المجلد الرابع: الجماعات اليهودية.. تواريخ 11

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

وكان أعضاء الجماعة اليهودية يبنون معابدهم على هيئة حصون تُوجَد بحوائطها كوات تخرج منها فوهات البنادق وتُنصَب فوقها المدافع ضد الأقنان والعبيد. ومع نهايةالقرن السادس عشر، كان عدد كبير من يهود بولندا الموجودين في أوكرانيا يقوم بعملية الاستغلال هذه ويشكل جسماً غريباً يتحدث أعضاؤه اليديشية (في وسط سلافي) ويؤمنون باليهودية ويمثلون النبلاء البولنديين الكاثوليك (في وسط أوكراني أرثوذكسي) ويقومون بأعمال تجارية (في وسط زراعي فلاحي) مستغرقين إما في الدراسات التلمودية التي أصبحت شكلية وخالية من المضمون والروح منفصلة عن الحياة وإما في التأملات القبالية التي تمنح اليهود مركزية في الكون لا أساس لها في الواقع. وتواجد أعضاء الجماعة اليهودية بأعداد كبيرة في مدنهم التجارية الصغيرة (الشتتلات) الأمر الذي كرَّس عزلتهم بشكل يكاد يكون كاملاً. ويُلاحَظ مدى تَداخُل الانتماء الإثني والديني والطبقي في أوكرانيا وبولندا. ولعل هذا الوضع يشكل الأساس المادي لمقولة أبراهام ليون الخاصة بالشعب/الطبقة، ولبعض المقولات الصهيونية كقولهم " من الطبقة إلى الأمة "، ولحديث بوروخوف عن الهرم الإنتاجي المقلوب عند اليهود. ولكننا نفضل استخدام مفهوم الجماعة الوظيفية (المالية/الاستيطانية) في هذه الحالة.

ومن المفارقات التي تستحق التأمل أن يهود الشتتل كانوا بمنأى عن الثقافة اليهودية الرفيعة (مقابل الثقافة الشعبية) التي كانت توجد مراكزها في المدن حيث كانت توجد المدارس التلمودية العليا (اليشيفات). وقد بدأوا يتفاعلون مع محيطهم الثقافي واستوعبوا كثيراً من العادات والمعتقدات الفلاحية الشعبية المسيحية السلافية. وكان لهذا أعمق الأثر في التطور اللاحق لليهودية إذ أن الدراسات التلمودية الجافة لم تَعُد تلائم هذا الجو المشبع بالأساطير والخرافات.

وقد أخذ عدد أعضاء الجماعة اليهودية في بولندا في التزايد خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر زيادة كبيرة، فكان عددهم عام 1500 يتراوح بين 25 و30 ألفاً من مجموع خمسة ملايين بولندي. وفي عام 1575، زاد عدد سكان بولندا إلى سبعة ملايين نسمة. ولكن عدد أعضاء الجماعة اليهودية زاد إلى 150 ألفاً. ومع منتصف القرن السابع عشر، بلغ عددهم 350 ألفاً (ويُقال 500 ألف) يشكِّلون 5% من مجموع سكان بولندا. وحتى عام 1550، لم يكن هناك يهود يعيشون بشكل قانوني في إنجلترا أو فرنسا أو هولندا أو إسبانيا أو البرتغال أو الدول الإسكندنافية أو إمارة موسكوفي. وكان يهود أوربا كافة مركزين أساساً في بولندا وبعض أجزاء من ألمانيا أو إيطاليا بحيث كان يوجد، في القرن السابع عشر، مركزان أساسيان في العالم لليهود: أحدهما في الإمبراطورية العثمانية وهو الذي استوعب العديد من اليهود الذين طردوا من أوربا الغربية وشبه جزيرة أيبريا، وثانيهما في بولندا وليتوانيا. واستمر يهود بولندا في الزيادة، حتى أن أغلبية يهود العالم في بداية القرن العشرين كانت من نسل يهود بولندا.

النبـلاء البولنديون (شلاختـا)

(Polish Nobility (Szlachta

«شلاختا» كلمة بولندية معناها «نبلاء». والشلاختا تركيب طبقي فريد يستمد تفرده من طبيعة التشكيل السياسي الحضاري البولندي. وظهرت بولندا بوصفها وحدة سياسية بعد أن قام ملوك أسرة بياست (966 ـ 1386) بتوحيد أقاليمها. وحافظت أسرة ياجيلون (1386 ـ 1572) على هـذه الوحـدة من خلال حكومة ملكيـة تتمتع بشـيء من المركزية، وتفرض سلطتها على كل أطراف المملكة، وتتبع سياسة موحَّدة تجاه تطوير المجتمع وتعمير البلاد في الداخل وعمليات صد الغزاة وتوسيع رقعة البلاد في الخارج. وشهدت هذه الفترة توسيع رقعة بولندا حتى أصبحت أكبر دول أوربا وأقواها، تمتد من البحر إلى البحر، من بحر البلطيق إلى البحر الأسود. وفي محاولة تطوير البلاد، قام ملوك بولندا بتشجيع عناصر أجنبية (الألمان واليهود والأرمن) على الاستيطان وتشييد مدن تُحكَم بالقانون الألماني (قانون ماجدبرج). واستقرت في هذه المدن أيضاً عناصر بولندية محلية صبغت هذه المدن بالصبغة البولندية. وكانت هذه المدن تتبع الملك مباشرة (ولذا سُمِّيت «مدن التاج») وكانت ذات شخصية اعتبارية مستقلة ولمجالسها البلدية صلاحيات كثيرة. وإلى جانب سكان المدن، كان يوجد الفلاحون الذين يعيشون داخل نظام الإقطاع البولندي كأقنان عليهم أن يعملوا في مزارع النبيلالإقطاعي. كما كان يُوجَد عدد كبير من الفلاحين الأحرار الذين يستأجرون الأرض من النبيل الإقطاعي. ولم تكن سلطة النبلاء (على الأقنان أو الفلاحين) مطلقة في بدايةالأمر إذ كانت لهم أيضاً مجالسهم المستقلة ومحاكمهم، وكانت بعض القرى قد نجحت في الحصول على الحقوق والمزايا التي منحها القانون الألماني للمدن. بل إن بعض الفلاحين الأحرار كانوا ضمن العناصر الأجنبية التي استقرت خلال محاولة تعمير بولندا.

أما أهم الطبقات، من منظور التطور السياسي اللاحق لبولندا، ومن منظور تبلور المسألة اليهودية في شرق أوربا وظهور الصهيونية، فهي طبقة النبلاء. وهي طبقة لم تكنقط تابعة للملك وإن كان قد نجح بعض الوقت في فرض سلطته عليها. وإذا كان التطور اللاحق في معظم أرجاء أوربا هو تَعاظُم سلطة الملك داخل النظام الإقطاعي وتقليمأظافر النبلاء الإقطاعيين وتأسيس الدولة المطلقة تحت حكم الملوك المطلقين، فإن العكس هو الذي حدث في بولندا إذ تعاظم نفوذ النبلاء حتى أصبحوا الحكام الحقيقيينوأصحاب القرار في الدولة البولندية. وظهر أول اتحاد لهم في منتصف القرن الرابع عشر، وكونوا مجلس شورى للملك (1385 ـ 1493)، ثم نجحوا في الفترة 1422 ـ 1433 في تدعيم امتيازاتهم، كالإعفـاء من الضرائب وعدم سـجن أي منهم إلا بعد المحاكمة. وتحوَّل مجلس شورى الملك عام 1493 إلى مجلس تشريعي يُسمَّى السييم أو البرلمان. وفي عام 1505، ساد العرف القائل « نيهيل نوفي nihil novi » (وهي عبارة لاتينية تعني «لا تجديد»)، الأمر الذي يعني تأكيد حق برلمان النبلاء وحده في إصدار القوانين والتشريعات. ومن خلال البرلمان (سييم)، تَمكَّن النبلاء من تقويض دعائم النظام الملكي المركزي تماماً حتى تحولت بولندا من مملكة يحكمها ملك إلى مملكة تحكمها طبقة اجتماعية هي طبقة النبلاء.

ولعل تَزايُد نفوذ النبلاء يعود إلى سمة فريدة في بولندا بين الدول الغربية، وهي تعددية الإمبراطورية البولندية إثنياً وجغرافياً ودينياً، وهي تعددية زادت بعد توحيد ليتوانيا وبولندا عام 1386 باتحاد الأسرتين الملكيتين في البلدين. وكانت بولندا تضم بولنديين كاثوليك يتحدثون الألمانية، وليتوانيين يتحدثون لغتهم، ويهود يتحدثون اليديشية، وألمان يتحدثون الألمانية، وأرمن مسيحيين يتحدثون الأرمنية، وتتراً مسلمين يتحدثون لغتهم، وغير هؤلاء كثيرون، حيث بلغ عدد اللغات اثنتى عشرة لغة. كما وُجدت في بولندا الديانات التوحيدية الثلاث، وكذلك معظم الشـيع المسـيحية: الأرثوذكسـية والكاثوليكية والأرمنيـة والبروتستانتية، ومثل هذه التعددية تتطلب إطاراً إدارياً فضفاضاً.

وانتهى حكم أسرة ياجيلون بتوقيع اتحاد لوبلين (برست ليتوفسك) عام 1569، والذي حوَّل الوحدة بين بولندا وليتوانيا من وحـدة ملكية (من خـلال الأسرة المالكة) إلى وحدة حقيقية بين البلدين. ولكن كان يُوجَد في كل من البلدين طبقتان من النبلاء، لكلتيهما مصالحها وظروفها التي لا تنوي التنازل عنها. ولإنجاز الاتحاد، كان لابد أن تتنازل السلطة المركزية الملكية عن كثير من سلطاتها الأمر الذي أدَّى إلى تَزايُد ضعف السلطة المركزية وتَزايُد نفوذ النبلاء. وبعد أن اتحدت مملكة بولندا ودوقية ليتوانيا، احتفظت كل منهما بقوانينها وإدارتها، ولكن أصبح لها حكومة واحدة تحت حكم ملك واحد ينتخبه البرلمان (سييم). وقد سموا هذا الكيان «ريس بوبلكا res publica» وهي كلمة لاتينية معناها «الجمهورية»، وأُطلَق عليها «جمهورية بولندا وليتوانيا المتحدة»، أي أن المملكة الجديدة تحوَّلت من ملكية تتحكم فيها طبقة اجتماعية إلىجمهورية ملكية أي جمهورية يحكمها ملك منتخب، وهو أمر فريد في العالم الغربي وربما في العالم بأسره. وكان الملك يُنتخَب انتخاباً مباشراً من قبَل النبلاء. ولم يكن يتم تتويج الملك إلا بعد أن يُقسم على أنه سيلتزم بميثاق يحوي العديد من البنود، مثل: قبوله بأن يُختار الملك بالانتخاب وأن عليه دعوة البرلمان للاجتماع والموافقة على أن يقوم ستة عشر سناتوراً بالرقابة على السياسة الملكية وأن يحافظ على امتيازات النبلاء وحقهم في الموافقة على فرض الضرائب وإعلان الحروب وتوقيع المعاهدات. ومن ثم كانت السيادة الكاملة للنبلاء، وأصبح الملك مثل المدير الذي يتم التعاقد معه لتنفيذ خطة محددة موضوعة له. وكانت سلطة ملك بولندا أقل كثيراً من سلطة ملك إنجلترا الذي كان يملك ولا يحكم، فهذا كان لا يملك ولا يحكم. ووصل نظام الجمهورية الملكية إلى قمة سخفه في نظام الليبروم فيتو librum veto (وهي عبارة لاتينية تعني «الفيتو الحر») وهو نظام يعطي لأي عضو في البرلمان حق الفيتو وهو ما كان يعني ضرورة أن تَصدُر القرارات بالإجماع. وقد أصاب هذا النظام البرلمان بالشلل وزاد تفكك بولندا وتحوُّلها إلى أقسام يحكم كلاًّ منها نبيل أو ربما يتحكم فيه.

وتزامنت عملية تقنين سلطة النبلاء مع عدة عمليات تاريخية داخلية وخارجية:

1 ـ شهدت سبعينيات القرن السادس عشر ازدهار بولندا التجاري نتيجة تحوُّلها إلى معبر للتجارة بين الشرق المسلم والغرب المسيحي، فهي بلد يقع في قلب أوربا ويمتد من بحر البلطيق إلى البحر الأسود، أي من السويد وروسيا وألمانيا وبمحاذاة العديد من بلاد أوربا ووسطها ليصل إلى حدود الدولة العثمانية. وبدأت بولندا في تصدير العديد من السلع الغذائية. واستفاد النبلاء من هذا الوضع إذ احتكروا الاتجار في هذه السلع وراكموا الثروات.

2 ـ شهدت الفترتان من 1496 إلى 1508 ومن 1520 إلى 1532 صدور عدة قوانين شددت قبضة النبلاء على الفلاحين وسلبتهم حريتهم وحولتهم إلى أقنان بحيثأصبحوا ملكية خاصة للنبلاء وأصبحوا مجرد مصدر للعمالة الرخيصة في مزارع البلاد.

3 ـ نجم عن الوحدة بين ليتوانيا وبولندا أن أُتيحت فرصة للاستثمار أمام النبلاء البولنديين في أوكرانيا (1569 ـ 1648). وانحصر اهتمام النبلاء في ريع ضياعهم في أوكرانيا دون أيِّ إحساس بالمسئولية الإقطاعية تجاه فلاحيهم ودون أية مشاركة في ثقافتهم. وأدَّى هذا إلى تَزايُد استغلال النبلاء للفلاحين في أوكرانيا وخارجها، وتحوَّل نظام الأقنان إلى نظام عبودي إذ لم تكن هناك قوة تقف في وجه النبلاء وتضع حدوداً لاستغلالهم. وقد أصر النبلاء على حقهم المطلق في إقرار الحياة والموت بالنسبة إلى الأقنان. وظل رجال الكنيسة وسكان المدن اليهود (أي الجماعات التي كان يتقرر وضعها بموجب مواثيق ملكية) خارج نطاق تحكُّم النبلاء. واستمر استقلالهم، ولكنهم لم يشتركوا في البرلمان أو في انتخاب الملك باستثناء بعض كبار رجال الكنيسة.

وكانت ثقافة الشلاختا تدعو للمساواة التامة بين مختلف النبلاء دون تفرقة على أساس الثروة أو النفوذ. ولم يكن هناك تمييز بين كبار النبلاء والشريحة المتوسطة منهم أو ما كان يُسمَّى «النبلاء الحفاة» أو «سابلة النبلاء» وهو عدد هائل من النبلاء الذين كانوا لا يملكون أرضاً ولا ثروة، ومع هذا كانوا أعضاء في طبقة الشلاختا.

ويُلاحَظ أن طبقة النبلاء، في مختلف بلاد أوربا، كانت لا تزيد على 1 ـ 2% من مجموع السكان. أما الشلاختا، فكانت تصل إلى ما بين 8% و12%. ولذا، كانت تُعَدُّ أكبر طبقة لها حق الانتخاب في أوربا في ذلك الوقت.

ورغم مجمـوعة القيـم الديمقراطيـة التي تَمسَّك بها أعضاء الشلاختا، أو ربما بسببها، فإنهم كانوا مسئولين إلى حدٍّ كبير عن ضعف بولندا واختفائها في نهاية الأمر. فقد اهتم النبلاء كل بمصلحته الخاصة وهو أمر لم يكن ليَخفَى على الدول المجاورة (ذات الأطماع في بولندا) التي أخذت تتدخل في السياسات الداخلية لبولندا من خلال النبلاءوتتحكم فيها، وهو ما أدَّى إلى تَزايُد النفوذ الأجنبي. وتزامنت هذه المرحلة مع ظهور الملكيات المطلقة ذات السلطة المركزية في بقية أوربا وظهور ألمانيا وروسيا والنمسا كإمبراطوريتين لهما أطماع في بولندا.

وحدث تَطوُّر مُتوقَّع داخل طبقة النبلاء ذاتها إذ أخذت شريحة كبار النبلاء (التي كانت تضم حوالي ثلاثمائة أسرة) في التبلور كأقلية تتحكم في طبقة النبلاء نفسها، وفي الوظائف الأساسية في الدولة ومن ثم في بولندا بأسرها. وكانت ثروات كبار النبلاء أكبر من ثروات الملك، كما كانت ضياعهم دولة داخل دولة فعلاً، ويعيش فيها مئات الألوف من الأقنان/العبيد. وكان حجم بعضها أكبر من حجم بعض الدوقيات الألمانية، كما كانت تتبع كل نبيل قوة مسلحة خاصة به لضمان الأمن الداخلي. وتحوَّل صغار النبلاء إلى موال لهم يمتثلون لأوامرهم. وقد أسس النبلاء مدناً خاصة بهم تتنافس مع المدن الملكية وتفوقها في الثروة والنفوذ، وساهموا في إضعاف الطبقة الوسطى إذ استوعبوا ثروات بولندا وركزوها في أيديهم. ومع اكتشاف أمريكا، وصلت إلى أيديهم كميات كبيرة من الذهب تم استيرادها من العالم الجديد. ولكن الثروات التي راكموها لم يُعَد استثمارها في الاقتصاد، بل بُدِّدت في مظاهر الترف، الأمر الذي أدَّى إلى التضخم وعدم الازدهار الاقتصادي.

وقد أدَّى كل هذا إلى استقطاب شديد في المجتمع البولندي بحيث كانت تُوجَد من ناحية طبقة الشلاختا التي على رأسها شريحة كبار النبلاء تتحكم في المجتمع بأسره (دون ضوابط) بمساندة القوى الأجنبية أحياناً، وكانت تُوجَد من ناحية أخرى طبقة عريضة من الفلاحين الذين تحولوا بالتدريج إلى أقنان/عبيد، كما كانت تُوجَد طبقة وسطى هزيلة غير قادرة على النمو بسبب سيطرة كبار النبلاء. ومع تَصاعُد نفوذ النبلاء وضعف نفوذ السلطة المركزية الملكية، تزايد اعتماد اليهود على النبلاء ابتداءً من القرن السابع عشر وانتقل مركز الجاذبية بالنسبة إليهم من غرب ووسط بولندا إلى المناطق الشرقية في أوكرانيا وغيرها. ومن منتصف القرن السابع عشر، أصبحوا الطبقةالثالثة، أو الجماعة الوظيفية الوسيطة بين النبلاء والأقنان. وأصبح أعضاء الجماعة اليهودية أداة النبلاء في ممارسة سلطتهم الجائرة غير المستنيرة. فقام اليهود بمهمة إدارة مزارع النبلاء الكبيرة في أوكرانيا وغيرها تساندهم القوة العسكرية البولندية فيما عُرف بنظام الأرندا، وذلك داخل إطار الإقطاع الاستيطاني في مدنهم الصغيرة (شتتل) التي بناها لهم النبلاء. وكذلك أصبح أعضاء الجماعة أداة النبلاء في كبح جماح الطبقة الوسطى، أو سكان المدن البولندية. فالنبلاء كانوا يفضلون التجار اليهود على غيرهم لأنهم كانوا يحققون لهم عائداً أكبر من العائد الذي يحققه التجار البولنديون أو الألمان. وحتى في المدن البولندية، التي كان محظوراً على اليهود السكنى أو الاتجار فيها، كانت منازل النبلاء تقع خارج نطاق قوانين المدينة، ولذا كان بوسع اليهود أن يقيموا فيها كي يقوموا بنشاطهم التجاري لصالحهم ولصالح النبلاء أيضاً. ومما دعم العلاقة بين اليهود والنبلاء أن النبيل الإقطاعي كان محرماً عليه الاشتغال بالتجارة، كما كان يفقد مكانته ووضعه الطبقي إن فعل، ولذا كان مضطراً لاستخدام وسيط تجاري ليضطلع بهذه الوظيفة نيابة عنه.

وازدهرت الجماعة اليهودية بسبب ارتباطها بالنبلاء الذين كانوا يجدون فيها أداة طيعة لا تمثل أية خطورة عليهم بسبب عزلتها عن السكان ولأنها ليست لها مطالب سياسية على عكس الوسطاء المحليين. ويُقال إن بولندا، في هذه المرحلة، كانت السماء بالنسبة لليهود والجنة بالنسبة للنبلاء، ولكنها كانت تمثل جهنم بالنسبة للأقنان، ويمكن أن نضيف وللتجار البولنديين.

ويمكن أن نرى هنا الجذور الحقيقية للمسألة اليهودية إذ أن تحول اليهود إلى أداة استغلال، أو إلى جماعة وظيفية وسيطة، يعني أنهم كانوا يقفون ضد أغلبية طبقات المجتمع لا يرتبط مصيرهم بمصيره، وخصوصاً أن الطبقة التي ارتبطوا بها لم تكن طبقة وطنية بل طبقة مرتبطة بالنفوذ الأجنبي. ولذا، فحينما ظهرت طبقة بورجوازية وطنية فيبولندا، لم يكن بإمكان اليهود أن ينخرطوا في سلكها فظلوا خارجها. كما ارتبطوا بطبقة كانت عملياً مسئولة عن ضعف بولندا وتَحوُّلها من دولة عظمى إلى دويلة صغيرة ثم عن اختفائها نهائياً مع بداية القرن التاسع عشر. واختفت طبقة النبلاء مع تقسيم بولندا وتَحوَّل كثير من النبلاء إلى مهنيين.

ونحن نرى أن علاقة كبار النبلاء باليهود كجماعة وظيفية وسيطة وعميلة، تُستخدَم أداة لامتصاص خيرات البلد وفائض القيمة من جماهيره داخل إطار الإقطاع الاستيطاني والأطر الأخرى، تشبه علاقة الولايات المتحدة بالمستوطنين الصهيونيين داخل إطار الاستعمار الاستيطاني الإحلالي.

بولنـــدا مــن انتفاضــة القـــوزاق إلـى التقســـيم

Poland, from the Cossack Uprising to the Partition

بدأت الفترة التي تُعرَف باسم «الطوفان» في تاريخ بولندا في منتصف القرن السابع عشر، وهي فترة استمرت نحو ثلاثين عاماً. وشهدت المرحلة السابقة الضعف المتزايد لسلطة الدولة المركزية، وضعف الملكية تحت حكم ملوك الساكسون، وزيادة قوة النبلاء البولنديين (شلاختا) الذين كان يدين بعضهم بالولاء لدول أجنبية. وتزامن ضعف السلطة المركزية مع ظهور دول مجاورة قوية مثل السويد أو روسيا التي بدأت تتحدد معالمها كدولة عظمى. وبدأ الطوفان بثورة القوزاق، وهم جماعـة حدودية من الجنود وقطَّاع الطرق كونوا فرقاً شـبه عسـكرية متجولة، بتشجيع من ملوك بولندا لحماية المنطقة من هجمات التتار. ولكنهم أخذوا يتمردون على الحكم البولندي، واندلعت أول انتفاضة لهم عام 1637. وأعقب ذلك فترة جفاف في أوكرانيا سادت عشرة أعوام، وهو ما زاد بؤس الفلاحين وزاد ضغط اليهود عليهم ليفوا بالالتزامات المالية. ثم هبت العاصفة الحقيقية على شكل انتفاضة بوجدان شميلنكي عام 1648 التي اكتسحت البولنديين وأعوانهم من اليهود. ورغم توقيع معاهدة مع بولندا اعترفت فيها باستقلال دولة القوزاق بزعامة شميلنكي، فإن الصراع في المنطقة استمر دون هوادة. ولم يتمكن أي من الفريقين من إحراز انتصار حاسم. وكان شميلنكي، منذ بداية الثورة، قد عقد تحالفات مع روسيا والدولة العثمانية والتتار، كما وقع معاهدة عام 1654 مع روسيا وُضعت بمقتضاها دولة القوزاق الأوكرانية تحت حماية القيصر، وأصبح القيصر بعدها قيصر روسيا الصغرى (أي أوكرانيا) أيضاً. وهنا دخلت روسيا الحروب مع بولندا التي تحالفت مع التتار. وكانت النتيجة أن أوكرانيا عاشت فترة امتدت 32 عاماً من الغزو الأجنبي والحروب الأهلية والتقلبات الاجتماعية. ودخلت القوات السويدية الحرب عام 1655. وشهدت الفترة أيضاً هجمات الهايدماك وهجمات الفلاحين والأقنان تحت قيادة قوزاق من جماعة الزابروجيان من أتباع شميلنكي (مات عام 1657)، كما شهدت كذلك تصارعاً بين جماعات القوزاق المختلفة. وانتهى الأمر بتقسيم أوكرانيا بين بولندا وروسيا والدولة العثمانية التي ضمت أجزاء من أوكرانيا، من ضمنها بودوليا، ظلت تحت الحكم العثماني حتى عام 1699. ووقعت معاهدة السلام الأزلي بين روسيا وبولندا عام 1686، ومع هذا اندلعت الحرب مرة أخرى ولم تنته إلا عام 1709 حين انتصرت روسيا على السويد وبولندا.

وتحطَّم الاقتصاد البولندي تماماً في هذه المرحلة إذ توقفت تجارة الحبوب من خلال بحر البلطيــق وانخفض مستوى المعيشة (كان مستوى معيشـة المواطـن البولنــدي عام 1750 أقل منه عام 1550)، وتدهورت المدن، وفَقَدت ثلاثة أرباع سكانها، وشهدت بولندا أسوأ تَضخُّم في تاريخـها. وهبط عدد سكان بولندا إلى أربعة ملايين عام 1668 وهو يعادل 45% من عـدد السـكان قبل هـذا التـاريخ، ثــم ارتفـع العــدد إلى أن بلغ 11.420.000عام 1772.

وكانت هذه المنطقة من أوربا تضم نصف يهود العالم تقريباً. وترى الدراسات الحديثة أن التصورات القديمة الخاصة بأن ثورة شميلنكي أبادت عشرات الألوف من اليهود واجتثت مئات الجماعات هي تصورات مبالغ فيها إذ أن أعداداً كبيرة من اليهود هربت ثم عادت بعد استقرار الأمور بعض الشيء. ومع هذا، ثمة اتفاق على أن هذه الهجمات، ثم الصراعات العسكرية والاجتماعية التي تلتها، أدَّت إلى ضعضعة الوجود اليهودي في بولندا وخلقت جواً من الذعر وعدم الطمأنينة.

ورغم أن أعضاء الجماعة اليهودية قاموا بمحاولة إعادة البناء بمساعدة الملك جون كاسيمير (1648ـ 1668)، إلا أن نفوذه كان ضعيفاً، كما أن رأس المال اليهودي كان قد تبدَّد إلى حدٍّ كبير. وكذلك كان عدم الاستقرار سائداً. ولذا، لم تنجح التجربة هذه المرة، وازدادت الأعباء المالية الملقاة على كاهلهم وعلى كاهل مجالس القهال، وبدأ نمط الهجرة الحديثة بين أعضاء الجماعات، الهجرة من البلاد المتخلفة في شرق أوربا إلى البلاد المتقدمة في غربها والهجرة الاستيطانية إلى العالم الجديد.

وفي منتصف القرن الثامن عشر، كان البناء الطبقي والوظيفي لأعضاء الجماعة اليهودية على النحو التالي:

2ـ3% من كبار التجار.

40% من صغار التجار وضمن ذلك مستأجرو الحانات ويهود الأرندا.

33% من الحرفيين.

10% من الحرف المرتبطة بنشاطات الجماعة اليهودية.

15% من الفقراء والعاطلين والمتسولين.

وكان معظم الجماهير اليهودية في تلك المرحلة قد ابتعد عن مراكز الدراسات التلمودية والتقاليد الثقافية الحاخامية التي كانت قد بدأت تفقد صلتها بالواقع، وأصبحت غير قادرة على أن الاستجابة للحاجة الروحية لدى الجماهير اليهودية، الأمر الذي أدَّى إلى انتشار القبَّالاه. ورغم أن اليهود كانوا وسطاء ممثلين للإقطاع البولندي، فإنهم اكتسبوا كثيراً من صفات الفلاحين الأوكرانيين والبولنديين بكل خرافاتهم ونزعاتهم الدينية الغيبية، بل تأثروا بتقاليدهم الدينية المسيحية، وخصوصاً بجماعات المنشقين الدينيين الروس وبالخليستي على وجه التحديد. وتزامن ظهور الحركة مع التدهور التدريجي للاقتصاد البولندي إذ طُرد كثير من يهود الأرندا وأصحاب الحانات من القرى والمدن الصغيرة. وتسبَّب كل ذلك في ازدياد تَغلغُل الرؤى القبَّالية، الأمر الذي جعل أعضاء الجماعة اليهودية تربة خصبة للنزعات المشيحانية. ولذلك، ترك شبتاي تسفي أعمق الأثر في بعض قطاعاتهم، وأصبحت بولندا، وخصوصاً بودوليا، مركزاً للحركات الشبتانية والفرانكية على وجه الخصوص.

وفي نهاية الأمر، ظهرت الحسيدية في المناطق الزراعية في بولندا التي ضُمَّت فيما بعد إلى روسـيا وهي أوكـرانيا وروســيا البيضاء. وكانت القيادة الاجتماعية للحركة الحسيدية هي الطبقة الوسطى الصغيرة من بقايا يهود الأرندا ومستأجري الحانات وأصحاب المحال الصغيرة والباعة المتجولين. والحسيدية حركة دينية حلولية تنادي بالتواصل مع الخالق مباشرة، بل الالتصاق به، متجاوزة بذلك المؤسسات الدينية التقليدية، كما أنها تؤكد أهمية التجربة الصوفية والإحساس بالنشوة بشكل يجعلها معادية للنزوع العقلي أو الذهني المجرد للمؤسسات التلمودية. ولكن هذه النزعات نفسها ساهمت في تخفيف البؤس على الجماهير. وأحلَّت الحسيدية التساديك محل الحاخام، والتساديك شكل من أشكال القيادة الكاريزمية في وقت كانت القيادات الحاخامية قد تخلَّت فيه عن مسئوليتها. والتساديك على عكس الحاخام ملتصق بمريديه، يعرف مشاكلهم وبوسعه أن يُدخل على قلوبهم الطمأنينة.

ازداد الصراع بين أعضاء الجماعة والبورجوازية البولندية، فصدرت عام 1720 تشريعات حدَّت من النشاط التجاري لليهود. وهذا الصراع إحدى السمات الأساسية للوجود اليهودي في بولندا، فنتيجةً للتاريخ الاقتصادي المنفصل لأعضاء الجماعة، أي لكونهم جماعة وظيفية وسيطة وأعواناً للأرستقراطية وعملاء لها في إطار الإقطاع الاستيطاني ونظام الأرندا، ونتيجة عزلتهم الحضارية وكونهم عنصراً غريباً مستقلاًّ، كان من الصعب إنشاء تحالف بينهم وبين البورجوازية البولندية، الأمر الذي كان يعني أن يظل اليهود منذ البداية خارج نطاق النضال الثوري. وقد أُلغي مجلس البلاد الأربعة عام 1764. وبلغ عدد يهود بولندا في ذلك العام 749.968 يهودياً (منهم 548.777 في بولندا و201.191 في ليتوانيا) يعيش معظمهم في المدن. وإذا عرفنا أن نصف مليون بولندي فقط كانوا يعيشون في المدن لتبيَّن لنا أن سكان المدن، خصوصاً المدن الصغيرة، كانوا أساساً من اليهود.

وقد قُسِّمت بولنـدا للمرة الأولى عـام 1772 ثم قُسِّمت مرة أخرى عـام 1793. وحدثت محاولة لإصلاح اليهود كما نُشرت دراسات ومشاريع تهدف إلى تحديث اليهود ودمجهم في الأمة البولندية، وتمت مناقشة المسألة اليهودية في البرلمان البولندي (1788 ـ 1792)، ولكن قامت معارضة شعبية لعملية الدمج هذه. وشُكِّلت لجنة عام 1790 لبحث المسألة اليهودية قررت وجوب إلغاء ديون القهال أولاً ثم إخضاع أعضاء الجماعة لعملية التنوير.

وأدَّى تقسيم بولندا إلى تقسيم أعضاء الجماعة فيها، فتم ضم عدد من يهود بوزنان إلى بروسيا، وأصبحت جاليشيا تابعة للإمبراطورية النمساوية، وتم ضم يهود المقاطعات الشرقية إلى روسيا.

وحينما اندلعت ثورة كوشتشوكو القومية، اشترك فيها اليهود إلى جانب البولنديين. وكانت مثل هذه اللحظات النادرة من الكفاح الوطني المشترك بوتقة الصهر التي كان يتم من خلالها وإبّانها دمج الجيوب الإثنية والدينية المختلفة في التشكيلات القومية، ولكن لم يُقدَّر لهذه اللحظات أن تتكرر في حالة يهود بولندا. ولم يُقدَّر للاتجاه الاندماجي الاستمرار لعدة أسباب:

1 ـ كان الاندماجيون بين اليهود شريحة اجتماعية صغيرة للغاية، تَوجُّهها الثقافي بولندي ويتركز معظم أعضائها في وارسو أو في غيرها من كبرىات المدن. أما الجماهير اليهودية العريضة، فكانت جماهير فقيرة تتحدث اليديشية ولم تتأثر بالقيم التحديثية والقومية الجديدة، كما كانت تعيـش داخـل مدنها الصغيرة (الشـتتل) بمعزل عن الحضارة القومية. وكانت أعداد الجماعة اليهودية في بولندا من الضخامة بحيث أن اليهودي كان يُولَد ويَكبُر ويموت دون أن يضطر إلى الاحتكاك بشكل دائم ويومي مع الحضارة الأم. وأصبحت الجماهير اليهودية ذات ثقافة فلاحية طابعها مسيحي. وحينما نقول ثقافة فلاحية في بولندا، فنحن نقصد أنها ثقافة متخلفة إلى حدٍّ ما، ومنعزلة عن الثقافة العالية وضمن ذلك الثقافة التلمودية نفسها. فانتشرت بين اليهود المعتقدات الشعبية والخرافات، وهو ما جعلهم أقل تَقبُّلاً لمحاولات التحديث والتنوير. ومما ساهم في زيادة الوضع سوءاً الانفجار السكاني بين أعضاء الجماعة اليهودية.

2 ـ ومن أهم العناصر التي أفشلت محاولات الاندماج ميراث الجماعة اليهودية التاريخي والاقتصادي الذي جعلها بمعزل عن التطور القومي البولندي، بل وضعها في مجابهته وجعل يهود بولندا أعداءً لكل الطبقات الأخرى باستثناء بعض قطاعات من طبقة النبلاء. ومعنى هذا أنه كان هناك أساس ثقافي واقتصادي قوي للمواجهة بينالبورجوازية البولندية وأعضاء الجماعة اليهودية يحتاج إلى فترة طويلة من الكفاح القومي المشترك حتى يتسنى التوصل إلى أساس مشترك للكفاح والاندماج.

كان أعضاء الجماعة مركزين في مناطق حدودية تتصارع عليها دول ذات ثقافات مختلفة بل متصارعة، فكان هناك أولاً بولندا نفسها، ثم روسيا التي كانت تشجع الثقافة الروسية وعمليات الترويس. ومن الناحية الأخرى، كان هناك ألمانيا والنمسا ذات الثقافة الألمانية. وكان اليهود أنفسهم يتحدثون اليديشية وهي رطانة ألمانية دخلت عليهاكلمات سلافية. وبعد كل تقسيم، كان يتعيَّن على اليهود، كنوع من الدواعي الأمنية، إعادة صياغة أنفسهم بما يتفق مع ثقافة الدولة المهيمنة. وقد نشأ، على سبيل المثال،صراع داخل شريحة المثقفين اليهود في جاليشيا بين كل من دعاة العبرية والألمانية والبولندية واليديشية. ومثل هذا الجو، الذي لا يتسم بالتحدد الثقافي، لا يساعد كثيراً على تحديد شخصية اليهود الثقافية ولا على الولاء أو الانتماء القومي.

القـــوزاق

Cossacks

«قوزاق»، من كلمة «كازاك»، وهي كلمة تركية مشتقة من كلمة «خزر»، وكلمة «خزر» مترادفة في لغات شرق أوربا مع «تتري» و«تركي» و«مغولي» و«الساراسين» أي المسلم. ولكنها، مع القرن السادس عشر الميلادي، كانت تشير إلى جماعات من الأقنان السلاف المسيحيين الذين فروا من ضياع النبلاء البولنديين في أوكرانيا واستقروا في أراضي الإستبس على ضفاف نهري الدنيبر والونيستر وفي شبه جزيرة القرم. ويبدو أنهم كانوا من أصل روسي تجري في عروقهم دماء مغولية وتترية، وكانوا يؤمنون بالأرثوذكسية التابعة لبابا روما.

وينقسم القوزاق إلى قسمين: القـوزاق الأوكرانيون أو قوزاق المدن، وهؤلاء كانوا يعيشون إلى جوار المدن كما كانوا أكثر تحضراً، أما القسم الآخر فكان هو القوزاق الزابروجيان. وهؤلاء كانوا مستقلين تماماً ويعيشون خلف نهر الدنيبر (كلمة «زابروج» تعني «عبر النهر»)، وكان تنظيمهم الاجتماعي زراعياً عسكرياً، كما كانوايعيشون في مراكز محصنة تُسمَّى «السيخ»، وكانت بمنزلة معسكر وسوق ومركز إداري. وكان السيخ مستقراً نسبياً ويقام في جزر في نهر الدنيبر. وقد كان كل من قوزاق المدن وقوزاق الزابروجيان على علاقة وطيدة.

ومن الإشكاليات الأساسية، التي كانت تواجهها ثورات الفلاحين في دول أوربا، عدم وجود أرض عذراء تمكن زراعتها. ولذا، كانت هذه الثورات تبوء بالفشل. ولكن بالنسبة إلى هؤلاء الفلاحين القوزاق المتمردين، فإن مساحات الإستبس الشاسعة كانت تشكل مجالاً حيوياً لهم. ومكَّنهم ذلك من الإفلات من مصير معظم ثورات الفلاحين، ومن ثم فإنهم نجحوا في تأسيس جمهورية حرة (جمهورية القوزاق الزابروجيان) تخضع للتنظيم العسكري حيث كان كل مواطن جندياً وكان يقود الجيش والجماعة قائد يُسمَّى «أتمان». ولا ندري أيمكن أن يكون هؤلاء الفلاحون قد أطلقوا على أنفسهم اسم «قوزاق» باعتبار أنهم أحرار مثل التتار، ومن أعضاء القطيع الذهبي مثل المغول، أم أن النبلاء البولنديين سموهم بذلك الاسم احتقاراً لهم. وقد تزايدت صفوفهم بانضمام عناصر من سائر الأنواع والأجـناس؛ من فــقراء ونبلاء وتتر بل ويهود.

استفادت بولندا، في بداية الأمر، من جماعة قوزاق المدن في حماية حدودها ضد هجمات التتار والمغول. ولكن القوة الروسية الصاعدة تبنت قضيتهم وشجعتهم باعتبارهم وسيلة لفصل أوكرانيا عن بولندا التي كانت تستغلها عن طريق الإقطاع الاستيطاني ويهود الأرندا. وتحالف قوزاق المدن وقوزاق الزابروجيان تحت قيادة شميلنكي (أهم قادة القوزاق) الذي قاد الانتفاضة ضد الحكم البولندي ونجح في طرد البولنديين والاستقلال بأوكرانيا التي انضمت إلى روسيا القيصرية. واستخدم القياصرة جيوش القوزاق فيما بعد في غزواتهم وفي عمليات القمع الداخلي. وتُعدُّ جماعات الهايدماك أيضاً من جماعات القوزاق.

الهايدمـاك

Haidmaks

«هايدماك» من الكلمة التركية «هايدا» بمعنى «ينتقل». والهايدماك جماعات شبه عسكرية من القوزاق والفلاحين قامت بالهجوم على التجار من سكان المدن في أوكرانيا البولندية في القرن الثامن عشر، وهي منطقة كانت تضم تجمعات يهودية كبيرة. وكانت صفوفهم تضم الأقنان الهاربين من نير الإقطاع البولندي إلى مناطق الإستبس، كماكانت تضم فقراء المدن وأبناء النبلاء الفقراء ورجال الدين وبعض أعضاء الفرق الدينية المهرطقة الهاربين من روسيا وبعض التتر المسلمين بل وبعض اليهود أحياناً.والهايدماك نتاج التفاعلات الاجتماعية في أوكرانيا التي بدأت في نهاية القرن السادس عشر ووصلت إلى قمتها مع الانتفاضة الشعبية التي قادها شميلنكي لذي كان الهايدماك يعتبرون أنفسهم ورثته، ومن هنا كان عداؤهم للاستغلال ولأهل المدن واليهود. وابتداءً من عام 1720، لم يمر عام دون أن تظهر جماعة منهم.

وفي عامي 1739 و1750، نجح الهايدماك في الاستيلاء على عدة مدن بولندية صغيرة في المنطقة الشرقية، وقتلوا عدداً من اليهود البولنديين. ولكن أسوأ المذابح وقعت عام 1768 في مدينة أومان حين قُتل عشرون ألف بولندي من بينهم بضعة آلاف من اليهود، ولكن لا يمكن التحقق من دقة هذه الأعداد بسبب التهويل الذي يميل إليه الراصدون المعاصرون لتلك الأحداث.

وقامت الحكومتان البولندية والروسية بمقاومة الهايدماك حتى نجحتا في إخماد نشاطهم في نهاية الأمر. وأدَّت هجمات الهايدماك إلى تحطيم معنويات أعضاء الجماعةاليهودية في بولندا وإلى إفقارهم وتجذير الإحساس لديهم بعدم الطمأنينة وغياب الاستقرار.

المعــــبد/ القلعـــة

Fortress Synagogue

«المعبد/القلعة» هو معبد يهودي كان يُستخدَم للعبادة والقتال. والمعبد/القلعة ظاهرة فريدة في تاريخ الطرز المعمارية لأماكن العبادة، إذ من المحتمل ألا يكون له أي نظير. وقد ظهر في بولندا، وبخاصة في المناطق الحدودية التي تفصل بينها وبين روسيا. وكان أعضاء الجماعة اليهودية يقومون بالعبادة والدراسة في مثل هذه المعابد، التي كانت مصممة بطريقة يمكن استخدامها كحصون وقلاع عسكرية في آن واحد.

ونشأت الحاجة لمثل هذا الطراز من المعابد في إطار الإقطاع الاستيطاني البولندي في أوكرانيا. فقد وظَّف النبلاء البولنديون (شلاختا) بعض أعضاء الجماعة اليهودية في عملية اعتصار أكبر قدر ممكن من الأرباح من الفلاحين الأوكرانيين. فأصبحت الجماعة اليهودية جماعة وظيفية من الوكلاء الماليين (أرنداتور) يعيشون في مدن خاصة بهم (شتتلات) منعزلين لغوياً ودينياً واجتماعياً وثقافياً عن جماهير الفلاحين. وكانت الجماعة اليهودية محل سخط الجماهير وغضبها (كما هو الحال مع أعضاء الجماعات الوظيفية، وخصوصاً العميلة) ولذا كانت القوات العسكرية البولندية تقوم بحمايتها من الجماهير ومن الانتفاضات الشعبية المحتملة. ومع هذا كان أعضاء الجماعة اليهودية يتدربون على السلاح، وكان عليهم الاحتفاظ بأسلحة بعدد الذكور القادرين على حملها، وبكمية معيَّنة من البارود (حسبما كانت تنص العقود المبرمة بين النبلاء البولنديين ووكلائهم اليهود).

وكانت هذه المعابد/القلاع مصممة بطريقة تجعل بالإمكان استخدامها كمكان للعبادة والدراسة وكحصون وقلاع عسكرية. فكانت تُزوَّد بحوائط سميكة للغاية، كما أن المتاريس (حاجز السقف أو الشرفة) مزودة بكوات لتخرج منـها المدافع والبنادق، أثناء الاشتباك مع الجماهير. ومن أشهر المعابد/القلاع معبد لتسكLutsk الذي بُني عام 1626 لخدمة الأغراض العسكرية بالدرجة الأولى. وصدر قرار ملكي ببنائه كان ينص على ضرورة أن يلتزم اليهود بتزويد معبدهم هذا بكوات من الجهات الأربع وبالسلاح الكافي (على نفقتهم)، كما يجب أن يكون المعبد/القلعة مزوداً بعدد من الرجال يكفي لصد الهجمات عليه. وصدر أمر لمعبد ريسيسوف بأن يزود نفسه بالبنادقوالرصاص والبارود. وكانت المعابد/القلاع تزود عادةً ببرج مراقبة ضخم (كان يُستخدَم في زمن السلم كسجن يُودَع فيه المجرمون من أعضاء اليهودية).

ونقاط التشابه بين المعبد/القلعة والدولة الصهيونية أمر مثير للغاية، يستحق التأمل لدلالته وطرافته. لكل هذا فنحن نرى أن المعبد/القلعة خير رمز للدولة/القلعة، بل يمكن القول بأن النموذج كان كامناً وحسب في حالة المعبد/القلعة، فأعضاء الجماعات اليهودية كانوا يحملون أساساً رأسمالهم (الربوي) وخبرتهم الإدارية معهم، وكانت عملية القتال موكلة للقوات العسكرية البولندية، وكان الهدف من حمل السلاح دفاعياً ومؤقتاً لحين وصول هذه القوات. أما في حالة الدولة/القلعة فقد اكتملت الأمور تماماًز

وأصبح العنصر البشري العميل يحمل السلاح بالدرجة الأولى (فوظيفته المالية ثانوية بالنسبة لوظيفة الإستراتيجية القتالية) وظهرت الطبيعة العسكرية للدولة المعبد/القلعة. ومع هذا لوحظ أثناء حرب عام 1973 أن القوات الإسرائيلية كانت تشبه تماماً الجماعة اليهودية في أوكرانيا، إذ استمرت في القتال بشكل دفاعي ومؤقت لحين تشغيل الجسـر الجـوي ووصول الأسلحة المتقدمة من الولايات المتحدة. وفيما يلي نقاط التشابه الأساسية بين المعبد/القلعة والدولة/القلعة:

المعبد/القلعة

عنصر بشري مشتول قام بغرسه عنصر خارجي (النبلاء البولنديون) في منطقة حدودية (أوكرانيا) لخدمة مصلحته المالية ولقمع السكان الأصليين (الشعب الأوكراني)

العنصر المغروس تَحوَّل إلى جماعة وظيفية عميلة تعيش في شتتلات معزولة

كان من المتوقع ألا يذعن العنصر البشري المقهور

كان من الضروري تسليح أعضاء الجماعة الوظيفية

ظهور المعبد/القلعة

انتفاضات مستمرة أهمها انتفاضة شميلنكي

الدولة/القلعة

عنصر بشري مشتول قام بغرسه عنصر خارجي (الإمبريالية الغربية) في منطقة حدودية (فلسطين من وجهة نظر الغرب تقع على الحدود التي تفصل بين الغرب والشرق) لخدمة مصلحته الإستراتيجية والمالية ولقمع السكان ا»لأصليين (الشعب الفلسطيني)

العنصر المغروس تَحوَّل إلى دولة وظيفية عميلة معزولة عما حولها

كان من المتوقع ألا يذعن العنصر البشري المقهور

كان من الضروري تسليح الدولة الوظيفية

ظهور الدولة/القلعة

انتفاضات مستمرة آخرها الانتفاضة المباركة عام 1987

الباب التاسع: بولندا من التقـسيم حتى الوقت الحاضر

تقســـيم بولنـــــدا

Partition of Poland

من أهم الأحداث التاريخية التي تقع خارج نطاق ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي»، والتي أثرت في الجماعة اليهودية في شرق أوربا (يهود اليديشية) تأثيراً عميقاً، تقسيم مملكة بولندا في الفترة 1772 ـ 1795. كان التقسيم الأول عام 1772 والثاني عام 1793 والثالث عام 1795. واستغرقت العملية خمسة وعشرين عاماً ثم مرت خمسة وعشرون عاماً أخرى حتى تم تثبيت الحدود.

التقسيم الأول (1772):

ضمت روسيا المنطقة التي تعرف باسم روسيا البيضاء (بيلوروسيا) في شمال شرق بولندا. أما الأجزاء الجنوبية الغربية المعروفة باسم جاليشيا (أو روسيا الحمراء)، فضُمَّت إلى النمسا. كما ضمت بروسيا أجزاء من غرب بولندا، ففقدت بولندا بذلك ثُلث أراضيها وخُمس سكانها. وكان هذا يعني أن ثُلث يهود بولندا أصبحوا تحت حكم كل من النمسا وروسيا وبروسيا، وكانت أغلبيتهم في جاليشيا (التابعة للنمسا).

التقسيم الثاني (1793):

زادت كل من روسيا وبروسيا ممتلكاتهما، فقسمتا نصف بولندا تقريباً فيما بينهما.

التقسيم الثالث (1795):

تم تقسيم البقية الباقية من بولندا بين روسيا وبروسيا والنمسا. وأدَّى التقسيمان الثاني والثالث إلى توزيع 800.000 يهودي بين النمسا وبروسيا وروسيا.

التقسيم الرابع (1815):

ظهر نابليون عام 1806 وأسس دوقية وارسو التي اقتطعها من الجزء الذي كان قد ضُمَّ إلى بروسيا عام 1793، ثم ضم إليها أجزاء من المنطقة التي كانت النمسا قد ضمتها. ولكن، في مؤتمر فيينا عام 1815، رُسمت الخريطة السياسية فيما يعتبر التقسيم الرابع، فأبقت النمسا على جاليشيا، وضمت بروسيا ثورن والمناطق المجاورة التي اتحدت مع بقية المناطق البولندية التي ضمتها بروسيا وسميت دوقية بوزنان، وظهرت دولة كراكوف الحرة واستمرت حتى عام 1846 حيث ضمتها النمسا إلى جاليشيا. أما روسيا، فاحتفظت بغنائمها التي حصلت عليها في التقسيمين الأول والثاني وضمت المقاطعات الجنوبية والغربية. أما الجزء الأوسط من بولندا، أي مقاطعة وارسو، فأصبح مملكة بولندا، وهي كيان سياسي شبه مستقل كان يتبع روسيا إلى أن أصبح مقاطعة روسية بعد عام 1831.

التقسيم الخامس (1939):

بعد الحرب العالمية الأولى، والحرب الروسية ـ البولندية (1920 ـ 1921) ثم معاهدة ريجا بين روسيا وبولندا (مارس1921)، تقررت حدود بولندا وأصبحت مضمونة بموجب معاهدة عدم الاعتداء السوفيتية البولندية (1932) التي تم تجديدها سنة 1934 لعشرة أعوام. ويرى بعض المؤرخين أن تقسيم بولندا بين ألمانيا وروسيا هو التقسيم الخامس، وهو التقسيم الذي تقرر بناءً على البنود السرية للاتفاق الألماني السوفيتي المؤرخ في 23 أغسطس 1939. وفي أعقاب هذا الاتفاق، غزت القوات الألمانية الأراضي البولندية في الأول من سبتمبر 1939، وغزت القوات السوفيتية شرق بولندا خارقة بذلك معاهدة عدم الاعتداء المجددة عام 1934.

بـوزنــان

Poznan

مدينة في بولندا الكبرى، وبوزنان عاصمة مقاطعة تحمل الاسم نفسه. وفي الألمانية، يشار لكل من المقاطعة والمدينة بكلمة «بوزن». وقد استقر فيها اليهود منذ أواخر القرن الرابع عشر حيث كانت أحد أهم المراكز اليهودية. وقد نشأت صراعات بين أعضاء الجماعة اليهودية (10% من مجموع سكان المدينة) وبقية السكان الذين حاولوا أن يقفوا ضد تجارة القطاعي اليهودية وأن يحددوا عدد منازل اليهود ويطردوا القادمين الجدد منهم. واستمرت هذه المحاولات حتى بداية القرن السابع عشر. ومع هذا، كانت أحوال الجماعة جيدة بشكل عام، فكانوا يقومون بوظيفة مهمة في المجتمع وكانوا موضوعين تحت حماية الملك.

ومع القرن السابع عشر، بدأ التدهور الحقيقي؛ إذ زادت الضرائب، وبدأ يتوافد تجار ألمان من سيليزيا ليشكلوا منافسة قوية للتجار اليهود، وغرق القهال في الديون (ولم تُحل هذه المسألة إلا في منتصف القرن الـ 19)، وواجه التجار اليهود صعوبات غير عادية في الأسواق التجارية في فرانكفورت وبراندنبرج وغيرها. وازداد حال اليهود سوءاً خلال الحرب السويدية (1655ـ 1660)، إذ أدَّى التدهور الاقتصـادي إلى زيادة حـدة الصراعات الاجتماعيـة وتَناقُص عـدد السكان، وإهمال التعليم الديني.

ولم يختلف الوضع كثيراً في القرن الثامن عشر، فقد ترك اليهود المدينة بأعداد متزايدة، ولم يتمكن من تَبَقَّى منهم أن يفعل أي شيء. وظل هذا الوضع إلى أن ضُمت بوزنان (المدينة والمقاطعة) إلى بروسيا عام 1793. وبذا، كانت بروسيا تضم عام 1807 نحو 200 ألف يهودي. ثم ضمت بوزنان إلى دوقية وارسو التي أسسها نابليون ثم أُعيدت إلى الحكم البروسي عام 1815.

وطبَّقت بروسيا، في بداية الأمر، القوانين الصادرة عام 1750 التي كانت تهدف إلى الحد من عدد اليهود والإبقاء على الأثرياء مهنم فقط. ولكن، بعد ذلك، تم التخلي عن هذه السياسة، وتبنت البيروقراطية الألمانية سياسة ممالئة للعنصر اليهودي الذي يتحدث اليديشية باعتباره عنصراً ألمانيا يمكن الاعتماد عليه مقابل العنصر البولندي السلافي.

وتسبَّب ذلك في عزل أعضاء الجماعة عن العناصر البولندية. وحينما أُلغي الاستقلال الشكلي لدوقية بوزنان الكبرى وأصبحت مقاطعة بروسية، أصبح سائر اليهود مواطنين بروسيين لعبوا دوراً أكثر نشاطاً في الحرب الدائرة بين الاتجاه الداعي إلى ألمنتها والاتجاه الداعي إلى صبغها بالصبغة البولندية. وبطبيعة الحال، كان أعضاء الجماعة ضمن مؤيدي الاتجاه الأول. لكل هذا، كانت الحركات البولندية تهاجم اليهود باعتبارهم عناصر ألمانية معادية. وعندما ظهرت المحاولات البولندية القومية للاستقلال الاقتصادي التي أخذت شكل تعاونيات ومصارف ومشاريع اقتصادية أخرى، كان لها اتجاه معاد لليهود. ونتج عن ذلك هجرة يهودية من المدن الصغيرة إلى المدن الكبيرة، وصاحب ذلك انتقال من التجارة المحلية إلى العمل في المصارف والصناعة والمهن. ثم اتجهت الهجرة نحو بروسـيا، وخصـوصاً برلين وبرسـلاو، وأخيراً نحو الولايات المتحدة. وقد تناقص عدد سكان بوزنان اليهود من 76.757 (5.7%) عام 1849 إلى 26.512 (1.26%) عام 1910. وكانت نسبة كبيرة من يهودالمدن الألمانية الكبرى من يهود بوزنان. وبعد ضم بوزنان إلى بولندا، بعد الحرب العالمية الأولى، هاجرت البقية الباقية إلى ألمانيا ولم يبق سوى بضعة آلاف.

وتسبَّب وضع بوزنان الحدودي في مشكلتين:

1 ـ فصل العنصر البولندي اليهودي عن الحركة القومية البولندية، وهو ما جعلها معادية لليهود لتعاونهم مع الألمان.

2 ـ تسببت هجرة يهود بوزنان، إلى المدن الألمانية الأساسية، في إعادة صبغ يهود ألمانيا بصبغة شرق أوربية. فيهود ألمانيا الأصليون كانوا مندمجين في محيطهم الحضاري تماماً، وكانوا لا يتحدثون سوى الألمانية، كما كانوا يدافعون عن القومية العضوية الألمانية ويتبنون أسلوب الحياة الألماني. أما يهود شرق أوربا، فلم يتم صبغهم بالصبغة الألمانية إلا في مرحلة متأخرة، ولذا كانت هويتهم الألمانية سطحية وضعيفة، بل واحتفظوا بكثير من ملامح شخصيتهم الشرق أوربية اليديشية. كما كانت تنتشر بينهم الأفكار الصهيونية.

تزايد عدد المهاجرين من يهـود بوزنان، ويهود اليديشـية بشـكل عام، حتى أصبح لهم وزن عددي كبير. وأدَّى ذلك إلى إعادة تعريف كلمة «يهودي» في العقل الألماني بحيث تمت المساواة بين يهود اليديشية الغرباء ويهود ألمانيا المندمجين، وأصبح الجميع يهوداً غرباء. ولكن الأهم من ذلك أنهم لم يكونوا غرباء وحسب وإنما كانوا أيضاً «إيست يودين»، أي يهوداً شرق أوربيين من أصل سلافي. والشعوب السلافية، بحسب النظرة النازية، كانت تُعتبَر المجال الحيوي لألمانيا، كما كانت هدفاً للعنصرية النازية. فكأن هجرة يهود اليديشية، وضمنهم يهود بوزنان، ساهمت في إعادة تصنيف يهود ألمانيا من « العنصر الغريب الذي لابد من دمجه » إلى «العنصر الغريب الذي لابد من نبذه »، فهو إذن ليس « الغريب» وحسب وإنما هو، أيضاً « الغريم ».

جوزيف بيلسودسكي (1867-1935)

Jozef Pilsudski

رجل دولة بولندي وابن أحد فقراء طبقة النبلاء (شلاختا). وُلد في فلنا (ليتوانيا) ودرس الطب. ناضل منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر من أجل استقلال بولندا عن روسيا القيصرية، وقُبض عليـه عـام 1887 بتهمة محـاولة اغتيال قيــصر روسيا الإسكندر الثالث. وفر إلى سيبريا، ولكنه عاد منها وقد ازداد إصراراً على تحرير بولندا، فانضم للحزب الاشتراكي البولندي وأصبح قائداً له وحرَّر مجلته السرية. وفي عام 1909، قُبض عليه مرة أخرى وسُجن في قلعة وارسو، فادَّعى الجنون ببراعة فائقة ونُقل إلى مستشفى عسكري في روسيا حيث فر منها. وحينما اندلعت الحرب الروسية اليابانية، اتجه بيلسودسكي إلى اليابان بحثاً عن مساعدة له في التمرد الشعبي الذي كان ينوي تنظيمه ضد روسيا. وكوَّن نواة الجيش البولندي بأموال سرقها من قطار بريد روسي. وحينما اندلعت الحرب العالمية الأولى، حاربت قواته مع القوات النمساوية والألمانية ضد روسيا، ولكن الألمان رفضوا الاعتراف باستقلال بولندا وألقوا القبض عليه عام 1917. ولكنه أُفرج عنه بعد هزيمة ألمانيا، وعاد إلى بولندا حيث استُقبل استقبال الأبطال في 10 نوفمبر 1918. وبعد أربعة أيام من وصوله، قَبل منصب رئيس الدولة. وبذلك أصبح أول رئيس لدولة بولندا المستقلة في العصر الحديث، وظل يشغلالمنصب في الفترة 1918 ـ 1923. وكان بيلسودسكي يهدف إلى إنشاء دولة فيدرالية تضم ليتوانيا وأوكرانيا وبولندا. وحينما قام الجيش الأحمر عام 1920 بهجوم على بولندا، صده بيلسودسكي محققاً النصر لبولندا.

وبعد صدور دستور بولندا الجديد عام 1922، عُقدت انتخابات عامة تخلى بيلسـودسـكي بعدها عن سلطاته وعمل قائداً للجيش. وحينما وصل الحزب اليميني إلى الحكم، استقال بيلسودسكي من منصبه واعتزل الحياة السياسية (مؤقتاً) عام 1923. وحين وجد أن المناقشات البرلمانية التي لا تنتهي ستودي بالدولة الجديدة، استولى على الحكم بدعم من الأحزاب اليسارية، رافضاً منصب رئيس الدولة واكتفى بمنصب وزير الحرب، ولكنه كان القوة المحركة من وراء الستار. وفي عام 1930، تخلى عنه أصدقاؤه اليساريون لتحالفه مع كبار الملاك وبدأوا حملة لإسقاط الديكتاتور، على حد قولهم، فرد عليهم بيلسودسكي بمنتهى العنف إذ ألقى القبض عليهم وحكم بولندا من خلال أعوانه الجدد.

احتك بيلسودسكي بأعضاء الجماعة اليهودية في بولندا، وخصوصاً العمال منهم، في مقتبل حياته السياسية. وأسس الحزب الاشتراكي البولندي الذي أصدر مجلة باللغة اليديشية، إلا أنه هاجم حزب البوند بشدة باعتباره يمثل الانفصال الديني والتجاري اليهودي ويفضل الترويس ويعارض الاستقلال البولندي. وعندما استولى بيلسودسكي على السلطة عام 1926، زاد تَدخُّل الدولة في الشئون الداخلية للجماعة اليهودية كما فرضت قيوداً متزايدة على نشاطهم الاقتصادي والاجتماعي. ومما يُذكَر أن وضع الجماعة اليهودية في بولندا كان وضعاً قلقاً نظراً لميراثهم التاريخي المرتبط بطبقة النبلاء (شلاختا) التي استغلت الجماهير البولندية وعملت ضد المصالح القومية للبلاد. وبالتالي، جاء استقلال بولندا ليعمق عزلة الجماعة اليهودية في بولندا ويتجه إلى لفظها. وعزز هذا الاتجاه أيضاً نمو طبقة تجارية بولندية بدأت، ومعها الدولة البولندية، في الاضطلاع بالوظائف الوسيطة التقليدية لأعضاء الجماعة اليهودية. وفي عام 1934. أبرمت حكومة بيلسودسكي معاهدة مع هتلر بعد أن أدرك أن فرنسا غير قادرة على حماية بولندا ضد ألمانيا التي بدأت في إعادة تسليح نفسها. وحاول هتلر إقناع بيلسودسكي بالانضمام إليه في الهجوم على روسيا، ولكن بيلسودسكي رفض، وجدد معاهدة عدم الاعتداء مع روسيا. ومات بيلسودسكي عام 1935 في وارسو.

بولنـــدا بعــد التقسـيم حتـى الحــرب العالميـة الثانيــة

Poland, from the Partition to the Second World War

بعد تقسيم بولندا (1772 - 1795)، تم ضم أغلبية يهود بولندا إلى بلاد أوربية أخرى هي: النمسا وبروسيا وأساساً روسيا. وبحلول عام 1828 كان ثلثا يهود بولندايعيشون في مدن صغيرة (شتتلات) ويشكلون 50% من سكانها، يعملون تجاراً صغاراً ويمارسون بعض الحرف مثل تقطير الخمور والصناعات المنزلية، وخصوصاً النسيج، دون تَدخُّل كبير من الحكومة المركزية الضعيفة.

وبدأت عملية دمج أعضاء الجماعة اليهودية أو تحديثهم مع دخول نابليون بولندا عام 1807 الذي منحهم حقوقهم المدنية وطبق عليهم القرارات نفسها التي طُبقت عليهم في فرنسا وهي أن الحقوق تمنح لليهود بمقدار استعدادهم للاندماج، ولذا حُجبت الحقوق السياسية عنهم لمدة عشرة أعوام تُعَد فترة انتقالية كان عليهم أن يتخلصوا خلالها من سماتهم الخاصة وأن يندمجوا في بيئتهم. ثم عُقد، عام 1815، مؤتمر فيينا الذي حوَّل بولندا إلى مملكة مستقلة تحت حكم القيصر. وكان دستورها يتضمن بنوداً تحمي حقوق اليهود وتزيدها بمقدار اندماجهم في المجتمع. وكتب أحد الأساقفة البولنديين إلى المفكر الألماني اليهودي المستنير ديفيد فرايدلندر يسأله عن أفضل السبل لإصلاح (أي تحديث) يهود بولندا، فاقترح ضرورة تدريب اليهود على الحياة المتحضرة قبل إعطائهم حقوقهم المدنية، أي أنه اقترح عليه عملية التحديث الأوتوقراطي (من أعلى) التي طُبِّقت في روسـيا. بعد ذلك، كوَّن بعض اليهود الأثرياء (من التجار المندمجين وأعضاء المهن الحرة) لجنة المؤمنين بالعهد القديم عام 1825 لتطوير التعليم اليهودي، وبالفعل تأسست مدرسة حاخامية حديثة. وعلى مستوى التحديث الاقتصادي، أُلغي القهال عام 1822، كما فُرضت ضريبة على تجار الخمور اليهود (وهذه من بقايا نظام الأرندا) حتى يتركوا هذه الوظيفة التي كانت تسبب سخط الجماهير ضدهم، ولتشجيعهم على الاشتغال بالزراعة. وقد ظهرت طبقة من المثقفين البولنديين اليهود، في وارسـو أسـاسـاً، انتماؤهـم القومي لبولندا أكثر تحدداً ووضوحاً. ومع هذا، لم يحرز أعضاء الجماعة اليهودية نجاحاً كبيراً في مجال محاولة الاندماج بسـبب عـدم اكتراث البورجوازية البولنـدية بهم وعـدم ثقتها فيهم. كما يُلاحَظ أن اليهود خارج وارسو لم يُظهروا ميلاً كبيراً لعملية الدمج والتحديث. وصدر مرسوم روسي عام 1862 أعطى اليهود حرية بيع وشراء الأرض والمنازل والسكنى أينما شاءوا، وأُبطل القَسَم اليهودي، كما مُنع استخدام العبرية واليديشية لتعميق دمجهم واندماجهم. وحينما اندلع تمرد عام 1863، لم تشترك فيه أعداد كبيرة من اليهود، كما أن يهود ليتوانيا وقفوا ضده. وحينما بدأ الروس في التنكيل بالثوار، لم ينل اليهود منهم أي أذى، الأمر الذي أبعدهم عن الحركة القومية البولندية.

وفي عام 1870، بدأت الحركة القومية البولندية تأخذ طابعاً معادياً لليهود (باعتبارهم جماعة وظيفية مالية)، فطالبت بصبغ التجارة والصناعة بالطابع البولندي، واتهمت رأس المال اليهودي بأنه غريب وبأن الجماهير اليهودية معادية للحضارة الحديثة جاهلة بها. وتم تأسيس أحزاب قومية شعبية بولندية جعلت الحرب ضد دمج اليهود هدفاً أساسياً لها، كما بدأت تظهر بين أعضاء الجماعة اليهودية الاتجاهات الصهيونية. وتجدر الإشارة إلى أنه، رغم تدني أحوال اليهود بشكل عام، كانت تُوجَد طبقة ثرية تشغل مراكز مهمة في التجارة الخارجية وفي تجارة الأخشاب والغلال وفي المهن الحرة.

ومع الحرب العالمية الأولى، كان وضع يهود روسيا وبولندا متشابهاً في كثير من النواحي، من أهمها الانفجار السكاني. ويُلاحَظ أنه، مع عام 1772، كان في بولندا 70% من يهود العالم وأكثر من 80% من الإشكناز (وهو القطاع الذي أفرز الصهيونية ومعظم الحركات اليهودية الأخرى). وإذا وضعنا في الاعتبار أن اليهود الأصليين، في معظم دول أوربا، اندمجوا في السكان وكانوا لا يشكِّلون كثافة سكانية حقيقية، وأن أعدادهم تزايدت بسبب هجرة أعداد من يهود اليديشية، فيمكن القول بأن كل الجماعات اليهودية التي ظهرت في الغرب في القرنين الأخيرين هي من فروع يهود بولندا، وهو ما يجعل قول هتلر والأدبيات النازية حقيقياً حيث أعلن أن الجيب اليهودي في بولندا ومنطقة الاستيطان هو « المستودع البولندي الذي يُصدِّر الفائض البشري اليهودي وأنه يشكل البنية التحتية البيولوجية لليهودية العالمية ».

وتذكر الموسوعة اليهودية أن أعضاء الجماعة اليهودية كانوا يشكلون 6.8% من مجموع سكان بولندا عام 1816، ثم قفز العدد إلى 13% عام 1897، أي أن كل مائة بولندي كان يُوجَد بينهم ثلاثة عشر يهودياً رغم هجرة أعداد كبيرة منهم إلى خارج بولندا. وتُعدُّ هذه من أعلى النسب التي حققها أعضاء الجماعات اليهودية في العصر الحديث. ورغم صعوبة تحديد الأعداد بدقة، باعتبار أن بولندا كانت مُقسَّمة، فيمكن بالاعتماد على عدة مصادر أن تُقرَّب إلى:

الدولة / سنة 1825 / سنة 1900

روسيا قبل الحرب / 1.600.000 / 5.175.000

بولندا / 400.000 / 1.325.000

أوكرانيا ، روسيا الجديدة ، بيساربيا / 625.000 / 2.300.000

ليتوانيا وروسيا البيضاء / 350.000 / 1.450.000

جاليشيا /275.000 / 811.000

وقد زاد عدد يهود أوربا ككل في تلك الفترة من 2.730.000 إلى 8.960.500، وبلغ عدد يهود بولندا عام 1939 نحو 3.510.000.

ويمكن فهم عزلة يهود بولندا من الإحصاءات التالية:

في منتصف القرن التاسع عشر (حوالي عام 1857)، كانت هناك 181 مدينة بولندية منها 88 (أي نحو نصفها أو 6.48% منها) تضم أغلبية يهودية مطلقة. كما كان هناك 120 مدينة 40% من سكانها يهود، أي أن 66.2% من مدن بولندا كانت ذات طابع يهودي فاقع. وكان 1.5% 9من مجموع يهود بولندا يعيشون في المدن ويشكلون 33% من سكانها مقابل 16.4 % من المواطنين. وكل هذا يعني استقطاباً كاملاً وعزلة تشبه من بعض الوجوه عزلة يهود الأرندا. لكن الصورة لم تتغير كثيراً مع نهاية القرن التاسع عشر. وفي بوزنان، قفز عدد أعضاء الجماعة اليهودية من 2.775 عام 1865 (أي12.2% من مجموع سكان المدينة) إلى 166.628عام 1910 (أي 40.7% من سكانها). وفي عام 1897، كان أعضاء الجماعة اليهودية يشكلون أكثر من 50% من السكان في 57 مدينة بولندية من واقع 110 مدن. أما المدن التي كان يشكل اليهود أكثر من 40% من سكانها، فكانت 81 مدينة. وحتى عام 1921، كان اليهود يشكلون 40% من عدد السكان في 99 مدينة (من واقع 196 مدينة). وتزايدت معدلات الهجرة بسبب الضغوط التي مارستها الحكومة على أعضاء الجماعة اليهودية ليتركوا الريف، وبسبب جاذبية المراكز الصناعية.

لكن تَركز يهود بولندا في المدن يعني أيضاً تركزهم في التجارة وعالم المال. ففي المدن البولندية، كان اليهود يشكلون 90% وأحياناً 100% من التجار والحرفيين. وفي نهاية القرن التاسع عشر، كان 18 مصرفاً (من 26 مصرفاً أساسياً في وارسو) في أيدي اليهود أو المسيحيين من أصل يهودي. وظهرت طبقة ثرية يهودية تستثمر في الصناعة، ولكن أغلبية يهود بولندا العظمى كانوا من صغار التجار الفقراء.

ورغم تَشوُّه البناء الطبقي لدى يهود بولندا فإنه، مع منتصف القرن، كان الاندماج الاقتصادي لأعضاء الجماعة يتزايد كما يتضح في الوظائف والمهن التي كانوا يشغلونها. ففي عام 1857، كان 44.7% من جملة اليهود يعملون بالتجارة، مقابل 25% فقط في الحرف اليدوية والصناعات. واختلفت النسبة قليلاً عام 1897 إذ انخفض عدد العاملين بالتجارة إلى 42.6%. ولكن الأهم من هذا أن عدد العاملين في الحرف والصناعات زاد إلى 34.3%، كما زاد عدد التجار غير اليهود من 27.9% من مجموع التجار عام 1862 إلى 37.9% عام 1897.

وظهرت طبقة من المهنيين اليهود، وخصوصاً في وارسو، حققت شيئاً من الحراك الاجتماعي. ولكن، مع تعثُّر التحديث في شرق أوربا، وبعد تطبيق بعض قوانين مايو 1888 الروسية (عام 1891) في بولندا، تم طرد أعضاء الجماعة اليهودية من القرى وحُدِّد النصاب المسموح لهم به. ونتج عن ذلك إغلاق أبواب الحراك الاجتماعي أمام هؤلاء المهنيين اليهود. وقد جاءت من صفوفهم معظم الزعامات الصهيونية واليهودية الأخرى. ويُلاحَظ تَحوُّل أعداد كبيرة من يهود روسيا إلى طبقة عاملة صناعية داخل منطقة الاستيطان، وهي ظاهرة ظل يهود بولندا بمنأى عنها، فقد ظلوا تجاراً صغاراً وكباراً وحرفيين تشكل الطبقة العاملة بينهم نسبة صغيرة إن لم تكن ضئيلة.

ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، كان أعضاء الجماعة اليهودية محط شك القوات الروسية باعتبارهم متعاطفين مع الألمان. وبالفعل، حينما احتل الألمان بولندا عام 1917، تَحسَّن وضع اليهود قليلاً. واتجه الألمان نحو صبغ يهود بولندا بصبغة ألمانية بسبب زيادة العنصر الألماني في المناطق البولندية التي ضمتها ألمانيا. وصدر مرسوم عام 1916 يتضمن الاعتراف باليهود كطائفة دينية لا كطائفة عرْقية. وعارض الصهاينة هذا المرسوم. ومع نهاية الحرب العالمية الأولى، وجد اليهود أنفسهم في مفترق الطرق بين البولنديين والليتوانيين (في فلنا)، وبين البولنديين والأوكرانيين (في لفوف)، ثم بين البولنديين والبولشفيك خلال حرب عام 1920. ولكن، مع استقلال بولندا (1918 ـ 1939)، تم توحيد العناصر البولندية اليهودية، التي كانت تعيش تحت حكم ألمانيا وروسيا منذ التقسيم، مع بقية بولندا. وبذا، أصبحت بولندا تضم أكبر تَجمُّع يهودي في أوربا، حيث كان 2.845.000 عام 1921 وزاد، نتيجة ضم بعض أراضي بولندا، إلى 3.137.000(أي 8.9% من السكان عام 1931)، ثم وصل إلى 3.300.000مع نهاية هذه الفترة.

وعشية عام 1921، كانت نسبة تركُّز أعضاء الجماعة اليهودية في القطاعات الاقتصادية واضطلاعهم بمهن ووظائف معيَّنة يختلف بشكل جوهري عن النسبة علىالمستوى القومي، كما هو موضح في الجدول التالي:

المهنة / يهود / غير يهود

الزراعة / 9.8% / 80.7%

الصناعة والحرف اليدوية / 32.2% /7.7%

التجارة والتأمين / 35.1% / 1.5%

النقل / 2.7% / 1.7%

المهن الحرة / 4.4% / 2.3%

ويُلاحَظ أن 67.3% من يهود بولندا تركزوا في التجارة والتأمين والصناعة والحرف اليدوية مقابل 2.9% من البولنديين. وكان عدد التجار اليهود لا يزال 20 ضعفاً مقارناً بعدد التجار غير اليهود. وتَملَّك اليهود 74 ألف محل مقابل 123 ألف محل للبولنديين كافة. وكان 76% من اليهود يعيشون في المدن ويشكلون 30% من جملة سكان وارسو و35.5% من سكان لودز و 31.5% من سكان لفوف.

وضمنت معاهدة الأقليات في يونية 1919، التي وقعها الحلفاء المنتصرون ومعهم بولندا، حقوق الأقليات الدينية واللغوية ونصت على مساواتهم ببقية المواطنين، كما أعطت اليهود الحق في إدارة مدارسهم. وتم ضم هذه المعاهدة إلى الدستور البولندي الصادر عام 1921. كما نص دستور عام 1935 على تساوي المواطنين كافة أمام القانون. ولكن الحقوق السياسية تختلف في كثير من الأحيان عن الوضع المتعين، فقد ازداد الوضع الاقتصادي لليهود تدنياً وبدأت الفلسفات الشمولية تسيطر على نظم الحكم في أوربا بأسرها، وخصوصاً في ألمانيا. واستولى جوزيـف بيلسودسـكي على الحكـم في بولندا عام 1926 عن طريق انقلاب. ولم يكن هذا الانقلاب معادياً بالضرورة لليهود، فقد نص دستور عام 1935 على تَساوي المواطنين كافة أمام القانون. ولكن الجو العام، والبنية الثقافية والاقتصادية للمجتمع، كانا يلفظان اليهود، فظهر حزب بولندي متطرف ذو توجهات نازية طالب بمصادرة أموال اليهود وطردهم، وأصبح البرلمان البولندي نفسه منبراً لترديد الدعاية المعادية لليهود كعنصر غريب فائض يجب اجتثاثه من المجتمع البولندي. وزاد النشاط الاقتصادي للطبقة الوسطى البولندية في الثلاثينيات، وحاولت أن تحصل على نصيب متزايد من التجارة والمهن، وقامت بحركات مقاطعة للأعمال التجارية التي يمتلكها يهود بولندا وقفت وراءها الدولة. ولأن عملية التنمية في بولندا كانت تتم من خلال الدولة، أكبر ممول رأسمالي آنذاك، فإن عملية تضييق الخناق على أعضاء الجماعة اليهودية اكتسبت أبعاداً ضخمة، فقامت محاولة لاستبعاد أعضاء الجماعة من سلك الحكومة وبنوك الدولة والاحتكارات التي تمتلكها الدولة، مثل صناعة الطباق، واستبعادهم كذلك من سلك التجارة الخارجية (الذي كان مركزاً في أيديهم). وقامت حركات مقاطعة أيضاً في المهن الحرة والحرف اليدوية. وبسبب توجهها القومي الواضح، ألقت الكنيسة الكاثوليكية في بولندا بثقلها وراء الحركات الشعبية المناهضة لليهود. وكانت كل هذه الحركات تهدف إلى طرد أعضاء الجماعة اليهودية من قطاعات اقتصادية معيَّنة، وهو أمر ممكن من الناحية النظرية، ولكن لم يقابله اتجاه مماثل نحو خلق فرص اقتصادية جديدة في مجالات أخرى. والواقع أن الهدف كان طرد اليهود ونقلهم لا دمجهم في المجتمع. ومن هنا كان تأييد الحكومة البولندية للحركة الصهيونية ولجهودها الرامية إلى تهجير اليهود إلى فلسطين. وقد بلغ عدد العاطلين عن العمل بين اليهود 300 ألف عام 1938. ولذا، شهدت هذه المرحلة استمرار الهجرة من بولندا، حيث بلغ عدد الذين هاجروا في الفترة 1921 ـ 1937 نحـو 395.235 هاجرت أعداد كبيرة منهم إلى فلسطين. ومع هذا بلغ عدد اليهود 3.200 مليون عام 1939 عشية الغزو النازي.

ورغم تردِّي وضع اليهود، فإن العناصر الليبرالية وقفت إلى جانب أعضاء الجماعة، وكان ثمة أحزاب سياسية تنادي بالمساواة أمام القانون انخرطت في سلكها عناصر يهودية. كما يبدو أن معاداة اليهود لم تجد طريقها إلى صفوف الطبقة العاملة البولندية، وخصوصاً العناصر الثورية. ونظم حزب البوند عدة إضرابات من أجل حقوق اليهود أيَّدتها عناصر بولندية مسيحية. ولكن، مع هذا، كان تأييد اليهود الليبراليين والثوريين تأييد أقلية لأقلية. وكما نوهنا من قبل، كان وضع اليهود داخل التشكيل القومي البولندي وضعاً قلقاً يستند إلى تراث تاريخي معاد للجماهير ومصالحها.

وقد اتجه المجتمع البولندي، شأنه شأن معظم المجتمعات الأوربية في تلك الفترة، نحو مزيد من التطرف والاستقطاب. ففي مقابل التطرف القومي البولندي، بدأ أعضاء الجماعة اليهودية يتجهون نحو مزيد من الانفصال فكان لهم ما يُسمَّى بالنادي البرلماني اليهودي (وهو جماعة ضغط تضم كل الممثلين اليهود داخل البرلمان البولندي). وهذه الجماعة كان لها ثقلها ووزنها العددي، ولذا كانت الحكومات البولندية تحاول خطب ودها لضمان تأييدها. وقد سيطر أتباع الصهيونية العامة على هذا النادي، فكانوا يشكلون عام 1922 نحو 50% من جملة النواب اليهود. وازداد الوضع تطرفاً، فمع الثلاثينيات يُلاحَظ أن الصهاينة العماليين والتصحيحيين هم الذين استولوا على القيادة في المؤتمر الصهيوني الثامن عشر (1933)، وهم عناصر متطرفة من منظور الاندماج في المجتمع البولندي، رافضون له تماماً ولا يرون حلاًّ للمسألة اليهودية إلا بتهجير اليهود من بولندا بل وإخلاء أوربا من فائضها اليهودي، أي أنهم كانوا يشكلون فرقة تطالب بحل نهائي وجذري للمسألة اليهودية. ويُلاحَظ أن الأحزاب الصهيونية في بولندا كانت أقوى الأحزاب الصهيونية في العالم. وإلى جانب الأحزاب الصهيونية، كان يُوجَد حزب البوند الذي أصبح من أهم الأحزاب اليهودية في بولندا إن لم يكن أهمها على الإطلاق، بل إنه كان أكثر قوة من الصهاينة. ولكن يبدو أنه كان يعبِّر عن قوته السياسية من خلال تحالفات مع الأحزاب السياسية (غير اليهودية) الأخرى. وإلى جانب هاتين القوتين، كانت هناك أحزاب دينية تقليدية تحاول الانسحاب من المجال السياسي أو تكتفي بتأييد الوضع القائم.

ولم يكن انعدام التجانس مقصوراً على المجال السياسي، وإنما شمل المجال الثقافي كما يتضح من النظم التعليمية اليهودية المنفردة في منتصف الثلاثينيات. وقد كان للحركة الصهيونية شبكة من المدارس تضم مدرسة زراعية للتدريب على الاستيطان ومدارس حضانة وابتدائية وثانوية. كانت لغة التدريس فيها العبرية كما كان عدد الطلبة فيها 44.780 طالباً. وكانت هناك شبكة أخرى تشرف عليها مؤسسة زيشو (الاختصار البولندي لمصطلح: المنظمة المركزية للمدارس اليديشية) وهي شبكة مشبعة بالروحالاشتراكية والثقافية اليديشية، وكانت لغة الدراسة فيها هي اليديشية، وكان عدد الطلبة في هذه الشبكة 15.486 ألفاً. كما كان يوجد عدد من المدارس التجارية لغة الدراسة فيها هي اليديشية. وكان هناك شبكتان من المدارس الدينية يشرف على الأولى منظمة المزراحي (الدينية الصهيونية) تضمان عدة مدارس دينية ابتدائية وثانوية وكلياتدراسات دينية عليا، وكانت لغة التدريس في هذه المدارس العبرية والبولندية. وأخيراً، كانت هناك شبكة دينية تتبع المؤسسة الدينية الأرثوذكسية لغة التدريس فيها اليديشية.

وإلى جانب ذلك، كان هناك اليهود الذين التحقوا بالنظام التعليمي الحكومي. وقد تلقَّى هؤلاء الدروس بالبولندية. فـفي إحصاء عام 1931، قرَّر 381.300 يهودي أنلغتهم الأصلية البولندية، كما كان هناك أولئك الذين سافروا إلى غرب أوربا للدراسة.

بولنـدا من الحرب العالميـة الثانيـة حتى الوقـت الحاضـر

Poland from the Second World War to the Present

انحسرت موجة معاداة اليهود بعد الهجوم النازي على براغ عام 1939، وانخرط اليهود في سلك الجيش البولندي للدفاع عن الوطن، وقامت السلطات البولندية بالقبض على زعماء الجماعات المعادية لليهود. وفي العام نفسه، تم تقسيم بولندا إذ ضم الاتحاد السوفيتي رقعة من بولندا تضم ثلث سكانها وعدداً كبيراً من اليهود يبلغ 1.309.000. أما بقية بولندا، فخضعت للنفوذ الألماني. وضمت ألمانيا الجزء الغربي متضمناً مدينة لودز الصناعية. أما باقي بولندا، فكانت تحكمه حكومة بولندية تابعة لألمانيا تُسمَّى «الحكومة العامة». وكانت المنطقة الأولى تضم 632.000 يهودي، أما منطقة الحكومة العامة فكانت تضم 1.269.000 زاد إلى 1.700.000 عام 1941 (أي 12.1% من السكان). وتذكر الموسوعة اليهودية أن عدد اليهود الخاضعين لحكم النازي كان يبلغ 2.042.000.

وقد حول النازيون التمييز العنصري إلى عملية منهجية منظمة من خلال مجموعة من القوانين تم إصدارها لهذا الغرض. وكان كثير من هذه القوانين تهدف إلى تسخير قطاعات الشعب البولندي كافة لخدمة النظام النازي، ولكننا سنقتصر هنا على الإشارة إلى تلك القوانين التي تخص أعضاء الجماعة اليهودية. وقد صدر مرسوم عام 1939 فرض أعمال السخرة على اليهود وتم بمقتضاه تكوين فرق عمالة يهودية. وكان على اليهود الذين يزيد عمرهم على عشرة أعوام أن يعلقوا نجمة داود. كما صودرت أموال عديد من اليهود.

ولكن أهم أعمال النازيين في هذا المضمار تأسيس جيتو وارسو، وكان مؤسسة من مؤسسات الحكم الذاتي ينطلق من الإيمان الصهيوني بأن اليهود شعب عضوي وأن اليهودي يهودي بالمولد وليس بالعقيدة (تعريف قوانين وورمبرج وقانون العودة) وكانت علاقة الدولة النازية بجيتو (دويلة) وارسو علاقة استغلال استعمارية لا تختلف كثيراً عن علاقة إنجلترا بمصر أو علاقة الدولة الصهيونية بالضفة الغربية.

وقامت حركة مقاومة بولندية قوية ضد النازيين اشترك فيها أعداد من اليهود، ونظمت انتفاضة جيتو وارسو في أبريل عام 1943. ولكن، يبدو أن الصهاينة لم يشتركوا في هذه الانتفاضة بصورة كافية بدعوى أن حل مشكلة اليهود لا يتم داخل إطار الوطن الأم وإنما عن طريق الهجرة إلى فلسطين.

ومع نهاية الحرب، بلغ عدد يهود بولندا 250.000 (وفي إحصاء آخر أنهم كانوا أقل من ذلك بكثر)، وحلت الأحزاب الصهيونية البولندية والبوند عام 1949، سُمح للصهاينة بالهجرة، وبدأت نقط التجمع السكانية اليهودية في الاختفاء. ورغم إعادة توطين 25 ألف يهودي بولندي من الذين فروا من بولندا إلى الاتحاد السوفيتي إبّان الحرب، إلا أن أبواب الهجرة إلى إسرائيل فُتحت، فهاجر 140 ألفاً بين عامي 1948 و 1958 (ويتضمن هذا الرقم اليهود ممن أُعيد توطينهم في بولندا بعد فرارهم إلى الاتحاد السوفيتي إبان الحرب). وتمت تصفية الجماعة اليهودية نهائياً بين عامي 1968 و1969 حين هاجرت أعداد كبيرة منهم إلى إسرائيل والولايات المتحدة، بحيث لم يبق في بولندا سوى ستة آلاف يهودي.

ويبلغ عدد يهود إسرائيل من أصل بولندي نحو 470 ألفاً؛ منهم 170 ألفاً هم من هاجروا قبل عام 1948 (ونسلهم)، والباقون (300 ألف) هم من هاجروا بعد ذلك التاريخ. ومعظم أعضاء النخبة السياسية الحاكمة في إسرائيل من أصل بولندي، أي من يهود اليديشية، فمنهم بن جوريون وبيجين وشامير وبيريس. وإذا أضفنا إلى هؤلاء أعضاء النخبة من أصل روسي، وهم أيضاً من يهود اليديشية، فيمكن القول بأن نخبة من يهود اليديشية تحكم إسرائيل.

وقد استفادت البقية الباقية من أعضاء الجماعة اليهودية في بولندا من جو الانفتاح السياسي والاقتصادي في شرق أوربا، ومن الدعم الغربي لنقابة التضامن. ولكن جو الانفتاح أدَّى أيضاً إلى تَصاعُد القومية البولندية وثيقة الصلة بالكاثوليكية وهو ما أدَّى إلى الصدام مع الجماعة اليهودية داخل وخارج بولندا، وخصوصاً بشأن قضية الإبادة، إذ تحاول المؤسسة الصهيونية احتكار رموز الإبادة وفرض مضمون صهيوني عليها، الأمر الذي يرفضه البولنديون الذين ذاقوا الأمرَّين من النازي، ربما بدرجة تفوق ما لحق بأعضاء الجماعات اليهودية.

ومن التنظيمات والمؤسسات التي ينتظم فيها أعضاء الجماعة اليهودية في بولندا:

أ) المجلس المركزي للجمعية الثقافية والاجتماعية ليهود بولندا واختصاره TSKZ. وترسل الجماعة اليهودية مراقبين لاجتماعات المؤتمر اليهودي العالمي.

ب) أما المنظمة الدينية الأساسية فهي الجمعية الموسوية الدينية. وهناك أربعة معابد يهودية، ولكن لا يوجد حاخامات محليون، ولذلك يتم إحضار حاخامات من الخارج (في الغالب من المجر) لإجراء الشعائر الدينية في الأعياد الدينية المهمة.

الباب العاشر: روسـيا القيصرية حتى عام 1855

روسيا من القرن التاسـع حتى التقسيم الأول لبولنـدا

Russia, from the Ninth Century to the First Partition of Poland

يعود وجود الجماعات اليهودية في روسيا إلى القرن التاسع الميلادي حين توسعت مملكة الخزر اليهودية في وادي الفولجا ومناطق أخرى من روسيا. وقد اشترك يهود الخزر، حسبما ورد في الموروثات الشعبية الروسية، في المناظرة الدينية التي عقدت بين ممثلي الديانات التوحيدية الثلاث عام 986 أمام أمير كييف وقد اعتنق بعدها المسيحية وأصبحت الأرثوذكسية هي الدين الرسمي لروسيا. وبعد أن استقر اليهود في المدينة باعتبارها مركزاً تجارياً يربط بين منطقة البحر الأسود وآسيا وغرب أوربا وأصبح لهم جيتو خاص بهم، قوبلوا بعداوة شديدة من بلد اعتنق المسيحية لتوه ويضم طبقة تجار بدائية للغاية.

وبعـد غزو التتار لروسـيا في القرن الثالث عشـر وتدهـور إمارة كييف، زاد النشاط التجاري لأعضاء الجماعة لأن الإمبراطورية التترية جمعت الجماعات اليهودية كافة داخل إطار سياسي واحد سهَّل عملية انتقالهم. كما يبدو أن التتار كانوا يعتبرون اليهود من ذوي القربى باعتبار أن الجميع من أصل تركي.

وفي القرن الخامس عشر، ظهرت فرقة متهودة بين الروس في مدينة نوفجورود. ورغم أنه تم القضاء عليها، فإنها عمقت مخاوف المؤسسة الدينية الأرثوذكسية من اليهود. و استمرت الحركة التجارية لأعضاء الجماعة اليهودية، مع هذا، من وإلى روسيا.

وكان إيفان الرهيب (1533 ـ 1584) أول حاكم روسي يقرر طرد أعضاء الجماعة اليهودية من روسيا، ويعود هذا إلى رغبته في استبعاد أية عناصر تجارية أجنبية. وبعد الفترة التي تُعرف باسم «زمن المتاعب» في التاريخ الروسي (1598 ـ 1613) والتي شهدت اعتلاء أمير بولندي العرش الروسي، ونشوب حرب أهلية، زاد عمق الرفض الروسي لليهود حيث إن مغتصبي العرش من البولنديين أحضروا معهم كثيراً من صنائعهم اليهود. لكل هذا، مُنع أعضاء الجماعات اليهودية من دخول روسـيا إلا لأسـباب خاصة مثل حضـور سـوق تجاري أو غيره من الأسباب. وظل هذا الحظر أحد ثوابت السياسة الروسية حتى تقسيم بولندا في أواخر القرن الثامن عشر.

ولعل خوف روسيا القيصرية من أعضاء الجماعات اليهودية هو خوف العناصر الزراعية التقليدية من عنصر غريب له علاقات دولية واسعة في دولة جديدة لم تكن سلطتها قد تدعمت بعد (ولم تتدعم لمدة طويلة نظراً لترامي أطراف البلاد ونظراً لأنه عنصر تجاري له مصالحه المالية الخاصة التي لا تتفق بالضرورة مع مصالح الدولة). كما أن هناك قوى اجتماعية داخل روسيا لم يكن في صالحها البتة السماح لليهود بالاستقرار، من أهمها التجار الروس الذين كانوا يرزحون تحت عبء الضرائب والذين كان عليهم أن يدخلوا منافسة غير متكافئة مع بعض أعضاء طبقة النبلاء الذين اشتغلوا بالتجارة والذين كانوا يتمتعون بمزايا عديدة وبمساندة البيروقراطية الحكومية. بل كان هؤلاء التجار يجدون أنفسهم (أحياناً) في منافسة مع الفلاحين الذين كانوا يشتغلون بالتجارة والصناعات المنزلية، كل هذا داخل سوق محدودة مكبلة بالقوانين الإقطاعية الاستبدادية التي لا حصر لها. وإذا أضفنا إلى هذا كله أن الحجم المالي للتجار الروس كان صغيراً في معظم الأحوال، لأدركنا سبب وقوف التجار الروس ضددخول العنصر اليهودي التجاري النشيط الذي لا تكبله القيم المسيحية أو القوانين الطبقية والذي يتحكم في رأسمال سائل لا بأس به. ووجد هذا الموقف صدى في نفس حكومة كانت تكتسب شيئاً من شرعيتها باعتناقها الأرثوذكسية. ورغم أن الفكر المركنتالي وجد طريقه إلى روسيا في مرحلة لاحقة، إلا أن التجار استمروا في معارضة نشاط اليهود التجاري وفي المطالبة بالحد منه حتى اندلاع الثورة البلشفية.

ومن الثوابت الأخرى التي كانت عنصراً قوياً ومحدداً في السياسة الروسية القيصرية أن اليهود كانوا يشكلون عنصراً متحركاً غير مستقر على رقعة أرض مقصورة عليهم، كما هو الحال مع الشعوب والأقوام والأقليات والطوائف الأخرى داخل الإمبراطورية، الأمر الذي خلق لهم وضعاً خاصاً ومشاكل معينة.

وقد ضمت روسيا مقاطعة روسيا البيضاء في أول تقسيم لبولندا عام 1772، وضمت في التقسيم الثاني منطقة منسك في الشمال وفولينيا (في مقاطعة كييف) ومنطقة بودوليا في الجنوب، أي أنها ضمت بذلك أوكرانيا كلها. ثم ضمت في التقسيم الثالث ليتوانيا. وقد ضمت كل هذه المقاطعات (وضمن ذلك كورلاند وبيالستوك التي حصلت عليهما روسيا فيما بعد) إلى روسيا نفسها، بينما أصبحت بولندا المركزية (التي كانت تضم نحو ثلاثة أرباع دوقية وارسو النابليونية) تكوِّن ما يُسمَّى «بولندا المؤتمر» أو «بولندا الروسية» (وكان اسمها الرسمي «مملكة بولندا» حتى عام 1830 كما كان لها دستورها الخاص). وكانت هذه المقاطعات تضم أغلبية يهود شرق أوربا (يهود اليديشية) الذين انطلقوا من هذه المناطق بعد ضمها، واستوطنوا المناطق الجنوبية من روسيا وساحل البحر الأسود ومقاطعة بيساربيا، وهي مناطق كانت تابعة للدولة العثمانية، وقامت روسيا بضمها باسم «روسيا الجديدة» (كانت توجد جماعات يهودية أخرى فيها ولكنها كانت جماعات صغيرة للغاية ولم يكن لها مسألة يهودية فقد كانت مندمجة تماماً في محيطها الحضاري). ولذا فرغم وجود جماعات يهودية إلا أننا نتحدث في معظم الوقت عن «الجماعة اليهودية» وحسب، وتعني «يهود اليديشية» لأنهمكانوا الأغلبية الساحقة وكذلك كانوا أصحاب «المسألة اليهودية». كما تسللت مجموعات صغيرة من اليهود إلى وسط روسيا نفسها.

وكان وضع أعضاء الجماعة اليهودية في المناطق البولندية متميِّزاً تماماً من الناحية الثقافية والاجتماعية والوظيفية. إذ كانت أعداد كبيرة منهم تعمل بنظام الأرندا (استئجار عوائد القرى وضمنها الضرائب والمطاحن والغابات والحانات من النبلاء البولنديين الغائبين) كما كان بين اليهـود تجار وأصـحاب حـوانيت وباعـــة جائلون. وكان الباقون حرفيين يعملون للنبيل الإقطاعي والفلاح. وحســب التقديرات، كان التركيب الوظيفي لليهود على النحو التالي: 1% فقط كانوا يعملون في الزراعة، و3% في الأعمال الدينية، و30% يعملون في نظام الأرندا، و30% يعملون في التجارة والرهونات، و15% في الحرف المختلفة.

وكان من أهم الوظائف التي يضطلع بها اليهود، والتي أصبحت جزءاً أساسياً من مشكلتهم، تقطير الخمور وبيعها في الحانات التي استأجروها من النبلاء في إطار نظام الأرندا. كما يُلاحَظ أن التجارة اليهودية كانت تجارة طفيلية، وكان التجار اليهود يشتغلون بتهريب البضائع ويتهربون من الضرائب نظراً لوجودهم في المنطقة الحدودية وبسبب استخدامهم اليديشية وسيلة للتفاهم، الأمر الذي يسَّر لهم عمليات التهريب والتهرب والتلاعب بالأسعار. ومع هذا، ظلت نسبة كبيرة من أعضاء الجماعة تعاني من الفاقة، فكان هناك 21% منهم بدون وظيفة محدَّدة.

ولكن لم يكـن التمـيز وظيفياً أو طبقياً وحسـب وإنما كان ثقافياً ولغوياً. وأعضاء الجماعة اليهودية كانوا يشكلون جماعة وظيفية وسيطة يدين أعضاؤها باليهودية ويتحدثون اليديشية ويمثلون المصالح المالية للنبيل البولندي الذي يتحدث البولندية ويدين بالكاثوليكية بين الفلاحين والأقنان الأوكرانيين الذين يتحدثون الأوكرانية ويدينون بالمسيحية الأرثوذكسية. وأعضاء الجماعة الوظيفية اليهودية هم عنصر ألماني يعيش في وسط سلافي، ويظهر تميزهم حتى في الطريقة التي كانوا يحلقون بها رؤوسهم (واللحية والسوالف) وفي أزيائهم المتميِّزة (كفتان) وفي أسمائهم. كما تظهر عزلتهم في نظامهم التعليمي المقصور عليهم، وفي الشتتلات التي أسسها لهم النبلاء الإقطاعيون البولنديون (وهي مدن صغيرة تضم التجار والوكلاء والحرفيين اليهود). وكان اليهود يكوِّنون أغلبية السكان في هذه المدن الصغيرة، وهو ما كان يعني عدم احتكاكهم بالسكان. كما كانت تعيش أعداد كبيرة منهم في بعض القرى. كانت هذه الكتلة البشرية اليديشية اليهودية على وشك الزيادة الهائلة إثر انفجار سكاني لم تعرف الجماعات اليهودية مثيلاً له في التاريخ. وهي برغم عزلتها، لم تكن متماسكة، إذ كانت الصراعات الاجتماعية قد بدأت تترك أثرها في مؤسسة القهال، وهي منازعات أخذت شكل الصراع بين الحسيديين ومعارضيهم من أعضاء المؤسسة الحاخامية الذين أُطلق عليهم المتنجديم. وكانت المنطقة التي ضمتها روسيا تضم أهم مناطق تركز الحسيديين وأهم المدارس التلمودية العليا (يشيفا) الخاصة بالمتنجديم في ليتوانيا. وضمت روسيا، كما تَقدَّم، بودوليا التي كانت مركز الحركة الفرانكية والحسيدية. وحينما دخلتها القوات الروسية، أطلقت سراح فرانك، وكانت اليهودية الحاخامية قد دخلت أزمتها الكبرى. وفجأة، وجدت هذه الكتلة البشرية نفسها تابعة لتشكيل اقتصادي سياسي حضاري جديد (روسيا القيصرية)، تشكيل كان يرى دائماً ضرورة نبذهم والتخلص منهم، تسيِّره حكومة استبدادية متخلفة لا تسمح بالتعددية الدينية أو الفكرية أو المهنية، سياستها في جوهرها هي سياسة الملوك المطلقين المستبدين المستنيرين على نحو ما كان في وسط أوربا والنمسا وألمانيا (أي التحديث بالقوة ومن فوق). ولم تكن لدى هذه الحكومة أية خبرة باليهود أو مشاكلهم، كما أن روسيا نفسها كانت على عتبات انفجارات اجتماعية ضخمة نتيجة عملية التحديث والعلمنة التي كانت تخوضها (وهـي انفجـارات أدَّت في نهاية الأمر إلى قيـام الثـورة البلشفية). وتاريخ المسألة اليهودية في روسيا هو تاريخ الاحتكاك بين الكتلة البشرية اليهودية المنعزلة، بكل تَخلُّفها ومشاكلها وتَميُّزها من جهة، والبيروقراطية القيصرية المتخلفة بكل وحشيتها وتَعصُّبها وانعدام كفاءتها من الجهة الأخرى.

وظلت المشكلة قائمة دون حل. وكلما احتدمت الأزمة، كانت الحكومة الروسية تشكل لجنة لدراسة الموقف لترفع بدورها توصياتها للحكومة. وكانت هذه التوصيات تستند في معظم الأحيان إلى فلسفات شمولية مطلقة، وتنبع من جهل عميق بآليات الظواهر الاجتماعية ويتولى تنفيذها جهاز تنفيذي متعصب جاهل فاسد يتسم بعدم الكفاءة. وظل التناقض الأساسي في سياسة الحكومة القيصرية بين رغبتها في التحديث والتنمية الاقتصادية من جهة والشكل الاستبدادي السياسي الذي يُفشل كل المحاولات التي تستهدف حل المسألة اليهودية من جهة أخرى. وقد تعثر تماماً تحديث اليهود بل تحديث المجتمع ككل، في أواخر القرن التاسـع عشـر، واحتدم التناقـض بين الحقيقة الاجتماعية والشكل المتكلس، الأمر الذي نجمت عنه مجموعة من الاضطرابات والثورات انتهت بالثورة البلشفية التي حلت المسألة اليهودية والمسائل القومية الأخرى بطريقة نوعية مختلفة.

روسـيا مــن تقسـيم بولنــدا حـتى عـام 1855

Russia, from the Partition of Poland to1855

أدَّى تقسيم بولندا إلى ضم أجزاء كبيرة منها إلى روسيا، وبذلك ضمت روسيا أجزاء كبيرة من الكتلة البشرية اليهودية اليديشية. ولأن النبلاء البولنديين كان محرماً عليهم التجارة (حيث تفرغوا لأعمال السياسة والحرب)، وكان الأقنان ملتصقين بالأرض، كما كانت طبقة التجار ضعيفة للغاية، اضطلع اليهود بوظيفة طبقة التجار والحرفيين وأصبحوا جماعة وظيفية وسيطة. هذا على عكس روسيا إذ لم تكن التجارة هناك مهنة وضيعة، وكانت هناك طبقة من الحرفيين تزداد قوة. كما كانت الحكومة نفسها تقوم بالتجارة ويضطلع بعض النبلاء بالوظيفة نفسها.

وكانت روسيا، من الناحية الاقتصادية، مستعمرة إنجليزية أو منطقة نفوذ للاقتصاد الإنجليزي. وبعد الحصار الذي فرضه نابليون على إنجلترا على نطاق القارة كلها، حدث تَقدم صناعي وتجاري نظراً لاضطرار روسيا إلى الاعتماد على نفسها. وعلى سبيل المثال، كانت روسـيا تملك عـام 1804 نحو 199 مصـنع قطـن زاد إلى 423 عام 1814، وزادت واردات القطن من الولايات المتحدة من 204 أطنان عام 1809 إلى 3787 طناً عام 1811.

ومن كل هذه الحقائق، يمكن القول بأن الاقتصاد الروسي لم يكن في حاجة إلى أعضاء الجماعة اليهودية. ومع هذا، تم ضمهم نتيجة توسُّع الدولة القيصرية. ولم تكن المسألة اليهودية المسألة الوحيدة التي جابهتها الحكومة القيصرية، فقد كان هناك مسألة إسلامية ومسألة تترية ومسألة بولندية ومسألة أوكرانية، إذ كانت الإمبراطورية القيصرية مترامية الأطراف تضم مئات الأقليات والتشكيلات الحضارية المختلفة التي كانت تحاول أن تفرض عليها ضرباً من الوحدة حتى تتمكن الحكومة المركزية من التعامل معها. وقسَّمت الحكومة القيصرية هذه الأقليات إلى قسمين أساسيين: الأقليات السلافية (أوكرانيا وبولندا وغيرهما)، والأقليات غير السلافية. وكان يُطلَق على الأقليات غير السلافية مصطلح «الإينورودتسي inorodtsy». وهذه كلمة روسية كانت تشير في بادئ الأمر إلى قبائل السكان الأصليين التي تقطن سيبيريا، ثم اتسع نطاق الكلمة الدلالي فأصبحت تشير إلى كل الشعوب غير السلافية. وكانت السياسة العامة تهدف إلى ترويسهم. وغني عن البيان أن إجراءات الترويس، بالنسبة للأقليات غير السلافية، كانت أكثر راديكالية وعنفاً، وخصوصاً إذا كانت تلك الأقليات لا تدين بالمسيحية (ومع هذا ينبغي الإشارة إلى أن اللون أو العرْق بدأ يكتسب دلالة محورية مع تصاعد معدلات العلمنة في الإمبراطورية الروسية وتعمُّق الرؤية العرْقية. وحيث إن يهود اليديشية كانوا من البيض، ومع تَزايُد معدلات ترويسهم، أُعيد تصنيفهم بحيث أصبحوا «روساً» ووُطنوا على هذا الأساس في روسيا الجديدة وفي الخانات التركية التي ضمتها روسيا وذلك باعتبارهم عنصراً روسياً استيطانياً). ومهما كان الأمر، فإن الإمبراطورية القيصرية كانت «سجناً للشعوب».

وقد بدأت الحكومة القيصرية علاقتها بأعضاء الجماعات اليهودية بالاعتراف بالقهال وبصلاحياته الدينية والقضائية، كما تم الاعتراف بالجماعة اليهودية (اليديشية) بوصفها جماعة مستقلة في المدن والقرى. وفي عام 1783، صُنِّف اليهود ضمن سكان المدن وأصبحت لهم حقوق غير اليهود نفسها (مثلاً: انتخاب مجالس المدن والبلديات وحق التمثيل فيها).

واستقر بعض التجار اليهود في موسكو وسمولنسك، فدخلوا في منافسة مع التجار المسيحيين بطرق شرعية وغير شرعية. وحينما اشتكى تجار موسكو من هذا الوضع، صدر فرمان عام 1791 يحظر على اليهود الاتجار خارج روسيا البيضاء. ويُعَدُّ هذا الفرمان الأساس القانوني لمنطقة الاستيطان، وقد سُمح لمجالس القهال بأن تستمر في عملها بكل صلاحياتها.

وشهدت هذه المرحلة قيام روسيا بضم بعض الإمارات الإسلامية التابعة لتركيا على ساحل البحر الأسود، وسُمِّيت هي ومناطق أخرى باسـم «روسـيا الجديـدة». ولما كان أعضـاء الجماعات اليهودية يُنظَر إليهم، في التشكيل الحضاري الغربي، باعتبارهم عنصراً ريادياً حركياً وجماعة وظيفية استيطانية يمكن استخدامها في مثل هذه العملية، كما فعل شارلمان من قبل وكما فعلت القوات المسيحية في إسبانيا والنبـلاء البولنـديون في أوكرانيا والاسـتعمار الغربي في فلسـطين فيما بعد، قامت الحكومة القيصرية بتشجيعهم على الاستيطان في المناطق الجديدة، باللجوء إلى طريقة الطرد والجذب، فضوعفت الضريبة المفروضة على التجار اليهود في الإمبراطورية، بينما أُعفي المستوطنون في روسيا الجديدة من الضرائب كافة. واستثنى هذا المرسوم اليهود القرّائين، وكان هذا أيضاً أحد ثوابت السياسة القيصرية تجاه اليهود. وفي الوقت نفسه، تفاقمت مشكلة السُكْر بين الفلاحين، وساعدت المجاعة التي وقعت عام 1797 على تعميق المشكلة. ورغم أن اليهود كانوا السبب الواضح والمباشر أمام الجميع (إذ أن أغلبية صانعي الخمر وبائعيها كانوا من اليهود، كما أنهم هم الذين كانوا يديرون معظم الحانات)، إلا أنهم لم يكونوا في واقع الأمر السبب الحقيقي لإدمان الفلاحين الروسيين المشروبات الكحولية. وشُكِّلت لجنة لبحث المسألة اليهودية في روسيا برئاسة الشاعر الروسي السناتور جافريل ديرجافين (1743 - 1816) الذي رأى أناليهود يستغلون الفلاحين الروس وأن عزلتهم الطبقية والحضارية هي سبب العداء ضدهم. وبناء على ذلك، طالب ديرجافين بضرورة ترويسهم بالقوة وتغيير بنائهم الاقتصادي والوظيفي حتى يتسنى استيعابهم كيهود نافعين في المجتمع الروسي. ووضع بذلك الإطار الأساسي لجميع المحاولات التي بذلتها الحكومة القيصرية لحل المسألة اليهودية.

وبعد أن اعتلى ألكسندر الأول العرش (1801 ـ 1825)، شُكِّلت لجنة تدعى مجلس الشئون اليهودية التي أصدرت قراراتها عام 1804، والتي سمىت «قانون اليهود الأساسي» أو «دستور اليهود». وجاء ضمن هذه القرارات أن اليهود يجب نقلهم خارج المناطق الزراعية بين عامي 1807 و 1808، كما أوصت القرارات بضرورة إبعادهم عن استئجار الحانات أو استئجار الأراضي الزراعية بهدف الربح (حتى يمكن تحويلهم إلى عنصر اقتصادي منتج). ولتنفيذ هذا المخطط، وُضع تحت تصرفهم بعض أراضي القيصر، وأُعفي المزارعون اليهود من الضرائب لمدة تتراوح بين خمسة وعشرة أعوام، كما أنهم لم يُصنَّفوا كأقنان مرتبطين بالأرض، بل احتفظوا بحقوقهم في حرية الحركة والسكنى. ووعدت الحكومة كذلك بتقديم العون للمصانع التي تقوم باستئجار العمال والحرفيين من أعضاء الجماعة اليهودية. وسُمح للعاملين بالصناعة من أعضاء الجماعة اليهودية أن يستقروا داخل روسيا، وضمن ذلك موسكو وسانت بطرسبرج. كما حدَّ القانون الأساسي من سلطة القهال، وأصبح تنظيم الأمور الدينية والعبادات من اختصاص الحاخامات الذين كان يتم اختيارهم دون الرجوع إلى القهال. ولم تتجاوز صلاحيات القهال، في القانون الأساسي، تحديد الضرائب وجمعها وإحصاء عدد السكان اليهود. وتقرر ألا يوجد سوى قهال واحد في كل مدينة، كما سُمح لكل فرقة دينية بأن يكون لها معبدها اليهودي وحاخامها الخاص (الأمر الذي أدَّى إلى تحسين وضع الحسيديين) وفُتحت أبواب المدارس الحكومية العلمانية أمام أعضاء الجماعة اليهودية. وتقرر أنه ما لم يرسل اليهود أولادهم فإنه سيتم فتح مدارس يهودية علمانية خاصة على حسـاب أعضـاء الجماعـة اليهودية. وأصبح من شروط شـغل وظيفة حاخام، أو عضوية مجلس إدارة القهال أو البلدية، معرفة الألمانية أو الروسية أو البولندية. كما تقرر أن يكتب أعضاء الجماعة جميع وثائقهم وأوراقهم التجارية بإحدى اللغات الثلاث دون العبرية أو اليديشية. وأكد القانون حق اشتراك اليهود في الانتخابات الخاصة بالحكومات المحلية ومُنع ارتداء الأزياء اليهودية التقليدية وقص الشعر على الطريقة اليهودية وترك السوالف، وأصبح توجيه تهمة الدم جريمة يعاقب عليها القانون (1818). وكانت استجابة الجماعات اليهودية سلبية إلى أقصى درجة، وصاموا حداداً على صدور هذه القرارات بل اقترحت بعض القهالات تأجيل الإصلاحات إلى فترة تتراوح بين خمسة عشر وعشرين عاماً.

ولم تنجح الحكومة القيصرية في تنفيذ توصيات اللجنة بسبب ضعف البيروقراطية وفساد النظام الإداري (فكثيراً ما كان الموظفون يتقاضون الرشاوى ويتغاضون عن تعليمات الحكومة)، وبسبب عدم الثقة المتبادل بين الحكومة وأعضاء الجماعة اليهودية. كما أن القرارات الخاصة بنقل أعضاء الجماعة اليهودية من القرى لم تكن واقعية إذ أن وجودهم فيها لم يكن أمراً من اختيارهم وإنما كان واقعاً اجتماعياً فرضته عليهم ظروفهم والظروف الاقتصادية المحيطة بهم، فقد كان أعضاء الجماعة يقومون في واقع الأمر بوظيفة مهمة بالنسبة للريف الروسي حتى ولو كانت لهذا جوانب سلبية من الناحية الاجتماعية. وعلى كل حال، لم تُتَخذ خطوات تنفيذية لطرد اليهود من القرى إلا عام 1822، وخصوصاً في مقاطعة بيلوروسيا أي روسيا البيضاء. ولكن كثيراً ما كان يتم طرد اليهود دون تأمين الأرض الزراعية لهم، الأمر الذي كان يعني محاولة تغيير وضع اليهود الوظيفي فشلاً مؤكداً. بل كان يتم أحياناً تأمين الأرض ثم يصل المستوطنون ليكتشفوا أنه لا توجد تسهيلات للسكنى أو الري أو الصرف.

وتوقف كثير من الإصلاحات أثناء الحرب الروسية الفرنسية حين قام نابليون بغزو روسيا. وقد وقف أعضاء الجماعة اليهودية أثناء هذه الحرب، إلى جانب الحكومة الروسية، لأن المؤسسة الحاخامية كانت تعتبر نابليون عدو اليهودية اللدود، بل قام اليهود بالتجسس لحساب الحكومة القيصرية على القوات الفرنسية (وإن كان هذا لم يمنع وجود بعض حالات متفرقة قام فيها اليهود الروس بالتجسس على روسيا لحساب الفرنسيين).

وفي أواخر حكم ألكسندر الأول، كانت هناك محاولة لتنصير اليهود عن طريق الوعد بإعتاقهم وإعطائهم حقوقهم السياسية. وكان العقل المدبر وراء هذه الفكرة هو لويس واي، رئيس جمعية الكتاب المقدَّس في إنجلترا الذي أسَّس جمعية المسيحيين الإسرائيليين عام 1817 تحت رعاية الإمبراطور. ثم صدر قرار بمنع اليهود من استئجار خدم مسيحيين ومن السكنى في منطقة طولها خمسون فرسخاً (نحو 33 ميلاً) على الحدود، ولم يستثن من ذلك سوى ملاك الأراضي.

وبدأت مرحلة جديدة في تاريخ الجماعة اليهودية باعتلاء نيقولا الثاني العرش (1825 - 1855)، وهذا بعد إخماد الثورة المعروفة باسم «ثورة الديسمبريين»، وهم مجموعة من النبلاء المتأثرين بالأفكار الغربية، وكان من بينهم صاحب الأفكار اليعقوبية بول بستل، وهو صاحب مشروع صهيوني لحل المسألة اليهودية. وقد صعَّد نيقولا سياسة الترويس والدمج القسرية، فصدر مرسوم عام 1827 بفرض الخدمة العسكرية على يهود روسيا، وكانوا قبل ذلك يدفعون ما يشبه البدل النقدي، وكانت فترة الخدمة في الجيش الروسي تستمر خمسة وعشرين عاماً، وأوكل للجماعة اليهودية نفسها أن تقوم باختيار الفتيان الذين يتم تجنيدهم، وكانت كل جماعة يهودية تعين خطافين ليمسكوا الفتيان (من أبناء الفقراء في العادة) لتسليمهم إلى الحكومة، وهو ما زاد حدة الصراعات الاجتماعية. ويُلاحَظ أن هذا القانون لم يُطبَّق على يهود بولندا وحسب وإنما كان يُطبَّق على الروس كافة من مسيحيين وغيرهم. وكان الاختلاف الوحيد في عدد المجندين، فبينما كانت النسبة 7 من ألف بين المسيحيين، كانت 10 من ألف بين غير المسيحيين. وأُعفي المثقفون والتجار والحرفيون من الخدمة العسكرية نظير ألف روبل، كما أعفي العاملون في القطاع الزراعي في مرحلة لاحقة. وكان الهـدف من الخـدمة العســكرية هو مزيد من الدمج والترويس القسريين. ومع هذا، كان نظام التجنيد قاسياً بل غير إنساني، وذلك لصغر سن المجندين على وجه الخصوص. ولكن لم يُجنَّد في نهاية الأمر سوى عدد صغير من أعضاء الجماعة اليهودية يتراوح بين 26 و60 ألفاً في فترة 28 سنة. فإذا أخذنا بالمتوسط وهو 45 ألفاً، فإن هذا يعني أن عدد المجندين لا يزيد على ألف وخمسمائة مجند في السـنة من مجـموع يهـود روسـيا البالغ عددهم آنذاك ثلاثة ملايين.

ثم صدر قرار عام 1835 لم يكن مختلفاً في جوهره عن قرار عام 1804، فأُعيد بمقتضاه تحديد منطقة الاستيطان. وحرَّم القانون استئجار الخدم المسيحيين، وحظر على أعضاء الجماعة اليهودية الزواج المبكر، وحدَّد الحد الأدنى لسن الزواج بثماني عشرة سنة للذكور وست عشرة سنة للإناث، كما حظر استخدام اليديشية أو العبرية في الأعمال التجارية وغيرها من النشاطات. وحُدِّدت المهن التي يُسمح لأعضاء الجماعة اليهودية أن يعملوا فيها، كما حُرِّم عليهم (عام 1825) دخول القرى.

وأبقى القانون على القهال ليقوم بجمع الضرائب وتطبيق القوانين الروسية، وليصبح مسئولاً عن الأمور الدينية والخيرية، وصـرح ببناء المعـابد شـــريطة أن تكون على مسافة معقولة من الكنائس، واعتُبر الحاخامات موظفين حكوميين لا تقتصر مهمتهم على الجوانب الدينية فأصبح من واجبهم الرقابة على الجوانب الأخلاقية العامة وعلى أداء أعضاء الجماعة اليهودية لواجباتهم المدنية للدولة والمجتمع. وفُتحت أمام أعضاء الجماعة اليهودية أبواب المدارس العامة، وفُرضت الرقابة على كتبهم (عام 1836).

ويبدو أن الحكومة القيصرية بدأت تشعر في هذه المرحلة بأن ما سـمته الروح التلموديـة (وليـس اليهودية نفسها) هو سـبب عزلة اليهود. ولذا، قامت الحكومة باستشارة أثرياء اليهود الروس باعتبارهم خبراء في الشئون اليهودية، كما طلبت العون من المفكرين اليهود دعاة التنوير ومن يهود الغرب الذين تم تحديثهم. وكانت نتيجة المشاورات والمداولات مؤيدة لموقف الحكومة. وكان أهم داعية لهذه السياسة وزير التعليم أوفاروف وكان كثير من دعاة التنوير اليهود يتفقون معه، من بينهم إسحق بير ليفينسون في كتابه التعليم في إسرائيل (عام 1828). وأُغلق كثير من المطابع العبرية بهدف الحرب ضد الخرافات الحسيدية والتعصب الناجم عن دراسة التلمود. ويُلاحَظ أن موقف الحكومة القيصرية من القرّائين كان متسامحاً للغاية لأنهم لا يؤمنون بالتلمود.

واتجهت الحكومة الروسية أيضاً نحو علمنة التعليم اليهودي، وحاولت تطبيق المشروع الذي طرحه ليفينسون في كتابه. ولتحقيق هذا الهدف، استدعت التربوي الألماني اليهودي ماكس ليلينتال (1815 ـ 1882) حتى يمكنه أن يقرب فكرة التعليم العلماني ليهود روسيا وليؤكد لهم حسن نية الحكومة. وكان ليلينتال يعمل مدرساً في إحدى المدارس التي أسسها دعاة التنوير اليهود في ريجا. فقام برحلة استطلاعية، ولكنه قوبل بعداوة شديدة من الجماهير اليهودية التي سمته «الحليق»، أي الذي حلق لحيته وسوالفه. وكان كثير من دعاة التنوير اليهود يرون أن تحديث الجماهير اليهودية لا يمكن أن يتم بالطرق الديموقراطية، وأنه لابد من استخدام نوع من القسر والإرهاب، وأيَّدهم في ذلك أعضاء البيروقراطية الروسية. وأوصى ليلينتال بإغلاق المدارس الدينية التقليدية ومنع المدرسين التقليديين من التدريس واستجلاب مدرسين من الخارج.وتم بالفعل تأسيس مدارس علمانية يهودية مُوِّلت من ضريبة الشموع (شموع السبت)، وقام بالتدريس في هذه المدارس مسيحيون ويهود من دعاة التنوير، وأُسِّست مجموعة من المدارس لتدريب حاخامات ومدرسين يهود، وكانت هذه المدارس الإطار الذي تم فيه تدريب وتعليم أعداد كبيرة من دعاة التنوير المتحدثين بالروسية والذين لعبوا دوراً مهماً في الحركات الاندماجية والثورية والعدمية.

وتبع ذلك إلغاء القهال (عام 1844) مع الإبقاء على إطار تنظيمي إداري عامّ. واستمر المسئولون عن التجنيد وكذلك جامعو الضرائب في أداء عملهم. وابتداءً من عام 1851، بدأت الحكومة الروسية تنهج النهج الألماني في تقسيم أعضاء الجماعات اليهودية إلى يهود نافعين ويهود غير نافعين. وكان الفريق الأول يضم كبار التجار والحرفيين والمزارعين الذين كانوا يتمتعون بمعظم حقوق المواطن الروسي. أما الفريق الثاني الذي كان يضم بقية اليهود من صغار التجار وأعضاء الطبقات الفقيرة، فكان الأمر بالنسبة إليهم مختلفاً إذ كان عليهم أداء الخدمة العسكرية حيث كان بوسعهم أن يتعلموا بعض المهن النافعة، فإن تعلموها صُنفوا ضمن النافعين وأُعفوا من الخدمة العسكرية. ونجحت السياسة بشكل محدد إذ أُقيمت أربع عشرة مستوطنة زراعية في خرسون، وعدد مساو في إيكاترينوسلاف، وخمس وأربعون مستوطنة في كييف، كما أُقيمت عـدة مسـتوطنات في بيسـاربيا بلغ عدد سكانها خمسة وستين ألف يهودي. وقام سير موسى مونتفيوري بزيارة روسيا في هذه الفترة في إطار محاولة الحكومة القيصرية أن تُوسِّط يهود الغرب المندمجين في إقناع يهود روسيا بتقبُّل عمليات الدمج والتحديث والترويس. ويمكن القول بأن هذه العمليات لم تحقق كثيراً من النجاح.

ألكسندر الأول (1801-1825)

Alexander I

أحد قياصرة روسيا. في عهده بدأت الحكومة القيصرية في محاولة إيجاد حل للمسألة اليهودية في روسيا بعد ضم أجزاء من بولندا. فشكلت لجنة لدراسة القضية والتوصية ببعض الحلول. وشهد عهده عدة محاولات لدمج اليهود وترويسهم.

نيقولا الأول (1825-1855)

Nicholas I

قيصر روسي حاول دمج اليهود في المجتمع الروسي عن طريق إصلاحات تُفرَض عليهم من الخارج، لكن سياسته لم تُحرز نجاحاً كبيراً.

منطقة الاستيطان اليهودية في روسيا

Pale of Settlement

«منطقة الاستيطان» ترجمة للعبارة الروسية «كرتا أوسدلوستي Cherta Osedlosti» حيث تُترجم كلمة «كرتا» إلى «نطاق» أو «حدود» أو ربمـا «حظيرة» وهي الترجمـة الدقيقـة. ولأن هذا النطاق كان يتسع ويضيق، فتضم إليه مناطق وتستبعد أخرى، فإننا نفضل استخدام كلمة «منطقة».

ومنطقة الاستيطان هي منطقة داخل حدود روسيا القيصرية لم يكن يُسمَح لمعظم أعضاء الجماعة اليهودية بالسكنى أو الاستقرار خارج المدن الواقعة فيها. وكانت الحكومة القيصرية تقوم بفرض مثل هذه القيود وهو أمر كان يُعَد جزءاً أساسياً من سياستها العامة ومن موقفها من حرية الأفراد في التنقل، وهي سياسة لم تكن تُطبَّق على أعضاء الجماعة اليهودية وحسب وإنما كانت تُطبَّق على معظم سكان روسيا سواء أكانوا من الأقنان أم كانوا سكان مدن أو تجاراً. فكان على هذه القطاعات، التي تشكل أغلبية السكان، البقاء في مواطن استيطانها لا تغادرها إلا لسبب محدد وبإذن خاص. ويبدو أن هذه القوانين صدرت بسبب طبيعة روسيا كإمبراطورية مترامية الأطراف تُوجَد بها مناطق شاسعة غير مأهولة بالسكان، الأمر الذي جعل بوسع أي مواطن أن يترك محل إقامته ليستوطن إحدى المناطق غير المأهولة بعيداً عن سلطة الحكومة. ولما كانت الحكومة المركزية ضعيفة نظراً لرغبتها في تدعيم أسس الإمبراطورية وضمان شيء من الثبات، ظهرت فكرة ربط المجموعات البشرية بمواطن محددة كما حدث مع الفلاحين حينما تم تحويلهم إلى أقنان، ثم مع أعضاء الجماعة اليهودية حين تم ضم أعداد كبيرة منهم إلى الإمبراطورية بعد تقسيم بولندا.

ولكن، إلى جوار هذه الأسباب العامة المتعلقة بسياسة روسيا القيصرية تجاه رعاياها، هناك أسباب خاصة بيهود روسيا من أهمها الصراع الاجتماعي الناشب بين التجاراليهود الذين كانوا يشتغلون بتقطير الخمور وبيعها وبأعمال الرهونات والالتزام من جهة، والفلاحين السلاف الذين كانوا يتعاطون الخمر بشراهة (ربما بسبب تزايد بؤسهم)وضعف النظام الإقطاعي من جهة أخرى. وكانت البيروقراطية الروسية متخلفة غير مدركة لأبعاد المشكلة الاجتماعية في الريف الروسي أو البولندي. ولذا، أُلقي باللوم على أعضاء الجماعة اليهودية باعتبارهم مسئولين عن سُكْر الفلاحين وإفقارهم. كما كان تجار روسيا يجأرون بالشكوى دائماً من العناصر اليهودية التجارية التي تلجأ إلي الغش والتهريب لتحقيق الربح. لكل هذا، حُظر على أعضاء الجماعة اليهودية أن يتحركوا خارج تلك المناطق التي ضُمَّت من بولندا، ولكنهم مُنحوا حق الاستيطان في المناطق التي ضُمَّت من تركيا في أواخر القرن الثامن عشر باعتبارهم عنصراً استيطانياً نافعاً، وهي التي كانت تقع أساساً حول البحر الأسود وسُمِّيت «روسيا الجديدة». وقد ضمَّت منطقة الاستيطان منطقة كبيرة امتدت من ليتوانيا وبحر البلطيق في الشمال إلى البحر الأسود في الجنوب، ومن بولندا وبيساربيا في الغرب إلى روسيا البيضاء وأوكرانيا في الشرق، وتضم خمساً وعشرين مقاطعة تشكل مساحة قدرها مليون كيلو متر مربع، أي ما يساوي مساحة فرنسا تقريباً. وكان أعضاء الجماعة اليهودية يشكلون نحو 11.6% من سكان منطقة الاستيطان عام 1897، وبلغ عددهم 4.899.427من مجموع يهود روسيا البالغ عددهم 5.054.300، ويُلاحَظ أنه كان يوجد 161.500 فقط من يهود الجبال وجورجيا، وهم ليسوا من يهود اليديشية، أي أن منطقة الاستيطان كانت تضم أغلبية يهود روسيا الذين كان معظمهم يتحدث اليديشية.

وكانت منطقة الاستيطان تتكون من ثلاث مناطق تتميَّز الواحدة عن الأخرى تماماً:

1 ـ ليتوانيا وبيلوروسيا أو روسيا البيضاء: وتضم جرودنو منسك وفلنا وفايتبسك (بوكوتسك سابقاً) وكوفنو وموجيليف.

2 ـ أوكرانيا: وتضم فولينيا وبودوليا ومقاطعة كييف (ماعدا مدينة كييف) وتشرينجوف وبولتافا.

3 ـ روسيا الجديدة: وتضم خرسون (ماعدا مدينة نيقولاييف) وإيكاتيرينوسلاف وتاوريدا (القرم) وبيساربيا التي تضم أوديسا، أهم مدن اليهود في روسيا.

واستقرت حدود المنطقة عام 1835. وكانت منطقة الاستيطان تضم رسمياً كل المناطق التي ضمت من بولندا ما عدا مقاطعات وسط بولندا والتي ظلت رسمياً خارجالنطاق وداخله من الناحية الفعلية.

وكانت منطقة الاستيطان تضم أوكرانيين وبولنديين وروسيين وليتوانيين ومولدافيين وألماناً. وكان لكل جماعة قاعدتها الإقليمية أو أرضها المتركزة فيها ما عدا أعضاء الجماعة اليهودية والألمان. ومن هنا ظهرت إحدى السمات الخاصة للمسألة اليهودية في روسيا. وقد قررت الحكومة القيصرية (عام 1843)، لاعتبارات أمنية، عدم السماح لأعضاء الجماعة اليهودية بالسكنى على مسافة 50 فرسخاً (نحو 33 ميلاً) من الحدود. وحسب القانون الصادر لتنظيم منطقة الاستيطان، لم يُسمَح لليهود بالانتقال خارجها ولم يُسمح لهم بالدخول إلى وسط روسيا إلا مدة سـتة أسـابيع للقيام بأعمال محدَّدة على أن يرتدوا الأزيـاء الروسية. وكان متاحاً لتجار الدرجة الأولى أن يمكثوا ستة أشهر، كما كان مسموحاً لتجار الدرجة الثانية أن يمكثوا ثلاثة أشهر. ومع حكم ألكسندر الثاني، بدأت الحكومة القيصرية في تخفيف القيود عن بعض العناصر اليهودية النافعة والمندمجة، وذلك بهدف تحويل اليهود إلى قطاع منتج مندمج في المجتمع. فسُمح لتجار الفئة الأولى (عام 1859) بأن يستوطنوا خارج منطقة الاستيطان، وكذلك لخريجي الجامعات عام 1861 وللحرفيين عام 1865، كما سُمح للمشتغلين بالطب عام 1879 وللجنود المُسرَّحين بهذه الميزة. ولم يزد العدد المسموح لهم بها حسب تعداد 1897 على مائتي ألف يهودي.

وكان من بين الفئات المسموح لها بمغادرة منطقة الاستيطان الفتيات اليهوديات اللائي كن يعملن بالبغاء، فكان بوسع الفتاة أن تنتقل إلى موسكو أو أية مدينة أخرى لتمارس هذه الوظيفة وتحقق قدراً من الحراك الاجتماعي والجغرافي دون أن يكون في إمكان أسرتها اللحاق بها.

وقد حوَّل هذا منطقة الاستيطان إلى أهم مصدر للبغايا في العالم حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى وربما حتى الثلاثينيات من هذا القرن. وتم توسـيع منطقة الاسـتيطان عام 1879 بضـم مملكة بولندا إليها رسمياً، وأُبطل العمل على الحدود بقانون الخمسين فرسخاً.

وكان 11.6% من سكان منطقة الاستيطان من أعضاء الجماعة اليهودية موزعين في القرى والمدن. وكان عددهم 4.900.000 (يشكّلون حوالي 94% من كل يهود روسيا). وبعد عمليات الطرد من القرى، أصبح أعضاء الجماعة اليهودية مركزين أساساً في المدن. فمع بداية القرن التاسع عشر، كان 10 - 15% من سكان المدن داخل منطقة الاستيطان يهوداً، وكان أكبر تجمُّع يهودي يضم عشرة آلاف. ولكن، مع نهاية القرن، كان مليون ونصف مليون يهودي (أي ثلث اليهود في منطقة الاستيطان) من سكان المدن، وكانوا يشكلون 30% من مجموع السكان فيها وكانوا يشكِّلون 50% من مجموع سكان كثير من المدن. وكانت حوالي 41 جماعة يهودية تتكون كل منها من عشرة آلاف نسمة. وفي إحصاء عام 1897، بلغت نسبة أعضاء الجماعة اليهودية من ساكني المدن 78% (حوالي 3.800.000). وأدَّى الانفجار السكاني إلى ازدياد الازدحام داخل منطقة الاستيطان. ومع نهاية القرن التاسع عشر، كان 94% من مجموع يهود روسيا يعيشون في منطقة الاستيطان.

وتختلف نسبة عدد السكان اليهود إلى مجموع السكان، كما تختـلف درجة تَركُّزهم في المناطـق الحضرية، ومعدلات التصنيع والتحديث، من منطقة إلى أخرى. فكثير من الصناعات داخل منطقة الاستيطان كان يملكها يهود، وكان نصفها تقريباً في صناعة النسيج ثم في صناعة الأخشاب والتبغ والجلود أي في صناعات خفيفة. وكان الصراع الطبقي محتدماً، كما كانت العلاقة بين صاحب العمل والعمال اليهود تحكمها علاقات السوق الرأسمالية وليس التضامن الديني أو الإثني. ولذا، فكثيراً ما كان صاحب العمل اليهودي يفضل عمالاً غير يهود لأنهم عمالة رخيصة ولا يمثلون أية ضغوط اجتماعية عليه ليعاملهم بطريقة خاصة ويعطيهم إجازات في الأعياد اليهودية. ولكنالرأسماليين من يهود روسيا كانوا مضطرين على وجه العموم إلى استئجار عمال يهود بسبب وجودهم بأعداد كبيرة في المدن. وكانت نسبة اليهود العاملين في التجارة هي 38.6% من مجموع اليهود. أما نسبة العاملين في الحرف (أساساً في الخياطة وصناعة الأحذية) فكانت 35.4%، وكان 72.8% من جملة التجار في منطقة الاستيطان من أعضاء الجماعة اليهودية وكذلك 31.4% من الحرفيين.

وكانت الحركة الحسيدية منتشرة في صفوف يهود روسيا، وكذلك الحركات الثورية العدمية، كما ظهرت طبقة وسطى يهودية اكتسبت الثقافة الروسية. وكان نظام التعليم اليهودي التقليدي لا يزال قائماً إلى جانب المدارس العلمانية المختلفـة. ومع أن الأغلبيـة كانت تتحدث اليديشية، فإن تعلَّم اللغة الروسية بشكل جدي بدأ يقطع أشواطاً كبيرة، كما فُتحت مدارس لتعليم العبرية بتأثير الحركة الصهيونية.

وقد صدرت عام 1881 قوانين مايو التي منعت إنشاء أية مستوطنات خارج مدن منطقة الاستيطان، وتقرر أن اليهود الذين يعيشون في بعض قرى منطقة الاستيطان يحق لهم السكنى في هذه القرى دون غيرها. وأُعطي الفلاحون حق طرد أعضاء الجماعة اليهودية الذين يعيشون بين ظهرانيهم. وأحياناً كان يُحظَر على اليهود الإقامة في بعض المدن، مثل روستوف ويالطا، كما طُرد آلاف الحرفيين اليهود من موسكو إلى منطقة الاستيطان. وكانت هذه القرارات تعبيراً عن تَعثُّر التحديث في روسيا. وقد بُدئ في تخفيف حدة هذه القيود ابتداءً من عام 1903 بسبب الضغوط على الحكومة الروسية، فصُرِّح لأعضاء الجماعة اليهودية بالاستيطان في بعض القرى التي اكتسبت شكلاً حضرياً، وصدرت تعليمات عام 1904 تصرِّح لهم بالاستيطان خارج مناطق الاستيطان، وأيضاً بالاستقرار في المناطق الزراعية الواقعة في نطاق هذه المناطق.

وقدَّمت العناصر الديموقراطية في الدوما (البرلمان) الروسي عام 1910 مشروع قرار لإلغاء منطقة الاستيطان، ولكن العناصر الرجعية وقفت ضده، وأُلغيت المنطقةنهائياً بعد الثورة البلشفية.

والواقع أن تاريخ التجمع اليهودي، داخل منطقة الاستيطان، من أهم فصول تجربة يهود شرق أوربا في القرن التاسع عشر، وذلك للأسباب التالية:

1 ـ لاقى التجار والحرفيون اليهود منافسة شديدة من التجار والحرفيين المحليين، كما أن التحولات الاجتماعية التي كان يخوضها المجتمع الروسي أدَّت إلى تحوُّل أعداد كبيرة من اليهود إلى أعضاء في الطبقة العاملة. ولعل هذا التطور كان مهماً للغاية من منظور عملية الدمج والتدريب التي قامت بها الحكومة السوفيتية فيما بعد.

2 ـ كانت الأوضاع الاجتماعية السيئة، التي صاحبت التآكل في القيم التقليدية اليهودية، من العناصر الأساسية التي جعلت أعضاء الجماعة اليهودية مرتعاً خصباً للأفكار الثورية والحركات القومية العلمانية.

3 ـ أدَّى الانفجار السكاني وإغلاق أبواب الحراك الاجتماعي إلى هجرة اليهود بأعداد متزايدة إلى غرب أوربا والولايات المتحدة. وكانت مدينة برودي على حدود منطقةالاستيطان المحطة التي هاجر منها الملايين.

4 ـ أدَّى تَركُّز أعضاء الجماعة اليهودية داخل مناطق بعينها، وبالذات داخل المدن، إلى احتفاظهم بشيء من هويتهم الإثنية اليديشية إذ كان بمقدورهم أن يتحدثوا، فيما بينهم، باليديشية وأن يقرأوا الصحف المكتوبة بتلك اللغة داخل الجيتو الكبير، فنشأ أدب يديشي داخل مناطق الاستيطان، كما ظهرت بدايات الحركة الصهيونية (أحباء صهيون) بين يهود روسيا، وكذلك حركات مثل البوند وفكر قومية الدياسبورا (أو القومية اليديشية)، وكلها محاولات للتعبير عن هذه الهوية بشكل أو آخر. ويميل بعض المؤرخين اليهود مثل جرايتز ودبنوف إلى أن يصوروا منطقة الاستيطان وكأنها وطن قومي يهودي في المنفى له شخصيته القومية المحددة.

ولكل هذا، مع قيام الثورة البلشفية، وإلغائها منطقة الاستيطان، وفتحها كل روسيا أمام اليهود للاستقرار فيها، وإتاحتها فرص الحراك الاجتماعي والتنوع الوظيفي والاقتصادي، هاجر الألوف من اليهود إلى داخل روسيا. وبالتالي، نجح الاتحاد السوفيتي في القضاء على الأساس السكاني والحضاري للهوية اليهودية اليديشية وهو ما أدَّى إلى اختفاء هذه اللغة بحيث يمكننا أن نقول إنها تكابد الآن سكرات الموت.

أوديسـا

Odessa

مدينة بناها القياصرة على البحر الأسود مكان مدينة تركية صغيرة كانت تُسمَّى «خاتجيبي» استولت عليها القوات الروسية عام 1789 ولم يكن بها حينذاك سوى ستة من اليهود. وفي محاولة لتطوير المدينة، شجعت الحكومة القيصرية كل العناصر البشرية على الاستيطان فيها، فأصبح الأقنان الذين استقروا فيها مستأجرين أحراراً. وأصبحت أوديسا المركز التجاري الصناعي لجنوب روسيا أو روسيا الجديدة. وكانت أهم السلع التي تصدَّر منها الحبوب. فزاد حجم الصادرات خمس مرات. وأُسِّست فيها جامعة، عام 1865، وعدد من المسارح بل ودار للأوبرا.

واجتذبت أوديسا أعداداً كبيرة من الأجانب حتى أنهم كانوا يشكلون ثلاثة أرباع السكان حتى عام 1819. وفي عام 1850، كان مجموع السكان 90 ألفاً منهم عشرة آلاف أجنبي. وقد تخصَّص كل عنصر بشري في نشاط اقتصادي ما، فكان اليونانيون والإيطاليون والألمان من تجار الجملة، وكان الفرنسيون يشتغلون بتجارة الخمور وتجارة التجزئة، كما كان اليهود القرّاءون يشتغلون في تجارة التبغ والسلع الشرقية، أما اليهود الحاخاميون فاضطلعوا بعدة وظائف تجارية ومالية تتداخل مع الوظائف الاقتصادية للأقليات الأخرى. وكان الجو الأممي (كوزموبوليتاني) في المدينة متطرفاً بمعنى الكلمة حتى أن أسعار تحويل العملات كانت تُكتَب باليونانية وكانت لغة الحديث بين الناس الفرنسية، وكانت علامات الطرق تُكتَب بالإيطالية والروسية، وكانت الفرق المسرحية تُقدِّم المسرحية الواحدة بخمس لغات مختلفة (وهي تشبه إلى حدٍّ ما في هذا الإسكندرية قبل قيام ثورة 1952). وقد ساد الفكر المركنتالي سيادة تامة في أوديسا حتى بين صفوف البيروقراطية الروسية. فالهدف الذي حددته الحكومة لهم هو تحويلالمدينة إلى ميناء تُصدّر منه روسيا صادراتها الزراعية، وخصوصاً القمح. ولذا، حكَّمت البيروقراطية مفاهيم المنفعة وقيمها وهو ما أدَّى إلى تَناقُص تعصبها ضد أعضاء الجماعة اليهودية والأجانب بسبب نفعهم. لكل هذا، كانت أوديسا نقطة جذب لأعداد كبيرة من يهود روسيا من جميع الطبقات الذين كانوا يرفضون الجيتو واليهوديةالحاخامية والذين كانوا يشعرون بالرغبة في الهرب من منطقة الاستيطان. بل استقر في أوديسا مهاجرون يهود من جاليشيا وألمانيا، ليتمتعوا بالحريات التي مُنحت لأعضاءالجماعة اليهودية فيها وبالجو الأممي. ولذا، تزايد عدد اليهود من 10% من كل السكان عام 1795 إلى 20% (12 ألف يهودي) عام 1840 ثم إلى 34.4% (165 ألفا) عشية الحرب العالمية الأولى.

وأصبحت أوديسا مركزاً لثاني أكبر تجمُّع يهودي في الإمبراطورية الروسية بعد وارسو عاصمة بولندا التابعة لروسيا آنذاك. وكان أعضاء الجماعة اليهودية جزءاً عضوياً من اقتصاد المدينة الجديدة، فساهموا في نموها الاقتصادي حتى بلغت نسبة أعضاء الجماعات اليهودية 56% من أصحاب الحوانيت الصغيرة و63% ممن يعملون في الحرف اليدوية وتصدير الحبوب والصيرفة والصناعة الخفيفة. وكان يوجد عدد كبير منهم في المهن الحرة. وفي عام 1910، كان 80% من تجارة تصدير الحبوبيمتلكها أعضاء الجماعات اليهودية الذين كانوا يمتلكون 50% من تجارة الجملة بشكل عام. كما كان يوجد عدد كبير من العمال اليهود (يشكلون ثلث عدد اليهود) انتشرت بينهم الحركات الثورية. وساد الاندماج واكتساب الصبغة الروسية، وظهرت طبقة من المثقفين اليهود الذين تبنوا مُثُل الحضارة الروسية والذين كان بوسعهم تحقيق درجة كبيرة من الحراك الاجتماعي في جو ثقافي منفتح. وتَدعَّم هذا الاتجاه نحو الانفتاح حينما صدرت قوانين ألكسندر الثاني عام 1860 التي حُرِّر بمقتضاها الأقنان وسُمح لأعضاء الجماعة اليهودية بدخول الجامعات.

وتعاظم نفوذ العناصر الليبرالية الداعية إلى التنوير حتى أصبحت أوديسا أول مدينة يتولى قيادة الجماعة اليهودية فيها دعاة التنوير الذين تعاونوا مع السلطات لضرب المؤسسة الدينية اليهودية وللقيام بعمليتي الترويس والدمج. ففُتح العديد من المدارس اليهودية وكانت لغة التدريس فيها الروسية، كما كانت الموضوعات التي تُدرَس فيها موضوعات علمانية عامة، ولم تشغل الموضوعات اليهودية سوى مرتبة ثانوية. ودخل العديد من الأطفال اليهود المدارس الحكومية الروسية. وإلى جانب هذا، أُسِّست في أوديسا أول مدرسة عبرية على النمط الغربي، وهذا يعكس التناقض الأساسي الكامن في حركة التنوير في روسيا التي كانت تدعو إلى الاندماج في المجتمع ولكنها كانت تدافع في الوقت نفسه عن الأشكال اليهودية التقليدية. وقد بلغ عدد الطلبة اليهود في مدارس أوديسا ثلاثة أضعاف النسبة داخل منطقة الاستيطان. وأُسِّست فيها جمعية نشر الثقافة بين يهود روسيا التي كانت تهدف إلى ترويس أعضاء الجماعة.

واشتهرت أوديسا بتراخي أهلها عن إقامة الطقوس والشعائر وتخليهم عن القيم الدينية اليهودية (بل عدم الاكتراث بها في كثير من الأحيان) حتى كان يُضرَب بها المثل: "إن نار جهنم تشتعل حول أوديسا على مسافة عشرة فراسخ".

وكان مصير أوديسا مثل مصير حركة التنوير في روسيا، فمع تعثُّر التحديث حدث هجوم (بوجروم) على اليهود عام 1817 بسبب صراعهم مع جماعة وظيفية أخرى وهي الجماعة اليونانية. ولم يُحسَم التناقض داخل حركة التنوير في روسيا لصالح الاندماج كما حدث في إنجلترا وفرنسا وألمانيا، ولذا نجد أن بعض شرائح دعاة التنوير من مثقفي الطبقة الوسطى يتبنون الحل الصهيوني، فصدرت في أوديسا نداءات ليلينبلوم وبنسكر بعد أن شهدت نشاطاتهم الاندماجية من قبل. وأصبحت المدينة مركزاً لجماعة أحباء صهيون وجمعية بني موسى التي أنشأها آحاد هعام، وارتبطت بأسماء كثير من الزعامات الصهيونية مثل أوسيشكين وديزنجوف وبياليك وجابوتنسكي. كما صدر فيها عدد كبير من المجلات الأدبية العبرية، فأصبحت المدينة مركزاً للثقافة العبرية ولنشرها. وكانت تُنشر فيها مجلة آحاد هعام هاشيلواح .

وبعد الثورة البلشفية، استمر عدد اليهود في الزيادة إذ بلغ 180 ألفاً عام 1931، ولكن نسبتهم إلى عدد السكان أخذت في الانخفاض فأصبحوا يشكلون 29.8%. ولا يزال يوجد بعض أعضاء الجماعة اليهودية في أوديسا، ولكن أعدادهم آخذة في التناقص.

وهذا يتفق، في واقع الأمر، مع النمط العام لتطور الجماعة اليهودية، فمع تَزايُد التصنيع زاد انتشار أعضاء الجماعة وانتقلت أعداد كبيرة منهم من المناطق السكنية القديمة إلى المناطق الصناعية الجديدة.

الــترويــــس

Russification

«الترويس» مصطلح نُحت من لفظة «روسيا»، وهو على صيغة المصدر من الفعل المنحوت «روَّس». ويشير هذا المصطلح إلى صبغ الأقليات الدينية والعرْقية والإثنية في الإمبراطورية القيصرية بالصبغة الروسية، وهو جزء من عملية التحديث والتوحيد التي قامت بها الإمبراطورية الروسية والتي حاولت من خلالها فرض سلطة الحكومة المركزية على كل جوانب الحياة الخاصة والعامة للمواطنين بحيث يصبح انتماؤهم لها كاملاً وولاؤهم نحوها غير منقوص. وقد كانت الجماعة اليهودية إحدى هذه الأقليات، فحاولت الحكومة القيصرية أن تشجعهم أو ترغمهم على أن يغيِّروا لغتهم اليديشية ويتحدثوا الروسية أو البولندية أو الألمانية، وأن يستبدلوا بأزيائهم أزياء غربية حديثة ويرسلوا أولادهم إلى مدارس روسية علمانية أو مدارس روسية يهودية مختلطة. وعملية الترويس، في جوهرها، عملية تحديث وعلمنة، وهي تتداخل مع عمليات أخرى مثل «التطبيع» و«تحويل اليهود إلى قطاع اقتصادي منتج». وقد نشأت جمعيات مثل جمعية نشر الثقافة الروسية بين اليهود الروس في أوديسا لتشجيع هذا الاتجاه. كما أن تجنيد الشباب اليهودي في الجيش الروسي في سن مبكرة كان من أنجع الوسائل.

ومع هذا، فإن كل هذه المحاولات باءت بالفشل إلى حدٍّ كبير لأن عملية الترويس كانت في جوهرها عملية إعلامية سطحية لم تواكبها تحولات بنيوية في المجتمع تفتح السبل أمام أعضاء الجماعة اليهودية ممن يرغبون في اكتساب الهوية الروسية المطروحة أمامهم. ولكن، بعد الثورة البلشفية، حدثت هذه التحولات البنيوية ومن ثم تصاعدت عملية الترويس. ويُلاحَظ أن هذه العملية، التي بدأت كجزء من مخطَّط فُرض بشكل فوقي، أصبحت حركية تلقائية نابعة من داخل الجماهير اليهودية في روسيا وغير مفروضة عليهم. فانصرافهم عن اللغة اليديشية تعبير عن الرغبة الإنسانية العامة في الحراك الاجتماعي حتى لو كان على حساب الهوية. وقد استمرت هذه العمليةإلى أن اختفت اليديشية تقريباً وتروَّس يهود اليديشية، ومن ثم يُشار الآن إلى المهاجرين السوفييت إلى الولايات المتحدة وإسرائيل، بأنهم «الروس» وحسب. وعمليةالترويس، في مراحلها التلقائية (أي حينما لا تحتاج إلى أي قسر خارجي) لا تختلف عن أمركة أعضاء الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة أو أيٍّ من مختلف عمليات الدمج الحضاري التي يمر بها أعضاء الأقليات الإثنية والدينية المختلفة.

الباب الحادى عشر: روسـيا القيصرية حتى اندلاع الثورة

روسيا من عام 1855 حتى عام 1881

Russia, from 1855 to 1881

تغيَّرت الصورة كثيراً مع اعتلاء ألكسندر الثاني (1855 ـ 1881) العرش إذ تميَّز حكمه بأن حركة التحديث في روسيا خطت خطوات واسعة واتخذت شكلاً ليبرالياً بعد هزيمة روسيا في حرب القرم. فعلى سبيل المثال، تم تحديث النظام القضائي عام 1864 ونظام البلديات عام 1870 وكذلك نظام التجنيد، بل بدأ الحديث عن قيام حكومة دستورية. ولعل أهم القرارات قرار إلغاء نظام الأقنان عام 1861 الذي صدر نزولاً على إرادة النبلاء الإقطاعيين الذين ظهرت بينهم تطلعات نحو الانتقال إلى صفوف البورجوازية الكبيرة سواء من خلال إقامة المزارع الحديثة ورسملة الزراعة أو من خلال التوجه للعمل في المجالات التجارية والصناعية.

ويشكل هذا القرار أخطر منعطف في تاريخ المجتمع الروسي حيث شهدت هذه الفترة زيادة معدلات التصنيع والتحديث بشكل كبير، فمُدت السكك الحديدية وفُتحت أبواب الحراك الاجتماعي أمام الكثيرين، ولكن بدأت أيضاً معالم أزمة النظام القيصري في الظهور. لقد حرَّرت الدولة الروسية الأقنان ولكنها لم توفر لهم أرضاً، وبدأت القرى تقذف الملايين إلى المدن ليعيشوا تحت ظروف اقتصادية أشد وأقسى مما كانت عليه في عهد الإقطاع. ولم تكن هناك أية مؤسسات وسيطة (الأسرة أو الكنيسة) لتحميها وتوفر لها شيئاً من الطمأنينة النفسية (الحقيقية أو الوهمية). كما أن هؤلاء الملايين كانوا يتقاضون أجوراً منخفضة لم تكن تفي بحاجاتهم بقدر ما كانت تؤدي إلى التراكم الرأسمالي السريع الذي كان يؤدي بدوره إلى تَصاعُد عملية التحديث وازدياد إفقار الجماهير وانتشـار الحركات الثوريـة وزيادة الأوتوقراطية من جـانب النظام السياسي، وهي الحلقة المفرغة التي أدَّت في نهاية الأمر إلى الثورة البلشفية.

وقد فُتحت أبواب الحراك الاجتماعي والاقتصادي أمام أعضاء الجماعة اليهودية وغيرهم من القطاعات والأقليات في المجتمع. ورُبطت عملية إعتاق اليهود بمدى تحوُّلهم إلى عنصر نافع وعنصر اقتصادي منتج. ولتشجيع أعضاء الجماعة على تَقبُّل التحديث والترويس، قامت الحكومة بتوسيع نطاق حقوق اليهود النافعين، وخصوصاً حق السكنى في روسيا بأكملها، خارج منطقة الاستيطان بالنسبة للتجار الأثرياء الذين يُعتبَرون تجاراً من الدرجة الأولى (عام 1859) ولخريجي الجامعة (عام 1861) والحرفيين (عام 1865) والجنود اليهود المُسرَّحين (عام 1867). ومن الأشياء المؤسفة أن العاهرات كن يُعتبَرن نافعات وهو ما شجع كثيراً من الفتيات اليهوديات، داخل منطقة الاستيطان، على امتهان البغاء كوسيلة للحراك الاجتماعي والجغرافي. وصُرح ليهود منطقة الاستيطان بالسكنى في بولندا عام 1868. وفي عام 1879، أصبح لكل من يعمل بمهنة الطب حق السكنى في أي مكان. ووُسع نطاق منطقة الاستيطان نفسها فأُبطل العمل بالقانون الذي يحظر على أعضاء الجماعة اليهودية السكنى في المنطقة الممتدة خمسين فرسخاً داخل الحدود.

وفي عام 1856، أُلغيت القوانين الخاصة بتجنيد أعضاء الجماعة اليهودية والعقوبات الخاصة التي كانت تُوقَّع عليهم، وتمت مساواتهم ببقية الشعب الروسي. وفي عام 1874، اعتُمد نظام التجنيد الإجباري العام لمدة أربع سنوات ولم يَعُد مقصوراً على الفقراء، وانضم آلاف الشباب اليهودي إلى الجيش ومُنحوا حقوقاً ومزايا عديدة، كما خُفِّضت مدة خدمة المجندين الذين أنهوا دراستهم من أربع سنوات إلى سنة واحدة.

وفي حقل التعليم، بعد فشل تجربة أوفاروف، أُغلقت المدارس اليهودية الحكومية عام 1873 ماعدا مائة مدرسة، وفُتحت المدارس الحكومية المعادية أمام أعضاء الجماعة اليهودية واعتبرت هذه الطريقة الأسلوب الأمثل لعملية الترويس. وأخذ عدد اليهود الذين التحقوا بهذه المدارس في التزايد. كما فتحت الجامعات أبوابها لهم، فزاد عدد الطلبة اليهود في الجامعات بين عامي 1853 و1872 من 1.25% من مجموع الطلبة إلى 13.2%.

وظهر فكر حركة التنوير الذي كان من أقطابه ليفنسون ومابو ويهودا ليب جوردون. وكانوا في البداية معارضين لليديشية على النمط الألماني، لكن بعضهم تبناها كلغة قومية لا كلغة دينية. وظهر أدب يديشي من أعلامه منديل موخير سفاريم وغيره. وظهرت مطبوعات يهودية بالعبرية واليديشية والروسية. وتركت الثقافة اليهودية الروسية العلمانية الجديدة أعمق الأثر في أعضاء الجماعة اليهودية، حتى وصل ذلك الأثر إلى المدارس الدينية نفسها.

ونشأ إحساس عام لدى يهود روسيا بأن الحكومة تأخذ مسألة الدمج بشكل جدي ومعقول، فاشتركوا في الحياة الروسية العامة، وظهر من بينهم عازفون موسيقيون، كمانشأت طبقة من التجار الأثرياء والمثقفين الداعين إلى الدمج والترويس. وقد أسَّسوا جمعية نشر الثقافة الروسية بين يهود روسيا عام 1863. وقام كبار المموِّلين اليهودببناء الطرق والقلاع والسكك الحديدية وبتزويد الجيش بالتموين والغذاء، وامتلكوا المناجم وصناعات الطعام والنسيج وتصدير الأخشاب، وساهموا في تأسيس شبكة المصارف الجديدة في روسيا. وكانت هذه الطبقة تتركز في سانت بطرسبرج وموسكو وأوديسا ووارسو. وكان من أقطابها أسرتا جونزبرج وبولياكوف اللتان اعتبرتا نفسيهما قيادة الجماعة اليهودية. وارتبطت هذه الطبقة بالمثقفين اليهود الروس من المشتغلين بالمهن الحرة ومحرري الصحف والعلماء والكتاب. وكانت ثقافة هذه الطبقة والشرائح المحيطة بها روسية تماماً. ويُلاحَظ أن عدداً كبيراً من الشباب اليهودي بدأوا في هذه المرحلة يعملون ضباطاً في الجيش الروسي.

وساهمت هذه الجيوب الحديثة في عملية تحديث بقية يهود روسيا، إذ كانوا يرفضـون الحديث باليديشـية كما كانوا يتعاونون مع الحكومة في عملية التحديث، ويساهمون في نشر الثقافة الروسية بين اليهود. ولكنهم، مع هذا، ونظراً لوضعهم الطبقي المتميِّز، كانوا منعزلين عن بقية الجماهير اليهودية التي كانت تدفع وحدها ثمن التحديث بينما كانوا يجنون هم ثمراته.

ومما ساعد على ازدهار أعضاء الجماعة اليهودية داخل منطقة الاستيطان أن هذه المنطقة لم تشهد أية حروب في الفترة 1812 ـ 1914، كما أن وجود يهود روسيا داخل إمبراطورية واحدة سهَّل الحركة بين الجماعات المختلفة وأكد تَماسُك الجماعة اليهودية. وقد تزايد عدد يهود روسيا بسرعة تفوق معدل زيادة السكان، ففي عام 1825 بلغ عددهم 1.600.000 أي 3% من مجموع سكان الإمبراطورية و12% من سكان المناطـق التي تواجـدوا فيها. وفي عام 1850، بلغ عددهم 2.350.000. وبلغ عددهم عام 1880 أربعة ملايين، أي أن عددهم زاد بنحو 150% خلال 50 عاماً تقريباً. ومع هذا تعثَّر التحديث في روسيا وبدلاً من دمج أعضاء الجماعة اليهودية تحوَّلت روسيا القيصرية إلى قوة طاردة لهم في الوقت الذي كانت أعدادهم آخذة في التزايد.

وكانت استجابة يهود روسيا لتعثُّر التحديث هي الهجرة التي كانت حتى عام 1870 هجرة داخلية من ليتوانيا وروسيا البيضاء إلى جنوب روسيا (روسيا الجديدة ). فحتى عام 1847، كان 2.5% من يهود روسيا يعيشون في هذه المنطقة. ومع حلول عام 1897، كانت نسبتهم تصل إلى 13.5%. ولكن نمط الهجرة اختلف بعد عام 1880 إذ اتجهت كليةً إلى خارج شرق أوربا. فهاجر 2.750.000 يهودي تركوا شرق أوربا خلال 1881 ـ 1914 (نحو مليونين من روسيا وحدها) بينما كان عدد يهود العالمعشرة ملايين، وهو ما يعني أن ربع يهود العالم كانوا في حالة هجرة. وظهرت حركة حزب البوند الثورية الذي كان يُعَد أكبر تنظيم ثوري اشتراكي في أوربا، كما ظهرت الحركة الصهيونية، وهما تعبيران مختلفان عن تعثُّر التحديث.

ولعل أكبر دليل على تعثُّر محاولات الدمج والتحديث أن الهرم الوظيفي لأعضاء الجماعة، رغم تصاعد معدلات التحديث الاقتصادي، كان لا يزال بلا تغيير كبير إذ كان 38% من أعضاء الجماعة يعملون بالتجارة و35% يعملون بالحرف اليهودية والصناعات المرتبطة بها و3% فقط يعملون بالزراعة. ولذلك، كانت عملية اغتيال القيصر (ألكسندر الثاني) عام 1881 على يد مجموعة من الشباب الروسي الثوري، من بينهم فتاة يهودية ملحدة، تعبيراً عن المشاكل البنيوية العميقة التي يواجهها المجتمع الروسي، وخصوصاً مشكلة التناقض بين البنية الاقتصادية المتطورة والأشكال السياسية والاجتماعية المتكلسة. فشُكِّلت لجنة لإعادة النظر في المسألة اليهودية أعلنت فشل سياسة التسامح، أي فشل عملية التحديث القيصرية، وأصدرت قوانين مايو التي طُرد اليهود بموجبها من موسكو عام 1891 وحُدِّدت نسبتهم في المدارس الثانوية. وأدَّت هذه القوانين إلى طرح المسألة اليهودية على العالم الغربي بأسره إذ بدا أن روسيا بدأت تُصدِّر فائضها اليهودي إلى الجميع.

تـعـــثر التحديــــث في روســـيا القيصـريــة

Setbacks of Modernization in Tsarist Russia

لم يُقدَّر لمحاولات دمج أعضاء الجماعات اليهودية في روسيا النجاح لأسباب عدة، من أهمها ما يلي:

1 ـ خلق الانفجار السكاني بين أعضاء الجماعات اليهودية فائضاً بشرياً ضخماً لم يكن من الممكن توفير الفرص الكافية للعمل والتعليم له. كما أن الانفجار السكاني كان يخلق تجمعات يهودية مركزة يتعامل من خلالها أعضاء الجماعة مع بعضهم البعض دون حاجة إلى العالم الخارجي، الأمر الذي كان يُبطئ عملية الاندماج ويعوقها.

2 ـ كما يُلاحَظ أن عملية التحديث نفسها كانت لها جوانب سلبية عديدة. فحظر الاتجار في الخمور على أعضاء الجماعة اليهودية كان يهدف إلى تقليل الاحتكاك بين اليهودوالفلاحين، ولكن مع هذا حُرم آلاف اليهود من مصادر الدخل الوحيدة المتاحة لهم، فكان منهم مقطرو الخمور وموزعوها وتجارها. كما أن إنشاء السكك الحديدية التي مولها كبار الرأسماليين اليهود كما تَقدَّم، قضى على مصادر الدخل الأساسية لآلاف اليهود الذين كانوا يعملون في صناعة وتجارة العربات التي تجرها الخيول.

3 ـ ومما عقَّد الأمور أن عملية إعتاق أعضاء الجماعة اليهودية تزامنت مع إعتاق الأقنان، الأمر الذي جعل رقعة الأرض المتاحة للزراعة ضيقة جداً، وخصوصاً أن التاجر أو المرابي اليهودي لم يكن من السهل تحويله إلى مزارع. وأدَّى إعتاق الأقنان أيضاً إلى وجود عمالة رخيصة في السوق، الأمر الذي أدَّى بالتالي إلى طرد اليهود من كثير من وظائفهم التقليدية وإلى انحدارهم إلى مستوى الطبقة العاملة وتحوُّلهم إلى عمال، هذا مع ملاحظة أن المستوى المعيشي لغالبية أعضاء الجماعة اليهودية، حتى في أكثر أيامهم فاقة وفقراً، كان أعلى بكثير من مستوى القن الروسي أو القن البولندي.

4 ـ وكلما ازدادت معدلات التحديث، ازدادت صعوبة التكيف مع الاقتصاد الجديد، الأمر الذي كان يزيد عدد ضحايا التقدم، ففي مرحلة ما قبل 1880 خفَّف آلام الانتقال إلى النمط الرأسمالي في الإنتاج أن هذا النمط احتفظ في مراحله الأولى بأشكال إنتاج بسيطة وهو ما أتاح لعدد من أعضاء الجمـاعة اليهـودية أن يجدوا مجالاً رحباً للعمل (في المدن الصناعية) في التجارة الجديدة وللعمل في الحرف.

غير أن النمو الرأسمالي لم يتوقف عند هذه المرحلة، فقد اتسعت رقعة الصناعة لتشمل الصناعة الخفيفة أيضاً، فكان ذلك بمنزلة ضربات قاضية دمرت الاقتصاد الإقطاعي ودمرت معه الفروع الرأسمالية الحرفية حيث كان اليهود يتركزون بنسبة مرتفعة. وهكذا تشابكت عملية تحويل التاجر اليهودي لمرحلة ما قبل الرأسمالية إلى عامل حرفي أو تاجر رأسمالي مع عملية أخرى هي القضاء على عمـل اليهــودي الحرفي نفسـه. وحينما كان اليهودي يتحول إلى عامل، فإنه كان يواجه منافسة الفلاحين الروس المُقتلَعين الذين كانوا يقنعون بأجور منخفضة بسبب أسلوب حياتهم البسيط.

ومما زاد الأمور تشابكاً وتعقداً أن الحرفي اليهودي (كما يبيِّن أبراهام ليون) كان يعمل فيما يمكن تسميته «الحرف اليهودية» التي وُلدت بالشتتل. فالحرفي اليهودي لم يكن يعمل من أجل الفلاحين المنتجين بل كان يعمل من أجل التجار والصيارفة والوسطاء. ولذلك، نجد أن إنتاج السلع الاستهلاكية هو الشاغل الرئيسي للحرفي اليهودي لكون زبائنه يتألفون من رجال متخصصين في تجارة الأموال والبضائع، أي غير المنتجين أساساً. أما الحرفي غير اليهودي، فإن ارتباطه بالاقتصاد الزراعي جعله لا ينتج سلعاً استهلاكية لأن الفلاح كان يكفي نفسه بنفسه. وهكذا، إلى جانب الفلاح، كان هناك الحرفي غير اليهودي (الحداد مثلاً)، وإلى جانب رجل المال اليهودي كان هناك الحرفي اليهودي (الترزي مثلاً). وقد ساعد على تطوُّر الحرفي غير اليهودي ارتباطه بالتاجر المسيحي الذي كان يوظف أمواله في حرف متخصصة غير مرتبطة بالنظام الإقطاعي مثل نسج الأصواف، وهي حرف كان الغرض منها الإنتاج للتصدير لا الاستهلاك المباشر، أي أنها حرف تقع خارج نطاق النظام الإقطاعي وتمثل نواة الاقتصادالجديد، وبالتالي فإنها لم تسقط مع الاقتصاد القديم. وانعكس هذا الوضع على أعضاء الطبقة العاملة من اليهود، فالحرف الأقل قابلية للتطور إلى صناعة كانت محصورة فيأيدي الحرفيين اليهود، بينما انحصرت المهن الأكثر قابلية لهذا التطور في أيدي الحرفيين غير اليهود.

5 ـ وقويت شوكة الطبقة الوسطى الروسية، وخصوصاً بعد تَدفُّق رؤوس الأموال الأوربية الغربية على روسيا، بحيث فُتحت آفاق جديدة أمامها وأصبحت قوة اقتصادية لها وزنها يمكنها التفاهم مع البيروقراطية الحكومية (الروسية الأرثوذكسية) التي كانت تحابيها وتعطيها الأولوية والأفضلية. وتسبب كل هذا في إضعاف المموّلين اليهود وأعاق عملية تحوُّل كثير من أعضاء الجماعة اليهودية إلى أعضاء في الطبقة الوسطى الروسية.

6 ـ أدَّى القضاء على ثورة بولندا عام 1863 إلى حرمان آلاف اليهود ممن كانوا يعملون في نظام الأرندا وكلاء للنبلاء البولندين (شلاختا) من وظائفهم.

7 ـ وفي الحالات القليلة التي كان بعض أعضاء الجماعة يحققون فيها مكانة مرموقة أو حراكاً اجتماعياً، كانوا يصبحون محط الحقد الطبقي في وقت كانت الضائقة الاجتماعية آخذة في التزايد. ومن هنا، كان اتهام اليهود بالسيطرة الاقتصادية واستغلال غير اليهود، ومن هنا أيضاً ارتسمت صورة اليهودي كرأسمالي جشع.

8 ـ ومن قبيل المفارقات أن عدداً كبيراً من أعضاء الجماعة اليهودية سقط ضحية التقدم وتحولوا إلى أعضاء في الطبقة العاملة الحضرية التي فقدت جذورها الثقافية ونمط حياتها وانتماءها الديني ومصدر حياتها. وقد وصل الفقر إلى درجة أن ثلث يهود روسيا عاشوا على معونات المنظمات اليهودية الغربية. وكل هذا يعني أن الجماهير الفقيرة لم تكن مستفيدة تماماً من عمليات التحديث ولم تكن ترى فيه حلاًّ لمشاكلها الحضارية. ولذا، التفت قطاعات كبيرة منهم، وخصوصاً صغار التجار، حول القيادات الحسيدية التي منحتها شيئاً من الطمأنينة في عالم لم تكن تفهمه البتة.

9 ـ ولكن، بالنسبة للعمال اليهود الروس والمثقفين العلمانيين، أدَّى تردِّي وضعهم إلى انخراطهم بمعدلات كبيرة في صفوف الحركات الثورية، وخصوصاً أن مستواهمالثقافي كان، كما تَقدَّم، أعلى من مستوى الأقنان. ففي عام 1899، كانت نسبة اليهود في الحركات الثورية تبلغ 24.8% في وقت كانت نسبتهم إلى عدد السكان 4.1%.

10 ـ ويمكن أن نضيف بعض العناصر الثقافية التي أدَّت إلى فشل عملية التحديث، من بينها أنها كانت تتم رغم أنف اليهود. وقد بدأت هذه العملية بقضها وقضيضها من داخل المجتمع الروسي لا من داخل الجماعة اليهودية التي ظلت رافضة إياها. ولاقت هذه العملية مقاومة شديدة من جانب الجماهير اليهودية المتخلفة التي رفضت إرسال أطفالها إلى المدارس الروسية العلمانية، وخصوصاً أن عملية التحديث كانت كما تَقدَّم تضيرها اقتصادياً في كثير من الأحوال وتحولها إلى طبقة عاملة حضرية مفتقدة للمعنى الذي كانت تجده في وجودها التقليدي.

11 ـ قامت الدولة الروسية الاستبدادية الملتصقة بالكنيسة الأرثوذكسية المتعصبة بالإشراف على عملية التحديث. وقام بتنفيذ هذه العملية بيروقراطية روسية ضيقة الأفق مرتشية تفتقر إلى خبرة كبيرة باليهود وبأمورهم، ذلك أن إمبراطورية القياصرة كانت تحظر على اليهود دخولها. وكانت عملية التحديث تتم داخل إطار فكرة القومية السلافية الروسية التي كانت تَصدُر عن منطلقات عضوية ضيقة تفترض أن ثمة تفاوتاً بين الناس وأن السلافية (أو الروسية) خاصية لا يكتسبها المرء وإنما يولد بها على نقيض فكرة القومية الليبرالية في بلاد غرب أوربا. وكانت عملية التحديث تتم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الذي شهد انتكاسة الفكر الليبرالي في أوربا بشكل عام وظهور الفكر السياسي الرجعي بشكله الرومانسي. ونجم عن ذلك تَصاعُد ظاهرة معاداة اليهود الذين أصبحوا بؤرةً تصب فيها أحقاد ضحايا التحديث: الرأسماليين الروس الذين كانوا يخافون منافسة الرأسماليين اليهود، والطبقة العاملة الروسية التي كان يرى أعضاؤها الرأسمالية اليهودية واقفة ضدهم. أما اليهود من أعضاء الطبقة العاملة، فوجدوا أنفسهم في عزلة. وكان أعضاء النخبة الروسية ينقسمون إلى ثوريين روس يرون الانعزالية اليهودية شكلاً من أشكال الرجعية المعادية للثورة، ومثقفين روس (من بينهم دوستويفسكي) يرون اليهودي رمزاً لاقتحام الغرب والأفكار الغربية لأمهم روسيا السلافية. ووجد يهود روسيا أنفسهم في مواجهة كنيسة أرثوذكسية تخشى العلمانية التي كان اليهود أهم دعاتها كما تخشاهم باعتبارهم أعداء المسيح، وفي مواجهة حكومة روسية رجعية وجدت أن الثوريين الروس يضمون، في كل مكان، أعداداً متزايدة من اليهود. وظهرت كتابات معادية لليهود، من أهمها كتاب جيكوب برفمان (وهو يهودي متنصر) اسمه كتاب القهال عام 1869، كما ظهرت فكرة الحكومةاليهودية العالمية التي تتآمر على الجنس البشري ومنشورات أخرى عن التلمود وتهمة الدم،وهي أفكار ظلت على السطح دون تأثير قوي. ومع هذا،بدأت هذه الأفكار تؤثر في تفكير البيروقراطيين ثم أخذت شكل مذبحة ضد اليهود في أوديسا عام 1871.ووُجهت تهمة دم عام 1878 ولكن المتهم بُرِّئ بعد محاكمته.

ويجب أن نبين أن الجماعة اليهودية لم تكن وحدها المُستهدَفة وإنما كانت عنصراً واحداً في بانوراما اجتماعية اقتصادية، فقد بدأ المناخ العام في روسيا يتغيَّر. ومع تَصاعُد وتيرة التحديث وتعثُّره، زاد ضحايا التقدم وزادت كذلك الهجمات على الغرباء كافة من أعضاء الأقليات سواء من الأرمن أو المسلمين أو اليهود أو حتى من المسيحيين من غير الأرثوذكس أو الأوكرانيين. لكن التحولات الاقتصادية كانت ذات طابع بنيوي عمـيق ولم يواكبهـا أي تحديث في الأشكال السياسية للمجتمع. ومن الواضح أن المجتمع الروسي كان قد وصل، مع نهاية السبعينيات، إلى طريق مسدود لم يكن من الممكن تجاوزه، كما لم يكن من الممكن استئناف التحديث إلا عن طريق ثورة اجتماعية.

الصفحة التالية ß إضغط هنا