرستقراطية حضرية تضم في صفوفها كبار الملاك الذين يعيشون من ريع ضياعهم.

ب) طبقة الجماهير (يستخدم فيبر الكلمة اللاتينية «بلبز plebs») التي تضم الفلاحين الذين كانوا يتمتعون بقدر من الاستقلال الاقتصادي في بادئ الأمر قبل أن تتدهور أحوالهم فيما بعد، كما كانت تضم الحرفيين والرعاة.

جـ) طبقة البدو الرحل.

وقد قامت الملكية بضم الأرستقراطية الحضرية إلى صفوفها وحولتها إلى نخبة حاكمة مع الكهنة والأرستقراطية العسكرية التي كوَّنت طبقة الفرسـان، وحل كهـنة البـلاط المدربون محل أنبياء الحرب. وكل هذا يعني ظهور طبقات سياسية وعسكرية ودينية حاكمـة متخـصصة يتم تجنيد أعضـائها من شــريحة صغيرة من الســكان، وهو ما يعني اسـتبعاد القاعدة العريضة من الجماهير (بلبز). وقد أدَّى ذلك إلى اتساع الهوة بين طبقات المجتمع وإلى ظهــور عقيدتين ســياسيتين متصارعتين. فتبنَّى أعضاء النخبةالحاكمة، بثقتهم الزائدة في أنفسهم، سيكولوجيا الفرسان (الحلولية). كما أن اعتمادهم على ريع ضياعهم جعلهم يتبنون عبادة إله الخصب بعل (الحلولية) الذي كان يحكم الناس تماماً كما يحكم الإقطاعي أقنانه وفلاحيه.

أما الجماهير، فقد ازداد ارتباطها بالماضي البدوي البسيط وبُمثله العليا وبعبادة يهوه. وقد قامت طبقة المثقفين الذين لم يجدوا مكاناً لأنفسهم في الهيكل السياسي الملكي الجديد بقيادة هذه الجماهير، كما أن هؤلاء المثقفين هم الذين عمَّقوا وطوَّروا ديانة يهوه. وكانت القضية الأساسية التي واجهوها هي قضية العدالة الإلهية (إذ كيف يمكن تفسير بؤس الجماهير؟)، فقاموا بتطوير العقيدة على أسس عقلانية للإجابة عن هذا السؤال بطريقة تلائم نفسية الجماهير وحسها الديني وتطلعها إلى توضيح الأمور بالنسبة لمصيرها وحلمها بمستقبل مزهر. ومن هنا، كان الإيمان بأن يهوه يتصرف ككائن عاقل يمكنه أن يُغيِّر قراراته. ويصبح أساس هذه الرؤية هو أن يحاول الإنسان أن يكتشف إرادة يهوه وتعاليمه وأن يكشفها للجماهير حتى يمكنها أن تحيا حسب هذه التعاليم، وبالتالي يمكن التأثير في يهوه ليغيِّر قراراته ولينقذ المؤمنين به من البؤس السياسي والاجتماعي.

وقد ورث الأنبياء تراث اللاويين وأنبياء الحروب (القضاة)، فحاولوا كأسلافهم اكتشاف إرادة يهوه وتحاشوا الطقوس السحرية. والنبي، بحسب تعريف فيبر، هو «إيشهارواح»، وهي عبارة عبرية تعني «رجل الروح». ويضيف فيبر إلى هذه العبارة كلمة «عقلانية» ليصبح النبي هو «رجل الروح العقلانية»، أي المعادي للسحر والمنتمي إلى دعاة الترشيد، وهو أيضاً رجل جماهير («ديماجوج» أي «مهيج»). وربط الأنبياء فكرة العهد أو الميثاق مع يهوه برؤيتهم للمستقبل وللحرية النهائية لأعضاء جماعة يسرائيل، وكانوا يتصورون أن يهوه سيدخل مستقبلاً في ميثاق لا مع جماعة يسرائيل وحسب بل ومع أعدائها ومع كل الشعوب، وحتى مع المملكة الحيوانية. ويرى فيبر أن إسهام الأنبياء يتلخص في أنهم عمَّقوا عقلانية مفهوم يهوه فربطوا بينه وبين الجماهير، وجعلوا من يهوه إلهاً للعالمين، وبذا حققوا الانتصار النهائي لعملية الترشيد التوحيدي على العناصر السحرية.

وقد ورث الفريسيون تراث الأنبياء، وكانوا يمثلون طبقة البورجوازية الصغيرة، خصوصاً الحرفيين، ومن هنا جاء التوجه العملي لعقيدتهم. وكانت شرعية الفريسيين لا تستند إلى أية أعمال سحرية وإنما إلى التوراة، أي إلى تعاليم الخالق. وقد سيطرت رؤيتهم على اليهود في شتاتهم، أي في انتشارهم، بحيث أصبح نشاط اليهود الفكري الأساسي هو دراسة التوراة. إن هذه الرؤية لابد أن تكون معادية للسحر ولعبادة بعل الحلولية المرتبطة بالسحر والطقوس الجنسية والقرابين البشرية، فهي رؤية تؤدي إلى ترشيد عملية الخلاص بحيث لا يتم بطريقة عشوائية عن طريق إرضاء الإله بالقرابين والتعاويذ كلما ظهرت الحاجة، وبلا منطق أخلاقي واضح وبالوسائل السحرية، وإنما يتم بطريقة منهجية منظمة عن طريق العمل الصالح (في الدنيا) وضبط النفس واتباع المُثُل الأخلاقية والتعامل مع الذات ومع الواقع وإخضاع الذات والعالم لقانون الإلهالواحد بطرق متكاملة لا تترك أية تفاصيل خارج نطاق عملية الخلاص المنهجية، بحيث يقوم المؤمن بإخضاع نسق حياته بكل تفاصيله لقواعد خارجية فيكافئه الإله العادل على أفعاله. وتؤكد هذه الرؤية أيضاً تزايد تحكم الإنسان في مصيره وفي بيئته وتركُّز الاهتمام على هذه الدنيا. ولذا، فإن الخلاص لا يتم عن طريق الشطحات الصوفيةوالانسحاب من الدنيا وإنما بإطاعة قانون الإله وتسخير الذات والواقع في خدمته بشكل منهجي، ومن ثم ظهرت روح الإنجاز بين اليهود إذ توجد علاقة وثيقة بين الرغبة في التحكم وروح الإنجاز. ومع تزايد التحكم وروح الإنجاز، يزداد التوجه إلى المستقبل والتركيز عليه.

كل هذه العناصر هي، في نظر فيبر، أشكال من ترشيد علاقة الخالق بالمخلوق. ومع أن هذا الترشيد يتم في إطار ديني، فهو ترشيد تقليدي متوجه نحو القيمة التي تحددها المعايير الأخلاقية المطلقة، إلا أن الصيغة المنهجية التي يتم بها هي بمثابة إعداد نفسي للإنسان والمجتمع يخلق تبادلاً اختيارياً أو قابلية للترشيد العلماني الحديث (وهو ترشيد إجرائي يتم خارج إطار أية مطلقات معرفية أو أخلاقية في مرحلة تاريخية لاحقة). فإخضاع الحياة الدينية لمنهج متسق أدَّى إلى استبعاد الطرق الارتجالية للتحكم؛ مثل السحر والأشكال البدائية للتنبؤ. فحل النبي محل الساحر، ثم استمرت العملية حتى حل البيروقراطي الحديث محل الجميع (وهذا هو ما يسميه فيبر «نزع السحر عن العالم»)، أي أن اليهودية (باعتبارها ديانة توحيدية) دعمت الاتجاه نحو الترشيد في الحضارة الغربية (ومن ثم الحضارة الحديثة بشكل عام).

الجدير بالذكر أن فيبر يشير إلى أن اليهودية لم تكمل العملية الترشيدية نظراً لظهور عقائد غير رشيدة داخل اليهودية. فالأنبياء أكدوا أن الإله هو إله العالمين، ولكنهم مع هذا أكدوا أيضاً أن جماعة يسرائيل هي وحدها شعبه المختار، وأن كل الشعوب الأخرى ليست إلا وسيلة لتحقيق غايته، أي أن يهوه أصبح إلهاً عالمياً وإله شعب يسرائيل في آن واحد. وقد فُسِّر هذا التناقض على أساس أن يهوه هو رب العالمين حقاً بمقدار دخوله في ميثاق أو عهد مع شعب يسرائيل وحده.

وبهذا، أصبح أعضاء جماعة يسرائيل هم الشعب المختار. ولكنهم حينما أصبحوا فيما بعد شعباً منبوذاً ليس لهم أي استقلال سياسي، بدأوا في تفسير هذا المفهوم تفسيراً جديداً. فهذا الشعب المختار المنبوذ بوسعه، من خلال المعاناة والإيمان بالخالق، أن يصبح مخلّصاً للإنسانية جمعاء، وبذا أصبح الشعب منبوذاً لأنه مختار، بل أصبح النبذ هو أكبر شاهد على اختياره.

وقد واكب ذلك ظهور الأخلاقيات المزدوجة التي تعني وجود مقياس للحكم على الشعب مختلف عن ذاك الذي يُستخدَم للحكم على الشعوب الأخرى. ثم قام عزرا ونحميا بتشديد قبضة الشعائر على اليهود وقويا دعائم الجيتو الداخلي، وبذا بدأ الشعب اليهودي في عزل نفسه طواعية عن بقية الشعوب. وهذه الأفكار (خصوصية يهوه ـ الشعب المختار ـ الأخلاقيات المزدوجة ـ العزلة الشعائرية) تتنافى مع عملية الترشيد، تلك العملية التي قام بها، وبشكل كامل، المسيحيون البروتستانت وليس اليهود. ولكن فيبر يذهب، مع هذا، إلى أن اليهودية ساهمت بشكل أكيد في توليد عملية الترشيد، وأن المسيحية الغربية ورثت هذه العناصر الرشيدة والترشيدية من العقيدة اليهودية، ثم قامت بتطويرها ووصلت بهذا التطوير إلى منتهاه: العلمنة الكاملة للمجتمع.

ويتفق بيتر برجر مع ماكس فيبر في أن اليهودية لعبت دوراً في عمـلية الترشيد، ولكنه ينسب لها أهمية أكبر من تلك التي ينسبها لها فيبر. ولتوضيح هذه النقطة يُعرِّف برجر العلمنة بأنها « استقلال مجالات مختلفة من النشاط الإنساني عن سيادة المؤسسات الدينية ورموزها »، أي انحسار القداسة عن الدنيا بشكل تدريجي نتيجة لتزايد ترشيد العالم. ويشير برجر إلى أن ثمة واحدية كونية (بالإنجليزية: كوزميك مونيزم cosmic monism) تسم العبادات المصرية والشرقية القديمة التي تنطلق من الإيمان بأنه لا يوجد فارق كبير بين عالم الطبيعة والإنسان من جهة وعالم الآلهة من جهة أخرى، إذ يحل الإله في الإنسان والطبيعة ويوحِّد بينهما (المرجعية الكمونية). ويرى برجر أن اليهودية تختلف عن الرؤى الكونية الوثنية (التي تتسم بالحلولية الكمونية) والتي سادت الحضارات المجاورة، وأن نقط الاختلاف هي نفسها التي جعلت اليهودية تلعب دوراً مهماً في ترشيد الواقع ومن ثم في ظهور العلمانية:

1 ـ الإيمان بإله مفارق:

آمن العبرانيون، أو جماعة يسرائيل (حسب رأي برجر) بإله مفارق للدنيا (المرجعية المتجاوزة)، وهو ما يعني وجود ثغرة ومسافة بين الخالق والطبيعة وبين الخالق والمخلوقات، ومن ثم فإن القداسة تم نزعها إلى حدٍّ ما من العالم. فإله العهد القديم لا يحل في الدنيا أو في أرض الوطن التي ينتمي إليها العابد، كآلهة العالم الوثني، وإنما يقف خارج الكون ويواجهه، فهو ليس بإله قومي مرتبط بشكل حتمي ونهائي بجماعة يسرائيل في الماضي والحاضر والمستقبل، وإنما يرتبط بهذه الجماعة بعقد محدَّد واضح.

2 ـ رؤية التاريخ باعتباره منفصلاً عن الطبيعة إذ يتجلَّى فيه الإله:

يصف برجر العقد بين الإله وجماعة يسرائيل بأنه تاريخي، أي يتحقق في التاريخ الإنساني لا في آخر الأيام. ومعنى ذلك أن اليهودية ديانة تاريخية على عكس الديانات الوثنية الحلولية (الكمونية) حيث يحلُّ الإله في الطبيعة، ومن ثم فهي عبادات طبيعية. والعهد القديم لا يحوي أساطير كونية تخلع القداسة على كل شيء في الطبيعة وإنما يحوي تاريخ أفعال الإله وبعض الأفراد المتميِّزين من ملوك وأنبياء. والأعياد اليهودية، في تصوُّره، لا تحتفل بقوى كونية، فهي ليست أعياداً طبيعية تحتفل بتغير الفصول، وإنما هي أعياد تحتفل بأحداث تاريخية محددة. وكل هذا يعني أن القداسة تم انتزاعها من الطبيعة، بل ومن بعض أحداث التاريخ، ولا تتجلى القداسة إلا في جوانب محدَّدة من تاريخ جماعة يسرائيل على وجه الخصوص وتاريخ العالم بأسره على وجه العموم، أي أن بعض جوانب التاريخ، لا الطبيعة بأسرها، أصبحت هي موضع الكمون والحلول الإلهي.

3 ـ ترشيد الأخلاق:

ثمة انفصال، إذن، بين الإله والتاريخ من جهة والطبيعة من جهة أخرى. ولا تنتمي الشرائع والأخلاق التي يهتدي الإنسان بهديها لعالم الطبيعة الكوني، فهي أوامر من الخالق يتم تنفيذها في المجتمع داخل الزمان. ولكل هذا، يرى برجر، مثله مثل فيبر، أن الرؤية اليهودية تذهب إلى أن حياة الفرد والأمة يجب أن تسخَّر في خدمة الإله بشكل منهجي ومنظم حسب القواعد التي أرسل بها، وبذلك يكون قد تم ترشيد الأخلاق الإنسانية بفصل الإنسان والأخلاق عن عالم الطبيعة، ومن ثم تم استبعاد التعاويذ والصيغ السحرية كوسائل للخلاص.

والمتتالية الكامنة في كتابات فيبر وبرجر، والتي تربط بين التوحيد والعلمنة من خلال عملية الترشيد، هي كما يلي: ثورة توحيدية على الواحدية الكمونية الكونية ـ الإيمان بالإله الواحد المتجاوز للطبيعة والتاريخ (المرجعية المتجاوزة) ـ الإيمان بمقدرة الإنسان على تجاوز واقعه وذاته ـ انعدام التوازن بين الذات والطبيعة ـ ترشيد (أي إعادة صياغة) عملية الخلاص وحياة المؤمن، وأخيراً العالم بأسره، في ضوء الإيمان بالإله الواحد (المبدأ الواحد) لاسترجاع شيء من التوازن ـ عدم التعامل مع الواقع بشكل ارتجالي وإنما بشكل منهجي بهدف التحكم فيه لخدمة الإله أو المبدأ الواحد (ترشيد تقليدي متوجه نحو القيمة) ـ اختفاء القيمة والمقدرة على التجاوز وظهور الترشيد المتحرر من القيم والمتوجه نحو أي هدف يحدده المرء (الترشيد الإجرائي) ـ وهذا النوع من الترشيد يتم دائماً في واقع الأمر في إطار الطبيعة/المادة والإنسان الطبيعي/المادي (المرجعية الكامنة) - العلمنة الكاملة.

والمتتالية في رأينا ليست دقيقة وليست حتمية، فعملية الترشيد التي تتم داخل إطار توحيدي وداخل إطار المرجعية المتجاوزة تظل محكومة بالإيمان بالإله الواحد المتجاوز لعالم الطبيعة والتاريخ، ولذا نجد أن التوحيد يصر على الرؤية الثنائية ويبرز الفروق بين النسبي والمطلق وبين الإنسان الطبيعي والإنسان الرباني (الجسد والروح ـ الدنيا والآخرة ـ الأرض والسماء) ولا يسقط في أية واحدية روحية أو مادية. وإذا كان الترشيد هو رد كل شيء إلى مبدأ واحد، فإن هذا يعني ببساطة أن المبدأ العام الذي سيُردُّ إليه الكون في الإطار التوحيدي هو الإله المتجاوز للطبيعة/المادة، وهو مبدأ يؤكد وجود مسافة بين الخالق والمخلوق ينطوي على الثنائية الفضفاضة وعلى التركيب. وهو مبدأ يمنح الواقع قدراً عالياً من الوحدة ولكنها وحدة ليست واحدية مصمتة، ولذا فهي لا تَجبُّ التنوع والتدافع. وعلى هذا، فإن عملية الترشيد في الإطار التوحيدي لن تسقط في واحدية اختزالية لأن التجريد مهما بلغ مقداره لا يستطيع أن يصل إلى الواحد العلي المتجاوز (فهو بطبيعته متجاوز للطبيعة/المادة)، ولذا لا يمكن الوصول إلى قمة الهرم والالتصاق بالإله والتوحُّد معه والتربع معه على قمة الهرم، ومن ثم يستحيل التجسد ويستحيل أن يفقد العالم هرميته ويستحيل أن تُختزَل المسافة بين الخالق والمخلوق، وأن يحل الكمون محل التجاوز. ولهذا يظل التواصل بين الخالق والمخلوق من خلال رسالة يرسلها الإله تتضمن منظومة معرفية وأخلاقية مطلقة متجاوزة للطبيعة/المادة. ومن ثم، يظل الترشيد ترشيداً تقليدياً يدور داخل إطار المطلقات التي أرسلها الإله المتجاوز، ويظل الواقع مركباً يحتوي على الغيب ويسري فيه قدر من القداسة، ويظل الإنسان مُستخلَفاً يعيش في ثنائية الروح والجسد لا في الواحدية المادية، وهي ثنائية تشير إلى الثنائية التوحيدية النهائية: ثنائية الخالق والمخلوق.

أما الحلولية الكمونية فأمرها مختلف تماماً، وهي التي تخلق في تصوُّرنا قابلية للعلمنة، فالحلولية لها شكلان: وحدة الوجود الروحية، ووحدة الوجود المادية. ووحدة الوجود، سواء في صيغتها الروحية أو في صورتها المادية، رؤية واحدية تَرُدُّ الواقع بأسره إلى مبدأ واحد هو القوة الدافعة للمادة الكامنة فيها التي تتخلل ثناياها وتضبط وجودها، وهو يُسمَّى «الإله» في منظومة وحدة الوجود الروحية ويُسمَّى «قوانين الحركة» في وحدة الوجود المادية، وحينما يُردُّ العالم إلى هذا المبدأ الكامن تسقط كل الثنائيات ويتحوَّل العالم إلى كل مصمت لا يعرف أية فجوات أو أي انقطاع، ويصبح الإنسان جزءاً لا يتجزأ منه، غير قادر على تجاوزه.

والمتتـالية التي نقترحها لتفسـير علاقة الحلولية بالعلمانية هي ما يلي: واحدية كونية ترد العالم بأسره إلى مبدأ واحد كامن فيه ـ ترادُف الإله والطبيعة والإنسان وإنكار التجاوز - عالم يحكمه قانون واحد وحالة اتزان بل وامتزاج والتحام بين الإنسان الطبيعي/المادي والطبيعة/المادة ـ سيادة القانون الطبيعي (المادي) وترشيد (إعادة صياغة) البشر والمجتمع حسب مواصفات هذا القانون - العلمنة الشاملة. وعملية الترشيد والتجريد في إطار حلولي كموني تؤدي إلى الواحدية الكونية المادية التي تسقط كل الثنائيات وتؤدي إلى هيمنة المبدأ الطبيعي/المادي الواحد. وتستمر عملية التجريد لا تحدها حدود أو قيود. بل إن الإطار الحلولي الواحدي يساعد على سرعة اتجاهها إلى نقطة الواحدية المادية حيث يصبح المبدأ الواحد كامناً تماماً في العالم الطبيعي وتختفي الثنائيات وتسقط المسافات ويُختزَل العالم إلى مستوى طبيعي واحد أملس لا يمكن تجاوزه، مكتف بذاته، يحوي داخله كل ما يلزم لفهمه ويتحرك حسب قانون صارم مطرد كامن في داخله.

إن المتتالية التي نقترحها هي عكس المتتالية التي يقترحها فيبر وبرجر فليـس التوحـيد هو الذي يؤدي إلى العلمانية وإنما الحلولية الكمونية. ولعل الضعف الأساسي في متتالية فيبر وبرجر هو أنها لا تفسر لم وكيف تم الانتقال من الترشيد التقليدي في إطار المرجعية المتجاوزة والمتوجهة نحو القيمة إلى الترشيد الإجرائي في إطار المرجعية الكامنة والطبيعة/المادة، فهما يقفزان من خطوة إلى التي تليها دون أن يبينا الأسباب.

وقد تمت عملية القفز هذه لأن كلاًّ من فيبر وبرجر، ومنظّري علم الاجتماع الغربي ككل، لم يستطيعوا التمييز بين الواحدية المادية الحلولية الكمونية التي تسقط الثنائيات والمطلقات والمركز من جهة، والتوحيد (بما يحوي من تجاوز وثنائية) من جهة أخرى. ولعل هذا يعود، في حالة فيبر وبرجر إلى أن خلفيتهما الدينية الغربية جعلتنموذجهما التحليلي غير قادر على رصد هذا الفرق الدقيق والجوهري. فقد سيطرت رؤية حلولية كمونية على الفكر الديني المسيحي الغربي. وهذه الرؤية ذات أصل بروتستانتي وجذور غنوصية، ولكنها هيمنت على الوجدان الديني المسيحي الغربي. وقد أدت هذه الرؤية إلى تأرجح حاد بين رؤية للإله الواحد باعتباره مفارقاً تماماً للعالم (إلى حد التعطيل) يتركه وشأنه مثل إله إسبينوزا، فيصبح العالم كتلة موضوعية صماء بلا معنى ولا هدف (التمركز حول الموضوع)، أو هو إله حالٌّ تماماً لا ينفصل عن الذات الإنسانية (التمركز حول الذات). وفي كلتا الحالتين لا توجد علاقة بين الإله وبين العالم، فهو إما مفارق تماماً له أو حالّ كامن فيه تماماً، أي أنها إثنينية أو ثنائية صلبة وليست ثنائية تكاملية. وإن كان يمكن القول بأن الأمر الأكثر شيوعاً الآن في الغرب هو فكرة الإله الحال والكامن في الطبيعة والإنسان. وهو أمر متوقع تماماً، فالمسيحية الغربية تعيش في تربة علمانية كمونية. ولذا، اختفى الإله المفارق حتى حد التعطيل في القانون الطبيعي، ولم يبق منه سوى ذرات وترسبات كامنة في نفوسوقلوب بعض من لا يمكنهم قبول وحشية النظام العلماني الواحدي المادي. وفيبر وبرجر يتحركان داخل هذا الإطار الحلولي الكموني، ولذا لم يتمكن أيٌّ منهما من أن يرصدتَصاعُد معدلات الحلولية والكمونية في اليهودية والمسيحية (منذ عصر النهضة). ولهذا، نجد أن كلاً منهما - في دراسته لليهودية - قد أهمل المكون الحلولي القوي في العقيدة اليهودية الذي يتبدَّى بشكل واضح في صفحات العهد القديم، وبخاصة في أسفار موسى الخمسة. وقد ركزا في تحليلهما على كتب الأنبياء، التي تحتوي على عنصر توحيدي قوي ولكنها تشكل الاستثناء لا القاعدة في العهد القديم. ويبدو أن معرفة كل منهما بالتلمود ليست معرفة مباشرة وإنما من أقوال ومراجعات الآخرين، ولذا لم يلحظ أيٌّ منهما النزعة الحلولية القوية داخل التلمود، ولم يلحظا الفروق الجوهرية بين الرؤية التوحيدية كما ترد في كتب الأنبياء والرؤية الحلولية الكمونية في التلمود. وأخيراً، لا توجد أية إشارة للقبَّالاه في كتاباتهما باستثناء إشارات عابرة تدل على أن أصحابها لا يعرفون التراث القبَّالي بما فيه الكفاية، وربما يعرفون القبَّالاه ككلمة وحسب.

ويتضح عدم إدراك برجر للمكون الحلولي في اليهودية في حديثه عن التصور اليهودي للإله باعتباره إلهاً مفارقاً للطبيعة وللإنسان. فاليهودية تركيب جيولوجي تراكمي، ولذا يوجد داخلها التصور التوحيدي للإله، ولكن توجد إلى جواره تصورات أخرى تتناقض مع التصور التوحيدي تماماً، وهي تصورات أكثر شيوعاً ومركزية من التصور التوحيدي. كما أن برجر في حديثه عن الأعياد اليهودية يقول إنها أعياد تحتفل بأحداث تاريخية ولا تحتفل بقوى كونية. وقد بيَّنا في دراستنا للأعياد (انظر الباب المعنون: «الأعياد اليهودية» في المجلد الخامس من الموسوعة) أنها تحتوي على كل من العنصرين، فعيد الفصح هو عيد خروج الشعب من مصر (مناسبة تاريخية) وهو عيد الربيع في آن واحد. أما فيما يتصل بترشيد الأخلاق، فقد قضت عليه الأخلاقيات المزدوجة التي اتسم بها أعضاء الجماعات اليهودية كجماعة وظيفية. ومن المعروف أن اليهودية (مع هيمنة القبَّالاه) سيطر عليها الإيمان بالسحر والتعاويذ وزادت شعائر الطهارة، وهو ما جعلها قريبة من العبادات الوثنية الحلولية القديمة التي يُفتَرض أن اليهودية التوحيدية قد تمردت عليها. وقد أشار فيبر إلى سقوط اليهودية في الحلولية ولكنه قرر، بناءً على هذا، استبعاد اليهودية من نموذجه التفسيري، زاعماً أن التوحيد اليهودي قد استمر من خلال العقيدة المسيحية.

إلى جانب هذا، أهمل كل من فيبر وبرجر رصد تَصاعُد معدلات الحلولية والكمونية في المسـيحية الغربية ذاتهـا (وفي المجتمع الغربي ككل). فلم يتحدثا عن الربوبية والماسونية وظهور القبَّالاه المسيحية وتغلغل الحلولية الكمونية في الفكر الديني المسيحي (وبخاصة في الفرق البروتستانتية).

ونحن نذهب إلى أن العلمانية هي شكل من أشكال الكمونية المادية وأن ما حدث أن معدلات الحلولية الكمونية في الحضارة الغربية والمسيحية الغربية تزايدت تدريجياً إلى أن وصل الكمون إلى منتهاه (وأصبح الإله كامناً تماماً في الطبيعة والتاريخ)، فظهرت المنظومة العلمانية. وبهذا المعنى، وُلدت العلمانية من رحم كل من: اليهوديةوالمسيحية، بعد تراجُع التوحيد والتجاوز ومع تزايُد الحلول والكمون.

والمتتالية التي نقترحها أبسط من متتالية برجر وفيبر، كما أن لها قيمة تفسيرية أعلى. وعلى سبيل المثال، يمكن فهم الإصلاح الديني (وهو أول حلقات عملية العلمنة في الغرب) وانتشار الصوفية الحلولية في صفوف البروتستانت في ضوء هذه المتتالية، وهي تبيِّن علاقة الفكر الإنساني (الهيوماني)، مثلاً، بالفكر البروتستانتي على أساس أنهما نوعان من أنواع الفكر الحلولي الكموني الواحدي؛ حقق الفكر الإنساني الهيوماني الواحدية من خلال استبعاد الإله، وحقق الفكر البروتستانتي الواحدية نفسها إما من خلال حلول الإله في الإنسان والطبيعة أو من خلال مفارقته لهما حتى حد التعطيل، أي أن واحدية الفكر الهيوماني تعبير عن حلولية كمونية مادية بينما واحدية الفكر البروتستانتي تعبير عن حلولية كمونية روحية. ويشكل إسبينوزا نقطة تحوُّل مهمة إذ عبَّر عن توازي هـذين الضربين من الحلوليـة الكمـونية في عبارته «الإله أي الطبيعة». ومن تحت عباءة إسبينوزا خرجت المنظومات العلمانية الفلسفية الغربية، فيأتي هيجل، وهو صاحب نظام حلولي كموني واحدي شامل يتسم بتعددية ظاهرة وواحدية صلبة كامنة تتحد في نهايته الروح بالطبيعة والفكر بالمادة والكل بالجزء والمقدَّس بالزمني. ثم يأتي نيتشه، وهو فيلسوف حلولي كموني آخر، ليشكل القمة (أو الهوة) الثانية في الفلسفة العلمانية، فهو يلغي الثنائية الظاهرة تماماً ويصل بالنسق إلى الواحدية الكاملة فيعلن أنه لا يوجد فكر أو روح أو اسم لإله وإنما مادة محض، وهي مادة سائلة لا قانون لها سوى قانون الغاب ولا إرادة لها سوى إرادة القوة، ولا يوجد سوى أجزاء، فيموت الإله وتسقط فكرة الكل ذاتها.

وإذا كان المشروع التحديثي للاستنارة قد خرج من تحت عباءة إسبينوزا، فقد خرجت ما بعد الحداثة بوجهها القبيح من تحت عباءة نيتشه. ثم جاء دريدا الذي وصل بالسيولة إلى منتهاها وأعلن أن العالم لا مركز له ولا معنى وأنه سيولة لا يمكن أن يصوغها أحد أو يفرض عليها أي شكل، وأننا حينما ننظر لا نرى قانون الطبيعة الهندسي (على طريقة إسبينوزا) ولا الغابة التي تحكمها إرادة البطل (على طريقة نيتشه) وإنما نرى الهوة (أبوريا)، وهذا هو عالم مادونا ومايكل جاكسون (عالم تتساوى فيه مادونا بمايكل جاكسون ووليام شكسبير)، عالم عبارة عن موجات متتالية بلا معنى، عالم علماني صلب تماماً.

ونحن نرى أن بروز اليهود في الحضارة الغربية العلمانية (وليس قبل ذلك) يعود إلى أن مفردات الحلولية هي مفردات هذه الحضارة وإلى أن اليهود (بسبب عمق الحلوليةفي تراثهم الديني) أكثر كفاءة في الحركة في هذا العالم العلماني الذي يتسم بالواحدية المادية. وقد وُصفت القبَّالاه بأنها تطبيع للإله وتأليه للطبيعة، وهو وصف دقيق للعلمانية التي ترى أن الإله هو المبدأ الواحد الذي يسري في الطبيعة (فيتم تطبيع الإله) والتي تذهب إلى أن العالم مكتف بذاته (واجب الوجود)، يحوي داخله ما يكفي لتفسيره (فيتم تأليه الطبيعة). وهذه المقولة هي نظرية إسبينوزا كاملةً. كما وُصفت القبَّالاه بأنها تُجنِّس الإله (أي تجعل الجنس هو المبدأ الواحد الذي يُردُّ إليه كل شيء) وتُؤلّه الجنس. وهذه المقولة هي نظرية فرويد في حالة جنينية. ومفردات القبَّالاه (والحلولية الواحدية الروحية) الأساسية (الجسد والتنويعات المختلفة عليه: الرحم ـ الأرض ـ الجنس ـ ثدي الأم) هي نفسها مفردات الحلولية الواحدية المادية، أي العلمانية تقريباً. ولذا، فليس من الممكن النظر إلى إسبينوزا وفرويد باعتبارهما «يهوديين» ولا يمكن رؤية بروزهما وعلمانيتهما الشرسة على أنها نتيجة انتمائهما اليهودي، وإنما يجب أن نضعهما في السياق الحلولي الكموني الواحدي الأكبر، وأن نضع الحضارة الغربية العلمانية ذاتها في السياق نفسه، ومن ثم فإن إسبينوزا وفرويد (اليهوديين) وهوبز ويونج (المسيحيين)، على سبيل المثال، هما تعبير عن النمط الحلولي الواحدي المادي (الغنوصي) نفسه، ومن هنا فإن الجميع يؤمن بالرؤية نفسها ويستخدم اللغة والمفردات نفسها ويصبح الانتماء المسيحي أو اليهودي مسألة ثانوية هامشية، ولا تصلح أساساً للتصنيف أو التفسير.

العلمـانية ودور الجمـاعات اليهودية في ظهورهـا

Secularism: Role of the Jewish Communities in its Emergence

ساد بعض الأدبيات العربية والإسلامية القول بأن اليهود هم مخترعو العلمانية ومروجوها في العالم بأسره، بل إنهم المسئولون عن ظهورها. وهذا ما تؤكده بروتوكولات حكماء صهيون التي يقتبس منها البعض وكأنها وثيقة علمية مهمة. وبطبيعة الحال، فإن مثل هذه الأطروحة ساذجة للغاية وتعطي لأعضاء الجماعات اليهودية وزناً وحجماً يفوقان كثيراً وزنهم وحجمهم الحقيقيين. فالعلمانية ليست مجرد مؤامرة أو حركة منظمة أو فكرة أو أقوال، وإنما هي ظاهرة اجتماعية وحقيقة تاريخية ذات تاريخ طويلومركب، تعود نشأتها إلى عناصر اقتصادية وفكرية وحضارية عديدة وإلى دوافع واعية وغير واعية أدَّت جميعها إلى انقلابات بنيوية في رؤية الإنسان الغربي لنفسه وللطبيعة والإله، وفي بنية المجتمع نفسه. وهي، شأنها شأن كل الظواهر الاجتماعية والتاريخية، لا تظهر بسبب رغبة بعض الأفراد أو الجماعات في ظهورها وحسب، وإنما تتم أيضاً خارج إرادة الأفراد، ورغماً عنهم أحياناً. وقد تم الانقـلاب العلـماني في الغرب بمـعزل عن أعضـاء الجماعـات اليهودية، كما أن كثيراً من المجتمعات التي لا يوجد فيها يهود على الإطلاق (مثل اليابان)، أو توجد فيها أقليات يهودية صغيرة إلى أقصى حد (مثل يوغوسلافيا وبلغاريا وشيلي وكينيا)، تمت علمنتها بدرجات متفاوتة، وهو ما يدل على أن اليهود ليسوا السبب الوحيد أو الأساسي لظهور العلمانية.

وثمة ظواهر عديدة ساهمت في ظهور العلمانية وتأثرت بها (فهي سبب ونتيجة في آن واحد) مثل الإصلاح الديني، وحركة الاكتشافات، والفلسفة الإنسانية الهيومانية، وفكر حركة الاستنارة (الفكر العقلاني والنفعي)، والدولة القومية المركزية، ثم الثورة الفرنسية والصناعية، والثورة الرومانتيكية، وتزايُد تركُّز الناس في المدن، وهي ظواهرتاريخية غربية لم تلعب الجماعات اليهودية فيها دوراً ملحوظاً. فدورهم في الحضارة الغربية حتى نهاية القرن التاسع عشر كان محدوداً للغاية.

ومع هذا، وبعد تأكيد هذه الحقيقة الأساسية والمهمة، لابد أن نشير إلى أن من المحال أن تحدث ظاهرة بنيوية كاسحة عامة مثل الهيمنة التدريجية للرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية التي أثرت في أشكال الحياة كافةً، دون أن يتفاعل معها أعضاء الجماعات اليهودية، ودون أن يساهموا فيها أو يتأثروا بها سلباً أو إيجاباً. فهذه الظاهرة قد وصل أثرها إلى كل أعضاء المجتمع أيَّا ما بلغت هامشيتهم أو تفردهم أو ضآلة شأنهم. ونظراً لخصوصية وضع الجماعات اليهودية في المجتمع الغربي، فإن علاقتهم بالثورة العلمانية الكبرى تتسم بالخصوصية. ويمكن أن نقسم الموضوع الذي نتناوله إلى أربعة موضوعات:

1+2 ـ علاقة كل من العقائد والجماعات اليهودية بظهور العلمانية.

3+4 ـ أثر الثورة العلمانية الكبرى في كل من العقائد والجماعات اليهودية.

وقد تناولنا علاقة العقيدة اليهودية بالعلمانية في المدخل السابق وسنتناول في هذا المدخل الموضوع الثاني، أي علاقة الجماعات اليهودية بظهور العلمانية (أما الموضوعان الثالث والرابع فسوف نتناولهما في مدخلين مستقلين(.

ساهم أعضاء الجماعات اليهودية في حمل الأفكار العلمانية ونشرها. ويجب أن نؤكد، مرة أخرى، أنهم لم يفعلوا ذلك رغبةً منهم في تدمير العالم وإيذاء العباد، بل تحركوا كجماعة في إطار منظومة اجتماعية غربية تتجاوز إرادتهم ورغباتهم وأهواءهم. لكن هذا لا يعني إعفاء الإنسان من المسئولية الخلقية، إذ يظل مسئولاً، على المسـتوى الفردي، عـما يقترفـه من ذنوب وما يأتي به من حسنات. وهناك كثير من أعضاء الجماعات اليهودية ممن تصدوا للعلمانية وحاولوا وقف زحفها. ومن المعروف أن أعضاء الجماعات اليهودية اضطلعوا بدور الجماعات الوظيفية الوسيطة في المجتمع الغربي، وهو ما ولَّد لديهم نزعة حلولية خلقت لديهم استعداداً كامناً للعلمنة. ويمكننا أن نضيف هنا أن اضطلاعهم بهذا الدور جعل منهم واحداً من أهم عناصر العلمنة المباشرة في المجتمع الغربي. والعلمنة، في جانب من جوانبها، هي تطبيق القيم العلمية والكمية الواحدية على مجالات الحياة كافة، بما في ذلك الإنسان نفسه، حتى ينتهي الأمر بتحييد العالم تماماً وترشيده وتحويله إلى حالة السوق والمصنع.

وعلاقة التاجر والمرابي بالمجتمع ليست علاقة مباشرة وإنما هي علاقة ثانوية أو هامشية، فهما لا ينتجان شيئاً وإنما يسهلان عملية تبادل السلع التي ينتجها الآخرون من خلال ما يحملون من النقد، وهو أكثر الأشياء تجريداً. والتاجر والمرابي ليسا موضع حب أو كره الناس، فالجميع ينظر إليهم بشكل موضوعي من منظور مدى نفعهم وأهميتهم الوظيفية. وإلى جانب هذا، كان اليهود يشكلون عنصراً متعدد الجنسيات، عابراً للقارات، يقوم بوظيفة التجارة والمصارف الدولية، الأمر الذي عمًَّق تحوسلهم أي تحوُّلهم إلى وسيلة. لكن أعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة، إلى جانب هذا، أداة في يد الحاكم يستخدمها في امتصاص الثروة من يد الجماهير، وقد شُبِّهوا بالإسفنجة لهذا السبب. وقد كان اليهود دائماً من ملتزمي الضرائب. ولكل هذا، نجد أن علاقة الجماعة الوظيفية الوسيطة بالمجتمع تتسم بالموضوعية والتعاقدية والتنافسية، الأمر الذي يجعل أعضاء الجماعات اليهودية من أهم عناصر علمنة المجتمع بشكل بنيوي يتجاوز وعي ونوايا أعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة وأعضاء المجتمع المضيف في الوقت نفسه.

وكان أعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة يقيمون في الجيتو ليتم عزلهم عن أعضاء المجتمع وتزيد كفاءة المجتمع في استغلالهم وفي تحقيق الفائدة المرجوة من وجودهم فيه. وقد طُبِّقت على الجيتو، من البداية، الأنساق المادية الآلية الترشيدية في الإدراك وتنظيم العلاقة، فكان مجتمع الأغلبية ينظر إلى الجيتو من منظور نفعي، ويدخل معه في علاقة تعاقدية باردة برّانية يحكمها القانون والحسابات والمنفعة لا العواطف أو الأخلاق أو الالتزام الداخلي (الجواني) أو التآلف والتراحم. ولم يكن مجتمع الأغلبية يتواصل مع أعضاء الجماعات الوظيفية الوسيطة ولا ينسب إليهم أي معنى إنساني خاص. فاليهود في الجيتو هم مصدر ربح وخدمات وحسب، أي مجرد وسيلة. والعلاقة بين المجتمع والجيتو علاقة تواجُد نفعي في المكان، دون زواج أو حب، ودون مشاركة في الزمان. فالجيتو، مثل الإنسان العلماني النموذجي، كان منعزلاً موضوعياً محايداً مجرداً مباحاً ولا يتمتع بأية قداسة، فهو مادة استعمالية محضة. ومن هنا، كانت البغايا في كثير من الأحيان يقطنَّ إما داخل الجيتو أو بجواره. وبهذا، كان الجيتو أول جيب علماني حقيقي. وقد أدَّى كل هذا إلى أن أصبح أعضاء الجماعات اليهودية من أهم القطاعات البشرية في أوربا التي كانت لديها قابلية للعلمنة ومؤهلة للتحرك داخل المجتمع التعاقدي التناحري، إذ أنهم كانوا مسلحين بالكفاءات اللازمة للتعامل مع عالم تسود فيه العلاقات الموضوعية وبشر لا يقبلون إلا المنفعة قيمة وحيدة مطلقة.

وبالفعل، لعب اليهود، كجماعة وظيفية وسيطة، دوراً في علمنة المجتمع، فوسعوا نطاق القطاع الاقتصادي التبادلي، وكانوا عنصراً شديد الحركية في المجتمع الوسيط الذي يتسم بالسكون. وكانوا دائمي البحث عن زبائن جدد وسلع جديدة وأسواق جديدة، وكان لا يهمهم الإخلال بتوازن المجتمع أو بقيمه، فهم يقفون خارج نطاق العقيدة المسيحية وقيمها، لا يكنون لها أي احترام ولا يشعرون نحوها بأي ولاء، وينظرون إلى أعضاء المجتمع المضيف باعتبارهم شيئاً مباحاً. ولم يكن التاجر اليهودي، على سبيل المثال، يلتزم بفكرة الثمن العادل أو الأجر الكافي، وإنما كان يحمل رؤية صراعية تنافسية تناحرية غير تراحمية. وهكذا لعب اليهود دوراً فعالاً وحاسماً في تقويض الأخلاقيات الدينية، وفي دفع عملية الترشيد والعلمنة إلى الأمام.

وفي القرن السابع عشر، تزايد دور اليهود في عملية العلمنة مع ظهور الدولة المطلقة التي اعتمدت عليهم في عملية علمنة القطاع الاقتصادي والسياسي في المجتمع. وما فعله الأمراء المطلقون في وسط أوربا (في ألمانيا) يصلح مثلاً على ذلك، فقد استخدموا أعضاء الجماعة اليهودية ككل، وكبار المموَّلين اليهود (يهود البلاط على وجه التحديد) في النشاطات الاقتصادية، مثل: التجارة الدولية، وتمويل الجيوش، وعقد القروض والصفقات. وقد كان لانتشار يهود المارانو في أرجاء أوربا دور مهـم في عمليةالعلمـنة إذ كانوا هامشـيين لا يؤمنون باليهودية أو المسيحية، فإيمانهم بكلتيهما كان سطحياً للغاية. وقد لعب المارانو دوراً مهماً في التجربة الاستيطانية الغربية كمموَّلين للشركات الاستيطانية وكمادة استيطانية. ونحن نرى أن الاستعمار الاستيطاني من أهم التجارب المؤثرة في إنشاء مجتمعات علمانية رشيدة خاضعة للنماذج المادية الهندسية في الإدارة.

ويمكننا أن نرى في إسبينوزا تعبيراً عن العناصر السابقة كلها، فهو من يهود المارانو، وفلسفته واحدية حلولية كمونية، كما أنه ينتمي إلى الجماعة اليهودية في أمستردام التي كانت تضم أنشط الجماعات اليهودية الوظيفية الوسيطة في العالم آنذاك والتي لعبت دوراً مهماً في الاستعمار الاستيطاني، وكان بينهم كثير من يهود البلاط. وكانت أمستردام نفسها مركزاً تجارياً تخلخلت فيه قبضة السلطة الدينية. وقد تمرَّد إسبينوزا على اليهودية الحاخامية، فطُرد من حظيرة الدين اليهودي، ولكنه لم يتبن أي دين آخر، ولذا فإن البعض يرون أنه أول إنسان علماني حقيقي في التاريخ.

ومع هذا، ولأسباب عديدة ربما من أهمها انعزال يهود اليديشية (في شرق أوربا) الذين كانوا يشكلون أغلبية يهود العالم آنذاك داخل الجيتو والشتتل، انفصل أعضاء الجماعات اليهودية عن التحولات الفكرية والبنيوية الضخمة في أوربا. وكان أغلبيتهم من المؤمنين بدينهم، يتبعون حاخاماتهم، أو قياداتهم الدينية غير الحاخامية في حالة الحسيديين، ويتمسكون بتقاليدهم الدينية والاجتماعية. وقد هاجرت أعداد كبيرة من هؤلاء إلى النمسا وألمانيا وفرنسا وإنجلترا، وقاوموا محاولات العلمنة والتحديث بضراوة. ولكن الدول الغربية قامت بعملية علمنة اليهود، وغيرهم من الجماعات الإثنية والدينية، بشراسة غير عادية ابتداءً من أوائل القرن التاسع عشر. وتمت أهم المحاولات بصورة أكثر منهجية في فرنسا على يد نابليون، ثم تبعتها ألمانيا والنمسا وروسيا القيصرية في منتصف القرن. وتكفلت الولايات المتحدة (المجتمع العلماني شبه النموذجي) بالإجهاز على ما تبقَّى من انتماء ديني بين المهاجرين من يهود اليديشية وغيرهم. ويرى مؤرخو الجماعات اليهودية أن تأخُر بعض الجماعات اليهودية في دخول العصر الحديث العلماني هو جوهر ما يُسمَّى «المسألة اليهودية»، إذ ظلوا يشكلون جيباً دينياً تقليدياً في مجتمع علماني حديث.

وبعد هذا التاريخ، تزايد دور أعضاء الجماعات اليهودية كحَمَلة للفكر العلماني وكأدوات للعلمنة. ويُلاحَظ أنه بعد أن فرضت الدولة المطلقة العلمنة قسراً على أعضاءالجماعات اليهودية، استبطنوا هم أنفسهم الرؤية العلمانية وحققوا درجة عالية من الاندماج وأصبحوا أهم رواد العلمانية ومن أكثر الداعين لها حماسة وتطرفاً، وذلكللأسباب التالية:

1 ـ تمت علمنة أعضاء الجماعات اليهودية بسرعة وفجاجة غير عادية (على عكس أعضاء الأغلبية في المجتمع) قذفت بهم بعنف في عالم العلمانية، الأمر الذي جعلهم يتجاوزون بقية أعضاء المجتمع في معدلات العلمنة، إذ تمت العملية بالنسبة لهؤلاء ببطء وبشكل أقل عنفاً. وقد نوقشت المسألة اليهودية في إطار مدى نفع اليهود (المادي) ولذا سارع أعضاء الجماعات اليهودية الراغبون في الاندماج إلى ترشيد حياتهم وذواتهم من الداخل والخارج حتى يبينوا نفعهم لأعضاء الأغلبية ومقدرتهم على الانتماء.

2 ـ يُلاحَظ أن العلمانية الغربية ورثت بعض الرموز المسيحية وعلمنتها، فإصطلاحات مثل «النهضة» أو«الاستنارة» ذات جذور مسيحية (قيام المسيح وهالات القديسين ونور الإله)، ويمكن من ثم أن تكتسب مضموناً مسيحياً أو شبه مسيحي. كما أن الصورة المجازية العضوية وهي صورة مجازية أساسية في الفكر العلماني (الذي يرى أن ثمة قانوناً واحداً في الكون) ليست بعيدة عن فكرة التجسد المسيحي (نزول الإله ليصبح بشراً) وعن فكرة أن الكنيسة هي جسد المسيح. وتداخُل الرموز الدينية مع الرموز العلمانية يقلل من حدة علمانيتها قليلاً ويخلق قدراً من الاستمرارية، على المستوى الوجداني وعلى مستوى الديباجات أما بالنسبة إلى عضو الجماعة اليهودية، فإنالمصطلحات العلمانية تشير إلى مفاهيم علمانية محضة لا تحتوي على أية قداسة أو أصداء للقداسة.

3 ـ كانت أعداد كبيرة من اليهود أعضاء في الطبقة البورجوازية الصغيرة في الغرب، وهي طبقة ساهمت بدور أساسي في الحرب ضد الإقطاع والكنيسة. كما أن أعضاء البورجوازية يلتزمون بشكل شبه مطلق بالحراك الاجتماعي (الآلية الأساسية للبقاء بالنسبة لهم). ولذا، فهم على أتم استعداد للتخلي عن قيمهم أو خصوصيتهم لتحقيق هذا الحراك.

4 ـ كانت أعداد كبيرة من يهود العالم في حالة هجرة من بلد لآخر. والمهاجر، بسبب حركيته وعدم انتمائه، يكون عادةً من حملة الفكر العلماني.

5 ـ يُلاحَظ أن كثيراً من أعضاء الجماعات اليهودية، سواء في روسيا داخل مناطق الاستيطان (مع هبوط بعض أعضاء البورجوازية الصغيرة اليهودية في السلم الطبقي)، أو في الولايات المتحدة (بعد وصولهم كمهاجرين)، انخرطوا في صفوف الطبقة العاملة المقتلعة من جذورها والتي تشكل العمود الفقري للعلمنة.

6 ـ تركُّز معظم أعضاء الجماعات اليهودية في المدن التي تُعَدُّ دائماً مراكزاً للعلمنة.

7 ـ هناك، أخيراً، السبب العام وهو أن كثيراً من أعضاء الأقليات يتبنون الفكر العلماني لأنهم يتصورون أنه سيخلق الجو الملائم لتحقيق المساواة الكاملة بين أعضاء الأقلية وأعضاء الأغلبية، سواء في عالم الاقتصاد أو في عالم الرموز (وقد أثبتت التطورات التاريخية اللاحقة أنه أمر لم يكن دقيقاً تماماً).

أثــــر العلمانيـــــة فــي اليهوديـــــة

The Impact of Secularism on Judaism

تركت العلمانية أثراً عميقاً في اليهودية. والواقع أنه، حينما تصاعدت معدلات العلمنة في المجتمع الغربي، كانت اليهودية الحاخامية قد دخلت مرحلة الأزمة، وهيمنت القبَّالاة الحلولية على الجماهير اليهودية بحيث أصبحت رؤيتها للكون حلولية متطرفة. ونتيجةً لذلك، بدأت مرحلة التفجرات المشيحانية ومن أهمها حركة شبتاي تسفي، والتي بدأت في سالونيكا والدولة العثمانية وانتشرت منها إلى أرجاء العالم في القرن السابع عشر، وتبعتها الحركة الفرانكية في بولندا في القرن الثامن عشر، وانتهت بالحركة الحسيدية التي سيطرت على معظم جماهير اليهود في شرق أوربا مع نهاية القرن الثامن عشر. لكل هذا، كانت اليهودية قد وصلت إلى مرحلة تتطلب « الإصلاحالديني». ولكن، بسبب تكلس اليهودية الحاخامية شكلاً ومضموناً بين أوساط النخبة الدينية، وبسبب انتشار الحلولية بين الجماهير، أصبح من العسير إصلاح اليهودية منالداخل. وأخذ الإصلاح شكل تبنِّي الأشكال الدينية الإصلاحية المسيحية، ثم تحوَّلت إلى العلمنة الصريحة بعد فترة. وقد بدأ الإصلاح الديني بمحاولة إصلاح الجانبالجمالي، فأُلقيت المواعظ باللغة السائدة في المجتمع، وأُدخل الغناء في الصلوات حيث كانت تؤديه في البداية جوقة من الذكور ثم جوقة مختلطة، كما أُدخل الأرغن، وهذه كلها عناصر مستمدة من طقوس العبادات المسيحية. ثم تصاعدت درجة الإصلاح الديني وتجاوزت الجانب الجمالي ووصلت إلى الجانب العقيدي، فظهرت اليهودية الإصلاحية والمحافظة والتجديدية، وهي صيغ من اليهودية مخففة للغاية لا تعترف بها اليهودية الأرثوذكسية الحاخامية ولا تعترف بحاخاماتها. ومن هنا كان ظهور مشكلة من هو اليهودي؟

وهذه الفرق الجديدة ذات الطابع الربوبي العقلاني، والتي تذهب إلى أن العقل البشري يمكنه الوصول إلى الحقائق الدينية بدون وحي إلهي، وأن الشريعة اليهودية ليستمنزَّلة من الإله، تحاول أن تقلص رقعة الغيب على قدر الإمكان أو تلغيه تماماً أو تستبعده من نموذجها المعرفي والتفسيري والأخلاقي. وبدلاً من ذلك، فإنها تتبنى مطلقات علمانية، مثل روح العصر في اليهودية الإصلاحية، أو روح الشعب في اليهودية المحافظة، أو التقدم (في إطار المجتمع الأمريكي) في اليهودية التجديدية.

ثم تزايدت معدلات التحديث والعلمنة على مستوى الشعائر وبشكل جذري، فحدث الاختلاط بين الجنسين، وأُلغي غطاء الرأس، وتم ترسيم النساء كحاخامات، وخُففت شعائر السبت، وتم التخلي عن التلمود كمصدر أساسي للتشريع، وأُقيمت صلوات السبت يوم الأحد. ثم تصاعدت وتيرة الإصلاح إلى أن أصبحت علمانية صريحة، ففي بعض الأبرشيات الإصلاحية أصبحت صلوات السبت تقام في اليوم الذي يتفق عليه المصلون. وقد بدأ مؤخراً قبول الشواذ جنسياً في الأبرشيات اليهودية المختلفة، بل بدأت تظهر أبرشيات مقصورة عليهم، كما قُبل ترسيم الشواذ جنسياً كحاخامات وأنشئت المدارس التلمودية العليا (يشيفا) المقصورة على الشواذ.

ولكن أهم أشكال علمنة اليهود هو ظهور عقائد علمانية قلباً وقالباً، وتُسـمِّي نفسـها مع ذلك «يهودية»، وتسـتخدم ديباجـات يهودية إثنية ودينية. وجوهر هذه العقائد هو أنها تُحل الهوية اليهودية محل العقيدة اليهودية، وتُحل اليهود محل الإله كمركز للقداسة. فظهر ما يُسمَّى «اليهودية العلمانية» و«اليهودية الإثنية» و«اليهودية الإلحادية» و«اليهودية الإنسانية»، وهي عقائد يُقال لها «يهودية» تدور كلها حول مطلق واحد هو الشعب اليهودي وتُسقط الإيمان بالغيب أو الإله، بحيث يصبح الإيمان الديني متمركزاً حول الذات القومية أو مجموعة من المُثُل الدنيوية. وتحوَّلت شعائر اليهودية وعقائدها إلى شكل من أشكال الفلكلور أو التراث القومي، أي أن الدين تحوَّل إلى قومية والقومية تحوَّلت إلى دين، وهذا هو الحل العلماني لمشكلة الهوية: أن تصبح الهوية هي ذاتها مصدر الإطلاق الوحيد وموضع القداسة. بل يمكن القول بأن اليهودية الإصلاحية والمحافظة، والتجديدية على وجه الخصوص، هي في جوهرها في واقع الأمر عقائد علمانية ذات ديباجات دينية.

ومع تزايُد معدلات العلمنة في المجتمعات الغربية، تزايدت معدلات علمنة العقيدة اليهودية، فظهر لاهوت يهودي يستند إلى فكرة موت الإله يجعل من الإبادة النازية ليهود غرب أوربا نقطة ولحظة مرجعية أساسية تحقَّق فيها الشعب اليهودي من موت الإله الذي تخلى عنهم. ودخلت اليهودية كذلك عالم ما بعد الحداثة، فظهرت يهودية لا تدورحول مطلقات وإنما تدور حول لحظات إيمانية تعقبها لحظات شك.

ومن أهم العقائد اليهودية العلمانية ما طرحه دعاة اليديشية الذين يرون أن مضمون الانتماء اليهودي هو تراث ثقافي، وأن ما يجمع يهود اليديشية ليس الإيمان الديني وإنما تراثهم القومي اليديشي الشرق أوربي المشترك. ولذا، طالبوا ببعث قومي يديشي في شرق أوربا. ولكن أهم العقائد العلمانية على الإطلاق هي الصهيونية التي استولت على كل الرموز الدينية اليهودية التقليدية واستخدمت كل الديباجات الدينية بعد أن أفرغتها من مضمونها الديني وأحلت محلها مضموناً قومياً، وجعلت النقطـة المرجعية عناصر دنيوية طبيعية تتسـم بالمطلقية (مطلقات علمانية)، مثل: الدولة الصهيونية واليهود (بدلاً من الإله)، والتاريخ اليهودي الدنيوي (بدلاً من التاريخ المقدَّس)، والهوية اليهودية (بدلاً من الالتزام بالشعائر وتأدية الأوامر والنواهي). كما أكدت الصهيونية (في صيغتها العلمانية وهي أهم الصيغ) أن اليهود مادة بشرية متحركة يمكن تحويلها وتوظيفها إلى مادة نافعة وكذلك حوسلتها. كما أكدت الصهيونية أن اليهود شعب عضوي (وأكدت أوربا العلمانية أنه شعب عضوي منبوذ)، وجماع المفهومين (نفع اليهود وأنهم شعب عضوي منبوذ) هو الصيغة الصهيونية الأساسية.

وقد أكدت الصهيونية، في محاولتها تجاوز اليهودية الحاخامية، على التراث العبراني القديم (فيما قبل ظهور اليهودية)، وعلى البطولات العبرانية غير الدينية وغير الأخلاقية. كما أنها، في كثير من الأحيان، حولت أبطال العهد القديم إلى أبطال قوميين. وكان المؤلفون الصهاينة يمجدون شخصيات شريرة في العهد القديم أو شخصيات معادية لليهودية الحاخامية مثل إسبينوزا وشبتاي تسفي الذي يعده البعض في إسرائيل بطلاً قومياً، وكان هرتزل ينوي تأليف أوبرا عنه. ومن ناحية أخرى، يتم تأكيد المضمون الطبيعي الكوني للأعياد في الدولة الصهيونية على حساب المغزى الديني التاريخي. كما تتبدَّى علمنة اليهودية في الدولة الصهيونية في واقع أن الأعياد تحوَّلت إلى أعياد قومية يحتفل اليهود أثناءها بذاتهم القومية: انتصاراتها وانكساراتها دون الرجوع إلى أية نقطة ميتافيزيقية. وهكذا، بعد أن كانت اليهودية تمنح اليهودي القداسة بمقدار ما يتبع من الشعائر وينفذ من الوصايا والنواهي، صار اليهودي مركزاً للقداسة باعتباره يهودياً وحسب، أي حسب انتمائه الإثني، وأصبحت دولته هي التعبير الأكبر عن القداسة. ومن ثم، أصبح عيد « استقلال إسرائيل » عيداً دينياً. وقد وصلت علمنة يهود العالم، من خلال الصهيونية، إلى درجة أن كثيراً منهم يتصورون الآن أن الدولة الصهيونية هي معبدهم أو هيكلهم، وأن رئيس وزرائها هو حاخامهم الأكبر أو كاهنهم الأعظم. وقد حدا هذا ببعض الحاخامات المتدينين إلى الحديث عن «اليهودية الوثنية» أو عن عبادة الدولة الصهيونية باعتبارها «عودة إلى عبادة العجل الذهبي».

وتجب الإشارة إلى أن النسق الديني اليهودي كان مرشَّحاً لعملية العلمنة من الداخل، أو لعملية الاستيلاء على رموزه من قبل الجماعات العلمانية اليهودية، بسبب حلوليته التي توحِّد بين المطلق والنسبي والمقدَّس والزمني والديني والقومي، إذ يحل الإله في الشعب والأرض حتى يصبحا متعادلين معه في القداسة (الواحدية الكونية) ثم يتفوقان عليه ثم يتلاشى الإله أو يصبح هامشياً ويتم تقديس الأرض والشعب دون الإله، وهذا هو جوهر الأيديولوجيات العلمانية القومية، اليهودية أو غير اليهودية، التي تجعل الأرض والشعب هما مصدر الإطلاق.

اليهودية العلمانية أو الإنسانية

Secular or Humanist Judaism

«اليهودية العلمانية» هي «اليهودية الإنسانية». وهو مصطلح متناقض، فالعلمانية (الشاملة) فلسفة تتعامل مع الدنيا وحسب، وتنكر الآخرة، أو تهمشها ولا تهتم بها، وتنفي أية مطلقية للقيم المعرفية والأخلاقية. والفلسفة الإنسانية (هيومانزم) تنزع النزوع نفسه وإن كانت تجعل الإنسان مركزاً للكون وركيزة نهائية له؛ أحكامه مطلقة،وهو المصدر الوحيد للقيمة وبديل للإله في الأرض. وتنكر كلٌّ من العلمانية والنزعة الإنسانية (الهيومانية) أية مرجعية متجاوزة للطبيعة والتاريخ وتختزلان كل شيء إلى مستوى واحد (مستوى هذه الدنيا)، أي أنهما يدوران في إطار الواحدية الكونية.

ويرى دعاة اليهودية العلمانية أو الإنسانية أن الإيمان بأي غيب أمر مستحيل وأن العهد القديم وكتابات الفقهاء اليهود إن هي إلا نتيجة مرحلة تاريخية سابقة حاول فيها شعب أن يتكيف مع الأحوال المتغيرة (وهذا ما يُسمَّى «زمنية» أو «تاريخانية» النص المقدَّس). وغني عن القول أن هذه الأفكار فيها ما يتناقض تماماً مع تعاليم اليهودية ذاتها (في صياغتها التوحيدية) بل وتعاليم سائر الأديان التوحيدية السماوية. وعادةً ما تتمثل هذه اليهودية العلمانية أو الإنسانية اليهودية في الإيمان بالإثنية اليهودية، وفي الابتعاد عن القيم الأخلاقية النابعة من الإيمان بالاله الواحد القادر العادل.

ويعود تاريخ ظهور اليهودية العلمانية إلى منتصف القرن الثامن عشر، فمع تفاقم أزمة اليهودية الحاخامية. ومع مرحلة الانعتاق، أخذ أعضاء الجماعات اليهودية بأعداد متزايدة يبتعدون عن معتقداتهم الدينية ويصبحون لا أدريين أو ملحدين أو غير مكترثين بالدين. وقد ساهمت الصهيونية في تزايد الانصراف عن اليهودية إذ إنها رفضت الإله المتجاوز أو همَّشته وأنكرت أية قيم متجاوزة للواقع المادي وجعلت الشعب والأرض هما الركيزة النهائية وموضوع الايمان.

ولكن طبيعة التركيب الجيولوجي التراكمي لليهودية، واحتواء هذا التركيب على عناصر وثنية (الترافيم، أي الأصنام) وعلى عناصر عدمية (سفر أيوب، سفر الجامعة) وعدم تحدُّد فكرة البعث (سفر أيوب)، جعلت إفراز مثل هذه الرؤية الدنيوية ممكناً، كما جعلت بوسع أصحابها أن يجدوا سوابق تاريخية ونصوصاً دينية تؤيد رؤيتهم.

اليهودية الإنسـانية

Humanist Judaism

انظر: «اليهودية العلمانية أو الإنسانية».

أثــــر العلمانيـــــة فـــي الجماعــــات اليهوديـــــة

The Impact of Secularism on the Jewish Communities

تركت عمليات العلمنة أثراً عميقاً في أعضاء الجماعات اليهودية في العالم، فيمكن القول بأنه بعد مرحلة المقاومة الأولى لعمليات العلمنة، والتي استمرت حتى منتصف القرن التاسع عشر تقريباً، استسلم معظم أعضاء الجماعات اليهودية لهذه المحاولات فزادت معـدلات العلمـنة بينهم بشكل فاق معدلاته بين أعضاء الأغلبية، وذلك للأسباب التي أسلفنا ذكرها في المدخل السابق.

وقد تخلى أعضاء الجماعات اليهودية، بأعداد متزايدة، عن اليهودية الحاخامية، ودخلت أعداد كبيرة منهم في إطار اليهودية الإصلاحية أو المحافظة أو التجديدية. كما أن أعداداً متزايدة منهم تخلت عن أي شكل من أشكال الإيمان الديني وتبنت الأيديولوجيات العلمانية المختلفة، مثل الاشتراكية والماركسية، أو أيديولوجيات علمانية ذات ديباجات يهودية، مثل: اليهودية العلمانية، واليهودية الإثنية، واليهودية الإلحادية، والقومية اليديشية، والصهيونية.

ويُلاحَظ أنه، ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر، ومع تزايد معدلات العلمنة في المجتمع وفي داخل أعضاء الجماعات اليهودية، تزايدت معدلات اندماجهم وأقبلوا على الزواج المختلط. وقد بلغت معدلات العلمنة بين يهود الغرب مقداراً مرتفعاً جداً. ومما ساعد على ذلك أن اليهود الذين تخلوا عن عقيدتهم لم يكونوا مضطرين إلى اعتناق المسيحية كما كان الأمر في الماضي وإنما كان يمكنهم أن يعيشوا علمـانيين دون أي انتمـاء ديني. ومع تزايد الحريات في المجتمعات الغربية، والحرية الجنسية على وجه الخصوص، زاد عدد الأطفال غير الشرعيين بين اليهود، وهي ظاهرة لم تكن معروفة بينهم من قبل، كما زاد تفسُّخ الأسرة وارتفعت معدلات الطلاق. ويُلاحَظ أيضاً تزايد انخراط أعداد اليهود العلمانيين والإثنيين في الحركات السرية والعدمية والماسونية والثورية. وقد لُوحظ مؤخراً تزايد إقبال الشباب اليهودي على الحركات الدينية المستحدثة، أو ما يُسمَّى بالعبادات الجديدة، مثل هاري كريشنا والبهائية. وهذا تعبير عن تزايد معدلات العلمنة وعن أزمتها في آن واحد، وهو الموضوع الأساسي الكامن وراء أفلام الكوميدي الأمريكي اليهودي وودي ألن.

وقد بدأ أعضاء الجماعات اليهودية في البروز والتميز داخل إطار الحضارة الغربية. وقد وصلوا إلى أعلى درجات البروز في الولايات المتحدة (المجتمع العلماني شبه النموذجي) حيث يوجد الآن عشرات اليهود من الأدباء والمفكرين والفنانين والعلماء الذين يدافعون في أغلبيتهم عن الرؤية السائدة في المجتمع. كما يوجد كثير من أعضاء الجماعة اليهودية بين صناع القرار. وظهر من بين صفوف أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب كثير من المفكرين الإنسانيين الذين يدافعون عن الإنسان منفصلاً عن الإله، مثل ماركس وتشومسكي. كما ظهر من بينهم مفكرون مثل فرويد جعلوا همهم نزع القداسة عن الإنسان والواقع والنظر إليهما بمنظار علمي مجرد وكأن الإنسان مجرد ظاهرة طبيعية، يرقةٌ أو قردٌ أو حجر، لا سر فيه ولا غاية خاصة لوجوده، وهذه هي إحدى الإسهامات المهمة للعلمانية. ومن المهم أن نبين أن الحضارة العلمانية سمحت لليهودي بتحقيق البروز والتميز بمقدار ما يحقق من علمنة لهويته، أي أن يتعامل مع الواقع من منظور النموذج العقلاني الواحدي المادي ويجعل انتماءه اليهودي مسألة مقصورة على حياته الخاصة وخاصة بالضمير. فبروز اليهودي يتحقق بمقدار تخليه عن يهوديته أو بمقدار نجاحه في تحديثها أو أمركتها، أي علمنتها وصبغها بالصبغة الحديثة أو الأمريكية.

ويُلاحَظ أن نسبة اليهود تتزايد في قطاعات المجتمع التي تتصف بقدر عال من العلمنة والتحرر من القيم المطلقة. ولذا، نجدهم يتركزون في القطاعات التي يتحول الإنسان فيها إلى مادة عامة استهلاكية، وفي تلك القطاعات التي تتسم بالعلاقات التعاقدية وعدم الإيمان بالحرمات، مثل: صناعة السينما، والصحافة الرخيصة، وتجارة الرقيق الأبيض، وتجارة العقارات. ولعل هذا البروز في الحضارة العلمانية، وكذلك التركز في قطاعات اقتصادية بعينها (بعضها مشين)، هو ما جعل البعض يتصور أن ثمةمؤامرة يهودية لعلمنة العالم، أو أن العلمنة ما هي إلا عملية يقوم اليهود بنشرها وإذاعتها. وهذا التصوُّر يفترض أنه لو اختفى اليهود لاختفت العلمانية، وهو تصوُّر يخلط بين الجزء الفعال (اليهود) والكل المركب (العلمانية)، وهو افتراض يفشل بطبيعة الحال في تفسير انتشار العلمانية في ربوع العالم في الصين والهند واليابان ونيجيريا حيث لا يوجد يهود على الإطلاق.

وتختلف معدلات العلمنة بين أعضاء الجماعات اليهودية من بلد إلى آخر، كما تختلف أشكال العلمنة حسب المحيط الحضاري. ففي أمريكا اللاتينية حيث كانت معدلات العلمنة منخفضة في المجتمع، كان معدلها منخفضاً بين الجماعات اليهودية. وقد احتفظت كل جماعة منها بهويتها الدينية والإثنية، ومن هنا كان انقسام يهود أمريكا اللاتينية إلى جماعات متنافرة. ولكن، مع تزايُد العلمنة في المجتمع ككل، يُلاحَظ أيضاً تزايُد معدلات العلمنة بين أعضاء الجماعات اليهودية وانصهارهم في المجتمع اللاتيني أو انصرافهم عن الدين وانخراطهم في المحافل الماسونية والنوادي الاجتماعية أو اندماجهم في جماعة واحدة. أما في فرنسا وإنجلترا، فقد زادت معدلات العلمنة وأخذت شكل الابتعاد عن الكنيسة. وقد انعكس هذا الوضع على يهود البلدين، فانصرفوا هم أيضاً عن الذهاب إلى المعبد اليهودي.

وتأخذ العلمنة في الولايات المتحدة شكلاً خاصاً، وهو استيعاب الكنيسة في المؤسسات الإثنية العلمانية بحيث تحوَّلت إلى مؤسسة تُعبِّر عن إحساس الجماعة بذاتها وبهويتها، وهذا أمر مهم في مجتمع مهاجرين يتسم بعدم الثبات وعدم وجود مؤسسات دينية تقليدية فيه. وينطبق الشيء نفسه على يهود الولايات المتحدة إذ فقد أغلبيتهم هويتهم الدينية وظهرت هوية واحدة يهودية - أمريكية وتحول المعبد اليهودي إلى المؤسسة التي يُعبِّر يهود أمريكا من خلالها عن هويتهم. ويجب ملاحظة أن التمسك بالهوية الإثنية هو تعبير، في واقع الأمر، عن تزايد معدلات العلمنة، ولا يشكل عودةً إلى اليهودية.

وينقسم يهود الاتحاد السوفيتي (سابقاً)، من منظور العلمنة، إلى ثلاثة أقسام. فهناك أولاً يهود الوسط الذين يعيشون في مناطق مثل روسيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء، وهؤلاء يعيشون تحت الحكم الشيوعي منذ عام 1917، ولذا فقد فقدوا انتماءهم الديني تماماً. أما القسم الثاني، فهو يهود الغرب (زبادنكي) الذين يعيشون في جمهوريات البلطيق التي ضُمَت إلى الاتحاد السوفيتي عام 1940. لكن هؤلاء كانوا يحتفظون بهوية دينية وإثنية أكثر وضوحاً، وقد هاجر غالبيتهم في الفترة 1970 ـ 1990. والقسم الثالث هو يهود جورجيا والجمهوريات الإسلامية، ومعدلات العلمنة بين هؤلاء منخفضة مثل معدلات العلمنة في المجتمعات التي يعيشون فيها.

أما أهم أشكال العلمنة في الغرب فهو ظهور ما نسميه «الهوية اليهودية الجديدة» وظهور «اليهود الجدد»، وهم يهود (سواء من الناحية الدينية أو الإثنية) اسماً وقالباً وحسب، وعلمانيون جوهراً وقلباً.

أما بقية الجماعات اليهودية في العالم، الفلاشاه ويهود الهند ويهود العالم العربي... إلخ، فيختلف معدل العلمنة بينهم حسب المعدلات السائدة في مجتمعاتهم. وعلى كل حال، فقد لعبت المنظمات الصهيونية واليهودية الغربية، مثل الأليانس، دوراً أساسياً في تغريب أعضاء الجماعات اليهودية وتحديثهم وعلمنتهم، مع ملاحظة أن مستوى العلمنة بين الأقليات يزيد عادةً عن معدلها بين الأغلبية. كما أن أعضاء الجماعات اليهودية حينما ينتقلون إلى إسرائيل تتم علمنتهم بسرعة مذهلة.

وقد لُوحظ أن عدد الراغبين في الهجرة إلى فلسطين المحتلة يتناقص مع تزايد علمنة أعضاء الجماعات اليهودية في العالم. وعلى سبيل المثال، فإن ما يزيد على 90 % من السوفييت، وهم من أكثر الجماعات اليهودية علمنةً، يتجه إلى الولايات المتحدة التي يُطلَق عليها باليديشية «جولدن مدينا» أي المدينة الذهبية، أي صهيون العلمانية، ويؤثرونها على إسرائيل.

وعلى كلٍّ، يمكن القول بأن الدوافع وراء الهجرة اليهودية، سواء إلى الولايات المتحدة أو إلى فلسطين، كانت دائماً دوافع علمانية، فهي هجرة تهدف إلى تحقيق الحراك الاجتماعي لصاحبها. وما كان يحدث أحياناً أن تصاحبها ديباجات يهودية بالنسبة لبعض اليهود المتدينين، أما الغالبية الساحقة فكانت دوافعها وديباجاتها مادية علمانية صريحة.

يهودي ملحد

Atheist Jew

مصطلح «يهودي ملحد» يبدو وكأنه تركيب واضح التناقض، إذ أننا نتصور أن اليهودي هو من يؤمن باليهودية قياساً على أن المسلم هو من يؤمن بالإسلام، والمسيحي هو من يؤمن بالمسيحية، بكل ما يتبع ذلك من إيمان بالإله. ولكن المعيار في تعريف اليهودي ليس كونه مؤمناً بالعقيدة وإنما كونه مولوداً لأم يهودية. وبحسب الشريعة اليهودية، يمكن أن يكون اليهودي من الناحية النظرية يهودياً وملحداً في الوقت نفسه. وانطلاقاً من ذلك الإبهام والتناقض في الشريعة اليهودية، ذهب الأخ دانيال (وهو راهب كاثوليكي وُلد لأبوين يهوديين ثم تنصَّر) إلى إسرائيل وطالب بأن يحصل على الجنسية الإسرائيلية حسب قانون العودة، فإذا كانت الشريعة اليهودية تعترف بالملحد يهودياً فيمكنها (من باب أولى) أن تعترف بالمسيحي يهودياً! لكن طلبه رُفض. وقد استندت حيثيات الحكم إلى مقولة علمانية وهي أن الأخ دانيال، باعتناقه المسيحية، فصل نفسه عن «المصير اليهودي»، أي أن المعيار هنا هو مدى الارتباط بالشعب اليهودي لا بالعقيدة أو العقائد اليهودية. ولكن يبدو أن الرأي العام الإسرائيلي بدأ يتجه اتجاهاً مغايراً في الآونة الأخيرة، بحيث أصبح لا يمانع من إطلاق مصطلح «يهودي» على مسيحي هاجر إلى إسرائيل مدفوعاً بدوافع صهيونية. وترتبط بهذا المصطلح مصطلحات أخرى مثل «اليهودية العلمانية» و«يهودي إثني».

يهودي إثني

Ethnic Jew

«اليهودي الإثني» هو اليهودي الذي يرى أن يهوديته لا تنبع من إيمانه بالقيم الدينية والأخلاقية اليهودية وإنما من الإثنية اليهودية، أي من موروثه الثقافي. وربما كان هذا ما يعنيه إسحق دويتشر بمصطلح «اليهودي غير اليهودي».

انظر: » اليهودية الإثنية. «

اليهودية الإثنيـة

Ethnic Judaism

«اليهودية الإثنية» تعبير عن الانتماء اليهودي الذي يستند إلى الإثنية اليهودية. وكلمة «الإثنية» مأخوذة من الكلمة اليونانية «إثنوس» بمعنى «قوم» أو «جماعة لها صفات مشتركة». وتُستخدَم كلمة «إثنية» للإشارة إلى الجماعة الإنسانية التي قد لا يربطها بالضرورة رباط عرْقي ولكنها جماعة تشعر بأن لها هوية مشتركة تستند إلى تراث تاريخي مشترك ومعجم حضاري واحد. وكلمة «حضارة» هنا تستخدم في أوسع دلالاتها، فهي تشـير إلى كل فعل إنسـاني وكل ما هو ليـس بطبيعة، مثل: الأزياء وطرق حلاقة الشعر، وطريقة تنظيم المجتمع، والرقص. ومن أهم العناصر الإثنية، اللغة والأدب. ويمكن أن يكون الدين عنصراً من بين هذه العناصر الإثنية فينظر المرء، دون أن يؤمن بالإله ، إلى الشـعائر الدينية بوصـفها تعبيراً عن الهوية ، تمامـاً مثل الرقص والطعام. ويستطيع المرء أن يشير إلى طعام إثني (بمعنى أنه يُعبِّر عن هويته) له مضمون رمزي يتجاوز وظيفته المادية، فهو ليس مجرد طعام لسد حاجته الجسدية. وبالتالي، فإن الملوخية أو الكبسة طعام إثني، أما الهامبورجر فهو طعام ليس لهمدلولات إثنية. وعلى أية حال، فإن الإثنية اليهودية هي مجموعة الصفات المحددة التي يُفترَض أنها تشكل ما يُسمَّى «الهوية اليهودية» من منظور إثني.

والإيمان بالذات القومية (الإثنية) هو إحدى السمات الأساسية للتشكيل الحضاري الغربي في القرن التاسع عشر. فبعد ضعف المسيحية وانتشار العلمانية، ظهر الفكر القومي الذي أسقط أي مطلق ديني أو أخلاقي وحلَّت محله الذات القومية كمطلق وموضع للقداسة ومصدر وحيد للقيمة ونقطة مرجعية وركيزة نهائية.

وتجب التفرقة بين الإثني والعرْقي، فالوحدة على أساس عرْقي تعني وحدة الدم والجنس (العرْق).أما الوحدة على أساس إثني فتعني وحدة التاريخ والثقافية. ومعظم الحركات القومية (مثل القومية الإنجليزية أو الفرنسية أو الجامعة السلافية والألمانية والقومية الطورانية، وكذلك النازية والصهيونية)، تـستند إلى تعريف عرْقي إثني للذات القومية. ولكن، بعد تجربة الإبادة النازية، أصبح من الصعب قبول التعاريف العرْقية، وبخاصة من جانب أعضاء الجماعات اليهودية، فبدأ القبول بفكرة الوحدة الإثنية وأُسقطت الديباجات العرْقية وحلت محلها ديباجات إثنـية دون أي تعـديل للقداسة أو المطلقية اللتين تُنسـبان إلى الذات القومية. فالوحدة على أساس عرْقي تشبه الوحدة على أساس إثني، إذ تدَّعي كلتاهما نقاءً ما يتمتع به أصحاب الهوية. كما أن العرْقية، مثلها مثل الإثنية تماماً، تعطي صاحبها حقوقاً مطلقة .

وتتَّسم الدعوة القومية في الولايات المتحدة بأنها كانت دعوة إثنية، لأن المجتمع الأمريكي مجتمع مهاجرين، فيه أعراق كثيرة، ولذا أصبح التضامن الإثني هو الإمكانية الوحيدة المتاحة أمام الأمريكيين، وكانت بوتقة الصهر هي الآلية التي يمكن من خلالها إذابة الإثنيات الخاصة السابقة للمهاجرين لتحل محلها الإثنية الأمريكية العامة الجديدة. كان العنصر العرْقي موجوداً منذ البداية (ويظهر في التمييز العنصري، أي العرْقي، ضد السود والآسيويين والعرب) ولكنه كان هامشياً، ومع تزايُد معدلات العلمنة في الولايات المتحدة، وظهور حركات الأقليات مثل حركة تحرُّر السود، ظهرت حاجة لدى المواطن الأمريكي أن يشعر بانتماء ما يضرب بجذوره في شكل من أشكال الخصوصية، وهو ما أدَّى إلى بعث الإثنيات المختلفة. وقد شجع المجتمع هذا البعث الإثني شريطة ألا يتعارض مع الولاء القومي أو مع العقد الاجتماعي الأمريكي، فبإمكان المواطن الأمريكي أن يأكل من طعامه الإثني ويرقص من رقصاته الإثنية في حياته الخاصة وربما العامة، ما حلا له من مأكل ومرقص، على أن يظل سلوكه في رقعة الحياة العامة غير متناقض في أساسياته مع رؤية المجتمع وإيقاعه الأساسي وحياته، أي أن الانتماءات الإثنية الخاصة تُعامَل تماماً معاملة الانتماءات الدينية المختلفة، التي أظهر المجتمع إزاءها التسامح طالما لا تتجاوز رقعة الحياة الخاصة.

ومعظم يهود العالم في الوقت الحالي يهود إثنيون، أي أن يهوديتهم لا تنبع من الإيمان بالعقيدة الدينية وإنما من إثنيتهم اليهودية، وهي تنبع من اليهودية لا باعتبارها نسقاً دينياً وإنما باعتبارها فلكلوراً. وبالتالي، فالشعب اليهودي يصبح ما يُسمَّى «الفولك اليهودي»، أو «الشعب العضوي»، (تماماً مثل «الفولك الألماني»). وربما كان التركيب الجيولوجي لليهودية هو الذي جعل ظهور مثل هذا التعريف ممكناً، وبخاصة وأن الشريعة اليهودية عرَّفت اليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية! ويمكن القول بأن الإثنية اليهودية في الواقع هي صهيونية أعضاء الجماعات اليهودية التوطينية. فهم لا يرغبون في الهجرة إلى فلسطين، كما أنهم لا يؤمنون بالإله أو باليهودية كنسق ديني. ولكنهم، مع هذا، يؤمنون بقداسة صفاتهم الإثنية القومية، أو على الأقل يؤمنون بأن إثنيتهم تشكل النقطة المرجعية الأساسية لوجودهم كيهود وبأن إسرائيل تُعبِّر عن هذه الإثنية. ومن ثم، فهم يستمرون في تعظيم ذاتهم القومية أو الإثنية وتمجيدها، وفي تعظيم الدولة الصهيونية وتمجيدها، ولكنهم لا يهاجرون إليها قط. ولحل هذه المشكلة وضمان الاستمرار في التمتع بالهوية الإثنية، قام يهود الولايات المتحدة بإعادة تعريف إسرائيل باعتبارها بلدهم الأصلي أو وطنهم القومي، كمثل إيطاليا بالنسبة للأمريكيين من أصل إيطالي، وكذلك بولندا بالنسبة للأمريكيين من أصل بولندي. أما الولايات المتحدة، فهي وطنهم القومي الحالي. ولأن إسرائيل هي بلدهم الأصلي، فهي تمنحهم هوية إثنية خاصة ولا تلقي عليهم أية أعباء أخلاقية. والأهم من ذلك أن التعريف الإثني للهوية اليهودية على الطريقة الأمريكية لا يتطلب منهم الهجرة، فالإنسان لا يهاجر إلى بلده الأصلي وإنما يهاجر منه! (أي أن الإثنية اليهودية تجمع كل اليهود تحت لواء الصهيونية في الظاهر، وتيسر عليهم الهرب منها في الباطن. وهذا ما نسميه «التملص اليهودي من الصهيونية» بدلاً من قبولها أو رفضها). هذا ويُلاحَظ أن هذه الإثنية اليهودية ذاتها (شأنها شأن الإثنية الإيطالية أو الآسيوية) أصبحت مجرد قشرة زخرفية فارغة.

الإثنية اليهـوديـة

Jewish Ethnicity

انظر: «اليهودية الإثنية».

الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية والجماعات اليهوديـة

The Secular Imperialist Epistemological Outlook and the Jewish Communities

كان للرؤية المعرفية الإمبريالية والتشكيل الاستعماري الغربي أثر واضح في أعضاء الجماعات اليهودية. ويتضح هذا في فكر نيتشه الذي اكتسح كثيراً من المفكرين اليهود في القرن التاسع عشر (انظر: «النيتشوية والمفكرون من أعضاء الجماعات اليهودية»)، وفي تمثُّل كثير من المفكرين اليهود لأفكار داروين (على سبيل المثال، انظر: «جومبلوفيتش، لودفيج») والفكر الصهيوني بأسره هو أساساً إفراز من إفرازات الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية والأفكار البرجماتية (انظر: «كالن، هوارس»).

هذا على مستوى الفكر. أما على المستوى السياسي والاجتماعي والتاريخي، فقد قامت الدولة القومية المطلقة في الغرب بترشيد أعضاء الجماعات اليهودية وبتحويلهم إلى مادة بشرية وبطرح الحل العلماني الإمبريالي للمسألة اليهودية، أي تصدير المادة البشرية اليهودية إلى الخارج وبطرح الفكرة الصهيونية وفرضها على أعضاء الجماعات اليهودية.

ولا يمكن فهم حركة انتقال الجماعات اليهودية إلى الأمريكتين وأستراليا ونيوزيلندا وكندا وجنوب أفريقيا وفلسطين إلا في إطار حركة الاستعمار الاستيطاني الغربي،وبخاصة الأنجلو ساكسوني. كما لا يمكن فهم تركُّزهم في الولايات المتحدة إلا باعتبارها التجـربة الاستيطانية الكبرى التي استوعبت حوالي80% من الفائض البشري في أوربا.

ويمكن القول بأن مصير يهود العالم أصبح مرتبطاً تماماً بالإمبريالية بعد أن تركَّز يهود العالم في العالم الغربي، وبخاصة في الولايات المتحدة وإسرائيل. فالمصير اليهودي أصبح هو نفسه مصير الإمبريالية. ولعل هذا يُفسِّر تصهيُن الجماعات اليهودية في العالم وتراجُع الجماعات المعادية للصهيوينة.

الاســـتعمار الاســـتيطاني الغـــربي والجماعــات اليهوديـة

Western Settler Colonialism and the Jewish Communities

يمكن القول بأن نمط هجرة أعضاء الجماعات اليهودية هو حركة تنقُّل تتم دائماً داخل إطار حركة الإمبراطوريات الكبرى التي تيسر لهم هذه الحركة وتتيح لهم فرصالحراك وتوظفهم كجماعة وظيفية استيطانية أو مالية. وإذا كان التهجير البابلي قد تم قسراً، فإن حركة الهجرة العبرانية (اليهودية) التي تعاظمت بالتدريج حتى وصلت ذروتها مع نهاية الألف الأولى قبل الميلاد (حين أصبح عدد اليهود خارج فلسطين أكثر من ضعف عددهم داخلها)، هذه الحركة كانت هجرة تلقائية بحثاً عن الفرص الاقتصادية وتتم في إطار الإمبراطوريات الهيلينية والرومانية. ويمكن القول بأن هجرة يهود شرق أوربا إلى الولايات المتحدة وكندا وفلسطين وغيرها من الدول الاستيطانية بأعداد هائلة حتى انتقلت الكتلة البشرية اليهودية من أوربا (روسيا ـ بولندا) إلى الولايات المتحدة وإسرائيل (فلسطين)، وهي الأخرى هجرة تلقائية تمت داخل إطار إمبراطوري، فهي تتم داخل التشكيل الاستعماري الغربي وتجربته الاستيطانية في أنحاء العالم.

وقد اشترك أعضاء الجماعات اليهودية كمموِّلين ومستثمرين في كثير من النشاطات المرتبطة بالاستيطان الغربي (شركتا الهند الشرقية والغربية الهولنديتان وغيرهما من الشركات، وتجارة العبيد...إلخ). كما اشتركوا في التجارة المثلثة (العبيد من أفريقيا - المشروبات الكحولية والسلع من أوربا - المولاس من جزر الهند الغربية). واشترك كثير من المموِّلين من أعضاء الجماعات اليهودية في الاستثمار في جنوب أفريقيا والولايات المتحدة الأمريكية. كما اشتركت أعداد من أعضاء الجماعات اليهودية في عملية الاستيطان نفسها. وفي بداية الأمر، كان أعضاء الجماعة جزءاً من النشاط الاستيطاني الهولندي فاستوطنوا ابتداءً من منتصف القرن السابع عشر جزر الهند الغربية (مثل: ترينداد، وسورينام، والمارتينيك، وجاميكا، وجزر الباهاما). ولكن سورينام كانت أهم التجارب الاستيطانية الأولى. وقد استوطن اليهود كذلك معظم بلاد أمريكا اللاتينية، وبخاصة في الأرجنتين التي وطَّن فيها المليونير هيرش آلاف اليهود، والتي كانت تُعَدُّ أهم تجربة استيطانية زراعية في العصر الحديث باستثناء تجربة إسرائيل.

ويُلاحَظ أن هذه النشاطات الاستيطانية كانت تدور إما في إطار الاستعمار الهولندي أو في إطار الاستعمار الإسباني البرتغالي، والمادة البشرية الأساسية هنا هي يهود السفارد (المارانو). ولكن المادة الاستيطانية الحقيقية كان مصدرها يهود اليديشية (الإشكناز) من شرق أوربا الذين كانوا يشكلون أغلبية يهود العالم الساحقة مع نهاية القرن التاسع عشر. وكان النشاط الاستيطاني الأكبر ليهود اليديشية داخل التشكيل الاستيطاني الأنجلو ساكسوني، فاتجهت ملايين اليهود إلى جنوب أفريقيا وكندا ونيوزيلندا وأستراليا وهونج كونج، لكن غالبيتهم (85% اتجهت إلى الولايات المتحدة، أهم التجارب الاستيطانية، ثم إلى إسرائيل التي تلي الولايات المتحدة في الأهمية، وهي تجربة استيطانية تمت برعاية إنجلترا ثم الولايات المتحدة، أي التشكيل الأنجلو ساكسوني في جانبه الاستيطاني.

والإطار التفسيري السابق يجعلنا نرى مدى ارتباط الجماعات اليهودية في العالم (الغربي بالذات) بالتشكيل الاستعماري الاستيطاني الغربي، ويضع يدنا على الحقائق الأساسية التالية في واقع أعضاء الجماعات اليهودية في العالم:

1 ـ الدياسبورا اليهودية (أي انتشار أعضاء الجماعات اليهودية في أرجاء العالم) ليست انتشاراً عشوائياً وإنما انتشار يصاحب انتشار التشكيل الاستعماري الغربي، وبخاصة في جانبه الاستيطاني، فهجرة أعضاء الجماعات اليهودية لا تحددها حركيات التاريخ اليهودي أو الطبيعة اليهودية وإنما حركيات الاستعمار الغربي، وبخاصة الاستعمار الأنجلو ساكسوني في جانبه الاستيطاني. ولا يمكن فهم تركُّز أعضاء الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة إلا باعتبارها التجربة الاستيطانية الكبرى.

2 ـ لا تشكل إسرائيل استثناء من هذه القاعدة، فهي جزء من نمط وحركية غربية هي الإمبريالية الغربية التي جعلت العالم مسرحاً لنشاطها سواء في أستراليا أو أمريكا اللاتينية أو جنوب أفريقيا أو فلسطين. فالمشروع الصـهيوني جزء لا يتجزأ من التشـكيل الاستعماري الاستيطاني في الغرب، وما كان بمقدوره أن يتحقق دون إمكانيات الإمبريالية الغربية ودون طموحاتها أو آلياتها. واستيطان اليهود في فلسطين هو نقل لفائض بشري غربي إلى بقعة في آسيا أو أفريقيا حيث يتم تحويله إلى دولة وظيفية استيطانية تقوم على خدمة مصالح الغرب نظير أن يقوم هو على حمايتها. فإسرائيل من هـذا المنظـور هي إعـادة إنتـاج لنمط قديم، على حين أن وعد بلفور، ثم دعم حكومة الانتداب للمستوطن الصهيوني، ثم دعم الولايات المتحدة لإسرائيل، وتوقيع الاتفاق الإستراتيجي معها، يبين أن الدولة الصهيونية هي امتداد لارتباط أعضاء الجماعات اليهودية بالاستعمار الاستيطاني الأنجلو ساكسوني.

3 ـ بل يمكن القول بأن يهود الشرق والعالم الإسلامي تم تحويلهم إلى مادة استيطانية تابعة للتشكيل الاستيطاني الغربي من خلال مدارس الأليانس والدعاية الصهيونية وهجرة أعداد ضخمة من اليهود الإشكناز إلى العالم العربي. وهذه العمليات كلها أفقدتهم هوياتهم المحلية المختلفة وأحلَّت محلها هوية يهودية عالمية اسماً ولكنها استيطانية فعلاً جوهرها فك الصلة بين اليهودي ووطنه، ومن ثم يتم استيعابه في المنظومة الاستيطانية. وبالفعل، حينما أُعلن إنشاء إسرائيل، هاجرت الأغلبية الساحقة من يهود البلادالعربية إليها وظل الباقون يجلسون على حقائبهم في انتظار السفر إما إلى الولايات المتحدة أو إلى إسرائيل.

موسى ليـفي (1782 – 1854(

Moses Levy

أمريكي يهودي سفاردي من أوائل من استوطنوا ولاية فلوريدا الأمريكية. وُلد في المغرب لعائلة يهودية تجارية من أصل برتغالي، وكان والده وزيراً للسلطان. وفي عام 1800، استقر في جزيرة سانت توماس في بحر الكاريبي ونجح في تجارة الأخشاب ثم نقل نشاطه إلى كوبا حيث أصبح متعهد تموين للحكومة عام 1816.

وفي عام 1819، بدأ ليفي في شراء مساحات كبيرة من الأراضي في فلوريدا التي كانت خاضعة آنذاك لإسبانيا. ثم استقر بها بشكل دائم بعد أن أصبحت جزءاً من الولايات المتحدة عام 1821 . وقد قام ليفي باستثمار أمواله في المشاريع الزراعية والتجارية، كما سعى إلى جذب المستوطنين البيض من اليهود والمسيحيين للعمل في المزارع الكبيرة التي أقامها، وسافر إلى إنجلترا لهذا الغرض. كما نشط ليفي بين المهاجرين اليهود الجدد في فيلادلفيا ونيويورك لتشجيعهم على الاستيطان في فلوريدا، وأقام في نيويورك مدرسة زراعية عام 1821. ولكن مساعي ليفي لم تنجح في جذب القدر الكافي من المستوطنين.

كان ليفي من ملاك العبيد وقد استخدمهم في زراعة أراضيه وتطوير مشاريعه الاستيطانية. وبحلول عام 1840، أصبح يمتلك مساحات كبيرة من الأراضي والضياع ولكنه صار يواجه أيضاً عدداً كبيراً من المشاكل المالية والدعاوى القضائية المرفوعة ضده، كما تعرضت كثير من أراضيه للتدمير أثناء حروب السيمينول، وهي الحروب التي شنها الجيش الأمريكي ضد الهنود الحمر لطردهم من أراضيهم وتوسيع مناطق استيطان الرجل الأبيض.

وقد نجح ليفي في التخلص من مشاكله القانونية، وانخرط في النشاط السياسي في فلوريدا وكتب عدداً من المقالات في الصحف تحت اسم «يولي». وبرغم اهتمامه ببعض القضايا اليهودية وبالكتابة حول بعض المسائل الدينية اليهودية إلا أن ولديه الاثنين ابتعدا تماماً عن اليهودية، وأحدهما ديفيد يولي أصبح أول عضو يهودي في مجلس الشيوخ الأمريكي.

ولا يمكن فهم سيرة حياة ليفي في إطار يهوديته أو هويته السفاردية، فهو يستولي على الأرض ويطرد أهلها منها ويحارب ضدهم ويبيدهم ويوظف الأفريقيــين السـود فيها، ليس لأنه يهودي شرير وإنما لأنه ينتمي إلى التشكـيل الاستعماري الاستيطاني الإحـلالي الأمريكـي، وسلوكه يتحدَّد داخل هـذا الإطـار. ويُقـال إنه شخصياً كان ضداستخدام العبيد السود، ولكنه تنازل عن آرائه حتى يمكنه الاستمرار داخل إطار نمط الإنتاج السائد في مجتمعه.

ناثانيل أيزاكـس (1808 -1860 (

Nathaniel Isaacs

تاجر ومستكشف جنوب أفريقي يهودي من أوائل من فتحوا إقليم ناتال في جنوب أفريقيا للاستيطان الأوربي، وُلد في إنجلترا وأرسلته أسرته عام 1822 إلى جزيرة سانت هيلينا القريبة من أفريقيا ليكتسب خبرة تجارية في تجارة عمه. وفي عام 1825، أبحر أيزاكس إلى بورت ناتال على الساحل الجنوبي الشرقي من أفريقيا وقام على رأس مجموعة من الأوربيين باستكشاف المناطق الداخلية من البلاد، حيث التقى بقبائل الزولو الأفريقية ونجح في إقامة علاقة طيبة مع ملكهم الذي منحه مساحات واسعة من الأراضي وامتيازات كثيرة للاتجار مع قبائل الزولو، وذلك مكافأة له على تعاونه معهم في حروبهم ضد القبائل الأخرى التي انتصروا فيها بفضل الأسلحة الأوربية. وقدأمضى أيزاكس حوالي سبعة أعوام في ناتال عمل فيها بالتجارة (وبخاصة تجارة العاج) وسـاهم في تعليـم الزولو الزراعة وتربية الماشـية، كما أسس مدينة دوربان. ومن جهة أخرى، شجع أيزاكس السلطات البريطانية في مدينة الكاب على توسيع تجارتهم مع إقليم ناتال، وحث الحكومة البريطانية على ضم الإقليم واستيطانه. وهو ما أقدمت عليه الحكومة البريطانية بالفعل عام 1843. وقد رحل أيزاكس عن ناتال بشكل نهائي عام 1821 واشتغل بالتجارة في سيراليون. وفي عام 1836، أصدر أيزاكس كتابه سفريات ومغامرات في شرق أفريقيا الذي يُعَدُّ مرجعاً عن حياة وتقاليد قبائل الزولو الأفريقية.

ويبيِّن تاريخ حياة أيزاكس مدى تفاعُل أعضاء الجماعات اليهودية مع التشكيل الاستعماري الغربي وكيف أن حركتهم وهجراتهم منذ القرن السابع عشر تتم في إطار هذاالتشكيل خارج حركيات ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي».

أمـرام دارمــون (1815-1878 )

Amram Darmon

جندي فرنسي وُلد في الجزائر لعائلة دارمون اليهودية المرموقة، وقد رحب دارمون بحماس شديد بالاحتلال الفرنسي للجزائر عام 1830 وانضم إلى الجيش الفرنسي حيث اشترك في جميع حملاته اللاحقة ضد السكان المسلمين. ونظراً لمعرفته باللغتين العربية والفرنسية وبطبيعة البلاد، عُيِّن مترجماً حيث اشترك بهذه الصفة في عدة حملات عسكرية. وفي عام 1852، عُيِّن بشكل رسمي مترجماً من الطبقة الأولى. ومُنح وساماً ولقب فارس. وفي الفترة بين عامي 1853 و 1868، ترأس المكتب العربي في ماسكارا حيث توفى. وقد مُنح دارمون الجنسية الفرنسية قبل أربعة أعوام من صدور قانون كرميو عام 1870 الذي أعطى يهود الجزائر حق المواطنة الفرنسية بشكل تلقائي. ويُعتبَر دارمون نموذجاً لتحوُّل أعضاء الجماعات اليهودية في الجزائر وفي المغرب العربي بصفة عامة على أيدي الاحتلال الفرنسي إلى جماعات وظيفيةاستيطانية من خلال اكتسابهم الثقافة الفرنسية وحصولهم على الامتيازات الممنوحة للأجانب، وقد أدَّى كل هذا إلى ارتباط مصالحهم بمصالح المحتل، وبالتالي عملوا علىخدمة مصالحه ودعم وجوده في المنطقة.

ألفـريد بيت (1853-1906 (

Alfred Beit

من رجال المال في جنوب أفريقيا، وشريك سيسل رودس في تأسيس رودسيا التي سُمِّيت زمبابوي بعد استقلالها. وُلد في هامبورج، وانتقل إلى أمستردام حيث تعلَّم تجارة الماس، ثم انتقل إلى جنوب أفريقيا عام 1875 حيث حقق في فترة وجيزة مكانة مهمة في مجال تطوير مناجم الماس والذهب. وقد التقى بسيسل رودس وترسخت علاقتهما. وظل منذ ذلك الحين مرتبطاً بالنشاط المالي لرودس وبطموحاته الإمبريالية والاستعمارية. ووقف بيت إلى جانب رودس في تنافسه مع بارناتو (وهو من رجال المالوالماس من اليهود في جنوب أفريقيا) للسيطرة على مناجم الماس في البلاد. واستعان في ذلك بفرع عائلة روتشيلد في لندن. وقد أسسا معاً عام 1888 شركة دي بيرز للتعدين والتي أصبحت الشركة المسيطرة على تجارة الماس في جنوب أفريقيا وفي العالم أجمع.

اشترك بيت مع رودس في إدارة وتطوير المنطقة التي أصبحت تُعرَف فيما بعد باسم «رودسيا»، وذلك من خلال شركة جنوب أفريقيا البريطانية التي أسساها معاً. ويأتيبيت في المرتبة الثانية بعد رودس في مساهمته في استعمار رودسيا وتطويرها وترسيخ وجود الرجل الأبيض بها. كما تورط في المؤة التي دبرها رودس ضد النظام الحاكم في رودسيا عام 1895. وقد حقق بيت ثراءً كبيراً، وكان له العديد من المساهمات الخيرية، وبخاصة في مجال التعليم.

الباب الثالث: التحديث وأعضاء الجماعات اليهودية

التحديث وأعضاء الجماعات اليهودية: دورهم فيه وأثره فيهم

Modernization: Role of Members of Jewish Communities and its Impact on Them

«التحديث» (في إطار المنظومة المعرفية العلمانية الشاملة) هو عملية تعديل البيئة الاجتماعية والرؤية المعرفية والأخلاقية بحيث يُخضَع الواقع بأسره (الإنسان والبيئة أو الطبيعة) للقواعد والإجراءات العامة وغير الشخصية ويزداد التحكم فيه، فتُستبعَد كل المطلقات (الأخلاقية والإنسانية والدينية) من الدنيا وتُصفَّى كل الثنائيات ويصبح مصدر المعرفة هو العقل وما يصله من معطيات من خلال الحواس. وينبع من هذه المعرفة نسق أخلاقي يجعل الأخلاق مترادفة مع المنفعة واللذة (وهذه العملية هي في جوهرها عملية ترشيد وعلمنة وفرض للواحدية المادية). وينتج عن ذلك أن الشخصية التقليدية تتحول بالتدريج إلى المواطن الحديث القادر على الاستجابة للقانون العام، والذي لا يدين بالولاء إلا للدولة (المطلقة) أو الوطن والذي يفضل الدخول في علاقات تعاقدية واضحة محدَّدة. وهو بذلك، يصبح منتجاً ومستهلكاً بالدرجة الأولى. كما أن البيئة الاجتماعية نفسها تسيطر عليها مؤسسات الدولة التي تحل محل المؤسسات التقليدية مثل الكنيسة أو الأسرة، أي أن الجماعة العضوية المترابطة (جماينشافت) تتحول إلى المجتمع التعاقدي (جيسيلشافت). ويؤدي كل هذا إلى تزايد هيمنة المؤسسات الحديثة التي يصبح بوسعها توظيف الواقع (الإنسان والطبيعة) وتعظيم الإنتاج (من خلال توحيد السوق وتوحيد القوانين والنظم الاقتصادية) وزيادة الدخل (عن طريق وضع الخطط وإقناع الناس بها من خلال الإعلام). وتصاحب هذه العملية نمو الديموقراطية، وانتشار التعليم، وزيادة الإبداع والحراك الاجتماعي، ونزع القداسة عن الرموز والأفراد، وتزايُد تكيُّف المرء مع القيم والمخترعات الجديدة التي تظهر يوماً بعد يوم، وتعاظُم دور الإعلام والمخابرات. وقد عرَّف أحد العلماء الغربيين الإنسان الحديث بأنه الإنسان القادر على تغيير قيمه بعد إشعار قصير، أي أنه إنسان حركي للغاية لا يهدأ ولا يخضع لأية ثوابت أو مطلقات. كما يُلاحَظ أن عملية التحديث يصاحبها تزايُد التركز في المدن، والاغتراب، وانتشار الإباحية والنزعات العدمية. ويمكن وصف التحديث بأنه علمنة المجتمع.

وعملية التحديث، سواء في الشرق الإسلامي أم في الغرب، هي أهم عملية تاريخية في هذا العصر، وهي سمته الأساسية، فهي تمس كل جوانب المجتمع الإنساني من الاقتصاد إلى أسلوب الحياة. ويعود تاريخ عملية التحديث والعلمنة في الغرب إلى بدايات عصر النهضة،وقد زادت حدتها مع بداية القرن التاسع عشر،ووصلت هذه المرحلة إلى نهايتها مع الحرب العالمية الأولى حيث تحولت المجتمعات الغربية من كونها مجتمعات زراعية إقطاعية وشبه إقطاعية إلى مجتمعات تجارية وأخيراً إلى مجتمعاتصناعية رأسمالية إمبريالية.وقد تركت هذه العملية التاريخية أعمق الأثر في أعضاء الجماعات اليهودية،ولا يمكن فهم الحركات السياسية والفكرية وحركة الهجرة بين اليهود إلا بفهم أثر عملية التحديث فيهم ودورهم فيها.

وقد لعب أعضاء الجماعات اليهودية دوراً في تحديث العالم الغربي والشرق العربي من خلال كونهم جماعة وظيفية وسيطة. ولكنه كان دوراً محدوداً بسـبب ارتباطهم إما بالطبـقة الحاكمة، كما هـو الحال في الغرب، أو بالاستعمار في الشرق، إذ أن عملية التحديث لابد أن تتم في صلب المجتمع ذاته وأن يقوم بها أعضاء المجتمع الذين يعيشون فيه وينتمون إليه انتماءً كاملاً.

الصفحة التالية ß إضغط هنا