وقفات من وحي الطفولة المؤلمة
كنت صبيا صغيرا في سن الحادية عشرة من عمري وفي الصف الخامس الأبتدائي في قضاء دهوك آنذك والتابع للواء الموصل, حين أندلع القتال بين الأكراد والحكومة العراقية. ولأنها كانت في شهر أيلول عام 1961, فقد أطلق عليها الأكراد فيما بعد بثورة أيلول وبالكوردية ( شورەشا ئەیلونێ). وكان يسمى المقاتلين الكورد المنخرطين في صفوف الثورة من قبل الأكراد ( پێشەرگە ) أي ( الفدائي) ولكن كانت هذه الكلمة من المحرمات علينا أن نتفوه بها علنا أمام الآخرين أعوان الدولة فكان مصيره السجن ويصبح في خبر كان. وفي المقابل كانوا هم ينعتونهم ب( العصاة, المتمردين, أو المخربين) وهذه التسميات كلها لم أكن في حينها أدرك معانيها اللغوية ولا مغزاها ومدلولاتها النفسية والمعنوية لصغر سني وقلة إلمامي باللغة العربية في تلك الفترة المبكرة من العمر والدراسة.
وفي ستينيات القرن الماضي كانت قصبة دهوك صغيرة, وفي بداية تقدم الجيش نحوها تمركز قرب البيادر من جهة البساتين, ولم يكن في هذه الجهة إلا بيوت قليلة مثل قصر ديوالي آغا وقصر تاعبجي ودير براني وبعض البيوت القليلة الأخرى. وكان أبي في حينه قد زرع بستانا من الخوخ في الوادي المؤدي لطريق الموصل والذي كان يقع مقابل الدير بالتحديد, وخلف القطعات العسكرية. وهذا قد خلق عندي هاجسا من الخوف حين كنت أذهب مع عائلتي للبستان وأنا أمر من أمامهم وأحيانا كان ينتابني شعور بأنهم اعدائنا ويستطيعون قتلنا في أي لحظة, ولكن تبدد هذا الشعور بعد فترة من الوقت, فقد أصبح الجو مألوفا وساد الهدوء المكان عندما كان يأتي بعض أصحاب الرتب العسكرية لمجالسة والدي والتحدث معه أحيانا وكنت أنصت لهم بكل جوارحي. وفي فترة تواجد هذه القطعات بالقرب منا وحول البساتين وإلى أن تحولت لمكان أبعد خارج القصبة أفرزت لدي بعض المواقف وظلت عالقة في ذهني إلى حد الآن ومن أبرزها
الوقفة الأولى : القصف المدفعي
لقد أصبحت القرى والأرياف المجاورة لقصبة دهوك تحت مرمى المدفعية الثقيلة والتي كان يطلق عليها الجنود (مدفع خمسة خمسة). وكان القصف يبدأ من الصباح الباكر قبل الآذان. وأختاروا هذا الوقت بالذات لكون معظم أهالي القرى نيام وكي يلحق بهم أكبر الأصابات. وكانت القذائف تمر من فوق القصبة وتهز البيوت الطينية ويجعل التراب والغبار يتراكم فوق رؤوسنا وأمتعتنا ولا يبقى شخص في المدينة نائما من جراء صوتها المدوي في الآذان والوجدان معا. وكانت هذة العملية تتكرر يوميا وكنا نعتبرها بمثابة مدفع السحور. وفرصة لمن يصلي صلاة الصبح في الوقت المناسب.
الوقفة الثانية : أستفسارات
في يوم من الأيام بينما كنت جالسا مع والدي أمام بيت العريش أي ( الكبرة ) بلغتنا الكوردية جاء أحد نواب الضباط من المعسكر وجلس معنا, وبعد فترة وجيزة أخذ يستفسر من أبي الذي كان له المام باللغة العربية لكونه قارئ القرآن. ومن جملة ما بقى في ذاكرتي لحد الآن هو هذين الأستفسارين:
_ عمو انت شايف ملا مصطفى البارزاني! ( قائد الحركة الكوردية آنذك)
_ لا لم أشاهده قط. لا من قريب ولا من بعيد.
فهذه الأجابة بالنفي ولّد عند المقابل هاجسا نفسيا ومستغربا كيف لم يراه وهو في ذلك العمر الطويل. فسكت لبرهة من الزمن بعد أن أستعاد أنفاسه وهو في حيرة من هذا الرد الذي لم يكن يتوقعه أبدا. فبدأ بطرح سؤاله الثاني والذي كان أغرب من الأول بكثير وأندهشت لأمره وقلة معرفته بطبيعة الأرض وما حوله آنذك.
_ ملا مصطفى وربعه شلون سووا هذه المتاريس العالية. وكان يقصد بها الجبال المحيطة بدهوك!
فنظر والدي لتلك الجبال الشامخة وفي عينيه نوع من الحسرة وكنت أراقبه وقد تعلثم لسانة من الرد وقد بدأ عليه علامات لم أكن أعلم سرها وما كان يخفيه من ورائها. وبعدها أبتسم في وجهه, ولم يُشعره بعدم المعرفة أو الجهل ولكن بأسلوب النكتة جعلها تمر من دون أن يحس بها, فقال له:
_ كان يعليها أكثر ولكن أنتم جئتم ولم يكملها!
ولكن لحد الآن لم أستطع أن أعرف كيف تمكن أبي من التملص من أعطائه الأجابة الصحيحة وبتلك العفوية البالغة من خلق الأقتناع عنده وبهذا الشكل اللطيف. ولا أدري السبب ولا أعلم هل كانت أستفسارات المقابل عفوية أو كان لها أبعاد أخرى.
الوقفة الثالثة : ميدان الرمي
لقد أختار آمر المعسكر مكان الوادي المتاخم لبستاننا لكونه كان عميقا وملائما لمتطلبات الرمي التدريبي للجنود المستجدين. وظل هذا الأمر قائما مدة أسابيع فكانت تأتي وجبة وتذهب أخرى وتؤدي عملية الرمي على الأهداف وبشكل متكرر فولّدت عندي التعود على أصوات الأطلاقات ورفعت عني هاجس الخوف وزادت من معنوياتي وجعلتني من الأوائل في المنطقة ممن يحظى بهذه الميزة الفريدة. وكان الأمراء يراقبونهم من أعلى التل بالقرب من كبرتنا. وبعد انتهاء الرمي ولم يبقى أحد في الجوار كنت أنا وأخي نذهب لجمع بقايا الخراطيش والرصاص المنفلق في التراب. وكنت أحسبها في ذلك الحين غنيمة ما بعدها من مغنم.
الوقفة الرابعة : سرية الخيالة
لم يمر إلا أيام قليلة وكنا نائمين فوق كبرتنا وبعد منتصف الليل أستيقظت وأنا أسمع أصوات البغال الجبلية ترن في أذني والجنود يتكلمون بلغات مختلفة لم أفهم معظمها. وأخذ سياج البستان مع الأشجار يتكسر أمام هذه الحيوانات الهائجة. وكانت تلك أول خسارة مادية تلحق بنا من جراء هذا الأقتتال بين الأخوة من نفس البلد. وفي الصباح جائهم الأمر بالأنسحاب من المكان لعدم ملائمتها وتوجهوا لمكان آخر. وبدأ والدي بأصلاح ما تم تدميره وهو يدمم مع نفسه ويتفوه بكلمات لم أكن أفقه كنهها ولا المقصود منها. وكان بين حين وآخر يقول لعن الله من كان السبب! لعن الله من كان السبب!
الوقفة الخامسة : القصعة
كان من حسن حظنا مطبخ المعسكر قريبا علينا, وكان الأكل يوزع على الجنود وبكل سخاء وكان يفيض عنهم وكنا ننتظر الأمر من ضابط الخفر كي يوعز إلى الطاهي لملئ صحوننا نحن الفقراء المتواجدين هناك من الأكل واللحم الطيب. ولقد ظل حلاوة ذلك الطعام الشهي معلقا في مخيلتي لحد اللحظة. وكنا جميعا ندعوا لهم بالصلوات على أرواح أمواتهم لأننا لم نكن نذق أكل اللحم إلا في الأعياد أو بعض المناسبات. وكنت أتمنى أن يبقى المعسكر في مكانه كي نحظى بذلك الطعام اليومي. وكنت أعتبرها من المكاسب سداَ للأضرار التي لحقت بنا
الوقفة السادسة : التدريب اليومي
في الصباح الباكر من كل يوم كان الضباط يوزعون الجنود على شكل مجاميع حول المكان القريب منا والبساتين المجاورة من أجل التدريب اليومي حول الأمور العسكرية. وفي تلك الأثناء شاهدت طائرتين سمتيتين تحوم فوقنا وعلى مستوى منخفض. لم يكن المشهد عندي مألوفا لأنها المرة الأولى التي أرى فيها بأم عيني قائد الطائرتين وهم يلوحون بأيديهم للجنود وكأنهم في أجواء العرس ضد عدو من خارج الديار. فأنتابني شعور بالخوف والذعر من هذا الموقف ولكن الجنود القريبين مني هدأوا من فزعي. وتكرار هذا المشهد اليومي أمامي أبرز فيّ نوعا من الثقة بالنفس وقوّت لدي الروح المعنوية الكامن في داخلي. وكانت تلكْ بالنسبة لي من الدروس المستقاة من الواقع المؤلم الذي يدور حولي.
الوقفة السابعة : كسب المنازلة
كان الوقت أحدى أمسيات الخريف وكان الخوخ قد نضج. أنا وأخي كنا نحرس البستان من الدخلاء وذلك بعد الأنتهاء من المدرسة. وكان لدينا مصائد لصيد العصافير ولدرء الخطر عن بستاننا. وكان أخي الأكبر سنا صيادا ماهرا وقلما كان يخطأ هدفه. وكانت جيوبه دوما مليئة بالحصو وكانت تلك ذخيرته الحية في الأوقات الضرورية وعند الحاجة أليه. وفي تلك الأثناء مرّ لفيف من الجنود خلف البستان وكان عددهم يتجاوز السبعة وكنت أنظر اليهم بعين الريبة لأن منظرهم كان يوحي بذلك. ولم يمر إلا دقائق معدودة وإذا بصوت السياج يتكسر ويعلو في المكان ومن الجهة المقابلة. وماهي إلا لحظات وشاهدت أخي كالصقر يتجه نحوهم وصاح بأعلى صوته وأخذ يرشقهم وابلا من الحجارة. خرج الجنود من البستان ولاذوا بالفرار من كثرة الحجارة فوق رؤوسهم الواحدة تلو الأخرى. وأختفوا في الوادي المقابل للدير من جهة الشارع الرئيسي, وأخي فوق التل يحاصرهم في جوف الوادي العميق بذلك السلاح البدائي. وكانت تلكْ أول مواجهة حقيقية بيننا وبينهم بهذا الشكل. فأمرني أخي بأن أذهب إلى المعسكر وأخبرهم بما جرى. فأطلقت ساقاي كشيبوب ووصلت باب المعسكر بسرعة حيث أوقفني الأنضباط وأستفسر سبب مجيئي. فوضحت له الأمر وبعربية ركيكة. وعندما أدرك الموقف قادني إلى خيمة الضباط وكانوا يلعبون الورق. فنهض الآمر الأقدم وأتجه نحوي وطلب مني أن أوضح له السبب. وبينت له ما بدر من جنوده حيالنا. فقال لي الضابط أين هم الآن؟ فأشرت بيدي نحو التل المقابل, فأذن لي بالرحيل. وما هي إلا دقائق حتى ركب الجيب العسكري وأتجه للمكان من الطريق الرئيسي المؤدي إلى الموصل. ووصلت قبلهم إلى المكان ولوحت بيدي تجاه مكان الجنود القابعين في أسفل الوادي. وشاهدت أخي قد توقف من ضربهم بالحجارة حين رأى قدوم الجيب. نزل الأمر ولوح بيده وأمرهم بالتقدم نحوه, فجاء الواحد خلف الآخر وهم في حالة يرثى لهم, وهم خجلى ومنكوسي الرؤوس كمن هزموا في أول مواجهة مع العدو رغم التدريب الشاق على كافة فنون القتال. وفي طريقنا إلى البستان بعد أن أكملنا المهمة على أحسن ما يرام, قال لي أخي بأن ضرباته لم تذهب سدى, فكنت أضربها إما في الكتف أو البطن أو الأرجل وكنت أتحاشى ضرب الرأس لأعتبارات خاصة خوفا من النتائج المترتبة على ذلك, وكان في مقدوري فعل ذلك. بكل تأكيد كانت تلك الواقعة بمثابة أول أنتصار لنا نحن الكورد تجاه أخوة لنا في الأمس وأصبحوا أعداءنا اليوم بسبب فقدان الحكمة وغياب التفاهم وأدراك العواقب الوخيمة للأقتتال الأخوي بين أبناء البلد الواحد.
الوقفة الثامنة والأخيرة : العقاب
وبينما كنا نحن أفراد العائلة جالسين تحت ظل الكبرة ونتناول الفواكه قدم نحونا نفس أنضباط المعسكر بالأمس الذي دلني إلى الآمر. فخشيت بأنه سيخبر والدي بالواقعة لأننا لم نعلمه بذلك خوفا منا من العقاب. جلس بيننا وبدأنا نأكل الفواكه وكان بين حين وآخر يختلس النظر في وجه أخي وعلامات الرضا بادئه على محياه ولم أكن أعرف سر ذلك. هل جاء لينقل لنا خبرا سيئا أو مفرحا؟ فوجه سؤاله لوالدي وقال:
_ صدك حجي عندك ولد ذهب يرفعون الراس ولك الحق أن تفتخر بيهم أمام الناس. فسكت لبرهة من الوقت. وفي تلك الأثناء مدّ يده نحو الخوخ حين جاء الرد من والدي.
_ لم أفهم ماذا تعني بذلك. هل بدر منهم شيء غلط؟
ظنّ أبي بأننا أرتكبنا خطأ ما مما أستدعى مجيئه لهذا المكان. ولكنه ابتسم وقال بأن الآمر قد أرسلني للأعتذارمنكم بما بدر من جنوده تجاهكم يوم أمس. لاعمي والنعم ولدك ما سوا أي خطأ بل بالعكس لقنوا جنودنا المسيئين درساَ لن ينسوه أبداَ.
فبدأ يشرح لنا أنواع العقوبات التي أنزلت بحقهم وهي: حلق الشعر صفر. وسبعة أيام سجن مع قطع الراتب لتلك المدة. والأسوأ عدم النزول للأجازة لمدة شهرين متتالين. ومنع جميع الجنود من التقرب نحو البساتين بتاتا.
الخاتمة : حسم المعركة
وبعد أن عرف أبي الحقيقة المرة وفي اليوم التالي لم يسمح لنا من التقرب والذهاب إلى البستان فأصبح من المحرمات علينا وخوفا من العواقب المترتبة من فعلتنا التي زرعت في نفسه الشك ومن النتائج الوخيمة التي تؤول أليه مستقبلا. وكانت تلكْ أول عقوبة تنزل بحقنا ولم نكن نستحقها مطلقا وكان قراره هذا بمثابة صفعة قوية وجهت لنا, فرضخنا لأمره وفي حينه لم نكن نعلم وندرك بأن أبي بحكمته كان يرغب بأن يجنبنا المكروه والأذى القادم من تلك الواقعة العرضية التي غيرت بعض الأمور الطبيعية في حياتنا اليومية والأعتيادية.
كلمة أخيرة :
رحمة الله على قتلى وموتى وشهداء الطرفين أياَ كان جنسه وهويته وعنوانه. وعذاب الله على كل من كان سببا مباشراَ في عدم حل المسألة من جذورها وأشعل نار المواجهة بين أخوة الوطن الواحد وكان النتيجة دمار وخراب البلد لسنين طوال ومن دون جدوى. ورحمة الله على صاحب المقولة الكوردية المشهورة ,"عەقل تانجا زێرینە، بەلێ دسەرێ هەمی خەلکی نینە." أي ما معناه:" العقل تاج ذهبي, ولكنه غير موجود في رؤوس الكثيرين من الخلق."
الخلاصة : سرد وجرد النتائج
المتتبع لمجريات الأحداث العراقية ومنذ بداية ظهور المسألة الكوردية عندما طفت على السطح وبشكل واضح ولحد الآن يعرف ويقدر حجم الكارثة التي ألمت بالجميع وأكتوى بنارها أهل البلد الواحد ومن جميع النواحي البشرية والمادية والبنى التحتية والجوانب الأخرى الأعتبارية الأجتماعية والدينية والنفسية وعلى مدى أكثر من نصف قرن ولا زال الحبل على الجرار لا يعلم أحد نهايته وإلى أين ومتى يطول بنا هذا الوضع المتأزم ومع مرور الوقت تتعقد الأمور أكثر وأكثر ولا توجد بوادر في الطريق لوضع حل لها في المستقبل القريب.
في البداية كانت الحلول بسيطة وفي متناول اليد مع الأخوة من أهل البلد, ولكنها أصبحت شائكة ومعقدة وتداخلت بعضها مع الآخر, وأفلت الحل من أيادي أهل الحل والربط وليس في مقدورهم فعل أي شيء أزائها لأن زمامها صار في أيادي الغير من غير أهل الوطن وأخذت أبعادا دولية لا يعلم كنهها حتى على ذوي العقول الفذة والخارقة. ولسان حال الجميع في هذا البلد يردد مغزى هذا الحكمة الكوردية " شبر من اللامبلاة بمثابة ذراع من الخسارة" وبالكوردية," بهوستەک بێ خەمی، گەزەک خوسارەتە". أجل كانت في بادئ الأمر ذراعا فأصبحت أميالا. وكلنا في انتظار ما يؤول إليه النتائج الوخيمة التي وقعت علينا من جميع الجهات ولا ندري إلى أين تصل نهايتها وعواقبها لا على المدى المرئي والمنظور ولا على المدى البعيد المخفي والمستور.
وحكمة أخيرة من أحد عقلاء الأكراد القدامى حين كان ينظر إلى الواقع الأليم الضحل لأحدى المشاكل العويصة المحيطة به ويريد أستنباط النتائج المستقبلية لتلك المسألة حسب فطنته وفهمه لمجريات الأمور المتعلقة بها كان يشير بكلتا يديه إلى طشت العجين الوهمي أمامه ويقول لهم وبلغتة الكوردية الرصينة والمؤثرة في آن واحد:" ئەڤ هەڤیرە دێ هێشتا ئاڤێ ڤەخوت" أي أن:" هذا العجين في الطشت سوف يحوي الماء الكثير". وبتلك المفردات القليلة والغنية والدقيقة بمعانيها رسم بذلك حجم الكارثة والعواقب المترتبة على تلك المسألة. وبكلمات أدق بأن الوضع العراقي سوف يأخذ أبعادا أخرى ونتائج ليست في الحسبان ولا يخطر على بال أحد. فهل من مجيب؟!!!
22-4- 2017 دهوك بقلم: أحمد علي
محلة سورايێ ( سورث) ( نصارى, برايه تى ) في دهوك
لقد صدر للسيد أفرام فضيل البهرو كتاب بعنوان محلة سورايى ( سورث) ( نصارى – برايه تى ) في دهوك وقد ساعدت جمعية مارايث الاها الخيرية على نشره ، وطبعته طباعة انيقة وبغلاف جميل مطبعة خبات في دهوك .ولست هنا بصدد تقديم وتقييم الكتاب مثلما فعله الباحث نوزت الدهوكي في معرض حديثه عن الكتاب بل هنا أود أن أستفيد من بعض الملاحظات القيمة التي وردت من الكاتب نفسة والتقييم والتعليق الذي أولاه الأستاذ نوزت حول بعض الأماكن الأثرية والأشخاص أو العادات والتقاليد السائدة آنذك فيما يخص الأخوة المسيحيين القاطنين في بلدة دهوك وفي محلة سورايێ على وجه التحديد. علما أنني لم أحظى بذلك الكتاب قط.
ولكوني أحد ساكني هذه المحلة العريقة المسيحية وعلى مدى أكثر من عشرة سنوات وقد قضيت أعوامي الدراسية الأولى في مدرسة الطاهرة الأهلية في فترة خمسنيات القرن الماضي والتي أعتبرها الفترة الذهبية من عمري الطفولي مع الأخوة المسيحيين وتعلمت لغتهم وبكل أتقان وكانت لها الأثر البالغ في مجريات حياتي. وخلال تلك الفترة ظلت بعض الأنطباعات والمواقف والمفاهيم متعلقة في ذهني ولم أستطع الأفلات منها أو محوها من ذاكرتي الى حد الآن. وبعد التقاعد تفرغت للكتابة حول ما يدور في ذهني من الذكريات الحلوة والمريرة بشكل أدبي وعلى شكل خواطر وشوارد للجميع وكي أرد بعض الدين الملقاة على عاتقي تجاه هذه المحلة التي ترعرعت فيها وأخذت قسما من تحصيل الدراسي والأجتماعي. ومن خلالها رغبت أبراز تلك المواقف الحية التي حصلت لي وعائلتي عرفانا مني برد الجميل لأهله وللتاريخ.
ومن أبرز المعالم في هذه المحلة: مثل كنيسة الانتقال الكلدانية القائمة لحد الآن، والمجمع اليهودي ( كنوشتا ) الذي تهدمت أجزاء كبيرة منه بعد هجرة اليهود الى فلسطين في نهاية الاربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن المنصرم وقد اصبح قسما من هذا المجمع جزأَ من بناية المعهد الاسلامي في الوقت الحاضر. ومدرسة الطاهرة الأهلية للكلدان التي شيدت بنايتها عام 1957 والتي أصبحت في عام 1975 مقرا لنادي نوهدرا الاجتماعي بعد أن اغلقت المدرسة عام 1973 والمعلم الآخر هو (نحيده) الذي يصفه المؤلف بالمنعطف النهري في نهر دهوك والذي كان يرتاده الصبية والشباب في فصل الصيف للسباحة لعمقه، وفي الحقيقة فأن هذا المعلم أو بالاحرى هذا الجزء من نهر دهوك لم يكن سوى جدار صغير وليس سدا صغيرا حسب ما ذهب أليه الأخ نوزت لحجز المياه مشيد من الحجارة أو الخرسانة في زمن غير معروف لأن السد الذي يبنى لهذا الغرض يطلق عليه في اللغة الكوردية ب( سكر). وأن كلمة ( نحيدة) ربما جاءت من الكلمة العربية (يحيد) اي حاد أو مال أو أنعطف بأتجاهه وأخذ مسارا آخر. لأن النهر في هذا المكان بالذات يغيير مجراه مباشرة حيث كان يشكل حوضا عميقا يصلح للسباحة. ومن المعالم الأخرى أيضا (خان يلدا) وقنطرة داود سلمان التي كانت اكبر واضخم قنطرة في دهوك وكانت على شكل شرفة مطلة من دار (داود سلمان اليهودي). فان المؤلف يتطرق فيه الى الشماس (ايث الاها) المولود نحو سنة 315 ميلادية والدير القديم المعروف باسمه لدى مسيحي دهوك، والمعروف لدى الغالبية العظمى من سكان دهوك المسلمين بـ (دێرا بەرانێ) فيذكر المؤلف جوانب من حياة هذا الشماس اعتماداَ على تاريخ المسعردي، ومما تجدر الإشارة إليه هو أن هذا الدير حتى الماضي القريب كان يقع في جوار مدينة دهوك وبالتحديد في الجانب الغربي منها إلا انه الآن وبعد ان توسعت مدينة دهوك فأن موقع الدير قد أصبح في منتصف مدينة دهوك. وكان مسيحيو دهوك يقومون بأحياء ذكراه وزيارة مرقده في يوم الاربعاء الذي يلي عيد القيامة مباشرة وكذلك في يوم الخامس عشر من شهر كانون الأول من كل سنة وفي بداية حقبة الحركة الكودية حُوّل الديرالى مستودع ومطبخ للمعسكر وبذلك على أثرها تحددت الطقوس والزيارات بسبب قرب الدير من تلك المنطقة العسكرية المحظورة نحو شكل واضح.
صور وذكريات من الماضي
دعاء مستجاب
كان الطفل المسيحي (نديم) يحمل في كلتا يديه رغيفا من الخبز الرقيق موشحا من الأطراف بالراشي بشكل رائع مما يسيل لعاب الناظر. وبكل حذر بدأ يأكل منها, فطلبت منه أن يسمح لي مشاركته أياها, لكنه رفض ذلك. ودعوت من الله أن يجعل لي نصيبا فيها, وما هي إلا لحظات حيث سقط الرغيف من يديه على الأرض وفرّ من المكان مسرعا نحو البيت مجهشا بالبكاء. وجلست بكل راحة ألتقط القطع المكسورة الواحدة تلو الأخرى وأتناولها وذهبت الى البيت ومذاق الراشي وطعمه اللذيذ يملأ فمي ولساني بل كل جوارحي. وكان ذلك أول دعاء خفي أستجابه الله لي وبسرعة مذهله لم يدم سوى ثواني قليلة.
حمالة الحطب
في منتصف القرن الماضي لم يكن هناك في المدارس مدافئ تعمل بالنفط الأبيض لشحتها وغلاء ثمنها في تلك الفترة. بل كان الحطب الوقود الرئيسي في معظم البيوت والدوائر والمدارس. وفي الصباح وعند ذهابنا للمدرسة كنا نحمل الكتب بيد وفي الأخرى قطعة من الحطب ونضعها أمام باب المدرسة الأهلية العائدة للدير وكان أحد الأشخاص مكلفا بتقطيعها وأدامة الصفوف بالنار من برد الشتاء القارص. كم كان منظرنا جميلا ورائعا يسلب عيون الناظرين لذلك المشهد الجذاب ونحن متجهين الى المدرسة بهذا الشكل المنظم يد يحمل الكتاب والآخر وقودا للتدفئة.
ضوء القنديل
كان البيت الذي نسكنه مؤجرا, وكباقي بيوت المحلة مبنيا من اللبن والطين والخشب. وكنا نفتقرالى حنفية الماء ولم يكن لدينا الكهرباء شأننا كمعظم العوائل الأخرى في تلك الفترة من عمر دولة العراق. وكان أعتمادنا كليا على الهيئة التعليمية وضوء النهار وفي الليل كان القنديل هو المصدر الوحيد للدراسة وفي الحالات الضرورية. وكان لهذا القنديل رغم أعطائنا الضوء الباهت, كان له مساوئ عدة على جو الغرفة وعلى الصحة العامة, ومنها الدخان المتصاعد الذي كان يملأ الأنوف ويسد المجاري التنفسية ويؤثر على العيون ويصرف كمية لا بأس بها من الوقود وكان مصدر خطر دوما على أثاث البيت وما حوله وبعض السلبيات الأخرى. وبعد القنديل جاء الفانوس و بعدها تطور وبعد قفزة نوعية نحو اللمبة ومن كان يحظى باللوكس فكان يعتبر من الذوات والأغنياء. وهذا هو حال الدنيا يسير نحو الأفضل.
توزيع النتائج
كان يوم توزيع النتائج النهائية من الأيام الرائعة لدى الجميع. وكان يحضر فيها الشماس مع القس والراهبات في فناء الدير الواسع نسبيا وكانت كل مرحلة تقف على حده من الأخرى. وحين جاء دورنا نادى المدير على الناجح الأول وكان أسمه (كامل حنا) فصفق له الجميع وتقدم نحو الشماس وقبل يده, وبعدها مباشرة صاح المدير أسمي ( أحمد علي) الناجح الأول مكرر فاسرعت الخطى وتوجهت بكل ثقة صوب الشماس الذي كان بمنتهى الوقار والهيبة وتقدم نحوي بعض الخطوات عرفان منه ومكانته الدينية لدى الجميع, ولم أتوانى مطلقا من رد الفعل بالمثل فقبلت يده تحت وابل من التصفيق الحار من قبل جمهور الحاضرين من أولياء الأمور والتلاميذ. حقاَ كان يوما مشهودا ولم أنسى حلاوة اللحظة مدى العمر.
لغز كلمة "مكرر"
أخذت مفردة "مكرر" حيزا كبيرا من فكري ومخيلتي على مدى الأربع الأعوام الأولى التي قضيتها في مدرسة الطاهرة الأهلية الأبتدائية وكانت تلك هي النتيجة النهائية التي توضع بهذا الشكل" الأول مكرر". وفي ذلك الحين لم أكن أفقه معناها ولا مغزاها. فكان زميلي المسيحي يستلم النتيجة قبلي علما كنا نحن الأثنين نحصل على نفس الدرجات وهي العشرات. ولكن في السنة الأخيرة وبعد أحتجاجي لدى الأدارة عن السبب توضح عندي بأن زميلي كان لديه درسا الديانة واللغة الكلدنانية زيادة عنا نحن المسلمين الضيوف عندهم. أذا عرفت السبب, بلا شك بطل العجب.
فرصة ضائعة
كانت اللغة الكلدانية أحدى المواد المقررة ضمن المنهج الدراسي للمرحلة الأبتدائية الى جانب درس الدين ونحن القلة المتواجدين في تلك المدرسة من المسلمين كنا مستثنين من هذه الحصة لزاما وأما الأولى أي حصة اللغة فكان أيضا لنا الخيار فيها في القبول أوالرفض. وفي حينه لم أكن أعلم بأن تعلمها كانت تجلب لي الفائدة والنفع اللغوي من الناحية العلمية في المستقبل البعيد. فكان الخيار الثاني من نصيب الجميع. وبعد فوات الآوان أدركت مؤخرا بأنني فقدت فرصة سانحة من كسب تلك الفرصة الضائعة. ويا لها من فرصة راحت ولم تعد ثانية مع شديد الأسف.
نزهة على الأقدام
وافقت الراهبتين وكنا نسميهم (ماسرات) أن نأخذهم في سفرة الى بستاننا الواقع خلف گلي دهوك مكان السد الحالي وكان هذا طلبهم ووافق الأهل عليه. الأولى بدينة أسمها ست جانيت والأخرى نحيفة وكان أسمها ست ماري. كنا أنا وأخي نتقدمهم في السير حتى وصلنا النهر الذي يؤدي الى البستان. عبرت النحيفة الأحجار المصفوفة فوق النهر من دون عناء وأما البدينة أبت العبور خوفا من السقوط في الماء. وبعد عدة محاولات فاشلة وأخيرا وبمساعدة والدتي والست ماري تمكنت من الأجتياز الى الطرف الآخر. وكان هذا العبور أول أختبار لها في ذلك اليوم المليء بالمتعة والمفارقات البسيطة منذ البداية وحتى أنتهاء النزهة بين أشجار الفواكه والخضراوات الموسمية والرجوع الى البيت فوق ظهر الحصان الجبلي وكانت هذه النزهة بالنسبة لهم تجربة جديدة في حياتهم.
رزق مكتوب
في طريقنا الى البستان أنا وأخي كنا نلتقط علب السيكائر والشخاط الفارغة في الطريق كي نلعب بها. وكان من نصيبي علبة من الشخاط وأخي بعض علب السيگائر وعند وصولنا الى مشارف البستان بدأنا بفتحها ويا للدهشة وجدت عملة الدينار الورقية الملكية تلمع في داخل علبة الشخاط وأخذت أقفز فرحا من مكان الى آخر وأردد لقد وجدتها وذهبنا فورا الى والدي الذي كان يعمل مع بعض العمال المسيحيين في البستان. وكانت أجرة العامل آنذك درهما واحدا فقط. ولكن فرحتي لم تدم طويلا لأن أحدهم أدعى بأنها تعود له وقد فقدها في الطريق عند مجيئه. ولا أعلم الى حد الآن هل كانت تلك اللعبة مقصودة أم لا, والعلم عند الله ولا أعرف مصيرها أين حلت أخيرا أفي جيب العامل أم تستر والدي عليها كي لا أبوح بها لأحد؟ والسر عند الله.
رعاية أبوية
كنا نحن المسلمين قلة قليلة من الساكنين والتي كان يطلق عليها محلة النصارى في سجلات الدولة العراقية آنذك. وحين كان الدير بحاجة الى ترميمات كان القس يكلف والدي من دون الغير بنقل مواد الحصو والرمل والجص من على الدواب لعدم تمكن السيارات من الدخول اليها بسبب ضيق الأزقة. وكانت تلك حقا من البوادر الأنسانية لهذا الرجل تجاهنا وكنا في حينه بأمس الحاجة لتلك المعونة والرعاية الأبوية. وكنت انا وأخي نساعد والدي بتنفيذ تلك المهمة الشاقة وكانت تلك من الدروس الأولى المستقاة التي تعلمناها منها حب العمل والتفاني والتعاون.
يوم البلل
كان يوم البلل أو ما يسمى (يومت مسردة) من أحلى وأمتع الأيام لدى الأخوة المسيحيين. وكان في الأغلب يصادف أيام الصيف الحارة. وكان يشارك فيها الجميع صغارا وكبارا, نساءً ورجالا وكنا نحن المسلمين المتواجدين في الحي نشاركهم تلك الفرحة والبهجة. ولم يكن ينجو أحد منها وإلا وقد لقى نصيبة من البلل بشكل أو آخر حتى المارة أو المستطرقين كانوا يدفعون غرامة هذا اليوم المسلي والممتع للجميع. وكان يعتبر حماما مجانيا ومن دون مقابل. وكانت النساء من وراء الأبواب يترصدن الفريسة التي تمر من أمام بيوتهم كي يُرشّ بالماء. وكانت هذه العادة والتقليد بمثابة حفلة تعارف للجميع وعلى الهواء مباشرة وعفوية ومن دون رتوش.
السباحة في النهر
كانت المياه تقل في فصل الصيف في مجرى نهر دهوك وعند التفافه في مكان قرب بيوتنا كان يشكل( گرة) من الماء يتيح لنا نحن الصغار والكبار من السباحة فيها سميت من قبل المسيحيين ب(النحيدة) أي في هذا المكان كان النهر يحيد ويميل وينعطف أتجاهه نزولا. وفي كثير من الأحيان كانت الفتيات الصغار أيضا تشاركن في السباحة معنا وكانت هذه من العادات الطبيعية والمباحة في تلك الفترة. وفي هذا المكان بالذات كانت بدايتي حول كيفية التعلم لفن ومهارات السباحة. وكل شيء نتعلمه في الصغرهي بمثابة النقش على الحجر.
الموت المحتم
لولا قدرة الله وأصوات الأخوة المسيحيين الذين كان بالجوار لحظة تقدم رأس الفيضان النيساني وعبوره النحيد أو الجدار الحجري متجها نحونا, حيث كنت مع أخي نلعب قرب النهر وحين ألتفت حولي بأتجاه الصيحات المتعالية من الجميع أدركت بأن شيئا ما يحدث, وما هي إلا لحظات سريعة حين شاهدت هيجان النهرالمتوجه نحونا بكل قوته وسرعته, وكنت أقرب من أخي لحافة النهر العليا وصعدت وصحت عليه بكل ما أوتيت من قوة ونظر حوله وعرف الحقيقة وهم بالصعود وفي اللحظة المناسبة سحبته نحوي وفي الأمتار الأخيرة بعد أن أبتلت قدماه وأصبحنا في مأمن من تلك الكارثة الطبيعية. وكان أهالي دهوك في كل عام يدفعون بعض الضحايا جراء تلك الفيضانات الموسمية وذلك قبل بناء السد الحالي.
الأحترام المتبادل
من المآثر والقيم الأنسانية التي ظلت عالقة في ذهني ونحن نعيش وسط حي مسيحي بأعرافه وتقاليده. وكنت طفلا لم أتجاوز السبعة أعوام, بل كنت أحس وأشعر بها من خلال ملاحظتي لتلك التصرفات المليئة بالأحترام المتبادل من قبل النسوة المسيحيات تجاه والدتي وفي شهر رمضان المبارك بالأخص, حيث كن يمتنعن من شرب الماء في حضورها ولا يتناولن أي شيئ ولا يتفوهن بأي كلمة يسئن لها بأي شكل من الأشكال. بل الأكثر من ذلك كن يرسلن لها الفطور بين الحين والآخر مشاركتهن مبدأ حق الجار على الجار وكانت البعض منهن يساعدونها في بعض أعمال البيت اليومية. وكان الرد بالمثل من قبل والدتي في أعيادهم ومناسباتهم الدينية. وكانت تلك من اللبنات الأساسية في بناء المجتمع على أسس ومقومات صحيحة والعيش بسلام ومحبة ونبذ روح التفرقة والتعصب الديني مهما كان نوعه.
غرس المفاهيم
مجموعة من المفاهيم التربوية تطبق وتغرس في أذهان التلاميذ ومنذ الأيام الأولى على مقاعد التعليم. وجملة ما تعلمته في المراحل الأولية خلال تواجدي في مدرسة الطاهرة كانت بمثابة البذور الأساسية في تكوين شخصيتي على المنظور البعيد, ومنها النظافة العامة نفسيا وجسديا, والأحترام المتبادل بين كلا الجنسين داخل الصف وخارجها, ونبذ العادات السيئة ومنعها من التكرار ثانية لو حدثت والدخول والخروج الى الصفوف بشكل منظم وزرع قيم المثابرة والأعتماد على النفس في مجال التعليم وتشجيع مبدأ التنافس الحر بين التلاميذ بالطرق التربوية السليمة. كلها جملة وتفصيلا صبت في تكوين النموذج الجيد والفعال على المدى البعيد في بناء مجتمع مثالي يسهم في تقدم البلد وأزدهاره.
دير القربان : (دێرا بەرانی)
أسم هذا الدير هو (دێرا بەرانی) الذي أعتاد فيها مسيحيو بلدة دهوك آنذك بالذهاب هناك وذبح الخراف وكانوا يقومون بتوزيعه على الفقراء ويطبخون القسم الآخر في الأماكن المحيطة بالدير وكانت بمثابة زيارة سنوية محددة وفي نفس الوقت كان يوما جماعيا للترفيه عن النفس وأحياء ذكرى الشماس (ايث الاها) المولود نحو سنة 315 ميلادية. ومن باب الصدفة فقد أستغله الجيش العراقي كمستودع ومطبخ أبان الحركة الكوردية بوجه الأنظمة المتعاقبة حين تحول المعسكر الى ذلك الموقع. وخلال معظم تلك الفترة المظلمة من عمر العراق ظل هذا الدير نوعا ما أسيراَ وكان لا يسمح للأخوة المسيحيين بالتقرب منها إلا على نطاق ضيق وأقتصرت فقط على بعض المناسبات الدينية.
17-5-2017 دهوك بقلم: أحمد علي
ما دمت لم تستخدم الرأس في المشي لن تعرف قيمة الأرجل
المثل الكوردي:" حەتا ب سەری رێڤە نە چی، قەدرێ پیا نزانی"
لم أتصور قط بأن أحدا فكّر يوما ما المشي على الرأس بدلا من القدمين ويخالف قانون الطبيعة ويسير عكس أتجاه الناس ويخالف الأعراف والقييم ويجعل من نفسه أضحوكة بين الناس. ربما حاول البعض من باب حب الفضول أو من باب الترفيه عن النفس أو من أجل أظهار المهارات أو التجربة والأختبار. لقد فعلوها لفترة قصيرة وفي أماكن محددة وعرفوا بطلان وصعوبة تحقيقها على المدى المستمر والطويل.
بكل تأكيد ومن مبدأ العقل والمنطق الذي يستوجب منا جميعا أن لا نخالف قوانين الطبيعة والحكمة الربانية لا يجرأ أحد من القيام بذلك. فالسير فوق الرأس ولو لفترة وجيزة ومن باب التحدي يظهر للفاعل عدم جدواها ونفعها وحينها يعرف حق المعرفة بأن للأرجل قيمة عظيمة لا يمكن الأستغناء عنها بأي شكل من الأشكال, ولا يمكن أستبدالها بأي عضو آخر في جسمه. وإن فعلها فيصبح محط سخرية وأستهزاء عموم الناس. ولكن حين يتطلب الأمر ذلك وفي حالة العاهة البدنية التي تصيب الأرجل فيستخدم اليدين أو البطن والظهر بديلا عنها, هنا تصبح للضروة أحكام, ويصبح المعاق بهذا الشكل والوضع مثيرا للشفقة والعواطف. ولا أحد يعيبه على هذا الفعل لكونه من باب الضرورات المباحة لهذا النوع من البشر.
فالحكمة من هذه المقولة الكوردية الصائبه والمنطقية: " ما دمت لم تستخدم الرأس في المشي لن تعرف قيمة الأرجل". لها مدلولاتها ومعانيها وأبعادها ومن كافة مناحي الحياة وعلى كافة المستويات وفي كل زمان ومكان. فالأنسان لا يستطيع أن يدرك قيمة الشيء المفقود ما لم يستخدم البدائل الأقل منها قدرة وفاعلية. حقاَ أن فاقد الشيء لا يعطيه ولكن يظل هو في أشد الماسة للمنبع الأصلي. ويترك البدائل الثانوية والأقل أهمية للضرورة القصوى وعند الحاجة لها. فقيمة المثل الأعتبارية يكمن في أسلوب التحدي للواقع بأن البشر لا يعترفون صراحة إلا حين يلجأون إلى البدائل ويدركون الفرق الشاسع بين الحالتين من حيث المنفعة والنتيجة. وأحيانا لا يأتي هذا االبوح والكشف إلا بعد فوات الأوان وزوال المنفعة وذهاب الفرصة وحينها يعلمون علم اليقين بأنهم قد ضيّعوا الخيط مع العصور معاَ. إذن الانسان دوما في أمس الحاجة للخبرة والتعرف على طبائع البشر المتنوعة وكيلا ينخدع بالمظاهر الخداعة والاقاويل الملفقة في حياتهم ويسئ الظن ممن حوله، ويعتقد بأنهم غير جديرين بالمصاحبة والمعاشرة فيظلمهم من دون التعمق في نفوسهم الحقيقية الى ان يصادف آخرين ويصطدم بتصرفاتهم المشينة وبطباعهم الفظة والغليظة، وعندها يعترف بالخطأ ويعود الى طريق الصحيح. فيقول في نفسه بما جاء في المثل الشعبي : جرب غيري وأعرف خيري.
وهنا الشئ بالشئ يذكر. فأحيانا الفرد ينخدع وكذلك الشعوب, فعند الفرد حالة واحدة بأعتبارها فردية وتأثيرها يمس الشخص نفسه ولا يتعدى لغيره وأما عند الشعوب فحالة فريدة يبقى تأثيرها على المدى البعيد ولا يمكن إزالة نتائجها وآثارها عليهم. فشعب العراق جرب الكثير ومر بتجارب حكامها قديما وحديثا. فالقديم بكل محاسنه ومساوئه ولّى ومضى من دون رجعة. وأما الحديث ومنذ أن تأسس دولة العراق وتولي الملوك والزعماء والرؤساء زمامها وظل عين شعب العراق نحو حياة أفضل وهو يسبح فوق بحر بل محيط من النفط وحاله بقى كما هو والى حد الآن مع بعض الفروقات والتغييرات البسيطة. وأخذ الشعب يطالب وينادي وكله أمل ورجاء من أن يتحسن وضعه ويتغير حاله من هذا الحال الى أحسن حال. وبكل حماس بدأ يردد وبطريقة عفوية وكله حسن نية ولم يعرف بأنها البلية التي أبتلى بها من هؤلاء المرؤوسين الواحد تلو اللآخر وكان هو أيضا طرفا فعالا في المعادلة شاء أم أبى. فخرج يصيح منداحا وبأعلى صوته يملئ الشوارع والساحات جاء الملك عاش الملك يحيا الملك وأخيراَ " كش ملك ". وراح الملك غير آسفين على رحيله الكاريثي والمؤساوي. وبعدها قدم الزعيم عاش الزعيم قتل الزعيم ولم يعرف أحد طيبة ونية قلب الزعيم. وأصبح الشعب فيما بعد يَدين لولاء حكامهم من بطشهم وأخذوا يصفقون لهم طائعين أو كارهين. وبعدها سقط الرئيس خلع الرئيس تنحى الرئيس تقلد القائد وأصبح الأوحد وهو الكل وصاحب الألقاب وإن نطق فعلى الشعب السمع والطاعة حتى لو سببت الحروب والمجاعة والكل أصبح فداء للوطن. فتكالب الداخل مع الخارج فأصبح الأوحد وحيدا. رُفعت الجلسة وحُكم وأعدم الرئيس أمام أعين الشعب. وبعدها أصبح كرسي الحكم في العراق الدمغرطي حلبة صراع وسيرك بهلوان وحقل تجارب والكل ينصاعون لمبادئ الدستور الهش ويتراقصون تحت أنغامها في قبة البرلمان ويتلاعبون بمصير الشعب الذي طالما حلم بأنه أصبح شريكا في صنع القرار, لذلك أصبح هو الخاسر الوحيد من تلك المهزلة الكبرى والطامة العظمى. صعد الريس فسد الريس غاب الريس فلت الريس وهكذا دواليك ونستيقظ حتما في أحد الأيام ولا نلقى شبح الريس لا من قريب ولا من بعيد ونصبح تحت رحمة رئيس أوصافه كرامبو وربما يشبه ترامبو! وكلنا نترقب قدوم الگودوت في مسرحية اللامعقول أو العبث " في أنتظار گودووووت" وكلنا نترقب بلهفة وشوق" وإن غدا لناظره قريب".
30-4-2017 دهوك بقلم : أحمد علي
الشعور بالندم
يعتبرالشعور بالندم من أصعب المواقف التي يمرالأنسان بها لأنه لا يستطيع مطلقا العودة الى الوراء وليس في مقدوره بأي شكل من الأشكال وهو في لحظة ضعف من تصحيح ذلك الموقف الذي أقترفه بنفسه. فالندم شعور يخالج الانسان حيث يحس باالذنب و يتمنى لو أنه لم يقم به بتاتا. إذن هو الشعور بالذنب عند القيام بتصرفات تجعلنا نندم مما فعلناه حيث يولّد عندنا شعور وأحساس بالأزعاج والأحباط بسسب تلك االتصرفات السريعة والغير المتئنية والغير المدروسة. وفي كثير من الأوقات نحكم على بعض الأشخاص أو المواقف ونحاسبهم على ما أقترفوه لم يكن لهم أي ذنب أساساَ أو ندّعي لأنفسنا الحق والصواب ولكن العكس هو الصحيح. و أَكثر ما قد يُؤلمنا هي تلك الأشياء التي نُدرك حقيقتها بعد فوات الأوان. إذ أن الندم مجرد إحساس المرء بوخز الضمير حيال هذا الفعل الخاطئ الذي قام به وشكّل لديه هذا الشعور, فهذا الإقرار الخفيّ من قبل النادم بأنه كان يملك حرية الاختيار، وأنه كان أمام أكثر من بديل ، لكنه لم يختر الأصوب، فالشعور بالندم أعتراف من المرء بهذا الخطأ. وقد لخصها أحد الحكماء الكورد في هذة المقولة:" لو أن قرون ندم الآخرين تسير على الأرض, لحلقت قرون ندمي عنان السماء".
وهذه بعض من مواقف الندم من الماضي لعل أن تكون فيها شيئا من العبرة:
الوقفة الأولى: الأمير والطير
كان لأحد الأمراء طيرا جميلا وأليفا في نفس الوقت ومحببا عنده وكان يقضي بعض الساعات معه وكان يسمح له بالتحليق في حديقة القصر وأحيانا يذهب بعيدا عن المكان ولفترات طويلة. وفي إحدى المرات غاب عددة أيام ولم يعد الى القصر فظن الأمير بأنه أفتقده وحزن عليه حزنا شديداَ. وبينما كان جالسا في شرفة القصر مع الحاشية وإذا بالطير يحط على يديه وأفرغ من منقاره بذرة غريبة. فأمر الأمير البستاني بزرعها على التو. ومرت السنين وأثمرت النبتة تفاحتين وكانت هذه الثمرة غير مألوفة عندهم. وفي الصباح شاهد البستاني احداها قد سقطت تحت شجرة التفاح. فأتى بها الى الأمير لأنه كان ينتظر طعم ومذاق تلك الثمرة التي أتى بها طيره من ذلك االمكان البعيد. فأمر أحد الخدم بتناولها خوفا من العواقب,ففعل ذلك ولم يمر سويعات حتى فارق الحياة مما حدى به من قطع رأس الطير على الفور معتقدا بأن الطير كان ينوي قتله. وبعد فترة من أسترجاع شعور الصدمة والحزن على طيره المدلل والمحبوب نادى على البستاني من أن يجلب التفاحة الأخرى. وأمر شخصا آخر من تناولها, وأنتظروا النتيجة ولهول المصيبة عليه لم يحدث أي شيئ للآخر. فتبين للجميع بأن التفاحة الأولى كانت مسمومة على الأرض لفعل ما. وفي حينه بدا على الأمير علامات الندم الشديد والحزن العميق لفراق طيره الوفي. وبعدها تناقل الناس هذه المقولة عن الأمير بأنه:" ندم على فراق طيره"." میر پەشیمانێ توتیکا خو بو". وحينها لم ينفع الندم.
الوقفة الثانية: الأمير والمستشار
كان عيسو دلا رجلا كرديا حكيما، وكان من أفضل المستشارين لدى الأمير. كان لديه مكانة خاصة من بين الآخرين. ولقد اولاه الأمير ثقة كبيرة في كل القرارات لدهائه وفطنته. وكان الأمير يقضي معظم أوقاته معه كأفضل الأصدقاء المقربين له. وفي أحد الأيام كانوا خارجين معا للترفيه عن أنفسهم، وبعد فترة من الوقت أستلقى الأميرللنوم وبقى عيسى مستيقظا يحرسه. وفي الوقت نفسه، جاء عقرب من أحد الثقوب القريبة قادما نحوالأمير. أخرج عيسى خنجره للقضاء عليها، ولكن في تلك اللحظة التي فعل ذلك عند رفع الخنجر من فوق رأس الأمير، فتح الأميركلتا عينيه ليرى الخنجرمن فوق رأسه. وظل الأمير صامتاَ دون أن ينطق بكلمة لمستشاره ولكن بدى عليه علامات الشك والريبة من فعلته وشعر المستشار بذلك وأحس بها من نظراته. وفي تلك اللحظة وجّه عيسو مقولته المشهورة والمؤثرة في آن واحد. يا أميري: لقد مرت ! وبالكردية هذه الكلمة الوجيزة والمفعمة بالمعاني تدل على التورية أي أن العقرب ذهب والثانية تعني بأن الثقة التي بيني وبينك قد وصلت إلى نهايتها، وبعبارة أخرى كان عبثا إقناعه بأنه كان يحاول قتل العقرب الذي اختفى في جحرها وبقائه معه لا يجدي نفعا. وبعد هذه الحادثة المعينة قررعيسى ترك خدمة الأمير والذهاب إلى مكان مجهول ويتوارى عن الأنظار. ولكن وبعد فترة من الزمن عرف الأميرالحقيقة وندم من فقدان مستشاره الوفي وتمكن من أقناعه من المجيء به ثانية الى البلاط وأعطائه ثقة أكبر من السابق. ولكن ندمه لا يجبر الأحاسيس والمشاعر التي أفتقدها الأثنان معا.
الوقفة الثالثة: الأمير والماش
لقد تعود أحد الأمراء الكورد على حياة البذخ والترف في الأكل وكان همه الوحيد هو اشباع بطنه غير مكترث للعواقب المترتبة على هذا الفعل من الجانب المادي والصحي. فبدا آثار السمنة عليه من شدة الأفراط في الأكل وبعدها ظهرت الأمراض تباعا الواحدة تلو الأخرى وظل حبيس الغرفة لفترات طويلة. في حينه أضطر أطبائه من وصف أنواع الأدوية له ولكنه أمتنع من تناولها وأمر الخدم من وضعها في الدرج وأكتفى من أعطاء نفسه هاتين االخطوتين في الشفاء من الأمراض والسمنة. هما الجوع والصبر. وبعد فوات الأوان أدرك بأن يقابل الأفراط في الأكل مقابل الجوع, والصبر على التحرك والمشي في الرواق مقابل التمادي في زيادة الوزن والأمتناع من أكل الأطعمة التي سببت له الأمراض. وجاءه هذا الندم بعدما أحس وشعر بالنهاية المحتومة لتلك الأمراض التي ألمت به ورفضه الأنصياع لمشورة أطبائه الذي أدرك بأنها لا تجدي نفعا معه ومع تلك الأمراض. وكان يأمر الخدم بأن يجلبوا له كل صباح قليلا من الماش المطبوخ، أو ما يسمى بالكشري الأخضر وهو من فصيلة البقوليات. ولم تمر فترة طويلة حتى برئ الأمير من الأمراض وقل وزنه الى حد كبير وتحسنت حالته الصحية والنفسية وتماثل للشفاء تماما. وعندما جاءه أطبائه وعلموا الحقيقة بأن أدويتهم لم تكن سببا في شفاء الأمير بل كان السبب الأساسي أصرار الأمير فعل الصواب ولو بعد فوات الأوان. ولكن أن يأتي الندم خير من لا يأتي مطلقاَ. وبعدها أطلق الناس عليه تلك المقولة الكوردية المشهورة: " میر هەوجەی ماشێ بو". أي :" انّ الأمير اضطر أخيراَ لأكل الماش".
5-5-2017 دهوك بقلم: أحمد علي
شتان بين النقيضين
الوقفة الأولى : أحجار الصدقة : من يد الأغنياء إلى يد الفقراء في الدولة العثمانية قديما
أحجار الصدقة هي أحجار رخامية كبيرة بطول مترين وبأنواع مختلفة.
أزدهرالعهد العثماني بالأعمال الخيرية التي أستهدفت إلى مساعدة الفقراء والمحتاجين والتي أولتها الدولة اهتمامًا خاصًا حيث أنتشرت العديد من أساليب الخير والإحسان، والتي هدفت من خلالها تقديم العون والمساعدة للفقراء والمحتاجين. ومن هذه الوسائل الجميلة "أحجار الصدقة". ولذلك وُضِعت عند رأس كل شارع وحي، وأمام الجوامع والأضرحة. وكان الأغنياء الذين يرغبون بمساعدة الفقراء يضعون ما تجود به أيديهم من أموال في الفتحة العليا للحجر، وفي المساء يأتي الفقراء والمحتاجون ليأخذوا مقدار من المال كي يلبي احتياجاتهم من هذه الصدقات، دون أن يرى أي من المتصدقين أو المحتاجين الآخر، كي لا يعرضوهم للإحراج. ويقول المؤرخون أن هذه الأحجار كانت على الدوام تحتوي على مبالغ من النقود، ولا يسمح الأغنياء لأنفسهم أن تفرغ الأحجار من الأموال، وفي كثير من الأيام كانت النقود تبقى حتى اليوم الذي يليه لأن الفقراء كانوا يأخذون مقدار حاجتهم فقط. فأحجار الصدقة شاهد على العظمة والإنسانية في العهد العثماني وظلت أحجار الصدقة طوال العصر العثماني في تركيا وباقي أيالات الإمبراطورية رمزا للتعاون والتضامن بين أفراد المجتمع وهذه الأحجار المختلفة الأبعاد والتي تتوزع على أبواب المساجد أمام الحنفيات وعلى مداخل المقابر والجسور وكانت الوسيلةَ التي يتم من خلالها إيصال المساعدات الى محتاجيها خفية وبكل سرية. وهي تعبير عن عظمة وإنسانية حضارة بأكملها وشاهد على طيبة المسلمين أيام تلك الدولة االعظيمة. وتعد الصدقة أساسا في الدين الإسلامي كان إتصالها بأحجارحملت إسمها دليلا على التراحم والمودة المتواصل بين المسلمين وغيرهم. وهذه الأحجار تذكر بتلك الحضارة التي لم يكن لها مثيل عبر التاريخ خاصة وأن ذلك التعاون لم يكن يطلب صاحبه مقابلا سوى الأجر والثواب من الله, وهذا التقليد الذي يعتبر واحدا من أقدم وأدق نماذج التعاون بين المسلمين. وتروي كتب التاريخ القديمة أن المتبرعون أحياناً كانوا لا يجدون مكاناً لوضع أموالهم فيها فكانت تتساقط الأموال على الأرض بسبب أمتلاء أحجار الصدقة.
أحجار الصدقة : باب للخير والإحسان في تركيا حديثا
وفي وقتنا الحالي، يمكن مشاهدة هذه الأحجار في منطقة أوسكودار في جامع “خاتون” وجامع “كوجة مصطفى باشا” ومناطق أخرى. وعملت بلدية أيوب في أسطنبول وبمناسبة حلول شهر رمضان المعظم على إحيائها ورغم أن أحجار الصدقة فقدت وظيفتها مع مرور الزمن لكنها تظل حاضرة في كافة أرجاء مدينة اسطنبول شاهدة على العصر، وتكتسب هذه الأحجار قيمة جديدة ومميزة. فهذا التقليد يتم احياؤه كي ينتفع المحتاجون من الفقراء بما يلزمهم من المال من خمس نقاط موزعة على الضاحية يتم ملؤها بالصدقات من حين لأخر. أما الان فأن بلدية أيوب تعمل على التكثير من هذه القطع المخصصة لوضع وأخذ الصدقات والبدء في أرسال نماذج منها الى باقي الولايات الأخرى لتستعمل في مدن مختلفة بنفس الهدف.
الوقفة الثانية : وضع المصارف والبنوك وأحوال الشعب في العراق
ونحن في العصر الحديث, عصر التقنية والتكنولوجيا المتطورة أصبحت البنوك والمصارف في العراق عرضة لشتى أنواع النهب والسطو المسلح أحيانا والأختلاس وغسيل الأموال تارة أخرى, فبدلا من أن تكون مكانا أمينا لحفظ أموال الناس والدولة أصبحت موضع عدم الثقة لدى عموم الشعب. فأموال الدول المانحة وعائدات النفط والأموال المقترضة على المدى البعيد من صناديق البنوك العالمية كلها أصبحت في مهب الريح ودخلت جيوب المفسدين والمتلاعبين بأقوات المستظعفين والفقراء الذين هم بأمس الحاجة لها. شعب بات يعيش على الهبات والمعونات من المنظمات والجمعيات الأنسانية وما تجود به بعض أيادي الخير من هنا وهناك. وفي كثير من الأحايين معظم هذه الأموال تذهب لجيوب القائمين على توزيعها وبالطرق الملتوية والخبيثة التي يمارسونها بحق هذا الشعب المظلوم والمغلوب على أمره. وترى معظم هؤلاء الفقراء يفرشون الأرصفة ويهيمون في الشوارع والحارات وعلى أبواب الأغنياء الذين سرقوهم طلبا لكسب قوت يومهم وبشكل يثير الشفقة والعطف الأنساني.
شتان بين النقيضين القديم مع الجديد هناك وبلا نفط, والجديد هنا في العراق والذي يسبح فوق بحر من النفط. وفي دولة تسترجع قيم الماضي وبأسلوب جديد تشجيعا لروح التكافل الأجتماعي وشعور الثري بمحنة البائس والتعيس. وتجديد القييم القديمة وبشكل حضاري ونحو الأحسن وتعتبر من الخطوات الأيجابية في بنية المجتمع الأنساني أولا والديني ثانيا. وأما عندنا قد أصبح الأخذ بمنهج الأساليب الملتوية والتفنن بطرق الغش والخداع وأبتلاع أستحقاق الشعب كافة من حقه الطبيعي والمشروع والذي يقره القوانين والدساتير الوضعية والشرائع السماوية السمحاء بات أمرا لا يسمح السكوت عليه أبدا. ورغم ذلك, ومهما توسعت الفجوة والهوة بين الطرفين فلابد أن يعود الحق الى وضعه الطبيعي ويحل الصواب ويزاح المعوج عن الطريق وتعود المياه الصافية والنقية لمجاريها الأصيلة والمستمدة من القييم الصحيحة والمستندة على مقومات ودعائم الواقع النيّرمن المفاهيم والمبادئ الأنسانية المعمول بها في معظم الدول.
وخلاصة القول لو! عذراَ قلت لو وبما أنّ ( لو) حرف شرط جازم يفيد التعليق في المستقبل. وأعود وأقول ثانية واكررها للملأ: لو وزّعت ثروات الدولة العراقية وبأسلوب صحيح ومدروس ومقنن حسب الأسس الصائبة المتبعة في الدول المتقدمة في هذا المضمار لأصبح لكل فرد عراقي حجرا ولم أبالغ لو قلت صخرة من الذهب كأحجار الصدقة الكبيرة أبان العهد العثماني وينعم بخيراته وبصورة عادلة وبطريقة منصفة. ولا تبقى محصورة بأيدي القلة القليلة المنتفعة ويحرم الأغلبية المحتاجة منها. ودعائنا الأخيرونقول ملئ أفواهنا هل من مغيث؟ يا مجيب دعوة المظلوم والمحروم, ويا مقلب الأحوال بدّل هذه الطغمة الطامعة والمستغلة, بشخص على خطى الأقدمين من الولاة والحكام والخلفاء على مرالتاريخ المشرق, ويقينا سوف يستجيب الله دعوة الداع إذا دعاه, ولو" ولو بعد حين".
9-5-2017 دهوك بقلم: أحمد علي
خذوا العقل من أفواه المعلمين
موقف المعلم:
دخل معلم الرياضيات الى الصف وكتب بالماجك على السبورة العملية التالية. أستميحكم عذرا أخذتني المخيلة لفترة السبعينيات للقرن الماضي وبينما كنت أدرس الطلاب وأكتب بالطبشور عليها. وفي الفترة الأخيرة وقبل أن أحيل للتقاعد حظيت باللوحة الزيتية بعد سقوط النظام في العراق. وكان علينا شراء أقلام الماجك من حسابنا لكوننا دولة فقيرة! أعذروني ثانية لقد شرد بي الذهن بعيدا. دعونا نعود الى جو الصف ونشاهد ما كتبه المعلم لتلامذته وبقلمه الزيتي الملون: ( 2+2= 5) وطلب منهم أن يرددوا معه وبصوت عالِ ولكن معظمهم لم يكونوا مقتنعين بتلك النتيجة الخاطئة وبعد التوقف أخذ البعض منهم يستفسر منه بأنها غير صائبة. وكان يقول لهم أذن أنا (غلطان) وكان الخجل باديا على وجوههم من مواجهته صراحة بأن هذه النتيجة هي من أحدى البديهيات في الرياضيات. وبعد أخذ وعطاء ونقاش من الطرفين وذهول وحيرة من قبل التلاميذ تجاه هذا الموقف المفاجئ من قبل المعلم وخروجهه من سياق المنطق العقلي لأبسط العمليات في علم الرياضيات. وفي نهاية المطاف وبعد جهد جهيد خال من الوعيد والتهديد تمكن المعلم من أرساخ فكرة أستخدام العقل والمنطق في أذهانهم وأن يقنعهم بأنهم على صواب وهو على خطأ مقصود. وأكد عليهم بأن لا يأخذوا كل شيئ يملى عليهم من الآخرين من دون الرجوع الى العقل لأنه هو الفيصل في كل الأمور.
موقف أساتذة السيرك:
وبعد السقوط أو التحرير أو التدمير أو التهجير سمها كيفما شئت لا ضير في ذلك, وشعب العراق وبكل مكوناته واقع في أشد الحيرة والذهول مما يجري لهم وعليهم من أساتذة السيرك من كافة الجنسيات والمدربين على كافة فنون الترويض والتخدير والتحنيط والمتلاعبين بالقوانين حسب ميولهم وأتجاهاتهم وبما يرضي ضمائرهم الحية أو المية. والكل بل الجميع في أنتظار ما يؤول أليه حل تلك العقدة المستعصية المطروحة فوق طاولة البحث والفحص والتمحيص والتحميض والكل بات وأمسى وأصبح ولعلها تنفرج أو تتفجر على الجميع في أي وقت وفي أي مكان. أنها عقدة العراق الواحد الموحد وكيفية تقسيمها على ثلاثة أو أكثر, وظلت هذه المسألة العويصة لغزا محيرا للجميع بين قانع ومفتنع وبين رافض ومرفوض وبين شاك ومشكوك وبين صادم ومصدوم والكل سابح ومسبوح في هذا التيار الجارف والدوامة القوية ولفترة طويلة من دون جدوى أو أن يجدوا لها حلا منطقيا وعقلانيا والكل يعلمون بأن العاصفة الهوجاء آتية لا محالة على الجميع وبلا أستثناء لأنها ليست ككل العواصف والزوابع السابقة على هذا الشعب بل أنها تورنيدو العصر ليس له مثيل وهو من النوع الثقيل أت من وراء البحار والمحيطات بكل جبروته حاملا معه كافة أدوات البتر والكسر والتشتيت. وبمقدوره أن يفرق ويجزأ الواحد الى وحدات صغيرة لا ترى بالعين المجردة أو المجهر العادي أو الألكتروني فوق الخارطة وينصب عليها مختارا وذو مواصفات خاصة يرضى له الجميع وبكل قناعة ولو بالأكراه.
محصلة الموقفين:
كانت خطوة المعلم تجاه التلاميذ وموقفه الصائب والمقنع والتي ولّدت لديهم الأقتناع الكامل بأن النتيجة الخاطئة أوصلهم الى االهدف والغاية المرجوة منها. وبالمقابل فأن المتوالية العددية في الطرف الأخر ظلت تتدحرج بلا هوادة بين الجميع من دون نتيجة أو حل يُرضي الأطراف المتصارعة فيما بينهم. ونحن وكلنا أمل ورجاء أن يُلهم أحدا من هذه الشلة ذكاء الخوارزمي أو فطنة فيثاغورس ويهتدي لأيجاد حل معقول يقنع بها الجميع وبالنتيجة المنطقية التي طالما حلموا معرفة برهانها النهائي وبشكل بات وقطعي لا يبقى فيها أي مجال للتأويل والمماطلة والتسويف وتركها تحتمل جميع الأحتمالات اللامنطقية أوالغيرالمعقولة. وتفرز محصلات لا تخطر على بال أحد ولا يقبل بها أو يتحملها حتى عقول أولئك التلامذة في الصفوف المبتدئة في المراحل الأولى من الدراسة. وهم احفاد أولئك الأفذاذ الذين علّموا الأنسانية الحروف الأبجدية والمنطق والحساب وعلم التنجيم والفلك والأرقام في بابل واور ونينوى وأربئلو أي اربيل و(هەولێر) مدن الخير والعطاء, والله يهدي من يشاء سبيل الرشاد ويبعده عن طريق البغي والفساد ويوفقه لخدمة البشر والعباد. ولساننا مع اصوات التلامذة الصغار تردد هذه المقولة الكوردية المستغيثة:" هەی دادو بێ داد، هەی دادو بێ داد". أي :" أيها العدل أين أنت من الجور والظلم "!
15-5-2017 دهوك بقلم: أحمد علي
مواقف ورؤية مع بعض شعراء العرب
يقولون خذُ الحكمة من أفواه المجانين بل أنا أقول: خذُ شيئا من النبوة من مشاعر ورؤية الشعراء. فحسهم المرهف وخيالهم الواسع ونظرتهم للواقع والمستقبل تصيب كبد الحقيقة وقلما تخيب.
شموخ الطائي:
دعوني أقف أولا في عصر أبوتمام الطائي وأتوكأ على مطلع قصيدته التي أعدها بمناسبة النصر الذي حققه الخليفة العباسي المعتصم حين فتح عمورية مسقط رأس الإمبراطور الروماني تيوفل. وعند القراءة تحس بمشاعر النصر والقوة تُغلفها وكأنك تعيش في ساحة الوغى وقد حمى الوطيس وصليل السيوف تُسمع من حولك.
السَّـيْـفُ أَصْــدَقُ إنْـبَــاءً مِـــنَ الـكُـتُـبِ فـي حَــدهِ الـحَـدُّ بَـيْـنَ الـجِـد واللَّـعِـبِ
هنا رجّح الشاعر كفة سيف المعتصم على أقوال ونبوءات المنجمين فتغلب الحد الأول السيف على الثاني أي أن حد السيف هو الذي يفصل بين الجِد واللعب. فالقوة والعزيمة والأصرار ولّد النصر المحتّم على العدو. ونحن اليوم نستعين بسيف العدو يعيث في بلداننا ويخلق الثورات المفتعلة ويجلب لشعوبنا أجمع الخراب والدمار وسفك الدماء ونهب الثروات والخيرات.
لي العذر أن أتفوه وأقول ملئ فمي أي شموخ وأي أباء يا أبا تمام!
صرخة مظفر النواب:
صرخ الشاعر مظفر النواب ذات يوم في وجه الأنظمة العربية قائلا:
القدس عروس عروبتكم
فلماذا أدخلتم كل زناة الليل الى حجرتها
ووقفتم تسترقون السمع وراء الابواب
لصرخات بكارتها
وسحبتم كل خناجركم
وتنافختم شرفا
وصرختم فيها ان تسكت صونا للعرض
فما أشرفكم
أولاد..... هل تسكت مغتصبه ؟
في هذه القصيدة التي جعلت من الشاعر العراقي الكبير " مظفر النواب " مطلوباً في كل الدول العربية وممنوع من دخول أراضيها , و تحكي هذه القصيدة عن الواقع المزري والمرير للعرب آنذاك والذي بيّن وكشف فيها الحقيقة والواقع, وها هي شيئ من نبوئته ظاهرة للعيان الآن وفي معظم الدول العربية. حيث أصبحت القدس محاصرة من جميع الجهات ولم يعد يُسمع صوت فلسطين لا من فوق المنابر ولا في الساحات ولا حتى في المقابر لا من قريب ولا من بعيد وسكت الشعراء عن الكلام ما دام شعرهم لا يجدي نفعا ولا يجدُ له آذانا صاغية.
غزل القباني:
لم تغب المرأة في مخيلة نزار قباني، وقد عالج وضعها على طريقته الخاصة. كان الجسد هو المظهر الملموس للروح وكانت المرأة الشغل الشاغل له، يتفنن بدقة متناهيه في توصيفاتها، ويتخيلها كيفما شاء خياله الواسع المبدع، ويصوّرها حسب فكره وعواطفه الجياشة. ولم يكتفي بذلك حيث صور القدس في مخيلته وكأنها فتاة سقطت في الوحل أمام مغتصبيها بهذه الصورة الشنيعة وقد أعطى وصفه جمالا وحسا عاليا للموقف. وماعبرعنه بكل صدق في حينها, ونعود ونرى وقد أنعكس على الواقع المؤلم الذي فيه القدس الآن ونحن جميعا ندرك حجم المعاناة والمصائب التي ألمت بها شعوب المنطقة بأكملها. فلم نكتفي بالقدس وحدها حين تُركت في الوحل حسب نظرة الشاعر لها, بل تعدت وأتسعت وشملت عواصم دول أخرى.
سقوا فلسطين أحلاماً ملونــــــة وأطعموها سخيف القول والخطبا
وخلفوا القدس فوق الوحل عارية تبيح عزة نهديها لمن رغبـــــــا
تحذير درويش:
مازال يثير غضب ونقمة إسرائيل!
مازالت كلمات محمود درويش، الرنانة والمدوية تقض مضاجع الاحتلال الغاصب، حتى بعد موته وسيظل شعره يذكرهم بأن الفلسطينيين عرب، وأنهم سيظلوا موجودين على أرض أجدادهم حتى تدورللزمن دورتها المعتادة وتعود الحقوق للمظلومين والمهجرين والمشردين، وها هو مقطع من هذه القصيدة الرائعة:
سجل أنا عربي
سلبت كروم أجدادي وأرضًا كنت أفلحها أنا وجميع أولادي
ولم تترك لنا ولكل أحفادي سوى هذي الصخور،
فهل ستأخذها حكومتكم كما قيلا؟
إذن: سجل برأس الصفحة الأولى
أنا لا أكره الناس ولا أسطو على أحد
ولكني إذا ما جعت آكل لحم مغتصبي
حذار حذار من جوعي ومن غضبي
لم يخشى المحتل من أسلحة وترسانات العرب ولم يخيفها ولن يعبه بها لأنها زائلة لا محال حيث غُيّر أتجاهها وأنحرفت أتجاهها وأستخدمت لقتل بعضها البعض, والواقع الآن خير شاهد وأنصع دليل وأصدق برهان, بل أنها تخشى وتهاب حقاَ وترتعد من كلمات صادقة خرجت من حنجرة شاعر يظلُّ الأجيال يرددونها ويأتي يوم يعمل فعلة المؤثر في العقول والنفوس ويُقطف ثمارها بعد حين لأن الفلك دوار وعلى الظالم والغاصب تدور الدوائر.
سخرية البردوني:
يتسم شعر البردوني مسحة من الحزن الكئيب ممتزجة بالسخرية اللاذعة, والحق يقال بأن السخرية غالباً ما تكون وليدة مأساة حقيقية يعيشها الشخص في محيطه، أو انعكاساً تصويرياً مبدعا لها. فشاعرنا الفذ يعتبر من أبرز شعراء العربية سخرية. وقصيدته (أبو تمام وعروبة اليوم) والتي ردَّدها جنبات مهرجان المربد الشعري في بغداد سنة 1971 وقد عشتها واستمتعت بها في حينه من شاشات التلفاز. فهذا الشاعرمقاتل يتخذ من السخرية سلاحاً رادعا في مواجهة كل صور الظلم والجور والاستبداد والقهر بوجه الطغاة والمحتلين. فقوة بصيرته رغم العمى الذي أصابه يعتبر أقوى وأنفذ من المبصرين. فرؤيته للواقع أثبتت وبكل جدارة نبوئته وما آلى إليه المنطقة بأسرها ولم يسلم وطنه اليمن من تلك الهجمة الشرسة.
ما أصدق السيف إن لم ينضه الكذب وأكذب السيف إن لم يصدق الغضب
ماذا أحدّث عن صنعاء يا أبتي ؟ مليحة عاشقاها السل والجرب
اليوم عادت علوج الروم فاتحة وموطن العرب المسلوب والسلب
صدقت أيها الرائي لقد قدموا وجائوا من كل بقاع الأرض قاطبة بحجة أنهم عادوا فاتحين وليسوا محتلين. وأصبح موطن العرب مسلوبا ومذبوحا ومسلوخا. وها هم أبناء جلدتك يتصارعون ويتقاتلون فيما بينهم وقد تفشى فيهم أنواع الأمراض, والكوليرا خير شاهد الآن بعدما ذاقت السل والجرب من قبل. فلم يصدق السيف لأن الكذب قد نضه ولم يفعل الغضب فعله وتأثيره كما كان. أين أنت يا بلقيس وحكمتك وفطنتك من كل هذا الذي يجري في وطنك المتصارع والمنقسم على نفسه؟ شاورهم في الأمر لعلهم يرجعون الى رشدهم!
أمنيات الشابي:
لست هنا بصدد إن كان في البيت الأول شرك ويخالف العقيدة الأسلامية أم لا. وإن كان المقصود هو أنه إذا الشعب أراد الحياة يوما ما فلابد أن يستجيب للقدر المقدر عليه من قبل الله عز وجل. وفي هذه الحالة قد أختلف المعنى بصورة تامة ورفع عن شاعرنا تهمة الكفر وأبتعد من اللبس والألتباس, وأبتعد من وقوع الفأس على الرأس!
إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَـدَر
وَلا بُـدَّ لِلَّيـْلِ أنْ يَنْجَلِــي وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِـر
ولم يحصل كل هذا ولم نستجب نحن للقدر المقدر علينا وظل الليل الطويل المعتم يكبس ويجثو علينا من جميع الجهات ويزداد حلكة وظلاما وموعد أنجلائه أصبح مجرد وهم وخيال في اذهاننا وأخذ قيد أعدائنا يشتد ويقوى حول الأعناق والرقاب وأصبح الأنفكاك منها ضربا من المستحيل لأنه ليس له مثيل لا في التاريخ القديم ولا الجديد وأصبح صعب المنال, صنعت خصيصا وبأيدي ماهرة وقد أتقنوا في صنعها بأنها غير قابلة للصدأ أو الفتح أو الفك بأي شكل من الأشكال وسوف نبقى مكبلين ألى أبد الدهر ما دام معدنه موجود بينا ونبع نفطنا يتدفق بغزارة يلذ منظره للشاربين!
أحلام شفيق الكمالي:
لا يعرف الشاعرعندما يكتب أنشودة أو قصيدة بأنها يوما ما ستصبح نشيدا وطنيا وقوميا لبلد ما. فالعلم والنشيد يعتبران بمثابة رمزين يعبران عن هوية البلد كدولة معترف بها. فالعراق، كدولة حديثة تأسست في عام 1921 باسم ( المملكة العراقية )، وصار الملك فيصل الأول ملكاً عليها، وكان له (السلام الملكي وعليه تم وضع نصٌ كلامي يقول مطلعه :
دُم يا كريمَ النسب , يا شريفَ الحسب, فيصلٌ, فيصل.
وبعد الأطاحة بالنظام الملكي ومسلسل المتغيرات الناجمة عن الإنقلابات والثورات المتتابعة، يأتي العهد الجديد بالرموز الجديدة التي يريدها تعبيراً عن سيادة الوطن وأسقلاليته، وهكذا كان الأمر مع كلٍّ من النشيد الوطني والعلم العراقي بشكلٍ أكثر بروزاً من بين كل المتغيرات. وفي عام 1981أختير النشيد الوطني الجديد للشاعر شفيق الكمالي وتم إعتماده بمرسوم جمهوري.
يقول مطلع النشيد:
وطنٌ مُدّ على الافق جناحا وأرتدى مجد الحضارات وشاحا
بوركت أرضُ الفراتين وطنْ عبقري المجد عزْماَ وسماحا
بينما كان هذا النشيد يُردد يوميا في المدارس والدوائر, كان صاحب تلك الكلمات يقبع في زنزانة ويمارس بحقه أنواع التعذيب ومات على أرض الوطن الذي تغنى بها من كل قلبه ومشاعره. فضاع الوطن وتبدد أحلام شعبه مع أحلام الشاعر وراء الأفق الذي لم يمتد كما تخيلها شاعرنا ولم يرتدي هذا الوطن ولم يلبس ولم يتوشح عبق ومجد حضاراته القديمة. بل بالعكس أرتدى هذا الوطن مع شعوبه أنواع المآسي والآلام وشتى أشكال الدمار والخراب من القاصي والداني والقريب والبعيد, وبمعونة أبناء عمومته مع أعدائه.
عشق هاشم منّاع:
الموصل :جنة الأرض : هكذا نعّتها الشاعر الفلسطيني هاشم مناع في قصيدته التي مطلعها :
جنة الأرض ( موصل الحدباء ):
غَنَّيْتُ لِلموصلِ الحَدْبَـاءِ أَلحَـانَـا
حُبّاً وَعِشْقاً وَإِخْلاصاً وَعِرْفَانَا
يَا عُرْبُ هَلْ جَنَّةٌ فِي الأَرْضِ تَعْدِلُهَا
زَرْعاً وَنْهْراً وَبُنْيَاناً وَسُكَّانَا ؟
شاعرنا وفيت وكفيت وأعطيت وصفا شاملا بهذه الأبيات القليلة, فلحن غنائك وحبك المفعم بالعشق الحقيقي, واخلاصك في أسداء العرفان والجميل للمدينة وأهلها, ومخاطبتك للعُرْبِ أجمع بأنّها جَنّةٌ وليس لها مثيل ولا شبيه ولا نظير فوق وجه البسيطة خير دليل لحسك المرهف المتقد بالعاطفة والخيال الواسع والوصف الدقيق بما هو موجود في هذة المدينة من زرع ونهر وبنيان وسكان. ولكن لو تعرجت ومررت اليوم بها لغيّرت كلماتك بأخرى تختلف عما قلتة بحقها. فالغناء في هذه المدينة قد أصبح بكاءَ وعويلا, ويفوح من الألحان بارودا ثقيلا, وصار الحب والعشق عبداَ ذليلا, وغاب عن العُرْبِ الأخلاص والعرفان وبدّلوا جنّة الموصل سجنا وقبرا و ناسها ذاقوا الأمرين وكُبّلوا تكبيلا. يبس الزرع وجفًّ النهر وتهدم البنيان وشُرّدَ السكان. وهنا لي الحق أن أتسائل وأستفسر وأضع علامة أستفهام كبيرة وأقول من هو السبب؟ للأجابة على هذا السؤال يجر ويسحب معه ألف أستفهام عريضة لا تتسع لها مجلدات. أعود وأُكرر: خير الكلام ما قل ودل أو إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب! والعجيب العجب أن تمحوا من قوائم الأتهام المسبب والسبب !
ولكم مني يا أخوة العرب ترجمة الأبيات الى لغتي الكوردية عرفانا من شاعرنا, ولكم مني الذي عاش معظم عمره في هذه المدينة العريقة بكافة قومياته وطوائفه وأديانه الشكر والأمتنان.
میسل بەحشتا سەر زەمینە
ئەی میسلا رەنگێن، مزگەفتا چەمیای
من ئاوازێت ڤین وئەشقێ بتە گوتن
وەفا وباشیا تە،ناڤ مەدا یاخو ڤەدای
ئەی عەرەبا،بەحشتە! ناهێت فروتن
بەرامبەرێ وێ نینە ل هەمی دونیای
شینکاتی دگەل رویباری لوتە ، لوتن
ئاڤاهی دگەل مروڤا خر جوتە جوتن
16-6-2017 دهوك :كوردستان العراق
بقلم : أحمد علي
حياة البشر واللون الأحمر
عند التحدث عن الضوء لأول وهلة يتبادر الى الذهن الألوان المنبعثة من ظاهرة قوس قزح المعروفة عند كثير من الناس ظاهريا والمخفية فيزيائيا عن الأغلبية العظمى. الضوء عبارة عن طاقة لها إشعاع كبير. يظهر اللون الأحمر في أعلى الشريط وتحدث ظاهرة قوس قزح عند مرور الضوء خلال وسطين مختلفين هما الهواء وقطرة الماء، فعندما تخترق الأشعّة القطرة تنكسر وتنعكس داخلها وتنكسر مرّة أخرى خارجة منها. والذي أعنيه في هذه المشاهد الحية هو اللون الأحمر. لقد دخل هذا اللون من أبوابه الواسعة حياة الناس جميعا وأثّر الى حد كبير في مجالات وأنشطته اليومية المتنوعة وعلى مدار الساعة.
البطاقة الحمراء:
كثير من الأمور ينتاب اللاعب قبل وأثناء مباراة كرة القدم, قوة الخصم, الجمهور, رضى المدرب من الأداء, تفاعل الفريق معه وبعض الجوانب الأخرى, ولكن خوفه الشديد يتأتى من حكم المباراة. ويظل هاجس الخشية منه ماثلا أمامه طوال وقت المباراة من أشهار البطاقة الحمراء في وجهه في أي لحظة. ورغم معرفة اللاعب التامة بذلك, لكنّه في كثير من الأحيان يرتكب الأخطاء الفضيحة والخارجة عن السلوك الرياضي تجاه الخصم من دون مبرر, مما يؤثر سلبا على الفريق وأدائه في الوقت المتبقي. أذن التهور والخروج عن القوانين لا يجلب غير النتائج الوخيمة والمؤلمة للفريق. هنا أصبحت البطاقة الحمراء رادعا بوجه كل لاعب لا يلتزم بالأنظمة, فهي دواء شاف لكل داء يتوجب البتر والطرد والحرمان.
الأشارة الحمراء:
وضعت الأشارات المرورية في التقاطعات والساحات العامة وفي مداخل المدن كي يبعد السواق من أرتكاب المخالفات. والكثيرمنهم ينصاعون لها ويتقيدون بمعانيها من أجل تجنب الحوادث. ولكن ومع الأسف الشديد أن قسم من السواق يتباهى لو تخطى الضوء الأحمر ويعتبرها شكلا من أشكال الرجولة والأقدام غير آبه بالنتائج الكارثية عليه وعلى الآخرين وما يترتب عليه من تبعات قانونية ومجتمعية. فعدم الألتزام بالأشارة الضوئية الحمراء يجلب له ولغيره أراقة الدماء الحمراء من دون أي مبرر.
العلامة الحمراء:
الخداع والأحتيال والنصب ظواهر مرفوضة من الجميع يجب الأبتعاد عنها, لا يقبلها الأديان السماوية ولا القوانين الوضعية باي شكل من الأشكال. هي وما شابهها بمثابة ألوان حمر لا يجوز على أي شخص أن يرتكبها صغيرة كانت أم كبيرة. وحتى الغش في الأمتحانات المدرسية يندرج تحت هذا المسمى ويعتبر ضربا من الخداع المعنوي والغشاش يشعر بها وكأنها من المكتسبات ومن الحقوق المشروعة له. وحين يقع في المصيدة ويرى بأم عينيه علامة الصفر المكعبة الحمراء على ورقة الأمتحان آنذك يدرك حجم العار الواقع عليه من ذلك التصرف المستهجن والمقيت من قبل الجميع. ويتمنى لو لم يفعلها مطلقا.
الخط الأحمر:
حين تشتد وتيرة بعض الأزمات والتوترات بين بعض دول العالم في الآونة الأخيرة وتصل الى حد التدخل العسكري وأحيانا الى الأقتتال فيما بينهم. تلجأ الدول العظمى ذات النفوذ والقوة والسطوة من أنتشال حليفاتها وفي الوقت المناسب من ذلك الخطر المحدق بهم بالأعلان الفوري والقاطع بأن الأستمرار والتمادي في ذلك النهج يعتبر "خط أحمر" وهذا بمثابة تحذير معلن لهم وعليهم عدم التجاوز والتخطي أبعد من ذلك والأمتثال والخضوع لتلك الومضة السريعة والخاطفة وإلا كان مصيرهم ومصير دولهم محل ضمٍ وكسرٍ وجزمٍ ولو كانوا في محل رفعٍ من قبل. فعليهم معرفة قدر أنفسهم وحجمهم قي ميزان القوة. فاللون الأحمر في الأمثلة السابقة أعلاه وتأثيراتها أكان على مستوى فردي أو جماعي كان محدودا وعلى نطاق ضيق, وأما هنا يشمل الجميع ومن جاورهم. فعليهم أن لا يتجاوزوا الخطوط الحمراء لأنها تكلفهم الكثير, فهل من واعظ يتعظ من تجارب غيره.
الرسالة الحمراء:
وأحيانا تلك الدول ذات النفوذ لم تكتفي بذلك وحسب بل تلجأ الى وسيلة أخرى أكثر حدّة وأكثر صرامة من سابقتها بأرسال أحد مبعوثيها كي يوصل رسالة حمراء وبقلم أحمر أنواعاً من الأملاءات واللاءات الواجبة تنفيذها وبالحرف الواحد وألا فالنتيجة معروفة مسبقا ولا تحتاج الى المشاورة وأخذ الرأي من الآخرين. فالأجابات كلها تأتي الواحدة تلو الأخرى بنعم وبلى وصار ويُجرى وسوف نفعل من دون مماطلة ولا تأخير. وبعدها توضع الرسالة في الملفات السرية وتحفظ ولا ترى الضوء إلا بعد أمد طويل ويصبح الأرشيف حينئذ بمثابة "تاريخ للبيع" يتدارسه المؤرخون والباحثون فيما بينهم.
25-7-2017 كوردستان العراق- بقلم: أحمد علي
مفاهيم صائبة في أفواه خاطئة
نقطة الصفر
لقد أصبحت هذه العبارة الرقمية شئماً مشئوما في حياة العراقيين والتي تطلق من قبل الساسة والمحللين والبرلمانيين وأصحاب القرار ومن بيدهم مصير هذا الشعب المنكوب في معرض حديثهم عن العملية السياسية والأقتصادية والمالية والجوانب الأخرى التي تهم مستقبل العراق برمته. وعلى مدى هذه السنين العجاف في هذه المسيرة العوجاء والهوجاء لبناء هذه الدولة والنهوض والوصول بها الى مصافي الدول المتقدمة لم نشهد لهم أي تقدم نحو الأمام بل صار التراجع والتقهقر والرجوع الى نقطة الصفر دينههم وشماعة يعلقون عليها فشلهم وأخفاقاتهم المتكررة وأخذ الواحد منهم يرمي الآخر ومن على شاشات التلفاز وعند ألقاء الخطب النارية في المناسابات يتهم شخوص هذه الكتلة تلك وهذا االمرؤوس ذاك, سبب التأخر والتلكأ في أتمام وانجاز المشاريع الوهمية على الورق أو التي دارت في أذهانهم لتمرير الصفقات المشبوهة لجني أكبر قدر من المال السحت من قوت الشعب الذي بات على حافة الصفر والتي يتمشدقون بها أمام الجميع من دون خجل وحياء. فأصبح حال العراقيين كالعداء الذي يبدأ المضمار من نقطة البداية أي نقطة الصفر ويكمل الدورة ويرجع الى النقطة التي بدأها في البداية وهكذا دواليك والويل لك أيها الشعب المسكين العاجز عن تخطي حاجز الصفر ما دام الذين يحكموك والمسلطين على الرقاب قد بدأوا أصلا من نقطة الصفر فيظل حالك يسير ويدور من سيئ الى أسوأ وتبقى دوما وأبداً صفر اليدين وحافي القدمين ومتْخماً بالدين الى أبد الآبدين وحسابك معهم يوم الدين عند ديان لا يعرف اللين مع كل خائن وفاسد لعين الذي أوصل العراق الى هذا المستنقع الضحل المهين .
المربع الأول
من المحزن والمؤلم أن نرى ونشهد بأم أعيننا خارطة العراق قد تحولت بعد عشية وضحاها الى مربعات رقعة الشطرنج يتصارع في ما بينهم شتى أنواع البشر من كل صوب وحدب يتلاعبون بها حسب هواهم وميول ورغبات من جاءوا بهم الى جو المنافسة كي يبدوا مهاراتهم وقدراتهم في كسب المنازلة لصالحهم وأرضاء أسيادهم وتحقيق مبتغاهم في نهاية اللعبة الغير الشريفة والنزيهة. لقد أصبحت حلبة صراع لأبداء قوتهم وأشهار طاقاتهم وسيركا عالميا في عرض مهارات الحيوانات الوحشية المفترسة والأليفة وترويضها معا كي تؤدي أدوارها وفعالياتها على أحسن ما يرام. لقد قُسِّمت خارطة العراق الى مربعات هندسية موزعة حسب مناطق النفوذ تلائم أهداف وغايات المخطِطْ والمنفْذ في آن واحد شبيهة بتلك المربعات التي كان الأطفال يرسموها بالطباشير على الأرض في لعبة الحجلة أو الأوله أوالچولة في اللغة الكوردية والمعروفة في جميع أنحاء العالم وفيها يعود المتباري الى المربع الأول عندما يدوس أحدى الخطوط حينها يرجع الى نقطة البداية لأعادة الكرة من جديد دون كلل أو ملل وكانت تلك من شروط أكمال اللعبة والكل كانوا ينصاعون لقواعدها. وأعتقد أن ممثلي الكتل والكيانات في العراق قد أستعاروا هذا التعبير الهندسي" من تلك اللعبة الطفولية أي العودة الى المربع الأول" حين يرون بأن الأمور والقرارات المتخذة لا تتماشى مع تطلعاتهم ومصالحهم الشخصية ويضربون مصالح الشعب عرض الحائط غير آبهين ما يحل بهم من مآسي ومحن وأقتتال وغير مكترثين بالوقت المبدد والجهد الضائع والمال المهدور والثروة المنهوبة وأعداداً لا يحصى ولا يعد من القتلى والجرحى. ولسان حال الجميع يردد تلك العبارة الجاهزة مبررين فشلهم وخيبتهم في كل مرة على عدم التوافق وتباين الآراء وأختلاف وجهات النظر وعدم التطابق في أقتسام المناصب والأمتيازات وأخذ أكبر نصيب من الكعكة, كعكة العراق الدسمة حلوة المذاق حينا هم في شقاق وأخرى على وفاق يعبأ النهر الأسود في براميل ويباع في الأسواق والبائس في العراق يلف من البرد القارص الساق على الساق ليس له من واق.
15-12-2017 بقلم: أحمد علي: كاتب كوردي مستقل