خذوا التجارب والدراية من العوام
ليست التجربة العملية في نيل أعلى الشهادات العلمية ولا في تبوأ أرقى المناصب العليا ولا في التدرج المهني والوظيفي الروتيني الممل ولا حتى الوصول الى أفضل المراتب في الزعامة والقيادة والتحكم في مصائر الشعوب والأوطان. بل هي خبرة ذاتية تراكمية ودراية عملية أصقلتها السنين وتجارب شخصية وجماعية من رحم المعاناة الواقعية وأستنباط من عبر توارثها من الحياة الفعلية الممتزجة من أعباء الواقع المرير وأستخدامها بشكل يتلائم مع متطلبات الحياة اليومية والمستقبلية وتناسبها مع مجريات الوضع وتقلبات الزمن والتكيف لها بالشكل الصحيح والمناسب.
هذه المقدمة والديباجة مدخل لأمر أستوقفني عند مشاهدتي مقابلة بين مراسل تلفزيوني مع أحد الأشخاص يُدعى (سلو) من عامة الشعب الكوردي وبطريقة عفوية في السوق العام وبدون أشعار مسبق وليس كباقي الدعاة والأساتذة والخطباء والرؤساء الذين يلجأون دوما الى التهيأ المسبق والتحضير المدروس والأستعداد التام حين يتطلب منهم ألقاء موعظة أو محاضرة أو خطبة أو كلمة جوفاء مصطنعة ملئها الكذب والدجل والتملق والنفاق. وقف هذا الرجل الستيني العادي وبرزانة وأخذ يجاوب المراسل على أسئلته الواحدة تلو الأخرى عن أوضاع البلد المالية والحالة المعيشية المزرية وبشكل نقدي ساخر وتهكم لاذع ومن خلال تجربة عاشها في خضم الحياة القاسية وكان يستشهد بأقواله أمثالا كوردية قديمة مستنبطة من حياة الأنسان الكوردي ودالة بمضمونها على الحالة الآنية التي يعيشها أقليم كوردستان والوضع العام في العراق من الضائقة المالية والأقتصادية. ومن ثنايا حديثه الممتع والجاد تطرق لعدة مواضيع منها ( مالية, أقتصادية, دينية, زراعية, أجتماعية, تجارية, قضائية ...) وما شابه وبوقت قصير لا يتجاوز الربع ساعة وقوفاَ على الأقدام وفي الشارع وأمام المارة.
وأستهل كلامه بحكاية كوردية مفادها بأن حالنا أصبح كثعلب الصحراء حين تقابل مع ثعلب الزوزان أي ساكن الجبال الدافئة وعن الحيل والألاعيب التي بحوزته والتي يتجاوز عددها المائة مقابل واحدة لثعلب الجبل ولكن عندما وقعت المحنة عليه ضيّع الجميع وسقط في الفخ لذا أصبح حالنا مثله مع الفارق في التشبيه. وأردف قائلا فصعود الدولار في الأسواق يتأثر بها ذو الدخل المحدود ولا على الأثرياء المنتفعين بتقلبات سوق البورصة المفتعلة. وعدم خلق فرص العمل للشباب من قبل الحكومة المعنية بذلك جعل معظمهم يسهرون الليالي وينامون في النهار عطالة بطالة ولا يستطيعون تكوين أسرة ومن يقدم على ذلك يصبح على أهله عالة وأخيرا يكون مصير الزواج عند قاضي الطلاق لا محالة. وفي حقل السياسة حين سُئل عن المفاوضات الجارية بين وفد الأقليم والحكومة المركزية وأقرار ميزانية الدولة أجاب بالحرف الواحد بأنها ستبوء بالفشل الذريع لفقدان الثقة بين الطرفين منذ فترة طويلة والفقير متظرر من هذه التجاذبات الغير المجدية. وحالة السوق مرتبطة كليا من حيث الأعتماد على الخارج وخصوصا تركيا وأيران في كافة المجالات وأضعافهم بضائع السوق المحلية وخنق محاصيل الفلاح في مهده وهدر تعبه المضني لأن أعتماده على الوسائل البدائية في الأنتاج قياسا بالآخرين أصحاب المكننة الحديثة والوسائل العلمية المتطورة. وفي هذه الحالة المأساوية للأنتاج الزراعي المحلي التعيس يتوقف مزارعنا عن العمل لعدم قدرته التنافس مع التجارة الخارجية وفي حالة توقف الطرفين عن تزويد السوق بالمواد الغذائية جراء أنسداد المنافذ الحدودية لأسباب طارئة فيكون مصيرنا الجوع والموت. فعدم تشجيع الفلاح والمزارع والأعتماد على الغير يؤدي الى كثرة البطالة ويخلق الكساد الأقتصادي فعلى الحكومة إيجاد تلك الفرص لو أرادت الخروج من المأزق الحقيقي لهذا الوضع الكارثي لأنها لا تستطع أشباع المواطن عن طريق الرواتب فقط والأعتماد عليها كليا وعند التأخير يبدأ المواطن بالشكوى والتذمر لأنه من فترة التسعينيات تعوّد على الرواتب ولا يبذل جهدا في الأعمال الأخرى والمثل الكوردي القديم يؤكد هذه الحالة بأن" اليافع كالشتلة الطرية من الأمكان ثنيها بسهولة وكيفما تشاء" وأما بعد عدّة سنين يكون من الصعوبة بمكان القيام بذلك. وأتحدث عن نفسي كنت أنا وحدي أدير عملي في السابق وأزرع مساحة ثلاثون طغارا من كافة المحاصيل أما الآن لا أتمكن من القيام بذلك ولو طغاراَ واحدا وفقدت الكثير بسبب التقلبات المالية الداخلية والخارجية. لذا على الحكومة حثّ الشعب على العمل الفردي والجماعي الحر لكي يتمكنوا من مساعدة الحكومة والخروج من الأزمات المالية المتئزمة, ولكن الطرفين على مفترق الطرق لا حلول أنية ولا مستقبلية وحال الجميع كالذي "يعزف في المزمار في آذان ثور الدار" لا فائدة منها. وقيل أيضاَ بهذا الصدد بأن الطالب رأس الرمح والشباب ذخر الوطن ورصيده والأثنان لم نجدي منهم نفعاَ وضاعوا وتاهوا وأصبحوا بلا عمل, وبعدها تحسر وقال للمراسل أستحلفك بالله هل رأيت جيلا من الشباب بلا عمل ومستغرق في النوم وأمله الوحيد الخروج من الوطن والغرق في البحار والتغرب في المهجر.
وحين سأله عن الحلول وحق تقرير المصير الكوردي أجابه بحرقة ومرارة وألم دفين وقال مصيرنا مصير الحركات السابقة والدول الكوردية المنهارة الواحدة تلو الأخرى وأسباب فشلها الحقيقي لأننا لم نحافظ على شرف الأرض الذي نعيش عليه لأنه بمثابة العرض لنا وسبب وجودنا وبقائناعليه. نحن نمتلك الأرض والمياه وهما سر الوجود والديمومة وهناك قبائل أو جزر صغيرة على هذا الكوكب أصبحت دول ونحن لأسباب عدّة لا زلنا نبحث عن الوطن المفقود ونضع اللوم على غيرنا ونُبرر سبب فشلنا على أسباب واهية.
ومسك الختام في الحديث الشيق تطرق الى حكمة دينية ودنيوية في آن واحد ومن الموروث الكوردي الأصيل مستوحاة من تجربة أنسانية بحتة مفادها" كن بلا رب, ولا تكن بلا أرباب". وباللغة الكوردية:" بێ خودێ بە، نە بێ خودان بە" والمغزى العميق من المثل بأنه لو أنقطعت عن ربك لسبب ما أو ساورك الشك لفترة وجيزة من الزمن مهما كانت الدوافع فلا بُدّ أن تعود أليه كي يعفوا عنك ربك لأنه تواب رحيم. وأما إذا فُقد عنك الوالي وغاب عنك السلطان صاحب السلطة والقرار والآمر الناهي ومصير حياتك وعيشك مركون به ولا يؤدي ما عليه تجاهك ويتركك فريسة للذئاب ولقمة سائغة لمن هب ودب يتلاعبون بك متما شاؤوا وحيثما سنح لهم الظروف المؤاتية لفعل ذلك. الراعي هو السلطان الحافظ المؤتمن، أو هو من وُكِلَ إليه تدبير الشيء وسياسته وحفظه ورعايته والرعيّة كل ما يشمله حفظ الراعي ونظره لأن أمرهم لزامٌ عليه فأصل كل بلية أحتجاب الراعي عن الرعية فعليهم الحفاظ عليها بشتى الطرق والسبل.
وخلاصة القول بأن ما أوحى به هذا الرجل للملأ وأعلنه على التلفاز بمثابة درس بالغ الأهمية للذين يتباهون بشهاداتهم ويفتخرون بعلمهم وثقافتهم أمام أنظار الناس وينتقصون من الآخرين, فخير الناس من نفع الناس وأفضل الجهاد قول الحق في حضرة حاكم جائر ظالم وعاجز عن الحلول ولا يستطيع دفع المظالم عن شعبه ووطنه. فأملنا الوحيد عند قدوم العام الجديد أن يكون سنة خير وعطاء وينظر الى الرعية بعين العطف والحنان وأيجاد الحلول الآنية لهذا المأزق الحالي.
23-12-2020 – دهوك – احمد علي