المجلد السادس: الصهيــونيــــة 13

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

مؤتمــــر رؤساء المنظمــات اليهــودية الأمريكيــة الكـــبرى

Conference of Presidents of Major American Organizations

منظمة يهودية أمريكية تُعرَف عادةً باسم «مؤتمر الرؤساء». ومؤتمر الرؤساء هذا هيئة تمثيلية لـ 37 منظمة يهودية أمريكية تمثل وجهة نظر هذه المنظمات بشأن المسائل الخاصة بإسرائيل وبغيرها من القضايا الدولية. وهي تنشط داخل الأوساط السياسة الأمريكية من أجل تحقيق الأهداف الصهيونية.

نشأت هذه المنظمة بشكل غير رسمي (عام 1955) مع انعقاد مؤتمر ضم رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية الكبرى من أجل فحص تلك الموضوعات التي تتعلق بإسرائيل وكذلك تلك القضايا التي تحظى باهتمام خاص بين أعضاء الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة. وفي عام 1960، قرَّر المؤتمر تغيير طبيعته غير الدائمة والدورية وأن ينظم نفسه على أُسس مستمرة ومستقرة وأن يُعطي لإجراءاته صفة الرسمية. ومن ثم، تم تكوين جهاز إداري كما أدرجت له ميزانية ثابتة. وفي عام 1966، قرَّر الأعضاء أن يكوِّنوا هيئة تمثيلية للمنظمات عوضاً عن هيئة لرؤسائها، فكان ناحوم جولدمان أول رئيس لها.

ورغم أن مؤتمر الرؤساء لا يشكل جماعة ضغط من الناحيتين القانونية والعملية، إلا أنه يمكن اعتباره بمنزلة ذراع دبلوماسي للوبي الصهيوني الرسمي (اللجنة الإسرائيلية الأمريكية للشئون العامة) في الولايات المتحدة. ويعمل المؤتمر على تحقيق عدد من المهام والوظائف الأساسية في هذا الإطار.

1 ـ التنسيق بين مواقف أعضاء الجماعة اليهودية في العالم وبشكل خاص في إسرائيل (التي تحظى بالأولوية المطلقة في قائمة أعمال المؤتمر)، وبذلك فإنها توفر منبراً داخلياً لأعضاء الجماعة لمعالجة هذه القضايا.

2 ـ التخلص من الخلافات بين أعضاء الجماعة تجاه مواقفهم من إسرائيل وتجاه غيرها من القضايا الدولية بشكل هادئ يسعى إلى تحقيق الإجماع فيما بينهم، وخصوصاً أن شرعية ونفوذ المؤتمر نابعة من كونه ناطقاً باسم الجماعة اليهودية وممثلاً سياسياً لها، وهذه الوظيفة لها أهمية عندما يحدث اختلاف بين المنظمات اليهودية الأمريكية حول الموقف من بعض السياسات الإسرائيلية (وخصوصاً تلك التي حدثت تحت قيادة الليكود، مثل حرب لبنان). ويحرص المؤتمر على عدم الإفصاح العلني عن أيِّ خلاف أو انشقاق بل يعتبر ذلك من علامات الخيانة. والواقع أن هيكيلية المؤتمر تُسهِّل هذا النهج حيث تتكون عضويته من الزعامات الراسخة والمعروفة للمنظمات التي تشترك في المصالح بشكل عام، وبالتالي ينشأ الإجماع. وقد وُجِّهت انتقادات إلى المؤتمر باعتباره يعمل على خَنْق آراء المعارضة داخل صفوف الجماعة، وخصوصاً تلك التي تنتقد السياسات الإسرائيلية. ومن المفارقات ذات الدلالة المهمة أن ألكسندر شندلر (الرئيس السابق للمؤتمر الأمريكي لرؤساء المنظمات اليهودية الكبرى)، الذي كان من أشد مؤيدي الدولة الصهيونية وممن يرفضون أي احتجاج يهودي علني ضدها، تحوَّل إلى منتقد علني لإسرائيل في فترة حكم الليكود ودعا إلى تبنِّي هوية مستقلة عن هوية إسرائيل، كما دعا إلى الحرص على ألا تتحول الحركة الصهيونية إلى تابع للكنيست.

3 ـ يقوم المؤتمر بتفسير موقف الجماعة اليهودية وتبليغه إلى كلٍّ من الحكومة الأمريكية وصانعي السياسة ووسائل الإعلام والحكومة الإسرائيلية والدول والهيئات الدولية الأخرى.

4 ـ يقوم المؤتمر بمحاولة التأثير في موقف الحكومة الأمريكية والجمهور الأمريكي وتبليغ هذا الموقف للحكومة الإسرائيلية.

5 ـ يقـوم المؤتمر بـدور المفسِّر للآراء الإسـرائيلية لدى الحكومة الأمريكية.

ويتبنَّى المؤتمر مـوقف الحـكومة الإسـرائيلية تجـاه القضــايا الكبرى، ويركز على نشر وجهة نظر مفادها أن أمن وقوة إسرائيل يمثل مصلحـة كبرى للـسياسة والإستراتيجية الأمريكية. ولإنجاز ذلك، يقوم المؤتمر بنشر الوثائق وعَقْد المؤتمرات المؤيدة لإسرائيل وعقد لقاءات خاصة مع القادة السياسيين الأمريكيين والعالميين ومع قادة الجماعات اليهودية في الدول الأخرى، وذلك بالإضافة إلى الاحتفاظ بعلاقات وثيقة مع رجال الإعلام الأمريكيين. كما يسعى المؤتمر، في بعض القضايا، إلى الضغط على الكونجرس الأمريكي عن طريق استنفار اليهود الأمريكيين (من خلال المنظمات المشتركة في المؤتمر) لكي يقوموا بإرسال الخطابات والبرقيات إلى نوابهم في مجلسي النواب والشيوخ بحيث يطلب منهم اتخاذ مواقف تتفق مع المصلحة الإسرائيلية. كذلك يشرف المؤتمر على شن الحملات الإعلامية والتحضير للتظاهرات، كما يشرف على عقد المؤتمرات الصحفية.

وفي حين تُركِّز اللجنة الإسرائيلية الأمريكية للشئون العامة على الكونجرس، يُركِّز المؤتمر على الفرع التنفيذي بما في ذلك الرئيس الأمريكي.

ويتم اختيار رئيس للمؤتمر كل عامين تقريباً، وعادةً ما يكون المرشح لهذا المنصب رئيساً لإحدى المجموعات المنتمية إلى المؤتمر. ويجري تمويل مؤتمر الرؤساء من الرسوم والتبرعات التي يدفعها أعضاء الفئات المنتمية إليه. وقد بلغت ميزانيته عام 1982 نحو 350 ألف دولار.

والمنظمات المنتمية للمؤتمر الأمريكي لرؤساء المنظمات اليهودية الكبرى هي:

المؤتمر اليهودي الأمريكي ـ ومجلس الاتحاد الأمريكي لعمال إسرائيل ـ واللجنة الإسرائيلية الأمريكية للشئون العامة ـ والاتحاد الصهيوني الأمريكي ـ وبناي بريت ـ وهاداساه ـ ولجنة العمال اليهودية ـ وقدامى المحاربين اليهود ـ والمنظمة الصهيونية للعمال في أمريكا ـ ومنظمة مزراحي الأمريكية ـ واللجنة الاستشارية للعلاقات الطائفية القومية ـ واتحاد الطوائف العبرية الأمريكية ـ واتحاد الطوائف اليهودية الأرثوذكسية، والمعبد اليهودي المتحد في أمريكا، والمنظمة الصهيونية في أمريكا، ونساء مزراحيالأمريكيات، وعصبة مناهضة الافتراء، ونساء بناي بريت، وبني تسيون، والمؤتمر المركزي للحاخاميين الأمريكيين، ونساء إيموناه في أمريكا، وصهيونيو حيروت، والصندوق القومي اليهودي، والمؤسسة اليهودية لإعادة الإعمار، والاتحاد الصهيوني للعمال، واللجنة القومية لعمال إسرائيل، والمجلس القومي للنساء اليهوديات، والمجلـس القـومي لإسـرائيل الفتاة، والاتحاد القومي لأخوات الهيكل، ومجلس الإنعاش اليهودي القومي، ومجلس الشباب اليهودي الأمريكي الشمالي، والنساء الرائدات، والجمعية العامة الحاخامية، والمجلس الحاخامي الأمريكي، ومنظمة النساء الأمريكيات لإعادة التأهيل من خلال التدريب، والعصبة النسائية اليهودية المحافظة، ودائرة العمال، والمنظمة الصهيونية العالمية ـ القسم الأمريكي.

اللجنـة الإسـرائيلية الأمريكية للشـئون العـامة (ايباك)

American Israel Public Affaris Committee (AIPAC)

"اللجنة الإسرائيلية الأمريكية للشئون العامة» (بالإنجليزية: أمريكان إسرائيل بابليك ريليشنز كوميتيAmerican Israel Public Relations Committee واختصارها «ايباك AIPAC») هي منظمة أمريكية يهودية تأسَّست عام 1954 بغرض التأثير في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط بحيث تتفق هذه السياسة مع المصالح الإسرائيلية والصهيونية. وهذه المنظمة مسجلة كجماعة ضغط (لوبي) رسمية للقيام بمهمة الدعاية لدعم إسرائيل باسم الطائفة اليهودية الأمريكية، وهي في تقدير البعض من أقوى جماعات الضغط في الولايات المتحدة ومن أكثرها تأثيراً على الإطلاق.

وتعود جذور هذه المنظمة إلى عام 1951 حينما قرر أشعياء كفن، عضو المجلس الصهيوني الأمريكي، بعد التشاور مع الزعـماء الإسـرائيليين آنذاك (أبا إيبان وموشيه شـاريت وتيدي كولك)، تكوين لوبي صهيوني هدفه المباشر (آنذاك) زيادة المساعدة الاقتصادية الأمريكية لإسرائيل. وفي عام 1954، تكوَّنت اللجنة الصهيونية الأمريكية للشئون العامة ثم تغيَّر اسمها عام 1959 إلى «اللجنة الإسرائيلية الأمريكية للشئون العامة» لكي تعمل من أجل سياسات أمريكية أكثر تأثيراً في الشرق الأدنى لتحقيق تسوية سلمية للصراع العربي الإسرائيلي. وقد سُجلت هذه اللجنة في الكونجرس الأمريكي وفقاً لقوانين جماعات الضغط (اللوبي) المحلية، وهي القوانين التي تسمح للجماعات المختلفة التي يكون لها وجهات نظر أو مصالح معيَّنة، أن تعرض وجهة نظرها على أعضاء الكونجرس ولجانه.

وتقود اللجنة الإسرائيلية الأمريكية للشئون العامة حملات الضغط من أجل دَعْم مواقف الحكومة الإسرائيلية وتعمل على تقوية التحالف الإسرائيلي الأمريكي ومَنْع قيام تحالفات بين الولايات المتحدة والعالم العربي يمكن أن تضر بإسرائيل. وهي تعمل أيضاً على تأكيد أهمية إسرائيل الإستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة والغرب، وعلى تأكيد قدرتها التي لا تُضاهَى على حماية المصالح الأمريكية سواء في ردع التوسع السوفيتي (فيما سبق) أو في التصدي للإرهاب الدولي أو في مواجهة أية أشكال جديدة من الأخطار التي قد تظهر في هذه المنطقة الحيوية من الشرق الأوسط بعد سقوط المعسكر الاشتراكي. كما تؤكد أن إسرائيل مثل الولايات المتحدة دولة ديموقراطية، وبالتالي فهي موضع ثقة في حين أن جيرانها العـرب شـعوب متخـلفة ومسـتبدة تحكـمها نظم غير مستقرة. وكذلك، فإنها تؤيد التشريعات التي تعطي الولايات المتحدة (بمقتضاها) المنح والمعونات لإسرائيل وتضغط من أجل زيادة هذه المعونات بشكل مطرد ومن أجل تحويل القروض والهبات وكذلك من أجل رفع العلاقات الاقتصادية بين إسرائيل والولايات المتحدة إلى مسـتوى الندية وإحـلال التعـامل التجاري محل المساعدة. ومن جهة أخرى، فإنها تعارض التشريعات التي يتم بمقتضاها توجيه المساعدات أو المنح الأمريكية إلى الدول المعارضة لمصالح الدولة الصهيونية. كما أنها تقود الحملات ضد صفقات السلاح مع الدول العربية وضد المقاطعة العربية وضد منظمة التحرير الفلسطينية.

وبالنسبة لآليات عملها داخل الكونجرس، تقدم الايباك تقريراً لكل عضو بالكونجرس عن كيفية التصويت لصالح إسرائيل وتزود الأعضاء بالبيانات والوثائق الخاصة بالمواضيع التي تُعرَض على الكونجرس والتي تهم إسرائيل وتدعم وجهة نظرها، كما أنها تعزز ذلك بالمكالمات الهاتفية والزيارات الشخصية والتودد إلى معاوني أعضاء الكونجرس الذين يقومون بدور مهم وراء الستار من أجل سياسات معيَّنة ومن أجل عَرْض مواقف خاصة وإجراء اتصالات لممثليهم. وتركِّز الايباك أيضاً على الأعضاء الذين ينتمون إلى اللجان الرئيسية للمساعدات الخارجية أو السياسية، وعلى غيرهم من الأعضاء النافذين. وهي تحتفظ بقائمة أسماء أعضاء مجلس الشيوخ والنواب الملتزمين بالتصويت وفقاً لتعليمات اللوبي الصهيوني حيث ينال هؤلاء الثناء الفوري في منشورات اللوبي كما يتم تكريمهم في المؤتمرات وفي حفلات العشاء وتُنشَر عنهم التقارير الإيجابية على ناخبيهم في ولاياتهم. وتساهم اللجنة بشكل غير مباشر في تمويل حملاتهم الانتخابية من خلال لجان العمل السياسي المؤيدة لإسرائيل. وقد برزت لجان العمل هذه ـ كقوة سياسية مهمة في الولايات المتحدة ـ في أعقاب إصلاحات قانون الانتخاب الفدرالي عامي 1974 و1976 والذي حدد مبلغ التبرعات الفردية للمرشحين السياسيين بألف دولار. وتستطيع مجموعات الأفراد تكوين لجنة عمل سياسي لها الحق في التبرع بمبلغ 5000 دولار لكل مرشح في انتخابات واحدة.

ولذلك، أخذ العديد من موظفي الايباك وأنصارهم في تأسيس عدد كبير من لجان العمل السياسي تشكَّل أغلبها عام 1980. وتتراوح التقديرات حول عدد اللجان المؤيدة لإسرائيل ما بين 33 و54 لجنة، من أهمها اللجنة القومية للعمل السياسي. ولا تحمل هذه اللجان ما يشير من قريب أو بعيد إلى إسرائيل أو إلى الشرق الأوسط أو السياسة الخارجية. والواقع أن ذلك يعكس حرص قادة الجماعة اليهودية على عدم إثارة التلميحات إلى «المال اليهودي» أو الاتهامات بشراء السياسيين (أنفقت هذه اللجان خلال انتخابات عام 1984 نحو 4.25 مليون دولار على مرشحي الكونجرس). وتقوم الايباك من خلال هذه اللجان أيضاً بالضغط على أعضاء الكونجرس الذين لا يؤيدون إسرائيل أو يتعاطفون مع القضايا العربية، وهي تعمل على إحباط فرصهم في الانتخابات. وقد نجحت الايباك، بالفعل، في إسقاط بعض أعضاء الكونجرس مثل شارلز بيرسي الذي عارض صفقة بيع طائرات لإسرائيل عام 1982 وبول فندلي الذي التقى بياسر عرفات وتبنَّى موقفاً متعاطفاً مع القضية الفلسطينية، وغيرهما.

وبالإضافة إلى ذلك، تقدِّم الايباك مساعدات أخرى لأعضاء الكونجرس (مثل كتابة الخطابات الرسمية)، كما أنها تقوم بإجراء بحوث لهم. وتُعتبَر النشرة الدورية التي تصدرها اللجنة، نير إيست ربورت Near East Report (تقرير الشرق الأدنى) من أكثر النشرات نفوذاً بين أعضاء الكونجرس فيما يتعلق بالشرق الأوسط.

وتقوم الايباك بإعلام أعضاء القطاع السياسي (النشيط) في الجماعة اليهودية عن الموضوعات المطروحة أمام الكونجرس، وذلك لكي يقوم كل منهم بالكتابة إلى هذا العضو والتبرع في حملته الانتخابية إذا أثبت سلوكاً موالياً لإسرائيل. وتنسق الايباك حملات الضغط مع اللجنة اليهودية الأمريكية وعصبة مناهضة الافتراء والمؤتمر اليهودي الأمريكي، بالإضافة إلى المؤتمر الأمريكي لرؤساء المنظمات اليهودية الكبرى. ولكن هناك على ما يبدو قَدْر من التوتر والخـلافات والمنافسـة بين المنظـمات اليهـودية الثلاث الأولى من ناحية، والايباك من ناحية أخرى، حول تحديد المهام ورسم السياسات. فقد اتهمت هذه المنظمات منظمة الايباك في خطاب نُشر على صفحات النيويورك تايمز بتبنِّي مواقف لا تتفق وإجماع الجماعة اليهودية المنظمة، وطالبوا بضرورة تشاور الايباك معهم قبل الإعلان عن مواقفها بشأن القضايا العامة. كما تردَّد أن المنظمات الثـلاث تتجـه نحـو تكـوين مجموعة ضغط أخرى (ولكن ذلك تم نفيه). وقد تعرَّضت الايباك كذلك للهجوم في بعض وسائل الإعلام الأمريكية بسبب نفوذها السياسي المتزايد سواء في الانتخابات التشريعية الأمريكية أو فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الأمريكية الخاصة بالشرق الأوسط. وقد أدَّى هذا الهجوم إلى استقالة المدير التشريعي للايباك وكذلك جميع هيئة تحرير نير إيست ربورت، وربما يؤدي ذلك أيضاً إلى تحجيم نفوذها في المستقبل.

وتعقد الايباك مؤتمرات سنوية تجمع الأعضاء العاملين وقادة الجماعة وممثلي المجموعات المستهدفة وعشرات السياسيين وكبار الشخصيات الإسرائيلية والأمريكية،وتعرض من خلال المؤتمر مواقفها السياسية والأولويات الراهنة للعمل. وتبلغ ايباك برنامجها للسلطتين التشريعية والتنفيذية في الحكومة الأمريكية وللمؤتمرات السياسية (على المستوى القومي) للحزبين الجمهوري والديموقراطي التي تنعقد قبل انتخابات الرئاسة الأمريكية كل أربع سنوات حيث تحرص ايباك على أن يكون لها موقف محايد من الحزبين وذلك بهدف الحصول على تأييد أيٍّ منهما.

وقد وسعت الايباك مجال نشاطها خارج النطاق التشريعي التقليدي لمحاولة التأثير في المؤسسات والجماعات الأمريكية المتعاطفة مع القضية الفلسطينية مثل الطلبة والكنائس البروتستانتية الليبرالية والأقليات وخصوصاً السود. ففي حرم الجامعات أعدت الايباك الحلقات الدراسية الحرة بهدف تدريب وتنظيم الطلبة المناصرين لإسرائيل وتنسيق نشاطهم لمواجهة العناصر الجامعية المناهضة لإسرائيل أو المناصرة للفلسطينين، وذلك عن طريق نَعْتهم بالتطرف والراديكالية وبمناهضة الولايات المتحدة وكذلك عن طريق نَعْتهم بمعاداة اليهود واليهودية. كما أنشأت الايباك برنامج التقارب المسيحي اليهودي وتعمل على تحسين العلاقات وإيجاد أرض مشتركة مع منظمات السود ومع منظمات الأقليات الأخرى ممن تخشى الايباك من أنهم آخذون في الميل إلى معاداة إسرائيل نتيجة تحوُّلهم نحو العالم الثالث. ولمواجهة ذلك، تعمل الايباك على إظهار أن الأقليات مضطهدة في العالم العربي التي تحكمها نظم متخلفة ومستبدة، وعلى تأكيد أن السود لن يكسبوا الكثير من وراء إعطاء جهدهم ودعمهم لمساندة الفلسطينيين. وتنظر ايباك بقلق تجاه تزايد نشاط اللوبي العربي، وذلك من خلال مختلف أجهزته ومنظماته في الولايات المتحدة. ورغم أنها تسلِّم بعدم فعالية اللوبي العربي بسبب افتقاره للقدرات التنظيمية والقاعدة الشعبية والأصوات، إلا أنها عيَّنت عام 1982 موظفاً متفرغاً ليقوم بمهمة رصد وتحليل اللوبي العربي بصفة دائمة وتطوير سُبل مجابهته.

واللجنة الإسرائيلية الأمريكية للشئون العامة تضم في لجنتها التنفيذية رؤساء ثمان وثلاثين منظمة يهودية أمريكية كبرى ولها جهاز دائم للعمل. وقد بلغت ميزانيتها المعلنة عام 1980 مبلغ 1.3 مليون دولار لتمويل هذا الجهاز. ويجري تمويل الايباك عن طريق الرسوم التي يدفعها الأعضاء (44 ألف عضو) والهبات. وهي بوصفها لوبي يتعين عليها أن تقدم تقارير مالية فصلية كل ثلاثة أشهر إلى وزير الخارجية وإلى رئيس مجلس النواب. والمنصب الرئيسي داخل الايباك هو المدير التنفيذي، أما منصب رئيـس اللجنة فيشـغله في العـادة رجل ثري ذو نفوذ. كما أنه يحظى باحترام الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة وينتمي إلى إحدى مؤسساتها أو منظماتها المهمة.

عصبة الصداقة الإسرائيلية الأمريكـية

American-Israel Friendship League

منظمة أمريكية معفاة من الضرائب. تأسَّست عام 1971، وتعمل من أجل تعزيز العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل. وهي تضم مجموعة من الأمريكيين من ذوي المصالح والمعتقدات المتباينة وإن كانوا يشتركون في الإيمان بوجود مصالح وقيم مشتركة بين البلدين.

وتقوم المنظمة بالدعاية للدولة الصهيونية من خلال تنظيم الرحلات إلى إسرائيل، وإعداد برامج لتبادل الطلبة بين البلدين، وكذلك لتبادل الكُتَّاب والعلماء والفنانين والرياضيين ورعاية البرامج الثقافية عن إسرائيل في المدارس الأمريكية ولعقد المؤتمرات وإصدار وتوزيع النشرات التي تُبرز أوجه التماثل بين الولايات والمتحدة وإسرائيل، كما تعمل المنظمة على التقريب بين الجماعات اليهودية والجماعات غير اليهودية في المجمتع الأمريكي (مثل الأمريكيين ذوي الأصول الإسبانية والمؤسسة الدينية المسيحية) وكسب تأييدهم لإسرائيل.

الباب الرابع: الجـباية الصهيونية

جمع التبرعات (أو الجباية) الصهيونية

Zionist Fund-Raising

«جمع التبرعات» هو الترجمة العربية الحرفية والمباشرة لعبارة «فند ريزنج fund raising» الإنجليزية. ولأن هذه العملية ليست عملية محايدة أو بسيطة وإنما تتسم بالقسر والإكراه في بعض الأحيان، وبالغش والخداع (فيما يتعلق بالأهداف) في معظم الأحيان، فإننا نجد أن لفظ «جباية» قد يكون أقرب للدقة وأكثر تفسيرية. ومن هنا، فنحن في هذه الموسوعة نستخدم الاصطلاح الأول تارة والثاني تارة أخرى حسب ما يمليه السياق.

وقد اعتمدت الحركة الصهيونية منذ نشأتها على التبرعات التي تجمعها من أعضاء الجماعات اليهودية للعالم. وترى الأدبيات الصهيونية أن عمليات الجباية تقوِّي الروابط العاطفية بين إسرائيل واليهود الأمريكيين، ومن هنا فإن شعار النداء اليهودي الموحد الأكثر شهرة (نحن واحد) يحث اليهود على تأكيد تضامنهم بواسطة العطاء. فالتبرعات لا يُنظَر لها باعتبارها مجرد إحسان بل بوصفها "نوعاً من المشاركة في دولة إسرائيل، وخصوصاً من قبَل اليهود العلمانيين والمندمجين التي تمثل حملة النداء اليهودي الصلة الوحيدة بينهم وبين روحانية إسرائيل ومركزيتها" على حد تعبير إيرفينج بيرنشتاين نائب الرئيس التنفيذي للنداء اليهودي الموحَّد.

وهذا الخطاب الصهيوني المراوغ يخبىء داخله الكثير، ولذا فلنحاول فك شفرته. إن اليهودي العلماني المندمج هو اليهودي الذي يعيش في العالم الغربي، وخصوصاً في الولايات المتحدة، وهو يعيش سعيداً في وطنه لا يود الهجرة منه. ولكنه يتمتع بدخل مرتفع، ولابد من الاستفادة من هذا الوضع. ولذا، يَطرح الصهاينة شعار "نحن واحد"، ولكنه يُطرَح بحذر شديد وبكثير من التحفظات التي تجعله شعاراً رناناً دون محتوى. فالمطلوب من عضو الشعب اليهودي الواحد أن يُبقي الصلة «الروحانية» مع إسرائيل دون الهجرة إليها. وبهذه الطريقة، يستطيع اليهودي المندمج في الغرب أن يظل في وطنه الحقيقي ويشعر بالانتماء إليه وفي الوقت نفسه يُسمِّي نفسه صهيونياً، وبهذهالطريقة يمكن جَمْع التبرعات منه.

ولكن الكثير ممن يدفعون هذه التبرعات لا يفهمون المضمون السـياسي لتبرعـاتهم وإنما يدفعـون الأموال باعتبار أنها إحسان (صدقة)، أي عمل خيري، أو مساهمة في مشروع ثقافي وليس مساهمة في عملية استيطانية إحلالية. ويلعب الخطاب الصهيوني المراوغ دوراً أساسياً فـي ذلك، فما يهم الصهاينة هو تبرعات يهود العالم لا انتماؤهم أو إدراكهم السياسي. وقد ذكر ريتشارد كروسمان (الزعيم العمالي البريطاني) أن وايزمان لم يكن لليهود المندمجين سوى الاحتقار، ولكن كان لديه اسـتعداد دائم لجَمْـع أموالهم من أجل مشـروعـه الصهيوني.

ويدفع الكثيرون التبرعات خشية التشهير بهم من قبَل الحركة الصهيونية، وبسبب الإحساس بالذنب لأنهم لا يهاجرون إلى الوطن القومي (وهؤلاء هم الذين يُطلَق عليهم اصطلاح «يهود النفقة»).

ومهما كان الأمر، فإن التبرعات أصبحت القناة الوحيدة التي يعبِّر معظم اليهود عن علاقتهم بإسرائيل من خلالها. ولذلك، اقـترح أحـدهم تسـمية صهـاينة الخـارج (التوطينيين) «متبرعو صهيون».

ومع هذا، لوحظ مؤخراً أن عمليات الجباية تواجه مشكلة نضوب المصادر المالية فعلى سبيل المثال لوحظ أن حصيلة ما جمعه الصهاينة من تبرعات في الثلاثة شهور الأولى من عام 1995 لم يزد عن 143 ألف دولار (بالقياس إلى 2.5 مليون في الفترة نفسها عام 1994 و6.5 مليون عام 1993). وقد انخفضت التبرعات في الولايات المتحدة بحوالي 40%.

ولا يختلف الموقف كثيراً في بريطانيا وفرنسا وأمريكا اللاتينية للأسباب التالية:

1 ـ لعـل من أهـم الأسـباب ما يُسـمَّى «ظاهرة موت الشعب اليهودي»، أي تناقص أعداد أعضاء الجماعات اليهودية نتيجة انخفاض التكاثر الطبيعي بينهم وتَزايُد معدلات الاندماج، وهو ما يعني تناقص عدد المتبرعين.

2 ـ يساهم تزايُد الاندماج في انصراف أعضاء الجماعات اليهودية عن دفع التبرعات أو دفعها لمنظمات غير يهودية لأن المشروع الصهيوني يصبح شأناً لا علاقة له بهم.

3 ـ تركت مشاكل التضخم والكساد الاقتصادي أثراً سلبياً في المتبرعين اليهود.

4 ـ أدَّى التضخم إلى تزايد الاحتياجات الداخلية للجماعة اليهودية وخصوصاً في مجال الرعاية الصحية والتعليم وبيوت العجزة.

5 ـ مما زاد الوضع تفاقماً، سياسات حكومة ريجان التي قطعت العون عن البرامج الصحية والتعليمية للفقراء والأقليات. وقد ترك هذا أثراً سلبياً جداً في عمليات تمويل برامج الرفاه اليهودية في الولايات المتحدة إذ أصبحت في حاجة إلى اعتمادات أكبر تحتَّم استقطاعها من التبرعات التي تُجمَع (وتبلغ نسبة ما تنفقه الجماعات اليهودية على نفسها في الوقت الحاضر ثُلثي التبرعات التي تقوم بجَمْعها)

6 ـ لوحظ أن 1% من كبارالمتبرعين يدفعون 25% من كل التبرعات. وأن 10% من كبار المتبرعين يدفعون 80% منها، أي أن صغار المساهمين من الجماهير اليهودية لم يعودوا يتبرعون للدولة الصهيونية تقريباً. وقد لوحظ أن كبار المتبرعين هم عدة أفراد تم استئناسهم واستيعابهم، ولكن هذا يعني أيضاً أن المنظمات الصهيونيةواليهودية أصبحت معتمدة عليهم تماماً لاستمرار بقائها، ومن ثم فإنها تواجه أزمات مالية حادة حينما يمتنعون لسبب أو آخر عن دَفْع تبرعاتهم. ومن الملاحَظ أن هـؤلاء المتبرعين من كبار السـن ومن الأجــيال القديمة، أي أنهم في الغالب ذوو خلفية أوربية، أو من أبناء المهاجرين، الأمر الذي يعني وجود رابطة عاطفية «بالوطن القديم» وبالهوية القديمة. ويترجم هذا نفسه إلى ارتباط بالمنظمات اليهودية والصهيونية باعتبارها منظمات تعبِّر عن هذه الهوية، وإلى تبرعات لها. هذا على عكس أبنائهم المتأمركين المندمجين الذين لا تربطهم رابطة قوية بالمؤسسات اليهودية، ومن ثم فإنهم لن يستمروا في التبرع للمنظمات اليهودية والصهيونية. وحيث إن كبار المتبرعين مسنون، فإن رحيلهم سيؤدي إلى تسارع نضوب المصادر المالية الحالية. ويُلاحَظ أن من أهم مصادر التمويل، في الوقت الحالي، التركات التي يوصي بها كبار المتبرعين للمنظمة الصهيونية. ومع أن مثل هذه التركات تحل كثيراً من المشكلات، إلا أنها في نهاية الأمر «تبرُّع أخير» لن تليه تبرعات أخرى.

7 ـ يُلاحَظ عدم ظهور متبرعين شباب إما لتباعدهم عن حياة الجماعة ومؤسساتها أو نتيجة تحوُّل نسبة متزايدة من الشباب اليهودي من الأعمال التجارية المربحة إلى المهن ذات الدخل المحدود.

8 ـ تواجه صناديق الجباية الآن صعوبات في تجنيد متطوعين للقيام بحملات التبرعات .

9 ـ أدَّت السياسات الإسرائيلية (وخصوصاً في عهد الليكود) إلى نفور كثير من المتبرعين: فهناك حرب لبنان وتورُّط إسرائيل في فضيحة إيران ـ كونترا وفضيحة بولارد، وأسلوب إسرائيل في معالجة الانتفاضة، وقد أدَّى كل هذا إلى إحراج أعضاء الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة، ومن ثَمَّ إحجامهم عن التبرع.

وقد خلق ذلك مأزقاً حاداً حول كيفية تقسيم الموارد المتوافرة بين احتياجات الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة التي تشهد تزايداً مطرداً وبين احتياجات إسرائيل. والآن، تتجه النية إلى تقليص المبالغ المخصصة لإسرائيل وخصوصاً أن هناك شعوراً متزايداً بأن أمن إسرائيل أصبح مضموناً بعد معاهدة السلام مع مصر، كما أن هناك تزايداً في الخلافات حول السياسات الإسرائيلية، وخصوصاً خلال حكم الليكود، وقد ظلت الجماعة تحرص على التبرع بسخاء في فترات الأزمات.

ومما يجدر ذكره أن تبرعات يهود العالم في الماضي كانت تغطي نسبة مئوية لا بأس بها من نفقات الدولة الصهيونية، ولكن هذه التبرعات لا تزيد في الوقت الحالي عن 1.5% من ناتج إسرائيل القـومي، كما لا يتـجاوز العـائد من بيع سندات إسرائيل النسبة نفسها، وهو ما يعني تزايد اعتماد المستوطن الصهيوني على الولايات المتحدة.

ومن التطورات الجديدة في عالم التبرعات الصهيونية ظهور صناديق لجمع التبرعات لصالح الحركات الإسرائيلية التي ترفض سياسة الضم والتوسع والقمع (الصهيونية) بدرجات متفاوتة، ومن أهم هذه الصناديق الصندوق الإسرائيلي الجديد.

الصندوق القومي اليهودي (كيرين كايميت(

Jewish National Fund (Keren Kayemet)

بالعبرية «كيرين كايميت» وهو إحدى أقدم مؤسسات المنظمة الصهيونية العالمية وذراعها المالي لشراء الأراضي في فلسطين. ترجع فكرة إنشائه إلى المؤتمر الصهيوني الأول (1897) حين اقترح عالم الرياضيات اليهودي الحاخام الليتواني هيرمان شابيرا إنشاء صندوق قومي يهودي قائم على التبرع الطوعي بهدف شراء الأراضي في فلسطين. ولكن هذا الاقتراح لم يحظ بأيِّ دعم حتى المؤتمر الصهيوني الخامس (1901) حينما تقرَّر (وبتأييد من هرتزل) إنشاء الصندوق القومي اليهودي ليكون "وديعة للشعب اليهودي" لا يُستعمَل إلا لشراء أو تخليص الأراضي في فلسطين لتظل "ملكاً للشعب اليهودي إلى الأبد" لا يجوز بيعها أو رهنها. ويقوم الصندوق باستصلاح الأراضي وتأجيرها لمدة 49 عاماً قابلة للتجديد ولا يجوز تأجيرها لغير اليهود أو استخدام عمالة غير يهودية لزراعة هذه الأراضي وصيانتها. وقد تحدَّد مقر الصندوق في فيينا.

قام الصندوق بشراء أول مساحة من الأراضي له في فلسطين عام 1905، وبدأ أولى تجاربه في التشجير عام 1908 بزراعة ما سُمِّي «غابة هرتزل». ثم أقام الصندوق أول كيبوتس على أراضيه في داجانيا جنوبي طبرية. وقد استدعى هذا النشاط وضع الإطار القانوني المناسب للصندوق. ولذلك تم تسجيله عام 1907 كشركة بريطانية باسم «الصندوق القومي اليهودي المحدود»، وسرعان ما تحوَّل الصندوق إلى الذراع الوحيدة لجباية الأموال من أجل شراء الأراضي في فلسطين.

ومع صدور وعد بلفور ووقوع فلسطين تحت سلطة الانتداب البريطاني، اتسع نشاط الصندوق. وفي عام 1920، وضع المؤتمر الصهيوني الذي انعقد في لندن خطة شاملة لتنظيم وتمويل الهجرة والاستيطان اليهوديين في فلسطين، حيث تقرَّر إنشاء الصندوق التأسيسي اليهودي كأداة لتمويل عمليات الاستيطان في فلسطين على أن يتفرغ الصندوق القومي اليهودي لشراء الأراضي وأن تُخصَّص له نسـبة 20% من حـصيلة الصـندوق التأسـيسي لهذا الغرض. وفي ذلك العام أيضاً، أصدرت إدارة الانتداب البريطانية تنظيماً جديداً سهَّل عملية تحويل ونَقْل ملكية الأراضي وإزالة العقبات التي كانت تعترضها. وإزاء هذه التطورات، ومع انتقال مقر الصندوق إلى القدس عام 1922، زادت ملكية الصندوق من الأراضي بشكل كبير حيث قفزت من 16.366 دونماً عام 1920 (أي بعد 19 سنة من تأسيسه) إلى 278.627دونماً عام 1930، ووصلت إلى 93.6000دونم في مايو 1948 أو نحو 3.55% من إجمالي مساحة فلسطين و54% من إجمالي الأراضي المملوكة للتجمع الاستيطاني اليهودي فيفلسطين والتي كانت تضم 85% من مستعمراته ومؤسساته الاستيطانية.

وقد أدَّى ذلك إلى تحـويل كثير مـن الملاك العرب إلى معـدمين وأجراء، كما أدَّى إلى ازدياد سوء الأحوال الاقتصادية للعرب الفلسطينيين، وخصوصاً أن قانون الصندوق كان يشترط عدم استخدام عمالة غير يهودية على أراضيه، وهذا الشرط العنصري كان ضرورياً لتفريغ فلسطين من سكانها الأصليين وتحقيق أهداف الاستعمار الاستيطاني الإحلالي بها. كما كان تطبيقاً لما دعا إليه هرتزل عام 1895 حينما قـال: "إننا سنحاول دَفْع السكان إلى الخروج عن طريق إيجاد فرص عمل لهم في الدول المجاورة، وفي الوقت نفسه إغلاق أبواب العمل أمامهم في بلدنا".

وقد اهتم الصندوق القومي اليهودي في بداية الأمر بشراء الأراضي لأغراض الاستيطان الزراعي، ثم أصبحت الاعتبارات الأمنية والسياسية أكثر أهمية مع تزايد الرفض العربي للاستيطان اليهودي ثم صدور تقرير لجنة بيل عام 1937 التي أوصت بتقسيم فلسطين وما أعقب ذلك من إصدار الكتاب الأبيض لعام 1939 والذي فَرَض قيوداً على شراء اليهود للأراضي. ومع ذلك، نجح الصندوق في زيادة ملكيته من الأراضي بمقدار الضعف تقريباً خلال الفترة بين عامي 1939 و1946 حيث زادت من 473 ألف دونم إلى 835 ألف دونم، أي أن نصف مساحة الأراضي التي كان يمتلكها عند إعلان الدولة حصل عليها خلال هذه الفترة وحدها. وقد تركَّزت أغلب هذه الأراضي في المناطق الحدودية وكذلك داخل المناطق المخصـصة للـعرب والتي كان محـظوراً على اليهـود شراء الأراضي بها. وقد ساهم ذلك في تحديد حدود الدولة اليهودية التي نص عليها قرار التقسيم عام 1947.

وإذا كان الصندوق القومي اليهودي قد نجح في خَلْق حقائق جديدة على أرض فلسطين تدعم المشروع الصهيوني إلا أنه لم ينجح في نهاية الأمر في سوى امتلاك 3.55% من أراضيها. ولم يتم "تخليص" ما تبقَّى من الأراضي إلا عن طريق القوة الجبرية والاحـتلال العسـكري المدعوم من قبل القوى الاستعمارية والإمبريالية.

وبعد إقامة الدولة الصهيونية، انتقلت ملكية أغلب الأراضي التي تم إفراغها من سكانها ومالكيها العرب إلى الصندوق القومي اليهودي بحيث أصبح يمتلك عام 1950 نحو 2.373.676دونماً وصلت إلى 3.5 مليون دونم عام 1960، أي 17% من إجمالي مساحة الدولة. وفي عام 1953، وافق الكنيست الإسرائيلي على قانون الصندوقالقومي في إسرائيل الذي أجاز تسجيل الصندوق في إسرائيل كشركة مساهمة. وفي عام 1954، حصلت الشركة الإسرائيلية المساهمة الجديدة على جميع الموجودات والديون الخاصة بالصندوق القـومي اليهـودي الذي كان قد سُجِّل في إنجلترا عام 1907. ومع ذلك، لم تتم تصفية الشركة البريطانية حيث كانت هذه الشركة تمتلك أراضي خارج حدود الدولة أي في الضفة الغربية وغزة. وقـد كانت تصفيتها تعـني ضـياع هذه الأراضي. ولذلك، فإن هناك منذ عام 1954 شركتين تحملان الاسم نفسه تقريباً، والفارق الوحيد هو أن كلمة «محدودة» ملحقة باسم الشركة البريطانية.

وقد حدَّد القانون الأساسي للشركة الإسرائيلية أهدافها بأنه شراء أو استئجار أو مبادلة أو تأجير الأراضي والغابات وحقوق الملكية والحقوق في أراضي الآخرين وأية حقوق مشابهة، فضلاً عن الممتلكات غير المنقولة من أيِّ نوع في المنطقة المحددة (وهذه إشارة إلى دولة إسرائيل وأية مناطق تقع تحت سلطة حكومة إسرائيل) أو في أي جزء منها بهدف توطين اليهود في تلك الأراضي والممتلكات. ومن الملاحَظ أن وصف المنطقة المحدَّدة كما جاء في هذه الفقرة يضع في الاعتبار احتمالات التوسع الإسرائيلي في المستقبل ضم أراض عربية جديدة إلى الدولة، وهو ما حدث بالفعل بعد حرب 1967 حيث امتد نشاط الصندوق إلى الأراضي الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي.

ونظراً لتبعية الصندوق للمنظمة الصهيونية العالمية، فقد كان من الضروري تنظيم علاقته مع الحكومة الإسرائيلية. وقد تم هذا باتفاقية وُقِّعت عام 1961 نصت على أن "الصندوق سوف يواصل أعماله بين اليهود في كلٍّ من إسرائيل وبلاد الشتات كوكالة مستقلة تابعة للمنظمة الصهيونية العالمية وذلك بهدف جباية الأموال وتخليص الأرضوالقيام بنشاطات إعلامية وتربوية صهيونية وإسرائيلية".

وقد احتفظ الصندوق بشروطه العنصرية الخاصة بتأجير الأراضي لليهود فقط وحَظْر استخدام عمالة غير يهودية (أي عربية) وإن كان هذا الشرط الأخير يُنتهَـك بشكل مستمر حيث تُستخدَم العمالة العربية في كثير من المستوطنات والأراضي المملوكة للصندوق. وقد وصف وزير الزراعة الإسرائيلي عام 1974 هذه الانتهاكات بأنها "سرطان" وحذر من استمرارها.

وقد انتقل نشاط الصندوق بالتدريج من مجال شراء الأراضي إلى استصلاحها وبناء الطرقات ومساعدة المستوطنات الجديدة وضمن ذلك حفر الآبار وبناء السدود وشبكات الري والتشجير، كما يتعاون مع المؤسسة العسكرية الإسرائيلية في بناء قرى الناحال الحدودية وتطوير المناطق ذات الأهمية الأمنية والإستراتيجية. وقد تركَّز نشاطالصندوق بشكل خاص في منطقة الجليل حيث الكثافة السكانية الفلسطينية القصوى بغرض تنفيذ الإستراتيجية الإسرائيلية الرامية إلى تهويد الجليل. وقد ساهم الصندوق فيإقامة 100 مستوطنة في الجليل في الفترة بين عامي 1977 و1981. وبعد حرب 1967، قام الصندوق بشراء مساحات كبيرة من الأراضي في الضفة الغربية، وذلك من خلال شركة هيمنوتاه التابعة له والتي تأسَّست عام 1938 في لندن وسُجِّلت في رام الله عام 1971. ويشارك الصندوق في المخطط الصهيوني لتهويد القدس والضفة الغربية. وقد اعتمد الصندوق تاريخياً على أساليب شتى لجباية الأموال مثل بيع الأشجار في فلسطين، والطوابع البريدية، وتسجيل أسماء كبار المتبرعين فيما كان يُعرَف باسم «الكتاب الذهبي» وكذلك من خلال «الصندوق الأزرق» الذي كان يوضع في بيوت أعضاء الجماعات اليهودية ويستعمل لجمع التبرعات. أما الآن، فإن المصادر الرئيسية لدخله هي "مقابل إيجار عقارات يملكها وأشغال تعهدتها الوكالة اليهودية والحكومة الإسرائيلية". ومن بين هذه المصادر، التبرعات والهبات العامة أو المعطاة لأغراض محددة من قبَل أعضاء الجماعات اليهودية في العالم.

ويُعَد الصندوق مؤسسة مالية ضخمة حيث قُدِّر مجموع موجوداته عام 1980 بأكثر من 148 مليون دولار. وللصندوق شركات تابعة عديدة وله كذلك أسهم في شركات مختلفة، وقد بلغت ميزانيته عام 1980 ـ 1981 مبلغ 474 مليون دولار.

وللصندوق فرع في الولايات المتحدة مسجل كشركة مساهمة معفاة من الضرائب وهو يعمل كذراع للصندوق في جباية الأموال الإقليمية.

صنــدوق تأســيس فلســطين (كيرين هايسود(

Palestine Foundation Fund (Keren Hayesod)

اسمه بالعبرية «كيرين هايسود» وهو الإدارة المالية الرئيسية للمنظمة الصهيونية العالمية. أنشيء عام 1920 عندما واجهت الحركة الصهيونية مشكلة تمويل مشروعها الاستيطاني في فلسطين بعد صدور وعد بلفور. وقد تضمَّن قرار إنشائه التزام كل يهودي أياً كان موقفه من الصهيونية بدفع ضريبة سنوية بحد أدنى معين للمساهمة في إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين على أن يقوم الصندوق بتوظيف التبرعات والمساهمات المالية المختلفة في استثمارها في مشروعات إنتاجية لا تستهدف الربح في المقام الأول. ومن بين أهم مؤسسيه حاييم وايزمان وفلاديمير جابوتنسكي وإسرائيل سيف. وقد سُجِّل الصندوق عام 1921 كشركة بريطانية، وظل مقره في لندن حتى عام 1926 حين انتقل إلى القدس. وفي عام 1925، انضم الصندوق التأسيسي إلى الصندوق القومي، ومع تأسيس الوكالة اليهودية الموسعة عام 1929 أصبح الكيرين هايسود ذراعها المالية الأساسية.

وقد ظل الصندوق المموِّل الأساسي لنشاطات الوكالة اليهودية في فلسطين في ميادين الاستيطان والتعليم والخدمات الصحية والأمن وشراء الأسلحة، كما مارس دوراً واضحاً في تمويل الهجرة غير الشرعية بعد القيود التي فرضتها بريطانيا عام 1940 على حجم الهجرة اليهودية إلى فلسطين. كذلك شارك في تمويل عدد من المشاريع الاقتصادية مثل شركات المياه والكهرباء والملاحة والطيران والبناء والبنوك الإسرائيلية قبل عام 1948.

وبعد قيام إسرائيل، سخَّر الصندوق موارده لتمويل استيعاب المهاجرين الجدد، وساهم في الفترة بين عامي 1948 و1970 في استيعاب 1.4 مليون مهاجر وكذلك تأسيس 525 مستوطنة زراعية و27 مدينة تطوير.

وقد ساهم الصندوق أيضاً، أثناء حرب عام 1967 وبعدها، في جمع التبرعات اليهودية التي انهمرت على إسرائيل حيث اسفرت الحملة الواسعة عن جمع 150 مليوندولار. كما قام بحملة مماثلة خلال حرب 1973 أسفرت عن جَمْع 273 مليون دولار. وقد تراوح إيراده السنوي منذ ذلك الحين بين 100 و150 مليون دولار. ووصل حجم ما جَمَعه منذ عام 1920 وحتى 1978 نحو 199.3 مليار دولار. وقد استجاب الصندوق لنداء الحكومة الإسرائيلية عام 1977 للمشاركة في مشروع إعادة تأهيل واسعة النطاق لإحياء المهاجرين الفقراء في إسرائيل والتزم بتخصيص مبلغ 200 مليون دولار لهذا المشروع تم جَمْعه خلال خمس سنوات.

وتواجه جبايات الصندوق التأسيسي مشاكل داخلية عديدة تؤثر في أنشطتها وأعمالها ونتائجها مثل الانخفاض الكبير في عدد المتطوعين للقيام بحملات الجباية نتيجة تزايد معدلات الاندماج بين الجماعات اليهودية، وتآكل الفكر الصهيوني، وانخفاض التعاطف مع إسرائيل نتيجة سياستها تجاه النزاع العربي الإسرائيلي، وخصوصاً بعد حرب لبنان ومذابـح صبرا وشتيلا ثم معـالجتها للانتفاضـة الفلسطينية، كما أن توقيع معاهدة السلام مع مصر قد خلق إحساساً بأن أمن إسرائيل مضمون وأن إسرائيل لم تَعُد تحارب من أجل مشاكل أساسية بل من أجل التوسع. وبالإضافة إلى ذلك، هناك إحساس متزايد لدى الجماعات اليهودية بأن مشاكل إسرائيل الاقتصادية غير قابلة للحل وأنأموال الجبايات لن تفيد. كذلك تواجه الجماعات اليهودية في الدول الأوربية (مثل الولايات المتحدة) تغيرات ديموجرافية مهمة وتزايداً في مشاكلها واحتياجاتها الداخلية، الأمر الذي يستدعي تكريس جهود أكبر لمواجهتها. ويضاف إلى كل هذا ظهور مصاعب اقتصادية في الدول المختلفة، الأمر الذي يقلل استعداد الأفراد لتقديم التبرعات، ذلك إلى جانب التنافس الشديد بين المنظمات المختلفة التي تجمع أموالاً لأغراض مختلفة.

والصندوق التأسيسي اليهودي يُعرَف منذ عام 1948 باسم «كيرين هايسود (النداء الإسرائيلي الموحَّد)». ويعمل الصندوق التأسيسي في أكثر من 69 دولة فيما عدا الولايات المتحدة التي تُعَدُّ مجالاً للنداء اليهودي الموحَّد. وقد اكتسب الصندوق صفة الشركة الإسرائيلية بموجب القانون التأسيسي للصندوق الصادر عن الكنيست عام 1956. ويعمل رئيس الصندوق التأسيسي كعضو في اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية، في حين يترأس رئيس النداء الإسرائيلي الموحَّد اللجان التابعة لمجلس حكام (أمناء) الوكالة اليهودية.

النــــــداء الإســـــرائيلي المـــــوحـد

United Israel Appeal (Keren Hayesod)

منظمة صهيونية لجمع التبرعات، أسسها عام 1925 باسم «النداء الفلسطيني الموحَّد» جماعة من الصهاينة الذين انسحبوا من لجنة التوزيع المشتركة التي لم تكن تُرسل أية تبرعات إلى المستوطنين الصهاينة في فلسطين. وظلت المنظمة تقوم بجَمْع التبرعات حتى أواخر عام 1929 حينما قرَّرت الوكالة اليهودية أن يقوم الصندوق التأسيسي اليهودي بحملته الخاصة لجباية الأموال تحت اسم الحملة الفلسطينية الأمريكية. وفي عام 1930، انضم الصندوق التأسيسي إلى لجنة التوزيع المشتركة للقيام بحملة مشتركة باسم النداء اليهودي الموحَّد استمرت لمدة عام. ثم تكررت الحملة مرة أخرى عامي 1934 و1935، وبذلك تحوَّل النداء الفلسطيني (منذ عام 1935) إلى مجرد شبح ليس له وجود حقيقي. وفي عام 1935، تقرَّر بعث النداء الفلسطيني الموحَّد إلى الحياة مرة أخرى بعد أن توقَّف نشاط النداء اليهودي الموحَّد نتيجة قلة التبرعات التي كان يجمعها. وقد تكوَّن النداء الفلسطيني الموحَّد هذه المرة من الصندوق القومي اليهودي والصندوق التأسيسي اليهودي (وحدهما) على أن يقتسم الصندوقان حصيلة التبرعات.

وبسبب الحاجة إلى مبالغ أكبر، انضم النداء الفلسطيني الموحَّد (عام 1939) ولجنة التوزيع المشتركة لتأسيس النداء اليهودي الموحَّد ليكون المنظمة الرئيسية لجباية الأموال لكل منهما. وعندئذ توقَّف النداء الفلسطيني تماماً عن جباية الأموال وأصبح المستفيد الأكبر من أموال النداء اليهودي الموحَّد. وفي عام 1950، غيَّر النداء الفلسطيني اسمه إلى النداء الإسرائيلي الموحَّد. أما في عام 1953، فقد استقل الصندوق القومي اليهودي عن النداء الإسرائيلي الموحَّد، وأصبح النداء الإسرائيلي الموحَّد هو الصندوق التأسيسي اليهودي. ويشكل النداء/ الصندوق، مع لجنة التوزيع المشتركة، منظمة النداء اليهودي الموحَّد حيث يحصل على 80% من الأموال التي يجمعها النداء اليهودي الموحَّد سنوياً.

وبينما أصبح الصندوق التأسيسي اليهودي المنظمة الرئيسية لجباية الأموال بين الجماعات اليهودية في العالم، أصبح النداء اليهودي الموحَّد يتولى ذلك الدور في الولايات المتحدة.

ويقوم النداء الإسرائيلي الموحَّد بتقديم مخصصاته من التبرعات (التي يتلقاها من النداء اليهودي الموحَّد) إلى الوكالة اليهودية التي تحوِّلها بدورها إلى إسـرائيل بعـد أن يـحتفظ بنحو 4% للنفقات الإدارية. وقد تلقَّى النداء الإسرائيلي عام 1985 من النداء اليهودي الموحَّد 324 مليون دولار.

وبالإضافة إلى ما يتلقاه النداء الإسرائيلي الموحَّد سنوياً من النداء اليهودي الموحَّد، يتلقَّى أيضاً دعماً من الحكومة الأمريكية منذ عام 1971 حيث تلقَّى منها في الفترة بين عامي 1972 و1976 ما يقرب من 121 مليون دولار من أجل إعادة استيطان اليهود السوفييت في إسرائيل. وقد بلغ إجمالي ما وصله من الحكومة الأمريكية حتى عام 1985 نحو 308 ملايين دولار.

والنداء الإسرائيلي الموحَّد مُسجَّل في الولايات المتحدة كمنظمة معفاة من الضرائب. ومنذ إعادة تنظيم الوكالة اليهودية عام 1971، أصبح النداء الإسرائيلي ممثَّلاً في أجهزتها القيادية بنسبة 30% ويقوم بالمشاركة في وضع وتحليل ميزانية وبرامج الوكالة ومراقبة عملية إنفاق وتخصيص الموارد المالية.

وحتى عام 1986، كانت البنية الأساسية للنداء الإسرائيلي الموحَّد تضع المنظمة تحت سيطرة المؤسسة الصهيونية الأمريكية. ولكن، مع تزايد الانتقادات الموجهة للوكالة اليهودية بشأن أدائها وكفاءتها، وكذلك الصعوبات المتزايدة في جباية الأموال نتيجة التحولات الديموجرافية في الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة وتزايد احتياجاتها المحلية، أصبحت هناك ضغوط لكي يكون لأعضاء الجماعة والاتحادات اليهودية (وهي أكبر مصدر للأموال للنداء اليهودي الموحَّد ومن ثم النداء الإسرائيلي) دور أكبر في الرقابة على الوكالة اليهودية. ومن ثم، تقرَّر عام 1986 توسيع مجلس مديري النداء الإسرائيلي الموحَّد وتخصيص المقاعد الإضافية لممثلي الاتحادات اليهودية ولقيادات الجماعة اليهودية غير الصهاينة بحيث أصبح لهم الأغلبية داخل المجلس. وسيزيد هذا بلا شك قبضة رقابة النداء الإسرائيلي على الوكالة اليهودية.

ويجب التمييز بين النداء الإسرائيلي/كيرين هايسود (الصندوق التأسيسي) والنداء الإسرائيلي الموحَّد ش. م. وهو الاسم الجديد للوكالة اليهودية في إسرائيل.

النـــــــداء اليهــــــودي المـــــــوحـد

United Jewish Appeal (Keren Hayesod)

ويُطلَق على هذه المنظمة أيضاً اسم «الجباية اليهودية الموحَّدة». والنداء اليهودي الموحَّد منظمة يهودية أمريكية تأسست عام 1939 لتكون الأداة الرئيسية لجباية الأموال لكل من النداء الفلسطيني الموحَّد (الذي أصبح عام 1948 النداء الإسرائيلي الموحَّد) واللجنة اليهودية الأمريكية المشتركة للتوزيع، وذلك لصالح الكيان الصهيوني والنشاط الاستيطاني اليهودي، ولمساعدة الجماعات اليهودية في العالم ـ لكن جُل نشاطها ينصب على القسم الأول فحسب.

وتعود بدايات هذه المنظمة إلى عام 1930، عندما قام كلٌّ من لجنة التوزيع المشتركة والصندوق التأسيسي اليهودي بتوحيد جهودهما لجباية الأموال والقيام بحملة موحَّدة تحت اسم النداء اليهودي المتحالف، ولم يستمر هذا الجهد المشترك سوى عام واحد بسبب قلة ما تم جمعه. وتكررت المحاولة عامي 1934 و1935 تحت اسم النداء اليهودي الموحَّد ولكنها توقفت أيضاً بسبب قلة التبرعات وفشل محاولة تجميع كل التنظيمات اليهودية في تنظيم واحد. وفي عام 1938، وصل عدد الهيئات اليهودية التي تجمع التبرعات في الولايات المتحدة 992 هيئة تعمل لحساب النداء الفلسطيني الموحَّد ولجنة التوزيع المشتركة إلى جانب 156 صندوق إنعاش يهودي تخصَّص مواردها لتنظيمات أخرى. وبحلول عام 1939، واستجابة لتصاعد الأزمة في أوربا، انضمت لجنة التوزيع المشتركة والنداء الفلسطيني الموحد وهيئة خدمة اللاجئين القوميين (التي كانت تُسمَّى آنذاك صندوق لجنة التنسيق القومية) لتأسيس النداء اليهودي الموحَّد. وهكذا تشكلت أكبر هيئة لجباية التبرعات في الولايات المتحدة. وفي عام 1948، جمع النداء اليهودي الموحَّد ما يقرب من 200 مليون دولار. وبعد تأسيس إسرائيل، أصبح النداء اليهودي الموحَّد يضم كلاًّ من النداء الإسرائيلي الموحَّد/الصندوق التأسيسي (الكيرين هايسود) ولجنة التوزيع المشتركة. ويتلقى النداء اليهودي الموحد ما بين 50% و60% من مجموع التبرعات المحصلة عبر الحملة المركزية الموحدة مع الاتحادات اليهودية وصناديق الإنعاش التي تُخصِّص النسبة المتبقية للاحتياجات والخدمات المحلية للجماعة اليهودية. وتُقسَّم حصيلة التبرعات على النحو التالي:

يخصِّص النداء اليهودي 80% من حصيلة التبرعات للنداء الإسرائيلي الموحَّد/الصندوق التأسيسي، ويخصص من المبلغ المتبقي 10% أو 12% للجنة التوزيع المشتركة و3% لرابطة نيويورك للأمريكيين الجدد وخدمة هياس المتحدة.

ويقوم النداء الإسرائيلي الموحَّد بتسليم حصته للوكالة اليهودية التي تخصِّصه لإسرائيل كما تنفق لجنة التوزيع المشتركة 32% من حصتها في إسرائيل والجزء الآخر يخصص للجماعات اليهودية في العالم.

وقد تأسَّست عام 1967 جمعية تابعة باسم صندوق الطوارئ الإسرائيلي تذهب كل حصيلته إلى إسرائيل. وقد بلغ مجموع التبرعات التي جمعها النداء اليهودي الموحَّد حتى عام 1980 نحو 5.1 مليار دولار أرسل معظمها إلى إسرائيل إما مباشرة أو عن طريق غير مباشر. وتحصل الأحزاب على حصص بشرط ألا يكون لها جبايتهاالخاصة. وقد بلغ نشاط النداء اليهودي ذروته في جباية المال في أعقاب حرب 1973 حيث تم جَمْع 660 مليون دولار. وبحـلول عام 1979، انخفضت جبايات الحملة المركزية بمقدار 27%، وهي تبلغ الآن حوالي نصف مليار دولار سنوياً. فصغار المسـاهمين من الجـماهير اليهـودية لا يتبرعــون للدولة الصهيونية تقريباً. وقد لوحظ أن كبار المتبرعين هم عدة أفراد تم استئناسهم واستيعابهم في المنظومة الصهيونية لأسباب غير عقائدية، فمعظم كبار المتبرعين من كبار السن أي أن خلفيتهم أوربية وعندهم حينئذ "البلد القديم" والهوية القديمة. كما أن كثيراً منهم يظن أن تبرعاته من قبيل الإحسان (الصدقة). ولكن ما يهمنا هنا أن كون المتبرعين مسنين يعني أن رحيلهم سيؤدي إلى تسارع نضوب المصادر المالية الحالية. ويُلاحَظ أن من أهم مصادر التمويل في الوقت الحالي التركات التي يوصي بها كبار المتبرعين للمنظمة الصهيونية. ورغم أن هذه التركات تحل كثيراً من المشاكل إلا أنها في نهاية الأمر "تبرع أخير" لن تليه تبرعات أخرى.

والنداء اليهودي الموحَّد هيئة خيرية معفاة من الضرائب وفقاً للقانون الأمريكي، وذلك رغم أنها تُعتبَر بالفعل ذراع الحكومة الإسرائيلية لجباية الأموال. وهذا دليل علىالعلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، قاعدتها في الشرق الأوسط. ومع ذلك، فإن أموال النداء تستخدم كأداة للضغط على إسرائيل إن أرادت أن تتخذ موقفاً مستقلاًّ عن الخط الإمبريالي.

ويدير النداء اليهودي الموحَّد مجلس أمناء من 43 عضواً يختار أغلَبهم لجنةُ التوزيع المشتركة والنداء الإسرئيلي الموحَّد ومجلس الاتحادات اليهودية. ولتعزيز قدرته على جباية الأموال من قطاعات متخصِّصة من أعضاء الجماعة، أنشأ النداء اليهودي الموحَّد عدة عناصر تنظيمية أساسية هي قسم النساء الذي أُسِّس سنة 1946 (ويُقال إن 200 ألف امرأة تشارك في نشاطه لجباية التبرعات)، ومجلس قيادة الشباب الذي أُسِّس عام 1977 ويعمل على تنمية الانتماء الديني الثقافي اليهودي لدى الشباب من خلال المؤتمرات والحوارات والبعثات إلى إسرائيل، ومجلس الحاخاميين الذي تأسس عام 1972 لتعزيز دعم القيادة الحاخامية لحملات النداء اليهودي (المحلية والقومية) الحاخامية من خلال التربية والالتزام الشخصي ولاستغلال الموارد الحاخامية لمصلحة النداء اليهودي وإسرائيل، ثم مجلس الهيئة التعليمية الذي أُسِّس عام 1975 ودائرة البرامج الجامعية التي أُسِّست سنة 1970 وكلاهما يهدف إلى بلورة التزام يهودي داخل الجامعة الأمريكية.

الشركة الاقتصادية الإسرائيلية

Israel Economic Corporation

شركة أمريكية تأسَّست عام 1926 باسم الشركة الاقتصادية الفلسطينية على يد مجموعة من أثرياء اليهود الأمريكيين، على رأسهم لويس برانديز وهربرت ليمان ولويس مارشال وفليكس واربورج، بغرض تنمية البنية الاقتصادية للتجمع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين وتشجيع أثرياء اليهود الأمريكيين وغيرهم على استثمار أموالهم في مشاريع تجارية وصناعية وزراعية في فلسطين. وكان لويس برانديز قد انسحب من المنظمة الصهيونية الأمريكية عام 1921 احتجاجاً على فكرة تكوين الصندوق التأسيسي اليهودي لتمويل المشاريع الاقتصادية في فلسطين بدلاً من تشجيع الاستثمار الخاص بها (ولهذا، فقد كان برانديز من أوائل المؤيدين لتأسيس هذه الشركة التي تهدف إلى جني الأرباح). وقد ضمت الشركة الأصول التي كانت مملوكة للشركة التعاونية الفلسطينية واللجنة اليهودية الأمريكية للتوزيع المشترك في فلسطين.

وقد سـاهمت الشركة في تأسـيس أكثر من 90 مشروعاً في فلسطين، ثم في إسرائيل فيما بعد، من بينها صناعات الكيماويات والورق والبلاستيك ومنتجات الموالح. كذلك ساهمت الشركة في تمويل خـط أنابيب إيلات ـ حيـفا وتمويل عــمليات التصدير والاستيراد.

وقد وصل دَخْل هذه الشركة عام 1982 إلى 14.4 مليون دولار، وتشمل موجوداتها مشاريع مالية ومصرفية وصناعية وسياحية وتكنولوجية متقدمة، بالإضافة إلى مشـاريع هندسـية وإنمائية ومشـاريع شـحن وتسـويق.

منظمــة ســندات دولــة إســرائيل

State of Israel Bonds Organization

منظمة يهودية تهدف إلى "توفير الأموال على نطاق واسع من أجل تنمية دولة إسرائيل اقتصادياً ببيع سندات دولة إسرائيل في الولايات المتحدة وكندا وأوربا الغربية وغيرها من دول العالم". وقد كان الغرض المباشر من تأسيسها عام 1951 تدبير الموارد المالية للحكومة الإسرائيلية لمواجهة تدفُّق مئات الآلاف من المهاجرين الجدد على الكيان الصهيوني. وقد عقد بن جوريون اجتماعاً عام 1950 مع تسعة وخمسين زعيماً يهودياً أمريكياً لبحث وضع إسرائيل الاقتصادي وضرورة إيجاد قناة أخرى للتمويل غير التبرعات "التي لم تَعُد كافية لمواجهة حاجات إسرائيل الاقتصادية بعيدة المدى". وقد تقرَّر أن تقوم إسرائيل بإطلاق حملة لقرض شعبي في الولايات المتحدة كوسيلة للحصول على المبالغ اللازمة. ولإنجاز ذلك، تم تأسيس الشركة المساهمة الأمريكية المالية والإنمائية لإسرائيل التي أصبحت تُعرَف باسم «منظمة سندات دولة إسرائيل». ومن بين الشخصيات اليهودية الأمريكية التي كانت بمنزلة القوة المحركة وراء تأسيس هذه المنظمة، هنري مورجنتاو (الابن) وزير الخزانة الأمريكية الأسبق ورئيس النداء اليهودي الموحَّد آنذاك والذي نجح في الحـصول على موافـقة الحـكومة الأمريكـية على فكـرة إنشاء المنظمة.

ومنظمة سـندات إسرائيل هي شـركة اسـتثمار تدار كمصلحة تجارية، ولذلك فهي غير معفاة من الضرائب. وهي تبيع سندات إسرائيل بفائدة تتراوح بين 4% و7% ويُستحق تسديدها خلال خمسة عشر عاماً. ويتم تحويل حصيلة بيع هذه السندات إلى وزارة المالية الإسرائيلية حيث تصبح جزءاً من ميزانية إسرائيل للتنمية. وتعمل المنظمة عن كثب مع الحكومة الإسرائيلية التي تقوم بإبلاغ المنظمة بحجم احتياجاتها، وخصوصاً في حالات الطوارئ، كما تتعهد المنظمة بجباية المبلغ.

وقد تم حتى الآن بيع سندات بما قيمته ستة بلايين دولار وتسديد ما قيمته ثلاثة بلايين دولار. وقد ذهبت هذه المبالغ نحو تنمية القطاعين الزراعي والصناعي في إسرائيل واستغلال الموارد الطبيعية وتطوير ميناءي إيلات وحيفا وبناء ميناء أشدود وخط أنابيب البترول وإقامة محطات الكهرباء والمرافق السياحية ومجمع للبترو كيماويات وغير ذلك من المشاريع الإنمائية.

وقد بيعت سندات إسرائيل في أكثر من 35 دولة، ولكن 85% منها (منذ تأسيس المنظمة) بيعت في الولايات المتحدة وحدها. والمنظمة تستهدف السوق الأمريكية كلها ولا تقتصر فقط على أعضاء الجماعة اليهودية، وهي تعرض السندات على المستثمرين اليهود بوصفها أقـوى وأقـصر وسيلة للارتـباط بإسرائيل وسكانها ومستقبلها. أما لغير اليهود، فهي تؤكد أنها "توسِّع مشتريات إسرائيل من المنتجات الأمريكية"، وبالتالي فإنها تؤمِّن الأعمال وفرص المبادلة التجارية للأمريكيين، وذلك بالإضافة إلى أنها تدعم اقتصاد إسرائيل.

وتعتمد المنظمة في بيع سنداتها على نفس أساليب منظمات جباية الأموال، أي الحفلات الاجتماعية والبعثات إلى إسرائيل والاجتماعات والندوات. كما أنشأت المنظمة نادي رئيس الوزراء الذي يضم كبار مشتري السندات حيث يتم تكريمهم بتقليدهم الأوسمة. كذلك حرصت المنظمة على التوجه إلى عالم الشركات، فأنشأت في أوائل السبعينيات برنامج سندات إسرائيل للشركات واشترت عدة شركات أمريكية عام 1982 بما قيمته 160 مليون دولار من سندات المنظمة. والمقر الرئيسي للمنظمة في مدينة نيويورك، ولها مكاتب في مدن أخرى.

الصندوق الإسرائيلي الجديد

New Israel Fund

تم تأسيس هذا الصندوق عام 1979. وهو معفي من الضرائب. ويُشكِّل هذا الصندوق محاولة من جانب العناصر الساخطة والمعتدلة داخل الحركة الصهيونية لإنشاء شبكة تبرعات خاصة بها تقوم بتمويل الجماعات ذات الاتجاهات السياسية المماثلة داخل إسرائيل، ولا يموِّل الصندوق أية نشاطات صهيونية خارج الخط الأخضر، ويرسل اعتمادات إلى منظمات مثل هيئة الحقوق المدنية في إسرائيل. ويؤيد الصندوق جماعة السلام الآن. ويمكن النظر إليه على أنه الجباية اليهودية الموحَّدة الخاصة بالجمعيات التي تحاول التملص من الصهيونية مثل الأجندة اليهودية الجديدة.

يهودية دفتر الشـيكات

Checkbook Judaism

«يهودية دفتر الشيكات» مصطلح شائع في الأوساط اليهودية الدينية وغير الدينية في الولايات المتحدة، وهو يشير إلى أن كثيراً من يهود الولايات المتحدة قد فَقَدوا انتماءهم الديني الحق، ولم يعودوا يؤمنون بالعقيدة الدينية وإنما يتمسكون ببعض الرموز الإثنية تعبيراً عن هويتهم الدينية، ويتصورون أن إسرائيل هي كنيسهم وأن رئيس وزرائها هو حاخامهم الأكبر. وبالتالي، يأخذ الإيمان بالنسبة لهم شكل الانتماء إلى المنظمات الصهيونية، ويصبح الطقس الأكبر في هذه العبادة هو دفع المعونات والتبرعات للدولة الصهيونية، أي أن هذا النوع من الانتماء اليهودي يعبِّر عن نفسه من خلال دفتر الشيكات، وهو أمر لا يختلف كثيراً عن التحول عن عبادة الإله الواحد إلى عبادة العجل الذهبي (وهذا هو رأي كثير من الحاخامات الذين يرفضون هذا الاتجاه).

يهــود النفقـــة

Alimony Jews

«يهود النفقة» مصطلح وضعه أحد الحاخامات ليصف به يهود الولايات المتحـدة الذين ابتعدوا عن يهوديتهم تماماً واندمجوا في مجتمعـهم، ولكنهم مع هـذا يحاولون الإصرار على هويتهم اليهودية، أو على بقايا منها، ويخافون أن يُشهَّر بهم أو أن يُشار إليهم على أنهم مندمجون منعدمو الهوية، كما يرون أن الطريقة المُثلى العملية لتحقيق هذه الأهداف هي دَفْع تبرعات للدولة الصهيونية التي تطاردهم للحصول على أموالهم. ولكنهم، في واقع الأمر، مضطرون إلى دفع التبرعات حتى لا يُشهَّر بهم، فالدافع إلى الدفع ليس الحب وإنما خشية الفضيحة. وبالتالي، فإن يهود الولايات المتحدة مثلهم مثل من طلَّق زوجته (أي يهوديته) ويود أن يكسب سكوتها بدفع النفقة المفروضة عليه حتى يمكنه أن يستمر في حياته الجديدة.

وقد استخدم آرثر هرتزبرج صورة عكسية تماماً، إذ قارن علاقة يهود الولايات المتحدة بإسرائيل بعلاقة الرجل بعشيقته، يغدق عليها الأموال ويشتري لها أحلى الثياب ويضاجعها، ولكنه لا يسكن معها ويعود إلى زوجته أم أولاده، أي الولايات المتحدة. وسواء أكان ما يدفعه اليهودي هو النفقة للزوجة المطلقة أو النقود للعشيقة، فإن العلاقة ليست كاملة بأية حال ويدخل فيها عنصر نفعي، الأمر الذي يستبعد الولاء الكلي. وقد لاحَظ بن جوريون نفسه أن صهيونية يهود الولايات المتحدة ليست إلا غطاء لمعدلات الاندماج المرتفعة بينهم.

الجزء الرابع: الصهيونية والجماعات اليهودية

الباب الأول: موقف الصهيونية وإسرائيل من الجماعات اليهودية في العالم

العداء الصهيوني لليهود

Zionist Anti-Semitism

الصهيونية، شأنها شأن العداء لليهودية، هي إحدى تجليات الرؤية المعرفية العلمانية الشاملة، وقد تبلورت الأفكار الصهيونية والمعادية لليهود في أوربا في القرن التاسع عشر، وهي الحقبة التاريخية التي تبلورت فيها النظرية العرْقية الغربية الخاصة بالتفاوت بين الناس بسبب الاختلاف بينهم في خصائصهم التشريحية والعرْقية والإثنية ومن ثم نجد أن الرؤية الكامنة في كل من الصهيونية ومعاداة اليهود واحدة. وأن كثيراً من مقولات الصهيونية هي مقولات عرْقية معادية لليهود.

ويرى الصهاينة أن معاداة اليهود ظاهرة طبيعية ورد فعل طبيعي وحتمي لوجود اليهود كجسم غريب في المجتمعات المضيفة. وقد نشأت صداقة عميقة بين حاييم وايزمان وريتشارد كروسمان (الزعيم العمالي البريطاني) حين اعترف هذا الأخير بأنه "معاد لليهود بالطبع". وقد كان تعليق وايزمان على ذلك: لو قال كروسمان غير ذلك فإنه يكون إما كاذباً على نفسه أو كاذباً على الآخرين. وقد وصف المفكر الصهيوني جيكوب كلاتزكين العداء لليهود بأنه دفاع مشروع عن الذات. وقد ميَّز هرتزل بين العداء الحديث لليهود وبين التعصب الديني القديم، ووصف هذا العداء الحديث بأنه "حركة بين الشعوب المتحضرة" تحاول من خلالها التخلص من شبح يطاردها من ماضيها. بل يرى الصهاينة أن هذه المعاداة هي أحد ثوابت النفس البشرية، فهي تشبه المطلق الأفلاطوني أو المرض المستعصي. وقد عبَّر شامير عن معاداة البولنديين لليهود، فأشار إلى أنهم يرضعونها مع لبن أمهاتهم. ويعادل شامير بذلك بين الفعل الأخلاقي والفعل الغريزي البـيولوجي، وهـو ما يبين أنه يدور في إطار الحلولية بدون إله، وهذا ما يفعله أيضاً نوردو ووايزمان وهتلر. فقد وصف وايزمان معاداة اليهود بأنها مثل البكتيريا التي قد تكون ساكنة أحياناً، ولكنها حينما تسنح لها الفرصة فإنها تعود إليها الحياة، وهكذا لا يميِّز الصهاينة بين الأشكال المختلفة لمعادة اليهود وإنما يرونها كلاًّ عضوياً واحداً يتكرر في كل زمان ومكان، كما يرون عدم جدوى الحرب ضد هـذه الظاهـرة باعتبارها أحـد الثوابت وإحدى الحتميات.

والموقف الصهيوني من اليهود، كما أسلفنا، لا يختلف في أساسياته عن موقف المعادين لليهود:

1 ـ فكلا الموقفين يَصدُر عن الإيمان بأن اليهود شعب عضوي له عبقريته الخاصة وأن ثمة جوهراً يهودياً هو الذي يميز اليهودي عن غيره من البشر، وأن هذا الجوهر لا يتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان، فاليهود دائماً يهود. ومن هنا، فإن تَصرُّف اليهودي كالأغيار هو تَصرُّف مصطنع لا يعبِّر عن اندماجه في مجتمعه وتمثُّـله قيمه وإنما يعبِّر عن ازدواجية في الذات. ومهما يكن ما يبديه اليهودي من ولاء لوطنه، فهو ولاء مشكوك فيه. ومن هنا يحارب الصهاينة وأعداء اليهود ضد اندماج أعضاء الجماعات اليهودية في مجتمعاتهم. وقد نادى الصهاينة بضرورة رفض "سم الاندماج" أو "الهولوكوست الصامت". وكذلك، فإن المعادين لليهود يرون أن اليهودي المندمج يقلد الأغيار كالببغاء، فهو شخصية خطرة غير أصيلة تهدد نسيج المجتمع، وهو خطر حتى دون أن يدري. ولهذا كان النازيون يتعاملون مع الصهاينة فقط لإصرارهم على هويتهم اليهودية.

2 ـ يرى الفريقان أن اليهود شعب عضوي لا يمكن أن يهدأ له بال إلا بأن يستـقر في الأرض التـي يرتبط بـها بربـاط أزلي عضوي. ومن هنا، يرفض المعادون لليهود، وكذلك الصهاينة، الكفاح من أجل إعطاء اليهود حقوقـهم السياسـية والمدنية الكاملـة في أوطانهـم، وبالتــالي فلابد من "هجـرة" اليهود إلى فلسـطين أو "طـردهم" إليها. ومهما كان المصطلح أو المسوغ، فإن الحركة المثلى المقترحة واحدة، وهي نقل اليهود من أوطانهم الفعلية إلى وطنهم القومي العضوي الوهمي. والواقع أن فكرة «الشعبالعضوي» تحوي أيضاً فكرة «الشعب العضوي المنبوذ»، وهي أساس تحالف الصهاينة والمعادين لليهود فكلاهما يهدف إلى إخلاء أوربا منهم.

3 ـ إذا كان اليهود يشكلون في رأي الصهاينة، كلاًّ عضوياً يعبَّر عنه في الإنجليزية بكلمة «جوري Jewry»، فإنهم مترابطون ترابطاً عضوياً لا فرق فيه بين الكل والجزء. ولذا، يتحدث الصهاينة عن «العبقرية اليهودية» باعتبارها تعبير الجزء عن الكل. وهم أيضاً يرون أن الهجوم على أية جماعة يهودية هو هجوم على الشعب اليهودي بأسره، بغض النظر عن الظروف التاريخية. ويتبنى أعداء اليهود النظرة نفسها، فهم يرون تماثل الجزء والكل، وحينما يرتكب مجموعة من اليهود جرماً معيناً أو ينتشر بينهم الفسـاد، فإن هذا يَصلُح أساسـاً للتعمـيم على كل اليهود. وفي الواقع، فإن الحديث عن جرائم اليهود يشبه تماماً الحديث عن عبقريتهم.

4 ـ تبنَّى الصهاينة كثيراً من مقولات المعادين لليهود في الغرب، وكثيراً من صورهم الإدراكية النمطية، وتزخر الكتابات الصهيونية بالحديث عن الشخصية اليهودية المريضة غير الطبيعية والهامشية وغير المنتجة التي لا تجيد إلا العمل في التجارة. بل إن ماكس نوردو، ومن بعده هتلر، طبَّق الصورة المجازية العضوية لا على معاداة اليهود بل على اليهود أنفسهم، فقد شبههم بالكائنات العضوية الدقيقـة التي تظـل غير مؤذية على الإطـلاق طـالما أنها في الهواء الطلق، لكنها تُسبِّب أفظع الأمراض إذا حُرمت من الأكسجين، ثم يستطرد هذا العالم العنصري ليحذر الحكومات والشعوب من أن اليهود يمكن أن يصبحوا مصدراً لمثل هذا الخطر. وقد ذكر يهودا جوردون أن تفوُّق اليهودي المستنير يكمن في أنه يعترف بالحقيقة، أي يَقْبل اتهامات المعادين لليهود. وقد قال برنر: " إن مهمتنا الآن هي أن نعترف بوضاعتنا منذ بدء التاريخ حتى يومنا هذا " فاليهود شعب نصف ميت يعيش بقيم السوق، لا يمانع في حياة كحياة النمل أو الكلاب، مصاب بطاعون التجول " ـ ويمكن أن نجد عبارات مماثلة أو أكثر قسوة في الأدبيات الصهيونية. ومن هنا، يؤمن الصهاينة بضرورة تطبيع الشخصية اليهودية حتى تتفق مع نمط الشخصية غير اليهودية الطبيعية السوية.

5 ـ لا يقل عداء الصهاينة لليهودية عن عدائهم لليهود، فقد رفضوا العقيدة اليهودية وحاولوا علمنتها من الداخل (انظر: «الرفض الصهيوني لليهودية»)

ومع هذا، يرى بعض الصهاينة أن معاداة اليهود بين الأغيار هي وحدها التي أدَّت إلى بقاء الشعب اليهودي، أي أن عضوية الشعب أو مصدر تماسكه العضوي ليس شيئاً جوانياً (الهوية اليهودية ـ التراث اليهودي) وإنما شيء براني: عداء اليهود. ولكل هذا، فإن الصهاينة يعتبرون أعداء اليهود حلفاء طبيعيين لهم وقوة إيجابية في نضالهم «القومي» لتهجير اليهود من أوطانهم. ولذا، كان تيودور هرتزل على استعداد للتعاون مع فون بليفيه وزير الداخلية الروسي، كما تحالف فلاديمير جابوتنسكي مع الزعيم الأوكراني بتليورا الذي ذبحت قواته آلاف اليهود بين عامي 1918 و1921، وتعاون الصهاينة مع النازيين داخل ألمانيا وخارجها. ويتحالف الصهاينة في الوقت الحالي مع الجماعات الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة والمعروفة بعدائها العميق لليهود. بل إن المؤسسة الصهيونية تستخدم أحياناً وسائل المعادين لليهود لحَمْل اليهود على الهجرة، كما حدث في العراق عام 1951 حين ألقـى العمـلاء الصهاينة بالقنابل على المعـبد اليهـودي في بغداد. وعلى كلٍّ، فقد صرح كلاتزكين بقوله: "إنه بدلاً من إقامة جمعيات لمناهضة المعادين لليهود الذين يريدون الانتقاص من حقوقنا، يجدر بنا أن نقيم جمعيات لمناهضة أصدقائنا الراغبين في الدفاع عن حقوقنا".

وقد استمرت ظاهرة معاداة الصهيونية لليهود بعد تأسيس الدولة الصهيونية، بل يُلاحَظ أنها ازدادت حدةً وتبلوراً بين أعضاء جيل الصابرا (أي أبناء المستوطنين الصهاينة المولودين في فلسطين). فهؤلاء ينظرون إلى «يهود المنفى» (أي يهود العالم) من خلال مقولات معاداة اليهودية وصورها النمطية. ويزخر الأدب الإسرائيلي بأعمال أدبية تَصدُر عن رفض ثقافي وأخلاقي بل وعرْقي عميق ليهود الخارج.

ومع هذا، يمكن القول بأن الصهاينة، بجميع اتجاهاتهم، قد أساءوا تقدير مقدار قوة معاداة اليهود ومدى استمرارها. إذ تصوُّروا أن عداء اليهود سيستمر في التفاقم حتى يضطر كل يهود العالم أو معظمـهم للهجرة إلى فلسـطين. وغني عن القـول أن هـذه النبوءة لم تتحقق، ولا يوجد احتمال لتحقُّقها في المستقبل القريب. فالأغلبية العظمى من يهود العالم هاجرت إلى الولايات المتحدة ولا تزال متجهة إلى هناك. ولم يتجه اليهود إلى فلسطين إلا في الفترة بين عامي 1930 و1940 حينما كانت كل الأبواب الأخرى موصدة دونهم. أما في الفترة من عام 1950 إلى عام 1960، فقد هاجر يهود البلاد العربية في ظل ظروف خاصة لا علاقة لها بعداء اليهود ولكنها ناجمة بالدرجة الأولى عن التوتر مع الدولة الصهيونية. كما أن هجرتهم إلى الدولة الصهيونية لم تكن بالضرورة نتيجة حركة طرد من المجتمعات العربية بقدر ما كانت حركة جذب من مجتمع آخر يتاح لهم فيه تحقيق قدر أكبر من الحراك الاجتماعي. والواقع أن عداء اليهود ظاهرة آخذة في الاختفاء برغم ادعاءات الصهاينة، وبرغم أوهام بعض أعضاء الجماعات اليهودية. وقد لاحظ أحد المراقبين أنه على الرغم من أن المناصب المهمة كافة متاحة أمام يهود الولايات المتحدة، فإن ما يُقدَّر بنحو ثلث عددهم يجهل هذه الحقيقة وينكرها. وقد علق برنارد أفيشاي على هذا الوضع فذكر أن سارتر قال إنه حينما لا يكـون هـناك يهود فإن أعـداء اليهود يخترعونهم كضرورة ملحة. أما بالنسبة ليهود أمريكا، فقد انقلبت الآية، فحينما لا يوجد أعداء لليهود، فإن اليهود يخترعونهم كضرورة ملحة أيضاً. ولعل أكبر دليل على ضمور ظاهرة معاداة اليهود،ارتفاع معدلات الزواج المُختلَط والاندماج بين أعضاء الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة وروسيا السوفيتية وأمريكا اللاتينية وكندا وجنوب أفريقيا وإنجلترا وفرنسا،أي في أية بقعة من العالم يوجد فيها يهود.

أما بوروخوف، مؤسس الصهيونية العمالية، فقد تنبأ بأن المهاجرين اليهود إلى الولايات المتحدة سيمرون بالتجربة نفسها التي مروا بها في المجتمعات الأوربية إذ سيتركزون على قمة الهرم الإنتاجي، وبالتالي سيصبحون مرة أخرى محط كراهية الجماهير وقد يتم طردهم. ورغم أن اليهود تركزوا في الولايات المتحدة، في قمة الهرم الإنتاجي، فلم ينجم عن ذلك أية معاداة لليهود وذلك بسبب الطبيعة الطبقية والسياسية للمجتمع الأمريكي الذي يَتقبَّل بناؤه أية عناصر بشرية جديدة طالما ثبت نفعها وقدرتها على الإسهام في الإنتاج. وقد تغيَّرت طبيعة الهرم الإنتاجي نفسه في الولايات المتحدة بحيث لا توجد سوى نسبة ضئيلة من العمالة في الزراعة، كما أن الصناعة نفسها قد تحولت بحيث أصبحت تتطلب مهارات هندسية عالية وتجعل العاملين فيها مختلفين تماماً عن أعضاء الطبقة العاملة التي تتركز في قاعدة الهرم التقليدي. ويُلاحَظ كذلك أن حجم الخدمات الاقتصادية أصبح ضخماً، الأمر الذي يعني أن قاعدة الهرم ليست بالضرورة أكثر أهمية من قمته أو أكثر ضخامة منها.

أما آحاد هعام، مؤسس الصهيونية الثقافية، فقد تنبأ بأن الدولة الصهيونية ستشكل مركزاً يساعد اليهود على الاحتفاظ بهويتهم أمام هجمات أعداء اليهود وإغراء الاندماج. ولكن ها هو ذا المركز قد تأسَّس وليست له علاقة كبيرة بيهود العالم. فيهود الولايات المتحدة يصوغون هويتهم ويتمتعون بحياتهم الاستهلاكية العلمانية دون الرجوع إلى الدولة الصهيونية العبرية. وقد ادعت الصهيونية ككل أنها ستؤسس دولة تحمي أعضاء الجماعات اليهودية ضد هجمات أعداء اليهود، ولكن ثبت أنها عاجزة عن ذلك تماماً. وحينما اقتربت قوات روميل من الإسكندرية، لم يفكر أعضاء المُستوطَن الصهيوني آنذاك في كيفية حماية يهود الإسكندرية، وإنما فكروا في الانتحار. والدولة الصهيونية لا يمكنها في الوقت الحاضر حماية يهود كومنولث الدول المستقلة (الاتحاد السوفيتي سابقاً). وفي 8 سبتمبر 1988، صرح شامير بأن إسرائيل لا يمكنها أن تحارب العالم بأسره، وقارن بين الشيوعية العالمية والصهيونية العالمية قائلاً: إن الاتحاد السوفيتي ركز جل قواه على بناء الدولة الاشتراكية، ولم يهتم ببناء الاشتراكية في العالم بالدرجة نفسها، وقد كان يفضل دائماً مصلحة الدولة السوفيتية على مستقبل الحركة الشيوعية في العالم. وهـو يرى أن الدولة الصهـيونية ستـحارب ضـد مـعاداة اليهود، ولكنها لن تصبح القوة العظمى في تلك الحرب التي ستقوم بهـا المنظمات اليــهودية "فنحن بلد صغير" على حد قوله. ومع ذلك، فإن من الضروري أن نضيف أن الدولة الصهيونيةتزيد من حدة ظاهرة عداء اليهود بسبب لجوئها إلى العنف والإرهاب في تصفية حساباتها. ولا شك في أن مشاعر الاستياء نحو اليهود ستتزايد بعد الانتفاضة، وبعد عمليات القمع الرهيبة التي تقوم بها الدولة التي تُسمِّي نفسها «يهودية»، وخصوصاً أن أعداداً كبيرة منهم قد قرنوا أنفسهم بهذه الدولة وتوحدوا بها منذ عام 1967.

مركزيــــة إســـرائيل في حيـــاة الدياســـبورا

Centrality of Israel in the Life of the Diaspora

«مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا» عبارة تعني أن مركز الحياة اليهودية في العالم بأسره هو إسرائيل (فلسطين). وتضفي الرؤية اليهودية الدينية على إرتس يسرائيل صفة محورية في حياة اليهود، فكان على اليهودي أن يحج ثلاث مرات في العام لتقديم القرابين للإله في الهيكل القائم في القدس. وقد قام الصهاينة بعلمنة هذه العقيدة فنادوا بضرورة أن تصبح الدولة الصهيونية مركز حركية الجماعات اليهودية في العالم، وأن تكون الدولة الصهيونية الملجأ الوحيد لليهود، وبأن تقوم وحدها بالدفاع عنهم، وقالوا إن الحروب التي يخوضها المستوطنون الصهاينة إنما تهدف إلى الدفاع عن كل يهود العالم. ويرى الصهاينة أن الدولة الصهيونية هي التي تساعد يهود العالم في الحرب ضد خطر الاندماج وفي الحفاظ على الهوية اليهودية، وأنها هي التي تضمن استمرار التراث اليهودي وتطوُّره، وتحسن صورة اليهود أمام الأغيار، فبدلاً من صورة اليهودي التاجر والمرابي والجبان تأكدت صورة اليهودي باعتباره المقاتل الشرس وبذا يستعيد اليهودي احترامه لنفسه بعد أن فقده بسبب آلاف السنين من النفي. وتقوم المنظمة الصهيونية بإشاعة هذه الرؤية فتبيِّن مدى مشاركة الجماعات اليهودية في بناء إسرائيل ودعمها والالتفاف حولها، ومدى تَحمُّسهم أثناء الحروب الإسرائيلية المتتالية، وذلك حتى يشعروا بأنهم جزء من إسرائيل وحتى يتعمق لديهم الإحساس بازدواج الولاء.

وفكرة مركزية إسرائيل عند بعض الصهاينة الأوائل من دعاة الصهيونية السياسية كانت تعني ضرورة تَساقُط الأطراف تماماً (أي تصفية الدياسبورا). ولكن دعاةالصهيونية الإثنية، الدينية والعلمانية، يذهبون إلى أن مركزية إسرائيل هي مركزية ثقافية بالدرجة الأولى. ولكن دبنـوف، وبعـده دعاة ما يُسـمَّى «قومية الدياسبورا» (أو القومية اليديشية)، عارض هذه الفكرة طارحاً بدلاً منها فكرة المركز الثقافي المتنقل من عاصمة إلى أخرى بحسب مدى ازدهار الجماعات اليهودية حضارياً وثقافياً، فالمكان الأكثر حضارة وثقافة هو الذي يشكل المركز. ولكن هذا المكان ليس بالضرورة فلسطين أو إرتس يسرائيل (فقد يكون الأندلس أو بابل أو روسيا أو الولايات المتحدة)، غير أن الصهيونية تحارب مثل هذه التعددية .

وقد ازداد مفهوم مركزية إسرائيل أهميةً بعد ظهور الصهيونية التوطينية التي تُسمَّى «صهيونية الدياسبورا». وبعد إحجام الجماهير اليهودية عن الهجرة إلى أرض الميعاد، يصبح الإيمان بمركزية إسرائيل بديلاً للاستيطان الفعلي، فهو يُشبع الحنين اليهودي إلى صهيون دون أن تُترجَم هذه العاطفة إلى سلوك أو فعل. وقد أصبح تأكيد مركزية إسرائيل حجر الأساس الآن في البرنامج الصهيوني في الولايات المتحدة .

وتفترض مركزية إسرائيل هامشية أعضاء الجماعات، وضرورة تصفيتها، أو على الأقل تحويلهم إلى أداة تُستخدَم. ولكن واقع أعضاء الجماعات اليهودية في العالم يُثبت زيف هذا المفهوم، كما يثبت أن هذا المفهوم ينتمي إلى عالم الأحلام والأماني وربما الأوهام، إذ أن الدولة الصهيونية لا تؤثر كثيراً في الحياة الثقافية أو حتى الدينيةللأمريكيين اليهود. والواقع أن أعضاء الجماعات اليهودية قد يتحدثون قولاً عن مركزية إسرائيل، ولكنهم يسـلكون حسـبما تمليه مصلحتهم ورؤيتهم علىهـم. وغني عن القول أن الدولة الصهيونية لا يمكنها أن تدافع عن أعضاء الجماعات اليهودية ولا أن تُحسِّن صورتهم العامة، إذ أن ما يحدد هذه الصورة هو أداؤهم داخل مجتمعاتهم. بل إن الدولة الصهيونية، بسبب مركزيتها التي تزعمها لنفسها ومرجعيتها اليهودية التي تدعيها لنفسها، تُلحق الأذى والضرر باليهود كما حدث أثناء حادثة الجاسوس جوناثان بولارد وكما يَحدُث حالياً في مواجهة الانتفاضة حيث يظهر جنود الدولة اليهودية وهم يكسرون أذرع الأطفال.

ولو كان القول الصهيوني بشأن مركزية هذه الدولة في حياة أعضاء الجماعات اليهودية حقيقة يمكن أن يقبلها المرء، لكان من حقه أن يرى سلوكها الشرس تعبيراً عن السلوك اليهودي بشكل عام، ولكان من حقه أيضاً أن يرى أن غزوات الصهيونية وصولاتها وجولاتها إنما تعبِّر عن طموحات اليهود أينما كانوا. ومن هنا، يحرص كثير من أعضاء الجماعات الآن على الاحتفاظ بمسافة بينهم وبين الدولة الصهيونية ، بل على تأكيد مركزية الدياسبورا.

أسبقية (أو أولوية) إسرائيل في حياة الدياسبورا

Primacy of Israel in the Life of the Diaspora

«أسبقية (أو أولوية) إسرائيل في حياة الدياسبورا» مصطلح صهيوني جديد تم سكه مؤخراً ليحل محل مصطلح «مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا»، وهو مصطلح أقل جذرية من سابقه، وهذا ما يدل على أن الصهيونية الاستيطانية في فلسطين قد بدأت تشعر بضعفها في مواجهتها مع الجماعات اليهودية (في الولايات المتحدة) ومعالصهيونية التوطينية بشكل عام. ولذا، بدلاً من الإصرار على مركزية إسرائيل (وهو ما يعني تبعية الأطراف للمركز)، يكتفي الفكر الصهيوني بتأكيد أسبقيتها أو أولويتها. وهذه العبارة مثل جيد على الخطاب الصهيوني المراوغ وعلى محاولة إخفاء طبيعة الخطاب وأهدافه. فالأسبقية أو الأولوية تعني مرة أخرى مركزاً وأطرافاً. ومهما يكن الأمر، فإن ظهور المصطلح هو في حد ذاته دليل على التغيُّرات العميقة التي طرأت على علاقة إسرائيل بالجماعات اليهودية في العالم، وعلى تغيُّر موازين القوى لصالح الأخيرة.

نفــــــي الدياســــــبورا

Negation of the Diaspora

«نفي الدياسبورا» ترجمة عربية حرفية وشائعة للمصطلح الصهيوني «نجيشن أوف ذي دياسبورا negation of the diaspora» (وهو بدوره ترجمة للمصطلح العبري «شليلات هجولاه»)، ونفضل التعبير عنه باصطلاح «تصفية الدياسبورا واستغلالها».

تصفية الدياسبورا واستغلالها

Liquidation of the Diaspora

«تصفية الدياسبورا واستغلالها» عبارة تعني أن وجود الجماعات اليهودية في العالم هو وجود مؤقت، هامشي ومرضي، يجب تصفيته، وأنه إن لم يتسن تصفيته يمكن على الأقل توظيفه في خدمة الدولة الصهيونية انطلاقاً من الإيمان بمركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا. والصهيونية تفترض أن أعضاء الجماعات اليهودية لا يحيون حياة يهودية كاملة لأنهم يعيشون خارج وطنهم القومي، كما أنهم يعانون من شذوذ الشخصية وهامشية الحياة إذ لا جذور لهم في الحضارات المختلفة لأنهم شعب عضوي لا تستطيع حضارة الآخر أن تعبِّر عن جوهره المتميِّز. والسبيل الوحيد إلى التعبير عن هذا الجوهر هو الوطن القومي والتربية القومية. فالصهيونية، بحسب تصوُّر كلاتزكين، هي «رفض الدياسبورا» لأنها "لا تستحق البقاء". وهذه النغمة الصهيونية من أكثر النغمات تكراراً؛ فالحاخام موردخاي بيرون، كبير حاخامات الجيش الإسرائيلي، وصف الشتات بأنه «لعنة إلى الأبد.. لعنة دائمة»، ولم يستثن من ذلك حتى العصور الذهبية المختلفة ليهود الشتات. كما أشار بن جوريون إلى الشتات على أنه «غبار إنساني متناثر»، ووصفه كلاتزكين بأنه «دمار وانحلال وضعف أبدي».

وانطلاقاً من ذلك ينظر الصهاينة إلى موروثات أعضاء الجماعات على أنها بلا قيمة ولا تستحق الحفاظ علىها، بل تجب تصفيتها لأنها تجسِّد هامشية اليهود وشذوذهم وقيمهم غير القومية (غير العضوية) التي يجب التخلص منها. ومن ثم، فإننا نجد إشارات إلى أعضاء الجماعات اليهودية باعتبارهم من عَبَدة الإله الكنعاني بعل. يعيشون في بابل عبيداً لشهواتهم المادية الرخيصة (قدور اللحم)، ومن هنا الحديث عن ضرورة غزو الجماعات .

ولكن المشكلة الأساسية هي أن التراث اليهودي هو أساساً مجموعة من موروثات الجماعات اليهـودية المختلفة، وبدونهـا لا توجد هويات يهودية من أي نوع. بل إن هذه الموروثات قد وجدت طريقها إلى الوطن القومي، والإسرائيليون لا يزالون يجدون هويتهم من خلالها. وبعد أربعين عاماً من إعلان الدولة، بدأ كثير من جيل الصابرا يبحث عن جذوره في تراث يهود اليديشية أو في تراث إسبانيا وليس في التراث اليهودي الخالص الذي لا وجود له إلا في كتابات الصهاينة .

وثمة صيغ صهيونية أقل حدة ترى أن الموروث الثقافي لأعضاء الجماعات قد تكون له أهمية، ولكنها أهمية ثانوية بالقياس إلى إنجازات اليهود الحضارية في فلسطين تحت حكم دولة مستقلة. وانطلاقاً من هذا، يمكن استغلال أعضاء الجماعات اليهودية بدلاً من تصفيتهم، ويمكن توظيفهم في خدمة الدولة الصهيونية بدلاً من نفيهم. بل إن المفكر الصهيوني العمالي أهاردن ديفيد جوردون اقترح أن تكون علاقة يهود العالم بالدولة الصهيونية مثل علاقة الدول الاستعمارية بالمستعمرات، أي علاقة يستفيد منها طرف واحد ويدفع الآخر الثمن. فالجماعات اليهودية، من هذا المنظور، هي مجرد وسيلة تستخدم للوصول إلى الغاية الصهيونية، أو جسر يُستخدَم للعبور إلى أرض الميعاد، أو لبنة تُستخدَم في بناء الدولة الصهيونية .

وقد كانت الصيغة الأولى الجذرية (أي التصفية الكاملة) هي السائدة حتى عهد قريب. وفي إطار ذلك، كانت الدعوة إلى اللغة العبرية ورفض اليديشية، وفي نهاية الأمرالقضاء علىها. كما تم التعاون مع النازيين وإبرام معاهدة الهعفراه معهم، ووُجِّهت الدعوة إلى يهود العالم للهجرة بأعداد كبيرة إلى المركز اليهودي. وقد تم بالفعل تصفية (نفي) كل الجماعات اليهودية في العالمين العربي والإسلامي، ولم يبق سوي جماعات يهودية صغيرة في أوربا وجماعة واحدة كبيرة في الولايات المتحدة. ورغمالمحاولات الدائبة من قبَل الصهاينة لتصفية الجماعات اليهودية في الغرب، إلا أن إنجاز هذه العملية لم يكن ثمرة جهود الصهاينة وإنما كان في واقع الأمر نتيجـة ظـاهرة تاريخية عـالمية واسعة هي الاستعمار الاستيطاني الغربي، إذ كانت كل العناصر اليهودية المهاجرة تتجه إلى الدول الاستيطانية الجديدة، وخصوصاً الولايات المتحدة،واتجهت قلة منهم إلى فلسطين التي تم الاستيطان فيها من خلال آليات الاستعمار الاستـيطاني الغـربي، ولم تكن الصهـيونية أو اليهــودية سوى الديباجة.

وقد ظلت الدعوة إلى نفي الدياسبورا واستغلالها قائمة حتى عام 1948. ولكن بعد إنشاء الدولة وتزايد اعتمادها على الولايات المتحدة وعلى يهود العالم تخلَّى الصهاينة عن الصيغة المتطرفة وتم تبنِّي صيغة معدَّلة مقلَّصة، ومن ثم أصبحت الدولة الصهيونية لا تهدف إلى نفي الجماعات وتصفيتها وإنما تنظر إلىها باعتبارها مصدر دعم مادي وسياسي ومعنوي، أي قبلت ما نسميه «الصهيونية التوطينية». ولذا، فإن الآلة الصهيونية تركز كل همها على جمع التبرعات. وقد زوَّد أعضاء الجماعات اليهودية الدولة الصهيونية بنحو 25% من كل مواردها المالية في السنين الأولى. ولكن، مع زيادة حجم الميزانية الإسرائيلية، ومع التضخم، نجد أن أعضاء الجماعات لا يزودونها إلا بـ 3% من مواردها. كما أن جمع الأموال أصبح يسبب نوعاً من الجفاء تجاه الصهيونية ونوعاً من الضيق بالكيان الصهيوني. بل إن المنظمات الصهيونية في الخارج تحتفظ بقـدر كبير من الأموال التي تجمعـها لتمويل نشاطاتها هي. كما أن أعضاء الجماعات بدأوا يثيرون قضايا مثل كيفية إنفاق هذه التبرعات، فيصر كثير منهم على إنفاقها في الرفاه الاجتماعي وليس في الحرب، على حين أن فريقاً منهم يرفض أن تُنفَق أية تبرعات على المُستوطَنات في الضفة الغربية. وقد طُرحَت مؤخراً صيغة جديدة للتعاون بين الصهيونية وأعضاء الجماعات اليهودية، تشكل تراجعاً صهيونياً. فهذا المشروع يركز على القدرات المهنية والفكرية لأعضاء الجماعات انطلاقاً من القول بأنالعقول هي رأسمال عصر العلم، تماماً كما كانت النقود رأسمال عصر الصناعة. ولذا، فإن هذا المشروع يهدف إلى أن تكون إسرائيل أول المجتمعات في عصر الفضاء وأكثرها تركيباً من الناحية التكنولوجية والعلمية والثقافية، وتتحول بذلك إلى قوة عظمى صغيرة تُنتج التكنولوجيا وتُصدِّرها، فتحل مشكلة ميزان المدفوعات وترفع مستوى مواطنيها، وتسد الهوة الاجتماعية الإثنية داخل المجتمع الصهيوني، ثم تضمن في النهاية استمرار وجود الهوة الكيفية بينها وبين جيرانها.

ولذا، لن يُطلَب من أعضاء الجماعات اليهودية أن يهاجروا وإنما سيُطلَب منهم إقامة مشاريع ذات طابع كيفي متميِّز في إسرائيل. وسيكون بوسع المساهمين في هذه المشاريع قضاء أوقات أطول في إسرائيل والمسـاهمة بكفاءتهم العلمـية والتكنولوجية دون أن يهاجروا بالفعل. كما يمكنهم أيضاً المساهمة في استيراد وتسويق السلع الإسرائيلية. بل يمكن أن يتحولوا إلى وكلاء يتقاضون عمولة كبيرة تستخدم لتمويل المشاريع المختلفة. وغني عن القول أن هذه مهمة يمكن أن يقوم بها أيضاً أي إنسان يطمع في تحقيق الربح، فهي لا تتصل بالضرورة بالهوية اليهودية أو بوحدة الشعب اليهودي كما لا تتصل بالعلاقة الخاصة بين دياسبورا يهودية في المنفى ومركز يهودي في فلسطين!

غزو الدياسبورا

Conquest of the Communities (Diaspora)

«غزو الدياسبورا» مصطلح صهيوني يعني ضرورة الهيمنة الصهيونية على كل الجماعات اليهودية في العالم شاءت أم أبت، وذلك باعتبار أن الدولة الصهيونية هي المركز والجماعات اليهودية هي الأطراف، وهذا ما يُطلَق علىه «مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا». وبناءً على نصيحة ماكس نوردو، أعلن هرتزل في المؤتمر الصهيوني الثاني (1898) ضرورة غزو الحركة الصهيونية للجماعات اليهودية. والواقع أن الحركة الصهيونية لا تهدف إلى تهجير العرب من فلسطين إلى المنفى وحسب، وإنما تهدف أيضاً إلى تهجير اليهود من المنفى إلى فلسطين. ولكن حينما أعلنت الحركة الصهيونية برنامجها بشأن الوطن القومي وتجميع اليهود، أي تهجيرهم، قوبلت الدعوة بالرفض من جانب جميع المنظمات اليهودية في العالم. ووجد الصهاينة أنفسهم معزولين في جزيرة صغيرة، وذلك على حد قول وايزمان أثناء محادثاته مع الحكومة الإنجليزية لإصدار وعد بلفور، أي أنهم وجدوا أنفسهم مفتقرين إلى قاعدة جماهيرية. ولحل هذا الوضع، تبنَّى الصهاينة إستراتيجية حل المشكلة من أعلى (أي منناحية المصالح الإمبريالية) وليس من أسفل (من ناحية الجماهير اليهودية). ومعنى هذا أنهم قرَّروا غزو الجماعات من خلال القوى الاستعمارية العظمى. فقدموا أنفسهم منذالبداية باعتبار أن بإمكانهم لعب دور الوسيط بين القوى الاستعمارية من جهة واليهود من جهة أخرى، وذلك لتجنيدهم وتوطينهم في الموقع الجغرافي الذي يهم تلك القوى. وقد أخبر هرتزل القس هشلر (الذي كان يساعده في جهوده الصهيونية) بأنه لا يمكنه فرض شروطه على اليهود إلا إذا نال قسطاً من الشرعية من إحدى الدول العظمى حتى يَقبَله اليهود. وبالفعل، فحالما وافقت إنجلترا على المشروع الصهيوني (1917) اكتسبت الصهيونية شرعية هائلة أمام الجماهير اليهودية في الغرب فاضطرت إلى الاعتراف بها. وهذا ما حدث أيضاً في الولايات المتحدة حيث اتجه النظام الأمريكي اتجاهاً ممالئاً للصهيونية برغم معارضة اليهود، فاكتسبت المنظمة الصهيونية الشرعية التي تحتاج إليها وفرضت هيمنتها في نهاية الأمر على الجماعة اليهودية. ومن ثم، يصر الصهاينة على أن يُنظَر إلى المشروع الصهيوني في ضوء المصالح الإمبريالية ، وكان القاضي الأمريكي اليهودي برانديز يؤكد لليهود أن صهيونية اليهودي الأمريكي لا تتعارض البتة مع أمريكيته. وبذا حقَّقت الصهيونية أولى خطوات عملية غزو الجماعات. ويُلاحَظ أن ثمة تماثلاً بين الطـريقة التي إتبعـتها الحـركة الصـهيونية في غـزو الجماعات اليهودية وبين طريقتها في غزو فلسطين، أي الاعتماد على القوى الاستعمارية الخـارجية. وقد قال الزعـيم الصهيوني أهارون جوردون: إن الأقليات في الخارج يجب أن تكون بمنزلة مستعمرات للوطن الأم.

وقد أخذت محاولات فرض مركزية إسرائيل أشكالاً مختلفة أكثر دهـاء أو أكثر إرهابية (حــسبما تمليه الظروف). فبعد عام 1948، أعلنت الدولة الصهيونية نفسها دولة للشعب اليهودي بأسره، داخـل حدودها وخارجـها، بكل ما يُفهَم من هذا من مركزية. ويصدر المسئولون الصهيونيون والإسرائيليون من التصريحات ما يفترض مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا وارتباطهما العضوي. فيصرح مندوب إسرائيل في هيئة الأمم بأن مستقبل يهود إسرائيل ويهود أمريكا لا ينفصلان. وكتب بن جوريون عن "وجود رابطة لا تنفصم عراها بين دولة إسرائيل والشعب اليهودي... رابطة الحياة والموت... ووحدة المصير والغاية". بل إن بن جوريون يدَّعي أنه عندما يقول يهودي ليهودي آخر "حكومتنا" فإن ذلك يعني حكومة إسرائيل وأن "عامة اليهود في مختلف الدول ينظرون إلى الشعب الإسرائيلي باعتبار أنه يقوم بتمثيلهم".

وتأخذ محاولات فرض مركزية إسرائيل شكلاً عنيفاً صريحاً كما حدث في العراق حينما زرع عملاء صهاينة متفجرات في المعبد اليهودي في بغداد حتى يفر يهود العراقإلى المركز الإسرائيلي. وقد حدث شيء مماثل عام 1990 حينما نجح الصهاينة في إقناع الولايات المتحدة بأن توصد أبوابها دون المهاجرين اليهود السوفييت حتى يضطروا إلى الهجرة للمركز الإسرائيلي الذي اتضح انصرافهم عنه، وعدم إقبالهم عليه (انظر: «التهجير [الترانسفير] الصهيوني لأعضاء الجماعات اليهودية»)

ولا تتوقف عملية غزو الجماعات على الهيمنة على الجماعات اليهودية نفسها، إذ أخذت الصهيونية (وهي عقيدة سياسية لا دينية) تَقرن نفسها باليهودية (وهي عقيدة سماوية) وتتوحد بها، كما تمت صهينة العقيدة اليهودية بشكل تام (هي في جوهرها عملية علمنة). وقد تم إنجاز هذه العملية بكفاءة عالية جداً حتى أن معظم أعضاء الجماعات، وخصوصاً من الأجيال الجديدة، يتصوَّرون الآن أن الصهيونية هي اليهودية ولا فرق بينهما.

ويهيمن الآن الجهاز الصهيوني على معظم المؤسسات اليهودية في العالم، إذ تغلغلت في النشاط الخيري والتربوي وفي أوجه الحياة كافة. وتحاول الصهيونية قصارىجهدها أن تُوظِّف إمكانات أعضاء الجماعات لصالحها، مالية كانت أو علمية أو سياسية لتحوِّلهم إلى أداة لها.

وقد اختفي المصطلح تقريباً في الأدبيات الصهيونية مع أنه مفهوم كامن فيها، ويرجع هذا إلى عدة أسباب من بينها إذعان أعضاء الجماعات اليهودية واستبطانهم المصطلح الصهيوني بشكل شبه تام. كما ظهر عقد صامت بين الدولة الصهيونية ويهود العالم تم بمقتضاه تقسيم العمل بين الصهيونية التوطينية أو صهيونية الخارج (صهيونية الدعم والضغط السياسي) والصهيونية الاستيطانية أو صهيونية الداخل (صهيونية الاستيطان والقتال). ولكن الأهم من هذا أن الاعتراف الغربي بالصهيونية دعم مركز الصهيونيةبين يهود الغرب المندمجين، وبدأت المعارضة الصريحة للصهيونية تبدو وكأنها معارضة لسياسات الحرب العالمية الأولى التي اتبعتها الحكومات الغربية.

والواقع أن الشرعية الاستعمارية التي اكتسبتها الصهيونية أدَّت إلى حسم قضية ازدواج الولاء بالنسبة لليهودي الغربي، وحينما يؤيد المواطن الأمريكي اليهودي الصهيونية، فهو إنما يساند المصالح الإستراتيجية لبلاده، ومن ثم فلا يوجد فرق كبير بينه وبين المواطن الأمريكي غير اليهودي الذي يؤيد المشروع الصهيوني إلا في الدرجة والشكل.

ومع هذا، نجد أن أعضاء الجماعات اليهودية يقاومون هذا الغزو إما بالرفض الصريح وهذه هي الأقلية، وإما بالتملص عن طريق إعلان الولاء للدولة الصهيونية ودفعالتبرعات لها ورفض الهجرة إليها. والرد الصهيوني على ذلك يأخذ أشكالاً حادة، كأن يُتَّهم اليهود والرافضون للصهيونية بأنهم معادون لليهود كارهون لأنفسهم، أو أنيُفرَض عليهم الخلاص الجبري. ولا يمكن إدراك المعنى الكامل لمفهوم غزو الجماعات إلا في إطار مفاهيم صهيونية أخرى مثل نفي الدياسبورا وهامشيتها.

هذا ويُلاحَظ، بعد الانتفاضة واهتزاز الشرعية الصهيونية، وكذلك قيام إسرائيل بدور الخفير في المنطقة، أن الجماعات اليهودية بدأت تفصح عن معارضتها لإسرائيل والصهيونية، وزاد الحديث عن مركزية الدياسبورا بدلاً من مركزية إسرائيل.

الباب الثانى: موقف الجـماعات اليهودية من الصهيونية

موقف الجماعات اليهودية من الصهيونية

Attitude of the Diaspora to Zionism

تروِّج الدعاية الصهيونية لصورة مفادها أن الأغلبية العظمي من يهود العالم تؤمن بالعقيدة الصهيونية، وتؤازر الدولة الصهيونية وتقف وراءها صفاً واحداً. وقد يكون هناك شيء من الحقيقة السطحية والمباشرة في هذا القول، فرغم أن يهود إسرائيل لا يشكلون إلا نسبة ضئيلة من يهود العالم لا تتجاوز الثُلث بأية حال فإن الحركة الصهيونية قد هيمنت علي معظم المؤسسات اليهودية في العالم، ومنها كثير من الجمعيات اليهودية الأرثوذكسية والإصلاحية التي يوجد بينها وبين الصهيونية تَناقُض من ناحية العقيدة. فاليهودية الأرثوذكسية تري أن اليهود شعب بالمعني الديني وحسب وليس بالمعني العرْقي كما يتصوَّر الصهاينة. أما اليهودية الإصلاحية فتري أن اليهود ليسوا شعباً أساساً وإنما جماعة دينية يؤمن أفرادها بالعقيدة نفسها. وقد أصبح منْ يرفضون الصهيونية بشكل علني وعقائدي أقليةً هامشيةً لا يُعتد بها ولا يُسمَع لها صوت.

ولكن، رغم ذلك، ليست العلاقة بين الجماعات اليهودية والحركة الصهيونية علاقة طيبة دائماً. والمعروف أن الحركة الصهيونية لاقت مقاومة شديدة عند ظهورها من أغلبية أعضاء الجماعات اليهودية في العالم واضطرت إلي «غزو الدياسبورا»، أي لجأت إلي أنواع من العنف لقهرها والسيطرة عليها، وهذا ما تم بالفعل مع منتصف الخمسينيات. ولكن حتي بعد أن حققت الحركة الصهيونية ذلك، رفض أعضاء الجماعات اليهودية ـ في الممارسة العملية ـ الخضوع للأوامر والنواهي الصهيونية. فهم، علي سبيل المثال، يرفضون الهجرة إلي إسرائيل «وطنهم القومي» الوهمي، وهم قد يقبلون الصهيونية اسماً وشكلاً لكنهم يرفضونها فعلاً وعملاً. وهذا ما نسميه «التملص اليهودي من الصهيونية». كما أن اهتمام أعضاء الجماعات اليهودية في العالم ينصب علي موروثهم الثقافي من المجتمع الذي يعيشون في كنفه، فيهود الولايات المتحدة علي سبيل المثال يهتمون بموروثهم الأمريكي اليهودي ويتعلمون اللغة الإنجليزية ويضعون مؤلفاتهم الدينية والدنيوية بها، كما أنهم لا يدرسون العبرية إلا في مراكز خاصة لدراسة اليهودية يعاني خريجوها من البطالة لعدم وجود اهتمام كاف بهذه الدرسات. وهذا الوضع هو تعبير عن رفض ضمني كامن للمفاهيم الصهيونية الخاصة بنفيالدياسبورا وبمركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا، وهي مفاهيم تؤكد أن يهود العالم مجرد أداة لتحقيق الهدف الصهيوني، وأنهم يمثلون هامـشاً يدور حـول المركز «القومي» الصهيوني أي الدولة الصهيونية.

وحتي في إطار الخضوع الظاهري الكامل لإسرائيل، تنشأ مشاكل عدة بين يهود العالم من الصهاينة واليهود غير الصهاينة من جهة وإسرائيل من جهة أخري. ولعل أهم هذه القضايا هي تلك التي أُثيرت منذ عام 1948 عن مدي حق أعضاء الجماعات، علي مستوي العالم، في توجيه النقد إلي إسرائيل. فالدولة الصهيونية تحاول أن تكون علاقتها بيهود العالم علاقة هيمنة، فتتلقي منهم العون والمساعدات والتأييد دون أن يكون لهم حق التدخل في شئونها. ولكنهم، في نهاية الأمر، رفضوا الهجرة إليها وآثروا البقاء في «المنفي»، وما يقدمونه هو تكفير عن عدم مساهمتهم في تحقيق رؤية الخلاص والمثل الأعلي الصهيوني. أما يهود العالم، فيرون المسألة بشكل مختلف، إذ كيف يُطلَب منهم قبول قرارات سياسية إسرائيلية لم يشتركوا في صياغتها، أو تأييد هذه القرارات دون اعتراض؟ وإذا كان لدي الدولة الصهيونية استعداد لأن تتلقي نقودهم بصدر رحب وحماس زائد، فيجب أيضاً أن يتسع صدرها لانتقاداتهم التي تَنصبُّ في الغالب علي مسائل محدَّدة.

وأولي المسائل المهمة التي يثيرها يهود العالم أن الصهيونية وعدتهم بأن تؤسِّس دولة يهودية تسمح لليهود بالتحكم في مصائرهم مستقلين عن مجتمع الأغيار. ولكن هؤلاء، حين ينظرون، يرون دولة مصابة بأزمة اقتصادية مزمنة وصل فيها التضخم في وقت من الأوقات إلي معدلات قياسية. ورغم أن التضخم تمت السيطرة عليه، فإن حجم مديونية هذه الدولة يجعل المواطن فيها من أكثر المواطنين مديونية في العالم، حيث تصل إلي 6.200 دولار بالنسبة إلي الشخص الواحد. ويُلاحَظ كذلك تَناقُص معدل النمو الاقتصادي. وقد أدَّي كل ذلك إلي الاعتماد المتزايد والمذلّ علي الولايات المتحدة.

وقد ادعت الصهيونية أن اليهود مصابون بشتي أمراض المنفي، مثل الهامشية والطفيلية وانقلاب الهرم الإنتاجي، وأنها ستقوم بتحويلهم إلي شعب منتج يعمل بيديه. ولكن هذه النبوءة لم تتحقق إذ أن عدد اليهود في الدولة الصهيونية الذين يشتغلون بأعمال إنتاجية في الوقت الحالي يبلغ 23%، وكانت النسبة 24% قبل عام 1948. وقد تزايد قطاع الخدمات وتَضخَّم في المجتمع الإسرائيلي وفي الجيش نفسه.

ومن القضايا التي يثيرها يهود العالم من المؤمنين باليهودية، مشكلة معدلات العلمنة المتزايدة في الدولة اليهودية التي لا تسودها القيم اليهودية، فكثيراً ما يجدون أن بعض مبعوثي الدولة اليهودية لم يقرأوا التوراة في حياتهم قط، ولم يذهبوا إلي معبد يهودي. وتضطر الدولة التي يقال لها «يهودية» إلي أن تعطي دورات مكثفة في الدين اليهـودي لبعـض مبعـوثيها إلي الخـارج حتي لا ينكشف السر، فهم لا يعرفون كيف تُقام الصلوات اليهودية ولا يدرون شيئاً عن السلوك الواجب اتباعه في المعبد اليهودي.

ويشير هؤلاء المتدينون أيضاً إلي أن الدولة اليهودية، التي كان من المفترض أن تكون مثلاً أعلي يُحتذَي، أصبحت ذات توجُّه استهلاكي حاد يُقبل سكانها علي استهلاك السلع الغربية بشغف شديد. وهي، علاوة علي هذا، دولة تنتشر فيها الجرائم والمخدرات والدعارة، كما أصبحت ترتع فيها الجريمة المنظمة، وأصبح الجهاز الحكومي لا يتمتع بسمعة طيبة بسبب فضائحه المالية المتتالية.

وحينما تتهم الدولة الصهيونية أعضاء الجماعات اليهودية بأنهم آخذون في الاندماج، بل في الانصهار والتلاشي، يشيرون هم بدورهم إلي حياة إسرائيل العلمانية، ويؤكدون أن الإسرائيليين هم الذين يفقدون هويتهم اليهودية بالتدريج، وأنهم هم الذين سيندمجون تماماً في حضارة الأغيار. بل إن بعضهم يري أن ما يحدث في إسرائيل هو ظهور قومية جديدة إسرائيلية لا علاقة لها باليهودية، وبالتالي لا علاقة لها بهم.ويثير يهود العالم قضية أساسية أخري يبدو أنها دون حل في الوقت الحاضر، وهي أن المؤسسة الدينية الأرثوذكسية في إسرائيل ترفض الاعتراف باليهود الإصلاحيين والمحافظين كيهود، وهم يشكلون مع اليهـود اللا أدريين والملحـدين ما يزيد علي 80% من يهود العالم الغربي، في حين لا يشكل الأرثوذكس إلا أقلية صغيرة. وتأخذ القضية شكلاً حاداً، كلما أثارت المؤسسة الدينية الأرثوذكسية في إسرائيل قضية تغيير قانون العودة حتي يصبح تعريف اليهودي هو من تهوَّد حسب الشريعة، أي علي يد حاخام أرثوذكسي وحسب.

ويري بعض المفكرين الدينيين اليهود أن ظهور الدولة الصهيونية قد أدَّي إلي انهيار اليهودية وتآكُلها من الداخل، فأصبحت الدولة هي دين يهود العالم، ومصدر القيمة المطلقة لهم، كما أصبح جمع التبرعات من أهم الشعائر «الدينية». وهم يرون أن اليهودي العادي قد أصبح يُفرغ أية شحنة دينية داخله عن طريق النشاط الصهيوني، وهو نشاط دنيوي بالدرجة الأولي.

ويثير يهود العالم قضية أساسية أخري، وهي: هل الدولة اليهودية مجرد دولة تخدم مصالحها بغض النظر عن مصالح اليهود، أو هي دولة يهودية تضع مصالح يهود العالمفي الاعتبار؟ وقد أثيرت القضية مؤخراً بكل حدة بسبب التعاون الوثيق بين الحكومة الصهيونية وحكومة الأرجنتين العسكرية. وقد قام شامير، باعتباره وزيراً لخارجية إسرائيل، بزيارة الأرجنتين في الأيام الأخيرة للنظام العسكري، وقد ثبت أن هذا النظام، المشهور بميوله النازية المعادية لليهود، كان يقوم بتعذيب معارضيه، واليهود منهم علي وجه الخصوص. ومع هذا، فقد استمر النظام الصهيوني في الحفاظ علي علاقاته بالنظام العسكري في الأرجنتين. وكانت السفارة الإسرائيلية ترفض التدخل لصالح المعتقلين السياسيين اليهود. وثمة حقيقة مهمة تدعو إلي التساؤل: إن أحد أهداف الدولة اليهودية هو توفير الأمن والحماية لليهود، ومع ذلك فإن أعضاء الجماعات اليهودية يشعرون بأن أمنهم قد تزعزع بسبب الأحداث في الشرق الأوسط وأن الجو الذي يعيش فيه اليهود في عدة بلاد قد تحوَّل من جو آمن إلي جو قلق مشحون. وفي الواقع، فإن كثيراً من المؤسسات اليهودية تحتاج الآن إلي حراسة مسلحة. وقد صرح شامير مؤخراً بأن الدولة الصهيونية لا يمكنها أن تضطلع بمسئولية حماية أعضاء الجماعات اليهودية إذ أنها مشغولة بحماية وبناء نفسها.

ويشير اليساريون اليهود في العالم إلي علاقات إسرائيل بالنظم العسكرية في أمريكا اللاتينية، فهي من أكبر موردي السلاح إليها، كما أن علاقاتها السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية مع نظام جنوب أفريقيا محل انتقادهم، إذ كيف يتأتي لدولة يهودية متمسكة بالقيم اليهودية أن تتحول إلي حليف لكل قوي القمع والإرهاب في العالم؟ ويضطر الليبراليون أيضاً إلي الاحتفاظ بمسافة بينهم وبين الكيان الصهيوني حينما يقوم بعمليات وحشية تفوح رائحتها مثل صابرا وشاتيلا. وقد حاولت الصهيونية أن تحل مشكلة سلوكها العنصري والإرهابي بأن قلَّصت مجال هذه العنصرية وجعلتها مقصورة علي مكان واحد فقط هو فلسطين، فهي ليست عنصرية كونية علي الطريقة النازية بل عنصرية مقصورة علي بؤرة واحدة (فلسطين)، وعلي شعب واحد. ولذا، تستطيع العقيدة الصهيونية أن تتخذ ديباجات اشتراكية في الاتحاد السوفيتي، وديباجات رأسمالية ليبرالية في العالم الغربي، وديباجات فاشية في أمريكا اللاتينية، ويمكنها في النهاية أن تمارس وحشيتها كاملة في فلسطين دون أن تسبب حرجاً كبيراً لمناصريها في الخارج. ومع هذا، نجد أن اندلاع الانتفاضة قد غيَّر هذه الصورة، فقد أصبح الاحتفاظ بالازدواجية صعباً واضطر يهود العالم إلي شجب الأعمال الوحشية التي تمارسها إسرائيل.

ومن القضايا التي تثير بعض التوتر بين أعضاء الجماعات اليهودية والدولة الصهيونية، هجرة عدد كبير من مواطني الكيان الصهيوني إلي الولايات المتحدة واستيطانهم فيها. ويبلغ عدد المهاجرين 600 ألف، أكثر من نصفهم من مواليد إسرائيل (فلسطين)، أي من جيل الصابرا، ومن هنا يتم طرح السؤال التالي: هل من الواجب أن تقوم المؤسسات اليهودية بتقديم المساعدة لهؤلاء المهاجرين باعتبارهم يهوداً أم تجب مقاطعتهم باعتبارهم خونةً مرتدين؟

ويمكن القول بأن واحداً من أكبر أشكال فشل الدولة الصهيونية في الهيمنة الفعلية علي أعضاء الجماعات اليهودية في العالم أنه بعد مرور ما يزيد علي مائة عام علي الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وبعد مرور نحو أربعة عقود علي إنشاء الدولة الصهيونية، وبعد الحملات المكثفة، بل الهستيرية، التي تهدف إلي إقناع أعضاءالجماعات بالهجرة إلي فلسطين انطلاقاً من إيمانهم الديني القوي، والتي تؤكد لهم أن هذه الهجرة هي السبيل الوحيد إلي الحفاظ علي وطنهم القومي، أي إسرائيل، بعد كل هذا لم تقابل المنظمة الصهيونية والدولة الصهيونية كثيراً من النجاح، الأمر الذي فرض عليهما أن تطرحا جانباً في الآونة الأخيرة تلك المنطلقات العقائدية الصهيونيةوتطرحا بدلاً منها شعارات مادية استهلاكية. فإسرائيل، حسب الحملات الدعائية الجديدة، ليست أرض الميعاد ولا مسرح الخلاص، وإنما هي بلد تتوافر فيه أسباب الراحة المادية للمهاجر حيث يمكنه أن يمتلك بيتاً واسعاً كبيراً بشروط ائتمانية سهلة، وبالتقسيط المريح، أو يمكنه أن يجد فرصاً أحسن للعمل أو الاستثمار. بل تم تعديل الأسطورةالصهيونية نفسها، فبدلاً من الإصرار علي اليهودي الخالص، اليهودي مائة في المائة، تم الاعتراف بالأمريكي اليهودي، أي اليهودي الذي ينتمي إلي وطنه الأمريكي انتماءً كاملاً، ويعتز بتراثه الإثني ما دام هذا الاعتزاز لا يتناقض مع انتمائه الأمريكي. ولا يختلف الأمريكي اليهودي في هذا عن الأمريكي الإيطالي أو الأمريكي البولندي. وداخل هذا الإطار، تصبح إسرائيل مثل إيطاليا وبولندا أي «مسقط الرأس» الذي أتي منه المهاجر. ولكــن المفــارقة تكمــن في أن هذه الأسـطورة تقف علي النقيــض من الأســطورة الصهيــونية، لأن «مسـقط الــرأس» هي البلـد الــذي يهاجر منه اليهودي، علي عكس «صهيون» أو «أرض الميعاد» فهي البلد الذي يعود إليه. وهكذا تحوَّلت الأسطورة الصهيونية إلي نقيضها من خلال محاولتها التكيف مع الوضع الأمريكي. وهذا هو أحسن تعبير عن مدي ارتباط أعضاء الجماعات بأوطانهم، وعن حقيقة موقفهمالمتعيِّن من الصهيونية الذي يتجاوز التصريحات الساخنة والشعارات النارية الصهيونية.

مركزيـــــة الدياســـــبورا

Centrality of the Diaspora

«مركزية الدياسبورا» عبارة تعني الإيمان بأن الحياة الحضارية والسياسية لأعضاء الجماعات اليهودية تتشكل خارج فلسطين، وبأن علاقتهم بإسرائيل قد تكون مهمة ولكنها ليست أهم شيء في حياتهم إذ أن لديهم مصالحهم وثقافتهم وحركياتهم الاجتماعية المستقلة عن الدولة الصهيونية. وبالتالي فلابد أن تكون العلاقة بين الدولة وبينالجماعات اليهودية علاقة متكافئة. ولا يرد هذا المصطلح في الكتابات الصهيونية أو اليهودية، ولكنه افتراض كامن في كتابات دبنوف الذي يستخدم مصطلح «قومية الدياسبورا». ولا يمكن تفسير سلوك أعضاء الجماعات إلا في إطار هذا المفهوم. وتُعَدُّ استجابة يهود الولايات المتحدة لحادثة بولارد دليلاً جيداً علي الإيمان بمركزية الدياسبـورا وبانفصـال أعضـاء الجـماعات عن المركز الصهيوني المزعوم. كما أن المصطلح يتجلي في بعض التصريحات مثل تصريح مدير عام منظمة إيباكالصهيونية: "إذا كانت إسرائيل هي مركز العالم اليهودي، فنيويورك هي إذن مصدر وجوده". أما الحاخام جيكوب نيوزنر، فقد أكد بلا مواربة أن أمريكا أفضل من القدسبالنسبة إلي يهود الولايات المتحدة، وأنه إذا كانت هناك أرض ميعاد فإن اليهود الأمريكيين يعيشون فيها بالفعل علي نحو لا يمكن أن يتاح لهم في إسرائيل. ومن الثابت أن إسرائيل لا تلعب دوراً رئيسياً من الناحية الثقافية والدينية في حياة الأمريكيين اليهود. ومع ضعف صورة الدولة الصهيونية وتراجع نفوذها، وخصوصاً بعد الانتفاضة، فإن من المُتوقَّع أن يحقق أعضاء الجماعات قدراً أكبر من الاستقلال ويؤكدوا بالتالي أهميتهم ومركزيتهم بشكل أكبر.

قوميـــة الدياســـبورا

Diaspora Nationalism

«قومية الدياسبورا» مصطلح شائع في الكتابات الصهيونية واليهودية، وهو يشير إلي أن الجماعات اليهودية تشكل شعباً واحداً وقومية يهودية لها مركز واحد. ولكن هذا المركز لم يكن هو فلسطين في سائر اللحظـات التاريخية، وإنما كان ينتقل بانتقال القيادة الفكرية لليهود. فهو مرة في بابل، وأخري في الأندلس، وثالثة في ألمانيا أو في روسيا، ولعله الآن في الولايات المتحدة أو إسرائيل.

ويتفـق مفهـوم قومية الدياسـبورا مع الفكر الصهيوني في عدة نقاط، من أهمها أن اليهود يكوِّنون شعباً واحداً وأن له تراثاً واحداً. ولكن قومية الدياسبورا تختلف عنالصهيونية في قبولها تعددية المركز، وفي رفض فكرة مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا، أي الجماعات اليهودية. وقد يبدو هذا الاختلاف سطحياً، ولكنه في الواقع اختلاف جوهري إذ أن تعددية المركز تعني أن الدولة الصهيونية ليست مسألة ضرورية أو حتمية أن اليهود يمكنهم التعبير عن هوياتهم أينما وُجدوا. كما أنه يعني أن تراث يهود العالم تراث يستحق الحفاظ عليه، وأن الشعار الصهيوني الداعي إلي تصفية الدياسبورا ونفيها شعار معاد لليهود. ويُعتبر كلٌّ من المؤرخ الروسي اليهودي سيمون دبنوف والكاتب الروسي اليديشي حاييم جيتلوسكي من أهم دعاة قومية الدياسبورا.

وعلي مستوي البنية الفكرية الكامنة، تعني قومية الدياسبورا بالنسبة إلي هذين الداعيين قومية يهود اليديشية أو القومية اليديشية باعتبارها قومية يهودية شرق أوربية يمكن التعبير عنها من خلال إطار الدولة متعددة القوميات (علي نمط الإمبراطورية الروسية والدولة السوفيتية والإمبراطورية النمساوية المجرية). وبالفعل، نجد أن قومية الدياسبورا أصبحت، علي مستوي الممارسة، هي حق يهود اليديشية في التعبير عن هويتهم الثقافية وفي الحفاظ علي تراثهم ولغتهم داخل إطار الدولة متعددة القوميات. ولذا، فإن مصطلح «قومية الدياسبورا» ليس دقيقاً البتة، وقد يكون من الأدق الإشارة إلي «القومية اليديشية الشرق أوربية» أو «القومية اليهودية الشرق أوربية»، وعلي كلٍّ فقد تهاوي هذا المفهوم بتزايد معدلات الاندماج بين يهود الاتحاد السوفيتي ويهود الولايات المتحدة.

ويوجد تيار داخل الفكر الصهيوني يميل إلي قبول صيغة معدلة من قومية الدياسبورا، إذ يذهب بعض الصهاينة إلي أن تراث الدياسبورا مهم ويجب الحفاظ عليه ولكنهم يصرون، مع هذا، علي أن مركز الثقافة اليهودية يجب أن يظل في فلسطين. ولعل صيغة مثل هذه هي التي تحكم العلاقة بين الجماعات اليهودية في العالم وفي إسرائيل، فإسرائيل تَقَبل الآن وجودهم في المنفي باعتبارها حالة نهائية، وتَقَبل إسهاماتهم الحضارية كشيء يستحق المحافظة عليه. وفي المقابل، يَقَبل يهود العالم مركزية إسرائيل في حياتهم الثقافية ويستمدون منها شيئاً من هويتهم، وهذا ما يُطلَق عليه «الصـهيونية التوطينية»، وهي صهـيونية يؤمن بها اليهــودي في الغرب، حتي يحافظ علي هويته التي يهددها المجتمع الاستهلاكي بالهلاك ودون أن يُضطر إلي الاستيطان في إسرائيل.

القوميـــة اليديشــية

Yiddish Nationalism

انظر: «قومية الدياسبورا«.

سـيمون دبنــوف (1860-1941(Simon Dubnow

مؤرخ روسي يهودي، والمُنظِّر الأساسي لفكرة قومية الدياسبورا، ذلك المفهوم الذي طُرح كأحد حلول المسألة اليهودية. وُلد في مقاطعة موجيليف في روسيا، وتلقَّي تعليماً دينياً تقليدياً إلا أنه تخلي عن ممارسة الشعائر الدينية في سن مبكرة، كما حصل علي قدر من التعليم العلماني في المنزل وأتقن العبرية والروسية إلي جوار اليديشية لغته الأصلية. وفي الفترة 1880 ـ 1906، انتقل بين عدة مدن روسية من أهمها أوديسا التي كانت تُعتبر آنذاك مركزاً للبعث الثقافي للجماعة اليهودية في روسيا وانضم هناك إلي دائرة آحاد هعام (فيلسوف الصهيونية الثقافية، أي الإثنية العلمانية)، ثم استقر في بطرسبرج حيث عمل بتدريس ما يُسمَّي «التاريخ اليهودي» الذي أصبح اهتمامه الرئيسي. وقد أصدر عدة أعمال في هذا المجال شملت دراسة في تاريخ الجماعات اليهودية في شرق أوربا، ودراسة موجزة لتاريخ الجماعات اليهودية وتاريخ الحسيدية.

تأثر دبنوف بكل من فكر الاستنارة، والفكر المعادي للاستنارة؛ تأثر بوضعية أوجست كونت وليبرالية جون ستيورات ميل، فرفض اليهـودية من حيث هي فكرة تتناقـض مـع الفردية والحرية والتفـكير العلمي، وطرح جانباً مقولات مثل «رسالة الشعب المقدَّس» و«الارتباط الأزلي بأرض الميعاد» إذ وجد أنها لا تفسر وضع الجماعات اليهودية في العالم، وتبنَّي بدلاً من ذلك منهجاً يأخذ في الاعتبار المعطيات المادية (البيئية والحسية) ويؤكد التفاصيل والأشياء المتعينة والقراءة المتعينة للتـاريخ وينظر إلي اليهـود واليهودية باعتبارهما ظواهر اجتماعية وتاريخية. لكن تأثير الفكر المعادي للاستنارة يتبدَّي في اهتمامه بالبُعد الخاص والعضوي والروحي في الظواهر الإنسانية. وقد تأثر دبنوف بفلسفة فختة في تأكيده العنصر الروحي في القومية، وبفكر إرنست رينان في تأكيده العنصر الذاتي فيها. كما تأثر بمفاهيم المؤرخ الفرنسي فولي الذي عرَّف القومية بأنها (أولاً وقبل كل شيء) مجموعة من الأفراد الذين ينظرون إلي أنفـسهم علي أنهـم أمة، وقال إن جـوهر الأمــة هو وعيها. وكذلك تأثر دبنوف بفكر المفكر والمؤرخ الأدبي تايين الذي اعتبر القـيم الروحية لأي شـعب إنما هي نتـاج تطلعاته وظروفه الخاصة. وقد تَبنَّي في نهاية الأمر المفهوم العضوي للأمة الذي طرحه كلٌّ من رينان وتايين والذي أصبح جزءاً من الخطاب السياسي الغربي في القرن التاسع عشر. ولذا، فرغم أن رفضه اليهودية انطلاقاً من رؤيته العلمية المستنيرة، إلا أنه عاد وقَبلها انطلاقاً من الفكر المعادي للاستنارة باعـتبارها تعبيراً إيجابياً عن الروح القـومية للشعب اليهودي.

ومن الأفكار الأساسية التي أثرت في دبنوف بشكل جوهري فكرة دولة القوميات، أي الدولة الإمبراطورية التي تضم عدة قوميات لكل منها هويتها ولغتها بل تاريخها المستقل، بحيث تحتفظ كل جماعة أو أقلية قومية بقدر من الحكم الذاتي (وخصوصاً في الأمور الثقافية والدينية) وتشارك في صنع القرار السياسي من خلال مؤسسات الدولة الواحدة والتمثيل السياسي. وكانت هذه الفكرة مطروحة في كل من الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية النمساوية المجرية كنموذج سياسي يمكن أن يضمنللإمبراطوريات الاستمرار دون أن يكون هذا الاستمرار، بالضرورة، علي حساب الشعوب والقوميات التي تعيش داخل حدودها، وهو نموذج يختلف عن نموذج الدولة القومية المركزية الذي شاع في إنجلترا وفرنسا وهولندا وفي أوربا الغربية بشكلٍّ عام.

وقد لاقت دولة الأقليات صدي في نفس دبنوف لأنها تستند إلي معطيات تاريخية متعينة (شعوب قومية قائمة بالفعل ودولة حديثة) وهو ما يجعله، وهو المفكر العلميالمستنير، قادراً علي قبولها. فهي، مع علميتها، تقبل قدراً من الخصوصية دون أي استدعاء للغيبيات. وقد كانت هذه الازدواجية ضرورية لدبنوف، فقد لاحظ أن خصوصية يهود اليديشية لا تكمن في يهوديتهم "العالمية" التي تستند إلي عناصر ثابتة ومطلقة وإنما في يديشيتهم الخاصة والنابعة من وضعهم كأقلية داخل التشكيل السياسي والحضاري الشرق أوربي. ولذا، فإن كل الحلول التي يطرحها نابعة من تَصوُّره أن يهود شرق أوربا يشكلون ظاهرة اجتماعية تشترك في الخصائص مع الظواهر المماثلة دون أن تفقد بالضرورة خصوصيتها.

ينطلق دبنوف، علي عادة كثير من مفكري أوربا في القرن التاسع عشر، من طرح رؤية للتاريخ الإنساني تُقسِّمه إلي مراحل، فتَطوُّر الإنسانية هو أساساً تَطوُّر من المادية إلي الروحية ومن البساطة الخارجية إلي التعقيد الداخلي. وهو يُقسِّم النماذج القومية إلي ثلاثة نماذج: النموذج القَبَلي، والنموذج السياسي الإقليمي أو النموذج المستقل، والنموذج الحضاري التاريخي أو النموذج الروحي. وهذه النماذج مترابطة بشكل عضوي، بمعني أن كل أمة لابد أن تمر من خلال المراحل أو النماذج الثلاثة. والنموذج القَبَلي، حسب تصوُّر دبنوف، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالطبيعة، في حين أن النموذج السياسي أقل ارتباطاً بها. أما النموذج الروحي فهو مستقل عنها إلي حدٍّ بعيد. وهذا الابتعاد التدريجي عن الطبيعية يتضح أكثر ما يتضح في علاقة كل نموذج قومي بالأرض. فالأرض، بالنسبة إلي النموذج الأول، تمثل جزءاً جوهرياً من كيانه وبيئته، أما بالنسبة إلي النموذج الثالث فهي لا تعني شيئاً علي الإطلاق، لأن كيانه ووجوده يستندان أساساً إلي الوعي بالذات التاريخية. ويؤمن دبنوف بأن الشعب اليهودي «شعب روحي» ينتمي إلي النموذج الثالث من القوميات، ولذا فهو في غني عن الأرض والدولة (علي عكس الصهاينة الذين يصرون علي عودة اليهود إلي الطبيعة وإلي الأرض، كما يصرون علي تأسيس الدولة اليهودية(

والتاريخ اليهـودي حســب تصوُّر دبنوف قد مرّ بالمراحل الثلاث. فالقبائل العبرانية تجمعت في كيان قومي في فلسطين علي رقعة واحدة من الأرض وتحت حكم دولة موحدة. وقد فقد اليهود أولاً الدولة ثم بعد ذلك الأرض. ورغم ذلك، فقد حافظوا علي كيانهم الحضاري الروحي المستقل، وعلي وعيهم بذاتهم كجماعة مستقلة. ولكن لماذا يحتفظ اليهود باستقلالهم؟ يقول دبنوف: إن هذا ليس معجزة تاريخية، فأوضاع اليهود الفريدة هي التي خلقت كيانهم الفريد، فهم يشكلون أمةً لا دولة ولا أرض لها، ولذا، فقد أُعفوا من مسئولية الحكم والاضطرار إلي اللجوء للعنف والقسر، إذ أن الدولة الحاكمة هي وحدها التي تجد نفسها مضطرة إلي ذلك. بل علي العكس من هذا، وجد اليهود أنفسهم مرغمين علي تطوير العناصر الروحية في حضارتهم وتراثهم لتُحرِّرهم من عبء السلطة السياسية، فهم أمة الروح (علي حد قول آحاد هعام)

ويُفرِّق دبنوف بين الأنانية القومية والفردية القومية، ويري أن القومية اليهودية يجب عليها أن تعرف حدودها وألا تطمع في الاستيلاء علي أرض الآخرين، ولكن يجب عليها في الوقت نفسه أن تتخطي الاندماجية بأن تحاول تمجيد ذاتها دون أنانية وبأن تحاول تطوير الذات اليهودية وملامحها المستقلة. ولكن مستقبل الأمة اليهودية لا يتوقف علي أية رسالة سرمدية تنقلها للعالم، بل يعتمد أساساً علي مدي نجاحها في تطوير شخصيتها الحضارية المستقلة. وهذه الشخصية ليست شخصية ثابتة متقولبة تعبِّر عن فكرة جوهرية أزلية، وإنما هي شخـصية كانت ولا تزال في حــالة تَطوُّر وتَغيُّر دائمين، أي أن دبنوف يقف علي الطرف النقيض من الصهاينة الذين يخلعون صفة الأزلية علي الشخصية اليهودية ويرون أنها تجسيد لرسالة اليهود السرمدية التي تتخطي حدود التطورات التاريخية وتعلو عليها.

والمُلاحَظ أن مقدمات دبنوف التحليلية رغم ديباجتها الإنسانية والتاريخية الواضحة، صهيونية حتي النخاع، ولا تختلف كثيراً عن مقدمات فيلسوف الصهيونية الثقافية آحادهعام. فكلٌّ منهما، شأنه شأن كل صهيوني، يفترض وجود أمة يهودية لها شخصية متميِّزة ووضع فريد بين الأمم، وأن ثمة تاريخاً يهودياً عالمياً، وأن ثمة وحدة عالمية بينجميع الجماعات اليهودية في العالم تفصلها عن التشكيلات التاريخية التي توجد فيها هذه الجماعات (وهذه المقدمات هي نفسها مقدمات الفكر الصهيوني، وبالتالي لم يكن مفر من أن يصل إلي نتائج صهيونية). ولكن دبنوف لا يتحدث في واقع الأمر عن القومية اليهودية وإنما عن القومية اليديشية أو عن السمات القومية الخاصة بيهود شرق أوربا الذين كانوا يُشكِّلون ما يقرب من 80% من يهود العالم، لكن تجربتهم التاريخية لم تكن سوي تجربة تاريخية واحدة ضمن عشرات التجارب التاريخية الأخري لأعضاء الجماعات اليهودية في العالم. والخطأ الذي يرتكبه دبنوف لا يكـمن في تزييف الحقـائق وإنما يكمن في مستوي التعميم، فهو يتحدث عن الجزء (يهود اليديشية) باعتباره الكل (يهود العالم). ولعل هذا يعود إلي أن كل أوربا، عبر تاريخها، تتحدث دائماً عن اليهود بشكل مطلق، وعن اليهود "ككل"، وعن اليهود "في كل زمان ومكان"، وعن "التاريخ اليهودي". ولذا، فإنه لم يستطع الإفلات من الخطاب الغربي ـ اليهودي وغير اليهودي. كما أن أوربا (في القرن التاسع عشر) كانت تظن نفسها مركز العالم وكان يُشار إلي ما هو غربي بوصفه عالمياً (وحتي الآن نتحدث نحن أنفسنا عن الرأي العام العالمي ونحن نعني في واقع الأمر " الرأي العام الغربي"). ويمكننا أن نضيف إلي كل هذا ضخامة الجزء اليديشي مقابل ضآلة ما تبقَّي من الكل اليهودي.

ولكن الدارس المدقق سيجد أن ثمة عناصر أساسية في رؤيته جعلته يُعدِّل مستوي تحليله ويتخلي عن مستوي التعميم الخاطئ. فهو يختلف عن الصهاينة في أنه يري أن تراث يهود الدياسبورا، أي يهود العالم خارج فلسطين، لا يُشكل انحرافاً عما يُسمَّي "التاريخ اليهودي الواحد الحقيقي"، أي تاريخ اليهود في فلسطين. وعلي هذا، فإنه لا يذهب إلي أن كل اليهود مرتبطون بمركز واحد هو فلسـطين، بل إنه يري أن التاريخ اليهودي إن هو إلا تاريخ الدياسبورا. ولهذا، فإن النسق الدبنوفي نسق متعدد المراكز لا يتسم بالعضوية الصارمة والتجانس والواحدية. فهو يؤكد وجود وحدة بين الجماعات اليهودية المتناثرة في العالم، لكن هذه الوحدة لا تعني عدم التنوع، فالحضارات اليهـودية تختـلف باختلاف الظروف التاريخية والجـغرافية التي تنشـأ فيها. وهو لهذا، يري أن مركز هذه الحضارة أو الحضارات كان وسيظل متغيِّراً ينتقل من بلد إلي آخر. فهو مرة يكون في بابل، ومرة أخري يكون في الأندلس، وفي المرة الثالثة في روسيا، فالبلد الذي تزدهر فيه الحضارة اليهودية أكثر من البلدان الأخري تنتقل إليه القيادة الفكرية. ومن هنا، فإنه لا يفترض وجود مركز واحد وحيد (أزلي ثابت) في فلسطين، بل يفترض وجود مراكز متغيِّرة متنوعة متساوية في الأهمية، وهو يتحدث في واقع الأمر عن أقليات يهودية مركز ديناميتها الحضارية هو البلد الذي توجد فيه، ولذا فيهود أوربا في رأيه أوربيون أولاً وأخيراً ولا وجود لهم خارج تراثهم الأوربي. وإذا أصرَّ دبنوف بعد كل هذا علي أن هذا البلد هو مركز كل الأقليات اليهودية، فإن هذا من قبيل اختلاط الخطاب. كما أن دراسته التاريخية ليهود روسيا وبولندا لم تركز قط علي تبعيتهم في مرحلة من المراحل ليهود الأندلس أو فرنسا، ولم تُبيِّن كيف تولوا قيادة كل الأقليات اليهودية في العالم، ذلك لأنها دراسة في أوضاعهم ومؤسساتهم الثقافية والإدارية التي لا يمكن فهمها إلا في إطارها السلافي الشرق أوربي. كما أن الحلول التي يطرحها لمسـألة يهود شرق أوربا اليديشـية لا تنبع من فكرة القـومية اليهـودية العـامة، وإنما من فكرة القومية اليديشية الشرق أوربية. ولذا، فهو حينما يرفض اندماج اليهود، فإنه لا يفعل ذلك باسم جوهر يهودي عالمي أزلي وإنما باسم هوية يديشية متعينة توجد في الزمان والمـكان. ومن هـنا، فإنه يرفض فكرة الدولة اليهودية المستقلة، كما يرفض إحياء اللغة العبرية (لغة الهوية اليهودية العالمية المزعومة) ويطالب بدلاً من ذلك بإحياء اليديشية (لغة يهود شرق أوربا) لأنها اللغة التي عرفوها، وبأن يحقق يهود اليديشية هويتهم الخاصة من خلال إطار الدولة متعددة القوميات.

وتتجلَّي دقة مستوي التحليل لدي دبنوف، وتخليه عن فكرة اليهودية العالمية، في تحليله وضع اليهود في عصره. لقد لاحظ تفكك الجماعات اليهودية في أوربا وروسيا بالذات، ولاحظ الهـجرة اليهـودية المتجهة إلي الولايات المتحـدة وإلي غيرها من الدول، كما لاحظ أخيراً معدلات الاندماج المرتفعة. ولكل هذا فإنه تنبأ بأن يهود اليديشية سيتحولون إلي يهود روس، ومعظم يهود العالم سينتقلون إلي الولايات المتحدة، حيث سيكون بوسعهم تطوير شخصيتهم اليهودية الأمريكية في الدياسبورا الجديدة، لأن مجتمع الولايات المتحدة مجتمع أقليات مهاجرة لكل منها تراثها الحضاري الخاص بها والمستقل عن التراث الحضاري المشترك للأمة الجديدة.

ورغم الدينامية الهستيرية التي تتصف بها الصهيونية وتنظيماتها العديدة، فإن التطور التاريخي أثبت زيف الأطروحات الصهيونية وصدق تحليلات دبنوف. وقد كان دبنوف واعياً تماماً بهذا، ولذا فقد وصف الصهيونية بأنها "مجرد صيغة مُجدَّدة لعقيدة انتظار الماشيَّح نُقلت من عقول القبَّاليين المنتشية إلي عقول الزعماء الصهاينةالساسيين". وقد تَبنَّي البلاشفة في روسيا (في نهاية الأمر وبعد تخبُّط لعدة سنوات) الصيغة الدبنوفية الداعية إلي البعث اليديشي فتم تأسيس مقاطعة بيروبيجان، ثم تصاعدتعملية دمج وترويس يهود اليديشية حتي تحوَّلوا إلي يهود روس. كما اتجه أكثر من 85% من المهاجرين الروس، ثم السوفييت، إلي الولايات المتحدة. ولا يزال هذا هو الاتجاه الأساسي لحركة هجرة اليهود السوفييت. وبعد استقرارهم في الولايات المتحدة، نجح يهود اليديشية (لبعض الوقت) في الاندماج في مجتمعهم الجديد دون أن يفقدوا هويتهم.

ولكن حركيات المجتمعين الأمريكي والسوفيتي (والمجتمع الغربي ككل) تؤدي إلي تَصاعُد معدلات الدمج والزواج المُختلَط وانصهار واختفاء أعضاء الجماعات اليهودية. لكن دبنوف لم يتنبأ بهذا التطور الأخير، وكان من الصعب عليه أن يفعل ذلك في نهاية القرن التاسع عشر. وعلي كلٍّ، فإن إحدي السمات الأساسية في المجتمعات العلمانيةالحديثة، مجتمعات ما بعد الصناعة والأيديولوجيا، هي تَصاعُد معدلات الترشيد والعلمنة التي تؤدي إلي تَساقُط الخصوصيات الدينية (بل الإنسانية) بحيث يندمج الجميع في حركة المجتمع المحكومة الآلية.

وقد اشترك دبنوف بشكل نشيط في عدد من النشاطات الخاصة بالجماعة اليهودية في روسيا، فأيَّد جهود العناصر اليهودية في جمعية تنمية الثقافة في روسيا لفَتْح مدارس يهودية، وطالب بتشكيل نظام يهودي للدفاع عن الذات بعد مذابح كيشينيف التي وقعت عام 1950، كما أيَّد المشاركة اليهودية في انتخابات عام 1950 واشترك في العام نفسه في نشاط الجمعية من أجل الحقوق الكاملة والمتساوية للشعب اليهودي، وفي عام 1906 أسس «حزب الشعب اليهودي» ذا التوجه القومي العضوي الذي استمر حتي عام 1918. وظل دبنوف معارضاً لحزب البوند بسبب سياسته الاشتراكية والماركسية، وذلك برغم وجود اتفاق بنيوي في الرأي. وقد وُجِّهت إليه الدعوة في بداية الثورة البلشفية للاشتراك في اللجـان المختلفة لإعـداد بعـض المطبوعات حول المسـألة اليهودية. وقد غادر دبنوف روسيا عام 1922 واستقر في برلين. وباعتلاء هتلر السلطة، رحل دبنوف إلي ريجا (عاصمة ليتوانيا) حيث قتل علي يد شرطي ليتواني.

أهــارون ليبرمــان (1849-1880(Aharon Lieberman

كاتب روسي يهودي وُلد في ليتوانيا، تلقَّي تعليمه في إحدي المدارس التلمودية العليا (يشيفا)، وكان من دعاة حركة الاستنارة اليهودية، كما كان عضواً في الحركات الثورية السرية في فلنا. وقد مثَّل ليبرمان (داخل حركة الاستنارة اليهودية) التيار المطالب بالجمع بين التحول الاجتماعي والاقتصادي والاحتفاظ بالانتماء القومي اليهودي متأثراً بالفكر الشعبوي الروسي، فرفض المفهوم القائل بأن التحديث ينطوي علي نفي ما هو قومي. وبرغم هجومه علي المدارس اليهودية التقليدية ومدرسيها، إلا أنه رفض محاولات القيصر نيقولا الأول الرامية إلي فَرْض نظام تعليمي روسي حديث علي الأطفال اليهود وطالب بأن ينظم أعضاء الجماعة اليهودية مدارسهم الحديثة الخاصة بهم حيث يتم تدريس اللغتين الروسية والعبرية. وقد اعتبر ليبرمان أن العبرية هي لغة اليهود القومية الحقة، أما اليديشية فما هي إلا رطانة ألمانية. وقد هاجم ليبرمان بشدة فكرة أن يتولَّي أثرياء اليهود قيادة عملية التغيير وهي الفكرة التي دعا إليها كثير من دعاة التنوير اليهود ووجَّه هجومه اللاذع للبورجوازية اليهودية.

وفي عام 1875، اضطر ليبرمان، بسبب نشاطه الثوري، إلي الفرار إلي لندن حيث انضم إلي دائرة الثوريين الروس، والتحق بواحدة من أهم المجلات الروسية الثورية في ذلك الحين (فيبريد)، ونشر بها مقالات عديدة في الفترة بين عامي 1875 و1876. ورغم أن نبرته الثورية والأممية أصبحت أكثر وضوحاً وقوة، إلا أن ليبرمان ظليؤكد الجانب الإثني (الذي يُقال له «قومي» في مصطلحه)، وطالب بتضامن الجماهير اليهودية واعتبر أن "التاريخ اليهودي" والتعاليم اليهودية قد مهَّدت الطريق أماماليهود ليكونوا الممثلين الطبيعيين للاشتراكية الثورية. وهذا اللجوء إلي الرموز الدينية أو التاريخية كان في الواقع من سمات الحركة الشعبوية الروسية، وكان يهدف إلي تعبئة الجماهير وكسب تأييدها للقضايا الثورية. كما طالب بضرورة إيجاد إطار تنظيمي مستقل لأعضاء الجماعـة اليهـودية يعمل داخل الإطار الأوسع للحركة الثوريةالروسية.

وقد هاجم ليبرمان المثقفين اليهود المتروِّسين بشدة، واعتبرهم نخبة منفصلة عن الجماهير اليهودية وبعيدة عن حقيقة أوضاعهم. كما اعتبر أن أكثر العناصر قدرة علي تأسيس حركة ثورية بين الجماهير اليهودية هي العناصر القريبة من هذه الجماهير والمرتبطة بعالمها، ورأي أن طلبة المدارس التلمودية العليا (اليشيفا) هم أكثر العناصر المؤهلة لهذا الدور. وهذا أيضاً أحد الأسباب التي دفعته للاهتمام باللغة العبرية باعتبارها أفضل أداة للعمل بين طلبة المعاهد التلمودية وتجنيدهم للعمل الثوري وتدريبهم لكي يصبحوا من القيادات الثورية اليهودية. وفي عام 1876، أصدر بياناً بالروسية والعبرية مُوجَّهاً للشباب اليهودي في روسيا بشكل عام ولطلبة المدارس التلمودية العليا بشكل خاص هاجم فيه البورجوازية اليهودية وحمَّلها مسئولية الشقاء والاضطهاد اللذين تعاني منهما الجماهير اليهودية، كما ناشد المثقفين من الشباب اليهودي الانضمام للجماهير الكادحة. وبالتالي، يُعَدُّ ليبرمان من أوائل من نادوا بالعمل الدعائي الثوري بين الجماهير اليهودية الكادحة علي غرار حركة "الذهاب إلي الشعب" التي أطلقتها الحركة الشعبوية الروسية في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن التاسع عشر والتي كانت مُوجَّهة لجماهير الفلاحين الروسية. وقد اتخذ ليبرمان خطوات عملية في هذا الاتجاه حينما شارك عام 1876 في تأسيس الاتحاد الاشتراكي العبري في لندن علي أن يقوم هذا الاتحاد بتنظيم نقابة عمالية تضم العمال من المهاجرين اليهود القادمين من روسيا وشرق أوربا. إلا أن هذا المشروع لم ينجح بعد أن تَسبَّب هجوم ليبرمان علي المؤسسة الدينية اليهودية وقيادات الجماعة اليهودية في لندن في ابتعاد كـثير من الجـماهير العمالية عن الاتحاد. وقد أدَّي ذلك، بالإضافة للخلافات الداخلية، إلي انهيار الاتحاد في العام نفسه.

وفي عام 1877، أصدر ليبرمان جريدة باللغة العبرية لاقت قبولاً كبيراً لدي دعاة التنوير الراديكاليين، ولكنه تَعرَّض أيضاً لانتقادات حادة من جهات عدة حيث رأي البعض (داخل الدوائر الراديكالية) أن هجومه الشرس علي المؤسسة الدينية وتأييده فكرة الأممية سيؤدي إلي تباعد الجماهير اليهودية، بينما أكدت بعض الآراء الأخري أن جريدته بعيدة عن الاشتراكية وذات تَوجُّه قومي (أي صهيوني) بدليل أن ليبرمان اختار لإصدارها اللغة العبرية (لغة الأرسـتقراطية الدينية) بدلاً من اللـغة اليديشـية (لغة الجماهير الكادحة). كما أن اقتباساته الكثيرة من التراث الديني اليهودي في كتابة مقـالاته دليل آخر علي هذه النزعة المتعالية. وقد أغلقت الجريدة، قبل صدور العدد الرابع،نتيجة المشاكل المالية وتزايد الانتقادات لها من جميع الجهات.

وفي عام 1878، أُلقي القبض علي ليبرمان في فيينا بتهمة الإقامة في البلاد تحت اسم مستعار ورُحِّل إلي خارج البلد. ثم أُلقي القبض عليه مرة أخري في ألمانيا (عام 1879 حيث حُوكم بتهمة المشاركة في تأسيس منظمة سرية وسُجن لمدة تسعة أشهر. وفي عام 1880، انتقل إلي لندن مرة أخري. وقد راودته في هذه الفترة فكرة الانضمام إلي منظمة إرادة الشعب الإرهابية ولكنه لم يُقدم علي ذلك نظراً لشكوكه حول مدي التزامها بمبدأ الثورة الاشتراكية التي ستتخطي المرحلة البورجوازية.

وفي تلك الآونة، ارتبط ليبرمان عاطفياً بسيدة متزوجة لم تبادله المشاعر نفسها، وسافر وراءها إلي الولايات المتحدة حيث مات منتحراً عـام 1880 بعد أن أطـلق الرصاص علي نفسه أثناء زيارته لها في منزلها.

ورغم تأكيد ليبرمان أهمية اللغة العبرية قياساً إلي اللغة اليديشية، إلا أن كثيراً مما طرحه مهَّد الطريق أمام بلورة الأساس الفكري لحزب البوند فيما بعد. ومع هذا، يمكن القول بأن تأرجحه بين اللغة العبرية من جهة والتوجه إلي الجماهير اليديشية من جهة أخري هو تعبير عن أحد التناقضات الأساسية الكامنة في حركة الاستنارة (بين النزعة الاندماجية الثورية والنزعة القومية الانعزالية، أي الصهيونية) وربما لو عاش ليبرمان مدة أطول لحسم التناقض لصالح أحد الطرفين.

حاييــم جيتلوســكي (1865-1943(Hayyim Zhitlowsky

كاتب يهودي كان يكتب باليديشية والروسية، وهو من كبار مفكري ما يُسمَّي «قومية الدياسبورا». وُلد في روسيا، وتلقي تعليماً علمانياً، ثم انخرط في سن مبكرة في الحركات الاشتراكية والثورية الروسية. وقد ظل جيتلوسكي بعيداً عن أي اهتمام خاص بأوضاع الجماعات اليهودية في روسيا إلي أن تدهورت أوضاعهم الاجتماعيةوالاقتصادية بشكل حاد في الثمانينيات من القرن التاسع عشر، مع تعثُّر التحديث في روسيا وتزايد الاضطهاد الموجَّه ضدهم (وضد غيرهم من الأقليات) فيما أصبح يُعرَفباسم «المسألة اليهودية». وقد دفعه ذلك إلي البحث عن حلول لهذه المسألة وإلي إيجاد صيغة تجمع بين الاشتراكية والخصوصية القومية. وبعد أن كان جيتلوسكي يري في الاندماج حلاًّ لمشاكل يهود روسيا، أصبح رافضاً له. وقد احتك بحركة أحباء صهيون وتأثر بها، ولكنه لم يقبل الحل الصهيوني، وأصدر عام 1887 دراسة بالروسية عنوانها أفكار حول المصير التاريخي لليهودية تضمنت نقداً كاملاً للرؤية الصهيونية للتاريخ. وقد ذهب جيتلوسكي في هذه الدراسة إلي أن اليهود تحولوا، بعد سقوط الهيكل عام 70م، من أمة تناضل من أجل العدل الاجتماعي والقيم الإنسانية العليا إلي أمة من الوسطاء والطفيليين تستغل عمل الآخرين. وفي حين أن جيتلوسكي كان يري أن الاندماج حل طبيعي بالنسبة إلي يهود الغرب (غرب أوربا ووسطها)، فإنه كان يري أن الأمر مختلف بالنسبة إلي أعضاء الجماعة اليهودية في شرق أوربا (روسيا وبولندا بالأساس) فهم يشكلون قومية شرق أوربية لغتها اليديشية (قومية يديشية)، وتتحدد هويتها علي هذا الأساس الإثني المحلي الروسي، أي أنها أقلية قومية ضمن الشعوب والأقليات القومية في روسيا القيصرية. ومن هنا، كان جيتلوسكي مؤمناً بأن البعث القومي اليهودي ممكن في «الدياسبورا» أو «الشتات» داخل إطار اشتراكي.

وقد قوبلت دراسة جيتلوسكي بالهجوم الشديد من قبَل دبنوف رغم اتفاقهما في المنطلقات. كما اتهمته الصحافة، وخصوصاً المكتوبة بالعبرية، بمعاداة اليهود.

وفي عام 1888، انتقل جيتلوسكي إلي برلين ثم إلي زيوريخ وبرن حيث حصل علي درجة الدكتوراه عام 1892، وأصدر في العام نفسه كتابه من يهودي إلي اليهود يناشد فيه المفكرين والقادة اليهود أن يتحالفوا مع الجماهير ليحلوا مشاكلهم الاقتصادية علي أساس ثوري. ودعا إلي إعادة توطين اليهود في الأرض وإلي اشتغالهم بالزراعة، فهذا الإجراء "سيضع نهاية لانحطاطهم الأخلاقي الناتج عن اشتغالهم بالتجارة" علي حد قوله. كما طالب بأن يسعي أعضاء الجماعة اليهودية لا إلي تحقيق المساواة في مجال الحقوق المدنية وحسب ولكن أيضاً إلي تحقيق المساواة في مجال ما سماه "حقوقهم القومية"، أي حقوقهم كأقلية قومية.

وقد ساهم جيتلوسكي في تأسيس الحزب الاشتراكي الثوري الروسي في المنفي عام 1893، وشارك في تحرير جريدته، كما أسَّس اتحاداً يهودياً اشتراكياً يُصدر مطبوعاته باليديشية.

وكتب دراسة عام 1897 بعنوان لماذا اليديشية؟ نشرت عام 1900 أكد فيها ضرورة أن تكون اليديشية اللغة القومية لأعضاء الجماعات اليهودية. وقد أكد هذا الرأي أثناء حضوره المؤتمر الصهيوني الأول (1897). وقد رفض جيتلوسكي الصهيونية باعتبارها حركة برجوازية رجعية ذات ارتباط وثيق بالتيارات الدينية الأرثوذكسية وبأثرياء اليهود. وبعد انضمامه لحزب البوند عام 1898، كتب مقالاً في صحيفة تحت عنوان "الصهيونية أم الاشتراكية؟" أكد فيه أن الاشتراكية هي الإطار الأمثل الذي تستطيع الجماعة اليهودية من خلاله تحقيق ذاتيتها واستقلالها الثقافي والحضاري كأقلية قومية في ظل دولة متعددة القوميات. وبعد مذابح كيشينيف في روسيا (عام 1903)، نادي جيتلوسكي بضرورة وجود مركز إقليمي.

وفي زيارته الأولي للولايات المتحدة (عام 1904)، شارك في تحرير جريدة داس فولك الإقليمية. وفي سلسلة من المحاضرات، هاجم جيتلوسكي فكرة بوتقة الانصهار (أي أن ينصهر كل المهاجرين إلي الولايات المتحدة في بوتقة قومية واحدة)، ودعا إلي ضرورة أن يحتفظ المهاجرون اليهود وغيرهم من الأقليات المهاجرة إلي الولايات المتحدة بتراثهم الحضاري الخاص في إطار مجتمع متعدد القوميات. وأكد أن اللغة أساس الحياة الثقافية لأي شعب، وبالتالي فإن الحفاظ علي اللغة والثقافة اليديشية سيحمي اليهود من الاندماج، ولن يهدد تخليهم عن العقيدة الدينية بقاءهم واستمرارهم القومي.

وعاد جيتلوسكي إلي أوربا عام 1906 ورشح نفسه للانتخابات في روسيا وانتُخب بالفعل، لكن الحكومة ألغت انتخابه بسبب نشاطه الثوري. وفي عام 1908، ترأس جيتلوسكي مؤتمر تشيرنوفتس اليديشي. وفي العام نفسه، عاد مرة أخري إلي الولايات المتحدة حيث استقر بشكل دائم في نيويورك، وقام بتحرير مجلة شهرية عبَّر فيها عن آرائه. كما انضم إلي دائرة العمال بهدف نشر تعليم اللغة اليديشية بين العمال اليهود.

وفي عام 1914، ذهب إلي فلسطين، لكنه تركها بعد شهرين بعد أن وجد هناك معارضة شديدة لليديشية. غير أنه تأثر بحركة عمال صهيون وانضم إليها عام 1917، كما شارك في الحملة الرامية لإقامة الفيلق اليهودي خلال الحرب العالمية الأولي وفي تجنيد المتطوعين له. ولكنه عاد ليرفض الصهيونية تماماً في أعقاب الانتفاضة العربية عام 1929.

وبرغم انتقاده للماركسية والبلشفية، اتجه جيتلوسكي إلي التقارب مع الدولة السوفيتية في أعقاب صعود النازية في ألمانيا، ودافع عن محاكمات موسكو عام 1936.

وقد أيَّد جيتلوسكي تأسيس إقليم بيروبيجان في الاتحاد السوفيتي كتجسيد لفكرة الإقليم اليهودي الذي يتيح للجماهير اليهودية التعبير عن ثقافتهم وتقاليدهم الخاصة في إطار قومي ومحتوي اشتراكي.

جيكـوب نيوزنر (1932-)

Jcob Neusner

عالم ومؤرخ أمريكي يهودي تلقَّي تعليمه في كلية اللاهوت اليهودية (المحافظة)، ودرس في جامعة كولومبيا وجامعة براون. من أهم مؤلفاته كتاب تاريخ اليهود في بابل (خمسة أجزاء، 1965 ـ 1970) والتقاليد الحاخامية عند الفريسيين (1971)، واليهودية في عصر علماني (1970). وله دراسات مهمة في التلمود. ويُعَدُّ من أهم علماء التلمود في العصر الحديث.

ويُعَدُّ نيوزنر من أهم المفكرين الأمريكيين اليهود الذين يدافعون عن الوجود اليهودي خارج فلسطين (فيما يُسمَّي «قومية الدياسبورا»)، ولذا فهو يرفض المفهوم الصهيوني لإسرائيل باعتبارها المركز الروحي ليهود العالم. وينطلق نيوزنر من تعريفين للشعب اليهودي أحدهما ديني وثقافي والآخر سياسي وقومي. وهو يري أن الدولة اليهودية قد يكون لها مركزية في حياة اليهود (الزمنية التاريخية)، ولكنها لا مركزية لها في حياة اليهود المتعينة كأناس "يعيشون ويعانون، يولدون ويموتون، يفكرون ويشكون، يربون أطفالهم ويقلقون عليهم، يحيون ويعملون. فما دام اليهود بشراً يعيشون في ظل ظروف إنسانية مستقلة، فلا الصهيونية ولا دولة إسرائيل يمكنها أن تكون محور حياتهم". كما أكد الحاخام نيوزنر أن الصهيونية ليـس لديها ما تقوله بالنسـبة لقضـايا الحياة الثابتـة الخالدة، لأنها (أي الصهيونية) لم تثر قط مشكلة الوجود اليهودي كما عبَّرت عنها اليهودية.

ورفض الحاخام نيوزنر الصهيونية في كتابه المعنون اليهودية الأمريكية (1972) عميق للغاية إذ يري أن الصهيونية أخذت تصبح تدريجياً بديلاً زائفاً عن الدين اليهودي، فاستولت علي الخطاب الديني اليهودي وعلي رموز اليهودية الدينية، ولذا يعتقد الكثيرون أن الصهيونية واليهودية هما شيء واحد. ونتيجة هذا، يفشل كثير من يهود أمريكا في ممارسة أي نوع من أنواع التسامي الديني والتجاوز الروحي للعالم المادي، ذلك لأنهم يركزون كل اهتمامهم علي قطعة أرض لا يعيشون فيها.... وثمة فارق شاسع بين أن يحلم المرء بأرض توجد في السماء في نهاية الزمان وأن يحلم ببلد بعيدة كل ما فيها خير "ولكن، مع هذا، بإمكان الإنسان أن يذهب إليها إن أراد"، أي أن صهيون بالنسبة ليهود أمريكا لم تَعُد حلماً دينياً وإنما أصبحت تذكرة ذهاب وعودة إلي إسرائيل لمدة أسبوعين.

ويبدو أن حدة رفض نيوزنر للفكرة الصهيونية عن مركزية إسرائيل آخذة في التزايد كما يتضح في مقاله الغاضب المنشور في الواشنطن بوست في10/3/1987 بعد وقوع فضيحة بولارد، فقد أكد بلا مواربة أن الوقت قد حان للقول "إن أمريكا أفضل من القدس بالنسبة لليهود، وإن كانت هناك أرض ميعاد فإن اليهود الأمريكيين يعيشون فيها ويشعرون بالسلام والأمن علي نحو لا يمكن أن يُتاح لهم في إسرائيل.

فاليهود في الولايات المتحدة طائفة مقبولة تجري مع التيار الرئيسي للحياة الأمريكية، وينتمي سبعة أعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي، أي 7% من أعضاء المجلس لطائفة تشكل 2% من مجموع السكان". لكل ذلك، دعا نيوزنر الجميع لطي المسألة وتساءل: "أين يفضل أن يعيش اليهودي؟" والسؤال خطابي استنكاري. فالمقال يقرِّر بما لا يدع مجالاً للشك أن اليهودي الأمريكي يعيش حياة يهودية كاملة في الولايات المتحدة، وأن الدولة اليهودية لا تشكل مركزاً روحياً بالنسبة له.

ورغم هذا الموقف الحاد، فإن نيوزنر يُسمِّي نفسه صهيونياً، ولا ندري بأي معني من المعاني يمكن أن يهاجم مفكر المفاهيم الصهيونية الأساسية بهذه الحدة ويستمر في تسمية نفسه صهيونياً. ولكن رؤية قومـية الدياسـبورا أو ما نسـميه نحن «الصهيونية التوطينية»، مثلها مثل الرؤية الاندماجية، قد تم استيعابها هي الأخري داخل إطار صهيونـية الدياسبورا، وهذا ما كان يعنيه الحاخام نيوزنر نفسه حينما تحدَّث عن مركزية الدولة الصهيونية في الحياة السياسية لليهود وحسب، وهامشيتها في حياتهم الروحية أو الحقيقية، فهو بذلك قد قسَّم حياة اليهود والشتات إلي قسمين: قسم سطحي «صهيوني» يعبِّر عن نفسه من خلال دفع التبرعات والضغط الســياسي. والقسـمالآخر، وهو الـكيان اليهودي الحقيقي، ويقع خارج نطاق الرؤية الصهيونية ويشمل حياة اليهودي في معظم أبعادها.

ويمكننا أن نقول إن الرؤية السائدة في وجدان معظم يهود العالم هي هذه الصهيونية التوطينية التي تأخذ شكل سلوك سياسي سطحي صهيوني، وسلوك حياتي عميق لا علاقة له بالصهيونية، وبالتالي بإمكان يهودي من نيويورك أن يذهب للاجتماعات الصهيونية المختلفة وأن يرفع علم إسرائيل علي سيارته ويرسل شيكه إلي الجباية اليهودية الموحَّدة وأن يضع نجمة داود في سترته ويرسل خطاباً لممثله في الكونجرس الأمريكي يطلب منه أن يتخذ موقفاً ممالئاً لإسرائيل (وهذا هو الجانب السياسي من حياته)، ولكنه في الوقت نفسه يندمج في مجتمعه الأمريكي اندماجاً كاملاً ويتبنَّي المُثُل الأمريكية ويركب السيارة الفارهة ويعيش في الضواحي، كما يمكنه أن يُطوِّر هويته (الأمريكية) اليهودية داخل إطار الحضارة الأمريكية نفسها فيدرس العبرية أو اليديشية. وإن كان كاتباً، فإنه يكتب قصة أو قصيدة أمريكية ذات ملامح يهودية أمريكية محددة دون أن تكون للصهيونية أية مرجعية في حياته.

أ. ف. ستون (1907-1989(I. F. Stone

كاتب وصحفي أمريكي يهودي، عمل صحفياً ومراسلاً لعدد من المجلات والصحف الأمريكية منذ عام 1922 ودرس الفلسفة في جامعة بنسلفانيا.

ويُعَدُّ ستون من المؤمنين بأن الجماعات اليهودية خارج فلسطين لها تراثها وهويتها وإسهاماتها الحضارية وبوجوب الحفاظ علي هذا الوضع وتدعيمه. وهو ينظر نظرة قاتمة إلي ما يسميه قومية ليليبوت (بلاد الأقزام في رواية مغامرات جلفر) ويعني بها إسرائيل (أو الصهيونية)، وهي قومية ضيقة الأفق إذا ما قورنت بما يسميه «قومية الشتات» بنظرتها العالمية (و«قومية الشتات» في مصطلحنا هي عبارة عن الانتماءات الثقافية والإثنية المختلفة لأعضاء الجماعات اليهودية والتي تختلف باختلاف الزمان والمكان). ويؤكد ستون أن القومية الأولي ثمرة الاهتمام الضيق بالمصلحة القَبَلية، أما الثانية فتنبع من رؤية إنسانية. وقد ألقَي ستون نظرة شاملة علي منجزات الشتات (أي أعضــاء الجمــاعات اليهــودية في العــالم)، فوجـد أن الفترات التي ازدهرت فيها حياة اليهود مرتبطة بحضارات ذات رؤية تعددية، سواء في الفترة الهيلينية (في الإسكندرية)، أو الفترة التي ســادت فيــها الحضــارة العــربية في الأندلـس (وشمال أفريقيا)، أو في العصر الحــديث في غـرب أوربــا والولايــات المتـحدة. وهــو يــري أن ازدهـار حياة اليهود في الشتات وإسهاماتهم الحضارية ظاهرة إيجابية جــديرة بالحــفاظ عليـها وتدعيمها. ولذلك، فبدلاً من المطالبة بتصفية الوجود اليهودي في الاتحاد السوفيتي أو تهجير اليهود إلي أرض الميعاد، وبدلاً من التهييج ضد الاتحاد السوفيتي، يقترح حث الاتحاد السوفيتي علي القضاء علي معاداة اليهود وعلي مَنْح اليهود السوفييت الحقوق الخاصة بالاستقلال وحرية التعبير التي يمنحها لغيرهم من الأقليات المختلفة. ويؤكد ستون أن الصهاينة لم يتفقوا معه في المنهج لأن الصهيونية تزدهـر مع الكــوارث اليهودية، فبــدون هــذه الكوارث لن تقوم لها قائمة. ثم يهاجم ستون الدولة الصهيونية لاضطهادها الفلسطينيين وإنكارها حقوقهم. ومن أهم مؤلفات ستون كتاب محاكمة سقراط.

الصفحة التالية ß إضغط هنا