المجلد الأول: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية 2

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

(التكملة) المحيط بمعناه المميَّز له عن غيره» (المعنى الدلالي). وأخيراً «حدّ الشيء» هو مصدر تميُّزه وهويته (المعنى النفسي). فكأن الحدود مرتبطة كل الارتباط بوجود الشيء وبمضمونهالأخلاقي وبإمكانية معرفته ودلالته وهويته.

ونحن نذهب في هذه الموسوعة إلى أن المنظومات المعرفية التي تدور في إطار المرجعية المتجاوزة (مثل العقائد التوحيدية) نظم تحتفظ بالحدود الفاصلة بين الخالق العلي المتجاوز ومخلوقاته، فهو مركز النموذج المفارق والمتجاوز له. ولذا، تظل المسافة والحدود قائمة بين الخالق والمخلوق لا يمكن اختزالها مهما كانت درجة اقتراب المؤمن من الإله. ومن هـنا، لا يمكن في الإطار التوحيدي أن "يصل" المتصـوف إلى الالتصاق بالإله أو الاتحاد به، فثمة مسافة جوهرية ثابتة. ولذا، فإن رسول الله نفسه (صلى الله عليه وسلم) لم "يصل"، بل ظل قاب قوسين أو أدنى في أقصى حالات الاقتراب. وهذا ما سماه أحد الفقهاء «البينية»، أي وجود حيز "بين" الخالق والمخلوق.

ووجود الحدود بين الخالق والمخلوق يعني أن المخلوق له حدوده لا يتجاوزها، ولكنها تعني أيضاً أنه له حيزه الإنساني المستقل، ولذا يظل الإنسان صاحب هوية محددة وجوهر مستقل، ومن ثم فهو كائن حر مسئول.

والمسافة بين الخالق والمخلوق يمكن أن تصبح ثغرة أو هوة إن ابتعد المخلوق عن خالقه وانعزل عنه ونسي خصائصه الإنسانية (المرتبطة بأصله الرباني) التي تميزه عن بقية الكائنات. ولكن إن حاول الإنسان التفاعل مع الإله وتذكَّر أصوله وأبعاده الربانية التي تميزه عن الكائنات الطبيعية، فإن المسافة تتحول إلى مجال للتفاعل ويصبح الإنسان نفسه كائناً مُستخلَفاً في الأرض يشغل المركز، وذلك بسبب القبس الإلهي داخله وبسبب تفاعله مع الخالق.

أما في المنظومات التي تدور في إطار المرجعية الكامنة (مثل النظم الحلولية)، يحاول المخلوق، أي الإنسان، أن يضيِّق المسافة بينه وبين الخالق تدريجياً إلى أن يصل إلى الإله ويلتصق به ثم يتوحد معه، وبذا يصل إلى مرحلة وحدة الوجود حين يصبح المركز كامناً في الإنسان وفي كل المخلوقات وفي العالم المادي، إذ تُلغى المسافة بين الخالق ومخلوقاته ويختفي الحيز الإنساني ويصبح الخالق ومخلوقاته واحداً، ويُردُّ الكون بأسره إلى مبدأ واحد فتُلغى المسافات وتُسد الثغرات، ويصبح الكون كياناً عضوياً صلباً (أو ذرياً مفتتاً) تسوده الواحدية المادية. وهنا يصبح الإنسان جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة/المادة ليس له ما يميِّزه عن بقية الكائنات، وتضيع الحدود بين الخير والشر وبين الدال والمدلول.

المركز

كلمة «المركز» من فعل «ركز»، ويقال " ركز السهم في الأرض " بمعنى «غرزه» و«ركز الله المعادن في الأرض أو الجبال» بمعنى «أوجدها في باطنها». و«المركز» هو «المقر الثابت الذي تتشعب منه الفروع»، و«مركز الدائرة» هو نقطة داخل الدائرة، تتساوى الشعاعات الخارجة منها إلى المحيط. ونحن نستخدم كلمة «مركز» في هذه الموسوعة بمعنى: مطلق مكتف بذاته، لا يُنسَب لغيره، واجب الوجود، لا يمكن أن تقوم رؤية للعالم بدونه. وفي إطار المرجعية المتجاوزة، فإن مركز الكون متجاوز للكون منزَّه عنه، أما في إطار المرجعية المادية الكامنة فمركز الكون كامن فيه. والمركز عادةً موضع الكمون والحلول أو النقطة التي تتحقق فيها أعلى درجاته، ومن ثم فإن العنصر (المادي) الذي يشغل المركز في المنظومات الكمونية تكون له أسبقية على بقية العناصر.

المبدأ الواحد

«المبدأ الواحد» عبارة تتواتر في هذه الموسوعة وتشير في المنظومات الحلولية الكمونية الواحدية (الروحية والمادية) إلى مصدر وحدة الكون وتماسكه وهو القوة الدافعة التي تضبط وجوده، قوة سارية في الأجسام، كامنة فيها، وتتخلل ثناياها وتضبط وجودها، قوة لا تتجزأ ولا يتجاوزها شيء ولا يعلو عليها أحد. وهي النظام الضروري الكلي للأشياء؛ نظام ليس فوق الطبيعة وحسب، ولكنه فوق الإنسان أيضاً، لا يمنحه أو أي كائن آخر أية أهمية خاصة. هذه القوة قد يجسدها الموجود ويصل إلى كماله الطبيعي من خلالها، ولكنها هي أيضاً قوة غير متعينة لا تكترث بالتمايز الفردي. وهذه القوة يسميها دعاة وحدة الوجود الروحية «الإله»، بينما يطلق عليها دعاة وحدة الوجود المادية «قوانين الحركة»، أو أية عبارات أخرى. وحيث إن المبدأ الواحد كامن في الظواهر الطبيعية فنحن نشير إليه أحياناً باعتباره «المبدأ المادي الواحد». والمبدأ الواحد هو عادةً مركز النسق، وهو يأخذ أشكالاً مختلفة أهمها «الطبيعة/المادة»، وتنويعات أخرى عليها نسميها «المطلقات العلمانية».

المعنى والهدف والغاية

«المعنى» هو «ما يُقصَد بشيء»، و«معنى الكلام» فحواه ومضمونه وما يدل عليه القول أو اللفظ أو الرمز أو الإشـارة. ومن هنا تُستخدَم عبارة «معنى الوجود» أو «معنى الحياة»، أي أن الوجود له هدف وغاية (باليونانية: تيلوس)، و«الغائية» هي الإيمان بأن العالم له معنى وغاية (وعكسها هو «العدمية»)، وهذا ما تفترضه الديانات التوحيدية ("ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك" آل عمران 191) فإن كان للوجود معنى، فحياة كل إنسان لها معنى، ولا يمكن تصوُّر معنى لعالم تسود فيه الصدفة، وتتم عملية خلقه بالصدفة المحضة، أو تكون حركته حركة مادية آلية مثل حركات الذرة. فإذا كانت حركة الإنسان هي نفسها حركة المادة، وكانت حركة المادة حتمية وتتم خارج وعي الإنسان وخارج أية غائية إنسانية، فإن كل ما يحدث سيحدث، ولا يمكن أن تنطبق عليه معايير خارجة عنه، أي أن كل الأمور تصبح نسبية بل حتمية وتتم تسوية الإنسان بالأشياء. والعلم الطبيعي الذي يتعامل مع الأشياء أو مع الإنسان بمنطق الأشياء ينتج معرفة منفصلة عن القيم الأخلاقية، بل إن تَقدُّم العلم مرتبط تمام الارتباط بانفصاله عن القيمة والغائية (إلى أن تنفصل النزعة التجريبية عن النزعة العقلانية تماماً). ومن هنا التمييز بين «المعنوي» و«المادي»، فالمعنوي مرتبط بالهدف والغاية وهما يتجاوزان المادة، أما المادي فلا هدف له ولا غاية. ونلاحِظ أنه في الحضارات المادية (سواء الوثنية القديمة أو العلمانية الحديثة) التي تعلي شأن المادة وترى أسبقيتها على الإنسان، أي ترى أسبقية المادي على المعنوي، يظهر ما يُسمَّى «أزمة المعنى» التي يعبَّر عنها بتعبيرات مثل «الاغتراب» أو «اللامعيارية (الأنومي)» و«التشيؤ» و«التسلع» وغيرها. ويعبِّر الأدب الحداثي عن أزمة المعنى التي يواجهها الإنسان الغربي.

ويُلاحَظ أن النسبية الحديثة تأخذ شكلاً جديداً تماماً، فهي لا تنكر إمكانية الوصول إلى المعنى، وإنما تطرح إمكانية الوصول إلى معان كثيرة كلها متساوية في الشرعية. وهي تنكر من ثم فكرةالحقيقة الكلية، فالكل بطبيعته، مادياً كان أم روحياً متجاوز للأجزاء، ومن ثم يشير إلى ما وراء الأجزاء وما وراء المادة. فوجود الكل المتجاوز للأجزاء يعني أن الأجزاء خاضعة للكل، وهي خاضعة له حسب فكرة ما ومعنى ما، لوجوس ثابت متجاوز، مطلق، وفي نهاية الأمر ميتافيزيقا، أي الإله، وهنا لا يمكن الاستمرار في إنكار القصد والغاية والمعنى وهرمية الواقع. وفكر ما بعد الحداثة هو تعبير عن هذا الاتجاه الذي يشكل في واقع الأمر إذعاناً كاملاً لأزمة المعنى وعملية تطبيع اللامعيارية التي يواجهها الإنسان الحديث.

التجاوز والتعالى (مقابل الحلول والكمون)

«التجاوز والتعالي» تُترجَم بالإنجليزية بكلمة «الترانسندانس transcendence»، وهي من اللاتينية: «ترانس كنديري transcendere» من مقطعي «ترانس» بمعنى «وراء»، و«كنديري» بمعنى «يتسلق»، أي «يذهب وراء». وكلمة «تجاوز» عادةً ما توضع مقابل «كمون»، و«حلول» (وقد ترجمت الكلمة الإنجليزية إلى الكلمات العربية التالية: «صوري» - «مفارق» - «متسام» - «ترانسندنتالي» - وأحياناً «جواني»). والتعالي هو أن يعلو الشيء ويرقى حتى يصير فوق غيره؛ ولذا فهو شيء مفارق ليس فوقه شيء، وهو يجاوز كل حدٍّ معلوم أومقام معروف. والشيء المتعالي لهذا السبب يتحدى التجربة المادية والتفسير العلمي المادي. وعكس التعالي والتجاوز الحلول والكمون. بالإنجليزية «مانثيزم pantheism»، و«إمننانس immanence» (انظر الباب المعنون «الحلولية ووحدة الوجود الكمونية»).

وفلسفة التعالي تذهب إلى القول بأن وراء الظواهر الحسية المتغيرة جواهر ثابتة أو حقائق مطلقة قائمة بذاتها مجردة من شروط الزمان والمكان، وأن هناك علاقات ثابتة محيطة بالحوادث ومستقلة، أي أن النظام الطبيعي، بكل ما يتسم به من تغيُّر وتعدُّد ونسبية وسيولة وراءه نظام يتسم بالوحدة والثبات والمطلقية، وثمة مركز ثابت للظواهر العارضة متجاوز لها (وهذا ما نسميه «المرجعية المتجاوزة»). ولذا، توصف أية فلسفة تذهب إلى القول بأن في العالم ترتيباً تصاعدياً تخضع فيه الحوادث للتصورات والتصورات للمبادئ بأنها فلسفة متعالية (على عكس فلسفات الحلول والكمون الواحدية التي تأخذ شكل مسطح أفقي تحوي مركزها داخلها أو تكون بغير مركز، ولا يكون فيها أعلى أو أسفل وتتسم بالواحدية).

وفي الأنساق التوحيدية، التعالي الحق هو ارتقاء يستمر إلى غير نهاية إلى أن يصل إلى اللانهاية. والتعالي النهائي، بهذا المعنى، لا يمكن أن يُرد إلى ما هو دونه لأنه لو رُد إلى ما هو دونه لفقد تجاوزه وتعاليه وتَنزُّهه، أي أن فلسفة التعالي الحقة تصل دائماً إلي أن وجود الإله يسبق كل الموجودات الأخرى، ومن ثم فهو سببها النهائي ولكنه منزه عنها وله وجود مستقل، وهو مركزها وهو الغاية التي تسعى نحوها. فالله تعالى هو المتعالي والعالي والعلي وهو «الكبير المتعال» البائن عن خلقه، أي أنه مركز الكون والمدلول النهائي المتجاوز للطبيعة والتاريخ المنزه عنهما. ورغم وجود مسافة تفصل بين الكائن المتجاوز العلي وعالم المادة، فإن له تجلياته في العالم المادي، فالمتجاوز والمتعالي هو اللامحدود اللامتناهي الذي يعبِّر عن وجوده داخل المحدود والمتناهي دون أن يُرد إليهما. وهذه التجليات تشكل انقطاعاً في النظام الطبيعي ولكنها تزوِّده كذلك بقَدْر من التماسك وباتجاه متصاعد لا يمكن فهمهما أو تفسيرهما في إطار مادي محض.

والعلمنة هي إنكار إمكانية التجاوز، فالعالم الطبيعي/المادي مكتف بذاته، يحوي داخله كل ما يلزم لفهمه (مرجعية كامنة). والإنسان جزء من هذا العالم، فهو إنسان طبيعي/مادي لا يمكنه تجاوز الطبيعة/المادة ولا تجاوز ذاته (الطبيعية) أو التحكم ضد التجاوز. فالإنسان القادر على التجاوز لا يمكن التحكم فيه تماماً، ولا يمكن تسويته بالكائنات الطبيعية إذ يظل داخله ما يتحدى القوانين الطبيعية المادية، ومن ثم فهو غير خاضع لقوانين المادة ولا يمكن حوسلته.

ويُلاحَظ أن تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة هو تاريخ تصاعُد معدلات الحلول (الكمون) والإنكار المتصاعد لأي تجاوز، ومن ثم فهو تصاعد للواحدية المادية وتصفية لثنائية المتجاوز/الكامن إلى أن نصل إلى الفكر التفكيكي وفكر ما بعد الحداثة الذي ينكر أي تجاوز وأية مركزية لأي شيء بل ينكر فكرة الكل نفسها باعتبار أن الكل متجاوز للأجزاء.

المطلق والنسبى

«المُطلَق» في المعجم الفلسفي (هو عكس النسبي) ويعني «التام» أو «الكامل» المتعرى عن كل قيد أو حصر أو استثناء أو شرط، والخالص من كل تعيُّن أو تحديد، الموجود في ذاته وبذاته،واجب الوجود المتجاوز للزمان والمكان حتى إن تجلى فيهما. والمطلق عادةً يتسم بالثبات والعالمية، فهو لا يرتبط بأرض معيَّنة ولا بشعب معيَّن ولا بظروف أو ملابسات معيَّنة. والمُطلَق مرادف للقَبْليّ، والحقائق المطلقة هي الحقائق القَبْلية التي لا يستمدها العقل من الإحساس والتجربة بل يستمدها من المبدأ الأول وهو أساسها النهائي. ويمكن وصف الإله الواحد المتجاوز بأنه «المُطلَق»، ويشـار إليه أحياناً بأنه «المدلول المتجـاوز»، أي أنه المدلول الذي لا يمكن أن يُنسَـب لغيره فهو يتجاوز كل شـيء. وقد عرَّف هيجل المُطلَق بأنه «الروح» (بالألمانية: جايست Geist) ويُقال «روح العصر» (أي جوهر العصر ومطلقه) و«روح الأمة» (جوهرها ومطلقها). وتَحقُّق المطلق في التاريخ هو اتحاد الأضداد والانسجام بينها، والحقيقة المطلقة هي النقطة التي تتلاقى عندها كل الأضداد وفروع المعرفة جميعاً من علم ودين، وهي النقطة التي يتداخل فيها المقدَّس والزمني (فهي وحدة وجود كاملة).

وفي مجال المعرفة، تعبِّر المطلقية (مصدر صناعي من «المطلق») عن اللا نسبية وهي القول بإمكان التوصل إلى الحقيقة واليقين المعرفي بسبب وجود حقائق مطلقة وراء مظاهر الطبيعةالزمنية المتغيِّرة المتجاوزة لها. والمطلقية في الأخـلاق هي الذهاب إلى أن معايير القيم - أخلاقيةً كانـت أم جماليةً - مطلقةٌ موضوعيةٌ خالدةٌ متجاوزةٌ للزمان والمكان، ومن ثم يمكن إصدار أحكام أخلاقية. أما في السياسة، فهي تعني سيادة الحاكم أو الدولة بغير قيد ولا شرط. والدولة المطلقة هي الدولة التي لا تُنسب أحكامها إلى غيرها فمصلحتها مطلقة وإرادتها مطلقة وسيادتها مطلقة.

أما «النسبي»، فهو ينُسَب إلى غيره ويتوقف وجوده عليه ولا يتعيَّن إلا مقروناً به، وهو عكس المطلق، وهو مقيد وناقص ومحدود مرتبط بالزمان والمكان يتلون بهما ويتغيَّر بتغيرهما، ولذافالنسبي ليس بعالمي.

ونحن نذهب في هذه الموسوعة إلى أنه داخل المنظومات التي تدور في إطار المرجعية المتجاوزة (مثل الرؤية التوحيدية) لا ينقسم العالم بشكل حاد إلى مطلق ونسبي، فالمطلق النهائي الوحيد (المطلق المطلق) هو الإله المتجاوز وهو مركز النموذج والنسق والدنيا الذي يوجد خارجها، أما ما عداه فيتداخل فيه المطلق والنسبي، فالإنسان يعيش في الطبيعة النسبية ولكنه يحوي داخله النزعة الربانية التي لا يمكن ردها إلى العالم المادي النسبي، ولذا فهو يشعر بوجود القيم المطلقة ويهتدي بهديها (إن أراد). والكائنات نسبية فهي تُنسَب لغيرها، ومع هذا لها قيمة مطلقة، ولذا لا يمكن قتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق لأنها مطلقة، ومن قَتَل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً. وأقل المخلوقات في الكون هي من صنع الله، ولذا فلها قيمتها المطلقة. وتداخل النسبي مع المطلق لا يلغي المسافة بينهما، ولذا فهما لا يمتزجان ولا يذوب الواحد في الآخر.

ويمكننا الحديث عن النسبية الإسلامية باعتبارها نسبية تنصرف إلى خطاب الخالق، فنحن نؤمن بأن ثمة مطلقات نهائية لا يمكن الجدال بشأنها، نؤمن بها بكل ما تحوي من عقل وغيب؛ منها ننطلق وإليها نعود، أما ما عدا ذلك فخاضع للاجتهاد والحوار.

أما في المنظومات التي تدور في إطار المرجعية الكامنة، كالنظم الحلولية الواحدية والمادية، فإن مركز العالم كامن فيه. ولذا، قد يتجسـد المطلق في أحد عناصر الدنيا (يتجسد فيه ولا يتبدى من خلاله) فيصبح هذا العنصر المادي أو الملموس هو المطلق والمقدَّس وأما ما عداه فمدنَّس.

وأي نموذج مهما بلغ من مادية ونسبية يحتوي على ركيزة أساسية تدَّعي لنفسها المطلقية والقَبْلية، ولذا فإن النماذج المعرفية العلمانية التي تدور في إطار المرجعية المادية الكامنة تحتوي على مطلق علماني يفترض فيه أنه الركيزة الأساسية والمرجعية النهائية لكل الأشياء، يمنحها الوحدة والتماسك. وأهم مطلق علماني هو الطبيعة/المادة والتنويعات المختلفـة عليه مثل الدولة وحتمية التاريخ... إلخ. وكلمة «مُطلَق» هنا تكاد تكون مرادفة لكلمة «ركيزة أساسية» وكلمة «مـركز» أو «المبدأ الواحد» أو «اللوجوس»، فحينما نقول: "لقد حلَّ المُطلَق في المادة"، فنحن نعني "لقدحل المركز في المادة" وأصبح كامناً فيها غير متجاوز لها.

المركب والبسيط

«المركب» هو الذي يشتمل على عناصر كثيرة متشابكة، ويقابله «البسيط»، وهو الذي يشتمل على عناصر قليلة، وإن كانت كثيرة فهي غير متشابكة. وفي إطار المرجعية الكامنة في الطبيعة والإنسان، يظهر الإنسان الطبيعي/المادي (الذي يُردّ إلى الطبيعة/المادة) وهو كائن يتسم بالبساطة (العضوية أو الآلية) البالغة. أما في إطار المرجعية المتجاوزة، يظهر الإنسان الرباني حاوياً داخله القبس الإلهي (الذي يأتيه من خارج النسق الطبيعي ولا يمكن أن يُردَّ إليه)، ولذا فهو يحوي الأسرار واللامحدود والمجهول والغيب، جنباً إلى جنب مع العناصر الطبيعية الأخرى، ويتشابك داخله المحدود مع اللامحدود، والمعلوم مع المجهول، والجسد مع الروح، والبراني مع الجواني، والعقل مع القلب، وعالم الشهادة مع عالم الغيب. ولذا، لا يمكن أن يُرد مثل هذا الإنسان إلى عالم الطبيعة/المادة ولا يمكن أن يُختَزل إلى صيغ مادية بسيطة، فهو قادر على تجاوزه، إذ ثمة مسافة تفصل بينه وبينها.

المجرد والعينى (أو المتعين(

التجريد، في اللغة، هو «التعرية من الثياب» وهو «التشذيب»، و«جرَّد الشيء» يعني «قشَّره وأزال ما عليه»، و«جرَّد الكتاب» يعني «عراه من الضبط والزيادات»، و«جرَّده من ثوبه» يعني «عرَّاه»، و«جرَّد الجرادُ الأرضَ» يعني «أكل ما عليها من النبات، وأتى عليه فلم يبق منه شيء»، ويقال أيضاً «جرَّد القحطُ الأرضَ» أي «أذهب نباتها».

التجريد، إذن، عزل صفة أو علاقة عزلاً ذهنياً، وقَصْر الاعتبار عليها، مثلما يُجرَّد امتداد الجســم من كتلته، مع أن هاتين الصفتين لا تنفكان عن الجسم في الوجود الخارجي، فهو عملية تفكيك لظاهرة ما ثم إعادة تركيب لها بهدف عزل الصفة موضع الاهتمام.

والهدف من التجريد توفير إمكانية النظر إلى ما يتصوَّر المرء أنه أهم سمات ظاهرة ما وحدودها في صورتها النقية البحتة (جوهرها) بدون مراعاة مختلف التأثيرات الثانوية والجانبية والعرضية. وهي عملية تحديد وفصل، أي تعيين حدود تتم من خلالها استبعاد جزئيات وتفاصيل وصولاً إلى الظاهرة التي يحاول العقل فهمها، فالتجريد من ثم إستراتيجية تحليلية أساسية. والتجريد مسألة أساسية في عملية صياغة النماذج وفي عملية استخدامها واكتشافها، فالتفكيك والتركيب هما في جوهرهما عمليتان تجريديتان.

ويرتبط التجريد بفكرة الكل، إذ لا يمكن الوصول إلى الكل المتجاوز للأجزاء، والثبات الكامن وراء الصيرورة، والجوهر الكامن وراء الظواهر المتنوعة إلا من خلال عملية تجريدية. ولذا نجد أن فلسفة ما بعد الحداثة المعادية تعادي التجريد لأنها ترى أن فكرة الكل ملوثة بالميتافيزيقا (باعتبارها شكلاً من أشكال الثبات) ولأنها تريد أن تدفع بكل شيء إلى قبضة الصيرورة حتى يختفي الكل والجوهر، بما في ذلك الكل والجوهر الإنساني، وتؤدي إلى موت الإنسان بعد موت الإله، بل وتزيل ظلال الإله تماماً من الكون، وتأخذ الفلسفة البنيوية موقفاً مغايراً تماماً، فهي تزيد من معدلات التجريد إلى أن تصل إلى مستويات تجريدية عالية جداً، تصل إلى عالم الذرات والأرقام مما يؤدي إلى اختفاء الكل والجوهر الإنساني، فتؤدي هي الأخرى إلى موت الإنسان.

و«العيني» هو «الشخصي»، وهو ما يُدرَك بالحواس، ولذلك نُسب إلى العين، وهو أهم ما يميِّز أيَّ شيء نوعي أو فردي. ويُستخدم المصطلح ليشير إلى حادثة مفردة أو موضوع خاص، فيمكن أن نتحدث عن تفاحة حمراء، وهذا شيء عيني، أما الفاكهة فهي شيء مجرد، أي أن المعيَّن أو المتعين أو العيني يقابل المجرد أو المحسوس:

أ ) يشير المجرد إلى كيفية من كيفيات الموجود، وإلى صفة من صفاته، أما العيني فيشير إلى الموجود بالفعل.

ب) يشير المجرد إلى الوجود الذهني، أما العيني فيشير إلى الوجود الخارجي الحسي المتجسم.

جـ) يشير المجرد إلى ما هو عام ومتكرر في الظاهرة، أما العيني فيشير إلى صفاتها النوعية والفردية والفريدة.

د ) لكل ما تقدَّم، يتسم المجرد بالبساطة والوضوح ويتسم العيني بالتركيب والإبهام.

ومع هذا، يمكن القول بأن المجرد لا يمكن فصله عن العيني تماماً، فلا توجد فكرة مجردة كل التجريد، ولا شيء متعيِّن كل التعيُّن. فهذه حالات افتراضية نماذجية، إذ أن وجدان الإنسان وعقله يوجدان في المنطقة التي يلتقي فيها المجرد بالمتعين. ولذا إن تحدَّث الإنسان عن تفاحة حمراء بعينها فهو لا يستطيع أن يستبعد فكرة الفاكهة المجردة، وإن تحدَّث عن الفاكهة على وجه العموم فإنها تستدعي الثمرات المتعيِّنة المختلفة. ومع هذا، تتطلب عملية الإدراك ونحت النماذج وتشغيلها عملية تجريد (تفكيك وتركيب).

السببية الصلبة واللاسببية السائلة

«السببية» نسبة إلى «السبب»، والسبب هو كل ما كان ذا تأثير وما يترتب عليه مسبب، وهو ما يتوقف عليه وجود شيء، وما يحتاج إليه الشيء في ماهيته أو وجوده، والسبب هو المبدأ الذي يفسر الشيء تفسيراً نظرياً. فالمقدمات الصادقة سبب صدق النتيجة، وبعض الظواهر الطبيعية سبب ظواهر أخرى.

والسبب عند علماء الأخلاق ما يفضي إليه العقل ويبرره، وهو مرادف للحق، نقول: "فلان يبغضني بغير سبب"، أي "بغير وجه حق". والسبب تام وغير تام، فالتام هو الذي يُوجَد المسبب بوجوده، وغير التام هو الذي يتوقف وجود المسبب عليه، ولكن المسبب لا يوجد بوجود السبب وحده، والسبب هو المبدأ الذي يفسر الشيء تفسيراً نظرياً. و«السببي» هو المنسوب إلى «السبب»، و«السببية» هي العلاقة بين السبب والمسبب.

والإشكاليات التي تثار حول العقل هي نفسها التي تثار حول السببية، فهل السببية شيء كامن في الأشياء نفسها، بمعنى أن السبب (شيء ما كامن في الظاهرة) هو الذي يؤدي بالفعل إلى النتيجة المادية، أم أن السببية علاقة اقتران مطرد وحسب، بمعنى أنه كلما حدث (أ) حدث (ب) دون أن تكون (أ) هي المؤدية إلى (ب) وبدون أن تكون (ب) ناتجة عن (أ) بالضرورة؟ وإن لم تكنالسببية كامنة في الأشياء نفسها - فهل هي، إذن، أمر مفطور في عقولنا من قبل قوة حاكمة للعالم، أم أننا نفرضها على الواقع فرضاً (لأنها تخدم مصالحنا).

والنظريات المادية التي تحاول أن ترد الكون بأسره إلى مبدأ مادي واحد (أو مقولات مادية) تتأرجح في معظم الأحيان بين افتراض السببية الصلبة وبين إنكار السببية تماماً. أما السببية الصلبة، فهي الإيمان بأن لكل ظاهرة (طبيعية أم إنسانية - بسيطة أم مركبة) سبباً واضحاً ومجرداً وبأن علاقة السبب بالنتيجة علاقة حتمية بمعنى أن (أ) تؤدي دائماً وبنفس الطريقة وحتماً إلى (ب). كما أنها سببية مطلقة بمعنى أنها تغطي كل المعطيات والظواهر بشكل مطلق في كل تشابكها وتداخلها وتفاعلها. ولحظة نهاية التاريح هي لحظة إدخال كل شيء في شبكة السببية الصلبة المطلقة، وهي أيضاً لحظة الاستنارة الكاملة، حين تتم إنارة كل شيء وضمن ذلك الإنسان فيُستوعَب في شبكة السبب ويدخل القفص الحديدي.

والسببية الصلبة المطلقة تؤدي إلى التفسيرية الصلبة المطلقة، بمعنى أن يحاول الإنسان التوصل إلى الصيغة/ القانون العام الذي يفسر الكليات والجزئيات وعلاقاتها. والسببية الصلبة المطلقة تترجم نفسها إلى صورة مجازية آلية أو صورة مجازية عضوية مصمتة لا تحتوي على أي فراغات أو مسافات، ولا تتحمل أي عدم استمرار، وتلغي أي حيز بما في ذلك الحيز الإنساني. وتسود السببية الصلبة المطلقة في عصر المادية البطولي (عصر التحديث) والثنائية الصلبة والعقلانية المادية.

ولكن النماذج المادية تفشل، بطبيعة الحال، في إدخال العالم (الطبيعة والإنسان) في شبكة السببية الصلبة. كما أنه، مع تصاعد معدلات الحلولية الكمونية الواحدية، يتراجع المركز إلى أن يختفي ويسقط كل شيء في قبضة الصيرورة ويصبح الواقع في حالة سيولة غير مفهومة، والعقل نفسه جزء من الصيرورة غير قادر على تجاوزها، ومن ثم غير قادر على إدراك الواقع كسبب ونتيجة. وهنا، بدلاً من السببية الصلبة المطلقة، تظهر اللاسببية السائلة واللاعقلانية المادية والمادية الجديدة (عصر ما بعد الحداثة).

وهناك بطبيعة الحال من يحاول الحفاظ على موقف وسط بين السببية الصلبة المطلقة واللاسببية العدمية (مثل كانط على سبيل المثال) ولكنه موقف يستند إلى أرضية واهية، ولذا فعادةً ما تتفتَّت هذه الوسطية وتتحول إلى حتمية واحدية صارمة (كما هو الحال في المنظومات الهيجلية) أو إلى لاسببية سائلة (كما هو الحال في النظم المعادية للهيجلية [نيتشه وغيره]).

السببية الفضفاضة

تفترض النظم التوحيدية وجود المركز خارج العالم ولذا فالعالم مترابط ومن ثم بإمكان الإنسان أن يتوصل إلى قدر معقول من المعرفة، ولكن ترابط العالم ليس صلباً ولا مطلقاً ولا عضوياً مصمتاً إذ يتخلله الحيز الإنساني وهو ما يسمح بوجود الأسرار والتركيب والثنائيات والانقطاع، فهو نظام يعترف بوجود قدر من الاستمرار ومن ثم بالسببية ولكنها سببية فضفاضة تؤدي فيها المقدمات إلى النتائج ولكن ليس بشكل حتمي معروف مسبقاً. ولذا لا يستطيع الإنسان أن يصل إلى القانون العام والنهائي الذي يجعله قادراً على معرفة الكون معرفة كاملة ومن ثم يمكنه إدخال كل شيء شبكة السببية الصلبة، وعلى الإنسان أن يقنع بقدر من التحكم في الكون والتوازن معه.

الواحدية الكونية: المادية أو المثالية / الروحية

«الواحدية» مصدر صناعي من كلمة «واحد»، وتُعبِّر عن واقع تآصل ظواهر مختلفة وعن كونها تُرَدُّ إلى أصل أو جوهـر واحد. وقد عرَّف المجمع اللغوي بالقاهرة كلمة «الواحدية» (في الفلسفة) بأنها مذهب يَرُدّ الكون كله إلى مبدأ واحد، كالروح المحض أو كالطبيعة المحضة. أما «أُحادية»، فهي من كلمة «أُحاد». وهي، في مثل «جاء الأضياف أُحادَ»، بمعنى «واحداً بعد واحد»، أي «جاء الأضياف واحداً واحـداً». فهي إذن تدل على الانفراد. ومن هنـا، فقد اسـتُخدم المصدر الصناعي «أُحادية» حديثاً للتعبير عن حالة الانفراد. وهي تعني، في التعبير الفلسفي، رد الظاهرة (وهي بطبيعتها متعددة الجوانب)، أو أية عملية، إلى أحد أوجهها دون أوجهها الأخرى. فيقال مثلاً «النظرة الأحادية»، أي النظرة التي تضع في اعتبارها عنصراً واحداً دون عناصر أخرى في الظاهرة كان لابد من وضعها في الاعتبار. والاختلاف كبير بين المفهومين: الواحدية والأحادية. ويمكن القول بأن الواحدية الكونية مفهوم أُنطولوجي (وجودي) ينسب الواحدية إلى الكون، بينما الأحادية مفهوم إبستمولوجي (معرفي) يرى أن الأحادية خاصية تسم بعض طرق التعريف والتحليل والإدراك.

وفي هذه الموسوعة، نستخدم عبارة «واحدية كونية» للإشارة إلى الرؤية الحلولية الكونية القائلة بأن الكون بأسره يمكن أن يُردّ إلى مبدأ واحد هو القوة الدافعة للمادة الكامنة فيها التي تتخلل ثناياها وتضبط وجودها، وهي قوة لا تتجزأ ولا يتجاوزها شيء ولا يعلو عليها أحد، وهي تشكل نظاماً ضرورياً كلياً للأشياء لا يمنح الإنسان أو أي كائن آخر أهمية خاصة أو مركزية. وهذا المبدأ الواحد هو الإله في وحدة الوجود الروحية وهو الطبيعة/المادة في وحدة الوجود المادية (وهذا النمط الأخير هو الأكثر شيوعاً، ولذا فنحن نخصص أحياناً ونشير إليه بأنه «الواحدية الكونية المادية» أو «الواحدية المادية» أو «الواحدية الموضوعية المادية»).

ويمكن القول بأن ثمة أنواعاً مختلفة من الواحدية هي تعبير عن مستويات مختلفة من الحلول. فالواحدية الكونية هي حلول الإله في الكون بأسره (وهو عادةً ما يحتفظ باسمه «وحدة الوجود الروحية»). ولكن يمكن أن ينحصر الحلول في الإنسان ومن ثم تظهر «الواحدية الذاتية» التي تترجم نفسها إلى النزعة الإنسانية الهيومانية المتطرفة («الواحدية الإنسانية») وإلى الذاتية الفلسفية. ولكن حينما يتركز الحـلول في جـنس بعينه (الجنس الأبيض ـ شعوب أوربا) تتحول الواحدية الذاتية إلى «واحدية إمبريالية وعنصرية». وحينما ينتقل الحلول من الإنسان إلى الطبيعة تظهر «الواحدية الطبيعية المادية» (أو «الواحدية الموضوعية المادية») ويهتز مفهوم الطبيعة البشرية إذ يظهر الإنسان الطبيعي الذي يذعن للطبيعة/المادة. وتتصاعد معدلات الحلول فتبدأالكليات في الغياب والتفكك ويغيب مفهوم الإنسانية المشتركة تماماً إلى أن نصل إلى ما يمكن تسميته «الواحدية الذرية» حين ينتشر الحلول في كل أرجاء الكون وذراته فلا يوجد فارق بين إنسان وحيوان، وذكر وأنثى، ومقدَّس ومدنَّس. والواحدية الذرية هي بطبيعة الحال واحدية سائلة (على عكس أشكال الواحدية الأخرى التي تتسم بالصلابة). ويُلاحَظ أن تصاعد معدلات الحلولية يعني تراجع الحيز الإنساني وضموره ثم اختفاؤه الكامل حين يتوحَّد الإله تماماً بالنظام الطبيعي ويصبح الإله هو القانون الطبيعي.

ويمكن القول بأن الواحدية الكونية هي تَوحُّد الإله بالإنسان بالطبيعة (وهذه هي الوثنية القديمة)؛ أما الواحدية المادية فهي تَوحُّد الإنسان بالطبيعة (بعد موت الإله)؛ وهذه هي العلمانية الشاملة الحديثة واللحظة الجنينية الكاملة. ورغم هذه التفرقة المبدئية، فإننا أحياناً نتحدث عن «الواحدية الكونية المادية» إذا استدعى السياق ذلك لنبيِّن الوحدة الكامنة بين وحدة الوجود الروحية ووحدة الوجود المادية.

ونموذج الواحدية الكونية المادية هو نموذج يدور في إطار المرجعية الكامنة، فهو يفـترض أن مركز العالم كامن فيه. ومن ثم، فإن الكون المادي لا يشير إلى أي شيء خارجه. فهو عالم لا ثغرات فيه ولا مساحات ولا انقطاع ولا غائيات، تم إلغاء كل الثنائيات الفضفاضة داخله (وضمنها ثنائية الخالق والمخلوق، والإنسان والطبيعة، والخير والشر، والأعلى والأدنى)، وتم تطهيره تماماً من المطلقات والقيم، وتم اختزاله كله إلى مستوى واحد يتسـاوى فيه الإنسـان بالطبيعة هو مستوى القانون الطبيعي/المادي أو الطبيعة/المادة (المطلق العلماني النهائي). وفي مثل هذا العالمالواحدي الأملس لا يوجد مجال للوهم القائل بأن الإنسان يحوي من الأسرار ما لا يمكن الوصول إليه وأن ثمة جوانب فيه غير خاضعة لقوانين الحركة المادية. بل يمكن تطبيق الصيغ الكمية والإجراءات العقلانية الأداتية على الإنسان، كما يمكن إدارة العالم بأسره حسب هذه الصيغ. ويتحول العالم إلى واقع حسي مادي نسبي خاضع للقوانين العامة للحركة (ومن ثم قابل للقياس والتحكم الهندسي والتنميط) وإلى مادة استعمالية يمكن توظيفها وحوسلتها.

في هذا الإطار تصبح المعرفة مسألة تستند إلى الحواس وحسب، ويصبح العالم الطبيعي المصدر الوحيد أو الأساسي للمنظومات المعرفية والأخلاقية، وتُردُّ الأخلاق إلى الاعتبارات المادية (الاقتصادية والاجتماعية والسياسية)، وتنفصل الحقائق المادية تماماً عن القيمة، ويظهر العلم المنفصل عن الأخلاق و الغائيات الإنسانية والدينية والعاطفية والأخلاقية، وتصبح الحقائق المادية (الصلبة أو السائلة) المتغيرة هي وحدها المرجعية المعرفية والأخلاقية المقبولة، وتصبح سائر الأمور (المعرفية والأخلاقية) نسبية صالحة للتوظيف والاستخدام. بل إن هذه الرؤية الواحدية المادية، في مراحلها المتقدمة، بإنكارهـا أي ثبات، ينتهي بها الأمر إلى إنكـار وجـود الماهيات والجوهر، بل الإنسانية المشتركة نفسها، باعتبارها جميعاً أشكالاً من الثبات والميتافيزيقا. عالم العلمانية الشاملة والترشيد في الإطار المادي وهو أيضاً عالم الجماعة الوظيفية والواحدية الوظيفية والإنسان الوظيفي.

ورغم أن «الواحديـة الكونيـة الماديـة» هي الأكثر شـيوعاً، إلا أننا يمكننا أيضاً الحديث عن «الواحدية المثالية» أو «الواحدية الروحيـة»، أي الإيمان بأن ثمة مبدأً واحداً في الكون تُرَدُّ إليه كل الظواهر الإنسانية والطبيعية. وهذا المبدأ قد يكون مثالياً خالصاً: الإله ـ نفس العالم (باللاتينية: أنيموس موندي animus mundi) ـ الروح (بالألمانية: جايست Geist) ـ الروح الدافعة (بالفرنسية: إيلان فيتال élan vital)؛ أو قد يكون شيئاً روحياً اسماً مادياً فعلاً: روح الشعب ـ روح التاريخ ـ جدلية التاريخ ـ البقاء للأصلح ـ حب السيطرة والبقاء ـ اللبيدو. وسواء أكان المبدأ الواحد مادياً خالصاً أو كان مثالياً أو مثالياً اسماً مادياً فعلاً، ففي إطار الواحدية يُرَدّ كل شيء إلى هذا المبدأ وتذوب الأجزاء في الكل وتنتفي هويتها ويختفي التعدد ويختفي الإنسان ككيان مستقل.

و«الواحدية» غير «التوحيد» أو «الوحدانية»، فالوحدانية والتوحيد يدوران في إطار المرجعية المتجاوزة التي تفترض أن مركز الكون متجاوز له وأن الإله ليس كامناً في الكون وإنما متجاوز له، فهو الواحد الأحد العلي، ولكن وحدانية الإله لا تُلغي التعدد والتنوع والهوية المتعينة للأشياء. بل هي على العكس ضمان لها، فهو المركز المتجاوز الذي لا يمكن أن يتوحد معه شيء. والإنسان ليس ذاتاً مطلقة لا حدود لها ولا موضوعاً مطلقاً خاضعاً تماماً للحدود، إذ يتمتع بهوية مُتعيِّنة يتضح تَعيُّنها من خلال الحدود. والإنسان ليس حراً تماماً في أفعاله، فالمركز المتجاوز يضع حدوداً على هذه الحرية، ولكنه ليس مُسيَّراً تماماً فالمركز المتجاوز هو ضمان حريته.

الثنائية الفضفاضة (التكاملية – التفاعلية)

«الثنائية» مصطلح يقابل «الواحدية» وهي الإيمان بوجود أكثر من مبدأ وأكثر من جوهر في العالم. وفي إطار المرجعية الكامنة والحلولية الكمونية، فإن مركز الكون يكون كامناً فيه ويتوحدالخالق بمخلوقاته وتختفي الثنائية المبدئية، ثنائية المتجاوز المتعالي والحالّ الكامن، وتختفي معها كل الثنائيات الأخرى لنصل إلى عالم الواحدية المادية والكمون الكامل.

والثنائية الفضفاضة الحقيقية لا يمكن أن توجد إلا في إطار المرجعية المتجاوزة حيث يوجد هذا العالم وما يتجاوزه، فتظهر الثنائية الأساسية: الخالق والمخلوق (أو ثنائية المتجاوز والحال الكامن) والتي تفترض أسبقية الخالق على كل ما هو مخلوق وأن الخالق لا يمكن أن يُرد إلى مخلوقاته أو يلتحم بها أو يذوب فيها. وهي ثنائية فضفاضة تفاعلية (لا تعادلية)، إذ أن الإله مفارق للعالم ولكنه لم يهجره ولم يتركه وشأنه (أي أنه ليس مفارقاً حتى التعطيل). والثنائية التفاعلية الفضفاضة مختلفة عن الاستقطاب (أو الثنائية الصلبة أو الاثنينية) حيث يقف كل طرف في الثنائيةمقابل الطرف الآخر. وتَنتُج عن هذه الثنائية الفضفاضة ثنائية تكاملية أخرى هي ثنائية الإنسان والطبيعة (وثنائية النزعة الجنينية والنزعة الربانية) وتفترض انفصال الإنسان عن الطبيعة وأسبقيته وأفضليته عليها بسبب وجود المرجعية المتجاوزة، أي الإله الذي يسـتخلفه في الأرض، ولكنها تفترض أيضاً وجوده فيـها واعتماده عليها واحترامه لها، فهو ليـس بمركز الكون.

الثنائية الصلبة (الثنوية – الأثينية)

«الثنائية الصلبة» (ويُقال لها «الثنوية» و«الاثنينية») هي غير الثنائية الفضفاضة، فالثنائية الصلبة تفترض تساوي عنصرين تساوياً كاملاً (رغم وجود صراع بينهما) وهذا أمر غير ممكن إلا في إطار المرجعية الكامنة والحلولية الكمونية (إذ أن المرجعية المتجاوزة تجعل مثل هذا التساوي أمراً مستحيلاً لأن وجود الإله ـ المدلول المتجاوز ـ يعطي للعالم شكلاً هرمياً بحيث يصبح أحد عناصر الثنائية أفضل من الآخر، وإن تساويا يكون ثمة تكامل بدلاً من الصراع). وأهم أشكال الثنائية الصلبة في النظم الحلولية الكمونية الروحية ثنائية الخير والشر، حيث يتصارع إلهان: واحد هو إله الخير والنور، والآخر هو إله الشر والظلام. وهي محاولة حلولية لتفسير وجود الشر. وعادةً ما تُحسَم قضية الشر بأن يلتحم إله الشر بإله الخير ويصبحان واحداً، كما أن الشر يُفسَّر بأنه مجرد وجه آخر للخير، أي أن الشر في جميع الحالات ليس له وجود حقيقي. أما في إطار النظم الحلولية الكمونية المادية فأهم أشكال الثنائية الصلبة هي ثنائية الإنسان والطبيعة. إذ يحل الإله في الكون ثم يختفي ويصبح مركز الكون داخله يتأله الإنسان وتتأله الطبيعة، وهذا أمر مستحيل فتأله الإنسـان يعني أنه يسـبق الطبيعة ويريد أن يهزمها ويسـخرها، وتأله الطبيعة يعني أنها تسبق الإنسان ومن ثم فإنها تستوعبه. وتُعبِّر هذه الثنائية الصلبة عن نفسها في التأرجح بين الذات وبين الموضوع، وبين الواحدية الذاتية والواحدية الموضوعية (كما هو الحال في الحالة الجنينية). والثنائية الصلبة هي في واقع الأمر شكل من أشكال الواحدية باعتبار أن العنصرين المتصارعين لا يوجد بينهما اختلاف جوهري. وعادةً ما تُحسَم الثنائية الصلبة باندماج العنصرين (وهو أمر متيسِّر لأنهما متساويان وتعارضهما عادةً ناجم عن أن الواحد مقلوب الآخر ولا يختلف عنه في البنية)، أو بانتصار العنصر الأقوى. وفي حالة الصراع بين الإنسان والطبيعة، فإن الطبيعة هي التي تنتصر لأنها أكثر شمولاً ومادية، وينتهي الأمر بعد مرحلة أولية من الواحدية الإنسانية والتمركز حول الذات الإنسانية إلى الواحدية الموضوعية المادية والتمركز حول الموضوع المادي.

الطبيعة البشرية

يشير مصطلح «الطبيعة البشرية» إلى «طبيعة الإنسان»، أي جوهره وإلى السمات الأساسية التي تُميِّز الإنسان وتفصله عن غيره من الظواهر الكونية، ويرتبط بهذا المصطلح مفهوم «الإنسانية الواحدة»، ونحن نفضل استخدام مصطلح «الإنسانية المشتركة» بدلاً من ذلك.

الإنسانية المشتركة

يتسم الوجود الإنساني ـ في تصوُّرنا ـ بثنائية أساسية لا يمكن إلغاؤها هي صدى للثنائية الحاكمة الكبرى، ثنائية الخالق والمخلوق. وهي ثنائية الجوانب الطبيعية/المادية في الإنسان مقابل الجوانب غير المادية، أي الروحية أو الثقافية أو المعنوية. فالإله، في تصوُّرنا، خلق العالم (الإنسان والطبيعة) ولم يحل فيه. ونتج عن هذا وجود مسافة بين الخالق ومخلوقاته، هذه المسافة هي في واقع الأمر الحيز الإنساني الذي يتحرك فيه الإنسان حراً مسئولاً ولكن داخل حدود، وهو الحيز الذي يُحقِّق (أو يُجهض) فيه جوهره الإنساني. والمسافة هي أيضاً الحيز الطبيعي، الذي يتحرك فيه الإنسان باحترام وحذر (فهو ليس مركز الطبيعة، لأن الإله هو مركز الكون الذي وضعه في المركز واستخلفه في الأرض، وهو ليس سيد الطبيعة، لأن الله هو مالكها الذي استأمنه عليها). ولذا فإن ثمة احتياجات طبيعية/مادية، مثل حاجة البشر إلى الطعام والهواء والنوم والتناسل وتلبية كل ما يتعلق بتركيبهم العضوي (بغض النظر عن أماكن إقامتهم أو نمط الحضارة الذي ينتمون إليه). فالإنسان هنا هو موجود طبيعي مادي يشارك بقية الكائنات في بعض الصفات. فمن حيث هو جسم، يخضع الإنسان للقوانين الطبيعية وضرورات الحياة العضوية، إذ تسري عليه، وعلى بقية الكائنات، مجموعة من الآليات والحتميات ويدور في إطار المثيرات والاستجابات العصبية المباشرة. فهو في هذا الجانب من وجوده، جزء عضوي لا يتجزأ من عالم الطبيعة/المادة، ليس له حدود مستقلة عن حدود الكائنات الأخرى، يتحرك في الحيز الطبيعي في عالم واحدي لا يمكن تجاوزه. ولذا يمكن رصد هذا الجانب من وجوده من خلال النماذج المُستمَدة من العلوم الطبيعية. (والفلسفات المادية، منطلقةً من مرجعيتها المادية وإيمانها بأسـبقية الطبيعة/المادة على الإنسان، تركز على هذا الجانـب من الوجود الإنسـاني وترد كل جوانبه الأخرى إليه).

ولكن هناك جانباً آخر للوجود الإنساني متجاوز للطبيعة/المادة غير خاضع لقوانينها ومقصور على عالم الإنسان ومرتبط بإنسانيته، وهو يُعبِّر عن نفسه من خلال مظاهر عديدة من بينها النشاط الحضاري للإنسان (الاجتماع الإنساني ـ الحس الخلقي ـ الحس الجمالي ـ الحس الديني).

فالإنسان كائن صاحب إرادة حرة رغم الحدود الطبيعيـة والتاريخية التي تَحدُّه. وهو كائن واع بذاته وبالكون، قادر على تجاوز ذاته الطبيعية/المادية وعالم الطبيعة/المادة. وهو عاقل قادر على استخدام عقله، ولذا فهو قادر على إعادة صياغة نفسه وبيئته حسب رؤيته. والحرية قائمة في نسيج الوجود البشري نفسه، فالإنسان له تاريخ يروي تجاوزه لذاته (وتعثُّره وفشله في محاولاته)، وهو تعبير عن إثباته لحريته وفعله في الزمان والمكان. والإنسان كائن قادر على تطوير منظومات أخلاقية غير نابعة من البرنامج الطبيعي/المادي الذي يحكم جسده واحتياجاته المادية وغرائزه، وهو قادر على الالتزام بها وقادر أيضاً على خرقها، وهو الكائن الوحيد الذي طوَّر نسقاً من المعاني الداخلية والرموز التي يدرك من خلالها الواقع. وهو النوع الذي يملك ذاكرة قوية ونظاماً رمزياً أصبح جزءاً أساسياً من كيانه حتى أنه يمكن القول بأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يستجيب مباشرةً للمثيرات وإنما يستجيب لإدراكه لهذه المثيرات وما يُسقطه عليها من رموز وذكريات.

والإنسان هو النوع الوحيد الذي يتميَّز كل فرد فيه بخصوصيات لا يمكن محوها أو تجاهلها. فالأفراد ليسوا نسخاً متطابقة يمكن صبها في قوالب جاهزة وإخضاعها جميعاً لنفس القوالب التفسيرية، فكل فرد وجود غير مكتمل، مشروع يتحقق في المستقبل واستمرار للماضي، ولذا فإن زمن الإنسان هو زمن العقل والإبداع والتغيير والمأساة والملهاة والسقوط، وهو المجال الذي يرتكب فيه الإنسان الخطيئة والذنوب، وهو أيضاً المجال الذي يمكنه فيه التوبة والعودة، وهو المجال الذي يُعبِّر فيه عن نبله وخساسته وطهره وبهيميته. فالزمان الإنساني ليس مثل الزمان الحيواني أو الطبيعي/المادي الخاضع لدورات الطبيعة الرتيبة، زمان التكرار والدوائر التي لا تنتهي و"العود الأبدي". ولكل هذا، فإن ممارسات الإنسان ليست انعكاساً بسيطاً أو مركباً لقوانين الطبيعة/المادة، فهو مختلف كيفياً وجوهرياً عنها، فهو ظاهرة متعددة الأبعاد وتبلغ الغاية في التركيب ولا يمكن اختزاله إلى بُعد واحد من أبعاده أو وظيفة واحدة من وظائفه البيولوجية أو حتى إلى كل هذه الوظائف.

ومن المظاهر الأخرى لهذا الجانب أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يطرح تساؤلات عما يُسمَّى «العلل الأولى» (من أين جئنا؟ وأين سينتهي بنا المطاف؟ وما الهدف من وجـودنا؟). وهو لا يكتـفي أبداً بما هـو كائن وما هو مُعطَى ولا يرضى بسطح الأشياء؛ فهو دائب النظر والتدبر والبحث، يغوص وراء الظواهر ليصل للمعاني الكلية الكامنة وراءها والتي ينسبها إليها، وهو الكائن الوحيد الذي يبحث عن الغرض من وجوده في الكون. وهذه جميعاً تساؤلات تجد أصلها في البنية النفسية والعقلية للكائن البشري (النزعة الربانية)، ولذا سُمِّي الإنسان «الحيوان الميتافيزيقي».

ولا تُوجَد أعضاء تشريحية أو غدد أو أحماض أمينية تشكل الأساس المادي لهذا الجانب الروحي أو الرباني في وجود الإنسان وسلوكه. ولهذا، فهو يشكل ثغرة معرفية كبرى في النسق الطبيعي/المادي، وهو ليس جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة وإنما هو جزء يتجزأ منها، يوجد فيها ويعيش عليها ويتصل بها وينفصل عنها. قد يقترب منها ويشاركها بعض السمات، ولكنه لا يُردُّ في كليته إليها بأية حال، فهو دائماً قادر على تجاوزها، وهو لهذا مركز الكـون وسيد المخـلوقات. وهو، لهذا كله، غير قابل للرصـد من خـلال النمــاذج المُستمَدة من العلوم الطبيعية.

ونحن نرى أن ثنائية الإنسان (الطبيعة المادية للإنسان مقابل سماته الإنسانية) تعبِّر عن نفسها في الصراع أو التكامل بين ما نسميه «النزعة الجنينية» و«النزعة الربانية». فالنزعة الجنينية هي نزعة للعودة إلى الطبيعة/المادة والبساطة الأولى. أما النزعة الربانية فهي إحساس الإنسان بذاته ككائن مستقل عن الطبيعة، له حدوده الخاصة وهويته ووعيه المستقل، وإحساسه بالمسئوليةالخلقية.

ومما تجدر ملاحظته أن الرؤية الواحدية المادية تنظر للإنسان باعتباره جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة، خاضع لحتمياتها، ومن ثم يذهب أصحاب هذه الرؤية إلى أن هناك إنسانية واحدة (تتطور حسب قانون طبيعي واحد ثابت) تُرصَد كما تُرصَد الظواهر الطبيعية، وأن الناس كيان واحد وإنسانية واحدة خاضعة لبرنامج بيولوجي ووراثي واحد عام، يَصدُق على كل البشر في كل زمان ومكان، وأن هذا البرنامج قد لا يكون معروفاً في كليته ولكنه سيُعرف حتماً في المستقبل (وكأنه لا يوجد فارق بين عالم النمل والنحل والطير وبين عالم الإنسان).

وهذا الادعاء يتنافى مع العقل ومع التجربة الإنسانية ومع إحساسنا ووعينا بتركيبيتنا وتنوعنا الحضاري. وهذا ما يعيه أصحاب النماذج غير المادية الذين يدركون الثنائية الأساسية التي يتحرك داخلها الإنسان، فهم ينطلقون من الإيمان بأن عقل الإنسان محدود ولكنه خلاَّق يتمتع بقدر من الاستقلال عن الطبيعة ولا يخضع لحتمياتها في بعض جوانب وجوده. و لهذا السبب لا يؤمنأصحاب مثل هذه النماذج بطبيعة بشرية جامدة أو بإنسانية واحدة وإنما يؤمنون بإنسـانية مشـتركة. وهذه الإنسانية ليست مثالاً أفلاطونياً جامداً يتجاوز الواقع تماماً بحيث يصبح الواقع مجرد ظلال له وإنما هي إمكانية (بشرية). فالإنسان يتمتع بطاقة إبداعية كامنة (ولذا لا يمكن رصدها أو ردها إلى قوانين مادية عامة). هذه الإمكانية تختلف عن الأداء الإنساني، فهي لا تتحقق في فرد بعينه أو شعب بعينه أو جنس بعينه وإنما تتحقق بدرجات متفاوتة حسب اختلاف الزمان والمكان والظروف ومن خلال جهد إنساني (وقد لا تتحقق على الإطلاق، فالإنسان هو الكائن الوحيد القادر على الانحراف عن طبيعته بسبب حريته)، ولذا فإن ما يتحقق لن يكون أشكالاً حضارية عامة وإنما أشكال حضارية متنوعة بتنوع الظروف والجهد الإنساني. فتَحقُّق جزء يعني عدم تحقُّق الأجزاء الأخرى التي تحققت من خلال شعوب أخرى وتحت ظروف وملابسات مختلفة ومن خلال درجات من الجهد الإنساني الذي يزيد وينقص من شعب لآخر ومن جماعة لأخرى). وممايزيد التنوع أن الإنسان قادر على إعادة صياغة ذاته وبيئته حسب وعيه الحر وحسب ما يتوصل إليه من معرفة من خلال تجاربه. هذه الأشكال الحضارية تفصل الإنسان عن الطبيعة/المادة وتؤكد إنسانيتنا المشتركة (فهي تعبير عن الإمكانية الإنسـانية) دون أن تلغى الخصـوصيات الحضـارية المختلفة. لكن التفرُّد لا يعني عدم وجود أنماط تجعل المعرفة ممكنة، والحرية لا تعني أن كل الأمور متساوية ونسبية. فالإنسانية المشتركة، تلك الإمكانية الكامنة فينا، هذا العنصر الرباني الذي فطره الله فينا (ودعمه بما أرسله لنا من رسل ورسالات) تشكل معياراً وبُعداً نهائياً وكلياً.

والإيمان بالإنسانية المشتركة يجعل استخدام النماذج المركبة مسألة أساسية بل حتمية في دراسة البشرية، ويجعل الرصد الموضوعي البراني أو استخدام النماذج الاختزالية أمراً غير كاف بالمرة، فالرصد الموضوعي المباشر لا يتم إلا في إطار البحث عن القانون العام الذي يسري على عالم الأشياء. أما محاولة فهم الإنسان ككائن مستقل عن الطبيعة/المادة فيتطلب تَجاوُز الواحدية المادية وقبول ثنائية الإنسان والطبيعة الفضفاضة، وهو ما يحتم استخدام نماذج مركبة.

ونحن نرى أن كل خطاب (مهما كانت سطحيته وماديته) يحوي بُعداً معرفياً، هو، في واقع الأمر، إجابة على بعض الأسئلة الكلية والنهائية (وهي أسئلة تدور حول ماهية الإنسـان: أهو مادة ومتجاوز للمادة أم مادة وحسـب؟ هـل لحياته معنى أم لا؟ ومن أين يستمد معياريته؟). والإجابة عن هذه الأسئلة هي التي تحدد طبيعة النظام السياسي والاقتصادي والمعرفي والأخلاقي والدلالي والجمالي. فإن كان الإنسان مادة وحسب خاضعاً لقوانين الحركة يستمد معياريته من الطبيعة/المادة، فإن هذا يؤدي إلى تَوجُّه مختلف تماماً عما لو كان الافتراض الأساسي هو أن الإنسان مكوَّن من مادة وما يتجاوز المادة، وأن حياته لها معنى، وأنه يستمد معياريته مما هو متجاوز للطبيعة/ المادة. والمرجعية الكامنة (في المادة) ترى أن الإنسان مادة وحسب، حدود المادة هي حدوده، ولذا فهي تجعل له إنساناً ذا بُعد واحد تقضي عليه وترده إلى المادة وينتهي الأمر بالفلسفات المادية إلى إنكار مفهوم الإنسانية المشتركة، باعتبار أنه يشكل نقطة ثبات متجاوزة لحركة المادة، أي أنه يفلت من قبضة الصيرورة. أما المرجعية المتجاوزة، فترى أن الإنسان مادة وشيء غير المادة (يُسمَّى «الروح» في المنظومات التوحيدية، وله أسماء أخرى في المنظومات الإنسانية الهيومانية) وأن حدود هذا الإنسان بالتالي ليست حدود المادة، ولذا فهو إنسان متعدد الأبعاد قادر على تجاوز الطبيعة/المادة وذاته الطبيعية/المادية.

الباب الثالث: النزعة الجينية

«النزعة الجنينية» مصـطلح قمنا بصياغته لنصف نزعة نتصور أنها أصلية كامنة في النفس البشرية، وهي نزعة لرفض كل الحدود وإزالة المسافة التي تفصل بين الإنسان وما حوله حتى يصبح كائناً لا حدود له. ولكن حينما تتحقق هذه الرغبة، يجد الإنسان نفسه جزءاً من كل أكبر منه يحتويه ويشمله. وهذه الرغبة في إزالة الحدود هي، في واقع الأمر، رغبة في التخلص من تركيبية الذات الإنسانية وتعيُّنها ومن عبء الخصوصية والوعي الإنساني، وهي محاولة للهرب من الواقع الإنساني بكل ما فيه من ثنائيات وتدافع، وخير وشر، وإمكانيات نجاح وفشل، ونهوض وسقوط، وحرية وحتمية، ومحاولة التجاوز والتكيف، أي أنها نزعة للهروب من الحيز الإنساني المُركّب إلى عالم واحدي أملس بلا حدود.

هذا العالم الذي يهرب إليه الإنسان يشـبه الرحم حيث كان يعيـش الجـنين بلا حدود ولا قيود خارج أي حيز إنساني، لا يفصله فاصل مادي أو معنوي عن رحم أمه ولا توجد مسافة أو حيز تفصل بينهما، أو يشبه حياة الطفل الرضيع في الأشهر الأولى من حياته، حين كان يتصور أنه لا يزال جنيناً في الرحم لا يفصله فاصل مادي أو معنوي عن أمه وأنه جزء لا يتجزأ منها، وحينما يمسك بثديها يتصور أنه قد تحكَّم في العالم بأسره وأنه قد تواصل مع العالم كله، وأن الدائرة قد انغلقت تماماً فيشعر بالطمأنينة الكاملة.

هذه الحالة الجنينية الرحمية حالة دائرة عضوية مطلقة مصمتة لا تتخللها أية مسافات (واحدية عضوية) لا تختلف كثيراً عن حالة وحدة الوجود حين يحل المبدأ الواحد في الإنسان والطبيعة ويمتزج بهما تماماً، فتختفي الثنائيات والخصوصيات ولا يوجد سوى جوهر واحد في العالم أو مركز واحد. ولهذا تعبِّر الحالة الجنينية عن نفسها من خلال مفردات الحلولية الكمونية (الجنس ـ الرحم ـ ثدي الأم ـ الأرض) ومن خلال الصور المجازية العضوية حيث يصبح الجزء جزءاً عضوياً لا يتجزأ من الكل. وهي حالة من التأيقن الكامل حيث يتحد الدال والمدلول، والشكل والمضمون، والصورة والفكرة، والمقدَّس والمدنَّس، وتذوب الجواهر الفردية في جوهر كوني واحد، والجزئيات في كل واحد. فالحالة الجنينية هي الواحدية بامتياز.

الواحدية الذاتية والموضوعية والثنائية الصلبة: نمط جينى عام

تعبِّر النزعة الجنينية عن نفسها من خلال نمط أساسي هو نمط التأرجح بين الواحدية الذاتية والموضوعية والثنائية الصلبة، وبين الصلابة والسيولة الشاملة:

1 ـ الواحدية الذاتية: يدور الإنسان في الحالة الجنينية في إطار المرجعية الكامنة، فهو داخل الدائرة العضوية المغلقة يظن أنه مكتف بذاته، ومرجعية ذاته، مركز الحلول والقداسة، اللوجوس، الذي لا يُرد إلى شيء خارج محيط دائرته، ولا يمكن أن تُفرَض عليه حدود أو سدود أو قيود. وهو يرفض التجريد، فالتجريد يعني وجود المسافة التي تفصل الجزء عن الكل، وهو الآلية التي يدرك الجزء من خلالها أنه الكل، ويعرف أنه جزء وليس الكل، وأن العالم مختلف عن الذات، ومن ثم فالإنسان في الحالة الجنينية يعيش في عالم الحواس بشكل مباشر. وهو يرفض الرؤية الثنائية الفضفاضة التي تعني وجود الذات ووجود الآخر. وهو يتصور أنه قادراً على أن يتحكم في كل شيء وأن يبتلع كل شيء حتى يصبح كل شيء جزءاً لا يتجزأ منه، أي أن يصبح سوبرمان إذ أنه هو البداية والنهاية، فهو متمركز حول ذاته، تسـود في عالمـه الواحدية الذاتية (والإنسانية الهيومانية والإمبريالية).

في هذا الإطار تظهر الواحدية الإمبريالية ثم يظهر ما يمكن أن نسميه «الإباحية المعرفية». فمع إسقاط الحدود، تسقط الحدود الوجودية (نسبة إلى الوجود) والمعرفية والأخلاقية فلا حرام ولا حلال، ولا محرمات ولا حُرمات. فكل إنسان يوجد داخل قصته الصغيرة لا يبرحها، لا يكترث بالمنظومات التي توجد خارجه، والهدف من وجوده هو تعظيم اللذة (لذته هو) والمصلحة (مصلحته هو) ليحوسل العالم لمصلحته، تماماً كما كان يفعل مع ثدي أمه أو في رحمها. وهو انطلاقاً من هذا يعامل الآخر خارج أي إطار اجتماعي، فإن كان من الجنس الآخر فهو يستهلكه لتحقيق اللذة (دون أي التزام تجاه الأطفال، ثمرة اللذة العابرة)، وإن كان من الأعراق الأخرى فهو يبيدهم أو يستعبدهم (دون اكتراث بحقوقهم وإنسانيتهم)، فهو شخصية إمبريالية توسعية كاملة، لا حدود لها.

2 ـ الثنائية الصلبة: ولكن رغم هذا الإحساس بالواحدية الذاتية، يظل العالم الموضوعي قائماً صلباً. وقد ترفض الذات المتمركزة حول نفسها أن تتفاعل مع الموضوع، ولكن الموضوع هناك، لا يختفي ولا يتلاشى، فتظهر حالة أولية من الاستقطاب والثنائية الصلبة (الواحدية الذاتية مقابل الواحدية الموضوعية المادية). ولكنها ثنائية وهمية، إذ تتفكك الذات تدريجياً وتدرك مركزية الموضوع فتذوب فيه وتختفي الواحدية الذاتية لتهيمن الواحدية الموضوعية أو الواحدية الطبيعية/المادية أو الواحدية الصلبة.

3 ـ الواحدية الموضوعية المادية: مع اختفاء الحدود والمسافة التي تفصل الكل عن الجزء، يختفي الحيز الإنساني الذي يفصل الذات عن الموضوع، فيذوب الجوهر الإنساني ويمتزج بالكل الموضوعي، ومن ثم تتحول الذات الإمبريالية المكتفية بذاتها إلى جزء من كل وتُرد في كليتها إلى ما هو خارجها تماماً، أي إلى هذا الكل. وهكذا تختفي الواحدية الذاتية التي نجمت عنها ازدواجية الذات والموضوع، واختفى الجزء وذاب ليظهر الكل (الرحم ـ الطبيعة ـ الإله)، أو أية تنويعات عليه (مثل: الفولك ـ الدولة ـ اللبيدو ـ الحتمية التاريخية ـ البقاء المادي) حيث تتمركز الذات حول الموضوع، الذي يصبح مركز الكون وموضع الحلول، اللوجوس الذي يرتكز إليه الكون، وتظهر الواحدية الموضوعية الصلبة (وهذا ما نسميه «التمركز حول الذات» الذي يؤدي إلى «التمركز حول الموضوع»).

ورغم الاختلاف الظاهر بين التمركز حول الذات والتمركز حول الموضوع فإنهما يؤديان إلى النتيجة نفسها: إنكار الثنائية والتركيب وإمكانية التجاوز واختفاء الذات الإنسانية، الاجتماعية والمركبة، التي ترضى بالحدود التي تفصلها عن الطبيعة والمجتمع، فهذه الحدود هي التي تخلق لها حيزاً إنسانياً اجتماعياً تاريخياً يمكنها أن تتحرك فيه بقدر من الحرية، وتمارس إرادتها داخلحدوده، فتكتسب منه تعينها وهويتها. ووعيها الإنساني ككيان مستقل حر، يتفاعل مع العالم ويتجاوزه دون أن ينكره، يدرك حدوده دون أن يُرد إليها ودون أن تُطبَّق عليه هذه الحدود.

4 ـ الواحدية السائلة: الحالة الجنينية سواء في تمركزها حول الذات أو تمركزها حول الموضوع هي حالة صلبة، تدور حول مركز (لوجوسنتريك logo-centric). ولكن ثمة مرحلة جنينية ثالثة هي حالة من السيولة الشاملة والنسبية المطلقة. وإذا كانت الحالة الجنينية في المراحل الأولى تعني إنكار الحدود تماماً والمسافة والحيز الإنساني، فإنها في المرحلة الأخيرة تعني تقبُّل المسافة باعتبارها أمراً قائماً ونهائياً. ولكن المسافة هنا هوة (أبوريا) لا يمكن اجتيازها إذ يختفي مفهوم الإنسانية المشتركة. فرغم اختفاء الرحم الكوني الأكبر ورغم انشطار الجنين الكوني إلى عدة أجنة واختفاء التجسُّد الكوني الأعظم، إلا أن كل جنين يعيش داخل رحمه، يظن أنه لا حدود له ولا قيود عليه، فيذوب بطبيعة الحال فيما حوله. ولذا بدلاً من القصة العضوية الكبرى والنظرية الشاملة التي تنتظم كل شيء، يدور كل إنسان في قصته الجنينية الصغرى دون وجود قصة كبرى. وفي حالة المراحل الأولى (الصلبة) تعبِّر الحالة الجنينية عن نفسها على هيئة التأيقن والتحام الدال بالمدلول. ولكن في المرحلة السائلة ينفصل الدال عن المدلول ويبدأ رقص الدوال. وعلى مستوى النصوص بدلاً من الإيمان بحرفية النص ونهائيته تظهر حالة التناص، وهي أن تتسـاوى كل النصوص وتتـداخل ويحـيل كل نص إلى نص آخر وتحيل كل كلمة إلى كلمة أخرى.

وتعبِّر الحالة الجنينية عن نفسها في كثير من النماذج المعرفية عبر العصور مثل الغنوصية، والنماذج الاختزالية التي ترد العالم إلى عنصر واحد أو اثنين، ولعل من أهمها نموذج العلمانية الشاملة الذي يمثل انتصاراً للحالة الجنينية (فالإنسان الطبيعي/المادي هو تجسُّد للحالة الجنينية). ويمكن القول بأن كثيراً من النزعات المرتبطة بالعلمانية الشاملة مثل النزعة التعاقدية والرغبة في التحكم التكنولوجي والحلم باليوتوبيا التكنولوجية ونهاية التاريخ والإيمان بوحدة (أي واحدية) العلوم بحيث يسري قانون واحد طبيعي/مادي على كل من الإنسان والحيوان والجماد، هي جميعاً تعبير عن النزعة الجنينية.

وإذا كانت الفلسفة الهيجيلية بواحديتها وعضويتها هي تعبير عن الحالة الجنينية في حالة الصلابة الأولى فإن فلسفة نيتشه هي تعبير عن حالة السيولة. وما بعد الحداثة هو انتصار حالة الجنينية الواحدية السائلة. فحديث دريدا عن عالم بلا إشارات، عالم برئ من الصيرورة الكاملة، عالم لا مركز له non logo-centric، هو وصف لعالم الحالة الجنينية في حالة السيولة الشاملة. وإذا كان النظام الاستعماري القديم تعبيراً عن النزعة الجنينية الغربية في مرحلة الصلابة، فإن النظام العالمي الجديد تعبير عنها في مرحلة السيولة. ونحن نذهب إلى أن الإنسان تتنازعه نزعتانكامنتان فيه: النزعة الجنينية والنزعة الربانية.

الطبيعة / المادة

«الطبيعة/المادة» مصطلح نستخدمه كثيراً في هذه الموسوعة بدلاً من مصطلح «الطبيعة». ومفهوم الطبيعة مفهوم أساسي في الفلسفات المادية التي تدور في إطار المرجعية الكامنة، وخصوصاً في الغرب، فكلمة «طبيعة» داخل السياق الفلسفي الغربي لا تشير إلى الأحجار والأشجار والسحب والقمر والتلقائية والحرية، وإنما هي كيان يتسم ببعض الصفات الأساسية التي يمكن تلخيصها فيما يلي:

1 ـ تتسم الطبيعة بالوحدة، فهي شاملة لا انقطاع فيها ولا فراغات، وهي الكل المتصل وما عداها مجرد جزء ناقص منها، فهي لا تتحمل وجود أية مسافات أو ثغرات أو ثنائيات. وجماع الأشياءوالإجراءات التي توجد في الزمان والمكان هو الطبيعة، وهي مستوى الواقع الوحيد ولا يوجد شيء متجاوز لها أو دونها أو وراءها، فالطبيعة نظام واحد صارم.

2 ـ تتسم الطبيعة بالقانونية (لكل ظاهرة سبب وكل سبب يؤدي إلى نفس النتيجة في كل زمان ومكان)، أي أن الطبيعة بأسرها متسقة مع نفسها، فهي تتحرك تلقائياً بقوة دفع نابعة منها، وهي خاضعة لقوانين واحدة ثابتة منتظمة صارمة مطردة وآلية، قوانين رياضية عامة واضحة، حتمية لا يمكن تعديلها أو التدخل فيها، وهي قوانين كامنة فيها.

3 ـ الحركة أمر مادي، ومن ثم، لا توجد غائية في العالم المادي (حتى لو كانت غائية إنسانية تسحب خصوصيات النشاط البشري على الطبيعة المادية).

4 ـ لا تكترث الطبيعة بالخصوصية ولا التفرد ولا الظاهرة الإنسانية ولا الإنسان الفرد واتجاهاته ورغباته، ولا تمنح الإنسان أية مكانة خاصة في الكون، فهو لا يختلف في تركيبه عن بقية الكائنات ويمكن تفسيره في كليته بالعودة إلى قوانين الطبيعة. والإنسان الفرد (أو الجزء) يذوب في الكل (الطبيعي/المادي) ذوبان الذرات فيها، أي أن الطبيعة تلغي تماماً الحيز الإنساني.

5 ـ الإيمان بأنه لا توجد غيبيات ولا يوجد تَجاوُز للنظام الطبيعي من أي نوع، فالطبيعة تحوي داخلها كل القوانين التي تتحكم فيها وكل ما نحتاج إليه لتفسيرها؛ فهي علة ذاتها، تُوجَد في ذاتها، مكتفية بذاتها وتُدرَك بذاتها، وهي واجبة الوجود.

يُلاحَظ أن الطبيعة، حسب هذا التعريف الفلسفي، هي نظام واحدي مغلق مكتف بذاته، تُوجَد مقومات حركته داخله، لا يشير إلى أي هدف أو غرض خارجه، يحوي داخله كل ما يلزم لفهمه. وهو نظام ضروري كلي شامل تنضوي كل الأشياء تحته، وضمن ذلك الإنسان الذي يُستوعَب في عالم الطبيعة ويُختزَل إلى قوانينها بحيث يصبح جزءاً لا يتجزأ منها ويختفي ككيان مركب منفصل نسبياً عما حوله وله قوانينه الإنسانية الخاصة (ولذا فالرغبة في العودة إلى الطبيعة هي تعبير عن النزعة الجنينية في الإنسان). وهذه هي الصفات الأساسية للمذهب المادي. ولذا، فنحن نرى أن كلمة «المادة» يجب أن تحل محل كلمة «الطبيعة» أو أن تُضاف الواحدة للأخرى، وذلك لفك شفرة الخطاب الفلسفي الذي يستند إلى فكرة الطبيعة، ولكي نفهمه حق الفهم وندرك أبعاده المعرفية المادية.

ولعل كثيراً من اللغط الفلسفي ينكشف إذا استخدمنا كلمة «مادي» بدلاً من كلمة «طبيعي»، فبدلاً من «المذهب الطبيعي» نقول «المذهب المادي»، وبدلاً من «القانون الطبيعي» نقول «القانون المادي»، وبدلاً من «الإنسان الطبيعي» يمكننا أن نقـول «الإنسـان المادي»، وبدلاً مـن «الطبيعيـة (بالإنجليزية: ناتشوراليزم naturalism)» نقول «مادية». وحينئذ، فإننا نؤكد أن الإنسان الطبيعي، في واقع الأمر، شخص يُعرَّف في إطار وظائفه الطبيعية البيولوجية ويعيش حسب قوانين الحركة المادية ويُرَدُّ إليها، ولذا فهو يجمع براءة الذئاب وتلقائية الأفعى وحياد العاصفة وتَسطُّح الأشياء وبساطتها. وحينما نقول «العودة للطبيعة»، فنحن نقصد أن العودة ستكون لقوانين الطبيعة، أي قوانين المادة. وقد فك هتلر شفرة الخطاب الفلسفي الغربي بكفاءة غير عادية حينما قال يجب أن نكون مثل الطبيعة، والطبيعة لا تعرف الرحمة أو الشفقة، وقد تبع في ذلك كلاً من داروين ونيتشه.

المادية

«المادية» هي المصدر الصناعي من كلمة «المادة»، وهي لا علاقة لها بجمع المال أو بالإقبال على الدنيا كما قد يتوهم البعض. ويمكن للإنسان المادي المغالى في ماديته أن يكون زاهداً تماماً في النقود والدنيا (كما هو الحال مع إنجلز وإسبينوزا). ويمكن القول بأن كل الفلسفات إما مادية أو غير مادية، ولا يمكن تجزيء هاتين المقولتين إلى ما هو أصغر منهما. والفلسفة المادية هي المذهب الفلسفي الذي لا يقبل سوى المادة باعتبارها الشرط الوحيد للحياة (الطبيعية والبشرية)، ومن ثم فهي ترفض الإله كشرط من شروط الحياة، كما أنها ترفض الإنسان نفسه، وأي منظومات فكرية أو قيمية متجاوزة للمادة. ولذا، فإن الفلسفة المادية تَرُدُّ كل شيء في العالم (الإنسان والطبيعة) إلى مبدأ مادي واحد هو القوة الدافعة للمادة والسارية في الأجسام والكامنة فيها والتي تتخلل ثناياها وتضبط وجودها. قوة لا تتجزأ ولا يتجاوزها شيء ولا يعلو عليها أحد، وهي النظام الضروري والكلي للأشياء؛ نظام ليس فوق الطبيعة وحسب ولكنه فوق الإنسان أيضاً. وإن دخل عنصر غير مادي على هذا المبدأ الواحد، فإن الفلسفة تصبح غير مادية.

وكلمة «مادة» قد تبدو لأول وهلة وكأنها كلمة واضحة، ولكن الأمر أبعد ما يكون عن ذلك. ومع هذا، يمكن تعريف الشيء المادي تعريفاً إجرائياً بأنه ذلك الشيء الذي تكون سائر صفاته مادية: حجمه ـ كثافته ـ كتلته ـ لونه ـ سرعته ـ صلابته ـ كمية الشحنة الكهربائية التي يحملها ـ سرعة دورانه ـ درجة حرارته ـ مكان الجسم في الزمان والمكان... إلخ. والصفات المادية هي الصفات التي يتعامل معها علم الطبيعة (الفيزياء)، فالمادة ليست لها أية سمة من سمات العقل: الغاية ـ الوعي ـ القصد ـ الرغبة ـ الأغراض والأهداف ـ الاتجاه ـ الذكاء ـ الإرادة ـ المحاولة ـ الإدراك... إلخ، أي أن المادي ليس له أية سمة من السمات التي تُميِّز الإنسان كإنسان.

ويمكن القول بأن الأطروحات الأساسية للفلسفة المادية هي ما يلي:

1 ـ لا يوجـد إلا المادة، ولا توجد أية صفات سـوى الصفات المادية. فالمادة أزلية، فهي لا تفنى ولا تُستحدَث من العدم. وهي الأصل الراسخ لكل الموجودات، وهي الجوهر الواحد والمبدأ الوحيد الأول والأخير الذي تُردُّ إليه جميع ظواهر الحياة المادية والإنسانية والحوادث التاريخية.

2 ـ لا توجد أية صفات سوى الصفات المادية، وطبيعة كل شيء وخصائصه إنما هي نتيجة تركيب لبعض ذرات هذه المادة تم بشكل آلي ومن تلقاء نفسه من خلال الحركة الأزلية للمادة. أما أحوال الشعور والفكر والعقل، فهي ظواهر تابعة (بالإنجليزية: إبي فينومنون epiphenomenon) ناتجة عن ذلك الجوهر. ولا يوجد سوى الكم في العالم، وكافة الكمَّات يمكن المقارنة بينها (أما الكيف فهو مجرد شكل من أشكال الكم)، أي أنه لا يوجد سوى الكمي، أما الكيفي فهو ظاهري.

3 ـ عادةً ما تُقرن المـادة بالحـركة، فالمادة والحركة لهما وحدهما وجود وحقيقة نهائية. ولكن الحركة كامنة في المادة، ومن ثم فإن المادة ليس لها سبب أو محرك أول.

4 ـ حركة المادة حركة آلية محايدة ليس لها قصد أو غاية أو معنى، وهي خاضعة لقوانين طبيعية لا تختلف ولا تتغيَّر أو خاضعة لقانون الصدفة.

5 ـ كل تَغيُّر، مهما اختلف مجاله، له أساس مادي. وكل الظواهر تتغيَّر وتختفي وتذوب في مادة كونية أزلية. والتطور، بما في ذلك التطور في المجتمعات الإنسانية، هو نتيجة تطور متصل في القوى المادية، ولا علاقة له بالقيم أو الغائية الإنسانية.

والمادية ترى أسبقية المادة على الإنسان بكل نشاطاته، وهي تمنح العقل مكانة تالية على المادة. ولذا، ليس للعقل أية فعالية سببية، ووجوده ليس ضرورياً لاستمرار حركة المادة في العالم. وتُقر نظرية المعرفة المادية (في مراحلها الأولى) بإمكانية قيام المعرفة، فالعالم قابل لأن يُعرَف لأنه مُعطَى لإحساسنا ووعينا، بل إن مادية العالم هي شرط لمعرفته. ولمعرفة هذا العالم، لا يحتاج الإنسان إلى استعارة وسائل من خارج عالم الطبيعة/المادة؛ فهناك أولاً حواسه الخمس التي ترصد المحسوسات، وهناك عقله الذي يرتب ويُركِّب المحسوسات ولكنه غير منفصل عن الوجود المادي الحسي ـ فالمعرفة هي انعكاس الواقع الخارجي في دماغنا عبر إحساساتنا وتراكم المعطيات الحسية على صفحة العقل البيضاء. ويمكن للإنسان أن يكتسب المزيد من المعرفة من خلال التجريب ومراكمة المعلومات في ذاكرته. وفي بعض أشكال المادية، لا توجد حدود للمعرفة، فكل ما هو موجود قابل لأن يُعرَف، أما التساؤلات الميتافيزيقية فهي ليست موجودة أو ليستموضوعاً للمعرفة.

والمادة لا تسبق العقل وحسب وإنما تسبق كل ما هو إنساني، فهي مثلاً تسبق الأخلاق (ولذا فإن الأخلاق تُفسَّر تفسيراً مادياً ووفقاً لقانون طبيعي)، فمنطق الحاجة الطبيعية المباشرة هو الذي يتحكم في الأخلاق الإنسانية تماماً مثلما تتحكم الجاذبية في سقوط التفاحة. ولذا، تنادي المذاهب الأخلاقية المادية بأن الشيء الوحيد الذي يجدر بالإنسان أن يسعى إليه هو الخيرات المادية التي تجود بها الحياة. وثمة قيم أخرى في النظام المادي، ولكنها قيم مادية مثل البقاء والنمو والحركة. وإذا كانت القوة هي الآلية التي يتم بها حسم الصراع في عالم الطبيعة، فهي تصبح بالتالي الآلية الأخلاقية المادية الكبرى.

والشيء نفسه ينطبق على المعايير الجمالية، فالشعور والإحساس بالجمال وكل الأحاسيس الإنسانية يمكن فهمها بردها إلى المبدأ الطبيعي/المادي الواحد، فهي مجرد تعبير عن شيء مادي يُوجَد في الواقع المادي. والمادة تسبق التاريخ، ولذلك فإن كل تَطوُّر (اجتماعي وتاريخي) يتوقف على الظروف المادية والاقتصادية (على سبيل المثال: تَطوُّر أدوات الإنتاج وعلاقات الإنتاج والمصلحة الاقتصادية). وأسلوب الإنتاج في الحياة المادية هو شرط تَطوُّر الحياة الاجتماعية والسياسية والعقلية على العموم. بل إن المشاعر الإنسانية الكونية الأولية مثل مشاعر الأبوة والأمومة والرغبة في الاطمئنان والائتناس بالآخر، ومظاهر النبل والخساسة، كلها أمور مادية. وكما يقول الماديون، فإن البناء الفوقي (الفكري والعقلي والنفسي) يُردُّ، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، إلى المادة، وما لا يُردُّ إلى المادة لا وجود له، وقبول وجوده هو سقوط في الميتافيزيقا والغيبية والجهالة.

وهذه هي نقطة انطلاق الحداثة المادية الغربية والفلسفات العلمانية الشاملة، وهي فلسفات حلولية كمونية واحدية مادية تَردُّ كل شيء إلى الطبيعة/المادة وتنكر وجود قانونين أحدهما يسري على الطبيعة/المادة ويسري الآخر على الطبيعة البشرية. وبدلاً من ذلك، تؤكد هذه الفلسفات وجود قانون طبيعي واحد يسري على كل الظواهر ليتساوى، في ذلك، الإنسان والأشياء (وهذا هو أساس فكرة وحدة أو واحدية العلوم). ولذا، فالنتيجة المنطقية للفلسفات العلمانية المادية الشاملة حينما تُطبَّق على الإنسان بصرامة هي تفكيكه ورده إلى القوانين الطبيعية/المادية والإحاطة به ككائن لا استقلال له عن النظام الطبيعي/المادي.

الإنسان الطبيعى )المادى(

«الإنسان الطبيعي» هو «الإنسان الطبيعي/المادي»، أي الإنسان الذي يدور في إطار المرجعية الكامنة في المادة، يعيش بالطبيعة/المادة وعلى الطبيعة/المادة. والإنسان الطبيعي/المادي تعبير متبلور عن النزعة الجنينية وعن اختفاء النزعة الربانية، ولذا نجد نفس النمط الذي تتسم به النزعة الجنينية يعبِّر عن نفسه من خلاله: التأرجح بين الواحدية والثنائية وبين الصلابة والسيولة:

1 ـ الإنسان الطبيعي/المادي إنسان بلا حدود، يتمتع بكل السمات الأساسية للطبيعة/المادة، فهو مكتف بذاته، مرجعية ذاته، ومعيارية ذاته، لا توجد أية حدود أو سدود أو قيود عليه: اجتماعية أو تاريخية أو أخلاقية أو جمالية، فهو سوبرمان حقيقي. إنسان يعيش في الزمان الطبيعي الحر وليس في الزمان التاريخي الإنساني الذي تتحكم فيه القيم والأعراف، فهو تعبير واضح عن الواحدية الذاتية.

2 ـ هذا يعني في واقع الأمر أنه لا توجد مسافة تفصله عن الطبيعة أو عن قوانينها الكامنة في المادة، فما هو إلا جزء عضوي لا يتجزأ منها، لا يمكنه تجاوزها، حدودها حدوده، فضاؤها فضاؤه، أي أن الحيز الإنساني يختفي تماماً.

3 ـ هذا يعني أن الإنسان خاضع تماماً لقوانين الطبيعة الكامنة في المادة تحركه أينما شاءت لا يمكنه الفكاك من حتمياتها، يُرد في كليته إلى النظام الطبيعي/المادي، يمكن تفسيره في إطار مقولات طبيعية/مادية مستمدة من عالم الطبيعة/المادة: وظائفه البيولوجية (الهضم ـ التناسل ـ اللذة الحسية)، ودوافعه الغريزية المادية (الرغبة في البقاء المادي ـ القوة والضعف ـ الرغبة فيالثروة)، والمثيرات العصبية المباشرة (بيئته المادية ـ غدده ـ جهازه العصبي)، فهو سبمان حقيقي، تعبير واضح عن الواحدية الموضوعية المادية.

ويمكننا الآن أن نتعامل مع سمات الإنسان الطبيعي/المادي:

1 ـ جوهر الإنسان الطبيعي ليس جوهراً إنسانياً، مستقلاً وفريداً، وإنما هو جوهر طبيعي/مادي، فالإنسان لا يختلف، بشكل جوهري، عن الكائنات الطبيعية الأخرى. قد يكون سلوك الإنسان أكثر تركيباً من سلوك الكائنات الطبـيعية الأخـرى، ولكـن الاخـتلاف بينه وبينها هو اختلاف في الدرجة وليس في النوع. ولذا فالإنسان، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، هو وأفكاره وتاريخه وأشواقه وأحزانه مجرد جزء من بناء فوقي وهمي يُرد، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، إلى البناء المادي التحتي الحقيقي، الطبيعة/المادة وقوانينها.

2 ـ الإنسان الطبيعي، شأنه شأن الكائنات الطبيعية، جزء من النظام الطبيعي، وهو نظام واحدي صارم لا يعرف الثنائيات أو التركيب وليس بإمكان كائن تجاوزه، ولذا فالإنسان الطبيعي إنسان أحادي البُعد (إنسان وظيفي) سلوكه يتبع نسقاً منطقياً واضحاً يمكن التنبؤ به. ولذا يمكن اختزاله إلى تلك الصيغ الكمية والرياضية البسيطة المستخدمة في العلوم الطبيعية، ويمكن تفسيره من خلال مقولات مادية محضة، ويمكن توظيفه وحوسلته وجعله مادة استعمالية نافعة.

3 ـ لأن الطبيعـة يمكن أن توجـد دون الإنسـان فيمكن القول بأنه لا يشكل المركز في الكون، فما هو إلا جزء عرضي فيه، وينبغي عليه أن يزعن لقوانينها وألا يحاول تجاوزها.

4 ـ معرفة الإنسان الطبيعي، محدودة بحدود الطبيعة والعلاقات بينها، فالإنسان، شأنه شأن الكائنات الطبيعية جزء من برنامج طبيعي مادي، ذاتي الحركة والتنظيم. بل يُلاحَظ أن الحيوانات العليا تشترك مع الإنسان (الطبيعي) في درجات من الذكاء ووسيلة من وسائل الاتصال والتنظيم الاجتماعي وأشكال من الاقتصاد، ولكنها جميعاً تتسم بالبساطة والمنطقية البالغة. ويشير علي عزت بيجوفيتش، المفكر الإسلامي رئيس جمهورية البوسنة، إلى أن صناعة الأدوات واستخدامها (وهي ظاهرة تدل على التقدُّم الشديد في حلقة التَطوُّر) تُمثِّل استمراراً للتَطوُّر البيولوجي، وهو تَطوُّر خارجي كمي يمكن تتبُّعه من الأشكال البدائية للحياة حتى ظهور الحيوان الكامل. فالوقفة المنتصبة، واكتمال اليــد، واللغة والذكاء، كلها حالات ولحظات من التطور تبقى بطبيعتها في إطارهـاالحيواني. والإنسان، عندما استخدم لأول مرة حجراً لكسر ثمرة صلبة أو لضرب حيوان، فلابد أنه فعل شيئاً مهماً جداً ولكنه ليس جديداً كل الجدة، ذلك لأن آباءه الأوائل من فصيلته الحيوانية حاولوا فعل الشيء نفسه.

من هذا المنظور يمكن القول بأن عقل الإنسان ليس له أية فعالية، فوجوده ليس ضرورياً لحركة الكون. بل إن العقل والخيال ومقدرة الإنسان على التجاوز والترميز والتجريد تشكل عوائق تقف في طريق محاولة الإنسان الإذعان للطبيعة والتحرك معها والخضوع لحتمياتها.

5 ـ الإنسان الطبيعي/المادي، شأنه شأن كل الكائنات الطبيعية لا يعرف القلق أو التفكير في المجهول ولا يفكر في مصيره ولا في مصير الكون، ولا تعكر صفوه أية أسئلة معرفية، نهائية وكلية كبرى، فأسئلته كلها أسئلة عملية مادية محصورة بالبيئة والاحتياجات المادية المباشـرة. وعقل كل من الإنسـان (الطبيعي) والحيوان صفحة بيضاء تُسـجَّل عليها الأحاسيس المادية، ولذا فإن كليهما يدرك السطح بكفاءة عالية ولا يحاول الغوص إلى باطن غير مادي مُتوهَّم. وكلاهما لا ينسب إلى الأشياء دلالات رمزية غير موجودة في جبلة الأشـياء المادية.

6 ـ يمكن تفسير قيم هذا الإنسان الطبيعي/المادي ودوافعه ونشاطاته على أُسس طبيعية/مادية. فما يحركه هو أخلاقيات طبيعية/مادية برانية تستند إلى المنفعة والمصلحة والرغبة في البقاء الكامنة في المادة. قد يتوهم الناس أن القيم من لدن الإله أو من إبداع الإنسان، وهذا وهم. فمصدر القيم هو الطبيعة، ومن ثم يمكن من خلال دراسة الطبيعة وقوانينها المختلفة دراسة إمبريقية أننصل إلى منظومات قيمية ومعرفية وجمالية (طبيعية/مادية) يستطيع الإنسان أن يعيش بها وأن يحقق مصلحته وبقاءه المادي ولذته.

7 ـ الطبيعة البشرية، شأنها شأن الطبيعة المادية، في حالة حركة دائمة وتغيُّر دائم، ولذا لا توجد إنسانية مشتركة، ولا يمكن أن توجد أية معايير دينية أو أخلاقية أو حتى إنسانية، فمثل هذه المعايير خاضعة لقوانين الحركة.

8 ـ على المستوى الرمزي يتم إدراك الإنسان الطبيعي من خلال رموز طبيعية مستمدة من عالم الطبيعة/المادة وهي عادةً صور مجازية مستمدة من عالم الحيوان والنبات (عضوية) أو من عالم الأشياء (آلية) أو خليط منهما.

وتَصدُر الفلسفات المادية عن الإيمان بأسبقية الطبيعة/المادة على الإنسان ولذا فهي تركز على الإنسان الطبيعي والجوانب الطبيعية/المادية من الوجود الإنساني، وتَرُد كل جوانب الوجود الإنساني الأخرى له، ولذا فهي تُلغي ثنائية الإنسان/الطبيعة (والرباني الجنيني) حتى تسود الواحدية المادية. ولذا، فنحن نربط بين الإنسان الطبيعي والنزعة الجنينية التي تعفي الإنســان من عـبء الهوية والمسـئولية والاخـتيار وتدور في إطـار الواحدية المادية.

والعـلوم الإنسـانية في الغرب، وكذلك النماذج التحليلية السـائدة فيها، تدور معظمـها حول مفهوم الإنسان الطبيعي، ولذا فهي تنظر إلى الإنسان باعتباره مجموعة من الوظائف البيولوجيةوالحقائق المادية، فالإنسان مجرد نظام طبيعي كغيره من النظم الطبيعية ويخضع بدوره للقواعد الحتمية الصلبة للطبيعة، ويمكن تفكيكه إلى أجزائه المادية الأساسية إلى أن يتلاشى تماماً في النهاية. وحتى في تطوُّره، نجد أن الإنسان الطبيعي لا يختلف عن الحيوان الطبيعي، فهما نتيجة عملية تَطوُّر طويلة تبدأ من أدنى أشكال المادة حيث لا يوجد أي تميُّز واضح بينهما؛ فكلاهما مجرد وظائف بيولوجية، وكلاهما نتاج لبيئته وعمله ولمحاولة البقاء من خلال الصراع والتكيف.

وتَطوُّر الإنسان الطبيعي، مثل تَطوُّر الحيوان الطبيعي، داخل نسق بسيط مستمر منطقي، ومهما بلغ من تركيب فهو يظل داخل إطار الطبيعة/المادة. وكما يقول علي عزت بيجوفيتش: "لقد أوضح إنجلز أن الإنسان نتاج علاقات اجتماعية (أو بدقة أكثر) نتاج أدوات الإنتاج الموجودة، إنه مجرد نتاج حقائق [مادية] معينة". ولقد أخذ داروين هذا الإنسان اللاشخصي بين يديه ووصف تَقلُّبه خلال عملية الاختيار الطبيعي حتى أصبح إنسـاناً قادراً على الكلام وصناعة الأدوات وعلى أن يمشي منتصباً. ثم يأتي علم البيولوجيا ليستكمل الصورة، فيرينا أن كل شيء يرجع إلى أشكال الحياة البدائية التي هي بدورها عملية طبيعية كيميائية: لعب بالجزيئيات (أما الحياة والضمير والروح فلا وجود لها، وبالتالي فليس هناك جوهر إنساني). وإنسان نيتشه، نتاج عملية التطور هذه، هو إنسان كامل اسماً، فهو في جوهره حيوان كامل خاضع تماماً لقوانين التطور الطبيعية. وكل المدن الفاضلة المادية (اليوتوبيات التكنولوجية التكنوقراطية)، التي تُدار على أسس علمية/مادية، يظهر فيها إنسان مثالي تماماً، إنسان في مثالية النحل والنمل والحيوانات التي تبلغ الغاية في التنظيم، وهي كائنات تعيش في مجتمعها بشكل آلي منطقي؛ كالإنسـان الآلي المغسـول في الرشـد المادي من قمة رأسه إلى أخمص قدمه؛ إنسان لا يختار ولا يقرر، فكل شيء قد تم اختياره وتقريره له؛ وهو لا يحمل أية أعباء أخلاقية، فهو يتصرف بشكل آلي حسب طبيعته؛ وطبيعته لا خير فيها ولا شر ولا قلق ولا أسئلة كبرى. إن هذا الإنسان الآلي هو تَطوُّر طبيعي للإنسان الطبيعي/المادي لا يختلف عنه في الجوهر.

إن عالم الإنسان الطبيعي عالم واحدي براني أملس. وكما يقول علي عزت بيجوفيتش: "لقد دأب الماديون على توجيه نظرنا إلى الجانب الخارجي للأشياء. فيقول إنجلز: إن اليد ليست عضو العمل فقط وإنما هي أيضاً نتاج العمل.. فمن خلال العمل اكتسـبت اليد البشـرية هذه الدرجة الرفيعة من الإتقان الذي استطاعت من خلاله أن تنتج لوحات روفائيل، وتماثيل ثورفالدسن، وموسيقى باجانيني".

"إن ما يتحدث عنه إنجلز هو استمرار النمو البيولوجي وليس النمو الروحي. ولكن الإنسان ليس مجرد وظائف بيولوجية. والنمو البيولوجي وحده، حتى لو امتد إلى أبد الآبدين، ما كان بوسعهأن يمنحنا لوحات روفائيل، ولا حتى صور الكهوف البدائية التي ظهرت في عصور ما قبل التاريخ".

ونحن نضع في مقابل الإنسان الطبيعي الإنسان الإنسان، وهو إنسان غير طبيعي/مادي يحوي داخله عناصر (ربانية) متجاوزة لقوانين الحركة (التي تسري على الإنسان والحيوانات) ومتجاوزة للنظام الطبيعي/ المادي. وهذه العناصر هي التي تشكل جوهر الإنسان والسمة الإنسانية لإنسانيته وتفصله عن بقية الكائنات وتُميِّزه كإنسان. فالإنسان الإنسان (غير الطبيعي)، هو الإنسان الحق، أما الإنسان الطبيعي فهو الإنسان الذي لا يحوي جوهراً إنسانياً (ولذا فهو يمتزج بسهولة مع الكائنات الطبيعية ويتصف بصفاتها). فهو تعبير عن النزعة الجنينية والرغبة في فقدان الذات والحدود.

وهنا يطرح بيجوفيتش مفهوم ازدواجية الطبيعة الإنسانية التي "جاء أحد جانبيها من الأرض (الطبيعة/المادة) وجاء الآخر من السماء". والوظائف البيولوجية والنشاطات الطبيعية (مثل الصيد وصنع الأدوات) هي التي جاءت من الأرض، أما النشاطات الأخرى (مثل الدين والفن) فهي ليست من سمات الإنسان الطبيعي وإنما من سمات الإنسان الإنسان، وهو كائن مركب متعدد الأبعاد، قَلق يسأل أسئلة كلية، يحمل عبء الهوية والمسئولية الخلقية، لا يمكن اختزاله في صيغ رياضية كمية كما لا يمكن رده في كليته إلى عالم الطبيعة/المادة وواحديته المادية، ولذا فهو يعيش ثنائية فضفاضة لا يمكن إلغاؤها.

الإنسان الاقتصادى والإنسان الجسمانى (الجنسى(

هناك ـ في تصوُّرنا ـ تنويعان أساسيان على فكرة الإنسان الطبيعي: الإنسان الاقتصادي والإنسان الجسماني أو الجنسي.

1 ـ الإنسان الاقتصادي: إنسان آدم سميث الذي تحركه الدوافع الاقتصادية والرغبة في تحقيق الربح والثروة، وإنسان ماركس المحكوم بعلاقات الإنتاج. وهو يعبِّر عن مبدأ المنفعة بحيث لا يعرف الإنسان سوى صالحه الاقتصادي، ولذا فهو إنسان يتسم بالتقشف والإنتاج وحب التراكم. وهو إنسان متحرر تماماً من القيمة (شأنه شأن الطبيعة) دوافعه الأساسية اقتصادية بسيطة، وتحركه القوانين الاقتصادية، وتحكمه حتمياتها (تماماً مثل الإنسان الطبيعي الذي يخضع لقوانين الطبيعة وحتميات القانون الطبيعي لا يملك تجاوزاً لها)، إنسان لا ينتمي إلى حضارة بعينها وإنما ينتمي إلى عالم الاقتصاد العام، وهو لا يعرف الخصوصية ولا الكرامة ولا الأهداف السامية التي تتجاوز الحركة الاقتصادية، وهو يجيد نشاطاً واحداً هو البيع والشراء، وهذا هو إنسان ماركس وآدم سميث. ويُشار إلى هذا الإنسان في النظم الرأسمالية بأنه «دافع ضرائب»، أما في النظم الاشتراكية فيمكن أن يكون «بطل الإنتاج».

2 ـ الإنسان الجسماني أو الجنسي: إنسان فرويد وبافلوف الذي تحركه دوافعه الجنسية وغدده وجهازه العصبي. وهو يعبِّر عن مبدأ اللذة ولا يعرف سوى متعته ولذته؛ إنسان الاستهلاك والترف والتبذير؛ إنسان فرويد والسـلوكيين، وهو إنسان أحـادي البُعد خاضع للحتميات الغريزية متجرد من القيمة لا يتجاوز قوانين الحركة.

إن الإنسان الطبيعي هو نفسه الإنسان الاقتصادي، وهو نفسه الإنسان الجسماني، وقد تختلف المضامين ولكن البنية واحدة. ولو أننا وضعنا كلمة «اقتصاد» أو كلمة «جنس» بدلاً من كلمة «طبيعة» لظل كل شيء على ما هو عليه ولما غيَّرنا شيئاً من خطابنا.

وثنائية الإنسان الاقتصادي والإنسان الجسماني تُعبِّر عن نفسها من خلال مرحلتين في تاريخ الاقتصاد العلماني: المرحلة التقشفية التراكمية وتليها المرحلة الفردوسية التي بدأت في العالم الرأسمالي في بداية القرن العشرين، وبدأت في شرق أوربا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وبدأت في العالم الثالث بين أعضاء النخب الحاكمة المتغربة. وما يسود الآن في المجتمعات الحديثة هو خليط بين الاثنين.

العقلانية المادية واللاعقلانية المادية

«العقلانية» هي الإيمان بأن العقل قادر على إدراك الحقيقة من خلال قنوات إدراكية مختلفة من بينها الحسابات المادية الصارمة دون استبعاد العاطفة والإلهام والحدس والوحي. والحقيقة حسب هذه الرؤية يمكن أن تكون حقيقة مادية بسيطة، أو حقيقة إنسانية مركبــة، أو حقــائق تشـكل انقطاعــاً في النظــام الطبيـعي. ومن ثم يستـطيع هذا العقل أن يدرك المعلوم وألا يرفض وجود المجهول. وهذا العقل يدرك تماماً أنه لا "يؤسِّس" نظماً أخلاقــية أو معـرفية، فهو يتلقَّى بعض الأفكار الأولية ويصوغها استناداً إلى منظومة أخلاقية ومعرفية مسبقة.

ولكن هناك من يذهب إلى أن العقلانية هي الإيمان بأن العقل قادر على إدراك الحقيقة بمفرده دون مساعدة من عـاطفة أو إلهـام أو وحي، وبأن الحقـيقة هي الحقيقة المادية المحضة التي يتلقاها العقل من خلال الحواس وحدها، وبأن العقل إن هو إلا جزء من هذه الحقيقة المادية فهو يُوجَد داخل حيز التجربة المادية محدوداً بحدودها (لا يمكنه تجاوزها)، وأنه بسبب ماديته هذه قادر على التفاعل مع الطبيعة/المادة يمكنه انطلاقاً منها (ومنها وحدها) أن "يؤسس" منظومات معرفية وأخلاقية ودلالية وجمالية تهديه في حياته ويمكنه على أساسها أن يفهم الماضي والحاضر ويفسرهما ويُرشِّد حاضره وواقعه ويخطط لمستقبله.

هذا يعني، في واقع الأمر، أن العقل عقل مادي يقوم بإعادة إنتاج العالم المادي من خلال مقولات الطبيعة/المادة وحسب (لا من خلال أية مقولات إنسانية). فيرصد الواقع باعتباره كماً وأرقاماً وسطحاً بسيطاً خالياً من الأسرار والتفاصيل المتناثرة. وهو عقل قادر على وصف ما هو عام ولكنه لا يستطيع أن يرصد ما هو خاص وفريد، وهو قادر على رصد ما هو كائن ولكنه غير قادر على إدراك ما ينبغي أن يكون، فـ «ما ينبغي» مقولة أخلاقية مثالية متجاوزة لعالم الطبيعة/المادة. ولذا، فإن العقل المادي يتعرف على الحقائق المادية فقط (يعرف ثمنها أو حجمها أو كثافتها، أي صفاتها المادية وحسب) ولكنه لا يعرف قيمتها، فالقيمة شيء متجاوز لعالم المادة. ومن ثم، لا يُوجَد بالنسـبة للعقـل المادي خير وشر أو عدل وظلم. وحتى إن أدرك العقل المادي قيمة شيء، فسرعان ما يرده إلى عالم المادة، فهو عقل تفكيكي عدمي قادر على تفكيك الأشياء ونزع القداسة عنها ولكنه غير قادر على تركيبها. وهو، لكل هذا، عقل لا يملك إلا أن يساوي بين الطبيعة/المادة والإنسان وأن يسوي بينهما، فيمحو ثنائية الإنسان والطبيعة لتسود الواحدية المادية، أي أن العقل المادي يصبح أداة الطبيعة/المادة في الهجوم على الإنسان بدلاً من أن يكون رمزاً لانفصاله عنها.

وقد يبدو هذا الحديث الفلسفي وكأنه غير ذي صلة بالتاريخ المتعيِّن. ولكن الأمر ليس كذلك، فهناك من يرى أن قيام النازية بإبادة الملايين (من الغجر والسلاف واليهود والأطفال المعوقين ومن المسنين) ممن صُـنِّفوا باعتبارهم "أفواهاً مستهلكة غير منتجة" (بالإنجليزية: يوسلس إيترز useless eaters) إنما هو أحد إنجازات العقلانية المادية التي "حرَّرت" النازية من أية أعباء أخلاقية مثالية (غير مادية) وتعاملت مع البشر بكفاءة بالغة وبمادية صارمة كما لو أنهم مادة استعمالية نسبية تخضع لقوانين الطبيعة/المادة، فمن يحيد عنها (مثل الأطفال المعوقين والرجال المسنين) لابد من التخلص منه في أسرع وقت وبأكثر الطرق كفاءة. أي أن العقل المادي هنا قام بتفكيك البـشر بصـرامة بالغة وكفاءة مدهـشة، ونظر للجـميع بعيون زجـاجية وكأنه كمبيوتر متألِّه، يبلغ الغاية في الذكاء، لا قلب له ولا روح، يُحيي ويُميت.

ويمكننا القول بأن هناك نمطاً من الحكام الإرهابيين الثوريين لا يختلفون كثيراً عن هتلر ويدورون في إطار العقلانية المادية؛ مثل روبسبيير الذي قام بتفكيك البشر في إطار «مصلحة الشعب» التي يقررها هو، فأباد الملايين من غير النافعين، ومثل ستالين الذي قام بتفكيكهم في إطار علاقات الإنتاج ومعدلات النمو فأباد ملايين الفلاحين (الكولاك) الذين كانوا يعوقون عملية الإنتاج المادية الحتمية. ويرى بعض مؤرخي الثورات التي تدور في إطار النماذج العقلانية المادية أن ظهور مثل هذا الكمبيوتر المتأله مسألة حتمية، وأنه قد يأخذ (بعد استقرار الثورة وتحوُّلها إلى مؤسسات) شكل لجان خبراء ومستشارين. بل يرون أن هذه ظاهرة حتمية لصيقة بالمجتمعات الحديثة التي تُعرِّف النمو والتقدم والإنسان من منظور عقلاني مادي، وأن التكنوقراطية ونظريات التلاقي ووحدة العلوم والاتجاه نحو التنميط والكوكلة والعولمة إنما هي تعبير عن هذا الاتجاه.

ويمكننا الآن أن نثير نقطتين أساسيتين تتصلان بالعقلانية المادية:

1 ـ نحن نذهب إلى أنه لا توجد علاقة ضرورية بين العقلانية والمادية، فهناك نظم سياسية مادية عقلانية وأخرى مادية لاعقلانية. فالنظام السياسي الأمريكي مبني على الفصل بين الدين والدولة فصلاً كاملاً، وقد نجح الأمريكيون، في بعض مراحل تاريخهم على الأقل، في تطوير نظام عقلاني يُعبِّر عن مطامح الشعب الأمريكي بشـكل معـقول. والنظام النازي، هو الآخر، كان نظـاماً مادياً شرساً في ماديته، ولكنه كان لاعقلانياً بصورة تامة، وكان يتحرك في إطار نظريته العرْقية الشمولية التي شكلت مرجعيته المادية الكامنة. والنظام الستاليني، كان هو الآخر نظاماً مادياً بشكل نماذجي، ولكن لا يمكن أن يزعم أحد أنه كان نظاماً عقلانياً. وهناك نظم عقلانية تستند إلى عقائد دينية يزخر بها تاريخ الإنسان.

2 ـ بل إننا نذهب إلى أن العقلانية المادية تؤدي في مراحلها المتقدمة إلى اللاعقلانية المادية وهذا ما سنتناوله في بقية هذا المدخل.

وقد أشرنا إلى أن العقل المادي عقل تفكيكي عدمي غير قادر على التركيب أو التجاوز. ويتضح هذا في أنه عقل قادر على إفراز قصص (نظريات) صغرى مرتبطة بفضائها الزماني والمكاني المباشر على أحسن تقدير (كما يقول دعاة ما بعد الحداثة)، أي أنه قادر على إفراز مجموعة من الأقوال التي لا شرعية لها خارج نطاقها المادي المباشر الضيق المحسوس (فالعقل المادي يُدرك الواقع بطريقة حسِّية مباشرة). ومن ثم فهو عقل عاجز عن إنتاج القصص الكبرى أو النظريات الشاملة عاجز عن التوصل للحقيقة الكلية المجردة التي تقع خارج نطاق التجريب. ولذا فالعقل المادي لا يُنكر الميتافيزيقا وحسب وإنما يُنكر الكليات تماماً وينتهي به الأمر بالهجوم على العقل الإنساني والعقل النقدي لأنهما يتوهمان أنهما يتمتعان بقدر من الاستقلال عن حركة الطبيعة/المادة. وبذلك يختفي الإنسان كمرجعية نهائية بل يختفي مفهوم الطبيعة البشرية نفسه، ثم تختفي سائر المرجعيات وتصبح الإجراءات الشيء الوحيد المتفق عليه. وهكذا لا يتحرر العقل المادي من الأخلاق وحسب وإنما يتحرر من الكليات والهدف والغاية والعقل، ومن ثم تتحوَّل العقلانية المادية إلى لاعقلانية مادية.

وإذا كانت العقـلانية المـادية قد أفرزت فكر حـركة الاسـتنارة والوضعية المنطقية والكل المادي المتجاوز للإنسان، فقد أفرزت اللاعقلانية المادية: النيتشوية والوجودية والفينومينولوجية وهايدجر وما بعد الحداثة. والانتقال من التحديث إلى الحداثة وما بعد الحداثة هو الانتقال من العقلانية المادية التي تربط بين التجريب والعقلانية (في مرحلة المادية القديمة ومرحلة الثنائية الصلبة والواحدية الموضوعية المادية) إلى اللاعقلانية المادية التي تفصل بينهما، فيتم التجريب دون ضابط ودون إطار (في مرحلة المادية الجديدة والسيولة الشاملة). وتسود الآن في مجال العلوم نزعة تجريبية محـضة ترفض الكـليات العقـلية )إنسـانية كانت أم مـادية) وتلتصق تماماً بالمادة وحركتها وعالم الحواس.

ومع هذا يمكن القول بأن العقلانية المادية كثيراً ما تتعايش مع اللاعقلانية المادية وترتبط بها. فالوضعية العلمية المنطقية تعبير عن العقلانية المادية حيث لا يؤمن الإنسان إلا بالتجريب والأرقام، ولكنها في الوقت نفسـه تعبير عـن اللاعقلانية المادية، فهي لا تشغل بالها بالكليات أو المنطلقـات الفلسـفية. وقد أشرنا إلى أن النازية، كما يراها بعض المؤرخين، هي قمة العقلانية المادية، ونحن نتفق معهم في هذا، ونضيف أن هذا لا يمنع أن تكون قمة اللاعقلانية المادية أيضاً، فهي تعبير عن تَبلور نزعة تجريبية محضة ترفـض الكليات الإنسانية والعقلية وأي شكل من أشكال الميتافيزيقا وتلتصق تماماً بحركة المادة وعالم الحواس، وتُمجِّد الإرادة الفردية على حساب أية مفاهيم إنسانية كلية. ولعل الفلسفة العلمانية الشاملة الأساسية، أي الداروينية الاجتماعية، هي تعبير عن هذا التعايش والترابط بين العقلانية واللاعقلانية المادية.

فشل النموذج المادى فى تفسير ظاهرة الإنسان

تؤكد العقلانية المادية عناصر التجانس والتكرار والكم والسببية والآلية، ولذا فهي تتسم بمقدرة عالية، نوعاً ما، على رصد حـركة الأشـياء ودراستها. فالعـقلانية المادية تتحـرك في إطـار الواحدية المادية التي تخضع لها الأشياء، أما الإنسـان فهو ظاهرة تتجاوز حدود الواحدية المادية. ولذا، فإن سلوكه، سواء في نُبله أو ضعته، في بطولته أو خساسـته، ليس ظاهرة مادية محضة وإنما ظاهرة مركبة لأقصى حد:

1 ـ فعقل الإنسان له مقدرات تتحدى النموذج التفسيري المادي، حتى أننا نجد عالماً مثل تشومسكي ينكر تماماً أن عقل الإنسـان مجرد صفحة بيضاء سـلبية (وهو الافتراض الوحيد المتاح أمام الماديين) وإنما هو عقل نشيط يحوي أفكاراً كامنة فطرية. ولذا، نجد أن تشومسكي يتحدث عن «معجزة اللغة» باعتبارها ظاهرة لا يمكن تفسيرها في إطار مادي وإنما لابد من تفسيرها في إطار نموذج توليدي يفترض كمون المقدرة اللغوية في عقل الطفل بما يعني أن العقل ليس مجرد المخ، مجموعة من الخلايا والأنزيمات. ويقدم جان بياجيه رؤية توليدية لتطور الإنسان وتطوُّر إحساسه بالزمان والمكان. وتزايد الاعتماد على النماذج التوليدية، مقابل النماذج التراكمية، هو دليل على تراجُع النموذج المادي.

2 ـ ثم نأتي إلى مشكلة الفكر. يدَّعي الماديون أن الفكر صورة من صور المادة أو أثر من آثارها (فالعقل صفحة بيضاء تتراكم عليها المعطيات الحسية وتتحول إلى أفكار كلية بطريقة آلية). وهي مقولة قد تبدو معقولة ولكنها تخلق من المشاكل أكثر مما تحل. والسؤال هو: لماذا يأخذ الفكر هذه الصورة بالذات؟ ولماذا تختلف أفكار شخص عن أفكار شخص آخر يعيش في نفس الظروف؟ وهل الأفكار عصارات وأنزيمات تتحرك أم أنها شيء آخر؟ وما علاقة المؤثر المادي بالاستجابة الفكرية أو العاطفية؟ ولنأخذ فكرة مثل «السببية». المعطيات الحسية المادية غير مترابطة ولا علاقة لها بأية كليات، ومع هذا يُدرك العقل الواقع لا كوقائع متناثرة وإنما كجزئيات تنضوي تحت كلٍّ متكامل، ولا يمكن أن يتم الإدراك إلا بهذه الطريقة، ولذا نجد أن الماديين (في عصر ما بعد الحداثة) ينكرون تماماً فكرة الكل، ويعلن نيتشه موت الإله الذي يعني في الواقع نهاية الكل. وهجوم الماديين والطبيعيين على الكل أمر مُتوقَّع، ففكرة الكل تُذكِّرنا بمعجزة الإنسان الذي يتجاوز النظام الطبيعي وحركة الأنزيمات والذرات والأرقام، ومن ثم فإنها تخلق ثنائية فضفاضة تستدعي مرجعية متجاوزة للنظام الطبيعي هي الإله. فالكل يؤكد تجاوز الإنسان، وتجاوز الإنسان يؤكد وجود الإله كمقولة تفسيرية معقولة. ولذا، لابد أن تهاجم هذه الفلسفة فكرة الكل حتى يعود الإنسان إلى الطبيعة ويُستوعَب فيها. وهكذا بدأت المادية بمحاولة تحطيم خرافة الميتافيزيقا، وانتهت بالهجوم على فكرة الحقيقة نفسها.

3 ـ وهناك حس الإنسان الخُلقي والديني، والجمالي، وقلقه، وتساؤله عن الأسئلة النهائية الكبرى. وهي أحاسيس لا يمكن تفسيرها على أساس مادي، فالأمر أكثر صعوبة من مجرد تفسير وجود الأفكار. وكما ينتهي الفكر المادي بإنكار الفكر، وإنكار الكل، فهو ينكر أيضاً الحس الخُلقي والجمالي ويُسقط الأسئلة النهائية. وعلى هذا، فإن عبارات مثل «القتل شر» و«هذه اللوحة جميلة» و«قلق الإنسان على مصيره في الكون» هي عبارات لا معنى لها من منظور مادي، تماماً مثل عبارة «الله رحيم» أو «الله موجود»، فكلها عبارات لا يمكن إثباتها أو دحضها من خلال المنهج العلمي المادي.

4 ـ المادية تفشل في تفسير إصرار الإنسان على أن يجد معنى للكون ومركزاً له. والحقيقة أنه حينما لا يجد هذا المعنى، فإنه لا يستمر في الإنتاج المادي مثل الحيوان الأعجم وإنما يتفسخ ويصبح عدمياً ويتعاطى المخدرات وينتحر ويرتكب الجرائم دون سبب مادي واضح. وتزداد قضية المعنى حدة مع ازدياد إشباع الجانب المادي في الإنسان، فكأن إنسانية الإنسان لصيقة بشيء آخر غير مادي. والبحث عن المعنى عبَّر عن نفسه على هيئة فنون وعـقائد. وكما يقـول علي عـزت بيجوفيتش، فإن "الدين والفن مرتبطان بالإنسان منذ أن وُجد على وجه الأرض، أما العلم (المادي) فهو حديث، وفشل العلم المادي (الذي يدور في إطار نماذج مادية) في تفسير الإنسان وفي التحكم فيه هو دليل فشله في إدراك الظـاهرة الإنـسانية وإدراك أن الحلول التي يأتي بها حلول ناقصة".

5 ـ والفلسفات المادية تدور في إطار المرجعية المادية، ولذا فإنها ترسم صورة واحدية للإنسان إما باعتباره شخصية صراعية دموية قادرة على خرق كل الحدود وعلى إعلاء إرادتها وتوظيف قوانين الحركة لحسابها، أو باعتباره شخصية قادرة على التكيف مع الواقع و الخضوع لقوانين الحركة. وهذه صورة ساذجة غير حقيقية:

أ) الصورة الأولى تفشل في رصد تلك الجوانب النبيلة في الإنسان مثل مقدرته على التضحية بنفسه من أجل وطنه أو من أجل أبيه أو أمه، ومقدرته على ضبط نفسه من أجل مُثُل عليا.

ب) الصورة الثانية تؤكد أن الإنسان غير قادر على الثورة والتجاوز. وبالفعل، يُلاحَظ في العصر الحديث هيمنة نظم سياسية تسيطر عليها رؤى تكنوقراطية محافظة. ومع هذا، لم تنجح المادية تماماً في قمع الإنسان وتسويته بالأمر الواقع. فالإنسان لا يزال قلقاً وغير راض، وهو إن لم يُعبِّر عن قلقه من خلال الثورة الناضجة فهو يُعبِّر عن هذا القلق بأشكال مرضية.

وفي محاولة لتفسير هذه الجوانب الإنسانية غير المادية من الوجود الإنساني، يذهب الماديون إلى أن كل هذا حدث بالصدفة من خلال عملية كيميائية بسيطة ثم وصلت الكائنات بعد ذلك إلى درجة من التركيب من خلال قانون التطور. وهو ما يعني أن قانون الصدفة وقانون التطور هما القانونان الأساسيان؛ فالصدفة هي سفر التكوين أو قصة الرؤية المادية بشأن الخلق، والتطور هو تاريخها غير المقدَّس، الزمني المكاني. والتطور نفسه خاضع للصدفة وصراع القوة، فكأن الصدفة أو القوة (أو كلتيهما) محرك للكون وضمنه الإنسان. هذا التفسير المادي للأمور هو تفسير ميتافيزيقي رغم إنكاره للميتافيزيقا؛ وهو يهدف إلى سـد الثغرة في النظام الطبيعي وإلى تصفية ظاهرة الإنسان وإلغاء الحيز الإنساني، ذلك لأن التفسيرات المادية غير قادرة على استيعاب أيةثنائية أو أي تركيب يتحدى النظام الواحدي المادي البسيط (فهي تفسيرات تُؤثر البساطة والواحدية على التركيب والتعددية(.

ولكن ليست هناك أية ضرورة لرفض مقولة الإنسان المركب الذي لا يُرَدُّ إلى المادة أو الاستغناء عنها، وخصوصاً أنها جزء من تجربتنا الوجودية وإدراكنا لذاتنا وواقعنا الإنساني. ولذا، وبدلاً من التأرجح بين العقلانية المادية التي تحاول تفسير كل شيء من خلال السببية الصلبة المطلقة من جهة واللاعقلانية المادية التي تعجز عن تفسـير أي شـيء من جهة أخرى، وبـدلاً من الإصرار عـلى إلغاء الثنائية نشعر (نحن البشر) بوجودها في عالمنا المادي، وذلك باسم البساطة والواحدية والتناسـق الهندسي القاتل، قد يكون من الأمانة أن نُسمِّي هذا الجانب في الوجود الإنسـاني «الجانب الرباني»، وعلينا من ثم أن نستدعي ثنائية أخرى ذات مقدرة تفسيرية عالية لا يمكن إلغاؤها. وبدلاً من مجرد استخدام مقولات مادية تفسيرية تفرض الواحدية على الواقع، وتُسوي الإنسان بالطبيعة والكيف بالكم وغير المادي بالمادي، يمكن استخدام مقولات تفسيرية مركبة تحوي عناصر مادية وغير مادية، كما يمكن استدعاء مدلول متجاوز للنظام الطبيعي ولقوانين المادة نصنف تحته كل الظواهر التي لا تخضع للقياس ونفسر من خلاله كل ما لا يدخل شبكة السببية الصلبـة المطلقـة وندرك من خلاله كل التجليـات التي تظهر في عالمنا الطبيـعي دون أن نتمكن من تفسير جميع جوانبها، أي مقولة غير مادية تكمِّل (ولا تَجبُّ) المقولات المادية، مقـولة تتجاوز العقـل المادي دون أن تحطمـه، وهـذه المقولة هي ما يُطلَق عليه «الإلـه»؛ مركز الكون الموجود خارج المادة، والذي هو أقرب إلينا من حبل الوريد، يُعنَى بدنيانا وبمسار التاريخ ولكنه ليس كمثله شيء، ووجوده تعبير عن وجود كل من الطبيعة وما وراء الطبيعة، وما يُقاس وما لا يُقاس، ووجود الإنسان كإنسان يستند إلى وجوده.

النزعة الربانية

نذهب إلى أن الإنسان تتنازعه نزعتان كامنتان فيه: النزعة الجنينية نحو إزالة الحدود والحيز الإنساني والهوية الإنسانية والذات المتعينة ومحو الذاكرة التاريخية والذوبان في الطبيعة/المادة والهرب من المسئولية الأخلاقية والمقدرة على التجاوز من ناحية، ومن ناحية أخرى، النزعة الربانية نحو تجاوز الطبيعة/المادة وتقبُّل الحدود والمسئولية وعبء الوعي وتأكيد الهوية الإنسانية وتركيبيتها. والنزعة الربانية تعبير عن وجود عنصر غير مادي غير طبيعي داخل الإنسان، وهو عنصر لا يمكن رده إلى الطبيعة/المادة نسميه «القبس الإلهي»، وهو ذلك النور الذي يبثه الإله الواحد المتجاوز في صدور الناس (بل في الكون بأسره)، فيمنحه تركيبيته اللامتناهية،ويولِّد في الإنسـان العـقل الذي يدرك من خـلاله أنه ليـس بإله، وأنه ليـس بالكل، وأنه مكلف بحمل الأمانة، وأن عليه أعباء أخلاقية وإنسانية تشكل حدوداً وإطاراً له. ولكن هذه الحدود هي نفسـها مصدر تميزه، فهي تفصله عن كل من الإله والكائنات الطبيعية، وتميِّزه عن هذه الكائنات بعقله ووعيهوالمسئولية المناطة به. فكأن الحدود هي حيزه الإنساني الذي يمكن للإنسان أن يحقق فيه إمكانياته أو يجهضها. وهو الحيز الذي يتحول فيه الإنسان إلى كائن اجتماعي قادر على أن يرجئ رغباته ويُعلي غرائزه ولا يطلق لشهواته العنان حتى يمكنه أن يعيش مع الآخرين ويتواصل معهم، وأن ينتج أشـكالاً حضارية إنسـانية تتجاوز عالم الطبيعة/المادة وعـالم المثيرات والاستجابات العصبية والجسدية المباشرة.

والإنسان الإنسان، ثمرة النزعة الربانية، يقف على طرف النقيض من الإنسان الطبيعي/المادي ثمرة النزعة الجنينية، فهو ذو هوية محدَّدة يكتسبها من خلال الحدود المفروضة عليه ولكنه لا يتمركز حول ذاته، وفي إطار المرجعية المتجاوزة يمكنه تأكيد إنسانيته لا بالعودة إلى ذاته الضيقة (الطبيعية) والرغبة في التحكم في الكون، وإنما بالإشارة إلى النقطة المرجعية المتجاوزة. وهو أيضاً لا يفقد ذاته ولا يتمركز حول الموضوع (الطبيعة/المادة)، أي أنه لا يتأرجح بين الواحدية والثنائية الصلبة ولا بين الصلابة والسيولة. فوجود المركز المتجاوز ضمان لأن يحتفظ بهويته وذاته ولا يغوص في حمأة المادة ولا يذعن لقوانينها وحتمياتها.

والإنسان الإنسان، على عكس الإنسان في الحالة الجنينية، قادر على تفسير العالم والنصوص، فاللغة ليست أيقونات تُشير إلى ذاتها، وإنما مفردات وجُمل لها قواعدها، وهو للسبب نفسـه قادر على التواصل مع الآخرين، ومن ثم قادر على تجاوز ذاته والتحرك مع الآخرين داخل الحدود التاريخية والاجتماعية والحضارية، التي تشكل حيزنا الإنساني الذي نحقق فيه جوهرنا الإنساني. فهو إنسان فرد له قصته الصغيرة، ولكنها صدى للإنسانية المشتركة وللقصة الإنسانية الكبرى.

الثنائية الفضفاضة: نمط إنسانى (ربانى)عام

«النزعة الربانية» تعني خروج الإنسان من نطاق المرجعية الكامنة المادية ودخوله في نطاق المرجعية المتجاوزة مما يعني ظهور ثنائية أساسية لا يمكن محوها، هي ثنائية الخالق والمخلوق الفضفاضة. هذه الثنائية تعني زوال أية واحدية ذاتية كانت أم موضوعية. لأن في إطار المرجعية المتجاوزة لا يمكن للإنسان أن يسقط في الجنينية التي تحطم الحدود بين الكل والجزء، ولا يمكن أن يتمركز حول ذاته. كما لا يمكن للموضوع (المادي) أن يتمركز حول نفسه، إذ يظل مركز الكون خارجه. وثنائية الخالق والمخلوق الفضفاضة ينتج عنها ثنائية أخرى هي ثنائية الإنسان والطبيعة، فالإله يزود الإنسان بالعقل الذي يميِّزه عن سائر الكائنات، وهذا ما يجعله إنساناً إنسان (أو إنساناً ربانياً)، أي إنساناً غير طبيعي/ مادي، له جوهره الإنساني المتميز عن الطبيعة/المادة، يعيـش في الحـيز الطبيعي/المادي نفسـه ولكنه قادر على تجاوزه وتجاوز ذاته الطبيعية. وهذا الكائن الذي يحوي داخله الأسرار، يستعصي على التفسيرات الطبيعية/المادية ولا يمكناختزاله أو رده إلى مبدأ واحد ولا يمكن التحكم فيه تحكماً كاملاً، إنه إنسان يبحث عن المعنى في الكون ولا يستسلم للعبث أو العدمية أو الواحدية المادية، إنسان حر قادر على اتخاذ قرارات أخلاقية وعلى تحمُّل المسئولية، ومن ثم يشكِّل ثغرة في النظام الطبيعي وتحدياً للمنظومات المعرفية والأخلاقية الواحدية المادية.

كل هذا يعني انفصال الإنسان عن الطبيعة وأسبقيته وأفضليته عليها. ولكنها تفترض أيضاً وجوده فيها واعتماده عليها واحترامه لها، فهو ليس بمركز الكون، وهو ليس سيد الطبيعة، فمالكها هو الله. ولذا فهو مستخلف فيها يتفاعل معها.

إن الثنائية الفضفاضة (ثنائية الخالق والمخلوق والإنسان/الطبيعة) ليست اثنينية أو ثنائية صلبة لأن الإنسان، من خلال النزعة الربانية داخله، ينفصل عن الإله وعن الطبيعة ولكنه يتفاعل ويتجاوب معهما، ومن خلال تفاعله يكتسب المقدرة على التجاوز وتزداد حريته. والوجود الإنساني الأمثل ليس محو النزعة الجنينية والتعبير الخالص عن النزعة الربانية، ولا هو محو النزعة الربانية والتعبير الخالص عن النزعة الجنينية، وإنما التكامل والتقابل بينهما. وهذه الثنائية الوجودية الأنطولوجية الأساسية الفضفاضة تتجلى في المنظومات المعرفية (مجهول/معروف ـ غيب/علم ـ مطلق/نسبي ـ روح/جسد) والمنظومات الأخلاقية (خير/شر) والدلالية (دال/مدلول) والجمالية (جميل/قبيح)، وعلى كل المستويات (ذكر/أنثى ـ أعلى/أسفل ـ سماء/أرض). وهناك ثنائيةغير متعادلة تُفترَض فيها أسبقية العنصر الأول على العنصر الثاني (جميل/قبيح) ولكن هناك أيضاً ثنائيات لا تُفترَض فيها أسبقية عنصر على الآخر (ذكر/أنثى) وإن كانت تفترض الاختلاف.

الباب الرابع : الفرق بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة الإنسانية

في كل المداخل السابقة حاولنا أن نبيِّن أن ثمة ثنائية فضفاضة تسم الوجود الإنساني (الخالق/المخلوق ـ النزعة الربانية/النزعة الجنينية ـ الإنسان/الطبيعة). وثنائية الإنسان/الطبيعة هي أهم هذه الثنائيات. وقد عبَّرت عن نفسها في الجدل المثار في العلوم الإنسانية منذ بداية ظهورها في القرن التاسع عشر وهل هناك «علم طبيعي» مختلف عن «العلوم الإنسانية» أم أن هناك وحدة (أي واحدية) للعلوم.

ويُطلَق مصطلح »العلم الطبيعي» على كل دراسة تتناول معطيات الواقع المادي بكلياته وجزئياته. ووسيلة هذه الدراسة هي منهج الملاحظة المباشرة والتجربة المتكررة والمتنوعة. والدراسة وكذلك عمليات التجريب تتم بهدف التفسير من خلال التوصل إلى تعميمات وقوانين تحقق الانتقال من الخاص إلى العام وتكشف عن العلاقات المطّردة الثابتة بين الظواهر. وهذه القوانين يتم التعبير عنها عن طريق تحويل صفات الكيف (التي لا تُقاس) إلى صفات كم بحيث يتم التعبير عنها برموز رياضية. وتتميَّز قوانين العلوم الطبيعية بأنها دقيقة وعامة تتخطى الزمان والمكان، وهي حتميـة (ولكنها، بعد اهتزاز الحتمية، أصبحت احتمالية ترجيحية: ترجيحية تقارب اليقين وتظل صالحة للاستعمال حتى يثبت بطلانها(.

ويذهب البعض إلى أن نموذج العلوم الطبيعية (بما ينطوي عليه من واحدية موضوعية مادية) لابد أن يُطبَّق في كل العلوم الأخرى (وضمن ذلك العلوم الاجتماعية والإنسانية). وقد لاحظ كثير من العلماء في الشرق والغرب خلل مثل هذه المحاولة نذكر منهم د. حامد عمار، د. توفيق الطويل، د. حسن الساعاتي (الذين يعتمد هذا المدخل على كتاباتهم) وبينوا الاخـتلافات بين الظاهرة الإنسانية والظاهرة الطبيعية، ونوجزها فيما يلي:

1ـ أ) الظاهرة الطبيعية مُكوَّنة من عدد محدود نسبياً من العناصر المادية التي تتميَّز ببعض الخصائص البسيطة، وهذا يعني أنه يمكن تفتيتها إلى الأجزاء المكوِّنة لها. كما أن الظاهرة الطبيعية توجد داخل شبكة من العلاقات الواضحة والبسيطة نوعاً والتي يمكن رصدها.

ب) الظاهرة الإنسانية مُكوَّنة من عدد غير محدود تقريباً من العناصر التي تتميَّز بقدر عال من التركيب ويستحيل تفتيتها لأن العناصر مترابطة بشكل غير مفهوم لنا. وحينما يُفصَل الجزء عنالكل، فإن الكل يتغيَّر تماماً ويفقد الجزء معناه. والظاهرة الإنسانية توجد داخل شبكة من علاقات متشابكة متداخلة بعضها غير ظاهر ولا يمكن ملاحظته.

2ـ أ) تنشأ الظواهر الطبيعية عن علة أو علل يسهل تحديدها وحصرها، ويسهل بالتالي تحديد أثر كل علة في حدوثها وتحديد هذا الأثر تحديداً رياضياً.

ب) الظاهرة الإنسانية يصعب تحديد وحصر كل أسبابها، وقد تُعرَف بعض الأسباب لا كلها، ولكن الأسباب تكون في العادة متداخلة متشابكة، ولذا يتعذر في كثير من الحالات حصرها وتحديد نصيب كل منها في توجيه الظاهرة التي ندرسها.

3ـ أ) الظـاهرة الطبيعـية وحـدة متكـررة تَطَّرد على غرار واحد وبغير اسـتثناء: إن وُجدت الأسـباب ظهرت النتيجة. ومن ثم، نجد أن التجربة تُجرَى في حالة الظاهرة الطبيعية على عينة منها ثم يُعمَم الحكم على أفرادها في الحاضر والماضي والمستقبل.

ب) الظاهرة الإنسانية لا يمكن أن تَطَّرد بنفس درجة الظاهرة الطبيعية لأن كل إنسان حالة متفردة، ولذا نجد أن التعميمات، حتى بعد الوصول إلىها، تظل تعميمات قاصرة ومحدودة ومنفتحة تتطلب التعديل أثناء عملية التطبيق من حالة إلى أخرى.

4ـ أ) الظاهرة الطبيعية ليس لها إرادة حرة ولا وعي ولا ذاكرة ولا ضمير ولا شعور ولا أنساق رمزية تُسقطها على الواقع وتدركه من خلالها، فهي خاضعة لقوانين موضوعية (برانية) تحركها.

ب) الظاهرة الإنسانية على خلاف هذا، ذلك لأن الإنسان يتسم بحرية الإرادة التي تتدخل في سير الظواهر الإنسانية، كما أن الإنسان له وعي يسقطه على ما حوله وعلى ذاته فيؤثر هذا في سلوكه. والإنسان له ذاكرة تجعله يُسقط تجارب الماضي على الحاضر والمستقبل، كما أن نمو هذه الذاكرة يُغيِّر وعيه بواقعه. وضمير الإنسان يجعله يتصرف أحياناً بشكل غير منطقي (من منظور البقاء والمنفعة المادية)، كما أن الأنساق الرمزية للإنسان تجعله يُلوِّن الواقع البراني بألوان جوانية.

5ـ أ) الظواهر الطبيعية ينم مظهرها عن مخبرها ويدل عليه دلالة تامة بسبب ما بين الظاهر والباطن من ارتباط عضوي شامل يُوحِّد بينهما فيجعل الظاهرة الطبيعية كلاًّ مصمتاً تحكمه من الداخل والخارج قوانين بالغة الدقة لا يمكنها الفكاك منها، ولهذا تنجح الملاحظة الحسية والملاحظة العقلية في استيعابها كلها.

ب) الظواهر الإنسانية ظاهرها غير باطنها (بسبب فعاليات الضمير والأحلام والرموز) ولذا فإن ما يَصدُق على الظاهر لا يَصدُق على الباطن. وحتى الآن، لم يتمكن العلم من أن يُلاحظ بشكل مباشر التجربة الداخلية للإنسان بعواطفه المكبوتة وأحلامه الممكنة أو المستحيلة.

6ـ أ) لا يوجد مكوِّن شخصي أو ثقافي أو تراثي في الظاهرة الطبيعية؛ فهي لا شخصية لها، مجردة من الزمان والمكان تَجرُّدها من الوعي والذاكرة والإرادة.

ب) المكوِّن الشخصي والثقافي والذاتي مكوِّن أساسي في بنية الظاهرة الإنسانية. والثقافة ليست شيئاً واحداً وإنما هي ثقافات مختلفة، وكذا الشخصيات الإنسانية.

7ـ أ) معدل تحوُّل الظاهرة الطبيعية يكاد يكون منعدماً (من وجهة نظر إنسانية)، فهو يتم على مقياس كوني، كما أن ما يلحق بها من تغير يتبع نمط برنامج محدد، ولذا فإن الظواهر الطبيعية في الماضي لا تختلف في أساسياتها عنها في الحاضر، ويمكن دراسة الماضي من خلال دراسة الحاضر.

ب) معدل التغيُّر في الظواهر الإنسانية أسرع بكثير ويتم على مقياس تاريخي، وما يطرأ عليها من تغير قد يتبع أنماطاً مسبقة ولكنه قد ينسلخ عنها. وعالم الدراسات الاجتماعية لا يستطيع أن يرى أو يسمع أو يلمس الظواهر الإنسانية التي وقعت في الماضي، ولذا فهو يدرسها عن طريق تقارير الآخرين الذين يلونون تقاريرهم برؤيتهم، فكأن الواقعة الإنسانية في ذاتها تُفقَد إلى الأبد فور وقوعها.

8ـ أ) بعد دراسة الظواهر الطبيعية والوصول إلى قوانين عامة، يمكن التثبت من وجودها بالرجوع إلى الواقع. ولأن الواقع الطبيعي لا يتغيَّر كثيراً، فإن القانون العام له شرعية كاملة عبر الزمان والمكان.

ب) بعد دراسة الظواهر الإنسانية، يصل الإنسان إلى تعميمات. فإن هو حاول تطبيقها على مواقف إنسانية جديدة فإنه سيكتشف أن المواقف الجديدة تحتوي على عناصر جديدة ومكونات خاصةإذ من غير الممكن أن يحدث في الميادين الاجتماعية ظرفان متعادلان تماماً، ومتكافئان من جميع النواحي.

9ـ أ) لا تتأثر الظواهر الطبيعية بالتجارب التي تُجرَى عليها سلباً أو إيجاباً، كما أن القوانين العامة التي يُجرِّدها الباحث والنبوءات التي يطلقها لن تؤثر في اتجاهات مثل هذه الظواهر، فهي خاضعة تماماً للبرنامج الطبيعي.

ب) تتأثر العناصر الإنسانية بالتجربة التي قد تُجرَى عليها، فالأفراد موضوع البحث يحوِّلون من سلوكهم (عن وعي أو عن غير وعي) لوجودهم تحت الملاحظة، ففي إمكانهم أن يحاولوا إرضاء صاحب التجربة أو يقوضوا نتائجه. كما أن النبوءات التي يطلقها الباحث قد تزيد من وعي الفاعل الإنساني وتغيِّر من سلوكه.

10ـ أ) بإمكان الباحث الذي يدرس الظاهرة الطبيعية أن يتجرد إلى حدٍّ كبير من أهوائه ومصالحه لأن استجابته للظاهرة الطبيعية وللقوانين الطبيعية يَصعُب أن تكون استجابة شخصية أو أيديولوجية أو إنسانية، ولذا يمكن للباحث أن يصل إلى حدٍّ كبير من الموضوعية.

ب) أما الباحث الذي يدرس الظاهرة الإنسانية فلا يمكنه إلا أن يستجيب بعواطفه وكيانه وتحيزاته، ومن خلال قيمه الأخلاقية ومنظوماته الجمالية والرمزية، ولذا يَصعُب عليه التجرد من أهوائه ومصالحه وقيمه التي تعوقه في كثير من الأحيان عن الوصول إلى الموضوعية الصارمة.

ولكل ما تقدَّم، فإن من الممكن إجراء التجارب المباشرة المنضبطة المتكررة على العناصر الطبيعية ويمكن قياسها بمقاييس كمية رياضية فهي تخلو من الاستثناءات والتركيب والخصوصيات، ويمكن التَوصُّل إلى قوانين عامة تتسم بالدقة تنطبق على الظاهرة في كليتها وفي جوانيتها وبرانيتها. أما الظاهرة الإنسانية، فلا يمكن إجراء التجارب المباشرة المنضبطة عليها ويستحيل تصويرها بالمعادلات الرياضية الدقيقة إذ لا تخلو من الاستثناءات والتركيب والخصوصيات، ولذا لا يمكن التَوصُّل إلى قوانين عامة (وإن تم التوصل إلى قوانين فلابد أنه تعوزها الدقة والضبط). وهناك عدد كبير من الكُتَّاب الغربيين من أوائلهم فيكو ومن أهمهم كانط وديلتاي وريكرت ينطلقون من محاولة التمييز بين الإنسان والطبيعة. ولكن غالبية المفكرين الغربيين يدورون في إطار الواحدية المادية (أو الواحدية المثالية) ويحاولون القضاء على هذه الثنائية تماماً وإلغاء الحيز الإنساني وبالتالي يدافعون عن وحدة (أو واحدية) العلوم.

إشكالية الإنسانى والطبيعى في العالم العربى

ثمة وعي عميق بإشكالية التمييز بين الإنساني والطبيعي في الأدبيات العربية، فالمفكر الماركسي د. فؤاد مرسي يدعو بوضوح في كتاب إشكالية العلوم الاجتماعية (في دراسة له بعنوان "المنهج بين الوحدة والتعدد") إلى عدم التمييز بين الإنسان والطبيعة فيُعرِّف الإنسان بأنه "قوة من قوى الطبيعة"؛ إنسان طبيعي/مادي يتكيف معها ولكنه في الوقت نفسه يُعيد صياغتها. وهذه هي الإشكالية الكبرى التي تواجه الماديين ودعاة العلمانية الشاملة: هل الإنسان الطبيعي/المادي يزعن للطبيعة أم يهيمن عليها؟ وتتضح الإشكالية في كتابات د. فؤاد مرسي نفسه، فهو يؤكد أن الإنسان سـيزداد وعياً ومن ثم سـيزداد بُعداً عن الحيوان. ولكنه يعـود ويُعرِّف الإنسـان في إطار طبيعي مادي ويجد أن "الاقتصاد هو مجال رئيسي للعلاقة المتبادلة بين الطبيعة والمجتمع"، فبعد أن "ابتعد" الإنسان عن الحيوان، وهو ما يعني ابتعاده عن الطبيعة وتفوقه عليها فإنه يعود فيدخل في علاقة "تبادلية" تفترض المساواة الكاملة. وتظهر هذه التبادلية بشكل أوضح حين يُوحِّد د. فؤاد مرسي بين الطبيعة والمادة فيقول "لهذا أصبح العلم كله، طبيعياً واجتماعياً، علماً ذا طابع اجتماعي". و"أصبح تَقدُّم البشرية حالياً رهناً إلى حدٍّ كبير بالتداخل الأكبر والتفاعل بين العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية". والتداخل والتفاعل قد يعني ثنائية (وهو ما يرفضه الفكر المادي)، وقد يعني مساواةً وتَوحُّداً، وهو الأرجح، ولذا نجده في السطر التالي يقول: "إن كل محاولة للفصل بين المجتمع والطبيعة تصبح محاولة وهمية. فوجود المجتمع هو جانب من وجود الطبيعة". ولكنه يعود للثنائية فيقول: "وتاريخ المجتمع هو تاريخ امتلاك الإنسان للطبيعة"، ثم يعود للواحدية فيقول: "إن وحدة الثورتين التكنولوجيـة والاجتماعية كفيلة في المسـتقبل أن تجعل من البشـر لأول مرة في التاريخ، السادة الحقيقيين للطبيعة". ثم يتحدث عن احتدام الصراع بين الطبيعة والإنسان وعن "الإنسان الشامل الذي يختزن في نفسه قدراً لا مثيل له من المعرفة بالكون كله". ولكن ما هي النتيجة النهائية لهذا التأرجح الكوميدي بين الاندماج العضوي في الطبيعة والإذعان لها من جهة، والانفصال عنها وتملكها والهيمنة عليها من جهة أخرى. يختتم الدكتور مرسي مقـاله بقوله "هناك يتوحَّد الإنسان تماماً مع المجتمع والطبيعة"، أي أن الحالة الجنينية والواحدية المادية تنتصر تماماً. وعلى كلٍّ، فإن عنوان هذا الجزء من المقال هو "نحو وحدة الكون" وليس "نحو مركزية الإنسان في الكون أو هيمنته عليه".

ولكن العدد الأكبر من علمائنا الأجلاء كانوا من المدافعين عن الإنسان ضد المادية والطبيعية. فعلى سبيل المثال، يقول الدكتور حامد عمار في كتابه من همومنا التربوية والثقافية:

"إن منهج التفكير العلمي الذي أرسته العلوم الطبيعية قد شاع باعتباره المنهج الصحيح الوحيد في الوصول إلى المعرفة الصحيحة. واصطنعت العلوم الاجتماعية الإنسانية هذا المنهج في دراستها وبحوثها. بيد أن معظمها قد توقف عند المرحلة النيوتونية من مناهج البحث العلمي الطبيعي، واختزال المنهج إلى تجزئة الظواهر وتفكيك أجزائها، ومحاولة فرض الفروض المرتبطة بذلك الجزء أو ذاك، وإخضاع الفروض حوله للقياس والاختبار. وجرى العُرْف عند الكثيرين على اعتبار النتائج علمية ثابتة غير قابلة للتعديل.

"وأُطلق على هذه التجزئة للظواهر وإخضاعها للدراسة الميدانية العينية ما عُرف باسم المنهج الإمبيريقي أو الوصفي، محللاً للظاهرة كما تُوجَد في موقعها الزماني والمكاني... ودون تَصوُّرلأنواع العلاقات ودينامياتها في الظاهرة المدروسة مع سياقها الثقافي الاجتماعي. ومن ثم فقدت الدراسة منظوماتها العضوية الدينامية في إطار الزمان والمكان والبُعد التاريخي لنشأتها وتطورها وتوظيفها الاجتماعي.

واستقر في أذهان كثير من الباحثين الاجتماعيين أن نتائجهم علمية لا يرقى إليها التصحيح... وأصبح من المسلمات في الرسائل الجامعية في العلوم الاجتماعية الإنسانية ألا تُعاد دراسة الموضوع؛ لأن ما سبق من بحوث قد استقر [باعتباره] حقائق علمية. ثم إن هذه البحوث تدَّعي الموضوعية العلمية المطلقة، وأن لا شأن لذات الباحث أو أيديولوجيته أو تحيزاته أي تدخُّل في مختلف مراحل البحث وتفسيراته، فالنتائج جاءت «علمية» من خلال معطيات الواقع العيني.

"ومع هذا الاختزال الإمبريقي الوضعي الوظيفي للمنهج العلمي الطبيعي في آفاقه الرحبة والمتجددة، فإن ثمة مناهج أخرى للمعرفة العلمية تبدأ من الملاحظة والمشاركة الملاحظة (بكسر الحاء) امتداداً إلى الحس التاريخي والوعي الذاتي. والبصيرة والحدس، والفهم الكيفي في السياق الثقافي الاجتماعي التاريخي والخبرة الإنسانية. وليس بالضرورة أن تلجأ تلك المناهج إلى البيانات الرقمية والقياس؛ إذ أن تلك الأدوات كثيراً ما تُشوِّه المعرفة بعالم الوعي والخبرة والفهم النوعي للواقع وإمكانات المستقبل، فضلاً عن قصورها عن فهم القيم وديناميات الدوافع والأخلاق.

"إن هذه الأساليب والأدوات المعرفية تصبح علمية طالما قامت على ملاحظة منتظمة أو خبرة مطردة، وطالما كانت بياناتها وشواهدها منطقية ومتسقة في نموذج مفاهيمي. وتتدعم علميتها مع اختبارها وتقييمها على أرض الواقع ومن خلال الممارسة، وقد تتدعم فيما بعد بجوانب كمية للتوضيح والتعزيز. ومن هنا فإن على العلوم الاجتماعية الإنسانية أن تُعنَى بمعالجة القضايا النوعية والقيمية المستمدة من الخبرة الإنسانية ومجالاتها فيما يستقر بها من الشعور والوعي ومن اللاشعور والحدس دون أن تُنقص عوامل الذاتية من جدوى المعارف المُتوَلدة من مثل هذه المناهج. وفي قضايا التربية والاجتماع وعلم النفس مساحات عريضة لجدوى توظيف تلك المناهج بما فيها من ضبط وتنظيم وقابلية للمراجعة والتفنيد والتطوير".

وفي كتاب إشكالية العلوم الاجتماعية، يُبيِّن الدكتور حسن الساعاتي في مقال بعنوان "إشكالية المنهج في العلوم الاجتماعية" أن علماء الاجتماع الذين تأثَّروا بمناهج الدراسـة والعلـوم الطبيعية يذهـبون إلى "أن العلوم الاجتماعية، وعلى رأسها علم الاجتماع، لا تكوِّن علوماً بمعنى الكلمة، أي دقيقة ومضبوطة النتائج، إلا إذا تَرسَّم علماؤها خطى الباحثين في العلوم الطبيعية التي يرتكز محور التفكير في ظواهرها على التجريب، أي ما يجرونه عليها من تغيير مقصود وبطريقة مرسومة من قبل، مستهدفين أهدافاً معيَّنة يستنتجون منها الحقائق، إذا تكرر استقراؤها من تجارب مماثلة صارت نظريات علمية أو قوانين ثابتة.

"وقد فات هؤلاء العلماء...، وغيرهم ممن قلدوهم في مسارهم الفكري بدون رويّة واستبصار، أن الظواهر الاجتماعيـة تختلف تماماً عن الظواهر الطبيعية التي لا عقل ولا إرادة لعناصرهـا، والتي ينمُّ مظهرها عن مخبرها، لأنها، في رأينا، أحادية النسق، تحكمها كلاًّ أو جزءاً قوانين ونظريات واحدة لا تتبدل. ولذلك نجد أن كلاًّ من الملاحظة الحسية، أي المشاهدة، والملاحظة العقليـة، أي التأمل والاسـتبصار، وجميع خطوات التجريب التي تُجرَى عليها، بوصفها ظواهر طبيعية أحادية النسـق، تستوعبها كلها في جميع مظاهرها، لأن ظاهرها لا يختلف عن باطنها فيشيء، حتى إنه ليدل عليه دلالة تامة، لما بين الظاهر والباطن من ارتباط عضوي شامل متكامل.

"أما الظواهر الاجتماعية فتختلف عن الظواهر الطبيعية في أنها، بوصفها ظواهر عنصرها الأساسي الإنسان الاجتماعي العاقل ذو الإرادة، الذي يعيش مُعاشراً لغيره من البشر ومرتبطاً بهم بشتى العلاقات الاجتماعية، نقول تختلف في أنها ثنائية النسق. فكما أن للإنسان جوانية وبرانية، فهي بالمثل ذات نسقين، أحدهما جواني أي باطن، والآخر براني أي ظاهر. ومادامت كذلك، فإن البحث فيها ينقسم إلى قسمين: أحدهما يُعنَى بالنسق البراني، أي بما يتبدَّى من الظاهرة الاجتماعية للحواس فتدركه وتتعقله، والآخر يُركِّز على النسق الجواني الخفي منها، الذي يُعدُّ غرفةعمليات للنسق البراني، ليستجلبه ويدركه ويتعقله".

إشكالية الموضوعية والذاتية: مقدمة

تترجم الإشكاليات السابقة نفسها إلى إشكالية الموضوعي والذاتي، فإذا كان الإنسان كياناً طبيعياً مادياً فبالإمكان رصده بشكل مادي براني وكأنه شيء بين الأشياء،وهو شيء لا تفرُّد فيه ومن ثم يمكن رده باعتباره جزءاً إلى الكل الطبيعي/المادي يسري عليه ما يسري على الكائنات المادية الأخرى، ومن ثم لا يوجد فارق بين الجزء الإنساني والكل الطبيعي/المادي، فتمحي كل الثنائيات وتُرد كل الظواهر إلى مبدأ (مادي) واحد وننتهي في الواحدية الموضوعية المادية. أما إذا كان الإنسان كياناً مركباً يحوي عناصر مادية تُرد إلى عالم الطبيعة/المادة وعناصر غير مادية، فالرصد البراني، الموضوعي المادي، يصبح غير كاف، ويصبح كل إنسان فرد كيانه مستقل عن الكل، ولا يسقط الإنسان في قبضة الواحدية الموضوعية المادية.

وليام ديلتاى (1833 – 1911(

عالم اجتماع ألماني، كان قليل الكتابة، ويعود إسهامه الأساسي في محاولته التنبيه إلى أن ثمة فارقاً جوهرياً بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة الإنسانية. وقد أكد ديلتاي أن معرفة الإنسان من خلال الملاحظة البرانية وتبادل المعلومات الموضوعية المادية عنه أمر غير ممكن، فهو كائن ذو قصد، أي أن سلوكه تحدده دوافع إنسانية جوانية (معنى ـ ضمير ـ إحساس بالذنب ـ رموز ـ ذكريات الطفولة ـ تأمل في العقل) يصعب شرحها وشرح أسبابها. والإنسان لا يعيش منعزلاً وإنما يتفاعل مع الآخرين وتتحدد تجربته الشخصية من خلال هذا التفاعل. ولكل هذا، لا يمكننا أن نشرح الإنسان وسلوكه بشكل براني أو نخضعه للتجريب.

ولكن ديلتاي يشير إلى حقيقة أساسية وهي أننا قد لا نعرف العقل البشري بنفس الدرجة أو الطريقة التي تُعرَف بها الأشياء ولكن هناك مناهج أخرى غير مناهج العلوم الطبيعية. فالعلوم الطبيعية لا تنفذ إلى كينونة الأشياء والعمليات الفيزيائية، أما الجوهر الإنساني فيمكننا الوصول إليه مباشرةً من خلال تَفهُّم ومعايشة تجربة الآخر والتعاطف معها وتخيلها وفهم المعنى الذي يسقطه الفاعل الإنساني على فعله.

كما أن ثمة ثنائية جوهرية تبين الفرق بين الإنساني والطبيعي وبين مناهج العلوم الاجتماعية ومناهج العلوم الطبيعية، وهي ثنائية تتبدَّى في قول دلتاي ليس بإمكاننا أن نشرح الإنسان وإنما نحن نشرح الطبيعة بطريقة برانية ونفهم أو نتفهم (فرشتيهن) الإنسان، أي نُفسِّره بطريقة اجتهادية جوانية.

الهرمنيوطيقا

«هرمنيوطيقا» من الكلمة اليونانية «هرمنويين hermeneuin» بمعنى «يُفسِّر» أو «يُوضح». والفعل مشتق من كلمة «هرمنيوس» وهي كلمة مجهولة الأصل وإن كان يُقال إنها تعود إلى الإله هرميس رسول الإله زيوس. وفي اللاهوت المسيحي، تشير الكلمة إلى ذلك الجزء من الدراسات اللاهوتية المَعْنيِّ بتأويل النصوص الدينية بطريقة خيالية ورمزية تبعد عن المعنى الحرفي والسطحي المباشر وتحاول اكتشاف المعاني الحقيقية والخفية للنصوص المقدَّسة (وخاصةً الإنجيل) والقواعد التي تحكم التفرُّد المشروع للنص المقدَّس. وقد استخدم هايدجر هذا المصطلح ليشير إلى أن دراسته في طبيعة الوجود الإنساني هي دراسة ميتافيزيقية (أي هرمنيوطيقية(.

والكلمة، في الوقت الحاضر، تعني محاولة فهم العالم لا باعتباره نظاماً ميتافيزيقياً وإنما باعتباره موضوع الفكر والعقل الإنساني وباعتباره تجربة معاشة (بالألمانية: ليبنزفلت Lebenswelt، أي عالم الحياة) كما أصبحت مرتبطة بالمعنى العميق (والروحي) للنصوص وتَميُّز الظاهرة الإنسانية عن الظواهر الطبيعية.

وقد قام ديلتاي بنقل المصطلح من اللاهوت إلى الفلسفة ثم إلى العلوم الإنسانية. واستخدمه للإشارة إلى المناهج الخاصة بالبحث في المؤسسات الإنسانية والسلوك الإنساني باعتباره سلوكاً تحدده دوافع إنسانية جوانية يَصعُب شرحها عن طريق مناهج العلوم الطبيعية. ومن ثم، فإن الهرمنيوطيقا لا تتناول فقط المعطيات الخام للحواس وإنما تحاول فهم معناها الداخلي. وأصبحت الهرمنيوطيقا بالنسبة لبعض العلماء هي الطريقة الوحيدة الممكنة لقراءة النصوص الدينية والشعرية والتاريخية والفلسفية وأي نص يتحدث عن الإنسان.

والأطروحات الأساسية للهرمنيوطيقا هي (كما لخصها ديلتاي(:

1 ـ التفسير العلمي ليس هو الشكل الوحيد للتفسير. فالتفسير العلمي ينظر للإنسان باعتباره كياناً عضوياً تحركه الدوافع الفيزيقية، بينما يُفترَض أن ننظر إليه باعتبار أن له دوافع داخلية وقيماً.

2 ـ إننا نفهم العالم الإنساني من خلال طرح أسئلة عليه. ويتحدد كل سؤال، من ناحية الشكل والمضمون، بمقدار الاهتمام الكامن وراءه.

3 ـ السؤال ذاته يمثل تفسيراً جزئياً للظاهرة موضع السؤال.

ومن هذه الأطروحات، يظهر ما يُسمَّى «الدائرة الهرمنيوطيقية»:

1 ـ لا يمكن أن نفهم أجزاء أية وحدة أو أن نتعامل معها إلا وعندنا إدراك مسبق بالمعنى الكلي، لكننا في الوقت نفسه لا نستطيع معرفة المعنى الكلي إلا من خلال معرفة معاني أجزائه.

2 ـ ويمكن طرح القضية بطريقة أخرى فنقول: إن التفسير لا يمكن أن يكون إلا بعد أن يبدأ التفسير، فالعالم لا يوجد كموضوع لوعينا إلا من خلال اللغة.

ودائرة الهرمنيوطيقا ليست حلقة مفرغة، إذ أن فهمنا يتعمق من خلال عملية حلزونية تبدأ بالإحساس بالمعنى الكلي، ثم ندرس المكونات الجزئية في ضوء المعنى الكلي فيتعمق المعنى الكلي من خلال معرفة معنى الأجزاء، ثم نعود للأجزاء مرة أخرى... وهكذا.

الشرح والتفسير (فرشتيهن(

أصبحت كلمة «يشرح» تعني «يشرح تماماً» أو «يُزيل اللبس تماماً». بل أصبحت لها أبعاد تفكيكية، فهي تعني «تعريف أسباب الظاهرة وردها إلى مبدأ عام واحد أو عدة مبادئ». كما أنها قد تعني «يفضح» أو «ينزع السـر عن». وهـذه الأبعاد ليست واضحة في اللغة العربية بالقدر الكافي، إلا أنها أكثر وضوحاً في اللغة الإنجليزية. فكلمة «يشرح» باللغة الإنجليزية هي «إكسبلين explain» من الفعل اللاتيني «إكسبلاناري explanare» بمعنى «يُسطِّح الشيء» أو «يسويّه» أو «يجعله مستوياً» (كلمة «بلين plane» الإنجليزية تعني «السطح المستوي»). هذا على عكس فعل «إنتربريت interpret» (من الفعل اللاتيني «إنتربريتاري interpretari» وهو يعني «يُفاوض»). ففعل «إنتربريت» يعني «يُبرز المعنى الكامن ويوضحه» و«يؤول النص» و«يعطي تفسيراً للموضوع» و«يترجم» أو «يقوم بدور المترجم»، ومن الواضح أن كلمة «يشرح» تدور في إطار المرجعية الموضوعية: يُسطِّح وىُسوِّي حتى يستوي مع معيارية برانية، أما كلمة «يُفسِّر»، فهي لا تنفي الأبعاد الذاتية الاجتهادية لعملية الإدراك.

وهذا التداخل بين التفسير (بمعنى الاجتهاد في فهم الظاهرة وجعلها مفهومة إلى حدٍّ ما من خلال التعاطف معها وفهمها أو تفهمها من الداخل) والشرح (بمعنى إدخال الظاهرة في شبكة السببية الصلبة المطلقة والقوانين الطبيعية وكشف العلاقة الموضوعية بين السبب والنتيجة) يعود إلى أن العلوم الطبيعية والرياضة بنماذجها الواحدية الموضوعية المادية تلقي بظـلالها الكثيفة على العلوم الإنسانية. فالاستنباط (العقلاني) هو منهج العلوم الرياضية، والاستقراء (التجريبي) هو منهج العلوم الطبيعية، وكلاهمـا يحاول أن يصل إلى درجة عاليـة من الدقة والعموميـة في نتائجه. ومن ثم، يحاول بعض علماء الدراسات الإنسـانية تبني المناهج السـائدة في العلوم الطبيعية والرياضية (العلوم الدقيقة!) ويحاولون تفسير الظواهر الاجتماعية والإنسانية تماماً مثلما تُفسَّر الظواهر الطبيعية بطريقة كمية، فيتبنون نماذج رصد موضوعية واحدية مادية تُسقط الأبعاد الجوانية والخاصة والكيفية للظاهرة الإنسانية وتُهمل الدوافع والوعي والقيمة تماماً، ثم تُرَدُّ الظاهرة في كل تفاصيلها إلى قانون أو مبدأ عام واحد، وتُزال كل المسافات والثغرات والثنائيات والخصوصيات حتى نصل إلى ما يُتصوَّر أنه التفسير الموضوعي الكامل أو شبه الكامل للظاهرة، أي أن دراسة سلوك الإنسان لا يختلف عن دراسة سلوك اليرقات فكلاهما يُدرَس من خلال سلوكه البراني وحركته الخاصة (ومع هذا، ينبغي الإشارة إلى أن العلوم الطبيعية نفسها قد انسلخت عن هذه الرؤية وأصبحت أكثر احتمالية في رؤيتها، كما أنها أخذت بالتدريج تكوِّن لنفسـها عالماً خاصاً بها مؤلفاً من كيانات عقلية ورياضية لا تسـتطيع أن تجد لها وجوداً في عالم الظواهر. ويبدو أن الفرض العلمي، الذي كان يمثل الخطوة الثانية التي تلي خطوة الملاحظة والتجربة والذي كان يشير إلى مُدرَكات حسية، أصبح في المنهج العلمي المعاصر فرضاً صورياً لا يشير إلى مدركات حسية ويأتي سابقاً على الملاحظة والتجربة. لكن الفرض العلمي لم يعد تعميقاً لوقائع تجريبية ـ كما كان شائعاً في الماضي ـ وإنما هو نتاج العبقرية العلمية الخلاقة التي تأتي به بأية طريقة أو بأي منهج. وما يهم في الفرض العلمي مدى مقدرته على أن تجعل هذا العالم مفهوماً ومعقولاً، أي أن الحاجة إلى حقائق صلبة أو سببية صلبة لم تَعُد موجودة).

وفي العالم الغربي، اكتشف كثير من العلماء سذاجة بل تفاهة الرؤية التجريبية والوضعية (الواحدية الموضوعية المادية) التي تصر على الحقائق الصلبة وعلى السببية الصلبة والمطلقة والتي ذهبت إلى أن قوانين التاريخ والمجتمع الإنسانيين تشبه قوانين الطبيعة (بالمعنى الساذج لفكرة القانون العلمي) وحاولت اكتشاف هذه القوانين وصياغتها بطريقة "علمية" دقيقة كمية، وأصر هؤلاء العلماء الذين رفضوا مثل هذه الرؤية الساذجة على ضرورة التمييز بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية وعلى ضرورة رفض فكرة وحدة (أي واحدية) العلوم. ومن مظاهر هذه الثورة محاولة التمييز بين الشرح من جهة والفهم (بمعنى «التفهم» و«التفسير الاجتهادي») من جهة أخرى.

وقد بدأ استخدام الفعل الألماني «فرشتيهن verstehen» بمعنى «يفهم» أو «يتفهم» مقابل «إركليرين erklaren» بمعنى «يشرح من خلال ملاحظة الحوادث وربطها بالحوادث الأخرى حسب القوانين الطبيعية»، وذلك لوصف عملية فهم السلوك الإنساني المركب من خلال التعاطف وإدراك الدوافع الإنسانية الجوانية (مقابل شرح الأسـباب البرانية). وقد اسـتخدم هذا المصطلح كلٌّ من فلـهلم ديلتاي وجـورج زيميل وكارل ياسبرز وماكس فيبر وآخرون. وقال ياسبرز: "إن الحياة النفسية [الإنسانية] لا يمكن دراستها من الخارج، كما أن الحقائق الطبيعية لا يمكن دراستها من الداخل. الأولى يمكن فهمها من خلال النفاذ النفسي، أما الثانية فيمكن شرحها من خلال دراسة العلاقة الموضوعية المادية". وقارن ياسبرز بين دراسة حَجَر يَسقُط من عل (من جهة) ودراسة علاقة تجارب الإنسان في طفولته ببعض الأمراض النفسية في شبابه وشيخوخته (من جهة أخرى)، فالأول لا يمكن أن نراه إلا بشكل براني (في إطار قانون الجاذبية)، أما الثاني فيتطلب عمليات فكرية وعقلية أكثر تركيباً.

ولكن المصطلح ارتبط أساساً باسم ماكس فيبر. فقد بيَّن فيبر الفرق بين الرصد الموضوعي المتلقي المادي وعمليات التفسير الاجتهادية حين قال إن دراسة حظيرة الدجاج أمر جدُّ مختلف عن دراسة المجتمع الإنساني، فعلم اجتماع الدجاج لن يدرس سوى أنماط سلوكية متكررة من الخارج يمكن فهمها في إطار المثير المادي والاستجابة السلوكية. ونحن لا نعرف شيئاً عن العالم الجواني للدجاج وعواطفه وأفكاره وتأملاته إن كان هناك مثل هذا العالم. أما في حالة المجتمع الإنساني، فنحن مزودون بقدر كبير من المعرفة عن العالم الجواني للإنسان (نتوصل إليه من خلال معرفتنا لذواتنا ومن خلال ألفتنا للطبيعة البشرية) وعن الدوافع الداخلية المركبة وعالم المعنى الذي ينبع منه السلوك الإنساني. ولذا، إذا كان من الممكن شرح سلوك الدجاج في إطار شبكة السببية الصلبة المطلقة ومن خلال الملاحظة البرانية المباشرة، فلن يكون هذا كافياً بالنسبة للبشر. والمحاولة الوضعية السلوكية لوصف عالم الإنسان من خلال سلوكه البراني محكوم عليها بالفشل ومحكوم عليها بأن تظل سطحية تافهة، فهي بإصرارها على ضرورة الشرح البراني الموضوعي ستستبعد قضايا إنسانية أساسية مثل انشغال الإنسان بمصيره وتجربته في الكون وإحساسه بالاغتراب. ولكن هذا لا يعني أن السلوك الإنساني لا يخضع لأية سببية وإنما يعني أن الرصد البراني لا يكفي، والمطلوب هو عملية تفسير لا تدور في إطار الواحدية الموضوعيةالمادية وتسعى إلى الفهم العميق من خلال التعاطف المستمر والإدراك المبدع لتركيبية الدوافع الإنسانية وغموضها.

التحول عن التنظير المركب إلى الممارسة الاختزالية

هناك وعي محدد بقضية الفرق بين الطبيعي والإنساني واستقلال الحيز الإنساني عن الحيز الطبيعي في العالم العربي (كما أسلفنا)، ولكننا مع هذا نجد أن النموذج الاختزالي المعلوماتي التراكمي (الواحدي الموضوعي المادي) الذي لا يُفرِّق بين الظاهرة الطبيعية البسيطة والظاهرة الإنسانية المركبة يهيمن على الدراسات والبحوث في جامعاتنا ومراكزنا البحثية بل يكتسحها تماماً. وأعتقد أن ما يحدث هو أنه رغم وجود الوعي النظري بالاختلاف الجوهري بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية إلا أنه لا يتم تفعيله ولا ينتقل إلى مستوى الممارسة البحثية نفسها. وأعتقد أن كثيراً من الباحثين يتخلون عن وعيهم هذا ويَسقُطون في الممارسة الاختزالية التي لا تُفرِّق بين الطبيعي البسيط والإنساني المركب.

وعادةً ما يحدث هذا في مرحلة صياغة الفروض. وقد عُرِّف الفَرْض العلمي بأنه منطوق أو مقولة أو تقرير مبدئي لما نعتقد أنه علاقة بين متغيرين أو أكثر، ويعكس الفرض تكهنات الباحث بالنسبة لنتائج البحث المرتقبة. ويَتبنَّى الباحث الفرض بشكل مؤقت حتى يتحقق صدقُه أو كَذبه عن طريق الملاحظة والتجريب. ويقوم الفرض بتوجيه الباحث إلى المعلومات والبيانات التي يتعين جمعها وهو ما يوفر كثيراً من الوقت والجهـد كان يمكن أن ينفقه في الحصـول على بيانات محـدودة أو عديمة القيمة تتصل بالمشكلة قيد الدراسـة. فمن الواضح أن مرحلة صياغة الفروض هي من أهم مراحل البحث إن لم تكن أهمها. ولكنها، بدلاً من أن تكون المرحلة التي يبدأ الباحث فيها عملية التفكيك والتركيب بشكل مُتعمِّق وبلورة الإشكالية التي سيتناولها، أصبحت (في كثير من الأحيان) المرحلة التي يَتبنَّى فيها الباحث النماذج الاختزالية الواحدية المادية التي تقتل الواقع الإنساني وتميته وتقضي على أبعاده المركبة وتقذف بالباحث في براثن النماذج المعلوماتية التراكميةوالموضوعية المتلقية.

وقد صدرت بعض الدراسات التي تُميِّز بين الظواهر الطبيعية والإنسانية بحماس شديد وبراديكالية صارمة على المسـتوى النظري. ومع هـذا، حينما وصلت هذه الدراسـات إلى قضـية الفـروض، وصفتها في عبارات مثل:

ـ كلما كانت الفروض واضحة، ساعد ذلك الباحث على دقة تحديد أهداف البحث وحسن اختيار عينة البحث وأسلوبه وأدواته.

ـ يجب أن تُصاغ الفروض في كلمات بسيطة كلما أمكن.

ـ يجب أن تكون الفروض محدَّدة في منظورها لا واسعة عريضة.

ـ يجب أن تكون الفروض متمشية مع معظم الحقائق المعروفة السابقة التي ثبت صدقها أو صحتها.

ولابد أن نقرر أن الأمثلة السابقة حالة متطرفة من الاختزالية ولكنها حالة متطرفة ممثِّلة. وما يهمنا تقريره هنا أن النموذج المهيمن في مرحلة صياغة الفروض هو عادةً نموذج اختزالي يستبعد الإنسان كإنسان ويحدد ويُشيِّئ الظاهرة الإنسانية ليجعلها تشبه الظاهرة الطبيعية في بساطتها وبرانيتها، وهو ما يخلق لدى الباحث وهماً مفاده أن الظاهرة الإنسانية يمكن رصدها بشكل براني، عن طريق مراكمة المعلومات التي تتوافر عنها.

بل يمكننا القول بأن العلوم الإنسانية في بلادنا أصبحت تعيش في ظلال النماذج المستمدة من العلوم الطبيعية باعتبارها نماذج بسيطة وواضحة ودقيقة، وأصبح الطموح الخفي للعلوم الإنسانية أن تصبح في بساطة ووضوح ودقة وموضوعية العلوم الطبيعية مما يعني افتراض أن الإنسان ظاهرة طبيعية وأنه جزء لا يتجزأ منها، مما يعني ضمور بل اختفاء الحيز الإنساني (وعلى العكس من هذا نجد أن افتراض انفصال الإنسان عن الطبيعة هو تأكيد للتركيب على حساب البساطة،وللكيف على حساب الكم، وللعمق على حساب الوضوح والدقة).

ومما ساعد على هذا الاتجاه نحو «تطبيع» الظاهرة الإنسانية (أي النظر إليها كما لو كانت ظاهرة طبيعية) اتساع قاعدة المعلومات وما يُسمَّى «ثورة المعلومات» أو "انفجارها". فإذا كان على الأستاذ الجامعي (أو المؤلف) أن يقرأ عشرات الكتب والحوليات ويحضر عشرات المؤتمرات ويشرف على عشرات المشاريع البحثية والرسائل الجامعية، فلابد أن يفضل التعامل مع المسلماتالبسيطة الواضحة والدقيقة فمعالجتها أمر سهل، وتقبُّلها أمر حتمي، أما مناقشتها واختبارها فأمر يحتاج جهداً مركباً ووقتاً طويلاً. والخطاب التحليلي لنفس الأستاذ لابد أن يتسم بنفس البساطة والوضوح والدقة، والرسائل التي يناقشها لابد أن تتسم بالخصائص نفسها حتى يتمكن خط التجميع الأكاديمي من أن يستمر في السير وأن تستمر آلة المؤتمرات في الدوران. ولذا فكثيراً ما تُعزَل الفرضية عما حولها حتى يمكن "معالجتها" في رسالة أو كتاب. ويتحول الفكر إلى مجموعة أفكار متراصة، وكأن كل فكرة ليست سوى شيء لا يربطه رابط بالأفكار الأخرى، وكأنها ليست جزءاً من رؤية للكون.

إن النموذج الفعال، الذي يُستخدَم أثناء صياغة الفروض في الرسائل الجامعية وفي عملية التأليف، يعيش في ظلال النماذج المستقاه من العلوم الطبيعية، ولذا نجده لا يُفرِّق في كثير من الأحيان بين مناهج البحث في العلوم الطبيعية وفي العلوم الإنسانية، ولا بين الظواهر الطبيعة والظواهر الإنسانية. وحيث إن النموذج الفعال مستبطن بشكل غير واع فإنه لا يُعلن عن نفسه بصراحة إلا في حالات نادرة (وعلى كل، من يجرؤ أن يصرح بالقول بأن الإنسان والشيء لا فرق بينهما؟) إلا أنه مع هذا يتبدَّى من خلال مجموعة من الافتراضات والآراء والاختيارات. فيُلاحَظ على سبيل المثال أن ثمة إيماناً في حقل العلوم الإنسانية بأن هناك معنى واحداً نهائياً صائباً ننجح في الاقتراب منه إن تحلينا بالموضوعية والحياد. ويسود الاعتقاد بأن المعرفة سلسلة مترابطة الحلقات كل حلقة تؤدي إلى التي تليها، ولا يمكن تَخطِّي الحلقات المتجاورة لأن سلسلة المعرفة ـ حسب هذا التصوُّر ـ سلسلة تراكمية صلبة (تماماً كما هو الحال في حقل العلوم الطبيعية)، ومفهوم السببية الذي يسود فيها هو بنفس الصلابة. وتأخذ عملية التأليف من ثم شكل إضافة معلومات الواحدة للأخرى ومراكمتها، ويصبح التأليف هو إجراء تجارب في إطار النظرية العامة السائدة حتى نزداد اقتراباً من الحقيقة الواحدة (التي تعادل القانون الطبيعي أو الرياضي في العلوم الطبيعية).

ويتبدَّى هذا النموذج الفعال في اقتراحات الرسائل الجامعية في حقل العلوم الإنسانية. أذكر في الماضي (أي حتى أواخر الستينيات) حينما كان طالب الماجستير أو الدكتوراه يسجل موضوع بحثه كان يكتفي باختيار عنوان الموضوع (أي الإشكالية التي سيتناولها الباحث) في سطر أو سطرين، ويُترَك بعد ذلك هو وأستاذه، فالمسألة "بحث" والبحث لابد أن يكون منفتحاً، ولابد أن يؤدي إلى تحولات فكرية. أما الآن مع افتراض إجراء التجربة في إطار النظرية العامة السائدة، ومع افتراض فكرة التراكم المعلوماتي، فإن مشروع الرسالة يصل أحياناً إلى ستين صفحة حيث يذكر الباحث كل ما سيقوله مسـبقاً، وكل المراجـع بل فصول البحث. ولكن إذا كان "الباحث" يعرف ما سيقول، فلماذا يكتب الرسالة إذن؟

وانطلاقاً من نفس التصور التراكمي والطموح نحو البساطة والوضوح والدقة والموضوعية والإيمان بوجود معنى واحد نهائي صائب (يشبه القانون العام في العلوم الطبيعية)، أصبح من الأمور الشائعة الآن في حقل الدراسات العليا في العلوم الإنسانية أن يتقدم الطالب باقتراح لكتابة دراسة عن "الفكر التربوي للشيخ محمد عبده"، على سبيل المثال، فيُقال له "إن هذا الموضوع قد دُرس من قبل" وأنه "تمت تغطيته". والافتراض هنا أن الدراسة تغطي موضوعاً (الفكر التربوي للشيخ محمد عبده بشكل عام)، لا إشكالية أو إشكاليات محددة (علاقة فكر الشيخ محمد عبده التربوي بفكره الديني ـ التناقضات بينهما، إن كان ثمة تناقضات ـ علاقة فكر الشيخ محمد عبده التربوي بفكر من سبقه من المفكرين ومن أتوا بعده ـ علاقة فكره السياسي بفكره التربوي). وإذا كان موضوع الرسالة هو موضوع بشكل عام (وليس إشكاليات محددة) يرصد بشكل موضوعي براني، فمن المنطقي أن يتحول كاتب الرسالة إلى عامل أرشيف ومن ثم يمكن أن يُقال له: "إن هذا الموضوع قد دُرس من قبل وتمت تغطيته"، بمعنى أن المعلومات الخاصة بهذا الموضوع تم جمعها، تماماً مثلما تُجمَع المعلومات البرانية عن إحدى الكائنات (وهي ـ في واقع الأمر ـ مرحلة دنيا من مراحل الدراسة في العلوم الطبيعية، لابد أن تعقبها مرحلة ربط المعلومات بعضها ببعض ثم التعميم منها، وهي عمليات عقلية تتطلب قدراً عالياً من الخيال والمقدرة على التجريد).

هذا الموقف يستبعد بطبيعة الحال الذات المركبة المُدركة المتفاعلة مع الموضوع التي تصوغ الإشكالية المحددة ويستبعد فكرة أن التساؤلات التي يطرحها باحث ما في العلوم الإنسانية، يحملأعباءه النفسية والفلسفية الخاصة، لابد أن تكون مختلفة عن تلك التي يثيرها باحث آخر يحمل أعباء نفسية وفلسفية أخرى، وأن اختلاف التساؤلات لابد أن يؤدي إلى اختلاف النتائج. كما يعني هذا الموقف تجاه البحث والتأليف إنكار إمكانية التحولات الفكرية أثناء عملية البحث بسبب تركيبية الإنسان وتركيبية الظاهرة. ولذا انتهى الأمر بأن أصبحت عملية البحث والتأليف في العلوم الإنسانية هي مجرد إجراء تجارب في إطار النظرية والفروض العامة السائدة، وظهر ولع غير طبيعي بالأرقام والإحصاءات والجداول والرسوم البيانية، وأصبح الاستبيان سبيل الوصول إلى الدقة المزعومة والتوصل إلى الحقيقة الواحدة. وفي نهاية الأمر أصبح التأليف، عند الكثيرين، هو التوثيق: توثيق شيء معروف مسبقاً أو تطبيق لنظرية (ثبت صدقها تماماً) على جزئية ما دون أن تثمر عملية التطبيق الجديدة أي تعديل للنظرية أو اكتشاف للمنحى الخاص للظواهر موضع الدراسة، وهو ما أسميه التوثيق الأفقي: أن يأخذ الباحث مقولة معروفة مسـتقرة ويوثقها من كتب أخرى دون إبـداع أو تسـاؤل، كأن يثبت الباحث بما لا يقبل الشك أن الصهيونية حركة عنصرية، وأن الرومانتيكية عودة للطبيعة والعواطف، وأن مصر هبة النيل، وأن حافظ إبراهيم شاعر الوطنية!

وقد أصبح كثير من البحوث الأكاديمية التي يُقال لها «علمية»، والتي يتقدم أصحابها من أساتذة الجامعة للترقية، ويحصلون عليها في معظم الأحيان، ليست إلا إعادة ترتيب لبعض الحقائق التي وردت في دراسات سابقة أو ربما اكتشاف حقيقة جديدة لا علاقة لها بنموذج أو نمط (وكأن الباحث مُخبر أو شرلوك هولمز)، بحيث أصبح البحث العلمي مثل الكائن الطفيلي الذي يعيش على البحوث المنشورة أو مثل الطائر الجارح الذي ينقض على فريسته إن غفل الآخرون عنها. وأصبحت معايير الترقية مسألة كمية مثل: عدد المراجع ـ تاريخ نشرها ـ عدد اللغات التي كُتب بها ـ هل هي من آخر المراجع... إلخ، وهي كلها تنم عن أن كثيراً من أساتذة الجامعة (من المتقدمين للترقيات وممن يقومون بمنحها) يدورون في هذا الإطار العقيم. وأصبحت الرسائل الجامعية دراسات في موضوعات عامة مثل "تاريخ ليبيا في النصف الأول من القرن العشرين" أو "المدرسة الطبيعية في الأدبين الإنجليزي والفرنسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر". وتصبح القضية لبحث الطالب عن موضوع "لم يكتب عنه أحد من قبل". وحينما يختار "الموضوع" يقف الطالب مدهوشاً في حيرة من أمره لا يدري ماذا يفعل وأين يبدأ وأين ينتهي. ولكن عادةً ما يتم التغلب على هذه الحيرة عن طريق صيغة نمطية محددة: تحديد عدد الصفحات ـ كتابة فصل عن حياة الكاتب ـ فصل آخر عن خلفيته ـ فصل ثالث عن أفكاره ـ فصل رابع عن أعماله الأولى ـ فصل خامس عن أعماله في شبابه، وهكذا. وتبدأ الآلة في الدوران وفي مراكمة المعلومات ولا تتوقف إلا حينما يشعر الأستاذ أن الدارس قد أُنهك بما فيه الكفاية وجمع من المعلومات الكثير. ولابد أن تأتي الإشارة من الأستاذ لأن مثل هذه الدراسة لا يمكن أن تكون لها نهاية، فهي ليست لها بداية بسبب افتقار الإشكالية وعدم وجود أسئلة محددة. ثم تأتي بعد ذلك مرحلة مناقشة الرسالة والتي لا تختلف عادةً في منهجها عن المنهج المتبع في كتابتها (وذاك الشبل من ذاك الأسد)،فالمناقشات تدور في الغالب حول حصر آخر المراجع وآخر المعلومات وكم المعلومات. و"النقد الموضوعي" يأخذ شكل نقد معلوماتي كميّ، إذ يُحصي الأستاذ المناقش الأخـطاء المطـبعية والمعلوماتية التي وقع فيها الكاتب والمَرَاجع التي لم يَطلِّع عليها، أما وجود أو غياب الإشكالية، أما العملية الإبداعية الأساسية، عملية التفكيك والتركيب، فهذه أمور تُترَك وشأنها وكأنها أمر ثانوي لا أهمية له.

وغني عن القول أن مناهجنا التعليمية تَصدُر عن فلسفة تراكمية ذرية مماثلة فكتبنا الدراسية تركز على المعلومات وكمها، لا على طريقة تصنيفها والربط بينها والتعميم منها وتفسيرها ونقدها، والهدف من العملية التربوية هو تلقين الطالب حشداً هائلاً من المعلومات (معلومة بجوار معلومة، درساً بعد درس) فيبرز متوسطو الذكاء الذين لا يتمتعون إلا بموهبة الحفظ والتكرار والاجترار، وتفقد الأجيال مقدرتها على التفسير والإبداع والنقد.

ويصل النظام التربوي إلى قمته أو هوته في ظاهرة الدروس الخصوصية، حيث تصبح الكفاءة الأساسية هي الكفاءة في تلقِّي الحقائق البسيطة الواضحة الدقيقة. وعلى مستوى الجامعة يقوم الأستاذ بإملاء محاضراته فيدوِّنها الطلبة بكفاءة عالية، ثم تتطور الأمور فيطبع الأساتذة محاضراتهم فيما يُسمَّى «المذكرات الجامعية» فيقوم الطلبة بحفظها ويقوم الأساتذة بجَمْع "فائض القيمة". وتدور العملية التربوية بأسرها حول الامتحانات: أي كفاءة تلقِّي الحقائق البسيطة الواضحة الدقيقة وكفاءة كتابتها في بساطة ووضوح ودقة في ورقة الامتحانات في أسرع وقت! وتدريجياً تصبح القضية التربوية الأساسية هي الأرباح التي يتقاضاها المدرسون عن دروسهم الخصوصية والأساتذة عن مذكراتهم الجامعية. ويطالب بعض "المصلحين" بضرب هذه العملية الاستغلالية عن طريق تنظيم مجموعات في المدارس وعن طريق دعم الكتاب الجامعي، ويسقط الجميع في الموضوعية المتلقية حيث يصبح المعلم شيئاً مسيطراً ويصبح الطالب شيئاً مذعناً، ويتحرك الجميع داخل إطار جامد لا يؤدي إلى أية تحولات فكرية أو إثراء فكري أو معرفة جديدة، فما يُعرَف هو عادةً مجموعة من الحقائق المتناثرة (البسيطة الواضحة الدقيقة) التي ينساها الطالب بعد الامتحان ويصبح عقله مرة أخرى صفحة بيضاء من غير سوء، ويضمر الإبداع وتضيع الحقيقة. ولحسن الحظ فإن كثيراً من الباحثين الأذكياء يفلتون من قبضة هذه النماذج، ولكن هناك العديد أيضاً ممن يسقطون صرعى لها، فيسقطون الإبداع والخيال والمقدرة على التفكيك والتركيب ويراكمون المعلومات بشكل موضوعي متلق، محايد بارد. وترتبط هذه القضية ارتباطاً وثيقاً بمشكلةالموضوعية والذاتية في العلوم الإنسانية.

المـوضـوع

«الموضوع» بالإنجليزية «أوبجيكت object» من الفعل اللاتيني «أوبجيكتاري objcetare»، ومعناه «يُعارض» أو «يُلقي أمام»، المشتق من فعل «جاكري jacere» بمعنى «يلقي بـ»، و«أوب ob» بمعنى «ضد». و«الموضوع» هو الشيء الموجود في العالم الخارجي وكل ما يُدرَك بالحس ويخضع للتجربة وله خارجيته وشيئيته، وكل ما هو مستقل عن الإرادة ويوجد خارجالوعي الإنساني مستقلاً عن رغائبنا وآرائنا. والموضوع ينطوي على طبيعته وحقيقته، ووجوده ليس رهناً بمعرفته ولا بتسميته. وعادةً ما يجري تصوُّر الموضوع على أنه ثابت مستقر. ويمكن القول بأن «الموضوع» في الفلسفات التي يمكن تصنيفها على أنها «موضوعية» هو الركيزة الأساسية للعالم، وهو المطلق الموجود بذاته، وهو الكل المركب المتجاوز للأجزاء، فليس له سبب متقدم عليه ولا فاعل ولا صورة ولا مادة ولا غاية فهو بمقام المحرك الأول.

ويرى البعض أن الذات هي التي تضفي الحقيقة على الموضوع. وعند بعض المفكرين المحدثين، الموضوع هو الفعل وعند الآخرين هو نتائج وآثار الفعل.

وتُستخدَم كلمة «موضوع» للإشارة إلى أي شيء نتحدث عنه وإلى المادة التي يَبني عليها المتكلم أو الكاتب كلامه وإلى مادة البحث، فنقول مثلاً: "موضوع هذا البحث هو كذا". وموضوع العلم هو معطياته ومادته وظواهره وحقائقه. وموضوع القضية (بالإنجليزية: سابجيكت subject) يقابل المحمول (بالإنجليزية: بردكيت predicate)، فهو الذي يُتحدَث عنه ويُحكَم عليه في أي قضية إما إثباتاً أو نفياً.

ونحن نذهب إلى أن الفلسفات العلمانية الشاملة تفترض الطبيعة/المادة كنقطة مرجعية نهائية وكركيزة أساسية، فهو الموضوع النهائي الذي يستوعب كل شيء بما في ذلك الذات الإنسانية. وتشير كلمة «موضوع» في هذه الموسوعة إلى هذا المطلق باعتباره الموضوع النهائي المتجاوز، كما تشير أيضاً إلى أية مجردات ومطلقات مادية لا إنسانية هي في جوهرها تنويع على الطبيعة/المادة ومرجعيتها النهائية واحدية مادية. وهذه المطلقات المادية تتجاوز الإنسان ولا يتجاوزها وتستوعب الإنسان ولا يستوعبها. ونشير إليها أحياناً بتعبير «المطلق العلماني»، فهي مرجعية ذاتها (الدولة القومية ـ السوق/المصنع ـ الدافع الاقتصادي ـ المنفعة ـ اللذة ـ حتمية التاريخ(.

كما نذهب إلى أن المنظومات الحلولية الكمونية، حيث يكون المركز كامناً حالاً في المادة، تنطوي على صراع حاد بين الذات والموضوع، فتتمركز الذات حول نفسها باعتبار أنها هي المركز ولكنها تفقد حدودها وتجد نفسها متمركزة حول الموضوع مذعنة له.

الـــــذات

«الذات» بالإنجليزية «سابجيكت subject» عن نفس أصل كلمة «أوبجيكت object»، وهما من فعل «جاكري jacere» بمعنى «يُلقي». ولكن، بدلاً من «أوب ob» والتي تعني «فوق» التي تضاف لكلمة «أوبجيكت object»، يضاف مقطع «سب sub» بمعنى «تحت» أو «مع». والأصل الإنجليزي يشير إلى حالة الاستقطاب بين الموضوعي والذاتي. والذاتي هو ما يُنسَب إلى الذات، أي ما يتصل بها أو يخضع لها:

1 ـ ذات الشيء هي جوهره وهويته وشخصيته. والذات هي حقيقة الموجود ومقوماته. ويقابله «العَرَض»، أي التبدلات الظاهرة على سطح الأشياء. والذات ثابتة أما الأعراض فمتبدلة.

2 ـ ما به الشعور والتفكير، فتقف الذات على الواقع وتتقبل الرغبات والمطالب وتُوجِد الصور الذهنية وتُقابِل العالم الخارجي (غير موضوعي) الذي يقع خارج نطاق الوعي.

3 ـ العقل أو الأنا أو الفاعل الإنساني المفكر وصاحب الإرادة الحرة أو الكيان الذي يتصف بصفات محدَّدة (الموضوع هو المفعول به(.

4 ـ العقل الديكارتي أو الكانطي الذي يُدرَك العالم الخارجي من خلال مقولاته.

5 ـ صانع التاريخ كفرد أو طبقة (باعتبار أن التاريخ هو الموضوع(.

ونحن نشير في هذه الموسوعة إلى الذات باعتبارها الذات الإنسانية الحرة الفاعلة المسئولة. وفي إطار المنظومة العلمانية العقلانية المادية، يمكن القول بأن الذات الإنسانية ذات طبيعية مادية ليس لها أصول ربانية. ومع أنها لا توجد إلا في الزمان والمكان، فإنها تصر على أنها مركز الكون وأنها ستحقق تجاوزاً لقوانين الطبيعة. ولكنها، لأنها ذات طبيعية، تفقد حدودها وتتفكك ويهيمن الموضوع النهائي على الطبيعة/المادة، وبذا يؤدي التمركز حول الذات (الإنسانية) داخل المنظومة المادية إلى التمركز حول الموضوع (الطبيعة/المادة) وتحل الموضوعية المادية محل الواحدية الذاتية الإنسانية.

إشكالية الموضوعية والذاتية

«الموضوعية» مصدر صناعي من كلمة «موضوع». والموضوعية هي إدراك الأشياء على ما هي عليه دون أن يشوهها نظرة ضيقة أو أهواء أو ميول أو مصالح أو تحيزات أو حب أو كره. ولذا، فإن وُصف شخص بأن "تفكيره موضوعي"، فإن هذا يعني أنه اعتاد أن يجعل أحكامه تستند إلى النظر إلى الحقائق على أساس العقل وبعد معرفة كل الملابسات والظروف والمكونات.

والموضوعية هي الإيمان بأن لموضوعات المعرفة وجوداً مادياً خارجياً في الواقع، وبأن الحقائق يجب أن تظل مستقلة عن قائليها ومدركيها، وبأن ثمة حقائق عامة يمكن التأكد من صدقها أو كذبها، وأن الذهن يستطيع أن يصل إلى إدراك الحقيقة الواقعية القائمة بذاتها (مستقلة عن النفس المُدركة) إدراكاً كاملاً، وأن بوسعه أن يحيط بها بشكل شامل، هذا إن واجه الواقع بدون فرضيات فلسفية أو أهواء مسبقة، فهو بهذه الطريقة يستطيع أن يصل إلى تَصوُّر موضوعي دقيق للواقع يكاد يكون فوتوغرافياً.

وكلمة «الذاتي» تعني «الفردي»، أي ما يخص شخصاً واحداً، فإن وُصف شخص بأن "تفكيره ذاتي" فهذا يعني أنه اعتاد أن يجعل أحكامه مبنية على شعوره وذوقه. ويُطلَق لفظ «ذاتي» توسعاً على ما كان مصدره الفكر لا الواقع، ومنه الأحكام الذاتية (مقابل الأحكام الموضوعية) وهي الأحكام التي تعبِّر عن وجهة نظر صاحبها وشعـوره وذوقه. فمعرفتنا بالواقـع محـدودة تماماً عن طريق خـبرتنا الذاتية الخاصة وتجربتنا الفريدة ووعينا وإدراكنا.

و«الذاتي» في الميتافيزيقا هو رد كل وجود إلى الذات، والاعتداد بالفكر وحده. أما «الموضوعي»، فهو رد كل الوجود إلى الموضوع، المبدأ الواحد المتجاوز للذات. أما في نظرية المعرفة، فإن «الذاتية» تعني أن التفرقة بين الحقيقة والوهم لا تقوم على أساس موضوعي، فهي مجرد اعتبارات ذاتية، وليس ثمة حقيقة مطلقة، أما «الموضوعية» فترى إمكانية التفرقة. وفي عالم الأخلاق، تذهب الذاتية إلى أن مقياس الخير والشر إنما يقوم على اعتبارات شخصية إذ لا تُوجَد معيارية متجاوزة، أما الموضوعية فترى إمكانية التوصل إلى معيارية. وفي عالم الجمال، تذهب الذاتية إلى أن الأحكام الجمالية مسألة ذوق، أما الموضوعية فتحاول أن تصل إلى قواعد عامة يمكن عن طريقها التمييز بين الجميل والقبيح.

ورغم أن هذه التعريفات تبدو سلسة وبسـيطة، ورغم أن التعارض بين الذاتي والموضوعي سلس وواضح، فإن ثمة مفاهيم معرفية كلية نهائية متضمَنة غير واضحة تجيب على الأسئلة الكلية النهائية (ما الإنسان؟ ما العناصـر المكونة له؟ ما علاقة عقلـه بالواقـع؟ ما الهدف من وجـوده؟ أيهما يسـبق وجوده وجـود الآخر ـ الإنسـان أم الطبيعة؟). وسنلاحظ ابتداءً أن هناك أشكالاً كثيرة من الموضوعية (تماماً كما أن هناك أشكالاً كثيرة من العقلانية)، ولكن المرجـعيات عـادةً غير واضحة. فإذا قلنا "فلنكن موضوعيين" أو "فلنُحكِّم العقل" ولم نزد، فنحن نقول في واقع الأمر "فلنكن موضوعيين ولنُحكِّم العقل في إطار المنظومة المعرفية السائدة التي تسبق كلاًّ من الموضوع والعقل". وفي العصر الحديث، نجد أن المنظومة المهيمنة هي المنظومة المادية ونموذج الطبيعة/ المادة حيث لا فرق بين الطبيعة والإنسان. ولذا، فإن عبارة بريئة مثل «فلنكن موضوعيين» تعني في واقع الأمر «فلنتجرد من عواطفنا وذكرياتنا ومنظوماتنا الأخلاقية وتراثنا ولنرصد الواقع الإنساني والطبيعي كما هو»، أي أن كلمة «موضوعية» بشكل مجرد تعني عادةً «الموضوعية المادية» أو «المتلقية» (تماماً كما أن كلمة «عقل» بشكل مجرد تعني «العقل المادي»). وبهذا المعنى، فإن الموضوعية هي، في واقع الأمر، العقلانية المادية في مرحلة التمركز حول الموضوع (لا التمركز حول الذات). وأنها نتاج الرؤية المتمركزة حول الطبيعة/المادة، وعادةً ما تدور في إطار المرجعية المادية الكامنة في الطبيعة/المادة (على عكس الذاتية، فهي نتاج الرؤية المتمركزة حول الذات والإنسان، وعادةً ما تدور في إطار المرجعية المادية الكامنة في الذات).

ويمكن تلخيص الأبعاد الكلية والنهائية (المعرفية) للموضوعية (المادية) بأنها الإيمان بأن العالم (الإنسان والطبيعة) كل متجانس مكتف بذاته. وتبدأ المتتالية النماذجية للموضوعية المادية (شأنها شأن أية منظومة حلولية كمونية مادية) بمرحلة إنسانية ذاتية (واحدية ذاتية ـ تَمركُز حول الذات). ومع تحقُّق المتتالية وبعد مرحلة قصيرة من الثنائية الصلبة تصبح الطبيعة/المادة هي المركز وتهيمن الواحدية الموضوعية المادية (التمركز حول الموضوع) وهذا يعني في واقع الأمر استبعاد الإنسان كعنصر فاعل وتحويله إلى عنصر سلبي متلق، والطبيعة نفسها تتحول إلى كيان بسيط منبسط مُسطَّح يستوعب هذا الإنسان، أي أن ثنائية الإنسان والطبيعة الفضفاضة يتم القضاء عليها لصالح الطبيعة وتسود الواحدية المادية.

وتتبدَّى هذه الأبعاد التفكيكية للموضوعية (المادية) في موقفها من القضايا التالية:

1 ـ عقل الإنسان:

أ) العقل السليم من منظور الرؤية الموضوعية (المادية) إن هو إلا صفحة بيضاء أو سطح شمعي (باللاتينية: تابيولا رازا tabula rasa)، وهو ما يعني أنه مادة محضة، فهو دماغ أو مخ أكثر منه عقلاً (فالعقل مفهوم فلسفي وليس مجرد وجود فسيولوجي).

ب) العقل سلبي بسيط محايد، فهو كالآلة تنطبع عليه المعطيات والمدركات الحسية وتتراكم.

جـ) عقل الإنسان لا متناه في قدرته الاستيعابية والامتصاصية والتسجيلية.

د) العقل السليم يسجل ويمتص ويرصد بحياد شديد دون أن يُشوِّه أو يغيِّر أو يُعدِّل ما يصله من معطيات حسية وحقائق صلبة.

هـ) هذا العقل جزء لا يتجزأ من الطبيعة/المادة، أي أن الحيز الإنساني ليس له وجود مستقل، ولهذا السبب تسري على عقل الإنسان القوانين المادية العامة التي تسري على الأشياء، فهو لا يتمتع بأي استقلال عنها ومن ثم فلا هوية له ولا شخصية ولا حدود (حدوده تتطابق تماماً مع حدود الطبيعة/المادة)، وهو مثل الطبيعة يتحرك في إطار القانون المادي العام ويرى العالم في إطار التشابه والتجانس. وهذا هو المعنى الحقيقي للقول بأن ثمة تقابلاً بين قوانين العقل وقوانين الواقع، وبين الذات والموضوع.

و ) ولهذا السبب نفسه، فإن العقل قادر على التعامل مع العالم الموضوعي الخارجي، أي العالم المحسوس، بكفاءة بالغة، أما حينما يتعامل مع عالم الإنسان الداخلي، فهو أقل كفاءة.

2 ـ الواقع:

أ ) الواقع الموضوعي (الطبيعة) واقع خام بسيط (يأخذ في أغلب الأحوال شكل ذرات متحركة)، وهو مجموعة من الحقائق الصلبة والوقائع المحددة (التي تنطبع على العقل).

ب) ثمة قانون طبيعي واحد يسري على الظواهر الطبيعية وعلى الظواهر الإنسانية، وعلى جسد الإنسان وعقله، وعلى الأمور المادية والمعنوية. وهذا يعني أيضاً أن تُعامَل الظاهرة الإنسانية تماماً مثلما تُعامَل الظواهر الطبيعية، وتُزال الفروق بين الإنسان والطبيعة بحيث يتحول الإنساني إلى طبيعي، أي أن الموضوعية تَصدُر عن الإيمان بوحدة (أي واحدية) العلوم بحيث يصبح الإنسان موضوعاً لا يختلف عن الموضوع الطبيعي، يُوصَف ويُرصَد من الخارج وتُستخدَم مناهج العلوم الطبيعية لدراسته.

جـ) الحقائق، لهذا السبب، عقلية وحسية (فالعقل جزء من الطبيعة) وقابلة لأن تُعرَف من جميع جوانبها، والموجود هو ما نحسه ونعقله وما وراء ذلك فأوهام. المعرفة، إذن، عقلية وحسية فقط (ولكن العقلي والحسي متقابلان فهما شيء واحد).

د ) أجزاء الواقع الموضوعي تترابط من تلقاء نفسها حسب قوانين الترابط الطبيعية/المادية العامة، وحسب حلقات السببية الواضحة المطلقة، وبشكل صلب لا تتخلله ثغرات أو فجوات، فكل شيء يدخل شبكة السببية الصلبة ومن ثم يمكن رد كل الأجزاء المتعينة المتفردة إلى الكل العام المجرد.

هـ) هذه السببية كامنة في الأشياء أو لصيقة بها تماماً.

3 ـ الإدراك:

أ ) عملية الإدراك تدور في إطار المرجعية المادية الكامنة، ولذا فهي عملية اتصال بسيطة مباشرة (جسدية مادية؟) بين صفحة العقل البيضاء والواقع البسيط الخام (منبه فاستجابة)، وهي عمليةمحكومة مسبقاً بقوانين الطبيعة/المادة، تلك القوانين التي تسري على الإنسان سريانها على الأشياء.

ب) وهي عملية تلقٍ موضوعية مادية تراكمية (ذرية) إذ يقوم العقل بتلقي الحقائق الصلبة والوقائع المحددة المتناثرة التي تأتي من الواقع الموضوع الطبيعي/المادي الذي يتراكم فوق عقل الإنسان.

جـ) وبإمكان هذا العقل أن يقوم بعمليات تجريبية، أي أن يختار عناصر من الواقع ويستبعد عناصر أخرى ثم يربطها ببعضها البعض. ولكنه، حتى في نشاطه هذا، لا يمكنه أن يكون مستقلاً عن قوانين الطبيعة/المادة. ولذا، سيختار العقل (بشكل تلقائي أو آلي) الجوانب العامة والمشتركة والمتشابهة في الظواهر (فهي وحدها المحسوسة والقابلة للقياس والنظر العقلي) وهي التي تساعد على التوصل إلى القانون العام.

د ) ونحن حين نقول «العقل يربط» فهـذا من قبيـل التـجاوز. فالأشياء ـ كمــا أسلفنا ـ مرتبطـة في الواقــع برباط السببية الواضح. والواقع والمعطيات الحسية ترتبط في عقل الإنسان من تلقاء نفسها، بشكل آلي، حسب قـوانين الترابط الماديــة الأليـة العـامة. إذ تترابط الأحاسيس الجزئية وتتحوَّل إلى أفكار بسيطة، ثم تترابط الأفكار البسيطة لتتحوَّل إلى أفكار مركبة تترابط بدورها لتصبح أفكاراً أكثر تركيباً، وهكذا حتى نصل إلى الأفكار الكلية.

هـ) عملية الإدراك عملية عامة لا تتأثر بالزمان والمكان أو بموقع المدرك من الظاهرة.

و) العقل قادر على زيادة التجريد إلى أن يصل إلى القوانين العامة للحركة ويصوغ هذه القوانين في لغة بسيطة عامة يُستحسن أن تكون لغة الجبر، حتى لا تختلف لغة الإفصاح من مدرك لآخر.

4 ـ بعض نتائج الموضوعية )المادية:(

تُلغي الموضوعية (المادية) كل الثنائيات، وخصوصاً ثنائية الإنسان والطبيعة، وتُرجِّح المرجعية الكامنة الموضوعية على المرجعية الكامنة الذاتية:

أ ) تدور الموضوعية (المادية) في إطار الواحدية السببية (المرتبطة تمام الارتباط بوحدة [أي واحدية] العلوم)، فثمة سبب واحد أو عدة أسباب لتفسير كل الظواهر.

ب) ثمة إيمان بضرورة الوصول إلى درجة عالية من اليقينية وشمولية التفسير تتفق مع الواحدية السببية.

جـ) تنقل الموضوعية (المادية) مركز الإدارك من العقل الإنساني إلى الشيء نفسه، ولذا فإن هناك اتجاهاً دائماً نحو تأكيد الحتميات الموضوعية المادية المختلفة.

د) تستبعد النماذج الموضوعية (المادية) الإنسان كعامل قادر على تَجاوُز المعطيات المادية حوله، بل ترده في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير لهذه المعطيات.

هـ) الموضوعية (المادية) لا تعترف بالخصوصية، ومنها الخصوصية الإنسانية، فهي تُركِّز على العام والمشترك بين الإنسان والطبيعة، ولذا فإن الفكر الموضوعي يُعبِّر عن نفور عميق من الهوية والخصوصية.

و ) لا تعترف الموضوعية (المادية) بالغائيات الإنسانية ولا بالقصد، فالغائيات لا يمكن دراستها أو قياسها، كما أنها مقصورة على الإنسان دون عالم الطبيعة، ولذا تستبعد الموضوعية فكرة المعنى.

ز ) لا تعترف الموضوعية (الماديـة) بالإبهـام، فهـي تُفضِّل الدقـة الكميـة التي يمكــن استخدامها في دراسة كلٍّ من الإنسـان والطبيعـة، ولذا فهـي تستــبعد،بقـدر الإمكان، عناصر الإبهام وعدمالتحدد في الطبيعة والإنسان.

ح) تفضل الموضوعية (المادية) البراني (فهذا هو المشترك بين الإنسان والحيوان) وتهمل الجواني.

ط) دوافع الإنسان بسيطة واضحة برانية مستمدة إما من البيئة الاجتماعية أو من العناصر الوراثية، وهي دوافع يمكن رصدها ببساطة.

ي) المعرفة نتاج تراكم براني للمعلومات.

ك) يمكن تفسير سلوك الإنسان وأفكاره في إطار التأثير والتأثر (البراني) لا التوليد أو الإبداع (الجواني).

ل) تفضل الموضوعية الاستمرار (استمرار عالم الطبيعة والإنسان كعنصر أساسي في وحدة العلوم) وترفض الانقطاع (أي تَميُّز الإنسان عن الطبيعة)، أو تنظر له بكثير من الشك.

م ) الالتزام بالموضوعية (المادية) يعني أن يتجرد الباحث من ذاتيته وخصوصيته الحضارية بل الإنسانية، ومن عواطفه وحواسـه وحسه الخلقي وكليته الإنسـانية، بحيث يمكنه أن يُسجِّل ويصـف بحياد شديد لدرجة تموت معها الأشياء، ويتشـيأ الإنسـان ويُرصَد من الخارج كما تُرصَد الأشياء. فالالتزام يُعبِّر عن موقف مسـبق قد يؤثر في الرؤية الموضوعية، كما أنه يفترض غائية إنسانية لا أساس لها في الطبيعة/المادة.

5 ـ الموضوعية (المادية) والنموذج التراكمي:

النموذج الكامن في الرؤية الموضوعية (المادية) نموذج تراكمي:

أ ) فثمة إيمان بأن كل المشتركين في العلوم (إن توافرت لهم الظروف الموضوعية) يفكرون بنفس الطريقة ويسألون نفس الأسئلة، وهذا يعني أن ثمة حقيقة موضوعية ثابتة واحدة نحاول الوصول إليها جميعاً وبنفس الطريقة، وهو ما يؤدي إلى تراكم الإجابات وتشابكها على مستوى الجنس البشري بأسره، وهذا التراكم والتشابك سيؤدي إلى تزايد رقعة المعلوم تدريجياً ويؤدي بالتالي إلى تَقلُّص رقعة المجهول.

ب) عملية التراكم ستوصلنا إلى نموذج النماذج، القانون العام، الإجابة الكلية (النهائية)، فما هو مجهول في الطبيعة (المادية والبشـرية) هو أمر مؤقت، إذ سـيصبح من خـلال تراكم المعلومات معلوماً، وتتراجع رقعة المجهول، وسيؤدي تزايد رقعة المعلوم والتراكم المعرفي المستمر إلى سد كل الثغرات والتحكم الكامل أو شبه الكامل وإلى معرفة الطبيعة البشرية المادية معرفة كاملة أو شبه كاملة بحيث تصبح كل الأمور (إنسانية كانت أم طبيعية) أموراً نسبية مادية معروفة ومحسوبة ومبرمجة، ويصبح العالم مادة استعمالية لا قداسة لها.

جـ) يُحكَم على المعرفة من منظور مدى قُربها أو بُعدها من النقطة النهائية الواحدية التي يتحقق فيها القانون العام وتتطابق الكليات مع الجزئيات.

د ) هدف الإنسان من الكون هو عملية التراكم والتحكم هذه، وهدف العلم هو السيطرة على الأرض وهزيمة الطبيعة وتسخير مواردها وتحقيق الهيمنة الكاملة للإنسان على الطبيعة. ولتحقيق هذا، لابد من إدخال كل الأشياء (الإنسان والطبيعة) في شبكة السببية الصلبة والمطلقة حتى يتم شرحها وإخضاعها للقوانين الطبيعية. ويعني تزايد الدراسة الموضوعية تزايُّد التحكم وصولاً إلىالفردوس الأرضي ونهاية التاريخ أو على الأقل إلى النظام العالمي الجديد.

هـ) العقل قادر على إعادة صياغة الإنسان وبيئته المادية والاجتماعية في ضوء ما تراكم عنده من معرفة وبما يتفق مع القوانين الطبيعية العامة التي أدركها الإنسان من خلال دراسته الموضوعية لعالم الطبيعة والأشياء (وهذا ما يسمى عملية الترشـيد، أي تنمـيط الواقع من خـلال فرض الواحدية المادية عليه حتى يمكن التحكم الكامل فيه ثم حوسلته، أي تحويله إلى وسيلة ومادة استعمالية يمكن توظيفها بكفاءة عالية كما يمكن تعظيم فائدتها(.

ويُلاحَظ أن ثمة استقطاباً حاداً في كل المنظومات الحلولية الكمونية المادية. يتضح هذا في الاستقطاب بين الموضوعية (في تأليهها للكون وإنكارها للذات) والذاتية (في إنكارها للكون وتأليهها للذات). فالموضوعية تَفترض أن الواقع معقول وأنه مكمن الحقيقة وأنه يمكن معرفته وتفسيره في ضوء القوانين العامة التي يستخلصها الإنسان من خلال إذعان الذات للموضوع. أما الذاتية فترى أن الواقع غير موجود أو لا يمكن الوصول إليه ولا يمكن إدراكه أو تفسيره ولا يمكن التوصل إلى أية قوانين أو حقائق عامة، ومن ثم تصبح علاقة الذات بالموضوع واهية، وقد تختفي تماماً.

وقد واجه الفلاسـفة مشكـلة الاسـتقطاب الحـاد بين الذات والموضوع (الواحدية الذاتية والواحدية الموضوعية)، وطُرحت القضية التالية: هل الذات قادرة على معرفة الموضوعات، أم أن الموضوعات برانية بحيث لا يمكن الوصول إليها؟ وهل الذات هي مقياس حقيقة الأشياء (أي معقوليتها) أم أن الموضوع يحتوي نظامه (ومعقوليته) دون ارتباطه بالذات الإنسانية؟ وقد حاول كثير من فلاسفة القرن العشرين حل إشكالية ثنائية الذات والموضوع عن طريق إلغائها تماماً، فقالوا بعدم انفصال الذات عن الموضوع، فالموضوع ليس شيئاً مستقلاً عن الإرادة البشرية وإنما هو الفعل الناجم عن ممارسة القوة (فلسفات القوة). وقال البعض الآخر إن الفعل ليس هو في ذاته ولكنه نتائج وآثار الفعل (الفلسفة البرجماتية). والأمر عند فريق ثالث لا هذا ولا ذاك وإنما هو ما يتجه نحوه الوعي (الفلسفة الفينومينولوجية). ومن ثم، فإن الذات لا وجود لها خارج الموضـوع، وهي تستمد وجودها من تقابلها معه.

ولكن، ورغم الاستقطاب الشديد، فإن ثمة نقط تشابه بين الذاتية والموضوعية، فكلاهما يدور في إطار الحلولية الكمونية التي تفترض وجود مركز الكون داخله (الذات أو الموضوع)، ومن ثم فإن كليهما واحدي يُلغي المسافة وإمكانية التجاوز. وتؤكد الموضوعية (المادية) أن الأشياء المحسوسة مادية ولها وجود موضوعي. ولكن هل العلاقة بين هذه الأشياء المحسوسة علاقة مادية وموضوعية تماماً أم أن رصدها يتطلب إجراء عمليات عقلية (ذاتية) تختلف من شخص لآخر؟ وجوهر الموضوعية هو الاستقراء، أي التعميم من عدد من الحالات الموضوعية، ولكن يمكننا أننسأل: كيف يَحق للإنسان أن ينتقل من عدد من الظواهر الفردية إلى كل الظواهر التي تندرج تحت هذا النوع في الماضي (الذي لم يرصده الإنسان) والحاضر (الذي رصد بعض حالاته) والمستقبل (المجهول تماماً)؟ ألا يشكل هذا الانتقال شكلاً من أشكال الإيمان بالثبات؟ وإذا كانت الحواس الفردية للإنسان مصدر المعرفة، فهل هي مصدر يمكن الاعتماد عليه؟ كل هذا يُبيِّن أن الحديث عن معارف كلية يقينية (نتوصل إليها من خلال عمليات الربط والتعميم) أمر يتنافى مع الموضوعية، وأن أي حديث عن معرفة نتوصل إليها من خلال الحواس يفتقد إلى المصداقية، ولذا تنحل الموضوعية في اتساقها مع نفسها وتسقط في ذاتية كاملة إذ أن كل واحد فينا (حسب الرؤية الموضوعية المادية نفسها) حبيس حواسه وحبيس التفاصيل التي يرصدها.

ويمكن أن تحل الموضوعية (المادية) هذه الإشكالية بأن تُضيِّق نطاقها بقدر المستطاع فتقتصر وظيفتها على تعريف الظواهر ووصفها واكتشاف قوانينها (المادية) وترتيب القوانين من الخاص إلى العام، وتحل الملاحظة محل الخيال والتأمل والاستدلال النظري، وتقوم التجربة المادية مقام التصورات والافتراضات. ثم تضيق الحلقة وتصبح الموضوعية (المادية) هي تسجيل التفاصيل والحقائق المتناثرة. وفي هذه الحالة، تصبح الموضوعية موضوعية متلقية سلبية لا تستطيع التمييز بين مختلف المعطيات الحسية والمعطيات العقلية. ويصبح الرصد الموضوعي رصداً لأمور غير مهمة وربما تافهة ولكنها، مع هذا، "موجودة" موضوعياً ومادياً في الواقع. ويمكن أن يكون الرصد أفقياً بمعنى أن تُوضَـع كل التفاصيل جنباً إلى جنب دون ربط أو ترتيب هرمـي. كما يمكن أن تصبح الموضوعية (المادية) احتمالية تماماً، تضع الحقائق والتعليمات دون أن تَنسب لها أي ثبات. ولهذا يجب ألا يُطرَح السؤال على هذا النحو: هل الحقائق موجودة بالفعل أم لا؟ وإنما يجب أن يُطرَح بهذه الطريقة: ما دلالة الحقائق ومعناها وأهميتها؟ وهل تستحق التسجيل أم لا؟ فإن قلنا مثلاً إن الأساتذة الجامعيين يلبسون بذلاً زرقاء أما غيرهم فيلبسون بذلاً خضراء، فهل يصلح هذا أساساً لتصنيف أساتذة الجامعة؟

إن أساس اختيار الحقائق أكثر أهمية ودلالة من الحقائق في ذاتها. وكم المعلومات (مهما تضخَّم) لا علاقة له بالصدق أو الدلالة، فالصدق والكذب ليسا كامنين في الحقائق الموضوعية (أي من حيث هي كذلك) وإنما في طريقة تناولها وفي القرار الخاص باختيارها أو استبعادها. ومن هنا قولي بأن الحقائق شيء والحقيقة شيء آخر والحق شيء ثالث. فالحقائق أشياء مادية صرفة تُوجَد في الواقع على هيئة تفاصيل متناثرة منعزلة عن ماضيها التاريخي وسياقها الحاضر وعن الحقائق الأخرى، أما الحقيقة فهي لا توجد في الواقع وإنما يقوم العقل المبدع بتجريدها واستخلاصها من خلال عمليات عقلية تُجرَى على كم المعلومات والوقائع والحقائق المتناثرة فيقوم العقل بربط الوقائع والحقائق والتفاصيل ببعضها البعض الآخر ويراها في علاقتها بالحقائق المشابهة ومعارضتها للحقائق الأخرى كما يربطها بماضيها التاريخي وواقعها الاجتماعي ثم يربطها بحقائق وأنماط مماثلة حتى يصل إلى النموذج التفسيري الذي يُفسِّر أكبر قدر ممكن من الحقائق المتناثرة (أما الحق، فهو ينتمي إلى عالم المُثُل والإيمان وهو يشكِّل المنظور الأخلاقي [المطلق] الذي لا يجده الإنسان جاهزاً في الواقع المادي وإنما يُحاكم على أساسه كلاًّ من الحقائق المادية والحقيقة الفكرية العقلية).

ولنضرب مثلاً مثيراً من واقع أعضاء الجماعات اليهودية يبرهن على انعدام جدوى عملية الرصد الموضوعي (المتلقي) مهما بلغ من دقة وأمانة ونزاهة. ولنتخيل باحثاً (سنشير إليه بعبارة «الباحث الافتراضي») قرر أن يتخذ موقفاً موضوعياً تماماً من هجرة أعضاء الجماعات اليهودية وأن يرصدها بأمانة. سيبدأ هذا الباحث الافتراضي بعمل جدول يدرج فيه أسماء الجماعات اليهودية في العالم، وبجانب كل جماعة سيدرج الأرقام الخاصة بعدد اليهود الذين هاجروا منها ثم قد يضيف جدولاً آخر بأسماء البلاد التي هاجروا إليها. وقد يقرر أن يعمل جدولاً تاريخياً يضم أسماء الجماعات اليهودية وأسماء البلاد التي هاجروا إليها وتواريخ الهجرة والنسب المئوية المختلفة. وستكون النهاية أو الثمرة جدولاً ضخماً أو عدة جداول ضخمة أو متوسطة الحجم. ولا شك في أن مثل هذه الجداول، باختلاف أحجامها وأشكالها مرحلة أساسية في عملية الرصد. ولكن أن نكتفي بهذه الخطوة، فهذا هو التلقي السلبي بعينه، فالجدول قد يحتوي على كل شيء ولكنه لا يقول شيئاً، إذ يجب أن يُنظَر له باعتباره مادة خام، مجرد حقائق، يتعامل معها العقل لا كنهاية في حد ذاتها وإنما كي يفسرها ويجردها ويستخرج الأنماط منها حتى نصل إلى الحقيقة، ولكن لا يمكن أن نتصور أن المادة الخام هي النمط وأن الحقائق هي الحقيقة. ولكن صاحبنا، الباحث الموضوعي الافتراضي الذي أشرنا إليه، يكتفي بالرصد ولا يُعمل عقله ولا يجتهد ولا يسأل ولا يطرح الإشكاليات ولا يربط ولا يجرد ولا يبقي ولا يستبعد، ولعله لو فعل لاكتشف أن هجرة اليهود في العالم القديم لم تكن مجرد أرقام متراكمة بلا شكل أو اتجاه وإنما جزءاً من نمط، فقد كانت في معظم الأحيان هجرة من المناطق المتقدمة إلى المناطق المتخلفة، ولاكتشف أن هذا النمط انعكس مع بداية القرن السادس عشر. ولاكتشف أيضاً أن أعضاء الجماعات اليهودية لا يهاجرون والسلام وإنما يتحركون عادةً داخل حدود إمبراطورية ما، تُيسِّر لهم الحركة وتؤمِّنهم، وأن هذا ما حـدث لهم في العصر الحديث مع التشـكيل الاسـتعماري الإمبريالي (الإمبراطوري) الغربي، وأن ما يحدد حركتهم (هجرتهم) هو حركيات التشكيل الاستيطاني الغربي. ولذا هاجر 80% من المهاجرين اليهود في العالم الغربي إلى الولايات المتحدة (تماماً كما هاجر 85% من مهاجريالعالم الغربي إليها). ولعل باحثنا الافتراضي هذا لو أعمل عقله قليلاً لاكتشف أن أعضاء الجماعات اليهودية لم يتحركوا داخل هذا التشكيل الاستعماري الغربي على وجه العموم وإنما داخل التشكيل الأنجلو ساكسوني على وجه التحديد، ومن هنا تواجدهم المكثف في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وجنوب أفريقيا، ومن هنا أيضاً إسرائيل، فهي ليست جزءاً من الحركة العامة لليهود وإنما هي جزء من التشكيل الاستعماري الأنجلو ساكسوني. الرصد الموضوعي سيُعطي كل البيانات ويُرهقنا تماماً (حقائق بلا حقيقة)، أما الاجتهاد فسيُعطينا الحقائق داخل أنماط قد لا تضم كل الحقائق وقد لا تنطق بكل الحقيقة ولكنها بلا شك ستُفسِّر لنا كثيراً من جوانب الواقع.

والافتراضات التي يستند إليها الفكر الموضوعي تنبع من العقلانية المادية لعصر الاستنارة، وقد ثبت أنها افتراضات إما خاطئة تماماً أو بسـيطة إلى درجـة كبيرة، ولذا فمقـدرتها التفسـيرية ضعيفة. وهذا يعود لعـدة أسباب:

1 ـ تركيبية الواقع وخصوصية الظواهر:

الواقع المادي ليس بسيطاً ولا منبسطاً ولا صلباً ولا صلداً وإنما مركب ومليء بالثغرات والنتوءات، ولا ترتبط معطياته الحسية برباط السببية الصلبة الواضحة إذ ثمة عناصر مبهمة فيه وثمة احتمالات وإمكانيات كثيرة يمكن أن يتحقق بعضها وحسب ولا يتحقق البعض الآخر.

وكما بيَّن الدكتور حامد عمار فإن صورة عالم نيوتن المادي الآلي الثابت لم تَعُد الصورة المهيمنة في العلوم الطبيعيـة، فقد جاءت نظرية النسبية والحركة والطاقة لتكمل مفهومنا عن عالم المادة التي تبدو في السطح مستقرة ثابتة، لكن استقرارها إنما هو نتيجة لدينامية في انتظام الحركة داخل مكوناتها. والجُزَيْءُ النووي يتمثل في مادة كما يتمثل في موجات، ويتوقف التعامل معه على نوع السؤال الموجه له في أي من البُعدين. كذلك أدَّت نظرية أينشتاين في النسبية إلى القضاء على المفهوم المطلق لكل من الزمان والمكان، وإلى اعتبارهما بُعداً واحداً رابعاً يعمل في سياق بيئة معيَّنة. وامتدت أبحاث الفيزياء الحديثة من خلال نظرية الكم (كوانتوم) إلى أن الحقائق الكونية تتحدد أكثر ما تتحدد بعلاقتها بغيرها. وأن تعريفها يعتمد أكثر ما يعتمد على نوع علاقتها المتبادلة مع غيرها. أضف إلى ذلك أن تحديد المادة وفهمها إنما يتأثر إلى حدٍّ ما بالمشاهد نفسه، فهو مشارك في تحديد طبيعة ما يراه، وليس مجرد ملاحظ سلبي لما يراه. وهذا يعني أننا لا يمكن أن نفصل العقل عن إدراك عالم الإلكترون كما يقول علماء الفيزياء، باعتبار أن له خصائص مستقلة عن الشخص المُدرك، وأننا لا يمكن أن نتحدث عن عالم الطبيعة والمادة دون أن نتحدث عن أنفسنا وطبيعة ذواتنا، ووعينا ومقاصدنا.

ومن خلال هذه الجهود والنظريات العلمية في عالم الفيزياء الحديثة أصبح التوجه العام في النظر إلى الكون نظرة يمكن وصفها بأنها عضوية وكلية بيئية، أي من خلال نظرية المنظومة العامة. وهذا المنطلق العلمي يناقض النظرة الميكانيكية التي تنظر إلى الكون باعتباره (آلة ـ ماكينة) تتألف من أجزاء منفصلة بعضها عن بعض، لكنها أجزاء مترابطة في علاقات متبادلة في هذا الكل الكوني الموحد. فالأشياء إنما هي علاقات بين أشياء، وأن هذه الأشياء إنما هي علاقات بين أشياء أخرى، وهكذا.

وينبع قدر كبير من الخلل في تَصوُّر الكائنات الحية عموماً باعتبارها آلات، مع أن هناك خلافاً جوهرياً بينهما، فالآلات تُصنَع وتُركَّب، بينما الكائنات الحية تنمو وتتطور. كذلك فبينما تتحدد أنشطة الآلة من خلال بنية أجزائها، فإن نشـاط الكائنـات الحية، وبخاصة الإنسـان، إنما يتحدد بالعكـس، أي أن بنيتها تتحـدد من خلال العمليات التي تقوم بها. ثم إن عمل الآلة محكوم بسلسلة خطية من السبب والنتيجة، وحين يحدث خلل يمكن التعرف على السبب في ذلك الخلل، أما في الكائن الحي فإن جسمه يعمل من خلال علاقات دائرية يؤثر بعضها في البعض، ثم يعود ليؤثر مرة أخرى في المؤثر الأول من خلال التغذية الراجعة. ومن ثم يصبح الخلل ناجماً عن مجموعة مركبة من العوامل يعزز بعضها بعضاً، وبالتالي يصبح التعرف على السـبب الأول غير ذيموضوع، وإنما الأهـم هو محصلة العلاقات المتداخلة".

ولذا، لا يمكن فهم الواقع من خلال القوانين البسيطة الصلبة المطلقة وإنما من خلال الافتراضات والقوانين الاحتمالية والسببية الترابطية، ولذا أصبحنا ندرك خطورة التجريب العلمي وأنه ليس من الممكن القيام بكل التجارب الممكنة التي تغطي كل الاحتمالات. ولعل ظهور مفهوم الـ «إيكو سيستم eco-system»، أي «النظام البيئي»، تأكيد لتركيبية هذا العالم الذي نعيش فيه وأنه لن يقع في قبضة السببية الصلبة المطلقة التي توهمها العلم الغربي في القرن التاسع عشر، قبل أن يصل إلى قدر من النضوج فيما يتصل بقدراته وحدوده.

ومما يزيد من تركيبية الكون وجود أهم الثغرات طُراً فيه، أي الإنسان، فهو أكثر الكائنات تركيباً، لا يقف في الكون كشيء ضمن الأشياء الأخرى، ظاهرة مثل الظواهر، وإنما يقف شامخاً في مركز الكون تأتي عنده القوانين الطبيعية فتُعدِّل من مسارها وتتغير وتتحور، بل قد تتوقف أحياناً تماماً.

2 ـ خصوصية وتركيبية الإدراك:

ما ينطبق على الإنسان ينطبق، بطبيعة الحال، على عقله الذي يرصد الكون، فقد اكتشفنا أن العقل قاصر وله حدوده الخاصة ولا يمكنه تسجيل كل المعطيات المادية المحيطة به ولا الإحاطة بكل جوانب الفعل. نعم ينطبع الواقع على خلايا المخ، ولكن عدد الانطباعات الحسية في أية لحظة يكون هائلاً لدرجة يستحيل معها تسجيله. والعقل، رغم هذا، بل بسبب هذا، أبعد ما يكون عن السلبية والبساطة، فهو ليس بصفحة بيضاء تتراكم عليها المعلومات وتصبح معرفة من تلقاء نفسها، فالعقل في أبسط العمليات الإدراكية فاعل فعال، مبدع حر، يتمتع بقدر من الاستقلال عن المعطيات المادية المحيطة به وعن قوانين الطبيعة/المادة، فاللحظة الحسية في عملية الإدراك ليست سوى لحظة.

وعملية الإدراك ليست بسيطة تأخذ شكل منبه أو مثير فاستجابة فهي مسألة تبلغ الغاية في التركيب، فبين المنبه المادي والاستجابة الحسية والعقلية والإدراكية يُوجَد عقل نشيط مبدع ينظم وهو يتلقى. والمعرفة تتضمن فهماً وتركيباً وتنظيماً، والحواس عاجزة بذاتها عن فهم المحسوسات وتنظيمها إذ أن التنظيم يستدعي قدرة أخرى وفاعلية أخرى تصل وتفصل وتقارن وترتب وتنظم، ولن تكون هذه القوة ناشئة عن المحسوسات لأن الحواس لا تمدنا إلا ببعض الصفات الظاهرة للمُعطَى الحسي كاللون والرائحة والطعم والحجم. وهي معطيات جزئية فردية منعزلة لا تؤلف وحدة متكاملة ومترابطة. وما يحدث أن الكم الهائل والحصيلة الضخمة للمعطيات الحسية التي تُسجَّل على عقل الإنسان، والتي تصل إليه على هيئة جزئيات غير مترابطة، هذا الكم يفرض عليهجهازه الحسي والعصبي ترشيحها وفرزها وترتيبها (فهو لا يستوعب إلا الكليات المترابطة)، ثم يجري العقل عملية تجريدية تفكيكية تركيبية تتضمن استبعاد بعض العناصر وإبقاء البعض الآخر، ثم يقوم بترتيب ما تم إبقاؤه من معطيات فيُبرز بعضها باعتباره مركزياً ويُهمِّش البعض الآخر باعتباره ثانوياً بحيث تصبح الجزئيات المتناثرة كلاً مفهوماً وتصبح العلاقات بين المعطيات المادية التي أدركها العقل تتشاكل، ولا تتطابق بالضرورة، مع ما يتصور الإنسان أنه العلاقات الجوهرية في الواقع.

وعملية الإبقاء والاستبعاد هذه لا تتم بشكل عشوائي (ذاتي) محض، ولا تتم بشكل آلي (موضوعي) محض، وإنما على أساس مجموعة من المسلمات الكلية النهائية التي استبطنها المُدرك (وهي مفطورة في عقل الإنسان). وهذه العملية ليست عملية محايدة، مفرغة تماماً من القيم (بالإنجليزية: فاليو فري value-free) وإنما تدور في إطار المنظومة القيمية للمدرك. ومما يزيد عملية الإدراك تركيباً أن عقل الإنسان لا ينظم المعطيات الحسية ويفككها ويركبها وحسـب، بل يختزن ذكـريات عن الواقع هي في حقيقة الأمر صـورة مـثالية وذاتية لهذا الواقع، وهو يُولِّد من المعطيات الحسية رموزاً وأساطير، وتصبح الذكريات والمثل والرموز والأساطير جزءاً من آليات إدراكه. كما أن وضع المُدرك في الزمان والمكان يؤثر ولا شك في علاقته بالظاهرة التي يدرسها.

وعملية رصد الإنسان عملية تبلغ الغاية في التركيب. فالحقائق الإنسانية لا يمكن فهمها إلا من خلال دراسة دوافع الفاعل وعالمه الداخلي والمعنى الذي يُسقطه عليه، فالإنسان ليس مجرد سلوك براني مادي وحسب يُرصَد من خارجه وإنما هو سلوك براني تُحركه دوافع جوانية يَصعُب الوصول إليها مباشرةً من خلال الوصف الموضوعي وغيره، ولذا يحاول العقل البشري أن يصل إليها من خلال عملية حدس وتخمين وتعاطف وتخيُّل وتركيب عقلي ومقاربات ذهنية يَصعُب أن نسميها «موضوعية». وقد قيل إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يستجيب للمنبهات وإنما لفهمه لها ولدلالتها وللمعنى الذي يُسقطه هو عليها. والبُعد الجواني في الظاهرة الإنسانية يفوق في أهمـيته...

الصفحة التالية ß إضغط هنا