المجلد الخامس: اليهودية.. المفاهيم والفرق 16

الصفحة السابقة ß إضغط هنا

لاهــــوت التــــحرير

Liberation Theology

«لاهوت التحرير» حركة دينية في العالم الغربي المسيحي ظهرت في صفوف المسيحيين الكاثوليك والبروتستانت ابتداءً من أوائل الستينيات، لكن أطروحاتها تحدَّدت وتبلورت في منتصف السبعينيات. وتَصدُر الحركة عن الإيمان بأن العقيدة الدينية هي في جوهرها رؤية ثورية للواقع ترى أن الإيمان الديني لا يعبِّر عن نفسه من خلال إقامة الشعائر الدينية وحسب، وإنما أيضاً من خلال الدفاع عن قيم العدل والمساواة الاجتماعية وحقوق الأقليات والمضطهدين ضد الاحتكارات العالمية وقوى الرجعية والطغيان العالمي، أي أنه موقف ديني يؤدي إلى تَبنِّي ما يُسمَّى «قيم التحرير» (ومن هنا التسمية). ودعاة لاهوت التحرير يتمردون أيضاً على المؤسسات الدينية القائمة باعتبارها مؤسسات تم استيعابها في المؤسسات الحاكمة، سواء المحلية الرجعية أو العالمية الإمبريالية، ولهذ أصبحت هذه المؤسسات، من منظور دعاة لاهوت التحرير، امتداداً للسلطة توظِّف الدين والشعائر الدينية في خدمة مؤسسات الطغيان والظلم.

وكما هو الحال دائماً، تأثر الفكر الديني اليهودي بلاهوت التحرير المسيحي. وكما أدَّت حركة الإصلاح الديني إلى ظهور اليهودية الإصلاحية، وكما أدَّت الحركة المعادية للاستنارة بتأكيدها روح الشعب وروح الأرض إلى ظهور اليهودية المحافظة، وكما أدَّى ظهور موت الإله في المسيحية إلى ظهور مدرسة دينية مماثلة في اليهودية، فإن ظهور لاهوت التحرير في صفوف المسيحيين كان له صداه في صفوف أعضاء الجماعات اليهودية. ولكن، كما هو الحال دائماً، نجد أن هناك مرحلة زمنية تفصل بينالصوت والصدى، وأن لاهوت التحرير ظهر بين اليهود في الثمانينيات.

ولكن لاهوت التحرير اليهودي ذو خصوصية يهودية نابعة من وضعه الخاص. فلاهوت التحرير اليهودي هو تَمرُّد على لاهوت موت الإله في صيغته اليهودية. ولاهوت موت الإله - كما أسلفنا - هو في جوهره حلولية وثنية بدون إله (وحدة وجود مادية)، وعودة إلى المطلقات القومية وإلى تقديس الذات القومية متمثلة في التاريخ القومي. لكن التاريخ القومي اليهودي هو تاريخ اليهود وحسب؛ تاريخ يسـتبعد الآخرين، أي أنه عـودة إلى الانغلاق الوثني اليسرائيلي. ويدور تاريخ اليهود المقدَّس حول الأحداث التي تقع لليهود في التاريخ الزمني وحول الأفعال التي يأتون بها. ويرى دعاة لاهوت موت الإله أن أهم حدث هو الإبادة النازية وأن أهم فعل هو ظهور دولة إسرائيل. والإبادة ـ حسب لاهوت موت الإله ـ حدث مطلق في التاريخ ينهض دليلاً على موت الإله وغيابه، ولكن هذا الشعب يدور حول نفسه ويصبح هو نفسه المطلق الوحيد ويؤسس دولة إسرائيل التي تنهض دليلاً على مقدرة هذا الشعب على البقاء وعلى مقدرته على التخلص من عجزه. ومن ثم، فإن إسرائيل تصبح ـ بالنسبة لدعاة لاهوت موت الإله ـ القيمة المطلقة التي يصبح بقاؤها بأي ثمن هدفاً مطلقاً للشعب اليهودي.

وينطلق لاهوت التحرير من رفض هذه الحلولية الكمونية الوثنية ومن رفض إضفاء المطلقية على اليهود وتاريخهم. فالإبادة النازية حَدَث تاريخي مهم ولا شك، ولكنها ليست البداية والنهاية في حياة اليهود، كما أنها ليست النمط المتكرر في حياة اليهود في العالم، فقد حدثت تحولات جوهرية لليهود، ومن ثم فلابد من التمييز بين أوضاع اليهود قبل الإبادة وبعدها. فيهود الدياسبورا يعيش معظمهم الآن في سلام في الولايات المتحدة، وهي بلد لا تعرف تقاليد معاداة اليهود ولا تمارس تمييزاً ضدهم، وقد حقق اليهود فيها قدراً عالياً من الحراك الاجتماعي والاندماج، والمنفى لم يعد منفى. غير أن لاهوت موت الإله (في تصوُّر دعاة لاهوت التحرير) يتجاهل هذه الحقائق ويضع اليهود داخل قالب جامد: دور الضحية الأزلية الذي يحتكر الاضطهاد لنفسه، ولذا فإن لاهوت التحرير لا يذكِّر اليهود بأوضاعهم المتميِّزة في الوقت الحالي والتي تجعل الإبادة حديثاً مملاًّ معاداً لا علاقة له بالواقع، وإنما يذكِّرهم أيضاً بضحايا الإبادة الآخرين، بل ويذكِّرهم بضحاياهم، أي الفلسطينيين (فتاريخ الفلسطينيين أصبح جزءاً من تاريخ اليهود).

والشـيء نفسـه ينطبق على دولة إسـرائيل، فهي جماعة يهودية مهمة، ولكنها ليست الجماعة اليهودية الوحيدة (المطلقة)، ولا هي مركز الوجود اليهودي ولا سمة الوجود اليهودي الوحيدة. وهي ليست مضطهدة مهددة بالإبادة، وإنما هي دولة مسلحة تحرك جيوشها لتضرب جيرانها وبعض سكانها، أي أن وضع الدولة، مثله مثل وضع يهود العالم، قد تغيَّر. ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل يذهب لاهوت التحرير إلى أن اليهود واليهودية فقدا براءتهما مع احتلال إسرائيل للضفة الغربية، ومع اندلاع الانتفاضة التي أصبحت نقطة حاسمة في التاريخ اليهودي وفي تاريخ اللاهوت اليهودي. فلم تَعُد الدولة تعبيراً عن رغبة اليهود في التخلص من عجزهم وفي تأكيد إرادتهم، وإنما أصبحت تعبيراً عن إرادة البطش والعنف. بل إن استمرار بقاء الدولة أصبح متوقفاً على موت الأطفال الفلسطينيين، أي إبادتهم! وإذا كان لاهوت موت الإله يُصر على أن الإجابة عن أي سؤال غير ممكنة إلا في حضور الأطفال اليهود المذبوحـين، فإن الانتفاضـة تواجـه الدولة اليهـودية واليهود بالسؤال نفسه: إذا كان اليهود يتذكرون عذاب الإبادة وقسوتها، فماذا عن عذاب الفلسطينيين؟ لكل هذا لا يمكن الحديث عن مستقبل اليهود أو عن الهوية اليهودية إلا في ضوء هذا التحول التاريخي. وقد عَرَّفت الإبادة اليهود بأنهم «من ذبحهم هتلر»، لكن الانتفاضة تطرح أسئلة جديدة: إذا كان اليهود يَعْرفون من كانوا بعد أن حُفرت الإبادة في وجدانهم، فهل يَعْرفون ماذا أصبحوا بعد أن قامت الانتفاضة وكَسَّرت الدولة الصهيونية عظام الأطفال؟ إن من الطبيعي أن يتذكر اليهود أوشفيتس وتربلينكا، ولكن عليهم أيضاً أن يتذكروا صابرا وشاتيلا.

هذا على مستوى قراءة التاريخ، وعلى مستوى تعريف الهوية، أما على المستوى الأخلاقي، فإن الدولة لم تَعُد مطلقاً بعد فك المطلقات الحلولية الوثنية. فإذا كانت الإبادة حدثاً مهماً وليست مطلقاً، فما المطلق إذن؟ يؤكد لاهوت التحرير أن المطلق الوحيد هو القيم الأخلاقية التي وردت في التراث الديني اليهودي (الذي يعرِّفونه تعريفاً إنسانياًعالمياً). ولذا، فإن بقاء الدولة ليس أمراً كافياً، والتخلص من العجز لا يَجُبُّ التساؤلات الأخلاقية، فمن يحصل على السيادة يمكنه أن يستخدمها في الخير أو البطش. وبالمثل، فإن السيادة ليست ميزة خالصة وإنما لها مخاطرها. ومن ينجز معجزة البقاء يمكن أن يكون خيِّراً أو شريراً، ومن يُكلَّف بالرسالة (الاختيار) يمكنه أن يخونها. ولذا، يقرر لاهوت التحرير أن إسرائيل ليست فوق يهود العالم أو فوق ضمائرهم. ولذا فعليهم الالتزام بالقيم الأخلاقية وحدها، وإذا تحركوا فعليهم أن يتحركوا لا لتأكيدأهمية إسرائيل والدفاع عن بقائها، وإنما لتأكيد القيم الأخلاقية المطلقة. ولن يتم إصلاح الخلل الكوني (تيقون) من خلال الدولة وإنما من خلال الأفعال الأخلاقية الخيرة. ويجب على اليهود أن يقفوا لا ضد ذبح الأطفال اليهود على وجه الخصوص وإنما ضد ذبح أي أطفال، وضمنهم الأطفال الفلسطينيون. ويجب على اليهود أن يلجأوا لكل شيء، وضمن ذلك العصيان المدني، لوضع القيم الأخلاقية المطلقة موضع التنفيذ.

ويُلاحَظ أن الإيقاع العام للفكر الديني اليهودي لا يزال كما كان منذ بدايته، فقد كان هناك دائماً دعاة الوثنية أو القومية أو الحلولية (الكهنة أو الملوك) الذين يَصدُرون عن الطبقة الحلولية داخل التركيب الجيولوجي التراكمي اليهودي، وكان هناك دعاة الأخلاق العالمية والشاملة (الأنبياء وبعض الحاخامات) الذين يدورون في نطاق الإطار التوحيدي. كما أن التوتر بين لاهوت موت الإله ولاهوت التحرير هو نفسه التوتر القديم بعد أن تصاعدت حدته بسبب تصاعد معدلات العلمنة وبعد أن أصبح الخطاب الوثني أكثر صَقْلاً وأكثر إلماماً بالخطاب الديني وأكثر امتلاكاً لناصيته. ويبدو أن حسم مثل هذا الصراع أمر صعب للغاية بسبب التركيب الجيولوجي لليهودية الذي يوفر لكل المتحاورين إمكانية أن يجدوا سوابق وشواهد تدعم وجهة نظرهم وتعطيهم شرعية دينية.

وقد تصاعدت حدة لاهوت التحرير مع تصاعد حدة الانتفاضة، فالانتفاضة هي التي أثبتت أمام الجميع أن الدولة الصهيونية ليست مطلقاً وأن التاريخ اليهودي ليس مقدَّساً وأن أرض فلسطين ليست أرض ميعاد تنتظر سكانها (فهي ليست سوى أرض مأهولة بسكانها الذين يحيون ويموتون ويحبون ويجاهدون). ويُلاحَظ في الحوار اليهودي المسيحي، أن المحاورين اليهود كانوا يصرون على ضرورة قبول الدولة اليهودية باعتبارها مطلقاً دينياً، ثم أخذوا يتنازلون عن هذا المطلب. ومن أهم مفكري لاهوت التحرير آرثر واسكو ومارك إليس.

آرثـــر واســـكو (1933- )

Arthur Waskow

مفكر ديني أمريكي يهودي. وُلد في بلتيمور، وعمل بعض الوقت كمساعد لأحد أعضاء الكونجرس الأمريكي، ثم انخرط في الستينيات في حركة الحقوق المدنية وحركة السلام المعادية لحرب فيتنام. مر بتجربة دينية عميقة جعلته يرفض الأساس العلماني لاتجاهه السياسي ويتبني اليهودية كعقيدة ورؤية للكون، ولذا فهو يُعَدُّ من أهم العائدين (بعلي تشوبفاه) إلى العقيدة اليهودية. ولكنه بدلاً من الانغلاق عليها، والسقوط في الحلولية الوثنية، نادى بأن اليهودية الحاخامية دعوة لاكتشاف الذات، وإلى المساهمة في بناء العالم حتى يصبح العالم مكاناً صالحاً لا لليهود وحسب وإنما لغير اليهود كذلك. وهو يرى أن الإبادة النازية وإسرائيل ليست حقائق نهائية، وإنما هي حقائق تاريخية في مسيرة العقيدة اليهودية، ومن ثم فإنه لا يُضفي على أيٍّ منها قيمة مطلقة ولا يجعل أياً منها المرجعية النهائية والوحيدة لفكره، أي أنه يرفض لاهوت موت الإله. ولذا، فإنه، حتى بعد أن أصبح من العائدين لدينهم، لم يتخل عن مواقفه السياسية الرافضة للاستغلال والتفرقة العنصرية والحرب، بل استمر فيها. وحاول واسكو اكتشاف عناصر داخل العقيدة اليهودية تدعم موقفه، فاقترح إعادة بعث شعائر سنة اليوبيل (وهي السنة التي يتم فيها إعتاق العبيد وتوزيع الأراضي الزراعية) بعد أن تُعطَى هذه الشعائر مضموناً عصرياً، فعلى سبيل المثال، يمكن أن يُعطَى الفقراء قروضاً دون فوائد.

وواسكو عضو في كثير من الجمعيات اليهودية التي تأخذ موقفاً غير صهيوني من إسرائيل، فلا ترى أن إسرائيل مركز اليهود واليهودية، وتعارض مفهوم تصفية الجماعات اليهودية، وتطالب الدولة الصهيونية بالالتزام بالقيم الأخلاقية اليهودية. ومن هذه الجمعيات جماعة بريرا، وجماعة الأجندة اليهودية الجديدة. ويمكن اعتبار واسكو من أهم دعاة لاهوت التحرر داخل العقيدة اليهودية. وله عدة مؤلفات من أهمها وهذه الشرارات الإلهية (1983( ويساهم واسكو في تحرير مجلات يهودية مثل مجلة تيقون.

العائدون (بعلي تشوباه)

Baalei Teshuva

«العائدون» هو الترجمة العربية للمصطلح العبري «بعلي تشوَّباه». و«العائدون» اصطلاح يُطلَق على اليهود العلمانيين الذين تركوا تراثهم الديني وقيمه الأخلاقية بعض الوقت ولكنهم يعودون في نهاية الأمر إلى حظيرة الدين، ومعظمهم من يهود الولايات المتحدة من سكان الضواحي أعضاء الطبقة الوسطى الذين رفضوا القيم البورجوازيةلمجتمعهم وانضموا إلى الحركات الداعية لوقف الحرب في فيتنام كما انضموا إلى حركة الحقوق المدنية. وهم من المؤمنين بأن الحضارة الحديثة حضارة خالية من المعنى، وأن الرفاهية التي تأتي بها لا تؤدي بالضرورة إلى السعادة. والطريق بالنسبة إلى هؤلاء ليس هو العبادات الجديدة، وإنما العودة إلى العقيدة اليهودية وإعادة اكتشافها. وكثيرون منهم يرفضون الصهيونية باعتبارها حركة علمانية، وهم في هذا يحذون حذو نيثان بيرنباوم المفكر الديني الأرثوذكسي.

وينضم بعض هؤلاء إلى معاهد دينية، ويُعيدون صياغة حياتهم حسبما تتطلب الشريعة اليهودية،ويتبنون القيم الأخلاقية التي يحض عليها دينهم.والواقع أن هذه الظاهرة نفسها توجد في إسرائيل كذلك، وهي ظاهرة تعبِّر عن أزمة العلمانية في العالم.والمفكر اليهودي الأمريكي آرثر واسـكو،شأنه شأن كثير من الشباب اليهودي الذي اشترك في حركات التمرد اليسارية في الستينيات، انخرط في صفوف الجماعات الداعية للاهوت التحرر وأصبح من العائدين.

الباب الحادى عشر: العبادات الجديدة

العبـادات الجديدة في العالم الغربي

New Cults in the Western World

«العبادات الجديدة» حركات شبه دينية، لها شعائر مركبة وتنظيم مغلق، يرتدي أعضاؤها أحياناً أزياء خاصة مقصورة عليهم. وتزود هذه الحركة أعضاءها بالأمن من خلال عقيدة ثابتة بسيطة تفسر الكون والظواهر كافة، حيث يتطلب الانتماء إلى هذه العقيدة الولاء الكامل. ومن أكثر الظواهر التي تتهدد اليهودية المعاصرة، إقبال أعضاء الجماعات اليهودية على هذه العبادات الجديدة، وخصوصاً بعد أن تخلَّى أتباع هذه العبادات عن شعائرها الغريبة الشاذة وأصبح أسلوب حياتهم لا يختلف عن أسلوب حياة الإنسان العادي في المجتمعات التي يعيشون في كنفها. ومع أن عدد أعضاء الجماعة اليهودية لا يزيد بأي حال على 3% من سكان الولايات المتحدة، فإن من الملاحظ أن حوالي 20 - 50% من أعضاء مثل هذه الحركات من اليهود، كما أن كثيراً من قياداتها منهم. ولا يختلف الوضع في أوربا الغربية عنه في الولايات المتحدة. ومن أهم هذه الجماعات في الولايات المتحدة الجماعة البوذية من طراز الزن (50% من مجموع أتباعها في سان فرانسيسكو من اليهود) وجماعة هاري كريشنا الهندوكية (15% من جملة أتباع الجماعة في الولايات المتحدة من اليهود)، وهناك أيضاً كنيسة التوحيد (يونيفيكشان تشيرش Unification Church) وجماعات الإمكانية الإنسانية مثل إست EST وينبوع الحياة. ويمكن أن نعتبر الماسونية والبهائية من هذه العبادات الجديدة. وقد عادت جماعات عبادة الشيطان للظهور مرة أخرى وانتظم في صفوفها كثير من أعضاء الجماعة اليهودية. كما نشطت جماعات تبشيرية مسيحية ذات ديباجات يهودية (جماعات «المسيحيون العبرانيون») تمارس نشاطها بين أعضاء الجماعة. ومن أهم هذه الجماعات، جماعة «يهود من أجل المسيح» التي ترى أن بوسع اليهود أن يصبحوا مسيحيين ويهوداً في آن واحد، بل إن مسيحيتهم إن هي إلا مسوِّغ ليهوديتهم. وهؤلاء المبشرون يجيدون استخدام الرموز اليهودية، مثل: الخبز غير المخمر، واللغة العبرية، ونجمة داود، وشمعدان المينوراه. وهم يشيرون إلى المسيح ومريم بأسمائهم العبرية («يهوشاو»، و«مريام»)، ويسمون المسيح «الماشيَّح». كما يحاولون أن يضعوا مضموناً مسيحياً للرموز اليهودية، ففي عيد الفصح، على سبيل المثال، نجد أرغفة خبز الفطير الثلاثة (مَتْسُوت) هي الثالوث المسيحي، أما نصف الرغيف (أفيكومان) وعظمة الحمل فيرمزان للمسيح المصلوب، والنبيذ هو دمه. وقد أضافوا إلى كل ذلك تأييد دولة إسرائيل تأييداً أعمى، ولكنهم يضعون هذا التأييد في سياق مسيحي. ويبدو أن ثمة إقبالاً شديداً من جانب الشباب اليهودي على هذه الجماعات، بل يُقال إن عدد الذين تنصروا من خلال هذه الجمعية يصل إلى ثلاثين ألف يهودي.

وقد وصل نشاط هذه العبادات إلى إسرائيل ذاتها، فعبارة «تي إم TM» (اختصار لعبارة «ترانسندنتال مديتيشان Transcendental Meditation» أي التأمل المتسامي) قد جذبت آلاف الإسرائيليين، ولها مستوطنة تُسمَّى «ميجداليم». كما أن جماعة هاري كرشنا تنوي تشييد كيبوتس.

ويبدو أن إقبال اليهود والإسرائيليين على العبادات الجديدة هو تعبير عن ضعف العقيدة اليهودية وعن تزايد الإحساس بالاغتراب نتيجة لتزايد معدلات الترشيد والعلمنة وتآكُل الأسرة كمؤسسة وسيطة. والعبادات الجديدة تحل محل العقيدة والأسرة في الوقت نفسه، وتقوم بعملية الوساطة العقائدية والفعلية بين الفرد والمجتمع. كما يُقـبل كـثير من الشباب اليهودي على العبادات الجديدة، لتأكيدها الزهد، تعبيراً عن احتجاجهم على النجاح المادي الذي حققه أهاليهم باندماجهم في الحضارة البورجوازية الغربية، فهو في تصورهم نجاح خال من المعنى والمضمون الخلقي، ويؤدي إلى الاستغراق في الحياة الحسية والاستهلاك اللامتناهي.

ولعل تركيب اليهودية الجيولوجي التراكمي من أهم أسباب إقبال الشباب اليهودي على العبادات الجديدة، فاليهودية تحوي طبقات مختلفة متناقضة متجاورة متعايشة لا تفاعُل بينها في حين تتسم العبادات الجديدة بأنها قاطعة محددة والانتماء إليها يعني اكتساب هوية واضحة. كما أن اليهودي الذي ينضم إلى عبادة جديدة يمكنه أن يجد سوابق لها في تراثه اليهودي (فعبادة الشيطان ليست أمراً بعيداً عن التضحية لعزازيل). ومعظم هذه العبادات تعبِّر عن الحلولية إما من خلال وحدة الوجود المادية أو الحلولية بدون إله، أي الحلولية التي يتوحد فيها الخالق تماماً مع الوجود المادي، فيصبح المطلق كامناً في المادة أو في ذات الإنسان. واليهودية باعتبارها تركيباً جيولوجياً تحوي طبقة حلولية قوية تولِّد لدى أعضاء الجماعات اليهودية قابلية للانخراط في صفوف هذه العبادات الجديدة. ومن أهم الأمور الأخرى التي ساعدت على انضمام اليهود إلى هذه الجماعات، بخاصة جماعات المسيحيين العبرانيين، أنها لا تطلب من اليهودي أن يتخلى عن انتمائه أو هويته الدينية الإثنية، الأمر الذي يجعل الأمر سهلاً على الكثير من اليهود. ومن الحقائق الإحصائية التي قد تكون لها علاقة بموضوع العبادات الجديدة أن نسبة أعضاء الجماعات اليهودية في الجمعيات السرية في العالم هو نحو 30%.

ونحن نضع الماسونية والبهائية والموحدانية واليهودية المتمركزة حول الأنثى (بل واليهودية التجديدية وحركة الحضارة الأخلاقية) ضمن هذه العبادات الجديدة (رغم أن المراجع التي اطلّعنا عليها لا تُصنِّفها مثل هذا التصنيف).

الماسـونيــــة : تاريــــخ وعقائــــــد

Freemasonery:History and Doctrines

كلمة «ماسونية» من الكلمة الإنجليزية «ميسون Mason» التي تُكتَب في العربية خطأً «ماسون». لكن الخطأ شاع، ولا مفر لنا من اعتماده ومسايرته. وهي تعني «البنَّاء»، ثم تضاف كلمة «فري free» بمعنى «حر» وتعني «البنَّاء الحر». وقد اختلف المفسرون في تعريف أصل كلمة «حر»، فيُقال إنها نسبة إلى «فري ستون Free Stone»، أي «الحجر السلس». وقد ورد في مخطوطات العصور الوسطى اللاتينية عبارة «إسكالبتور لابيدوم ليبيروروم Sculptor Lapidum Liberorum»، أي «ناحت الأحجار الحرة»، ولكن بعض التفسيرات تذهب إلى أن كلمة «حر» تجيء لتمييز الـ «فري ميسون»، أي «البناء الماهر»، في مقابل الـ «راف أور رو ميسون rough or raw mason»، أي «البنَّاء الخام غير المُدرَّب». وثمة رأي ثالث يذهب إلى أن الـ «فري ميسون»، عضو في نقابة البنائين، ولذا فهو «حر» أي أن من حقه ممارسة مهنته في البلدية التي يتبعها بعد أن يكون قد تَلقَّى التدريب اللازم. ويذهب رأي رابع إلى أن كلمة «فري» إنما تشير إلى أن البنائين لم يكونوا مُلزَمين بالاستقرار في إقطاعية أو بلدية بعينها والارتباط بها، وإنما كانوا أحراراً في الانتقال من مكان إلى آخر داخل المجتمع الإقطاعي. وإن صَدَق هذا التفسير، فهذا يعني أن البنائين كانوا مثل أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب الذين كانوا يُعَدون عنصراً حراً يمكنه الانتقال من بلد إلى آخر. وقد كان هذا حقاً مقصوراً على الفرسان ورجال الدين.

وتُعرَّف الماسونية بأنها مجموعة من التعاليم الأخلاقية والمنظمات الأخوية السرية التي تمارس هذه التعاليم، والتي تضم البنائين الأحرار والبنَّائين المقبولين أو المنتسبين، أي الأعضاء الذين لا يمارسون حرفة البناء.

وبعد أن أوردنا هذا التعريف الشائع، فإننا سنكتشف في التوّ أنه تعريف غير كاف البتة، إذ أن الماسونية، مثل اليهودية، تركيب تراكمي جيولوجي مر بمراحل عدة فأصبحت عناصره تشبه الطبقات الجيولوجية التي تتراكم الواحدة فوق الأخرى دون أي تفاعل أو تمازج. ورغم اختلاف الطبقات، فإنها تظل متعايشة ومتجاورة ومتزامنة داخل الإطار نفسه. ومن ثم، فرغم أنه توجد كلمة واحدة أو دال واحد هو «الماسونية» يشير إلى ظاهرة واحدة، فإن الماسونية في واقع الأمر عدة أنساق فكرية وتنظيمية مختلفة تماماً لا تنتظمها وحدة. ومشكلة التعريف، أي تعريف، أنه يستخدم صيغة المفرد، ومن ثم يفترض وحدة وتجانساً حيث لا وحدة ولا تجانس، ويفترض وجود مدلول واحد للدال.

وقد قيل في محاولة التوصل إلى حد أدنى مشترك بين كل الماسونيات إنه توجد ثلاثة عناصر تميِّزها. أول هذه العناصر هو وجود مراتب ثلاث أساسية يُقال لها درجات، وهي:

أ ) التلميذ أو الصبي (الملتحق أو المتدرب).

ب) زميل المهنة أو الصنعة (الرفيق).

جـ) البنّاء الأعظم أو الأستاذ (بمعنى أستاذ في الصنعة).

وقد أضيفت إلى هذه الدرجات الثلاث الأساسية درجة رابعة أخرى أساسية هي «القوس المقدَّس الأعظم»، ثم هناك ما يقرب من ثلاث وثلاثين درجة أخرى في بعض المحافل (كما هو الحال في الطقس الاسكتلندي القديم)، ويصل أحياناً عدد الدرجات إلى بضعة آلاف.

وما دمنا نتحدث عن أشكال التنظيم فيمكن أن نضيف هنا أن من رموز الماسونية: المثلث، والفرجار، والمسطرة، والمقص، والرافعة، والنجمة الخماسية، والأرقام 3 و5 و7 (وهي رموز وطقوس تساعد على اكتشاف النور). والوحدة الأساسية في التنظيمات الماسونية هي المحفل أو الورشة. ويحق لكل سبعة ماسونيين أن يشكلوا محفلاً، والمحفل يمكن أن يضم خمسين عضواً. وتعقد المحافل اجتماعاً دورياً كل خمسة عشر يوماً، يحضره المتدربون والعرفاء والمعلمون. أما ذوو الرتب الأعلى فيجتمعون على حدة، في ورشات «التجويد». ويُفترض في المشاركين في الاجتماع أن يقبلوا لباساً معيَّناً: فهم يضعون في أيديهم قفازات بيضاء، ويزينون صدورهم بشريط عريض،ويربطون على خصورهم مآزر صغيرة، وقد يرتدون ثوباً أسود طويلاً، أو بزة قاتمة اللون، أو «سموكينج»، بحسب تقاليد محفلهم، وهي تقاليد بالغة التعقيد والتنوع.

وتشكل المحافل اتحادات تدين بالولاء والطاعة لأحد المحافل الكبرى. ففي فرنسا، على سبيل المثال، خمسة محافل أساسية كبرى، وهي: محفل الشرق الكبير، ومحفل فرنسا الكبير، والمحفل الوطني الفرنسي الكبير، والاتحاد الفرنسي للحقوق الإنسانية، ومحفل فرنسا الكبير للنساء. وتعقد المحافل الكبرى جمعيات عمومية يتخللها تقييم العمل الذي تم إنجازه ورسم خطط العمل للمستقبل. وبعد عَرْض هذه الأشكال التنظيمية والطقوس والرموز، يمكننا القول بأن تنوعها يجعلها غير صالحة كأساس تصنيفي للماسونية.

أما العنصر الثاني الذي يُقال إنه يميِّز الماسونية عن غيرها من الحركات، فهو الإيمان بالحرية والمساواة والإنسانية. ولكن كثيراً من المحافل اتخذت مواقف عنصرية، فالمحافل الألمانية والإسكندنافية رفضت السماح لأعضاء الجماعات اليهودية بالانضمام إليها، والمحافل الأمريكية رفضت انضمام الزنوج. كما لم تنجح المحافل الماسونية في تجاوز الحدود القومية الضيقة. فأثناء الحرب العالمية الأولى، على سبيل المثال، استبعدت المحافل البريطانية الأعضاء المنحدرين عن أصل ألماني أو نمساوي أو مجري أو تركي.

أما العنصر الثالث، وهو العنصر الربوبي، أي الإيمان بالخالق بدون حاجة إلى وحي، فإن محفل الشرق الأعظم في فرنسا رفض هذا الحد الأدنى تماماً عام 1877، وترك لكل عضو أن يحدد بنفسه موقفه من هذه القضية، وتم تأكيد «التقوى الطبيعية» بدلاً من «الإيمان الحق»، أي أن الماسونية الفرنسية تبنت صيغة علمانية كاملة مؤسَّسة على الفكر الهيوماني أو الإنساني العلماني.

وحتى نصل إلى تعريف دقيق مركب، فلابد أن نأخذ في الاعتبار هذه الخاصية التراكمية الجيولوجية، فندرس الطبقات الجيولوجية في تراكمها الواحدة فوق الأخرى، والتي أدَّت في نهاية الأمر إلى ظهور الماسونيات المختلفة وصفاتها المتنوعة. ويجب أن نؤكد ابتداءً أننا يجب أن نلزم الحذر في تحديد مستوى التعميم والتخصيص. فرغم أنالماسونية حركة بدأت في أوربا (في العالم الغربي) إلا أنها انتشرت في العالم بأسره. ورغم انتشارها هذا إلا أنها لم تصبح حركة عالمية، إذ لا يوجد نمط واحد للتطور،فالماسونية في الغرب مختلفة عنها في العالم الثالث، وهي في إيطاليا مختلفة عنها في أمريكا اللاتينية. وكما سنبين أن الحركات الماسونية المختلفة خدمت دولها ولذا قامتالحركات الماسونية البريطانية بخدمة الاستعمار البريطاني وقامت الحركة الماسونية الفرنسية بخدمة الاستعمار الفرنسي (ولذا نشب صراع بين الحركتين).

تعود جذور الماسونية إلى جماعات أو نقابات الحرفيين في العصور الوسطى الإقطاعية في الغرب، وهي جماعات كانت منظمة تنظيماً صارماً شبه ديني، فكان لكل نقابة طقوسها الخاصة ورموزها الخفية وقسمها السري وأسرار المهنة التي تحاول كل جماعة الحفاظ عليها. وهـذه كلها أدوات لهـا وظيفة اجتـماعية شـديدة الأهمية إذ أنه، مع غياب المؤسسات التعليمية، كان يتم توريث المعلومات، والخبرات المختلفة الحيوية اللازمة لاستمرار المجتمع، من خلال نقابات الحرفيين. وبدون هذه العملية، لم يكن المجتمع ليحقق أي استمرار. وكانت جماعات البنَّائين من أقوى الجماعات الحرفية، ذلك أن العصور الوسطى كانت العصر الذهبي لبناء الكاتدرائيات والأديرة والمقابر. وكان البناءون يعيشون على أجرهم وحده، على عكس الحرفيين الآخرين، مثل النساجين والحدادين الذين كانوا يتقاضون من زبائنهم مقابلاً عينياً من خلال نظام المقايضة، أي أن البنائين (مثل أعضاء الجماعات اليهودية) كانوا جزءاً من اقتصاد نقدي في مجتمع زراعي. كما أن البنائين كانوا أحراراً تماماً في حركتهم. فقد كان الحداد، مثلاً، يقوم بعمله في مكان ثابت ويقوم على خدمة جماعة بعينها، أما البناء فكان عليه الانتقال من مكان إلى آخر بحثاً عن عمل. ولذا، يمكن القول بأن البنائين كانوا من أكثر القطاعات حركية في المجتمع الوسيط في الغرب. وكان على البنائين أن يجدوا إطاراً تنظيمياً يتلاءم مع حركيتهم، فالنقابات الحرفية بتنظيمها المألوف كانت ملائمة للحرفيين الثابتين. أما بالنسبة للبنّائين، فكان لابد من ابتداع إطار حركي خاص بهم.

ومن هنا كانت فكرة البناَّء الذي يُقال له بالإنجليزية: «لودج lodge» أي «المحفل». والمحفل هو عبارة عن كوخ يُبنى من الطين أو مادة بناء أخرى تَسهُل إزالتها بعد الانتهاء من عملية البناء. وكان المحفل هو المكان الذي يلتقي فيه البناءون حيث يتبادلون المعلومات، ويعبِّرون عن شكواهم وضيقهم من أحوال العمل، ويتبادلون الأخبار بل المشروبات. كما كان بوسعهم النوم في المحفل وقت الظهيرة. وكان العضو الجديد من جماعة البنائين يذهب إلى المحفل لمقابلة أبناء حرفته، ومن هنا ظهرت فكرة السرية والرمزية، إذ كان لابد أن يتوصل هؤلاء البناءون إلى لغة أو شفرة خاصة بهم لا يفهمها سواهم ولا يستطيع صاحب العمل أو غير المشتغلين بحرفة البناء فهمها. وقد أخذت الشفرة شكل عبارات خاصة وطرق معيَّنة في المصافحة وإشارات بالأيدي الهدف منها أن يتمكن البنّاء من التفرقة بين أبناء حرفته الحقيقيين الذين تلقوا التدريب اللازم وينتمون إلى نقابة الحرفيين وبين الدخلاء على الحرفة. وقد التزم البنّاءون بمجموعة من الواجبات ضمها ما يُسمَّى «كتب الواجبات» أو كتب التعليمات أو الدساتير، ومن أهمها مخطوط ريجيوس الذي يعود إلى عام 1390. وتذكر كتب الواجبات أن البناء يتعيَّن عليه مساعدة زملائه وعدم ذمهم، وعليه تعليم المبتدئين منهم، كما أن عليه عدم إيواء الدخلاء. وتتحدث كتب الواجبات كذلك عن الأصول التاريخية أو الأسطورية لحرفة البناء التي يُرجعونها إلى مصر وإلى بناء هيكل سليمان. وثمة قصص أخرى وردت في هذه الكتب عن «الأربعة المتوَّجين»، وهم أربعة بنائين مسيحيين قتلهم الرومان وأصبحوا شهداء، ومن ثم فقد كان هؤلاء قديسي البنائين.

وقد ظلت نقابات البنائين مزدهرة حتى عصر النهضة في الغرب في القرن السادس عشر، وهو أيضاً عصر الإصلاح الديني، حين توقفت حركة بناء الكاتدرائيات وغيرها من المباني الدينية الكاثوليكية. ولكن ذلك تزامن مع ظهور الدولة القومية المطلقة التي قامت بتأسيس مشاريع عمرانية ضخمة تحت إشرافها كسلطة مركزية، ومن ثم بدأت الدعائم التي تستند إليها نقابات البنائين في الاهتزاز، شأنها في هذا شأن كثير من الجماعات الحرفية والمؤسسات الإقطاعية الأخرى وبدأت في التحول إلى جماعات خيرية أو جماعات تضامن تحاول أن تُوفِّر لأعضائها بعض الطمأنينة النفسية وشيئاً من الأمن الاقتصادي. ومع تَناقُص العضوية، بدأت النقابات تقبل في صفوفها أعضاء شرفيين ليحافظوا على الأعداد اللازمة، ومن هنا بدأ التمييز بين البنائين العاملين أو الأحرار، أي الذين يعملون بالحرفة فعلاً، والبنائين المقبولين أو الرمزيين. وظهرت الماسونية الرمزية أو التأملية أو النظرية أو الفلسفية التي حلت محـل الماسـونية الفعلية، بحيث تحوَّل البناء وأدواته من وظيفة إلى رمز. ولكن البناء (وأدواته) لم يكن المصـدر الوحـيد للرمـوز الماسونية، فكما أسلفنا كان هناك سليمان وهيكله، وهو يعتبر البنّاء الأول، وهيكله رمز الكـمال الذي يطـمح كل البنـائين أو الماسون أن يصلوا إليه. ويبدو أن بعض رموز الملـكية المقدَّسة في الدولة العبرانية وجدت طريقها إلى الشعائر والرموز الماسونية. وكانت هناك رموز مسيحية كثيرة مأخوذة من تقاليد جماعات الفرسان التي انتشرت في أوربا في العصور الوسطى، والتي يعود أصل معظمها إلى حروب الفرنجة والاستعمار الاستيطاني للفرنجة في فلسطين، مثل جماعة فرسان الهيكل (الداوية) وجماعة فرسان الإسعاف (الإسبتارية) وغيرهما. كما يحتل يوحنا المعمدان ويوحنا الرسول مكاناً خاصاً لديهم، وقد أسلفنا الإشارة إلى الأربعة المتوجين.

وقد يكون من المفيد (أو لعله من الطريف) أن نتوقف قليلاً عند أحد الأصول المفترضة للحركة الماسونية وفكرها حسب بعض مؤرخيها، ونعني بذلك نسبتها إلى بعض الجماعات الإسلامية (أو شبه الإسلامية)، مثل: الدروز، والطائفة الإسماعيلية، وجماعة الحشاشين. ويرى هؤلاء المؤرخون أن الحركة الماسونية استمدت بعض أفكارها ورموزها وطريقة تنظيمها من هذه الجماعات. فشيخ الجبل، رئيس جماعة الحشاشين، الذي يمسك كل الخيوط بيديه لا يختلف كثيراً عن رئيس المحفل، وطريقة العمل السرية وتجنيد الأعضاء الجدد وفكرة الدرجات التي تتبعها الحركة الماسونية لا تختلف كثيراً عن طريقة العمل والتجنيد في هذه الجماعات. بل تذهب بعض المراجع إلى أن جماعة فرسان الهيكل التي اتخذت الحركة الماسونية كثيراً من رموزها رموزاً لها هي في الواقع الأصل الحقيقي للحركة الماسونية، وأن فرسان الهيكل هؤلاء بدأوا نشاطهم في فلسطين إبّان حروب الفرنجة، ثم انتقل نشاطهم إلى أوربا واستمر بعد سقوط كل جيوب الفرنجة في فلسطين، هؤلاء الفرسان هم في واقع الأمر مسلمون أو متأثرون بالفكر الديني الإسلامي، كانوا يحاولون من خلال تنظيمهم السري/العلني أن يسيطروا على العالم المسيحي. ومن المعروف أن جماعة فرسان الهيكل كانت تكوِّن شبكة ضخمة في معظم أرجاء أوربا وأنه كانت تتبعها مجموعة من المحاربين/الرهبان (الذين تأثروا بفكرة الجهاد الإسلامية) ومجموعة من المؤسسات المالية الضخمة ذات النفوذ القوي. وقد تم ضرب فرسان الهيكل في فرنسا وفي كل أنحاء أوربا وقُدِّموا لمحاكم التفتيش. وكانت إحدى التهم الموجهة إليهم هي رفضهم القول بألوهية المسيح وتأثرهم العميق بالفكر الديني الإسلامي وتبشيرهم به، وقد اعترف بعض الفرسان بالتهم الموجهة إليهم. ويبدو أن فرسان الهيكل تأثروا بالفكر الإسلامي أو المُثُل الإسلامية إبّان وجودهم في الشرق الأوسط الإسلامي، كما أنهم تعاونوا بالفعل مع جماعة الحشاشين ودبروا معهم بعض المؤامرات. مهما كان الأمر فإن بعض المؤرخين يذهبون إلى أن بعض فرسان الهيكل قَدموا إلى اسكتلندا حيث أسسوا الحركة الماسونية للسيطرة على أوربا بعد أن تم ضربهم. وقد استطردنا في الحديث عند فرسان الهيكل والإسلام لنبين مدى تشابك أصول الماسونية وتركيبيتها.

وقد اختلطت فلسفة البنائين بالفلسفة الهرمسية السائدة في عصر النهضة في إنجلترا، وهي فلسفة غنوصية ذات طابع أفلاطوني حـديث ارتبـطت بهرمـيس تريسميجيستوس، وهو شخصية رمزية أساسية في الفكر الغنوصي حيث كان يُعَدُّ نبياً قبل المسيحية، وكان يُعَدُّ رسول الآلهة للبشر ويحمل المعرفة الخفية الباطنية (الغنوص). كما اختلطت فلسفة البنائين بالحركة الروزيكروشيانية (بالإنجليزية: روزيكروشيان Rosicrusian نسبة إلى روز rose بمعنى وردة وكروس cross أي صليب) التي ورد أول ذكر لها في القرن السابع عشر، وهي جماعة غنوصية تدَّعي أنها تمتلك الحكمة الخفية عند القدماء. وقد أدَّى تداخُل رموز البنائين وأسرارهم مع الفلسفة الهرمسية والروزيكرو شيانية، إلى أن سقطت تماماً القيمة الوظيفية لحرفة البناء، كما سقطت أدواتها (الفرجار والذراع والبوصلة والمثلث والمئزر والمزولة) واكتسبت قيمة رمزية، فتحوَّل ميزان البنائين (على سبيل المثال) إلى رمز العدالة، وتحوَّل الفادن (وهو خيط رفيع في طرفه قطعة من الرصاص تُمتَحن به استقامة الجدار) إلى رمز استقامة الحياة وأفعال الإنسان.

وهكذا تشكلت الطبيعة الجيولوجية المركبة لرموز الماسونية التي ضمت رموزاً من الديانات المصرية القديمة، كما ضمت كلمات عبرية بتأثير من القبَّالاه التي دخل الماسونية كثير من أفكارها. والواقع أن اختلاط فكر البنائين بالفلسفة الهرمسية والروزيكروشيانية يَصلُح مؤشراً على اتجاه الماسونية. فهذه الفلسفات، برغم شكلها الصوفي، كانت جزءاً من الثورة العلمانية الشاملة الكبرى التي تفجرت في الغرب في القرن السادس عشر، والتي كانت تهدف إلى إزاحة الخالق من الكون أو وضعه في مكان هامشي ووضع الإنسان في المركز بدلاً منه، على أن يقوم الإنسان بالتحكم الكامل في الكون عن طريق اكتشاف قوانين الطبيعة الهندسية والآلية. وهي، بهذا، غنوصية جديدة تهدف إلى التحكم في الكون، لا من خلال المعرفة الخفية وإنما من خلال الصيغ العلمية. وعلى كلٍّ، كانت المعرفة الخفية تأخذ، في كثير من الأحيان، شكل صيغ رقمية أقرب إلى المعادلات الجبرية.

وفي العصور الوسطى، كان الوجدان الشعبي يرى أن مثال الغنوصية هو الدكتور فاوستوس الذي باع روحه للشيطان في سبيل المعرفة الكاملة. وفاوستوس هو بطلالتفكير العلمي، إليه تُنسَب النزعة الفاوستية التي تسم الفكر العلمي والثوري. وربما تكون مركزية رموز آلات البناء تعبيراً عن النسق الهندسي والآلي الكامن فيالماسونية، وعن رغبة التحكم في كلٍّ من الذات الإنسانية والكون من خلال صيغ رياضية (ولعل المقارنة هنا مع فلسفة إسبينوزا وطموحه نحو لغة رياضية هندسية دقيقة مقارنة ذات دلالة عميقة).

لا يمكن، إذن، فهم الماسونية إلا بوضعها في هذا السياق الفكري. وكما يعرف دارسو تاريخ أوربا، فإنه بعد ظهور فكر عصر النهضة وُلد فكر عصر العقل والاستنارة والإيمان بالقانون الطبيعي. والعلمانية (الشاملة) هي نزع القداسة عن العالم (الإنسان والطبيعة) والإيمان بفعالية القانون الطبيعي في مجالات الحياة الطبيعية والإنسانية كافة وإنكار أي غيب، وإلا لما أمكن التحكم في الكون (الإنسان والطبيعة) وتوظيفه واستخدامه وتحويله إلى مادة استعمالية. وقد انعكس هذا في فكرة الإنسان الطبيعي (العقلاني) أو الأممي، وهو إنسان عام لا يتميَّز عن أي إنسان آخر، صفاته الأساسية عامة أما صفاته الخاصة فلا أهمية لها، وهو إنسان عقلاني إن أعمل عقله بالقدر الكافي لتوصَّل إلى الحقائق نفسها التي يتوصَّل إليها الآخرون بغض النظر عن الزمان والمكان. ومن ثم، فبإمكان هذا الإنسان أن يصل إلى فكرة الخالق بعقله بـدون حاجـة إلى وحي إلهـي أو معجزات، أي دون الحاجـة إلى دين مُرسَل، أي أن الإنسان الطبيعي العقلاني العالمي (الأممي) يمكنه أن يتوصل بعقله إلى الإيمان بدين طبيعي عقلاني عالمي.

ويمكن القول بأن الدين الطبيعي، أو «الربوبية» كما كانت تُدعَى، هو تعبير عن معدل منخفض من العلمنة أو تعبير عن علمانية جنينية، فهي تستجيب لحاجة أولئك الذين فقدوا إيمانهم بالدين التقليدي ولكنهم لا يزالون غير قادرين على تَقبُّل عالم اختفى منه الخالق تماماً، أي أنهم بشر جردوا العالم من الدين والقداسة واليقين المعرفي والأخلاقي ولكنهم احتفظوا بفكرة الخالق في صيغة باهتة لا شخصية، حتى لا يصبح العالم فراغاً كاملاً.

والفكر الربوبي لا يطالب من يؤمن به بأن يتنكر لدينه، إذ أن المطلوب هو أن يعيد تأسيس عقيدته، لا على الوحي وإنما على قيم عقلية مجردة منفصلة تماماً عن أي غيب، أي منفصلة عن الأنساق الدينية المألوفة للتفكير. فالربوبية، في واقع الأمر، فلسفة علمانية تستخدم خطاباً دينياً، أو ديباجات دينية، للدفاع عن العقل المادي المحض، وعن الرؤية التجريبية المادية. ومن ثم، فهي وسيلة من وسائل علمنة العقل الإنساني.

في هذا الإطار الفكري والفلسفي والديني، وُلدت الماسونية. وقد تم تأسيس أربعة محافل متفرقة في إنجلترا في القرن السابع عشر، جمعها كلها محفل واحد مركزي تأسس عام 1717 مع بدايات عصر العقل وحركة الاستنارة. ويُعَد هذا التاريخ هو تاريخ بدء الحركة الماسونية، وقد سُمح لليهود بالالتحاق بها عام 1732. ودخلت الحركة الماسونية فرنسا عام 1725، وإيطاليا وألمانيا عام 1733.

وإن أردنا تلخيص فكر أولى الماسونيات التي نقابلها، ولنسمها «الماسونية العقلانية» أو «الماسونية الربوبية»، لقلنا إنها تنادي بتوحيد كل البشر من خلال العقل، كما تنادي بإسقاط الدين مع الاحتفاظ بالخالق خشية الفوضى الفلسفية الشاملة.

ولذا، فقد جاء في تعريف الماسوني أنه «ذكر بالغ يلتزم بالنسق الديني الذي يوافق عليه جميع البشر». وهذا هو الإيمان بالخالق أو الكائن الأسمى (مهندس الكون الأعظم)، أو الإيمان بالجوهر العقلي للدين الذي يستطيع العقل أن يصل إليه. وبوسع العضو أن يحتفظ لنفسه بأية آراء دينية خاصة أخرى، على أن يعلن تسامحه مع الأديان وإيمانه بأبوة الرب وأخوة البشر وخلود الروح. وقد جاء في الدستور الماسوني لعام 1733 الصادر في إنجلترا أن الماسوني «لا يمكن أن يكون كافراً غبياً أو فاسقاً غير متدين» وعليه أن يحترم السلطات المدنية ولا يشترك في الحركات السياسية. ومن أهداف الماسونية الأساسية ما يُسمَّى «اليقظة الأخلاقية عن طريق العلم» وهي عبارة قد تبدو بريئة ولكنها تعبير عن منظومة عقلانية مادية لا تزال متلبسة ديباجات أخلاقية وروحية. وتدعو الماسونية إلى مجموعة من الصفات العامة التي لا تغيِّر كثيراً من هذه البنية الفكرية التحتية، فهي تدعو إلى وحدة البشر على أساس الإخاء والمحبة والمساواة، والعون المشترك وخدمة الغير وحُسْن معاملتهم، وحب الجماعة وتبادُل المصالح والتحلي بالفضائل المدنية، أى الفضائل التي يتسم بها المواطن الذي ينتمي إلى الدولة القومية (مقابل الفضائل الدينية لدى الإنسان المتدين الذي ينتمي إلى الكنيسة ويؤمن بعقيدة مُنزَّلة). كما تُقدِّس الماسونية الملْكية الخاصة. وليس للماسونية هدف نهائي محدد، وإن كان ثمة هدف فهو عام غير محدد، وهو أن يكون العالم في النهاية في اتحاد أخوي وإلهي (ولعلنا نُلاحظ هنا النموذج الحلولي الواحدي الكامن).

ويمكننا أن نقول إن الماسونية الربوبية هي ماسونية الفكر المركنتالي والدولة المطلقة، وماسونية الطبقات الأرستقراطية التي احتضنت الطبقات الوسطى الصاعدة باعتبارها قوة تستخدمها وتوظِّفها لصالح الدولة القومية المطلقة دون أن تسلمها صولجان الحكم والقيادة. وقد اكتشف الإنسان الغربي (منذ عصر نهضته، بعد ظهور ماكيافيللي وهوبز وفكرة القانون الطبيعي وضعف الإطار المسيحي التقليدي وانكماش سلطة الكنيسة الدنيوية) أن المطلق الوحيد في الإطار العلماني الشامل هو الدولة وأن مصلحتها العليا هي المطلق الأخلاقي الأسمى. وهذه الفلسفة علمانية شاملة تضع الخالق والغيب في موضع هامشي، وهذا ما تنجزه الماسونية الربوبية وتُعلمن الإنسان وتجعله يستبطن هذه القيمة المطلقة حتى يخضع لإرادة الدولة بدلاً من إرادة الخالق. داخل إطار عقلانى هادئ يشجع على تطويع الإنسان وتطبيعه. والدولة المطلقة إطار يضم كل الطبقات تحت قيادة هذه الملكية المطلقة أو تلك، أو أية ملكية أخرى في مواجهـة الكنيسـة التي كانت لا تزال تحاول الحفاظ على سلطانها الدنيوي. ومن ثم، نجد أن أعضاء الأرستقراطية انضموا إلى الحركات الماسونية، فقد انضم إليها ملكا بروسيا فريدريك الثاني وفريدريك الثالث، وملوك شبه جزيرة إسكندنافيا، وملك النمسا جوزيف الثاني، ونابليون وأفراد عائلته، وأعضاء الطبقة الوسطى الذين يطمحون إلى شيء من الحراك الاجتماعي. ويمكن تفسير انضمام أعضاء الأسرة المالكة الإنجليزية وأعضاء الأرستقراطية إلى الجماعات الماسونية من المنظور نفسه. وكان كثير ممن يُطلَق عليهم «مثقفو الطبقة الوسطى الصاعدة» من الماسونيين. كما يمكن أن نذكر من أعضائها فولتيرومونتسكيو والأنسيكلوبيديين (الموسوعيين)، وفخته وجوته وهردر ولسنج وموتسارت، وأعضاء الجمعية الملكية في إنجلترا، وجورج واشنطن، وماتزيني وغاريبالدي.

وعشية الثورة الفرنسية، كان يوجد في فرنسا نحو خمسمائة محفل ماسوني. كما يُقال إن أكثر من نصف أعضاء الجمعية العمومية في فرنسا، عشية الثورة، كانوا منالماسونيين. ولكن يجب ملاحظة أن معظم الماسونيين في فرنسا في تلك المرحلة لم يكونوا من غلاة الثوريين (الجمهوريين) بل كانوا من دعاة الإصلاح بلا ثورة. ولذلك، فقد هاجر كثير منهم من فرنسا بعد تصاعد حمَّى الثورة، أو سقطت رؤوس بعضهم ضحايا المد الثوري (ويمكن أن نخص بالذكر مارا ودانتون ميرابو ولافاييت باعتبارهم من قادة الثورة الفرنسية من الماسونيين).

ويمكن القول بأن الماسونيين كانوا من أعضاء طبقات أو فئات هامشية تود أن تحقق شيئاً من الحراك والمركزية، أو كانوا أعضاء هامشيين أو فئات هامشية في طبقات مركزية ويودون أن يحققوا قدراً من الحراك من خلال الانضمام إلى تَجمُّع أكبر، أو كانوا من أعضاء الأرستقراطية الذين أرادوا أن يستخدموا القوة الماسونية وأن يوظفوها لصالحهم الشخصي أو لصالح الدولة المطلقة. وربما يعود شيوع الماسونية في القرن الثامن عشر إلى سببين أساسيين: أولهما، شيوع الفلسفات العقلانية المعادية للكنيسة والطبقات الإقطاعية. ولكن هذه الفلسفات لم تكن بعد ثورية أو إلحادية، فقد كانت تعبِّر عن مصالح الطبقة الوسطى الصاعدة وعن رؤيتها التجارية المادية العلمانية الشاملة للكون، بدون أن تعلن صراحة عن ماديتها أو علمانيتها إذ كانت أضعف من أن تفعل ذلك. أما السبب الثاني، فهو عدم تجانس رموز الحركة الماسونية، الأمر الذي لعب دوراً حيوياً في زيادة مقدرتها التعبوية على مستوى كل الطبقات. وقد كانت الماسونية ديموقراطية تقوم بتجنيد أعضائها من الطبقات كافة، ولكنها كانت في الوقت نفسه أرستقراطية يترأسها الملك وأعضاء النخبة، وتأخذ شكلاً هرمياً جامداً. وكانت ليبرالية تدعو إلى الأخوة والمساواة، ولكنها كانت في الوقت نفسه محافظة تدعو إلى عدم التعرض للسلطات الحكومية أو الخوض في الأمور السياسية. وكانت الماسونية في تلك المرحلة حركة إيمانية ربوبية، ولكنها كانت تحوي داخلها كل معالم التفكير الإلحادي الذي يُسقط الإله تماماً. وكانت عقلانية ذات رموز صوفية، وتضم أفكاراً عالمية ومحلية. وربما جعلتها هذه الصيغة الإسفنجية تحقق هذا النجاح الباهر وتجعلها واحدة من أهم مؤسسات العلمنة في العالم، فهي تستخدم ديباجات دينية ضبابية لتحقيق أهداف علمانية.

ولكن الماسونية هي بنت محيطها الحضاري التاريخي والجغرافي (فلا يوجد كما أسلفنا نسق عالمي واحد ينطبق على الماسونيين في كل زمان ومكان)، فقد كانت ألمانية في ألمانيا، وإنجليزية في إنجلترا، وفرنسية في فرنسا. ولذا، فقد تغيَّرت هي نفسها مع تغيُّر أوربا. كما نجد أن تصاعد قوى الطبقة الوسطى ومعدلات العلمانية والإلحاد قد انعكس على الفكر الماسوني وتنظيماته، فاكتسب كثير من المحافل الماسـونية مضمـوناً ثورياً، وخصوصاً في البـلاد الكاثوليكية والأرثوذكسية، وأصبحت الأداة الكبرى في الحرب ضد الكنيسة، وفي المطالبة بفصل الدين عن الدولة. هذا على عكس المحافل الماسونية في البلاد البروتستانتية حيث ظلت معتدلة تدور داخل إطار ربوبي.

وفي هذا الإطار الجديد، ظهرت الماسونية الثانية التي تتخذ موقفاً إلحادياً أكثر صراحة، وبدلاً من العقلانية الربوبية شبه المادية التي تستخدم ديباجات أخلاقية وروحية، تُسقط الماسونية تدريجياً كل هذه الديباجات وتدور تماماً في إطار العقلانية المادية الكاملة، فقرَّر محفل الشرق الأعظم في فرنسا عام 1877 استبعاد أية بقايا إيمانية من الفكر الماسوني. وظهرت محافل ذات طابع ثوري مثل النورانيين (إليوميناتي) في بافاريا، وقبلها المارتينيست في فرنسا، وكانت المحافل الماسونية في روسيا القيصرية (الأرثوذكسية) خلايا ثورية، وكان معظم أعضاء ثورة الديسمبريين من الماسونيين.

ويُلاحَظ أن الماسونية الثانية ، وهي ثورية إلحادية، تنتشر في البلاد الكاثوليكية والأرثوذكسية، أي البلاد التي توجد فيها كنيسة قوية تقف ضد الفلسفات العقلانية البورجوازية والثورية العمالية. كما يُلاحَظ أن المحـافل الماسـونية في هـذه البلاد، كما هـو الحال في أمريكا اللاتينية، تتسم بثوريتها وعدائها للكنيسة والكهنوت، كما تتسم بارتباطها الواضح بالفلسفة الوضعية التي تجعل العلم الأساس الوحيد للقيمة والأخلاق، فالتقدم الأخلاقي يتم تحقيقه من خلال التقدم العلمي، والمنفعة الإنسانية ككل هي نهضة علمية (ولهذا لوحظ أن عدداً كبيراً من دعاة الفكر الوضعي في فرنسا وروسيا والعالم الثالث أعضاء في المحافل الماسونية). كما أن الكنيسة، بدورها، تناصب الحركة الماسونية العداء. وبمرور الزمن، أصبحت المحافل الماسونية تضم، من ناحية الأساس، عناصر البورجوازية والطبقة الوسطى، ولم يَعُد ينضم إليها أي مفكرين، كما اختفى منها كذلك أعضاء الأرستقراطية. وبرغم كل هذا، فإن عضوية المحافل الماسونية ظلت (من ناحية الأساس) مقصورة على العناصر البورجوازية المعتدلة التي ترفض الدخول في أية مغامرات سياسية، والتي تود أن تعيش في عالم علماني عقلاني ولكنها لا تريد مواجهة النتائج الفلسفية الناجمة عن ذلك، وربما يفسر هذا سر تَصدِّي البلاشفة للجماعات الماسونية وحظرهم إياها، وتَصدِّي هتلر وموسوليني أيضاً لها وتجريمهما الجمعيات الماسونية. فالبلاشفة والفاشيون والنازيون راديكاليون، وإذا كان البلاشفة راديكاليين عقلانيين ماديين فالفاشيون والنازيون راديكاليون لا عقلانيون ماديون، ويطمحون إلى التحكم الكامل في الدولة وجماهيرها، ولذا فالاعتدال أو التراخي الماسوني يُشكِّل تحدياً لسلطتهم. كما أن الجيب الماسوني كان يتمتع بقدر من الاستقلال بل السرية، فهو يمثل جماعة مصالح لها شعائرها وطقوسها، والدول العلمانية الشمولية المطلقة لا تتحمل وجود مثل هذه الجيوب داخلها.

وقد انتشرت الماسونية في البلاد البروتستانتية لأن البروتستانتية شكل من أشكال علمنة المسيحية الكاثوليكية، كما أن معدلات العلمانية مرتفعة فيها. فقد انتشرت بسرعة في الجزر البريطانية بسبب عدم وجود كنيسة مسيطرة على جوانب الحياة، وبسبب انخراط الطبقة الحاكمة في صفوف الماسونية. وقد انتشرت الماسونية مع اتساع الإمبراطورية الإنجليزية، فانتقلت إلى الولايات المتحدة وأستراليا وكندا ومصر وفلسطين والهند وغيرها من المستعمرات أو المحميات. وقد احتفظت الحركة الماسونيةبطابع هادئ مهادن داخل التشكيل البروتستانتي.

ولكن الماسونية البريطانية لم تكن الماسونية الوحيدة التي انتشرت في المستعمرات، إذ أن الصراع الإمبريالي على العالم انعكس من خلال صراع بين الحركات والمحافل الماسونية، فكان كل محفل ماسوني يخدم مصلحة بلد ويمثله، تماماً كما حدث صراع بين المبشرين البروتستانت والمبشرين الكاثوليك الذين كانوا يمثلون مصالح بلادهم. ويبدو أن بعض الشخصيات المهمة في العالم العربي أرادت أن تستفيد من هذا الصراع، وخصوصاً أن أعضاء هذه المحافل كانوا من الأجانب ذوي الحقوق والامتيازات الخاصة المقصورة عليهم. فكان الدعاة المحليون ينخرطون في هذه المحافل بغية توظيفها في خدمة أهدافهم، وحتى يتمتعوا بالمزايا الممنوحة لهم. وكان من بين هؤلاء الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده والأمير عبد القادر الجزائري. ولعل هذه الشخصيات الدينية والوطنية حذت حذو ماتزيني وغاريبالدي وغيرهما ممن حاولوا الاستفادة من أية أطر تنظيمية قائمة. ولنا أن نلاحظ أن الأفغاني قد اكتشف حقيقة الماسونية في وقت مبكر، وتَوصَّل إلى الأسس العلمانية التي يقوم عليها خطابها الديني، ومن ثم ناهض هذه الأفكار في كتابه الرد على الدهريين . أما عبد القادر الجزائري فلا توجد تفاصيل حول علاقته بالماسونية، وإن كان قد حاول إيجاد أطر تنظيميـة وتأسيسـية لحركته مع الاسـتفادة من أسـلوب التنظيمات الماسونية. وقد انضم إلى الحركة الماسونية أحد أبناء محمد علي باشا وكانت له مطالب في عرش مصر، وقد كان أستاذاً أعظم لمحفل الشرق الأعظم المصري، وتبعه في ذلك عدد من أعضاء الأسرة المالكة. كما انضم إلى الحركة الماسونية شخصيات أخرى، مثل سعد زغلول ويوسف وهبي. ولكن ارتباط أمثالهما بالحركة الماسونية كان واهياً للغاية ولا يعدو قبولهم ذكر أسمائهم ضمن قائمة الأعضاء أو حضور اجتماع يُعقَد على شرفهم دون أي إدراك من جانبهم للتضمينات الفلسفية وراء الفكر الماسوني. كما أن الحركة الماسونية ظلت في مصر وغيرها ضعيفة تضم في صفوفها الأجانب أساساً.

ويمكننا الآن طرح قضيتين مهمتين هما: نفوذ الماسونية السياسي والاقتصادي، وسرية تنظيماتهما، وهما عنصران مترابطان تمام الترابط. فالحركات الماسونية تتركز في بلاد غربية متقدمة تحكمها حكومات مركزية قوية، وتخضع فيها الحركات السياسية والاجتماعية كافة للمراقبة، وإلا لما أمكنها تسيير دفة الحكم. ولا يمكن في الحقيقة تصوُّر وجود حركات ضخمة لها قوة فعالة لا تخضع للإطار العام الذي تفرضه مثل هذه الدول المطلقة الرشيدة، فعملية التنبؤ والتخطيط تتطلب مثل هذا التحكم ومثل هذه المعرفة. والمحافل الماسونية تخضع لهذا القانون العام، ولم يكن من الممكن أن تُشكِّل استثناء منه. لكن هذا لا يمنع، بطبيعة الحال، من تَسلُّل بعض العناصر المغامرة إلى بعض المحافل لتوظيفها بشكل أو بآخر، من خلال شبكة اتصالاتها، في الاحتيال أو الأعمال الإجرامية. وهذا هو بالضبط ما تفعله، على سبيل المثال، عصابات المافيا (الجريمة المنظمة) مع الجهاز التنفيذي في الولايات المتحدة، إذ تستأجر كبار المحامين وتشتري القضاة وتجند ضباط الشرطة، أي تقوم بتوظيف الجهاز الذي أُسِّس لمكافحتها والقضاء عليها لتنفيذ أهدافها الإجرامية. وكل هذا لا يعني وجود مؤامرة مافياوية للاستيلاء على العالم. وكذلك الجماعات الماسونية، فهي إذا ما تحولت إلى قوة ضغط (لوبي)، فإنها لا تختلف كثيراً عن مراكز الضغط الأخرى داخل النظام السياسـي والاقتصـادي. وإن أخـذ نشاطهـا شكلاً تآمرياً أو إجرامياً في بلد ما، فلا يصح تعميم مثل هذه الوقائع وافتراض وجود مثل هذا النشاط على مستوى العالم بأسره.

وقد وُصفت الولايات المتحدة بأنها ديموقراطية جماعات الضغط. ولابد أن المحافل الماسونية تشكل إحدى هذه الجماعات التي تعمل داخل النظام، فهذا هو المُتوقَّع منها، وهذا هو «قانون اللعبة». ولا يمكن في هذا السياق أن نتحدث عن مؤامرة خفية أو علنية. ومن الناحية النظرية، يمكن أن نقول إن المحافل الماسونية بوسعها أن تمارس ضغوطاً ضخمة في العالم الثالث نظراً لضعف جهاز الدولة المركزي. ولكن، بحسب ما هو متوافر لدينا من معلومات، لا توجد حكومة في العالم الثالث سقطت في يد اللوبي الماسوني. ولكن لوحظ أنه قد بدأ يظهر تحالف بين بعض المحافل الماسونية وعصابات المافيا في إيطاليا في العالم الأول، وقد بدأوا في السيطرة على بعض المؤسسات المالية الشرعية ليمارسوا نشاطهم غير الشرعي وراء ستار. كما أن الماسونية تلعب دوراً تآمرياً ملحوظاً في بلد مثل تركيا، حيث يمارس بقايا يهود الدونمه نشاطهم من خلال محافلها، وهي جزء لا يتجزأ من المؤسسة العلمانية هناك، بل تشكِّل عمودها الفقري. ويُقال إن الماسونية لها أيضاً دور متميِّز في بلد مثل المملكة الأردنية الهاشمية.

ويُلاحَظ أن رجال الشرطة في إنجلترا وكثير ممن يعملون في المؤسسات الأمنية والقضائية وبعض أهم أعضاء النخبة الحاكمة أعضاء في المحافل الماسونية. وقد طلبت الحكومة البريطانية من أعضاء جهاز الشرطة ممن ينتمون إلى محافل ماسونية أن يعلنوا ذلك، لأنه لوحظ أن أعضاء الشبكة الماسونية يُوظِّفون القوانين والإجراءات لصالحهم ولصالح زملائهم.

ولا توجد سلطة ماسونية مركزية على مستوى العالم، بل يختلف تركيب الحركة من بلد إلى آخر، فلا توجد على سبيل المثال سلطة ماسونية مركزية في أمريكا أو كندا إذ أن التنظيم الفيدرالي في هاتين الدولتين انعكس على شكل تركيب الحركة الماسونية، على عكس الوضع في إنجلترا وفرنسا، حيث توجد حكومة مركزية قوية ومن ثم محفل مركزي قوي.

أما بالنسبة إلى سرية المحافل، فهذا أمر مركب أيضاً، فالجمعيات الماسونية سرية بمعنى أن طقوسها وبعض الإشارات الأخرى فيها سرية، ومن ينضم إلى الحركة يُقسم على ألا يكشفها (وهذا ميراث العصور الوسطى). ولا تسمح الحركة الماسونية لأي شخص بالانضمام إليهـا، وإنما يتم تجنيد الأعـضاء عن طريق توصية أحد الأعضاء العاملين. والحركة الماسونية لا تختلف في هذا عن كثير من النوادي الخاصة وغيرها من المؤسسات. كما أن المحافل تخفي بعض الطقوس عن الأعضاء الجدد إلى حين التأكد من ولائهم. وما عدا ذلك، فلا يوجد أي شيء سري، إذ يتم تأسيس المحافل الماسونية بموافقة السلطات، وكل اجتماعاتها معروفة سلفاً لدى هذه السلطات، كما أن أعضاء المحافل معروفون في أغلب الأحيان لدى الحكومة. والمحافل الماسونية لا تخفي وجودها أو أهدافها أو عملها. وحينما صدر قانون حظر الجمعيات السرية في إنجلترا عام 1798، استُثنيَت المحافل الماسونية من ذلك. وبإمكان أي باحث أن يطالع أرشيف محفل الشرق الأعظم في فرنسا. كما أن كثيراً من المحافل الماسونية تُقدِّم مضابط اجتماعاتها إلى السلطات الحكومية.

ولكن، مع هذا، تضطر بعض المحافل الماسونية إلى إخفاء أسماء أعضائها خوفاً من السلطات الحكومية في البلاد التي تلعب فيها هذه المحافل دوراً انقلابياً. ولابد أن نضيف هنا أن المحافل الماسونية تم إغلاقها في مصر لأنها رفضت أن تخضع لتفتيش وزارة الشئون الاجتماعية نظراً لأن هذا يتعارض مع ما تتطلبه الحركة من سرية وكتمان فيما يتصل بالطقوس. ورغم أن هذا هو رأينا، إلا أننا نود أن ننبه إلى أن نموذجنا التفسيري يترك قدراً لا يُستهان به من الحوادث والوقائع دون تفسيره. فعلى سبيل المثال، من المعروف أن عدداً كبيراً من رؤساء الجمهورية في الولايات المتحدة (ومنهم جورج واشنطن) كانوا من الماسونيين. كما لوحظ أن عدداً كبيراً من قادة الثورة الفرنسية - كما أسلفنا - كانوا أيضاً من الماسونيين. والواقع أن هناك شخصيات مهمة في كثير من الحكومات الغربية (في المعسكر الرأسمالي) أو الحكومات الشرقية (في المعسكر الاشتراكي) كانوا أعضاء في المحافل الماسونية، ولكن عضويتها تظل طي الكتمان. كما أن بعض الجرائم تشير إلى وجود شبكة ماسونية، ولكن الوصول إلى الحقائق مازال في حاجة إلى مزيد من البحث الذكي والموضوعي (ويمكن أن نقول الشيء نفسه عن نوادي الروتاري والليونز، التي يُثار حولها لغط شديد في مصر وغيرها من بلاد العالم الإسلامي، دون أن تكون هناك شواهد متعيِّنة، تشكل أساساً لمثل هذا اللغط).

والآن يبلغ عدد الماسونيين في العالم نحو 59 مليوناً، منهم أربعة ملايين في الولايات المتحدة ومليون في إنجلترا. فإذا أضفنا عدد الماسونيين في كل من كندا وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا، فإننا نجد أن الماسونية منتشرة أساساً في البلاد البروتستانتية، وخصوصاً الاستيطانية، وهذا أمر متوقع إذ أنها نشأت أساساً في المحيط البروتستانتي، شأنها شأن كثير من الحركات السياسية والفكرية المعاصرة، كالصهيونية والعلمانية والنازية. وقد لوحظ مؤخراً تَناقُص عدد الماسونيين في العالم بشكل ملحوظ (ولذا، فقد تكون الأرقام التي أتينا بها غير دقيقة. وقد ورد في أحد المصادر أن العدد الآن لا يتجاوز ثلاثة ملايين).

والماسونية جزء من التشكيل الحضاري الغربي بدأت مع بدايات الظاهرة العلمانية الكبرى وهي تُعَد تعبيراً عنها. و«الماسونية الأولى» (ماسونية عصر الملكيات المطلقة) تعبير عن المراحل الأولى للعلمانية، تماماً كما أن الماسونية الثانية تعبير عن تصاعُد معدلات العلمنة.ويمكننا أن نقول كذلك بأن الماسونية فقدت دورها الثوري بوصفها إحدى مؤسسات العلمنة مع تحقيق أهداف الثورة العلمانية في معظم بلاد العالم الغربي وهيمنتها واكتسبت مضموناً آخر.وبالفعل،بدأت المحافل الماسونية تتحول إلى ما يشبه النوادي التي تضم أعضاء لهم مصلحة مشتركة وتشكل إطاراً يتبادل داخله الأعضاء الخدمات، شأنها في هذا شأن كثير من مؤسسات المجتمعات الغربية التي يقال لها متقدمة. ويمكن أن نطلق على هذا الضرب من الماسونية اسم «الماسونية الثالثة».

أما في الولايات المتحدة، فقد بدأت تظهر محافل ذات طابع اجتماعي ترفيهي، وهي محافل ليس لها وضع مُقنن داخل التنظيمات الماسونية، وإن كان كثير من أعضائها من الماسونيين. ومن هذه المحافل "الطريقة العربية القديمة لنبلاء الحرم الصوفي"، ويُقال لهم «الحرميون»، و«الطريقة الصوفية لأنبياء المملكة المسحورة الملثمين». وبدأت بعض هذه المحافل تسمح للنساء بالانضمام إليها، كما أسِّست محافل للفتيان والفتيات. وتمنع المحافل الماسونية البريطانية أعضاءها من الالتحاق بأيٍّ من محافل الترفيه هذه، إذ تُعَدُّ نوعاً من الابتذال. وهذا النوع من الماسونية السوقية أو الماسونية المتأمركة أو ماسونية عصر الاستهلاك وما بعد الحداثة هي «الماسونية الرابعة».

الماســونية واليهــودية وأعضـاء الجماعــات اليهوديـة

Freemasonery and Judaism and Jewish Communities

قد يكون من المهم جداً، حين نحاول تحديد علاقة الماسونية باليهود واليهودية، أن نؤكد مرة أخرى الفرق بين أعضاء الجماعات اليهودية الخاضعين لحركيات الحضاراتالمختلفة التي ينتمون إليها واليهودية كنسق ديني أو حتى كتركيب جيولوجي. وقد يقول قائل إن الماسونية حركة لا علاقة لها بالدين بالمعنى الدقيق للكلمة باعتبارها حركةأخلاقية أخوية وحسب. فالدين علاقة بالخالق تأخذ شكل الإيمان به وعبادته، أما الأخلاق فهي نسق من الأفكار ينظم علاقة الإنسان بالإنسان لا بالخالق، ومن ثم فالماسونية تتعامل مع رقعة من الوجود الإنساني تختلف عن تلك التي يتعامل معها الدين. ولكن كلاًّ من التعريفين السابقين للأخلاق والدين قاصر، فالدين هو إيمان الإنسان بالإله (المطلق ـ الغيب) كعقيدة تترجم نفسها إلى سلوك وإلى علاقة بين الإنسان والإنسان. ولكن الدين ليس فقط عبادات وإنما معاملات أيضاً. والأخلاق بدورها ليست مجرد مجموعة من القواعد الخارجية التي تحدد سلوك الإنسان تجاه أخيه الإنسان، وإنما هي مجموعة من القواعد تستند إلى معنى داخلي يعتمد على رؤية للكون، ومن هناالتداخل بين الدين والأخلاق، وكذلك التداخل بين الماسونية والدين.

وقد بيَّنا أن الماسونية بدأت كدعوة ربوبية، فهي نسق فكري ديني متكامل يستند إلى العقل (المادي) وحسب، لا إلى العقل والغيب معاً، يحدد علاقة الإنسان بالخالق وبالطبيعة وبطرق المعرفة. وهي تطرح أمام تابعيها طرق الخلاص وتتكفل بتعليم مريديها السلوك الأسمَى، وتزودهم بأساس فلسفي للأخلاق التي يؤمنون بها، فضلاً عن أن اجتماعاتها تبدأ وتنتـهي بصلاة. ولذا، كان لابد أن تصـطدم الماسـونية بالأديان جميعاً: المسيحية الكاثوليكية، والبروتستانتية، واليهودية الأرثوذكسية وريثة اليهوديةالحاخامية. وكانت المسيحية الكاثوليكية أكثر الديانات عداءً للماسونية، فقد أعلن البابا كلمنت الثاني عشر عام 1738 أن الماسونية كنيسة (أي ديانة) وثنية غير مقدَّسة (وهو في تصوُّرنا وصف دقيق لها)، ولم يسمح للكاثوليك بالانضمام إليها. أما الكنائس البروتستانتية، فبعضها فقط ناصبها العداء. أما اليهودية الأرثوذكسية،فهي تحرِّم علىاليهود الانضمام إلى المحافل الماسونية،وتعتبر من ينضم إليها خارجاً على الدين،هذا على خلاف الصيغ اليهودية المخففة مثل اليهودية الإصلاحية كما سنبين فيما بعد.

ويمكننا الآن أن نتناول علاقة الماسونية بأعضاء الجماعات اليهودية. وسوف تكون الصورة هنا أكثر تركيباً وتنوعاً واختلاطاً. وكما أشرنا، تُشكِّل الماسونية دعوة ربوبية رخوة تعددية تستند إلى العقل، وهي تطرح على المؤمن بها عقيدة متكاملة، ولكنها لا تطلب منه أن يتخلى عن عقيدته الأصلية، ولذا كان بإمكان كل أعضاء الدياناتالانضمام إليها دون أن يضطروا إلى نبذ دينهم (وقد كان هناك محفل ديني في الصين يستخدم الإنجيل والقرآن وكتابات كونفوشيوس ككتب مقدَّسة).

وقد ظهرت الماسونية في وقت كانت فيه اليهودية الحاخامية قد بدأت تدخل مرحلة أزمتها التي أودت بها في نهاية الأمر. فالفكر القبَّالي كان قد حل محل التلمود وقوض اليهودية من الداخل. كما أن شبتاي تسفي من جهة، وإسبينوزا من جهة أخرى، كانا قد شنَّا هجومهما الشرس في منتصف القرن السابع عشر على اليهودية من ناحيتي اليمين واليسار. وكان يهود البلاط والعنصر السفاردي قد حلاّ محل القيادة الحاخامية التقليدية. كل هذا، جعل الثورة العلمانية تترك أعمق الأثر في بعض أعضاء الجماعات اليهودية الذين كانوا قد بدأوا يضيقون ذرعاً باليهودية وأخذوا يبحثون عن مخرج لهم منها، فظهرت بينهم حركة التنوير واليهودية الإصلاحية. وقد حل بعضهم أزمته بأن تَنصَّر. ولكن الانتقال إلى المعسكر المسيحي أمر صعب من الناحية المضمونية والتعبيرية، فعقيدة مثل التثليث، أو رمز مثل الصليب، أمور من الصعب على كثير من اليهود تَقبُّلها.

وقد حلت الماسونية مشكلة هؤلاء اليهود الذين اغتربوا عن يهوديتهم، والذين ازدادت معدلات العلمنة بينهم، والذين كانوا يريدون الاندماج في مجتمع الأغيار ولكنهم لا يريدون التنصر. وكان ظهور الحركة الماسونية علامة على أن مجتمع الأغيار قد بدأ يفتح ذراعيه لهم، وأصبحت المحافل الماسونية الأرضية الروحية والفعلية التي يمكن أن يلتقي أعضاء الجماعات اليهودية فيها مع قطاعات مجتمع الأغلبية.وقد كانت هذه الأرضية تتسم بقسط معقول من الحياد،فرغم وجود رموز ذات أصل مسيحي،ومع أن الفكر الماسوني احتفظ ببعض الأفكار المسيحية، فقد كانت هناك رموز ذات مضمون عقلاني عام (رموز البناء) وهي رموز عامة ومحايدة. وماذا يمكن أن يكون أكثر حياداً من أدوات الهندسة التي يستخدمها البناء؟ بل كانت هناك رموز يهودية أيضاً: سليمان والهيكل وكلمات عبرية. كما كانت هناك رموز كونية عامة يمكن أن يشارك أعضاء الجماعات اليهودية فيها. ولكن الأهم من كل هذا أنه لم يكن مطلوباً منهم اعتناق دين جديد أو رفض دينهم القديم، فكل ما كان مطلوباً منهم هو إزاحته جانباً أو تهميشه وإعادة تأسيس عقيدتهم على العقل لا الغيب. ولذا، انخرط اليهود بأعداد متزايدة في صفوف الماسونية. ويُلاحَظ أن أول الماسونيين بين اليهود كانوا من السفارد، إذ أن معدلات العلمنة كانت مرتفعة بين العنصر السفاردي. ثم بدأت تنخرط في سلك المحافل الماسونية عناصر يهودية أخرى تزايدت بينها معدلات العلمنة، مثل: أتباع اليهودية الإصلاحية، وبقايا العناصر الشبتانية، واليهود الذي تأثروا بالقبَّالاه. ولذا، يجب أن نؤكد أن أعضاء الجماعات اليهودية الذين انضموا إلى المحافل بأعداد متزايدة فعلوا ذلك لا بسبب يهوديتهم أو عقيدتهم، وإنما بالرغم منها. بل إن انخراطهم في المحافل الماسونية يمثل بالنسبة لبعض اليهود صياغة دينية مخففة تساعدهم على التخلص من هويتهم الدينية بدون إحساس بالحرج من عدم وجود إيمان ديني على الإطلاق.

وقد برز اليهود في الحركة الماسونية، وخصوصاً في إنجلترا حيث التحقوا بالحركة عام 1732، وأُسِّس أول محفل ماسوني يهودي عام 1793. أما في فرنسا، فقد أصبح السياسي الفرنسي اليهودي أدولف كريمييه (1869) البنَّاء الأعظم للمحفل الأكبر على الطريقة الاسكتلندية. وكان هناك كثير من مؤسسي المحافل الماسونية التي كان ينضم إليها أعضاء الطبقة الوسطى المعادون للكنيسة الكاثوليكية. ولكن الصورة لم تكن واحدة في كل البلاد، ففي شبه جزيرة إسكندنافيا، وكذلك في ألمانيا، ظلت مشاركة اليهود في الحركة الماسونية مسألة خلافية، وقد سُمح (حتى عام 1870) لعدد صغير جداً من اليهود بالانخراط في سلك الحركة. وكان بعض المحافل يقبل اليهود ولكن داخل إطار ألماني مسيحي. فمحفل الإخـوة الآسـيويين، الذي أُسِّس في فيينا خلال عامي 1780 و1781، كان ضمن طقوسه أكل لحم الخنزير باللبن. وكما هو معروف، فإن لحم الخنزير محرم على اليهود، وكذلك فإن خلط اللحم باللبن محرم عليهم أيضاً.

وقد تزايـد إقبال اليهـود على الانخراط في المحـافل الماسـونية في ألمانيا، وقامت دعوة بين الماسونيين الألمان تطالب بقبول اليهود كأعضاء في الحركة. لكن هذه الدعوة لم تنل تأييد زعامة الحركة، وقد تحوَّل بعض يهود ألمانيا إلى الماسونية أثناء رحلاتهم في إنجلترا وهولندا، وخصوصاً في فرنسا ما بعد الثورة. وقد تأسست في ألمانيا نفسها محافل فرنسية ومحافل بمبادرة فرنسية، وأسس يهود فرانكفورت عام 1808 محفل «الفجر الوليد» بتصريح من منظمة الشرق الأعظم. ولا شك في أن مثل هذه المحافلالفرنسية اليهودية زادت من عداء الماسونيين الألمان لليهود. ومن ثم، ظهرت دساتير ماسونية تستبعد اليهود بشكل خاص. ولكن بعض المثقفين الماسونيين الألمان قاموا فيثلاثينيات القرن بالاحتجاج على استبعاد اليهود، وانضم إليهم في احتجاجهم هذا ماسونيو إنجلترا وهولندا والولايات المتحدة. وقد اكتسحت ثورة 1848 بعض الفقرات التيتستبعد اليهود، واعترفت المحافل المسيحية في فرانكفورت بالمحافل اليهودية. وقد كانت محافل بروسيا هي الاستثناء الوحيد حيث استمرت في استبعاد اليهود، ولكنها بدأت مع السبعينيات تسمح بدخول اليهود زواراً ثم أعضاء.

ولكن الموجـة العـنصرية التي صاحبت الهجمة الإمبريالية على الشرق، اكتسحت أوربا بأسرها وأخذت أشكالاً عديدة من بينها معاداة اليهود. وتقوم بعض أدبيات معاداة اليهود بالربط بين اليهود والماسونيين وتذهب إلى أن ثمة تعاوناً سرياً بين الفريقين للسيطرة على العالم، ولتخريب المجتمعات، وقد ترددت هذه الفكرة إبان محاكمة دريفوس. كما أن هذا الموضوع نفسه يتردد أيضاً في البروتوكولات. وقد كان الربط بين اليهود والماسونيين أحد أحجار الزاوية في الدعاية النازية المضادة لليهود، حيث كان النازيون يشيرون دائماً إلى كريمييه باعتباره البنَّاء الأعظم ومؤسس جمعية الأليانس اليهودية.

وغني عن القول أن مثل هذه العلاقة التآمرية المباشرة لا وجود له. وحسب ما توافر لدينا من وثائق، ليست هناك هيئة مركزية عالمية تضم كل المحافل الماسونية. كما أن هناك يهوداً معادين للماسونية وماسونيين معادين لليهود واليهودية. ولكن ثمة علاقة بنيوية وفعلية بين الماسونيين وأعضاء الجماعات اليهودية تفسر انخراط اليهود بأعداد كبيرة في المحافل الماسونية يمكن إيجازها في النقاط الثلاث التالية:

1 ـ من المعروف أن الماسونيين معادون للكنيسة والكهنوت. وهذه نقطة لقاء بينهم وبين أعضاء الجماعات اليهودية الذين فقدوا إيمانهم الديني ـ وهم الآن أغلبية يهود العالم. ويتصور هؤلاء أن المجتمعات العلمانية تضمن لهم أمنهم وحقوقهم، ومن ثم ينخرطون بأعداد كبيرة في المحافل الماسونية. وهذه الظاهرة يمكن رصدها في أمريكا اللاتينية بينما يَصعُب رَصْدها في فرنسا وإنجلترا، على سبيل المثال، لأن الكاثوليكية في أمريكا اللاتينية لا تزال الإطار المرجعي للمجتمع، ومن ثم تأخذ محاولات العلمنة شكلاً تنظيمياً محدداً مثل المحافل الماسونية. أما في إنجلترا وفرنسا، فإن العلمانية أصبحت الدين الرسمي للدولة، ومن ثم تفقد المحافل الماسونية قيمتها الوظيفية والرمزية.

2 ـ تضم المحافل الماسونية أعداداً كبيرة من العناصر المالية والتجارية والمهنية. كما أن التركيب الوظيفي والمهني ليهود العالم يجعل أغلبيتهم الساحقة من هذه القطاعات،إذ لا يوجد بينهم عمال أو فلاحون، ومن ثم تزداد نسبتهم في المحافل الماسونية.

3 ـ الحركة الماسونية حركة أممية تتجاوز الولاءات القومية (كما أن إنسان عصر الاستنارة هو إنسان أممي). وقد كان أعضاء الجماعات اليهودية أعضاء في جماعاتوظيفية وسيطة تقلل من الولاء للوطن وتجعل الولاء للجماعة الوظيفية أو المصالح المالية. كما أن فترة ظهور الماسونية هي أيضاً الفترة التي بدأ فيها يهود اليديشية في الهجرة بأعداد هائلة إلى كل أطراف العالم. والعناصر المهاجرة ليس لها ولاء قومي قوي. لكل هذا، نجحت المحافل الماسونية في اجتذاب بعض أعضاء الجماعات اليهوديةفتزايدت معدلات العلمنة وضعف الانتماء القومي. ولعل في تَركُّز اليهود في القطاعات المالية والتجارية ما يفسر وجودهم بأعداد كبيرة في المحافل الماسونية. وحينما يربطالمعادون لليهود بينهم وبين الحركة الماسونية، فإنهم محقون في ذلك تماماً إذ أن نسبة أعضاء الجماعات اليهودية في المحافل الماسونية عادةً ما تكون أعلى كثيراً مننسبتهم إلى عدد السـكان. ولكن الخلل يبدأ حينما يطرحـون تصـوُّر وجود مؤامرة خفية، والأمر كله لا يعدو أن يكون ظاهرة اجتماعية. فالخلل ليس في الوصف وإنما في التفسير.

وقد اشترك بعض أعضاء الجماعات اليهودية في تأسيس الحركة الماسونية في الولايات المتحدة، وثمة دلائل تشير إلى أنه كان يوجد أربعة يهود بين مؤسسي أول محفلماسوني عام 1734 في الولايات المتحدة (سافانا في ولاية جورجيا). ولقد اتُبعَت الطقوس الماسونية في وضع حجر أساس المعبد اليهودي في تشارلستون (ساوث كارولينا) عام 1793. واستمر وجود اليهود البارز في المحافل الماسونية في القرن التاسع عشر. وقد كتب محفل نيويورك إلى محفل برلين الأساسي يشكو من رفض المحافل الألمانية أن تقبل أعضاء المحافل الأمريكية في صفوفها لأنهم يهود. والواقع أن الماسونية الأمريكية، مثل كل المؤسسات الأمريكية، تتسم بأنها لم تعرف التمييز ضد اليهود أو غيرهم من الأقليات والطوائف البيضاء، وقد تبنت جماعة البناي بريت اليهودية عند تأسيسها بعض الطقوس الماسونية السرية، ولكنها أسقطتها بعد فترة.

أما في فلسطين، فقد تأسست محافل ماسونية بين العرب (المسلمين والمسيحيين) والأجانب (المسيحيين واليهود). وبعد إنشاء الدولة الصهيونية، بلغ عدد المحافـل الماسـونية أربعة وسـتين محفلاً سـنة 1970، تضم ثلاثة آلاف وخمسمائة عضو من اليهود والمسيحيين والمسلمين.

وقد قامت بعض المحافل الماسونية العربية بنقد الصهيونية واشترك بعض القيادات الماسونية في المقاومة ضد الاستيطان الصهيوني. وعكس ذلك صحيح أيضا، إذ رفضت بعض المحافل الماسونية التصدي للصهيونية باعتبار هذا نوعاً من العمل السياسي.

إفرايـم هـيرشفيلد (1755-1820 (

Ephraim Hirshfeld

ألماني يهودي وماسوني وُلد باسم جوزيف هرشيل دار مستاد. درس الطب في ستراسبورج، كما تلقى تعليماً تقليدياً. عمل من 1779 حتى 1781 معلماً في منزل ديفيد فرايدلاندر، وكان يتردد على منزل موسى مندلسون ويدور في أوساط المستثمرين الألمان. التقى عام 1782 بمؤسس إحدى الحركات الماسونية ذات الاتجاه الثيوصوفي والتي كانت تضم في صفوفها رهباناً مسيحيين وبعض أعضاء الأرستقراطية. وكان دوبروشكا (أحد قيادات الحركة الفرانكية) من مؤسسي هذا المحفل، وقد أدخل في الأدبيات الماسونية بعض المقتطفات من الأدب الشبتاني. وكان المموِّل الألماني اليهودي هانز إيكر فون إيكهوفن من ضمن مؤسسي هذا المحفل. وقد فتح أبوابه أمام المموِّلين اليهود الآخرين الذين كانوا يودون الاندماج في المجتمع المسيحي. ومما له دلالته أن هذه الخطوة كانت تُعَدُّ ثورية، فقد كان كثير من الماسونيين حتى ذلك الوقت يعترضون على السماح لأعضاء الجماعات اليهودية بالانضمام إلى محافلهم. وقام بعضهم بشن الهجوم العنيف على هيرشفيلد. ولكنه نجح في نهاية الأمر في الانضمام بل أصبح سكرتيراً لإيكهوفن واتخذ اسم ماركوس بن بيناه. وبعد ذهاب دوبروشكا، احتل هيرشفيلد دوراً قيادياً في المحفل، ثم عاش في فيينا حتى عام 1786 (حيث اتخذ اسم هيرشفيلد) ثم انتقل إلى شليسنج عام 1791 بعد أن أصبحت مقر التنظيم الماسوني الذي كان ينتمي إليه. وقد طُرد هيرشفيلد من التنظيم بسبب معركة نشبت بينه وبين إيكهوفن وقُبض عليه لعدة شهور ولكنه أُفرج عنه. عكف هيرشفيلد على ترجمة الأعمال الصوفية لهذا التنظيم حتى بدا أنها من أصل عبري أو آرامي.

وبعد أن عـاش فترة قصـيرة في ستراسبورج مع صديقه دوبروشكا، قضى بقية حياته متنقلاً بين فرانكفورت ودافينباخ، واحتفظ بعلاقات وثيقة بأعضاء الحركة الفرانكية. وقد حاول هيرشفيلد أن يزاوج بين المسيحية واليهودية داخل إطار صوفي حلولي قبَّالي (وهو ما كانت تحاول الحركة الفرانكية إنجازه). وقد نشر هو وأخوه تفسيراً ثيوصوفياً قبَّالياً للفقرات الأولى من سفر التكوين. وكان ينوي إصدار سلسلة متكاملة من التفسيرات الصوفية للعهد القديم.

وتشير حياة هيرشفيلد إلى مدى الترابط والتداخل بين حركات مثل الفرانكية والماسونية والاستنارة. ولا يمكن إدراك هذه الوحدة إلا من خلال نموذج الحلولية حين يحل الخالق في المخلوق فتسقط الحدود ويصبح عقل الإنسان (أو رغباته أو أحلامه أو رؤاه) المعيار الوحيد.

وتُبيِّن سيرته الفكرية أيضاً أن الحلولية الكمونية هي الإطار الذي تلتقي فيه المسيحية باليهودية ويتحللان ليصبحا نسقاً واحداً يُسمَّى الآن «التراث اليهودي المسيحي» وهو في واقع الأمر ليس يهودياً ولا مسيحياً.

البهائيـة

Bahaism

«البهائية» عقيدة جديدة دعا إليها ميرزا حسين علي نوري (1817 ـ 1892) الذي كان يُلقَّب بـ «بهاء الله». وتعود جذور هذه العقيدة إلى البابية التي أُسِّست عام 1844 على يد ميرزا على محمد الشيرازي الذي نشأ في وسط باطني متصوف وأعلن أنه الباب (الطريق إلى الله). وذهبت البابية إلى أن ثمة نبياً أو رسولاً جديداً سيرسله الله. وكانت البهائية في بداية أمرها شكلاً متطرفاً من أشكال العقيدة في الفرقة الإسماعيلية، ومن عقيدة الإمام الخفي الذي سيظهر ليجدد العقيدة ويقود المؤمنين.

وقد انتشرت البابية رغم تنفيذ حكم الإعدام في الباب عام 1850 وقَتْل ما يزيد على عشرين ألفاً من أتباعه. وقد قام البابيون بمحاولة اغتيال الشاه، فنُفى قائدهم آنذاك ميرزا حسين علي إلى بغداد عام 1853. وفي عام 1863، أعلن ميرزا أنه رسول الله الذي تنبأ به الباب، وأعلن عن رسالته بخطابات أرسلها إلى حكام كل من: إيران وتركيا وروسيا وبروسيا والنمسا وإنجلترا. واعترف به أغلبية البابيين الذي أصبحوا يُسمَّون «البهائيين». ونُفي ميرزا حسين إلى عكا في فلسطين، وتُوفي عام 1892 حيث تحوَّل قبره في بهجي (أي الحديقة بالفارسية) إلى أقدس مزارات البهائيين. وقد خَلَفه في قيادة الجماعة البهائية أكبر أبنائه عباس أفندي الذي سُمِّي عبد البهاء (1844 ـ 1921) والذي أصبح كذلك المفسِّر المعتمد لتعاليمه. وقد سافر عبد البهاء إلى عدة بلاد لينشر تعاليم الدين الجديد من عام 1910 إلى عام 1913. وعيَّن أكبر أحفاده شوجي أفندي رباني (1896 ـ 1957) خليفةً له ومفسراً لتعاليمه. وقد انتشرت تعاليم البهائية في أنحاء العالم.

وكتب البهائية المقدَّسة هي كتابات بهاء الله التي كُتبت بالعربية والفارسية، مضافاً إليها التفسيرات التي وضعها عبد البهاء وشوجي أفندي. وتتضمن هذه الكتابات التي تزيد على المائة منها الكتاب الأقدس الذي يحوي كل مفاهيم مذهبه وكل تشريعاته، و كتاب الإيقان، وهو دراسة عن طبيعة الخالق والدين ومجموعة الألواح المباركة، و كتاب الإشراقات والبشارات، و كتاب الأساس الأعظم، وله قصيدة أسماها ورقائية.

وجوهر البهائية هو الإيمان بالحلول الكامل أو بوحدة الوجود أي توحد الخالق مع مخلوقاته. فالخالق جوهر واحد ليس له أسماء ولا صفات يمكن أن تصفه ولا أفعال، ولا يمكن الوصول إليه (ولا توجد أدلة على وجوده أو غيابه مثل الإله الخفي في الفكر القبَّالي أو الباطني الغنوصي)، وهو إلى حدٍّ ما يشبه القوانين الطبيعية غير الشخصية التي لا علاقة لها بالأنساق الأخلاقية (كما هو الحال مع مفهوم الإله عند إسبينوزا). والخالق واحد ليس له شريك في القوة والقدرة وهو الذي خلق الكون. ولكن هذا الكون ليس شيئاً آخر سوى تجلٍّ للخالق، بل إنه هو ذاته الخالق (أي أن الخالق ومخلوقاته مادة واحدة لا تنفصل ولا تتجزأ). وقد لُخِّصـت هـذه الحلوليـة في القـول البهائي الذي يُنـسَب إلى الخـالق: «الحق يا مخلوقاتي أنكم أنا». والبهائية، في هذا، لا تختلف كثيراً عن غلاة المتصوفة والباطنية، ولا عن الفكر القبَّالي أو الغنوصي، حيث لا توجد أية مسافة أو ثغرة بين الخالق والمخلوق، بل ثمة اتحاد وحلول واحدية (على خلاف التصور الإسلامي للخالق الذي يرى أن الله قريب من عباده ولكنه ليس كمثله شيء، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد ولكنه لا يجري في عروقنا ولا تدركه الأبصار).

ولكن، إذا كان الخالق هو مخلوقاته، فالحقيقة الدينية تصبح حقيقة نسبية وليست مطلقة لأن كل الأشياء يحل فيها الخالق وتلفحها لفحة من القداسة. والحقيقة تعبر عن نفسها من خلال الزمان وداخله، ولا يختلف تجلِّي الرب في أي شيء عن تجليه في أي شيء آخر. فتصبح كل الأمور مقدَّسة، ومن ثم تصبح كل الأمور متساوية. وفي نهاية الأمر، تصبح كل الأمور نسبية، أي أن المطلق المتجاوز يختفي في لحظة التحام الخالق بالمخلوق. وقد شاء الخالق (وإن كان يصعب في هذا السياق أن نتحدث عن «مشيئة الخالق» فهو لا يتجاوز مخلوقاته) أن يتجلى من خلال رسله، مثل: براهما، وبوذا، وزرادشت، وكونفوشيوس، وإبراهيم، وموسى وعيسى، ومحمد (عليه الصلاة والسلام)،وتضم القائمة الباب ثم بهاء الله الذي تظهر من خلاله صفات الخالق بشكل أوضح وأجلى مما كانت عليه. بل إنه داخل الإطار الحلولي يكون بهاء الله هو ذاته الخالق، ومن ثم وَجَّه البهائيون سهام نقدهم إلى الفكرة الإسلامية الخاصة بأن محمداً (صلى الله عليه وسلم) خاتم المرسلين، ففي رأيهم أن كل عصر يحتاج إلى تجلٍّ إلهي. وثمة تَشابُهعميق هنا بين بنية البهائية وبنية اليهودية الحاخامية، فكلتاهما تؤكد استمرار الوحي الإلهي في التاريخ الإنساني أو استمرار الحلول الإلهي (في الحاخامات حسب النسقاليهودي، وفي بهاء الله حسب النسق البهائي). وهو تَشابُه سنلاحظه في جوانب أخرى من النسقين الدينيين. كما يُلاحَظ أن هذا التشابه يزداد عمقاً بين البهائية والقبَّالاه. ومن المنظور البهائي، فإن جوهر كل الأديان واحد. ومع هذا، فإن كل دين له سماته الخاصة التي تجيب حاجة كل زمان ومكان وتتفق مع المستوى الحضاري السائد. وحيث إن الخالق يكشف عن نفسه بشكل تدريجي، فإن كل دين سيحل محله دين آخر، ومن ذلك العقيدة البهائية نفسها، ولكن ذلك لن يتم قبل ألف عام.

ولكن مهمة الأديان في هذا السياق هي خلق وحدة شاملة بين البشر تزداد اتساعاً مع مرور الزمن. فإبراهيم قام بتوحيد قبيلة، وموسى قام بتوحيد شعب، ومحمد (عليه الصلاة والسلام) قام بتوحيد أمة، أما المسيح فكان هدفه تطهير الأرواح وتحقيق قداسة الفرد، وقد تحققت بالفعل مهمة كل تجلٍّ إلهي. ولكن هذا لا يكفي إذ أن الحضارة ـ في هذا التصور ـ وصلت إلى مرحلة أصبحت معها وحدة الإنسان (وبالتالي وحدة الأديان) مسألة ضرورية. وهذه مهمة بهاء الله الذي ستتحقق على يديه وحدة الأديان وقداسة البشرية بأجمعها. وخالق العالم قد خَلَق الإنسان من خلال حبه له، والإنسان أنبل المخلوقات جميعاً خلقه الإله ليعرفه ويعبده. وهذا أمر يصعب فهمه في إطار حلولي، فالخالق هو المخلوق. ومن ثم، إذا عبد المخلوق الخالق فإنه يعبد نفسه أو يعبد قوة خفية لا يمكن الوصول إليها تشبه قوانين الطبيعة. وثمة تذبذب حاد ومتطرف هنا، بين الذاتية المتطرفة والموضوعية المتطرفة، يسم كل الأنسـاق الحلـولية. ففي اليهـودية نجد أن الشـعب يتوحـد تماماً مع الخالق، ومن ثم تصبح إرادة الشعب من إرادة الخالق. بل إن الخالق يحتاج إلى الشعب لتكامله. ولكن هذا الشعب لا إرادة له لأنه أداة في يد الخالق.

ويميِّز البهائيون بين خمسة أنواع من الأرواح: الحيوانية، والنباتية، والبشرية، وكلها أرواح زائلة فانية (ولذا يذهب بعض دارسي البهائية إلى القول بأنها لا تؤمن بخلود الروح)، وروح الإيمان (وهي وحدها التي تمنح الروح البشرية الخلود)، ثم أخيراً الروح القدس (وهي منطقة الحلول الكامل ووحدة الوجود حيث يصبح الخالق مخلوقاً والمخلوق خالقاً)، والواقع أن هذه الهرمية لا تختلف كثيراً عن هرمية المنظومتين الغنوصية والقبَّالية. ويبدو أن الروح البشرية، كالخالق، ليست لها حدود واضحة، إذ أن هذه الروح بعد أن تنفصل عن الجسد قد تحل في شخص آخر وتأخذ شكلاً آخر من الوجود. وفكرة تناسخ الأرواح سمة أساسية في مختلف الأنساق الحلولية التي تنكر حدود الفرد وتنكر المسئولية الخلقية، تماماً كما هو الحال في القبَّالاه.

ولا يؤمن البهائيون بالجنة والنار، فهما مجرد رموز لعلاقة الروح بالخالق ليس إلا، فالقرب من الخالق هو الجنة والبُعد عنه هو النار التي تؤدي إلى الفناء الكامل للروح. لكن الإيمان في تصورهم هو الذي يضمن (كما أسلفنا) الخلود، والخلود يعني استمرار الرحلة نحو جوهر الخالق الخفي للاتحاد به. وفي داخل هذا النسق الحلولي، لا يمكن أن يكون هناك مجال للثواب أو العقاب أو البعث. ولا يوجد في البهائية كهنة أو قرابين، فهم يشكلون ما يمكن تسميته بالثيوقراطية الديموقراطية التي تتمثل في هيئتين حاكمتين: إحداهما إدارية والأخرى تعليمية. أما الهيئة الإدارية، فتتكون من المجالس الروحية القومية، وأما المجالس المحلية فتتكون من تسعة أشخاص (التي يمكن تأسيسها أينما وُجد تسعة بهائيين)، وبيت العدل العمومي (وهو الهيئة العليا ولها سلطة تغيير كل القوانين حينما تدعو إلى ذلك التغيرات الدنيوية، فيمكنها أن تلغي القوانين التي وردت في الكتاب الأقدس وأن تصوغ قوانين جديدة لم ترد فيه)، ثم هناك الهيئة التعليمية (وهي الأخرى مُكوَّنة من بناء هرمي من المجالس والقادة). ويتم انتخاب أعضاء المجالس الإدارية عن طريق الأعضاء. ويُعتبَر الانتخاب شكلاً من أشكال العبادة، وما الناخب سوى أداة الخالق، ومن ثم لا يكون العضو المنتخب مسئولاً أمام ناخبيه.

ويصلي البهائيون يومياً (قبلتهم القدس). وبرغم أنه يُفتَرض عدم وجود أماكن عامة للعبادة، فإن الكتاب الأقدس قد أوصى بتشييد معابد تُسمَّى «مشرق الأذكار»، وهو بناء من تسعة جوانب عليه قبة مُكوَّنة من تسعة أقسام وهي مفتوحة لكل أعضاء الديانات الأخرى. ويصوم البهائيون شهراً بهائياً (19 يوماً) كصيام المسلمين (ينتهي بعيد النيروز) ولا يشربون المشروبات الروحية ويجتمعون في بداية كل شهر بهائي. ولهم قوانين خاصة بالميراث، فالمُعلِّم يرث جزءاً من ثروة البهائي ويتساوى الرجل بالمرأة في كل شيء. وقد جعلوا الحج إلى مقام بهاء الله في عكا. والتقويم البهائي يتكون من تسعة عشر شهراً، والشهر يتكون من تسعة عشر يوماً، ويبدأ العام البهائي في 21 مارس أول أيام الربيع. ومن ناحيـة أخرى، فإن التقـويم البهائي يشـبه التقـويم الفارسي.

ويحتل الرقم 19 مكانة خاصة في الفكر البهائي. والبهائية، في هذا، تشبه تراث القبَّالاه والجماتريا الذي رَكَّز على القيمة العددية للحروف، فتُحسَب القيمة الرقمية للكلمات وتُستخلَص منها النتائج التي يريد أن يصل إليها المفسر (وهذه سمة متكررة أيضاً في الأنساق الحلولية التي تدرك الكون من خلال نسق هندسي حتمي). فيقول البهائيون إن عدد حروف البسملة (بسم الله الرحمن الرحيم) 19، وأن كلمة (واحد) قيمتها العددية 19 (و = 6، الألف = 1، ح = 8، د = 4). ويستخرج البهائيون من الرقم 19 براهين ودلائل على أشياء عديدة.

ويصعب حساب عدد البهائيين في العالم، ويُقال إنه يتراوح بين مليون ونصف ومليونين، وكان يوجد عام 1985 نحو143 مجلساً روحياً قومياً يتبعها 27.886 مجلساًمحلياً في 340 بلدة مختلفة. وترجمت تعاليم البهائية إلى أكثر من 700 لغة. وفي هذه الأيام، تحقق العقيدة البهائية انتشاراً سريعاً في أفريقيا والهند وفيتنام حيث يصل عدد البهائيين إلى مئات الألوف. ويتحول عدد كبير من الهنود وسكان أمريكا اللاتينية الأصليين إلى البهائية. ففي بيرو وبوليفيا، على سبيل المثال، توجد قرى بأكملها بهائية، وقـد اعتنق ملك سـموا Samoa العقيدة البهائية. ويمكن تفسير انتشار البهائية باعتباره تعبيراً عن ضعف كثير من الأطر الدينية التقليدية، وتعبيراً عن تزايد معدلات العلمانية، إذ تؤدي هذه العملية إلى أن قطاعات كبيرة من المجتمع تفقد الإيمان بعقيدتها التقليدية، ولكنها لا يمكنها التخلي عن الدين تماماً أو عن فكرة الخالق. والواقع أن رغبتهم العامة في الإيمان تُشبعها هذه العقيدة التي تستخدم الخطاب الديني دون إشارة إلى عقيدة محددة أو طقوس محددة، وهو عادةً خطاب حلولي واحدي يمحو كل الثنائيات وأشكال التنوع إذ يتم اختزال الواقع إلى مستوى واحد ويتم رده إلى مبدأ واحد، وهو الإله الحال الذي لا يختلف عن قوانين المادة الكامنة فيها، ومن ثم فهو خطاب ديني اسماً ولكنه مادي فعلاًً إذ أن الخالق يصبح مخلوقاته أو يصبح قوة عامة مجردة غير شخصية مثل قوانين الطبيعة وفكرة التقدم. والبهائية، في هذا، تشبه الربوبية والماسونية واليهودية التجديدية. وعند نشوب الثورة الإسلامية في إيران، كان يوجد 300 ألف بهائي في إيران يشكلون جماعة وظيفية وسيطة تشتغل بالتجارة والمال والأمن، واستفاد نظام الشاه من وجودهم. وقد تعاون البهائيون مع الإسرائيليين، وكانوا يديرون مؤسسة الأمن في إيران، كما كانت لهم أنشطة أخرى. وقد حُرِّم نشاطهم بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران.

وفيما يتعلق بعلاقة البهائية بالعقيدة والجماعات اليهودية، فقد بيَّنا أن ثمة تماثلاً بنيوياً بين البهائية واليهودية في جانبها الحلولي. ولعل هذا هو السر في أن البهائية تجتذبكثيراً من اليهود الذين يعتنقون العقيدة البهائية. ففي إيران، مَهْد العقيدة، تَبنَّى كثير من أعضاء الجماعة اليهودية البهائية، وهو ما جعل الحاخامات يحاربون ضدها بشراسة. ولا يزال هذا موقف اليهودية الأرثوذكسية منها. ويُلاحَظ أن يهود الولايات المتحدة في الوقت الحالي يتجهون أيضاً إلى الماسونية والعبادات الجديدة والعقائد الغنوصية بأعداد كبيرة، وإن كانت الإحصاءات الدقيقة غير متوافرة. ومع هذا، فمن المعروف أن البهائية أصبح لها أتباع كثيرون في منطقة كاليفورنيا المعروفة بوجود كثافة يهودية عالية فيها.

والأمر ليس مؤامرة بهائية ضد اليهودية، وإنما هو تشابك بين نسقين عقيديين يستجيبان للاحتياجات نفسها ويجيبان عن الأسئلة نفسها بالطريقة السهلة نفسها. ومما يُسهِّل عملية اعتناق اليهود للبهائية أن ثمة تعاطفاً يسري في العقيدة البهائية نحو اليهودية والدولة الصهيونية. فقد كان عباس أفندي يرى أن الخلاص مرتبط بعودة اليهود إلى أرض الميعاد، ولكنه كان يرى أيضاً أن النجاح الذي بدأ اليهود في فلسطين يحققونه في عهده دليل على عظمة بهاء الله وعلى عظمة دورته الإلهية، وفي كتاب المفاوضات ورد ما يلي: "أنت تلاحظ وترى أن طوائف اليهود يأتون إلى الأرض المقدَّسة من أطراف العالم، ويمتلكون القرى والأراضي ويسكنون ويزدادون يوماً بعد يوم حتى تصبح جميع أراضي فلسطين سكناً لهؤلاء". وهو بذلك قد أخذ العقيدة الألفية البروتستانتية وأعطاها بعداً بهائياً.

وفي 30 يونيه 1948، كتب أشوجي أفندي رباني، زعيم الحركة البهائية آنئذ، إلى بن جوريون يعبِّر له عن أطيب تمنياته من أجل رفاهية الدولة الجديدة مشيراً إلى أهمية تَجمُّع اليهود في «مهد عقيدتهم». ومن المعروف أن مركز البهائية هو «بيت العدل» الذي أُعدت له بناية ضخمة في حيفا على جبل الكرمل في أبريل 1983، والذي يديره تسعة بهائيين يتم انتخابهم. وقامت الجماعة البهائية بإعداد قصر ضخم في حيفا حتى يكون مزاراً لكل بهائيي العالم.

ولكن هذا لا يعني بتاتاً أن كل البهائيين يؤيدون الصهيونية وإسرائيل. فالجماعات البهائية تدين بالعقيدة نفسها، ولكن اتجاهاتها السياسية تختلف باختلاف الظروف الاجتماعية والتاريخية. وما ينطبق على البهائية ينطبق على كل الأديان، فيوجد مثلاً مسيحيون صهيونيون في أوربا يؤيدون إسرائيل، وترى بعض الفرق المسيحيةالصهيونية في أمريكا أن الخلاص مرتبط بعودة اليهود إلى صهيون. ويجدر بنا أن نذكر هنا أن البهائيين العرب يؤكدون أنهم يدينون بالولاء إلى وطنهم العربي وحسب، وقد يكون في هذا بعض الصدق، أو لعله من باب التقية (أي الإيمان بشيء وإظهار شيء آخر). والباب مازال مفتوحاً لاجتهاد المجتهدين.

الموحدانيـــة

Unitarianism

«الموحدانية» عقيدة مسيحية تنكر عقيدة التثليث ولاهوت المسـيح (أي كونه إلهاً أو ابن الإله)، وهي نتـاج حـركة الاسـتنارة والعقلانية. ويمكن القول بأنها شكل من أشكال الربوبية، أي صيغة شبه علمانية للمسيحية، ولذا فإن أتباع هذه العقيدة لا يعتبرونها عقيدة وإنما مجرد أسلوب في الحياة!

وعقيدة الموحدانية نتاج بعض التيارات داخل المسيحية نفسها. وأولى هذه العقائد الإيمان بأن سقوط الإنسان لم يكن كاملاً وأنه يحوي داخله عناصر من الخير، ومن ثم فهو قادر على العمل من أجل الخلاص والوصول إليه من خلال جهده وأعماله الخيرة. وقد حارب القديس أوغسطين ضد بيلاجيوس، الراهب البريطاني (المُتوفي عام 420م) الذي ركز اهتمامه على إمكانيات الخير الكامنة داخل النفس البشرية وفي إمكانية خلاص الفرد المسيحي. أما العنصر الثاني فهو رفض التثليث، كما فعل الراهب الإسباني سيرفيتوس الذي لم يرفض عقائد التثليث وحسب بل رفض مقولة الحمل بلا دنس، وأكد أن عقيدة التثليث لا أساس لها في الكتاب المقدَّس وأن الآباء الأوائل لا يعرفون هذه التمييزات وأن مصدرها هو السوفسطائيون اليونان. ومثل هذه الأفكار شجعهتا حركة الاستنارة التي هاجم مفكروها فكرة التثليث وأكدوا أن الإنسان (لأنه كائن طبيعي) لا يحوي داخله شراً، فهو خيِّر بطبيعته.

وقد كانت عقيدة الموحدانية في بدايتها حركة دينية عقلانية جافة، ويمكن تلخيص مبادئها الأساسية فيما يلي:

1 ـ يؤكد الموحدانيون أُبَّوة الإله بدلاً من مقدرته، فالإله أب لكل البشر. وهو يكاد يكون مبدأ عاماً مجرداً كامناً في الطبيعة والإنسان غير مفارق لهما، أي أن الموحدانية تدور في إطار الواحدية الكونية.

2 ـ ينكر الموحـدانيون التثليث ولاهـوت (ألوهية) المسـيح (مقابل الناسوت)، فالمسيح ليس ابن الإله وإنما هو بشر، مجرد قائد عظيم، وصَلْبه هو الثمن الذي يدفعه أي قائد عظيم دفاعاً عن مُثُله.

3 ـ الكتاب المقدَّس كتاب كتبه بشر ومن ثم فهو ليس كتاباً معصوماً ولا يُقرأ باعتباره كتاباً مقدَّساً وإنما باعتباره كتاب موعظة.

4 ـ خَلَق الإله الإنسان في صورته، ولذا فإن الإنسان يشارك في الخير الإلهي. ولا توجد خطيئة عميقة ولا توجد خطيئة أولى، بل إن الخطيئة هي خطأ أخلاقي ضد البشر وليست خطيئة ضد الإله. ولا يوجد شر مطلق أو خلاص مطلق وإنما يوجد بشر يتطورون يحققون الخلاص بالتدريج من خلال أعمالهم وشخصياتهم، يبدأ تطورهم مع ميلادهم ولا يتوقف بعد موتهم. وفكرة التطور اللانهائي لكل البشر فكرة أساسية في عقيدة الموحدانيين. وقد آمن الموحدانيون بأخوة كل البشر ومساواتهم الكاملة.

5 ـ القوة الأخلاقية العظمى في العالم هي المثل الذي يضربه عظماء الرجال: المسيح مثلاً. ولذا، لا توجد حاجة إلى كنيسة تحتكر طرق الخلاص. فالكنيسة إن هي إلا مجموعة من المؤسسات الاجتماعية لا توجد وراءها كنيسة روحية، كما يدَّعي اللاهوت المسيحي في إحدى صوره. كما لا توجد حاجة إلى الشعائر التي تربط هذا العالم بالعالم الآخر. ولذا، فإن شعائر التعميد وعشاء الإله هي مجرد طقوس تُذكِّر الإنسان بما حدث في حياة المسيح دون تحولات أو أسرار. ولذا، قامت بعض الكنائس المواحدانية بإلغاء كل هذه الشعائر لأنها تُذكِّر المرء بالمفاهيم اللاهوتية.

وقد صنَّف الكالفنيـون عقـيدة الموحـدانيين باعتبارها ليست مسيحية، وهم محقُّون تماماً في ذلك إذ أنها عقيدة أنكرت كثيراً من العقائد المسيحية الأساسية، بل يمكن القول بأنها عقيدة شبه علمانية أو تكاد تقترب من العبادات الجديدة، إذ لا توجد فيها فكرة الإله المفارق المتجاوز للإنسان والطبيعة. فالإله قد حل في مخلوقاته وتوحَّد معها وشحُب تماماً وتحوَّل إلى ما يشبه مبادئ الطبيعة والضرورة التي لا شخصية ولا وعي لها، وأصبحت كل الأمور متساوية ونسبية (وقد لخص أحد المفكرين المسـيحيين موقـف الموحـدانيين من الإله بقوله إنهم يؤمنون «بأنه يوجد إله واحد على الأكثر»، وأنهم «يصلون لمن يهمه الأمر»). ويمـكن القول بأن فكرة الإلـه الواحـد المتجاوز يمكن أن تختفي عن طريقين: أن يزداد الإله (المبدأ الواحد) في حلوله واقترابه حتى يتحول الحلول والكمون إلى وحدة وجود روحية ثم مادية، حيث يتعرف المخلوق إلى الخالق في مخلوقاته وحسب، وهذا هو النمط الأكثر شيوعاً. ولكن هناك نمطاً آخر وهو أن الإله (المبدأ الواحد) هذه القوة اللامتعينة الدافعة للمادة، الكامنة فيها التي تضبط جوهرها، تزداد تجريداً ومفارقة للمخلوقات. وهنا يظهر في البداية إله كالفن الذي لا يُسبَر له غور، والذي يُختار دون منطق واضح. وتزداد درجة التجريد والمفارقة إلى أن تصل حد التعطيل ويصبح الإله مفارقاً تماماً لا علاقة لنا به (إله الغنوصيين مثلاً)، أي أن الكالفينية نفسها إن هي إلا حلقة أولى تؤدي إلى الموحدانية (هذا على عكس الفكر التوحيدي الحقيقي حيث يوجد الإله القريب البعيد: ليس كمثله شيء وهو أقرب إلينا من حبل الوريد(.

وقد اعتنق هذه العقيدة كثير من أعضاء الشرائح العليا للطبقات الوسطى، وخصوصاً العناصر المحافظة والثرية، وأصبحت معظم كنائس بوسطن تؤمن بالعقيدة الموحدانية هذه. فقد أعفتهم الكنيسة من القيام بأية شعائر وأنهت عملية البحث المضنية داخل الذات الآثمة والمحاولة الذاتية للتأكد من إشارات الخلاص وهما عملية ومحاولة اتسمت بهما العقيدة الكالفنية التي سادت بين المستوطنين البيض الذين سُمُّوا «البيوريتان»، أي المتطهرين، إذ أكدت الموحدانية للذات الإنسانية أن الخلاص متيسر وأن النعمة حلت. كما أن الإيمان بالتطور المستمر قد أعطى إحساساً إمبريالياً عميقاً لتجار بوسطن، إذ كان هذا يعني أن بوسعهم التحرك بصورة دائمة وغزو العالم بشكل مستمر وأن بوسعهم أيضاً أن يراكموا الثروة أبداً ويقدموا الشكر لله على النعمة الإلهية والاختيار.

والكنيسة الموحدانية، كما أسلفنا، تعبير عن حلولية مرحلة وحدة الوجود، ولكنها كانت ذات طابع عقـلاني جـاد وجــاف (وكـادت العبــادة تكوـن مـثل البحــث العلمي والبحث الصارم عن البراهين). ولــذا، قـام وليـام أليري تشـانينج بإدخال عنصر من العاطفـة فانتقـل بالعبــادة من النمـوذج الآلي العقلاني الجاف إلى النموذج العضـوي العاطفــي، إذ قرَّر أن الإله محب للبشر يملك العالم بأسره، كما قرَّر أن وجود (حلول) هذا الإله في كل البشـر والطبيـعة يجـعلهم مقدَّسين وأن العبادة الحقيقية للإله تكمن في إظهار حسن النـية للبــشر، أي أن الإلـه قد شحُب تماماً ثم اختفى.

وحركة الحضارة الأخلاقية تشبه الموحدانية اليهودية التجديدية في كثير من النواحي، ويُلاحَظ أن كثيراً من اليهود، وخصوصاً من أعضاء الشرائح العليا من الطبقة الوسطى الذين يودون تحقيق الانتماء الكامل للمجتمع الأمريكي، ينضمون لهذه الكنيسة (تماماً مثلما تنضم أعداد أخرى من اليهود للحركة الماسونية والعبادات الجديدة). وقد أصبح هذا أمراً ميسوراً بشكل أكبر بعد أن «تطورت» الكنائس الموحدانية وتحولت شعائرها إلى أي شيء يقرره أعضاء الكنيسة، فيمكنهم لإقامة الشعائر الموحدانية أن يحضروا قصائد شعرية يقرأونها، وبوسعهم أن يلعبوا أية لعبة تحلو لهم (ومن ذلك حل الكلمات المتقاطعة) تعبيراً عن إيمانهم الديني! وقد أوردت الصحف الأمريكية مؤخراً أن إحدى العاملات في مقهى ليلي أرادت أن تؤدي صلاتها الموحدانية بالطريقة التي تروق لها وتعبِّر عن ذاتها الحقيقية، فوجدت أن الطريقة المثلى هي خَلْع ملابسها أمام المصلين كما تفعل في محل عملها بحكم وظيفتها. وقد قَبل راعي الكنيسة ذلك وإن كان قد علَّق على هذا الحدث بأن صلاتها كانت غير تقليدية بعـض الشـيء، ولكنـه حضر الصلاة الراقصة من أولها إلى آخرها. ويبلغ عدد المواحدانيين حوالي 100.000 ويبدو أن كثيراً من أعضاء النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة من الموحدانيين.

جماعـة الحضـارة الأخلاقيـة

Society for Ethical Culure

جماعة أسسها فليكس أدلر عام 1876 اجتذبت عدداً لا بأس به من المثقفين الأمريكيين (وخصوصاً اليهود) الذين كانوا قد بدأوا يرفضون كثيراً من الشعائر والعقائد الدينية اليهودية ولكن لم يكن بوسعهم بعد التخلي عن العقيدة الدينية تماماً، ولذا كانت الجمعية بنزعتها الربوبية مناسبة تماماً لهم. وتنطلق الجمعية من الإيمان بوجود إنسانية عامة وبضرورة دراسة ما سمته «الحق» وتطوره في كل مجالات السلوك. وقد اهتمت الجمعية بالجانب التربوي، فأسست حضانة للأطفال استخدمت وسائل تقدمية في التربية. كما أن الجمعية ركزت نشاطها على الجهود الاجتماعية مثل الكفاح ضد الفساد في الحكومة ومحاولة إصلاح المساكن.

ورغم عدم أصالة فكر أدلر، إلا أن أهميته تكمن في أنه يعطينا فرصة لرؤية كيفية علمنة العقيدة اليهودية من الداخل، وكيف تتحول من عقيدة تؤمن بالإله المتجاوز إلى عقيدة يتوارى فيها الإله تدريجياً (اليهودية الإصلاحية التي كان يؤمن بها والده) إلى عقيدة ربوبية دون إله (الحضارة الأخلاقية) إلى عقيدة دون إله ودون مطلقات ودون أخلاق (الصهيونية) إلي عقيـدة عدمـية مـدمرة (لاهـوت موت الإله). وبطبيعة الحال، يمكن اعتبار أدلر يهودياً ويمكن تصنيف فكره وجماعة الحضارة الأخلاقية على أنه من العبادات الجديدة.

فليكس أدلر (1851-1933(

Felix Adler

فيلسوف يهودي أمريكي وتربوي ومؤسس حركة الحضارة الأخلاقية. وُلد في ألمانيا وهاجر إلى نيويورك وهو بعد في السادسة حينما عُيِّن أبوه، أحد رواد اليهودية الإصلاحية، حاخاماً لمعبد إيمانو ـ ريل الإصلاحي.

درس أدلر في جامعة كولومبيا وفي جامعات برلين وهايدلبرج وفي مدرسة علْم اليهودية (في ألمانيا) حيث درس الأدب المكتوب بالعبرية والفلسفة الكانطية ونقد العهد القديم. وقد بدأت بعض الاتجاهات الإصلاحية تأخذ شكلاً متطرفاً في فكره، فقد بدأ يؤكد الجانب العقلي في الدين وإمكانية معرفة الخالق عن طريق العقل وحسب. وبدأيرفض الجوانب الجمالية والشعائرية في اليهودية، وأية اتجاهات ذات طابع يهودي خاص، أي أنه اتجه اتجاهاً عقلياً أخلاقياً ربوبياً. حتى أنه كان يلقي مواعظ في المعابد لا تَرد فيها كلمة «الإله».

ويشبه أدلر في هذا الفيلسوف الأمريكي إمرسون الذي رفض العقيدة الموحدانية وأصبح ترانسدنتالياً، أي يؤمن بقوة ما متجاوزة للطبيعة (كان يسميها إمرسون الروح الكلية «أوفرسول Over-Soul») وبمقدرة الإنسان على معرفة الخير والحق بنفسه دون حاجة لوحي إلهي أو ميتافيزيقا. وقد تأثر أدلر بإمرسون ولانجه وكانط والأخلاقيات (دون العقائد) المسيحية (أي أنه أصبح نسخة يهودية من إمرسون).

وقد رفض أدلر فكرة الإله الشخصي الذي يرعى البشر وبدلاً منه طرح فكرة العنصر الأخلاقي المركب الذي يتكون من ذواتنا الداخلية في أعلى تحقُّق لها. فهو يؤمن بأن كل إنسان يحوي داخله «طبيعة نبيلة سامية» تود أن تتحقق، ولكل إنسان فرديته، ولكن العلاقة الإنسانية الحقة هي التي تساعد هـذه الطبـيعة النبيــلة الكامــنة فينا على التحــقق في العالم الخارجي. وكان أدلر يؤمــن بأن إدراك هـذه الطبـيعة النبيلة سيتزايد كلما ازدادت علاقة الناس بعضهم ببعض. وهذا الإدراك المتزايد سيتحقق في المجتمع الديموقراطي والعلمي الحديث، ومن ثم فالإنسان لا يحتاج إلى تعويض في الآخرة ولا يحتاج إلى ميتافيزيقا، ولا يحتاج إلى أية مؤسسات أو عقائد أو شعائر دينية. وقد استفاد أدلر بما سماه «رسالة الأنبياء الأخلاقية» ولكنه رفض المنظومة العقائدية اليهودية، فهو يُصر على العام والعقلي، ويرفض الخصوصية.

ولا يوجد شيء جديد أو أصيل في فكر أدلر فهو تطبيق لفكر حركة الاستنارة في عالم الدين والأخلاق الذي يترجم نفسه إلى منظومة ربوبية يوجد داخلها إله شاحب أومطلق أخلاقي غير متجاوز.

وقد كتب أدلر عدة مؤلفات أهمها العقيدة والفعل (1877)، وسيرة ذاتية بعنوان فلسفة أخلاقية للحياة (1918)، وإعادة تجديد المثل الأعلى الروحي (1934(.

اليهودية المتمركزة حول الأنثى

Feminist Judaism

كلمة «فيمنست feminist» الإنجليزية في تَصوُّرنا مختلفة تماماً عن عبارة «ويمنز ليبريشياون موفمنت Women's Liberation Movement». فالعبارة الأخيرة، يمكن التعبير عنها بعبارة «حركة تحرير المرأة» أما الأولى فنحن نؤثر التعبير عنها بعبارة «حركة التمركز حول الأنثى» (لأسباب سوف نوردها فيما بعد). ومن هنا قولنا «اليهودية المتمركزة حول الأنثى» (الأنثى اليهودية بطبيعة الحال). وقد ظهرت حركات سياسية واجتماعية وفكرية تدور حول موضوع المرأة في المجتمع. ويمكنأن نقسم هذه الحركات إلى اتجاهين: حركات تحرير المرأة، وحركات التمركز حول الأنثى. والحركات الأولى حركات اجتماعية سياسية فكرية تهدف إلى تحقيق العدالة في المجتمع بحيث تنال المرأة ما يطمح إليه أي إنسان من تحقيق ذاته إلى الحصول على مكافأة عادلة (مادية أو معنوية) لما يقدم من عمل. وعادةً ما تطالب مثل هذه الحركات بحقوق المرأة سواء السياسية (حق المرأة في الانتخاب والمشاركة في السلطة)، أو الاجتماعية (حق المرأة في الطلاق وفي حضانة الأطفال)، أو الاقتصادية (مساواة المرأة بالرجل في الأجور). وبرغم أن حركات تحرير المرأة تَصدُر عن مفهوم تعاقدي للمرأة (باعتبارها فرداً مستقلاًّ بذاتها لا باعتبارها أماً وعضواً في أسرة)، فإن حركات تحرير المرأة تدور في إطار بعض القيم الاجتماعية المستقرَّة، وتَقَبل المفهوم التقليدي لدور المرأة في المجتمع والمفهوم التقليدي للطبيعة البشرية.

أما حركات التمركز حول الأنثى فهي رؤية معرفية أنثروبولوجية اجتماعية تقف على طرف النقيض من كل هذا، فهي تَصدُر عن مفهوم أساسي هو أن تاريخ الحضارة البشرية إن هو إلا تعبير عن هيمنة الذكر على الأنثى، وهي هيمنة تمت إثر معركة أو مجموعة من المعارك حدثت في عصور موغلة في القدم حينما كانت المجتمعات كلها مجتمعات أمومية تسيطر عليها الأنثى أو الأمهات، وكانت الآلهة إناثاً، وكان التنظيم الاجتماعي نفسه يتصف بالأنوثة، أي بالرقة والوئام والاستدارة (التي تشبه نهود الإناث وعضو التأنيث). ثم سيطر الذكور وأسسوا مجتمعاً مبنياً على الصراع والسلاح (الذي يشبه عضو التذكير) وعلى الغزو (الذي يشبه اقتحام الذكر للأنثى). وانطلاقاً من هذه الرؤية للتاريخ، يطرح دعاة التمركز حول الأنثى برنامجاً إصلاحياً يدعو إلى إعادة صياغة كل شيء؛ التاريخ واللغة والرموز، بل الطبيعة البشرية نفسها. فالتاريخ في تصورهم سرد للأحداث من وجهة نظر ذكورية، ولابد أن يعاد السرد من وجهة نظر أنثوية، والرموز التي فرضها الذكور لابد أن تضاف إليها رموز أنثوية. واللغات، التي عادةً ما تفضل صيغة التذكير على صيغة التأنيث، لابد أن يعاد بناؤها بحيث تستخدم صيغاً محايدة أو صيغاً ذكورية أنثوية. وهذا البرنامج الإصلاحي يهدف في نهاية الأمر إلى إعادة صياغة الإدراك البشري نفسه للطبيعة البشرية كما تحققت عبر التاريخ وتجلت في مؤسسات تاريخية وأعمال فنية، فهذا التحقق وهذا التجلي إن هما إلا انحراف عن مسار التاريخ الحقيقي بعد استيلاء الذكور عليـه!

إن ما تُنادي به حركة التمركز حول الأنثى يختلف تماماً عما تنادي به حركة تحرير المرأة. فالرجل يمكنه أن ينضم إلى حركة تحرير المرأة، ويمكنه أن يدخل في حوار بشأن ما يُطرَح من مطالب لضمان تحقيق العدالة للمرأة ولضمان ألا تتحول الاختلافات بين الجنسين إلى أساس بيولوجي للتفاوت الاجتماعي والاقتصادي بينهما (وكأن المرأة تعادل الرجل الأسود في المنظومة العنصرية الغربية البيضاء). ويمكن أن يتبنى المجتمع الإنساني بذكوره وإناثه برنامجاً للإصلاح في هذا الاتجاه، ومن الممكن أن يؤيد الرجال والنساء ذلك. أما حركة التمركز حول الأنثى فلا يمكن أن ينضم لها الرجال، فالرجل باعتباره رجلاً لا يمكنه أن يشعر بمشاعر المرأة، كما أنه مُذنب يحملوزر هذا التاريخ الذكوري، رغم أنه ليس من صنعه. ولا يوجد برنامج للإصلاح وإنما يوجد برنامج للتفكيك يهدف إلى تغيير الطبيعة البشرية ومسار التاريخ والرموز واللغات.

وفي تَصوُّرنا أن الرؤية الكامنة وراء حركة التمركز حول الأنثى رؤية حلولية تستند إلى رؤية واحدية كونية إذ تحاول اختزال الكون بأسره إلى مستوى واحد، فتدمج الإله والطبيعة والإنسان والتاريخ في كيان واحد وتحاول أن تصل إلى عالم جديد تماماً تتساوى فيه الأطراف والمركز، عالم لا يوجد فيه قمة وقاع ولا يمين ويسار (ولا ذكروأنثى)، وإنما يأخذ شكلاً مسطحاً تقف فيه جميع الكائنات الإنسانية والطبيعية على أرضية واحدة وتَمَّحي فيها كل الثنائيات.بل إن تحقُّق هذا النمط يتم عند نقطة الصفر حين تصبح كل الكائنات شيئاً واحداً. وبينما تعترف حركة تحرير المرأة بالاختلافات بين الرجل والمرأة، وتحاول ألا يكون هناك تفاوت اقتصادي أو إنساني نتيجة هذاالاختلاف، فإن حركة التمركز حول الأنثى لا ترفض التفاوت وحسب وإنما ترفض الاختلاف نفسه. وبينما تعترف حركة تحرير المرأة بأن هذا الاختلاف يؤدي إلى اختلاف في توزيع الأدوار وتأمل ألا ينجم عن هذا الاختلاف ظلم أو تفاوت اجتماعي، فإن حركة التمركز حول الأنثى ترفض توزيع الأدوار وتطالب بأن يصبح الذكور آباء وأمهات، وأن تصبح الإناث بدورهن آباء وأمهات. بل إن الأمر يمتد ليشمل الأحاسيس نفسها. فالمرأة يجب أن تشعر مثل الرجل، والرجل يجب أن يشعر مثل المرأة. ويمتد الأمر لرؤية الإنسان للإله. فحركة التمركز حول الأنثى ترى أن كل التاريخ يدور حول مركز، وهذا المركز هو الرجل؛ عضو التذكير، السلطة، الإله الذكر. ويجب أن يحل محل هذا شيء محايد بحيث ينظر للإله باعتباره ذكراً وأنثى، أو ذكراً ثم أنثى، أو ذكراً في أنثى، أو لا ذكر ولا أنثى (وهذه هي مرحلة ما بعد الحداثة حين تسقط كل الحدود ويضمُر المركز ثم يختفي).

والمفارقة الكبرى تكمن في أن حالة السيولة الحلولية الكونية ينتُج عنها حالة تفـتُّت ذري وازدواجيــة صلبة. وتظهــر الازدواجيـة الصلبة في تأكيـد حركة التمــركز حول الأنثى أن ما تحس به الأنثى لا يمكن أن يحس به الذكر، ومن ثم فالتجربة التاريخيــة للأنثى مغــايرة تماماً للتجـربة التاريخية للذكر. أما التفتت الذري فيظهر في مطالبة مساواة الذكر بالأنثى بشكل مطلق. وحينـما نصل إلى هذه المرحلة، فإننا لا نتحدث عن برنامج للإصلاح وإنما عن برنامج تفكيـكي تختـفي فيه كل المقولات الثــنائية التقلـيدية، مثل: إنسان/طبيعة، إنسان/حيــوان، ذكــر/أنثــى، ويختـفي المركــز تماماً، ويصــبح التمييز مستحيلاً. ولذا، تلتحم حركة التـمركز حول الأنثى بحركات حلولية مماثلة كالدفاع عن السحاق، وعــبادة الأرض، فهي جميــعاً حركــات تفـترض أن ما هو مطــلق لا يتجاوز المادة وإنما يكمن ويحل فيها، فهو الأرض بالنســبة لعبدة الطبيــعة، وهو الأنثــى بالنــسبة لحركــات التمــركز حول الأنثى، وهو الطبقة العاملة بالنسبة للفكر الشيوعي، والمنفعة واللذة الفردية بالنسبة لليبرالية. وهذا المطلق الحال هو الذي يحرك التاريخ ويساوي بين كل الكائنات ويسويها الواحدة بالأخرى.

ويبدو أن المرأة اليهودية كانت مرشحة أكثر من غيرها لأن تنخرط في صفوف حركات تحرير المرأة ثم حركات التمركز حول الأنثى في الغرب لأسباب عديدة، من بينها:

1 ـ ارتفاع معدلات العلمنة بين الإناث اليهوديات في الغرب بنسبة تفوق مثيلتها لا بين أعضاء المجتمع وحسب وإنما بين الذكور اليهود أنفسهم (ولعل هذا يعود إلى أن الأنثى اليهودية كانت لا تتلقى تعليماً دينياً، كما أنها كانت غير ملزمة بأداء كثير من الشعائر الدينية اليهودية).

2 ـ لابد أن الفكر الحلولي اليهودي ولَّد لدى الإناث اليهوديات قابلية عالية للغاية لتَقبُّل نزعة التمركز حول الأنثى والدعوة إليها. ويُلاحَظ أن مقولة يهود/أغيار تقابل تماماًمقولة أنثى/ذكر. كما أن التمركز حول الأنثى يشبه التمركز حول الهوية اليهودية. ورؤية تاريخ البشر كتاريخ ظلم وقمع واضطهاد (لليهود وللإناث)، هو الآخر، عنصرمشترك. ويشترك الفريقان في البرنامج التفكيكي العدمي.

ويعود تاريخ حركة تحرير المرأة بين أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب إلى عصر التنوير في ألمانيا، حيث عبرَّت عن نفسها في ظاهرة صالونات النساء الألمانيات اليهوديات، مثل راحيل فارنهاجن، وفي ظهور أديبات يهوديات مثل إما لازاروس، ونساء يهوديات في الحياة العامة مثل روزا لوكسمبرج (في الحركة الشيوعية) وهنريتيا سيزولد (في الحركة الصهيونية). ويمكن القول بأن الحديث عن حركة مستقلة لتحرير المرأة اليهودية أمر صعب إن لم يكن مستحيلاً، إذ أن حركة تحرير المرأة هي مسألة متعلقة بحقوق المرأة في المجتمع، وهو أمر يقع داخل رقعة الحياة المدنية العامة (وكفاح المرأة اليهودية للحصول على حقوقها لا يختلف في الواقع عن كفاح النساء غير اليهوديات، بل هو جزء عضوي منه). وقد تركت حركة تحرير المرأة أثرها في المؤسسات الدينية اليهودية التي بدأت تفتح أبوابها للنساء. وبدأت اليهودية الإصلاحية والمحافظة تحث النساء اليهوديات على المشاركة في الصلوات التي تُقام في المعابد اليهودية التي لا يُفصَل فيها الجنسان. كما أصبح هناك احتفال ببلوغ البنات سن التكليف الديني (بَتْ متْسفاه) على غرار احتفال البرمتسفاه، أي بلوغ الصبيان هذا السن.

أما حركة التمركز حول الأنثى، فهي أمر مختلف تماماً. فهذه الحركة، كما أسلفنا، ليست مسألة حقوق، وإنما هي قراءة للتاريخ، وموقف من اللغة والرموز والجسد، ومن ثم يمكن الحديث عن حركة يهودية للتمركز حول الأنثى تركت أثراً جذرياً في الجماعات اليهودية وفي العقيدة اليهودية، ولَّدت يهودية متمركزة حول الأنثى وُصفت بأنها حركة تحاول تركيب بنية دينية جديدة، تتكون من عناصر يجمعها مفكرو وقيادة الحركة لإعادة بناء اليهودية بطريقة تُرضي الإناث وتفي بحاجاتهن الأنثوية الخاصة. وهذه العناصر مجموعة من الأساطير الشعبية والأفكار الوثنية التي تراكمت داخل التركيب الجيولوجي اليهودي (مثل أسطورة ليليت)، وهو تركيب جعل دعاة اليهودية المتمركزة حول الأنثى قادرين على توليد نسقهم من داخل النسق الديني نفسه، ذلك لأن هذا التركيب يحوي كل شيء تقريباً، كما أنه يولِّد قابلية عالية لليهودية للتغير حسب الأوضاع والملابسات التاريخية. وقد وصفت جوديت بلاسكو، إحدى مفكرات حركة اليهودية المتمركزة حول الأنثى تلك الحركة بأنها تسعى إلى توسيع نطاق التوراة، ومن ثم فهي تثير الشكوك بشأن نهائية النص التوراتي ومطلقيته، فهي يهودية معادية للمطلق الديني المتجاوز للطبيعة والإنسان، وتطرح بدلاً منه نسقاً يتغيَّر بتغيُّر الملابسات التاريخية والرغبات البشرية، الجماعية والفردية. وهي في هذا لا تختلف كثيراً عن لاهوت موت الإله، حين يموت الإله ويصبح المطلق الوحيد هو حادث الإبادة النازية ليهود أوربا وإنشاء الدولة الصهيونية. وقد صرحت إحدى مفكرات الحركة بأن إعادة النظر في وضع المرأة في سياق العقيدة اليهودية أمر جوهري يُشبه إعادة دراسة المسألة اليهودية في سياق التاريخ العام.

وكانت اليهودية الإصلاحية أول فرقة استجابت لحركة التمركز حول الأنثى اليهودية إذ رُسِّمت سالي برايساند حاخاماً في يونيه 1972. وفي عام 1973، وافقت اليهودية المحافظة على أن تحسب النساء ضمن النصاب (منيان) اللازم لإقامة الصلاة في المعبد، كما سُمح لهن بالقراءة من التوراة في المعبد، وهذه أمور كانت مقصورة علىالذكور البالغين. ثم وافقت اليهودية المحافظة على ترسيم الإناث كحاخامات محافظات في 1985، وكمنشدات (حزان) عام 1987، وقد اتسع النطاق بطبيعة الحال ليشمل كل الشعائر.

وقد أسَّست بعض النساء الأمريكيات اليهوديات من المدافعات عن التمركز حول الأنثى جماعة «نساء الحائط» التي تطالب بحق تلاوة التوراة أمام حائط المبكى، وارتداء شال الصلاة (طاليت) وهو حق مقصور على الرجال. كما بدأ بعض المؤمنات باليهودية المتمركزة حول الأنثى بارتداء شيلان صلاة (طاليت) حريمية ذات لون ورديوطاقيات للصلاة موشاة بعناصر حريمية مثل الدانتلا، وتمائم صلاة (تيفلِّين) مزينة بالشرائط (وإن كان بعضهن يرفضن الشيلان والطاقيات والتمائم لأنها ذكورية أكثر مناللازم وتُذكِّرهن بآبائهن!). ومنذ عام 1983، بدأت بعض المعابد اليهودية غير الأرثوذكسية بتعديل الصلوات حتى تتم الإشارة إلى الآباء (باتريارك) وزوجاتهن الأمهات (ماتريارك).

وتحـاول بعـض المعابد تغـيير صيغة الإشـارة إلى الإله باعتباره ذكراً، فيُشار إليه باعتبار أنه ذكر وأنثى في آن واحد، حتى تتحقق المساواة التامة بين الجنسين! فيُقال على سبيل المثال "إن الخالق هو الذي/ هي التي، وضع/وضعت... إلخ"، بل يُشار إليه أحياناً بالمؤنث وحسب، فهو «ملكة الدنيا»، و«سيدة الكون» و«الشخيناه». كما أن بعض دعاة حركة التمركز حول الأنثى يستخدمن كلمات لا جنس لها (بالإنجليزية: أن جندرد ungendered») مثل: «فريند friend» (صديق) و«كومبانيون companion» (رفيق) و«كو كريتور co-creator» (المشارك في الخلق). وهذا الاسم الأخير يدل على الجذور الحلولية لليهودية المتمركزة حول الأنثى. فالتراث القبَّالي يرى أن الإنسان شريك للإله في عملية الخلق إذ أن عملية إصلاح الخلل الكوني (تيقون) التي يستعيد بها الإله وجوده ووحدته، لا يمكن أن تتم إلا من خلال أداء اليهود للأوامر والنواهي.

كما تحاول الحركة اليهودية المتمركزة حول الأنثى تطهير الخطاب الديني تماماً من أية صور مجازية قد يُفهَم منها الانقسام إلى ذكر وأنثى مثل صورتي الزواج والزفاف المجازيتين المتواترتين في العهد القديم. ولعل من أهم التغييرات في عالم الرموز ظهور ليليت (نسبة إلى الليل والظلمة) بديلاً لحواء، وهي حسب الأساطير التلمودية زوجة آدم الأولى قبل حواء، وقد تمردت على وضعها كأنثى (فرفضت مسألة أنها تنام تحت الرجل لا فوقه!) كما تمرَّدت على الإله. وأصبحت تنتقم من الرجال والنساءالمتزوجات بأن تقتل الأطفال المولودين. فليليت ليست عكس حواء وحسب، بل هي عكس الأنوثة والأمومة والحالة البشرية نفسها، فهي شخصية تفكيكية من الطراز الأول تنتمي إلى عالم ما بعد الحداثة الذي لا يوجد فيه مركز ولا معنى (وقد صدرت عام 1976 مجلة ليليت لتعبِّر عن فكر حركة التمركز حول الأنثى أسستها سوزان وايدمان شنايدر إحدى أهم مفكرات الحركة).

ومن التعديلات الأخرى التي أُدخلت على العبادة اليهودية، الاحتفال بعيد «روش هحوديش»، أي «عيد القمر الجديد» باعتباره عيداً أنثوياً. وتشير بعض مفكرات الحركة اليهودية للتمركز حول الأنثى إلى علاقة القمر بالعادة الشهرية، وإلى أن في التلمود عبارة تقول إن القمر سيصبح يوماً ما مساوياً للشمس، ويفسر كل هذا على أنه إشارات إلى المساواة المطلقة بين الذكر والأنثى واختفاء أي اختلاف بينهما. ويقيم دعاة حركة التمركز حول الأنثى احتفالات خاصة بالعادة الشهرية والاجهاض والولادة. وقد وصفت إحداهن الاحتفال بالمخاض وإنجاب الطفل وقالت إنها عثرت عليه في كتاب يُسمَّى سيفر هاتشبِّي (وقد ذكره أحد الحاخامات ليحذر أعضاء الجماعة اليهودية من الانغماس في الخرافات الشعبية الوثنية). ويأخذ الطقس الشكل التالي:

تُرسَم دائرة بالفحم الأسود على حوائط الغرفة التي تجلس فيها الأنثى التي ستنجب، ثم تكتب على الحائط عبارة: آدم وحواء بدون ليليت، ثم تكتب على الباب أسماء ثلاثة ملائكة هم: سانوي وساتسوني وسامنجالوف (وأسماؤهم هي أيضاً سانفي وسانسافي وسامن جاليف)، ثم تحضر صديقات الأنثى التي ستلد ويجلسن في دائرة حولها وهكذا.

وقد أعد دعاة حركة التمركز حول الأنثى هاجاداه لعيد الفصح خاصة بالنساء (وكتبتها الأمريكية إستير بروند والإسرائيلية نعومي نيمرود). ويبدأ الاحتفال بعيد الفصح بالنساء جالسات على الأرض وقد فرشن أمامهن مفرشاً وتوجَّه الأسئلة لأربع بنات، بدلاً من أربعة أولاد، أما كأس النبي إلياهو فيصبح كأس الكاهنة مريم. وقد كُتبت كتب مدراش خاصة متمركزة حول الأنثى. وقد أدخلت الحركة أيضاً تعديلات عديدة ذات طابع سطحي بعضها يكاد يكون كوميدياً. فمثلاً هناك احتفال يُسمَّى «بريت بنوت يسرائيل» بدلاً من «بريت ميلاه (الختان)» تُتلى فيه صلاة خاصة تؤكد أهمية الأمهات: أولاهن بطبيعة الحال ليليت ثم حواء وزوجة نوح وسارة ورفقه وليئة وراحيل. ويُقام احتفال التشليخ (بعد عيد رأس السنة) حيث تقوم النساء بإلقاء خطاياهن في الماء. وتأكل النساء طعاماً مستديراً (فطائر) علامة الخصوبة والأنوثة، ويشعلن شموعاً يوم السبت على أن تُوضَع الشموع في طبق مليء بالماء حتى تشبه القمر. وتجمع النساء الصدقة فيما بينهن ولا ينفقنها إلا على حركة التمركز حول الأنثى. وكما أسلفنا، رُسِّمت نساء حاخامات كما توجد الآن معابد يهـودية إصـلاحيـة ومحافظـة للسحاقيات، وقد رُسِّـمت لهـا (حاخامات) من النساء السحاقيات أيضـاً، وتوجـد الآن مدرسـة تلمودية عليا (يشيفا) تسمح بالتحاق الشواذ جنسياً والسحاقيات.

وقد يكون من الأفضـل تصنـيف اليهودية المتمركزة حول الأنثى على أنها من بين العبادات الجديدة، أكثر من أن تكون استمراراً لليهودية الحاخامية، وهـي من ثم محـاولةأخــيرة للإنسان العلماني اليهودي في الغرب أن يحل مشكلة المعنى والأزمة الروحية الناجمة عن تصاعُد معدلات العلمنة في المجتمعات التي يُقال لها «متقدمة».

وحركة التمركز حول الأنثى تشبه تماماً في بنيتها الحركة الصهيونية التي تذهب إلى أن الأغيار لا يمكنهم أن يشعروا بشعور اليهود، وهم يحملون وزر تاريخ قام باضطهاد اليهود جيلاً بعد جيل، والبرنامج الإصلاحي الصهيوني لا يهدف إلى تحسين أحوال اليهود باعتبارهم أقلية دينية في أوطانهم وإنما هو برنامج تفكيكي يطالب بسحب اليهود من مجتمعات الأغيار (مثلما تُسحَب المرأة في المنظومة المتمركزة حول الأنثى من مجتمع الرجال(.

ولنا أن نقول الشيء نفسه بالنسبة لما يحدث في الدين فما يحدث في حالة اليهودية المتمركزة حول الأنثى ليس إصلاحاً دينياً يهدف إلى تطوير بعض الشعائر حتى يتمكن اليهودي من أن يصبح إنساناً عصرياً، وإنما هو عملية تفكيك للدين تُغيِّر هويته وملامحه وتوجُّهه حتى يصبح من العسير تسميته ديناً على الإطلاق؟ فإذا كان النص المقدَّس نصاً زمنياً تاريخياً وإذا كانت العقائد مسائل اجتماعية اتفاقية، وإذا كانت الشعائر تدور داخل نطاق كل هذا، فما الفرق بين النص المقدَّس ومجلة نيوزويك مثلاً؟

لقد دخل الإنسان الغربي عالم ما بعد الحداثة: وهو عالم حلولي وثني دائري عبثي (مثل «صمت الحملان») عالم يحكمه إله مجنون ويعيش فيه بشر لا يمكن الحكم عليهم من منظور أية منظومة قيمية، فهم خليط من الذئاب والأفاعي والأميبا. ومن أهم مفكرات حركة التمركر حول الأنثى: بتي فريدان، وإريكا يونج (وكلتاهما أمريكية يهودية(.

بتــي فريــدان (1921- )

Betty Friedan

كاتبة أمريكية، وإحدى زعيمات حركة التمركز حول الأنثى في الولايات المتحدة. وُلدت عام 1921 في ولاية إلينوي باسم نعومي جولدشتاين، ودرست علم النفس بكلية سميث بولاية ماساشوستس (وهي كلية للنساء فقط). وتخرجت عام 1942 لتستكمل بعدها دراستها العليا في جامعـة بيركلي بكاليفورنيا ثم عمـلت لعدة سـنوات محللـة نفسية وباحثة.

تفرغت بعد زواجها عام 1947 لتربية أبنائها الثلاثة. وفي عام 1963، نشرت كتابها الشهير السر الأنثوي الذي يُعَدُّ أبرز أدبيات حركة التمركز حول الأنثى في الولايات المتحدة في الستينيات التي تُعَد بتي فريدان أبرز رائداتها. والكتاب يركز على قضية المساواة ويهاجم إعلاء دور المرأة كأم وزوجة ويدعو إلى تحقيق المرأة لذاتها من خلال التعليم والعمل. وفي الواقع، فإن هذا الكتاب كان بمنزلة المرجع للعديد من الأفكار بشأن حركة التمركز حول الأنثى لفترة طويلة، إلا أن بتي فريدان نفسها عادت (عام 1981) فنشرت كتاب الطور الثاني الذي غيرت فيه كثيراً من آرائها وهاجمت فيه كثيراً من أفكار التمركز حول الأنثى وانتقدت مفهوم المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة ودعت إلى عدم حرمان المرأة من خصوصيتها كامرأة، وأكدت أهمية دعم دور المرأة كأم وزوجة وتأكيد حقها في الحرية والاختيار في إطار الحفاظ على مؤسسة الأسرة ، كما دعت إلى حق الإجهاض كواحد من الحقوق الإنسانية للمرأة لا كدعوة للانحلال الأخلاقي. كما دعت بتي فريدان الحركة النسوية إلى زيادة الاهتمام بالحقوق الاجتماعية للمرأة وإلى تقليل التركيز على القضايا الجنسية وعلى حرية الشذوذ الجنسي، وهو ما استثار ضدها التيارات الراديكالية في الحركة الأمريكية المتمركزة حول الأنثى التي اتهمتها بالمحافظة بل أحياناً بمعاداة التمركز حول الأنثى.

وعلى المستوى الحركي تُعَدُّ بتي فريدان من أنشط العناصر النسائية الأمريكية في عقدي الستينيات والسبعينيات، حيث أسست المنظمة القـومية للنسـاء (ناو NOW) عام 1966 ورأسـتها حتى عام 1970، وهو العام نفسه الذي قادت فيه مظاهرة تضم 50 ألف امرأة للمطالبة بمساواة المرأة في الحقوق والواجبات مع الرجل، كما شاركت فيتأسيس المؤتمر السياسي النسائي القومي عام 1971، وفي تأسيس بنك النساء 1973، والمجلس العالي للمرأة 1973. وكذلك، فإنها تُعَدُّ من أبرز الشخصيات التي دافعت عن مشروع قانون المساواة الكاملة بين الجنسين الذي طُرح في عهد الرئيس ريجان والمعروف باسم إيرا ERA.

وتُعَدُّ بتي فريدان نموذجاً متكرراً بين قيادات حركة تحرير المرأة في الولايات المتحدة، إذ يُلاحَظ أن عدداً كبيراً منهن إما يهوديات، أو ذوي أصول يهودية. ويمكن القول بأن هذا يعود لمركب من الأسـباب منها مـا يلي:

1 ـ يُلاحَظ تصاعُد معدلات العلمنة بين يهود الولايات المتحدة لكونهم عناصر مهاجرة جديدة لا تحمل أعباءً تاريخية أو دينية، وباعتبار أنهم أعضاء في أقلية وجدت أنبإمكانها أن تحقق الحراك الاجتماعي من خلال الاندماج في المجتمع الأمريكي العلماني ومن خلال تآكل القيم المسيحية الأخلاقية المطلقة.

2 ـ لعــل الخلفـــية الحلـولية (القبَّـاليـة) لكثير من هـذه القيــادات قـد ساهم في دفعهم نحو تَبنِّي مواقف جذرية متطرفة، فالحلولية بأحاديتها المتطرفة لا تعترف بأية حدود أو تقسيمات أو اختلافات أو ثنائيات.

3 ـ يُلاحَظ أن الأسرة اليهودية في الولايات المتحدة الأمريكية كانت تتميَّز بقدر عال من التماسك حتى أوائل الستينيات، ولكنها أخذت في التآكل والتراجع باعتبارها إطاراً للتضامن، وقد أدَّى هذا إلى غربة عدد كبير من النساء اليهوديات وإلى إحساسهن بالاضطهاد داخل الأسرة. ولا شك في أن الدور المتميِّز الذي كانت تلعبه الأم اليهودية في الأسرة اليهودية في شرق أوربا ثم في الجيلين الأول والثاني من المهاجرين وتآكل هذا الدور وتحوُّله إلى عبء على الأم وعلى أبنائها، بسبب ظهور المؤسسات الحكومية التي تضطلع بوظائف الأم التقليدية، لاشك في أن هذا عمَّق هذه الغربة وبالتالي زاد من تطرف الثورة.

وقد شاركت بتي فريدان في بعض الأنشطة اليهودية، فشاركت عضواً في المجلة الدولية للشئون اليهودية، كما شاركت في الحملة الصهيونية المعادية للأمم المتحدة والتي تتهم المنظمة الدولية بأنها معادية لليهودية.

كاتــرين شــالييه (1940- )

Catherine Chalier

مؤلفة فرنسية، وإحدى مفكرات حركة التمركز حول الأنثى. تلقت تعليماً كلاسيكياً وأجادت العبرية تماماً وحصلت على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة باريس. وقد تأثرت تأثراً عميقاً بفكر المفكر الفرنسي اليهودي عمانويل لفيناس، وطبقت بعض أفكاره في تفسيرها للنصوص المقدَّسة اليهودية، ورفضت التمييز التقليدي بين العقل والإيمان، وحاولت أن تبيِّن أن الكتاب المقدَّس اليهودي يمكنه أن يحرك ويعيد تجديد البحث الفلسفي الغربي، وهي بذلك تحطِّم الحواجز التي تفصل بين الفلسفة والدين.

وتذهب كاترين شالييه إلى أن الهدف من الخطاب الإنساني ليس مجرد التعبير عن الفكر العقلاني وإنما الإجابة على كلمة الإله حسب تعاليم التوراة. ولذا، فإنها ترفض في كتابها استمرار الشر (1987) الفصل بين الوجود وسبب الوجود، كما ترفض في كتابها الإيحاء مع الطبيعة (1989) فكرة أن ثمة انقساماً بين اليهودية والطبيعة. فرغم أن النظام الكوني لا يمكنه أن يشكل مصدراً للقواعد الأخلاقية للسـلوك ومعـايير الأخلاق، إلا أن الطبيـعة مع هـذا لها دور تلعبه، فالطبيعة مثل الإنسان تتحرك نحو الخلاص (وفي المنظـومة الحلـولية التي توحـد بين الإلــه والإنسـان والطبيعة، يصبـح الخلاص مسألة ليست بالضرورة تاريخية إنسانية، وإنما مسألة كـونية، حيـث لا فارق ـ في نهاية الأمر ـ بين الإنسان والطبيعة).

وكما هو الحال في كثير من المنظومات الحلولية، تصبح الأرض والأنثى هما المصدر والمركز، وتبين شالييه الدور الأساسي الذي تلعبه الأمهات (ماتريارك) سارة ورفقه وراحيل وليئة. والدور الأساسي الذي لعبنه في تأسيس اليهودية. وهي في تفسيرها للكتب المقدَّسة تستخدم الأقوال القبَّالية والشعر الحديث والأساليب التلمودية لتبرهن على وجهة نظرها المتصلة بالأمهات.

وإلى جانب الكتابين السابقين ألَّفت شالييه الكتب التالية: اليهودية والآخر (1982) ويتضح فيه أثر لفيناس، و هيبة الأنثى (1982)، و الأمهات: سارة ورفقه وراحيل وليئة (1985).

إريكـا يونـج (1942- )

Erica Jong

روائية وشاعرة أمريكية. وُلدت باسم إيريكا مان في نيويورك ودرست في كلية برنارد التابعة لجامعة كولومبيا، وتَخرجت عام 1963 ثم التحقت بالجامعة نفسها للحصول على الماجستير، ثم انتقلت مع زوجها الذي كان يعمل في الجيش الأمريكي إلى ألمانيا وأقامت بهايدلبرج في الفترة من 1966 حتى 1969، وقد انتهت هذه الزيجة وزيجتان أخريان بالفشل. وقد سجلت إيريكا يونج تجربتها هناك في سيرة ذاتية بعنوان الخوف من الطيران (1973)، وبدأت في كتابة الشعر الذي أخذ يحمل ملامح الوعيبالذات الأنثوية المنفصلة. وفي عام 1971، نشرت ديوانها الشعري الأول تحت عنوان فواكه وخضراوات الذي عكس موقف المرأة كفنانة. واستمرت في ديوانها الثاني نصف حياة (1973) في تكريس النظرة المتمركزة حول الأنثى لقضايا عديدة.

وقد بدأت شهرتها كروائية بعد أن نشرت رواية الخوف من الطيران التي تصف فيها تجربتها في البحث عن الذات وتحلِّل المشكلات النفسية والجنسية لبطلة الرواية إيزادورا ونج التي تشبه في جوانب كثيرة منها الخلفية الفكرية والتربية اليهودية لإريكا يونج نفسها.

كذلك ضمَّنت الكتاب فصلاً عن حياتها في ألمانيا وأثر ذلك في وعيها اليهودي. وقد أدَّت الصراحة الجنسية للرواية إلى إثارة الكثير من الجـدل. وفي عام 1977، نشـرت روايتها الثانية كيف تنقذين حياتك، وهي تُعَد تكملة للرواية السابقة، وتعرض لتجربة إيزادورا مع الشهرة والطلاق والعلاقات الجديدة.

ثم صدر لها عام 1980 فاني: التاريخ الحقيقي لمغامرات فاني هاكابوت جونز وقد وُصفت بأنها رواية مغامرات من القرن الثامن عشر وتصف المغامرات الجنسية لامرأة في القرن الثامن عشر. وقد نشرت إريكا يونج أيضاً ديواني شعر جذور الحي (1975)، و على حافة الجسد (1979). ونشرت رواية مغامرات وقبل (1984)، وسبرتيسيما: رواية من البندقية (1987)، وهما تتسـمان بالانفتاحية الجنسـية نفسـها. ولا تتمـتع يونج بمكانة أدبية عالية، فهي من كُتَّاب الدرجة الثانية، أو الكُتَّاب الشعبيين، وتعود شهرتها إلى أدبها المكشوف، وإن كانت تحاول أن تمزج بين موضوع الهوية الأنثوية المنفصلة والهوية اليهودية المنفصلة حيث ترى أن اليهودي (الواعي بذاته) والأنثى (الواعية بذاتها) هما الشيء نفسه تقريباً، ومن ثم فإن تجربتها كأنثى يهودية في ألمانيا تجربة ذات دلالة خاصة.

الشـذوذ الجنسي

Homosexuality

يُحرِّم العهد القديم العلاقة الجنسمثلية أو الشذوذ الجنسي بين الذكور، وتبلغ عقوبة هذه الجريمة حد الإعدام. أما التلمود، فهو يُحرِّم العلاقة الجنسمثلية بين كل من الذكوروالإناث. ولا يوجد وصف تفصيلي لحوادث جنسمثلية في العهد القديم إلا في حادثة لوط (تكوين 19/5)، وفي قصة بنو بليعال من بنيامين (قضاة 19/20).

ويبدو أن سلوك أعضاء الجماعات اليهودية عبر التاريخ البشري كان يتسم بالإحجام عن الشذوذ الجنسي. ولذا، فإننا نجد أن التلمود لا يشغل باله كثيراً بالعلاقات الجنسية الشاذة، بل إن الشولحان عاروخ، وهو تلخيص للقوانين التلمودية، يهمل ذكرها باعتبار أنها أمر مفروغ منه. ومما يجدر ذكره أن المواجهة بين اليهودية والهيلينية في القرون الأخيرة قبل الميلاد، التي تزامنت مع تأغرق أعداد كبيرة من أعضاء النخبة اليهودية في مصر وفلسطين، ورغم القبول الواضح في التراث الهيليني للشذوذ الجنسي، فإن أعضاء الجماعات اليهودية لم ينغمسوا في مثل هذه الممارسة. ويبدو أن بعض الأدباء السفارد، متأثرين بتقاليد الشعر العربي والتغزل بالغلمان، كتبوا عن حب أفراد من الجنس نفسه. بل يبدو أن الممارسات الجنسية الشاذة كانت منتشرة بين السفارد قبل وبعد الطرد من إسبانيا حتى أن كلمتي «يهودي» و«شاذ جنسياً» كانتا مترادفتين في شبه جزيرة أيبريا. كما أن التراث القبَّالي يرى أن كلاًّ من الإله والإنسان (قبل تَبعثُّر الشرارات) مُكوَّنان من عناصر ذكورة وأنوثة مختلطة، وفي هذا تعبير عن الواحدية الكونية الحلولية ورفض للثنائيات.

وقد تغيَّر الوضع تماماً في العصر الحديث مع تصاعد معدلات العلمنة بين أعضاء الجماعات اليهودية، فرئيس أول جماعة عالمية للشواذ جنسياً من الذكور هو ماجنوس هيرشفيلد (1868 ـ 1935)، ومساعده كورت هيلر (1885 ـ 1972)، وكلاهما كان ألمانياً يهودياً (بل كان هيلر يزعم أنه من نسل الحاخام هليل). وكان هيلر هو أول من طالب باعتبار الشواذ جنسياً أقلية لابد من حماية حقوقها. ويُلاحَظ اهتمام علماء النفس اليهود بموضوع الشذوذ الجنسي. ومن المعروف أن فرويد ينسب لكل البشر ازدواجية جنسية أو جنسمثلية كامنة.

ولكن حتى لا تُفسَّر هذه المعلومات تفسيراً عنصرياً يبسط الأمور تبسيطاً مخلاًّ يجعل اليهود مسئولين عن الشذوذ الجنسي، لابد أن نشير إلى أن قبول الشذوذ الجنسي بشكل متزايد وتطبيعه إحدى سمات المجتمعات العلمانية المتقدمة، كما أنه نتيجة حتمية لغياب اليقين المعرفي والمطلقية الأخلاقية وغياب المركز وتعاظم أهمية الهامش وإنكار أي مفهوم للطبيعة البشرية ومن ثم أية معيارية. وإذا كان هناك وجود ملحوظ لليهود في الحركات الداعية لتطبيع الشذوذ الجنسي، فهذا أمر نابع من أن أعضاء الأقليات (الذين يوجدون في الهامش)، وخصوصاً أولئك الذين يتحولون إلى جماعات وظيفية لديهم استعداد أكبر من استعداد أعضاء الأغلبية لارتياد آفاق جديدة سواء في عالم الاستثمار أو في عالم الأفكار والسلوك. ومهما يكن الأمر، فإن حركة الشذوذ الجنسي في العالم الغربي حقَّقت تقـدماً ملحوظاً حتى أن قـوانين معـظم بلاد أوربا قد تغيَّرت، فهي تسمح بالعلاقات الجنسية الشاذة الخاصة بين بالغين يدركون ما يفعلونه ويقبلونه، وبدأت تَصدُر تشريعات تعترف بعلاقة الشواذ جنسياً كزواج شرعي يعطي لطرفيه حقوق المتزوجين كافة من معاش حكومي إلى علاوات إضافية بل وحق تبنِّي الأطفال! كما أن كثيراً من الكنائس المسيحية أصبحت تقبل العلاقة الشاذة جنسياً بل وتُؤسَّس الآن كنائس للشواذ جنسياً، ويُرسَّم الشواذ جنسياً قساوسة ووعاظاً. وقد بدأت المؤسسات الدينية اليهودية تلحق بالركب، فاليهودية الإصلاحية والمحافظة لا تُحرِّمان الآن الشذوذ الجنسي. وقد أُسِّست أيضاً معابد يهودية للشواذ جنسياً، ورُسِّم حاخامات شواذ جنسياً من الجنسين. وهذا دليل آخر على أن الجماعات اليهودية هي، في نهاية الأمر، ثمرةالتغيرات الحضارية والاجتماعية التي تقع للمجتمعات التي يعيشون في كنفها، ومن السخف بمكان التحدث هنا عن «تاريخ يهودي مستقل» أو عن مسئولية اليهود عن الشر.

ونحن نتوقع أن تتطور الأمور بين الجماعات اليهودية بشكل أسرع منها بين المسيحيين، وهذا يعود إلى تركيب اليهودية الجيولوجي التراكمي التي تحوي داخلها أشياء عديدة متناقضة. كما أن تطوُّر اليهودية وقبولها الهوية الإثنية كأساس للانتماء، بدلاً من العقيدة الدينية، يفتح الباب على مصراعيه لأي سلوك مهما تنافى مع القيم الأخلاقية أو الدينية، فالهوية الإثنية لا تفرض على صاحبها أي أعباء أخلاقية. وكما جاء في إحدى الدراسات، فإن المعابد اليهودية الخاصة بالشواذ جنسياً تكافح من أجل الحصول على الفهم والقبول من بيت إسرائيل (الشعب اليهودي) رغم أنف التحريمات الواردة في التوراة وتقاليد اليهودية الحاخامية التي استبعدتهم من الحياة الدينية للجماعة.

والقانون العثماني الذي طبقته حكومة الانتداب، ومن بعدها الدولة الصهيونية، يُحرِّم العلاقات الجنسية الشاذة. ومع هذا، كانت السلطات التنفيذية الصهيونية تنظر للممارسات الشاذة بكثير من التسامح، ولذا لم يُقدَّم أحد قط للمحاكمة بتهمة الممارسة الجنسية الشاذة. وفي عام 1988، أصدر الكنيست قانوناً بإلغاء القانون الذي يُجرِّم العلاقات الجنسية الشاذة (رغم معارضة اليهود الأرثوذكس). ولا يُعفَى الشواذ جنسياً من الخدمة العسكرية، ويُكتفَى بنقلهم إلى مواقع غير مهمة من الناحية الأمنية. وتوجد في إسرائيل جماعة تُسمَّى جماعة الدفاع عن الحقوق الشخصية أُسِّست عام 1975. وبعد عام 1988، ظهرت مجلات للشواذ جنسياً في إسرائيل باللغتين العبرية والإنجليزية. وفي يونيه 1991، عُقد في تل أبيب المؤتمر الدولي الثالث للشواذ جنسياً من الذكور والإناث والمخنثين (أي الذين يحوون عناصر ذكورة وأنوثة). وهناك اتجاه الآن في إسرائيل نحو منح المزيد من الحريات للشواذ جنسياً. وقد صرحت يائيل ديان، ابنة موشيه ديان، بأن العلاقة بين الملك داود ويوناثان هي علاقة شاذة جنسياً، كما عُرضت مسرحية في إسرائيل تتناول سيرة داود الملك بالطريقة نفسها وهناك العديد من الأفلام والأعمال الفنية التي تتعامل مع هذا الموضوع.

يهــوديـة الطعــام

Culinary Judaism

«يهودية الطعام» عبارة نستخدمها في هذه الموسوعة لنشير إلى ما يُسمَّى بالإنجليزية «كيوليناري جودايزم culinary Judaism» وترجمتها الحرفية «اليهوديةالطهوية» أو «يهودية الطبيخ». والواقع أن «يهودية الطعام» هي شكل من أشكال اليهودية الإثنية أو الإثنية اليهودية، إذ أن بعض أعضاء الجماعة اليهودية في الولاياتالمتحدة تنحصر يهوديتهم (كعقيدة وانتماء) في نوع الطعام الذي يأكلونه وفي طريقة طهوه. وما يُطلقون عليه اصطلاح «طعام يهودي» هو في العادة من أصل شرق أوربي يديشي (مثل البيجل والجيلت، والسمك المملح). كما قد يُراعى بعض قوانين الطعام الشرعي (لا كلها) في بعض المناسبات وحسب (وليس طوال العام). واليهودي الأمريكي، وهو عادةً من اليهود الجدد، يحرص على تناول مثل هذا الطعام وعلى اتِّباع مثل هذه القواعد ويتصور أنه يؤكد انتماءه اليهودي بهذا الشكل، وأنه قد تَوحَّد مع الشعب اليهودي والأسلاف والأجداد. وهذا شيء مضحك تماماً، فتناول أنواع من الأطعمة لا يعدو أن يكون مجرد تناول لأنواع من الأطعمة، وهو أمر لا علاقة له بأي نسق ديني أو أخلاقي ولا علاقة له بالهوية الإثنية إن تم تعريفها بشكل مركب وشامل.

ويهودية الطعام تعبير آخر عن علمنة النسق الديني اليهودي وعن تحوُّل اليهودية من عقيدة يلتزم بها اليهودي ويخضع لقواعدها إلى مجموعة من الممارسات التي تهدف إلى تحقيق الهوية وإشباع الذات وتحقيق المتعة!

ألعـاب التـوراة (توراه إيروبكس(

Tora Aerobics

«توراه إيروبيكس» عبارة إنجليزية تعني ممارسة التمرينات الرياضية المعروفة بالإيروبيكس بمصاحبة التوراة. ولذا أطلقنا عليها مصطلح «ألعاب التوراة». وألعاب التوراة إحدى البدع الجديدة التي ظهرت في الولايات المتحدة، وصاحبها حاخام إصلاحي في لونج أيلاند، قرَّر أن يقوم بدراسة نصوص التوراة وتلاوتها وذلك بمصاحبة التمرينات الرياضية المعروفة بالإيروبيكس ضمن الاحتفالات التقليدية المصاحبة لعيد النصيب. وفي الواقع، فإن عدم احتجاج أيٍّ من المؤسسات الدينية اليهودية الإصلاحية المسئولة على هذه البدعة الجديدة تبيِّن أن اليهودية نفسها بدأت تتحول من الداخل إلى إحدى العبادات الجديدة التي فقدت الصلة تماماً باليهودية الحاخامية، وخصوصاً بعد السماح للشواذ جنسياً بالانضمام إلى الأبرشيات الإصلاحية المختلفة، بل وبعد السماح لهم بأن يُرسَّم منهم حاخامات أيضاً. وهذا أمر مُتوقَّع تماماً في مرحلة الحلولية بدون إله، إذ يصبح الجسد (بالنسبة إلى يهود الولايات المتحدة البعيدين عن الأرض المقدَّسة) الكيان المقدَّس الأساسي الذي يشكل العابد والمعبود والمعبد. وألعاب التوراة مثل جيد على علمنة النسق الديني من الداخل، بحيث لا يبقى فيه من الخارج سوى القشرة والمحارة، فألعاب التوراة تعبير عن أخلاقيات اللذة والمتعة حيث يصبح الهدف من الحياة تحقيق الذات وإمتاعها والتعبير عن مبدأ اللذة خارج أية حدود أو قيود. وغني عن القول أن مثل هذه الأخلاقيات يقف على طرف النقيض من الموقف الديني الذي يَصدُر عن الاعتراف بأن الإنسان له حدود وبأن الهدف من وجود الإنسان في الأرض ليس إمتاع الذات وإنما تحقيق مثاليات أخلاقية تستند إلى أمر إلهي.

والله أعلم.

الصفحة التالية ß إضغط هنا