ومضات
الثبات عند المحن
قطع الأمل
خرجت الفتاة الصغيرة من البيت نحو الحارة كي تلعب مع صديقاتها كالعادة الألعاب المعتادة كالحجلة أو نط الحبلة أو لعبة الخرز المفضلة لديهن. وبعد فترة وجيزة من اللعب حصل شيء لم يكن في الحسبان حين كسبت أحدى الخرزات الجميلة ووضعتها بالقرب من أنفها ومن شدة فرحها أستنشقتها بقوة فدخلت الخرزة الكبيرة فيها ولم تخرج. وأخذ الدم ينزف بلا أنقطاع وهرولت مسرعة نحو أمها والتي كانت منشغلة بأمور البيت في ذلك الوقت. فأنتابت الأم الصدمة عندما شاهدت منظر أبنتها وهي على هذه الحالة السيئة والمخيفة في أن واحد. في البداية ظنّت بأن عراكا ما حصل بينها وبين أحدى الفتيات ولكن حين علمت بأن الخرزة هي سبب النزف توجهت وبسرعة الى المستوصف القريب من الحي. لم يكن في قصبة دهوك آنذك سوى طبيب مقيم ومعاون وممرضة فقط وكان يقتقر الى أبسط مستلزمات الطبية الماسة للحالات الطارئة. وبعد الأستفسار عرفوا السبب وحاول الطبيب أقناع الأم المسكينة بأن ليس في أمكانه عمل شيء لها لأنها تحتاج لأجراء عملية لها وليس في مقدورهم فعل ذلك هنا ويتوجب عليها أخذها الى مدينة الموصل. فأنهمرت الدموع من عينيها وأخذت بالتوسل من إيقاف النزف أن أمكن لكن توسلاتها لم تجدي نفعا وأصرّ بأن تغادر المكان والذهاب بها حيثما تشاء. وخرجت وليس بعيدا من باب المستوصف وهي وأبنتها على تلك الحالة اليائسة والبائسة لأن أملها الوحيد أنقطع من الطبيب والمسافة والوقت الى الموصل ليس باليسير والموت واقع لا محال من شدة النزف. فتضرعت الى الله حيث ألهمها الصبر والبصيرة حين خطرت على بالها بأن تقوم بتلك الخطوة الغير الموجودة في ثنايا كتب الطب وبكل عفوية أقنعت البنت بأن تخرج الهواء من أنفها وتدفعها وبكل قوة حين تضع هي الأخرى يدها على الجانب الآخر من الأنف لحصر الهواء من تلك الجهة المقابلة. وبهذة العملية السهلة والتي لم تكلف جَهدا ولا مالا ولا دراية علمية بل خبرة فطرية من صميم الواقع والضروف المحيط بها أخرجت الخرزة من أنف الفتاة. أنقطع البكاء من الطفلة وهدأ الروع من الأم ونجحت في أول أختبار طبي قلما يخطر على بال طبيب ممارس في تلك الأمور والحالات المماثلة. حينها عادت بالطفلة أدراجها نحو غرفة الطبيب والفرحة لا تفارق محياها وقالت لهم وبكل تواضع لقد أتممت لكم نصف المهمة لقد أخرجت الخرزة وما عليكم إلاّ ان توقفوا النزيف. وحين عرف الطبيب الحقيقة شعر بأن نقص الخبرة الذاتية في بعض المجالات يجب أن تسنتبط من الواقع المحيط والتجربة والدراية الذاتية.
قوة العزيمة
في خمسينيات القرن الماضي وكان عمري لا يتجاوز الخمس أعوام. ظهر ورم بحجم الجوزة وراء أذني الأيسر. وفي باديء الأمر لم يكن يؤلمني أبدا ولم أكن أشعر به بتاتا. وعائلتي لم تعر له أهمية تذكر في حينها. فأخذ الورم يزداد حجما وظهر فيه الجراحة وأشتد الوجع بين الحين والأخر مما دفع والدتي بأن تأخذني الى المستوصف الوحيد في قصبة دهوك. وبعد الفحص والمعاينة أخبر الطبيب المقيم معاونه (طلو) المسيحي بأن تُفهم أمي بأن الطفل بحاجة لعملية جراحية آنية لا يحتمل التأخير ونجاح العملية لا تبشر بالخير لمدى صعوبة تلك العملية الصغرى لكون الورم عميق وفي مكان خطِر ولو حدث خطأ يصعب أيقاف النزيف. ووضّح طلو قرار الطبيب لأمي وبأنسانيته المعهودة وهدوءه المعتاد بأن القيام بالعملية فيه خطورة على حياة الطفل والقرار الأخير يعود لك. وفي تلك الأثناء لم أكن أعلم ما يجري بينهم ولم أكن أعرف ما يؤول اليه العواقب وماذا يحل بي في نهاية المطاف. وبعد برهة من الزمن, وبكل جرأة بعدما وضعت قدرة الله نصب أعينها وعزيمة الآخرين في حسبانها وتركت الباقي لمجريات الأمور الآنية واضعة التوفيق والنجاح في سُلم قناعتها الذاتية بأن يباشر الطبيب بالمهمة من دون تأخير. قوة عزيمة الأم وأقدام الطاقم وجهلي التام بما يجري من حولي وكونُ مصيري مُعلّق بتلك القرارات المتخذة من قبل الآخرين مجتمعة أدّت لأتمام المهمة على أحسن ما يرام وبنجاح تام. ولحد اللحظة لم أن أكن أعلم هل كان ذلك الورم حميدا أم خبيثا ولكن الشيء الوحيد الذي لا أستطعْ نسيانه وأشعر به دوما هي تلك الندبة البادية خلف أذني ولحد الآن والتي لم تنبت عليها الشعر مطلقا وحين أضع يدي عليها بين الحين والآخر أحسُّ وأتذكر تلك الساعة القاتلة وأنا بين أيديهم بين الحياة والموت.
السقوط المميت
كان هناك الكثير من البساتين على جانبي النهر المنحدر من گلي دهوك مارا من وسط المدينة والتي أعطى لها رونقا وجمالا وسحرا لا يوصف. وكانت تلك البساتين تزخر بأنواع الفواكه كالمشمش والخوخ والتفاح والتين والرمان. وكانت شجرة الأسبيندار الباسقة تزرع على شكل خطوط بمحاذاة السواقي مطلة على البساتين معطية لها منظرا أخاذا وخلابا. وفي أحد الأيام نزلنا أنا وعائلتي ضيوفا في بستان أحد من أقاربنا حيث كلفني بقطع الأغصان بواسطة الفأس من أسفل شجرة الأسبيندار وصعودا نحو الأعلى بقدر الأمكان لأطعام الحيوانات والمواشي. فلبيت الطلب وكنت في حينها لم أتجاوز الثانية عشر من عمري, وأخذت أقطع الأغصان الواحدة تلو الأخرى وأرمي بها الى الأسفل حتى وصلت الى مكان رأيت نفسي معلقا في الهواء في مكان شاهق وقد أخذ الجذع حولي يصبح رفيعا ولم يستطع حملي حيث مال بي من ذلك العلو وأنحنى نحو الأسفل وأنكسر وأصبحت كالطائر في الهواء والفأس في يدي اليمنى والغصن في الأخرى وعند الهبوط قذفت الأثنين معا ونزلت وكأنني مظلي من دون مظلة ومن حسن حظي هويت بين أشجار الرمان الكثيفة المتداخلة ووقعت على الأرض فوق قدمي من دون أن أصيب بأي أذى ناهيك عن بعض الخدوش الطفيفة فوق وجهي ورأسي. ولكنني أجتزت تلك المحنة بفضل أغصان الرمان ولولاها لكنت من المحسوبين من بين الأموات.
اللعبة الخطِرة
في فصل الصيف لجأ أحد الشبان بفتح حانوت صغير في محلتنا ببيع بعض أنواع الكعك وقناني الكوكا الباردة فيها. ولقلة الطلب أخذ يروج بين الصبية لعبة تجلب أنتباههم حيث كان يشترط على كل من يتمكن من ضرب القنينة الزجاجية من الوسط بالمفتاح الحديدي وبقوة ويجعل المشروب ينسكب الى حد النصف فأذا فعلها عليه أن يشرب البقية الباقية من دون أن يدفع ثمنها وأن فشل في ذلك فعليه دفع الملبغ مضاعفا. وفي أحدى المرات نويت أن أجرب حظي في تلك اللعبة ولم أفكر ما يؤول اليه العواقب. فأخذت أستعد للقيام بالمحاولة ولأول مرة متمنيا الموفقية فيها ولكن لخيبة أملي من شدة الضربة على القنينة جرح أصبعي الوسطى بصورة بليغة وأخذ الدم ينزف بغزارة وعلى أثرها أقفل الشاب حانوته وتركني لمصيري المجهول بين الحياة والموت ولم أعرف لصغر سني أين أتجه وماذا أفعل في حينها. فأتجهت صوب النهر القريب ووضعت أصبعي في الماء وأخذ الدم يجري وأنا أنظر الى الماء الأحمر ينساب أمامي الى أن توقف من حاله ورجعت الى البيت منهار القوى شاحبا ولم أخبر أحدا بما حدث لي ولكن أثر الجرح بقى شاخصا يذكرني بتلك الواقعة الممية والتي نجوت منها بأعجوبة.
قذيفة الموت
في ستينيات القرن الماضي حين نشب الأقتتال بين الأكراد والحكومة المركزية حول شكل الحكم في العراق أصبح الحياة في القرى والقصبات شبه مقيدة وفي بعض الأماكن محرمة تماما. وكنا نحن الطلبة في قصبة دهوك نجوب البساتين والقرى المجاورة للدراسة أحيانا والتمتع بصيد العصافير والطيور في تلك الأماكن. وفي أحد الأيام المعتادة كنّا في قرية شاخكي المطلة من بُعد على دهوك. وبينما كنت منشغلا بالدراسة فوق أحدى الصخور شاهدت أخي الأكبر وبرفقته صديقه متوجهين نحوي وكان أخي يلوح بيده من بعيد بأنه أصطاد طائرا غريبا وحين أقترب مني أدركت بأن الطير ليس إلا قذيفة ذات زعانف لم تنفلق من طائرة حربية. فحذرته بأن يضعها جانبا وبهدوء تام أدراكا مني بأنها سوف تنفجر لولامست شيئا قويا. أخي لم يكترث لتلك التنبيهات بل تمادى الى أبعد من ذلك ولم يعر أي أهتمام لقولي. وكان أخي يتقدمني في السير بمترين والصديق الآخر كان يمشي خلفي عندما نبهته وللمرة الأخيرة بأن يرمي القذيفة جانبا في مكان آمن. وفي تلك الأثناء وبلحظة خاطفة وسريعة ألقى بالقذيفة من فوق رأسه نحو الصخرة الكبيرة أمامه عند نزولنا من المنحدر. وشاهدت الدخان الأسود يعلو من فوق الصخرة كالسحاب وصوت الأنفجار دوّى في الجوار وتطاير الشظايا وسقط أخي مغشيا من شدة الصدمة وأنا تبسمرت في مكاني لا أدري ماذا حلّ بنا وبعدها تحسست جسمي ولم أشعر بأي شيء وأدركت بأنني لم أصب ولله الحمد بأذى. فتقدمت نحو أخي ولم ألاحظ أثر أية جروح عليه ولكن كان مصدوما من أثر الصوت القوي. وبعدها التفت ورائي وإذا بصديقنا قد همّ بالفرار من المكان نحو القرية المجاورة خوفا من النتائج المترتبة من الحادثة. لقد نجونا من موت محقق بلطف الله ولم نصب بأي مكروه.
طيش الشباب
في منتصف المسافة بين الجبل الأسود المطل على مدينة دهوك ومقابل قرية بيرومرا من الجانب الآخر يوجد علو شاهق يدعى کەلات أي القلعة او القمة وكان السفح المحاذي لتلك القرية فيه عدّة صهاريج محفور في الصخر منذ القدم على شكل مخروطي ضيق من الأعلى ما يقارب المتر وعريض من الأسفل مما يسمح لخزن أكبر كمية من الثلج لأوقات الصيف الحار ولكافة القرى المجاورة. فأصبحت فيما بعد ملاذا للحمائم البرية تلجأ أليه في ليالي الشتاء القارصة الصافية. فقد أعتاد أهل تلك القرية المجاورة بالمجيء اليها وكانوا يوضعون بعض أغصان البلوط فوق فتحة الصهريج لمنع الحمائم من الخروج ويقومون بأنزال أحد الأشخاص بواسطة الحبل الى الأسفل وبعدها يضيئون المكان من الداخل, حينها كانت الحمائم تتجمع على الضوء فيقوم بذبح الواحدة تلو الأخرى. فقررنا في عصر أحد الأيام الملائمة بأن نتوجه نحو نفس المكان بأنتظار الليلة المشئومة التي كادت تؤدي بحياتنا لولا حفظ الله ورعايته بنا نحن الأخوة الأربع. لم نكن نقدر حجم المجازفة التي أقدمنا عليه. وصلنا المكان بكل أمان وسلام وما أن حلّ الليل تبدل الجو المألوف الى جو مظلم مكفهر موحش وأخذ الخوف والهلع ينتابنا لأننا كنا مراهقين لم نتعود على مثل تلك الأجواء المخيفة. فقررنا الرجوع الى البيت ولكن وقعنا بين أمرين فأما أن نعود من حيث أتينا حيث المسافة أطول والوادي السحيق الذي يأوي الحيوانات المفترسة وإما السير نحو ما هو أخطر وهو المرور من بين الربايا حيث يتواجد فيها الجيش العراقي والمسافة بين الواحدة والأخرى قريبة حيث نقع من دون أي شك تحت مرمى نيرانهم الذي لا يرحم. وقعنا بين الخيارين لأن الثالث كان الأسوأ وهو البقاء هناك الى الصباح والبرد القارص سوف يقتلنا لا محالة. فكان خيارنا هو الثاني لأنه كان أهون الشرين لقرب المسافة منها الى مكان سكنانا في دهوك, وآملين بأن الجنود لن يتحسسوا قدومنا في ذلك الوقت والمكان. وأخذنا نحن الأربعة نسير بكل أناة وهدوء لا يبتعد أحدنا عن الآخر كثيرا خشية من الضياع أو نضل الطريق في الليلة الظلماء. حين أقتربنا من الربايا وبدأنا النزول الى الجهة المقابلة من الجبل المواجه لقصبة دهوك تدحرجت بعض الأحجار من تحت أقدامنا وبدأ الجنود بالرمي المكثف تجاهنا وتسترنا خلف الصخور الى أن هدأ الجو وأخذنا بالسير ثانية الى أن وصلنا أسفل الجبل سالمين. وبعدها وصلنا أطراف المحلة في وقت متأخر من الليل. وكان الاهل والآقارب والجيران جميعا في الأنتظار قلقين طيلة فترة غيابنا لأنهم لم يعرفوا شيئاً عن مصيرنا وظنّوا بأننا أصبحنا في عداد المفقودين.
الرمح القاتل
في ستينيات القرن الماضي كانت في قصبة دهوك ثانوية واحدة فقط وفيما بعد أصبحت تسمى بأعدادية كاوه. تقع بالقرب من النهر المار في وسط المدينة من جهة محلة گرێ باسێ. وفي أحد الأيام كان لدينا أمتحان في الدرس الأول ولم يمر وقت طويل علي بأني أنهيت أجابتي على كافة الأسئلة وتوجهت قبل الجميع الى الساحة الخلفية حيث المكان الدافئ في ذلك اليوم الشتوي. وعند مروري من الباب الداخلي نحو الخارج لم أصادف أحدا من الطلبة في طريقي لكونه الدرس الأول وجميعهم في داخل الصفوف. وبينما كنت شارد الذهن في بعض الأمور وأنا في طريقي الى الفناء الخارجي وكان الصمت مطبقا على المكان برمته وبلحظة البرق سمعت الصراخ يتعالى من الجهة المقابلة من الساحة وكانت تلك علامات تحذير لي كي أنتبه بما يجري حولي في تلك اللحظة القاتلة. فألتفت صوب مصدر الأصوات وأذا برمح يتلوى في الهواء وكأنه ملك الموت قادم نحوي وفي حينه أهتز كل كياني وأنا أنظر الى الرمح وهو قادم بأتجاهي وتجمدت في مكاني وسقط الرمح أمامي على الأرض. وبكل المقاييس لو حسب الزمن بيني وبين الرمح لا يعدو الاّ بالثواني وبالمسافة لا يتجاوز مترا واحدا لا أكثر. وبعدها جاء الجميع نحوي فرحين بنجاتي من الموت المحقق أنه لطف الله. هؤلاء كانوا فريق الرياضة المدرسي يتدربون في تلك الساعة على رمي الرمح في المدرسة.
٦-١- ٢٠١٧ دهوك – بقلم : أحمد علي: الومضات على شكل ( PDF ) في الأسفل في الملف
حِكَم المجانين: ( پەندێت دینا)
أستطيع القول بأن معظم الفلاسفة والحكماء والمفكرين قد سلّطوا الضوء على هذه الظاهرة الغريبة. ومن خلال أقوالهم نستدل بأن معظم الناس مجانين أو يتظاهرون بالجنون في حياتهم من تصرفاتهم وسلوكهم ومواقفهم وحتى أحياناً في كتاباتهم يوجد فيها مسحة من الأفكار والآراء التي تنم على الجنون أو بنظر الأطباء النفسيين بأنها هلوسات تصدر من العقل الباطن. ولست هنا بصدد عرض هذه الظاهره بالشكل العلمي الدقيق ولكن الهدف منه هو أن أستعرض بعض الأقوال والتصرفات التي بدرت من شريحة من المجتمع من مشاهداتي لهم أو من سمعت عنهم والذين كانوا من المحسوبين مجانين في نظر الأغلبية الساحقة في المجتمع. ولعلّ ما يدمغ هذه المقولة: الجنون فنون. أو بمعنى آخر بأن هناك أنواع بل أنماط من الأشخاص الذين يتظاهرون بالجنون ولكل منهم مآربه وغاياته في إيصال ما يدور في مخيلته الى الناس وكلٌ على طريقته الخاصة.
الثرثار: كان من عادة هذا الشخص الذي التقيت به مرارا أثناء ركوبه الباص المكتظ بالناس وكان دوما يقف بجانب السائق وموجها الكلام له بالتحديد ولكن كان في الحقيقة يعني بها جميع الركاب. هل لديك " تائر سبير"؟ أي أطار أحتياطي. وكان يرد عليه السائق بعفوية وبقهقهة عالية لماذا؟ وكان يرد عليه بأستهزاء مفتعل: لأن السيارة بدون سبير كالرجل الذي له زوجة واحدة إن أصابها مكروه يتعطل شأنه في ذلك كالسيارة. وعلى أثر ذلك كان الجميع يضحكون بأستثناء النساء اللواتي كن يضجرن من هذا القول المقصود ويمتعضن من هذا التصرف الغير اللائق في نظرهن.
الهادئ: كنت ألاحظ هذا الشخص المتضاهر بالجنون حين كان يجوب الطرقات ويدخل الحدائق العامة ويجلس أحيانا مع حلقات كبار السن في تلك الأماكن ويتفوه بهذه الكلمات وبهدوء وعلى طريقته المعتادة ويقول لهم: عندما يقدم لكم المشروبات في أي مكان ما حاول أن لا تشرب الموجود في القدح كله بل أبق قسما منه. وحين كان يأتي الأستفسار من بعض الفضوليين وبأسلوب السخرية كان يرد عليهم بأبتسامتة المعهودة: لا تعرف ما يخبي لك القدر! توخياً للحيطة والحذر وبعدها يغادر المكان ويترك المجلس في صمت ويترك البقية في حيرة من أمرهم من هذا الرأي السديد.
المتسول: كان هذا الرجل الرزين يمر في الأحياء الغنية مرتديا ملابس رثة وبالية لا تليق بوقاره وهيئتة ويهزّ برأسه وينادي بصوت عال ٍ كي يسمعه الجميع:" المال مال الله, لله يا محسنين". من دون أن يطرق باباً واحداً. وكان أهل الفضل والأحسان يمدون له اليد مما أمكن. وفي أحدى الليالي وبينما كنت في زيارة عند أحد الآقارب وكانت حالته المادية ضعيفة وأذا بالباب يطرق ودخل شخصٌ وناول صاحب الدار مقدارا من النقود وعندما لمحت وجهه أدركت بأنه نفس المتسول ولكن بهندام مغاير عكس الذي كان يرتديه عندما كنت أشاهده سابقاً. وعندما خرج من الدار لحقتُ به وأوقفته في منتصف الطريق وقلت له ما هذا الذي تفعله في النهار تستجدي وفي الليل تسخي على البائسين. وكان جوابه مختصرا بل من الحكمة بمكان بأنه: يجمع من الموسرين الرحماء ويسدُ بها رمق بعض المتعفّفين المحتاجين والفقراء والمال أولاً وأخيراً هو مال الله يا بني وليكن هذا الأمر سرٌ بيني وبينك.
الأعوج : ملامح هذا الشخص لا يظهر أبداً بأنه مجنون ألبتة ولكن كان الناس يتصفونه بذلك الوصف وهذا هو ديدن البشر في هذا العصر. كان يتصرف كالأسوياء في تعامله مع الجميع ولم يبدر منه أي إيذاء تجاه أحد وكان يحضر المآتم ويؤدي الصلاة في المساجد وبين حين وآخر يردد مع نفسه بعض الكلمات الغير المفهومة ولكن كان ينهيها وبلغته الكوردية الواضحة " دونیا ب چەپی برێڤە دچیت". أي بأن الدنيا تدور بشكل معوج. وكان يؤكد قوله هذا بالفعل العملي وذلك حين كان يصافحه شخصٌ ما كان يمد له يده اليسرى. وعندما كانوا يستفسرون عن السبب كان الرد: بأن الحياة حوله تسير بالمقلوب أي بعكس الأتجاه الصحيح. وهذا القول والفعل صحيح ما لم يصلح المعوج وإلاّ سيبقى الأعوج معوجاً دائماً ولا يستقيم مطلقاً.
المحذّر: كنت صغيرا في ستينيات القرن الماضي وأنا أشاهد ذلك المجنون الظريف مرتدياً سروالاً وقميصاً أبيضا وهو يركب فوق لوح من الخشب ويجوب الشارع الرئيسي الضيق الخالي معظم الوقت من السيارات حينها لقلتها في تلك القصبة آنذاك. وكان يمر من أمام الناس جيئةً وذهابا وخاصة أثناء بدء الدوام الرسمي أو عند أنتهائها. وكان من عادته أن يتوقف فجأةً أمام الكبار أوالطائعين في السن ويبادرهم بالسؤال المعتاد: أركب خلفي كي أوصلك الى المكان المقصود. وكان الرد يأتي أحياناً من البعض بأنه لا ينوي الذهاب معه حينئذٍ كان يقول له: إن لم تفعلها اليوم فربما سوف تُحمل عليها غداً مجبراً. وعند الأفتراق عنهم كان ينشد هذه الكلمات الكوردية بصوت مرتفع وعذب كي يسْمعه الجميع:"ئەڤە دار بەستە". أي انها السدية" آلة الحدباء. وصدق الشاعر القول حين قال:
كل ابن آدم وان طالت سلامته يوما على الآلة الحدباء محمول
قال تعالى (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والأكرام)
المحبوب: حقاً كان هذا الرجل الموصوف بالجنون محبوباَ لدى الجميع لأنه بتصرفاته وأفعاله الطيبة كان يكسب ود الصغير والكبير معاً وذلك لكونه سليل أحدى العوائل المعروفة بالتدين في المنطقة. كان معتاداً بالمسح على رؤوس الصغار وقراءة بعض الآيات عليهم عند مرورهم الى المدارس أو الأطفال المصابين بالمس أو من جراء المرض وكان يتفوه بهذه الكلمة المحببه لديه " حەبێ حەبێ" أي حبي حبي. وعندعبوره في الأسواق وبهدوء تام كان يردد عبارتة المألوفة وبكورديته الرصينة موجها كلامه الى أصحاب الدكاكين:"هشیارێ تەرازیێ بن". أي توخى الحذر من الميزان. وكان أيضاً معتاداً بمضغ ألياف الشاي من دون السكر وعند السؤال عن السبب كانت الأجابة على النحو الآتي:" إن لم تذق المر أحياناً لا تشعر بطعم الحلو أبداً". لك حبي وتقديري أيها الحكيم المتظاهر بالجنون.
المغدور: فعلا ومن خلال الأدلة والبراهين والسلوكيات التي كان يقوم به ( صالو المجنون) الساكن في قصبة دهوك في عقد الخمسينيات من القرن الماضي كان حقا مجنونا مرفوع عنه القلم وفي جميع الأوساط. ولكن في نفس الوقت كان شخصا مسالما لا يؤذي أحداً ما لم يجني عليه أحد. يتقبل جميع الأشياء من الناس وحتى أنه كان معتاداً على السكاير. ولكن حينما كانت ملابسه تتمزق يصبح من الصعوبة بمكان من تبديلها وبشق الأنفس وبمعونة الكثيرين يتم ذلك. وكان معروفا لدى الناس بتلك المفردة الكوردية عندما كان يردد أسمه أمامه فيقول: "كی صالو؟ وبأسلوب الأستفسار يعني من صالح؟. وشاء القدر أن مرّ يوما بالقرب من ربية عسكرية ووقف أمام سلك من الكهرباء المتدلي أثر تفجير سابق فمد يده نحوه فظن الجنود بأنه هو الفاعل الحقيقي فأشبعوه ضربا مبرحا وكاد أن يموت بين أيديهم. وبعد التدخل من قبل المارة بأنه فعلا مجنون أفرج عنه. وبعد تلك الحادثة الأليمة في نفسه أستبدل الكلمات المعتادة السابقة بهذه المقولة الحكيمة:" هشیاربن خو ل تێلا حوکمەتێ نەدەن". أي:"أياكم أياكم أن تدنو وتمسكوا أسلاك الحكومة" وذلك عندما كان يمر من أمام الناس من باب أبداء النصح لهم. بلى خذوا العبرة والموعظة من أفواه الحكماء المجانين.
المستهتر: شخص مستهتر يصفه الناس بالمجنون التام لأن التصرف الذي يقوم بم ينم وبكل تأكيد على ذلك الفعل. لقد تعود ومنذ فترة طويلة وعلى مرأى ومسمع الجميع أصحاب القرار والمسؤولية ومن دون رادع أو حل يترك حرأ وطليقاً يجوب الشوارع العامة و يقفز من رصيف الى آخر ويقف فجأةً أمام السيارات المارة ويصيح بأعلى صوته " تفو عليكم" ويبصق على السيارات ومن فيها من أشخاص متغافلين عما يحدث وكأن هذا السلوك الشائن لا يعنيهم لا من قريب ولا من بعيد. منظر مقرف ومشمئز يقشعر له الأبدان. هذه الظاهرة الفريدة والغريبة موجودة في بلدة كبيرة ومكتضة بالبشر والسيارات. أستميحكم عذراً هل هذا جنون أم تظاهر بالجنون؟ لا أتصور بأن العاقل يتمكن من الأجابة أوالأختيار. وأتخيل وأتمنى أن لا يأخذني الخيال بعيداً بأنك ستلقى الأجابة الصحيحة الوافية من فم ذلك المعتوه عينه المتصف بالجنون ويسلك هذا السلوك المعيب. كان الله في عون هذه الأمة المغلوبة على أمرها, قسم من حكامها عملاء , وقسم مجانين والبقية يتظاهرون بالجنون.
المخادع : كان هذا المخادع المتظاهر بالجنون يفترش الطريق بالقرب من أحدى المتنزهات حاملا في يده عصاً وفي رأسه صنارة لصيد السمك. وقد حفر بركة صغيرة ووضع فيها قليلاً من الماء لا يتجاوز بضع سنتيمترات. وعند مجييء المارة كان يرمي بالصنارة في تلك البركة منتظراً نصيبه من السمك وكان يتفوه وبصوت فيه نبرة جنونية لجلب أنظار الناس أليه. وفي أحدى الأمسيات وقف شاب وسيم أمامه وبداعي الفضول أشفق عليه حين شاهده يرمي الشبكة مرارا وتكراراً من دون الحصول على صيد في تلك الحفرة الصغيرة. وعرض عليه الذهاب معه الى الحانوت كي يشتري له بعض المأكولات فلبى النداء وهناك وبعد أن نال ما أغدق عليه الشاب من الحلويات والمشروبات والسكائر سأله وبكل عفوية كم سمكةً قمت بصيدها اليوم؟ فأجابه على الفور "أنت السابع اليوم"!! والحبل على الجرار.
27-3-2018 – دهوك-أحمد علي
مومْ فتنة القومْ
أشعلت مومْ - الفتنة في القومْ - وتفرجت عليهم فوق القِممْ
"مومێ ئاگر بەردا کومێ وچوو سەرێ زومێ"
هذا القول ليس من نسج الخيال بل حدث جلل وقع وواقع لا محال وسيبقى في الدوران عبر الأجيال قصة واقعية بطلتها أرملة عجوز شمطاء جاءت من وراء السحب خلف التلال وأستقرت على سفح جبل من الجبال تجاوره عديد من القرى الآمنة المطمئنة في حياتها وعيشها. وأدعت بأن تلك البقعة موطن لأجدادها القدامى ولها الحق أن تسكن فيها وتتصرف بها كيفما تشاء. وبعد أخذ وعطاء وجدل وعناء وإرضاء وجفاء من أهالي القرى بين مؤيد ومعارض رضخوا للأمر الواقع لأن تيار الداخل الهزيل أصطدم بزوبعة الخارج الجارف وقبلوا الأمر على مضض. ومن تلك اللحظة بدأت (مومي) بجلب من أرادت ممن تشتهي على شاكلتها والطيور على أشكالها تقع وتربعوا فيها وأخذوا بالتوسع والتمدد والعيش على أراضي القرى المجاورة بالشراء أو بالقوة أو بالأغراء وما شابه.
وبعد فترة من الزمن بعد أن تقوت شوكتها أخذت تُحيك الدسائس وتُثير فيهم المؤامرات وتميل البعض منهم الى جانبها كي توقِعَ بهم لتصل الى أهدافها المنشودة والغاية المرجوة من مجيئها. وأخيرا تحققت مطالبها وأمانيها حين تمكنت من إشعال نار الفتنة بين الجميع بفضل حنكتها ودهائها وأخذوا بالتناحر والأقتتال فيما بينهم وصعدت قمة الجبل تتفرج عليهم ملء عينيها وهي فرحة جذلى منتشية طعم الفوز وكسب المنازلة النهائية. أخذ الأخ يقتل أخاه والجار جاره وهي تتفرج عليهم وأشتد الأمر بهم حيث وصل الحد بهم الى أن ثار أهل القرى بعضهم على الآخر حيث قتل قويهم ضعيفهم وهي تتفرج عليهم ومدت يد العون لكل مستهتر وضال وخارج عن القانون والدين والملة بالمال والسلاح كي يطاردوا رؤساء قراهم ومشائخهم وأكابرهم ويقتلوهم شر قتلة وبطريقة مهينة شنيعة وحصرهم إما في حفرة أو ساقية أو رميه كفأرة ميتة في أحدى السجون أو قتله بجزوة نار حارقة أو تركه يقتل قومه ويشرد أهله ويبطش بهم شرّ بطشة وهي تتفرج عليهم وتقول لباقي القرى والقصبات المجاورة بالأيماء أو بالأشارة أو بالتهديد أو بالوعيد سوف يكون هكذا حالكم أو أسوأ وأشد من ذلك بكثير لو تماديتم في المساس بأمننا وهدوئنا وراحة بالنا. وما عليكم إلا أن تنفّذوا ما تُملى عليكم وتصبحوا أذيالا لنا أيها الكفرة الفجار شئتم أم أبيتم وليس لكم الخيار والأمر والنهي لصاحبة الجلالة مومي صاحبة الدار وصانعة القرار وحامية الأسرار وشركة في أنتاج شلة الأشرار.
ولقد أصاب الحكيم الكوردي كبد الحقيقة حين قالها وتفوه بها في سالف الدهر والزمان بمثل هذا الشكل والمنوال وبكل وضوح وجلاء وتبيان: أنه " أمر وإلا موت " أي" ئەمرە، بمرە" باللغة الكوردية الرصينة أي عدم تنفيذ الأوامر من الآمر سيؤدي بصاحبه نحوالهاوية ويموت في أتون نارحامية ومومي طوال الوقت جالسة فوق الجبل تتفرج على الجميع ملئها الحقد والكراهية راضية مرضية, ولسان حالها تقول:«ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر». حلم وتحقق رُغم الأعادي ممن شاء أو أبى ومن ضلّ وغوى وبنار الجهالة والغباوة أكتوى وأستوت السفينة على الجودي فوق جبل الكوردي في شرناخ يا سادة يا كرام وأبلغوها عني لأولاد البغاء والحرام بأن الأعور الدجال قادم نحوكم لا محال من خلف السهول والتلال وستبقى مومي صامدة تتفرج عليكم فوق الجبال هذه قصة واقعية وليست من نسج الخيال ولا حدودة تُحكى للأطفال والعيال.
٢٠١٩-١١-٢٩ – دهوک -ئەحمەد عەلی
الجودي سلسلة جبال الأكراد “أرارات” في ولاية أغري (شرناخ) في شرق تركيا.
أدوات أستفهام في أنتظار...؟
أستهل مقالي هذا بأدوات أستفهامية موجهة للجميع الصغير قبل الكبير الساذج والخبير لعلي أرى وأسمع أجابات شافية ومقنعة مهما كانت نوعها وبأي أسلوب تصاغ. هل التقنيات الحديثة المتطورة والخدمات المتوفرة فيها والوسائل التعبيرية المتاحة لديها مثل( الأنترنت والموبايل واللابتوب وأجهزة التواصل الأخرى المتقدمة) من التحكم في قدرات العقل البشري الذاتية والفعلية من خلال ترويضه وتهويسه وقابليته في السيطرة عليه وتسخيره كالعبد الذليل وجعله منقاداَ نحوهم ومتعلقا بأستخداماتهم ما برأ ينفك عنهم مطواعاَ لأوامرهم ملبياَ أهدافهم وغاياتهم الخقية والمعلنة؟ والى أي مدى يبقى يسرق منه الغالي والرخيص ويبعده من الثمين والنفيس ويعلمه الغثّ والتعيس؟ أليس هم من وقفوا في طريق الأبداع الفكري والأنتاج الرصين من خلال تلهيته بوسائل المتعة الآنية الغير النافعة والمبتذلة نفسيا ومعنويا والتي تساعد في أخماد جذوة النقاء الذهني والصفاء العقلي لديه وغرس المفاهيم المغلوطة والرؤى الغوغائية والهيسترية والأنتقامية ودفعه نحو أساليب العنف والعدوانية؟ أليس هؤلاء(البالتوك والفيسبوك وتوتر والفيديوهات البذيئة وثك توك وكل ما هو قادم وآتي سوف يبوك ويحوك ويلوك الأذى والشر للأجيال القادمة بحيث لا يترك مجالاَ للشك من تجريده من جميع أمكانياته وطاقاته وآفاقه فيحل محله وبكل تأكيد لا يدع محلاَ للريبة الذكاء الأصطناعي ووسائل التخاطب الآلية الجافة الهشة والتي تخلو من الحس والذوق والعاطفة؟ ألم يعلمه هذه التطبيقات على الكتابات التافه وأساليب التعبير الخاطئة والتفوه بكلمات بذيئة وجارحة لا تليق بهم لا دينيا ولا أخلاقيا ولا عرفيا وبكل المقاييس الدنيوية؟ أليس كذلك؟ لا رادع ديني يمنعهم ولا وازع أخلاقي يردعهم ولا حافز أنساني ينهرهم ولا مؤثر بشري يوقفهم ولا نازع ذاتي يبعدهم من المضي والسير قُدماَ نحو المجهول المظلم والموت العقلي المحتم كما فعل بنا كورونا فسد وغلق الأنوف ووضع على الأفواه الماسك وكمم. وأخيراَ ألم يبقى لنا حل للمواجهة وتغيير البوصلة بالأتجاه الصائب والصحيح أم تنحرف السفينة بنا وبما فيها غياهب المحيط المتلاطم ونستقر في القعر لا محالة ؟؟؟ لا اللبيب بالأشارة يفهم ولا الفطن بالخبرة يتعض ولا النبيه بالأيماءة المعبرة يشعر ولا الحكيم بالتجارب يعتبر ولا العالم ينور فما بالك بالجاهل والسفيه والحمقى فماذا تتوقع منهم وأي شيىء ترتجي وتتمنى بالأتيان به, هذه أسئلة وأدوات أستفهام وعلامات أستفسار في أنتظار...؟
22-1-2021-Duhok – Ahmed Ali