لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
الفصل الأول: العلبة التي تفهم أكثر من البشر
كان الوقت ظهر، والشمس قد مالت عن كبد السماء وبدأ الناس يتقاطرون إلى ديوان الشيخ محسن، حيث يجتمع الرجال كل مقيل كعادتهم منذ ثلاثين سنة، يحتسون القهوة المرّة ومضغون أوراق شجرة القات ، ويتجادلون في قضايا تبدأ بثورٍ دخل أرض جاره، وتنتهي غالبًا باتهامات لأمريكا وإسرائيل.
في ذلك المقيل، دخل حازم، الشاب النحيل العائد لتوّه من ماليزيا، وهو يحمل معه حقيبة سوداء صغيرة. قبّل رأس الشيخ محسن، ثم جلس بهدوء في زاوية الديوان. لم يكن أحد قد رآه منذ سبع سنوات، منذ أن غادر القرية للدراسة.
قال الشيخ وهو يبتسم بشك:
ــ "رجعت يا حازم.. بذكاء من ماليزيا؟"
ضحك بعض الحاضرين، لكن حازم فتح الحقيبة ببطء، وأخرج منها حاسوبًا محمولًا، وضعه على الطاولة الخشبية أمام الشيخ.
ــ "هذا هو الذكاء يا شيخ.. مش ماليزي، هذا عالمي."
ضحك الشيخ ساخرًا:
ــ "باقي ما قلت لي.. يعرف يميز بين خط المسند، ولا بيحسبها بالجوجل؟"
ابتسم حازم وقال بثقة:
ــ "يعرف يحكم بين اثنين يختلفوا على أرض.. ويطلع لك وثائق أجدادهم لو كانت في الإنترنت. حتى يشرح لك العرف القبلي بالعربي الفصيح، ويقترح حلول قبلية بدون ما يسفك دم ولا يجامل."
ساد صمت في الديوان.. حتى الشيبة عبدالحق الذي لا يسمع جيدًا، اقترب قليلًا.
ــ "هل هو جِدك.. تقول لنا إن هذا الحديد يحكم بين الناس؟"
ــ "مش يحكم.. يساعد بس. بس أنا درّبته بنفسي. علّمته لهجة القرية، ومصطلحات التحكيم، والأروش والديات والاعراف والتقاليد والمراغة، والعِيب، وحتّى تفاصيل نزاع آل جابر وآل عمّار."
اقترب الشيخ، نقر على الحاسوب بإصبعه الغليظ، وقال متوجسًا:
ــ "وإذا غلط.. من نلوم؟"
أجاب حازم:
ــ "نلوم المعلّم.. مش المتعلِّم."
في تلك اللحظة، تحركت الشاشة، وظهر عليها سؤال:
"مرحبًا، كيف يمكنني مساعدتكم اليوم في حل نزاع قبلي؟"
صاح واحد من الحاضرين فجأة:
ــ "يتكلم عربي يا ناس!"
وتحوّل الديوان إلى حلقة من الهمس والدهشة والضحك.. وبين من يسميه شيطان السيليكون أو جني العلبة، ومن يراه قاضيًا عصريًا.. بدأ موسم جديد في تاريخ القبيلة.
الفصل الثاني: القضية الأولى.. والدهشة الأولى
في ظهر اليوم التالي، جاء سالم بن عبده إلى الديوان مبكرًا، على غير عادته. وجهه متجهم، وعيناه تلمعان كمن قرر أن يضع حدًا لقضية عمرها عشر سنوات. ما إن جلس، حتى قال بصوت يسمعه الجميع:
ــ "يا شيخ، أنا وأخو زوجتي، ناصر الذاري، ما بينّا إلا الحديد هذا.. تحكموا به، أو تقفوا معي وتخلّوا القضية تشتعل."
ساد الهدوء لثوانٍ، ثم قال الشيخ محسن وقد شبك يديه خلف رأسه:
ــ "قضية الأرض؟"
أومأ سالم وقال:
ــ "اللي بجانب السد.. بيقول إنها له، وهي أصلاً أرض ورثتها من جدي. بس للأسف.. لا معه وثيقة.. ولا أنا معي."
قال أحد الحاضرين وهو يضحك:
ــ "يعني لازم نحكم بين ذا اللي ما معه، وذا اللي ما عنده!"
ضحك الديوان، لكن حازم كان قد بدأ بالفعل بتشغيل الحاسوب، وأدخل البيانات الأساسية:
أسماء الطرفين
الموقع التقريبي للأرض
تاريخ النزاع
أي إشارات موروثة
ثم التفت للشيخ وسأل:
ــ "معنا إذن نعرض القضية للذكاء؟"
هز الشيخ رأسه:
ــ "جرّب.. خلينا نشوف أخرتها."
بدأ الذكاء الاصطناعي في العمل، وعرض على الشاشة:
جارٍ تحليل السجلات العقارية القديمة المتاحة على الإنترنت..
تم العثور على خريطة جوية للمنطقة تعود لعام 2003
تم العثور على تدوينة في منتدى الكتروني تشير إلى بيع الأرض في 1998
قال الذكاء الاصطناعي بصوت هادئ:
ــ "وفقًا للمعطيات، الأرض كانت ضمن ممتلكات عائلة سالم حتى عام 2001، لكن هناك مؤشرات على بيع شفهي لم يُوثَّق، وهي ممارسة معروفة في المناطق الريفية اليمنية."
صاح ناصر غاضبًا:
ــ "يعني أيش؟ بيحكم ضدي؟!"
رد الذكاء الاصطناعي ببرود محايد:
ــ "ليس حكمًا، بل توصية: يُنصح بعقد جلسة عرفية تضم شيخ القرية وشاهدين ممن عايشوا الواقعة. وفي حال غياب الشهود، يُقترح التقسيم بالتساوي لتفادي إراقة الدم."
ساد صمت ثقيل.. لم يكن أحد يتوقع أن يقترح جهاز حلاً يشبه العرف!
همس الشيبة عبدالحق:
ــ "هذي العلبة.. معها جن!"
أما الشيخ محسن، فأخذ نفسًا عميقًا وقال:
ــ "الذكاء هذا.. شكله قرأ في كتبنا أكثر منّا."
الفصل الثالث: شيخ من سيليكون.. وقُرى تتقاطر
لم يمضِ أسبوع على القضية الأولى، حتى كانت صورة الشيخ محسن جالسًا أمام اللابتوب تتصدر صفحات الفيسبوك في اليمن.
التعليق الشهير الذي كتبته إحدى الصفحات الساخرة:
"أول ديوان قبلي يتحول إلى سيرفر.. وآخر شيخ يستقبل القضايا بكابل شاحن!"
انتشرت القصة كانتشار النار في الحشائش.. وسرعان ما تحوّلت القرية الهادئة إلى مزار قبلي رقمي، يأتيه الناس من كل حدب وصوب.
في عصرغير اعتيادي، دخلت ثلاث سيارات تويوتا هايلكس تحمل رجالًا من قرية الصافح، وتبعهم وفد من عتمة وآخر من رُصابة.
جلس الجميع في الديوان وهم يتهامسون عن "الشيخ الجديد".
قال أحدهم وهو يحدق في الشاشة السوداء:
ــ "يقولوا ما يغلط.. لا يميل ولا يعرف المجاملة."
رد عليه آخر:
ــ "بس ما يخزن، ولا يشرب القهوة، ولا يحك رأسه وقت التفكير!"
ضحكوا، لكنهم كانوا يتصرفون بخشوع حقيقي.. كأنهم في حضرة قاضٍ عظيم، لا يعرف الرحمة ولا الهوى.
بدأت القضايا تنهال:
نزاع على بئر ماء بين قبيلتين من الشمال
اتهام بسرقة أشجار قات معمرة
قضية إرث متشابكة وصلت إلى الجيل الرابع
كان الذكاء الاصطناعي يستقبل كل البيانات بصبر، يُحلل، يُقارن، يراجع البصائر والحجج القديمة والمقاسم والفصول وخرائط جوجل، وصور الأقمار الصناعية، ووثائق مرفوعة على منتديات قديمة، بل ويستخرج تغريدات من 2013 كشاهد رقمي على نية أحد الأطراف.
وبينما تنهمر القضايا، بدأ بعض الشيوخ التقليديين يشعرون بالتهديد. قال أحدهم للشيخ محسن بصوت خافت:
ــ "احذر يا محسن.. بكرة يقولوا الشيخ سيليكون.. ويشلوك أنت والكتلي حق القهوة."
لكن الشيخ لم يرد. كان يراقب شاشة الحاسوب كمن يرى مستقبلًا لا يخصه.. ولا يمكنه إيقافه.
الفصل الرابع: الصفقة التي لا يفهمها الذكاء
في إحدى زوايا السوق، وتحت ظلال شجرة سدر عتيقة، جلس الحاج عبد الواسع الصوفي، التاجر الأشهر في المنطقة، والذي يُشاع أنه يملك نصف أراضي الوادي.. والنصف الآخر مرهون عنده.
كان يراقب ما يحدث في ديوان الشيخ محسن منذ أيام، لا يعجبه هذا الجهاز الذي يُربك "موازين القوى" التي ظل يسيطر عليها سنوات.
نادى على أحد رجاله:
ــ "جيب لي هذا الولد، حازم.. خلينا نجابره وجهًا لوجه."
وفي مساء اليوم نفسه، كان حازم يجلس في غرفة مكيّفة داخل عمارة الحاج عبد الواسع، ويحتسي قهوة لا تُشبه قهوة الديوان أبدًا.
قال الحاج، وهو يتظاهر بالودّ:
ــ "اللي سويته يا حازم شغل كبار.. وكأنك علمتنا نقرأ من جديد."
ابتسم حازم بحذر:
ــ "أنا بس حاولت أقدم خدمة للناس."
أومأ التاجر، ثم انحنى للأمام وقال بنبرة أكثر جدية:
ــ "الناس طيبين.. بس في قضايا كبار، ما تنحل بعقل إلكتروني، تنحل بالوزن والوجاهه.. وبالمعرفة."
صمت لحظة، ثم أخرج مظروفًا أبيضا ممتلئا بالدولارات، ووضعه أمام حازم.
ــ "نريد تعرض قضيتنا بكرة.. ضد أولاد الغويل. هُم ناس يحبوا يمدّوا يدهم على أراضي مش لهم. شوف لنا طريقة، تخلي الذكاء هذا.. يميل شوية."
اتسعت عينا حازم، وسحب يده عن المظروف ببطء.
ــ "بس الجهاز ما يميل يا حاج.. هو مش مثل البشر. ما يعرف مجاملة ولا رشوة."
ضحك الحاج ضحكة عميقة وقال:
ــ "يا ولدي.. كل جهاز له مخرج.. المهم من يعرف يبرمج نِيّته."
وقف حازم، وفي صوته شيء من الارتجاف والغضب:
ــ "أنا درّبته عشان يفهم العرف، مش عشان يصير أداة بيد المتنفذين. الجهاز يحكم حسب البيانات.. مش حسب المظاريف."
خرج حازم من العمارة وهو يشعر أن الريح تغيرت.. وأن خصمه القادم لن يكون خصمًا علنيًا، بل ظلًّا يهمس في أذن اللابتوب.
لكن في نفس الليلة.. تلقى رسالة على جهازه، تقول:
"تمت إضافة ملف جديد إلى النظام: ghawil_case_modified.xlsx"
"تم التعديل بواسطة مستخدم غير معروف"
الفصل الخامس: أن تجرؤ على رفض المظروف
منذ اللحظة التي غادر فيها حازم مجلس الحاج عبد الواسع، بدأ الهواء في القرية يثقل. لم يُوجَّه له أي تهديد صريح.. لكن الإشارات كانت تتكاثر:
دكان الحي توقف عن بيع الإنترنت لهاتفه فجأة "لأنه مديون".
صديقه جمال قيل له أن لا يُرافق حازم كثيرًا "لأنه أصبح مشبوه".
والده تلقى اتصالًا من أحد مشايخ المنطقة يقول فيه: "انصح ولدك يترك اللعب مع النار.."
وفي مجلس الشيخ محسن، كان النقاش مختلفًا هذه الأيام. بعض الحاضرين بدؤوا يتساءلون:
ــ "ليش القضايا تطول أكثر؟ الأول كان الذكاء يحكم بسرعته، والآن يمشي زي السلحفاة."
ــ "قالوا إن الجهاز بدأ يعطي توصيات تميل لجهة وحدة!"
كان حازم يعرف ما يحدث. النظام لم يُخترق تقنيًا فقط.. بل اختُرق مجتمعيًا.
وفي أحد الأمسيات، وجد منشورًا فيسبوكيًا مجهول المصدر ينتشر كالنار:
"حازم.. مدعوم من جهات أجنبية. الذكاء الاصطناعي هذا جزء من مؤامرة دولية لإلغاء الشريعة والعُرف!"
وتحت المنشور، تعليقات من حسابات وهمية تقول:
"ما بيحكم إلا اللي تربى في ديوان.. مش شاشة!"
"اللي ما يلبس جنبية ما له حق يحكم بين الرجال."
حتى الشيخ محسن، الذي كان أول المؤيدين، بدأ يتراجع، وقال لحازم في لهجة مزيج من العتب والخوف:
ــ "يا ولدي.. السياسة ما تدخلها بعقلك.. تدخلها برجلك. خفّف شغلك شوية، وخل الذكاء يستريح."
لكن حازم لم يتراجع.. بل بدأ يعمل على تحديث نظام الأمان في جهازه، يُجهز نفسه لمواجهة ليست تقنية فقط، بل اجتماعية ونفسية وأخلاقية.
وفي ليلة من الليالي، عاد إلى بيته ليجد الباب مفتوحًا، والنافذة مكسورة، وجهازه الوحيد.. مفقود.
وفي مكانه، ورقة مكتوب عليها بخط رديء:
"ما ينفع تتذاكى على ناس خبرتهم في الزمان أكثر من كل ذكائك.. اللعبة انتهت."
الفصل السادس: بعيدًا عن الديوان.. أقرب إلى الفكرة
كان الحي هادئًا في ذلك الفجر، إلّا من صوت الديكة وبقايا قلقٍ على وجه حازم وهو يجمع بقايا ذاكرة جهازه المحطّم.
الهاردسك الخارجي، الذي كان يخفيه في درج غير ظاهر داخل مكتب والده، كان نجاته الوحيدة. فيه نسخة احتياطية شبه كاملة من قاعدة البيانات والتطبيق، لكنه يعلم أن الخطر لم يكن في الملف.. بل في أن يعود إلى الديوان كما كان.
قال لنفسه:
ــ "إذا هدموا الديوان، نعيد بناءه.. لكن على طريقة جديدة."
استأجر غرفة صغيرة في أطراف القرية، بعيدة عن أنظار الناس، ووصلها بالكهرباء والنت، وجعل منها "مختبره السري".
جلس أمام حاسوب قديم، رمّمه بمكونات مستعملة، وبدأ إعادة تشغيل المشروع.
لكن هذه المرة، لم يُصمّم الذكاء الاصطناعي ليكون في خدمة شيخ واحد، ولا ليسكن في ديوان قبلي.. بل ليكون متاحًا لأي يمني من أي مكان فيه كل القوانين والاحكام السابقة .
أطلق عليه اسمًا جديدًا:
"المِيزان"
وأرسل رابطًا صغيرًا على واتساب لمجموعة شبابية مهتمة بالعدالة الرقمية:
"جرّبوا هذا الرابط.. برنامج تحكيم قبلي ذكي، متاح من هاتفك.. بدون شيخ.. بدون طاولة.. بس كلمة حق."
وفي غضون أسبوع، بدأ التطبيق ينتشر كالنار في الهشيم.
شباب من صنعاء يرسلون له نزاعات تجارية.
طلاب من إب يطلبون توصيات في قضايا ميراث.
مهاجر يمني في تركيا يحاول فهم موقفه من أرض تركها خلفه.
لكن لم تكن الأخبار السعيدة وحدها تصل إليه.
في إحدى الليالي، وصله تسجيل صوتي من مجهول يقول:
"احذر يا حازم.. المشروع خرج عن السيطرة. أنت مش بتدير ذكاء.. أنت بتحرك ميزان في بلد مائل.. والمائل إذا تعدّل، ناس كثيرين بيقعوا."
رفع حازم عينيه من على الشاشة وقال:
ــ "أيوه.. بيقعوا. وحان وقتهم."
الفصل السابع: من ديوان قبيلة إلى شاشة وطن
ما بدأ كتجربة محلية في قرية صغيرة، صار الآن ظاهرة تتناقلها القنوات، وتكتب عنها الصحف.
عنوان صفحة إلكترونية في صنعاء:
"المِيزان: شيخ رقمي يفضّ نزاعات اليمنيين!"
مذيعة في قناة فضائية تقول بابتسامة:
ــ "وفي خبر طريف من وادٍ يمنيّ، ظهر أول نظام ذكاء اصطناعي يتحدث اللهجة المحلية ويفهم العرف القبلي والقانون.. اسمه: المِيزان."
وفي مشهد يُحاكي الثورة، بدأ طلاب من جامعة صنعاء، بقيادة شاب ذكي اسمه مازن الحاشدي، بتنظيم ورشات تدريب على استخدام “المِيزان” في قاعات الجامعة، تحت عنوان:
"التقنية في خدمة العدالة الشعبية"
لم يكن حازم يعرف مازن شخصيًا، لكن تلقى رسالة صوتية منه على البريد:
"حازم.. فكرتك مش بس فكرة تقنية، هي فكرة تحرّر. أنت ما صنعت آلة.. أنت زرعت عدالة، وغرستها في قلب نظام متهالك. إذا قبلت، نعلن المشروع رسميًا من جامعة صنعاء، ونبني له واجهة وطنية."
صمت حازم طويلًا أمام الرسالة. ثم ابتسم وقال:
ــ "حان وقت الخروج من الظل.."
في صباح مشمس، وقف حازم لأول مرة أمام جمهور مفتوح في مدرج كلية الشريعة والقانون.
وراءه شاشة كبيرة تعرض واجهة تطبيق “المِيزان”، وبجواره لافتة كتب عليها:
"الذكاء ليس عدواً للعُرف والقانون.. بل حليفه الجديد."
تحدث حازم عن الفكرة، عن طفولته في الديوان، عن المفارقة بين الشاشة والشيخ، وعن لحظة الانكسار عندما حاول أحدهم رشوة العدالة.
كان صوته صادقًا، مرتبكًا أحيانًا، لكنه نافذ كالسهم في صدور الحاضرين.
وفي نهاية حديثه، رفع يده وقال:
ــ "أنا لا أطلب أن تحبوا الذكاء الاصطناعي.. أطلب فقط أن لا تكرهوا العدالة لأنها لا تجامل."
انفجرت القاعة بالتصفيق.. وبدأت الشرارة تتحول إلى نار.
لكن في مكان آخر، كان الحاج عبد الواسع يُشاهد اللقاء من شاشة تلفازه، ويهمس لمرافقيه:
ــ "إذا بدأ يحكم من صنعاء.. لن يتوقف إلا في دار الرئاسة."
الفصل الثامن: ثوب القبيلة أم قميص العدالة؟
بعد أن بدأ “المِيزان” يكتسب زخمًا وطنيًا، لم يمر وقت طويل حتى بدأ الشقاق الفكري يظهر، لا من العامة.. بل من النخبة.
في صحيفة فكرية مرموقة، كتب دكتور جامعي معروف مقالًا بعنوان:
"المِيزان: ذكاء اصطناعي بثقافة غير مدنية"
وجاء فيه:
"ما الفرق بين شيخ قبيلة يحمل جنبية، وبرنامج رقمي يُعيد إنتاج نفس المفاهيم؟ إنّ رقمنة العُرف لا تجعله تقدميًا، بل تُعطيه قناعًا تقنيًا يُخفي تخلفًا منهجيًا."
في مقابلة إذاعية أخرى، صرّحت ناشطة حقوقية:
"أنا أُقدّر جهود الشباب.. لكن العدالة لا تُبنى على سوابق قبليّة تُكرّس مفاهيم مثل العيب والعرف والوساطة. هذه ليست عدالة، هذه مساحيق تجميل على وجه نظام أبوي."
بدأت القاعة التي صفق فيها الناس لحازم، تتحول إلى ساحة نقاش ساخن:
فريق يرى أن “المِيزان” وسيلة عظيمة لتقريب العدالة لمن لا يستطيع الوصول إلى المحاكم.
وفريق آخر يرى أنه يسوّق للعُرف القبلي بواجهة رقمية قد تضر بمبادئ الدولة المدنية.
حتى مازن، الداعم الأول، قال في جلسة مغلقة:
ــ "علينا أن نقرر.. هل هذا مشروع عدالة، أم مجرد أداة لترقيع ما فشلنا في إصلاحه؟"
شعر حازم، لأول مرة، أن المشروع الذي بناه بحُب، صار يُفكّك علنًا كمن يُشرّح جسد مريض أمام الجميع.
في ردّ علني، كتب حازم منشورًا طويلاً على صفحته:
"يا قوم.. لستُ شيخًا رقميًا، ولا حاكما تقنيًا. المِيزان لا يفرض شيئًا، بل يُقترح فقط. ليس دولة، بل جسر. لا يُكرّس الجهل.. بل يحاول تفكيكه بأدواته. لا تهاجموا الفكرة لأنها ناقصة.. بل ساعدوها لتكتمل."
أُعيد المنشور آلاف المرات، وتحوّلت القصة من مسألة “تقنية” إلى نقاش وطني عن العدالة نفسها.
لكن في الظل، بدأت جهات تشعر بالخطر الحقيقي..
لأن الناس باتوا يسألون:
"لماذا لا نستطيع الوصول لنفس سرعة وعدالة المِيزان.. في محاكم الدولة؟"
الفصل التاسع: ميزان العدالة.. أم واجهة الغموض؟
كانت الأمور تسير بسلاسة نسبية بعد رد حازم على الهجوم الفكري.. حتى ظهر ذلك العنوان في الصفحة الأولى من صحيفة استقصائية إلكترونية:
"حصريًا: تمويل خارجي خفي يقف خلف مشروع المِيزان!"
المقال، الموقّع باسم الصحفي المعروف علي الكَميمي، بدأ بلغة احترافية هادئة، ثم انقلب إلى عاصفة شك:
"بينما يروّج القائمون على مشروع المِيزان بأنه مبادرة محلية خالصة، تكشف مصادرنا وثائق تفيد بأن حسابًا بنكيًا مرتبطًا بأحد مطوري النظام تلقى تحويلات من منظمة دولية مشبوهة تعمل تحت مظلة إحدى السفارات الغربية."
وتابع التقرير:
"المنظمة تعمل في مجال "تعزيز العدالة الرقمية في مجتمعات ما بعد النزاع". فهل نحن أمام اختراق ناعم للسيادة القضائية؟ وهل يُستخدم الذكاء الاصطناعي لفرض قيم ليست يمنية؟"
انفجر الإنترنت.
التعليقات انقسمت بين مدافع ومشكك.
وسم #المِيزان_تابع_للخارج تصدّر تويتر.
صفحة حازم أُغرقت بتعليقات تتهمه بالخيانة، وبأنه "ابن السفارات".
مازن لم يُعلّق علنًا، لكنه كتب لحازم رسالة مقتضبة:
"لو عندك ما يثبت العكس.. قد حان وقت إظهاره."
حتى والد حازم، رجل بسيط يؤمن بابنه، قال له بحزن:
ــ "يا ولدي، قل لنا.. من كان يموّل المشروع؟ مش عيب تقول الحقيقة، العيب تكتم."
جلس حازم ليلًا أمام شاشة جهازه، يحدّق في الخبر، ويفكر:
"لم آخذ فلسًا لنفسي.. كانت جهة بحثية دولية دعمت جزءًا من التدريب الأولي للنظام، لأجل تطوير أدوات التحكيم الرقمي في الدول النامية.. هل هذا خيانة؟"
لكنه يعلم أن الحقائق لا تُسمَع إذا سبقتها الشائعات.
في اليوم التالي، خرج حازم في بث مباشر، بدا فيه مرهقًا، غائر العينين:
"أي دعم حصلنا عليه، كان لأجل تطوير أدواتنا بأنفسنا.. لا أجندات.. لا أوامر. كل كود في المِيزان مفتوح. كل قاعدة بيانات مشفّرة داخل اليمن. إذا كانت الشفافية خيانة، فأنا أول الخونة وأمامكم الخوارزمية ."
لكن الصمت كان أبلغ من التصفيق هذه المرة.
حتى الذكاء الاصطناعي، حين فتح حازم الواجهة، ظهر له تنبيه:
"انخفاض في عدد القضايا الواردة بنسبة 72% خلال هذا الأسبوع."
"هل ترغب في تفعيل وضع التجميد المؤقت للنظام؟"
نظر حازم إلى الشاشة وقال بهدوء:
ــ "لا.. سنبقى."
الفصل العاشر: حين يصبح الميزان شعبًا
مرّ أسبوع ثقيل على حازم.
حجم الاتهامات، وهدير مواقع التواصل، وخذلان البعض، جعله يتساءل:
"هل كل هذا يستحق؟ هل العدالة حلم لا يحتمله الواقع؟"
حتى “المِيزان” نفسه، رغم تشغيله، بدا كأنه آلة حزينة:
لا قضايا جديدة، لا أسئلة من المستخدمين، فقط صمت رقمي.. يشبه المقاطعة.
لكن في أحد مساءات الخميس، وصلت إليه رسالة بريد إلكتروني قصيرة من عنوان مجهول:
"أنا أم من تعز، استخدمت تطبيقك في قضية ميراثي.. لولا المِيزان، لما كنت حصلت على حقي. ما يهمني من مولك، أنا فقط أعرف أنه أنصفني. لا توقف."
وفي فجر اليوم التالي، بدأت العجائب الصغيرة.
على تيليغرام:
مجموعة شبابية تنشر ملصقات رقمية تقول:
"الذكاء لا يُمنَع.. العدالة لا تُكتم"
على فيسبوك:
حملة صور لناس من مناطق مختلفة يرفعون لافتات مكتوب عليها:
"أنا استخدمت المِيزان.. واستعدت حقي."
"مش مهم من موّله.. المهم من انتفع منه."
في إذاعة محلية:
أحد المحامين المخضرمين يصرّح:
ــ "المشكلة مش في الذكاء الاصطناعي.. المشكلة إننا نخاف من العدالة لو جاءت بدون شيخ."
في ظرف يومين، عاد عدد المستخدمين إلى الارتفاع، والواجهة الرقمية للمِيزان بدأت تتنفس من جديد.
"تم استلام 142 قضية جديدة."
"3 طلبات من خارج اليمن."
"اقتراح من متطوعين لترجمة النظام إلى اللغة الأوردية والتغرينية."
حازم، للمرة الأولى منذ أسابيع، ابتسم.
مازن عاد للتواصل معه برسالة مقتضبة:
"أخوك ما بيتهز.. بس لازم نحصّن المشروع أكثر. نخليه للناس.. مش لشخص."
وهكذا بدأت مرحلة جديدة:
تحويل المِيزان إلى منصة مفتوحة بإدارة جماعية
ضم محامين وعقال ومبرمجين من مختلف المحافظات
خطة لفتح نسخة خفيفة تعمل على الهواتف القديمة بدون إنترنت دائم
وفي مقابلة مع قناة دولية، سُئل حازم:
"هل ترى نفسك مؤسسًا لثورة في العدالة؟"
أجاب:
ــ "أنا فقط بدأت نقاشًا.. لكن يبدو أن الشعب قرر ألا يُنهيه."
الفصل الحادي عشر: الخطأ الأول.. والصدى الأطول
في صباح رائق، ككل الصباحات التي تسبق العواصف، تلقى النظام قضية بسيطة على ما يبدو:
نزاع بين شقيقين في محافظة ريمه حول ملكية شجرة بُن معمّرة زرعها والدهما المتوفى، دون أن يترك وصية واضحة.
رفع “المِيزان” قضيته المعتادة:
جمع المعلومات
تحليل شهادات الأقارب المرسلة عبر رسائل صوتية
مقارنة مع سوابق عرفية مشابهة
توصية بتقسيم الشجرة وأرباحها بالتساوي
لكن ما لم يعرفه النظام، هو أن الشقيق الأكبر كان في خصام دموي قديم مع أخيه الأصغر بسبب حادث ماضٍ لم يُذكر في المعطيات.
وما إن طُبّقت التوصية، حتى اندلعت مشاجرة، وتحوّلت إلى اشتباك مسلح صغير.. نُقل على إثره الأخ الأصغر إلى المستشفى، في حالة حرجة.
في مساء ذلك اليوم، انتشر الخبر تحت وسم جديد:
وسائل الإعلام التقطت الحدث بسرعة:
“هل الذكاء أعمى عن التاريخ الاجتماعي؟”
“كيف تحكم خوارزمية على صراعات ودماء؟”
“من يتحمل المسؤولية.. الآلة أم من صنعها؟”
في لقاء تلفزيوني، قال أحد المنتقدين:
"الميزان يتعامل مع البيانات، لكنه لا يشعر بثقل الماضي. العدالة بدون سياق.. ظلم ناعم."
جلس حازم تلك الليلة أمام النظام، يتأمل التقرير الرقمي، ويرى في أعين الأرقام خيبة الأمل.
ظهر له تنبيه على الشاشة:
"تم رصد 1 حالة عنف ناتجة عن توصية صادرة من النظام."
"هل ترغب بإيقاف النظام مؤقتًا لمراجعة القواعد؟"
لكنه لم يضغط "نعم" مباشرة. بل تنفس ببطء، وكتب في مفكرته:
"حتى المصلحين أخطأوا التقدير.. فهل يُتوقع من آلة أن تكون مصلحا؟"
في اليوم التالي، ظهر بيان رسمي من فريق المِيزان:
"نأسف بشدة لما حدث، ونتحمل المسؤولية الأخلاقية. سنُجري تحديثًا جذريًا يشمل:
دمج عنصر التحقق البشري في القضايا ذات الخلفيات المعقدة
تدريب النظام على فهم الشحن الاجتماعي وتاريخه
إدخال ميزة 'طلب إحالة إلى حكم بشري' في الحالات الحساسة"
وعاد النقاش للشارع:
البعض قال: "هذا يعني أنهم بشريون.. يخطئون، ويصلحون."
وآخرون قالوا: "الخطأ في آلة.. أخطر من الخطأ في بشر."
لكن أهم ما حدث، كان أن شقيق المصاب خرج في تسجيل صوتي وقال:
"أنا اللي ما شرحت كل شيء للنظام.. عشان أختبره. بس ما كنت أعرف إنّ الغلط بيكلف دم. ما ألوم أحد.. إلا نفسي."
وهكذا، خسر “المِيزان” جزءًا من هالته، لكنه ربح أهم ما يحتاجه:
الاعتراف بالنقص، والبدء في النضج.
الفصل الثاني عشر: النسخة التي تفهم.. وتستشير
مرّت ثلاثة أسابيع منذ الحادثة.
ثلاثة أسابيع من مراجعة الكود، تحليل الفجوات، واستشارات مع قضاة، شيوخ قبائل، أطباء نفسيين، ومختصين في النزاعات الاجتماعية.
الهدف:
ليس تصحيح “المِيزان” فقط.. بل إعادة تعريفه.
تم تطوير النسخة الجديدة:
اسمها "المِيزان 2.0 – لا يحكم وحده"
وفي مؤتمر صغير أقيم في قاعة بسيطة بجامعة ذمار، تم الإعلان عن التحديثات الجوهرية:
أولًا: المعالج البشري المصاحب
كل قضية تتجاوز مستوى "المخاطرة الاجتماعية = 7/10"، تُحال مباشرة إلى لجنة بشرية مصغّرة مكوّنة من:
شيخ محلّي
خبير قانوني
مختص في علم الاجتماع
ممثل عن النساء (عند الحاجة)
والذكاء الاصطناعي يكون مستشارًا لا أكثر.
ثانيًا: سجل النزاع العائلي التاريخي
الميزة الجديدة التي تسمح بإدخال خلفية العلاقة بين أطراف النزاع، مع مساحة حُرّة للتفاصيل "غير القانونية لكن المؤثرة" (مثل ثأر قديم، أو شبهة طمع، أو علاقة أسرية شائكة).
ثالثًا: خيار "تحكيم تقليدي"
في كل قضية، يظهر زر:
“هل ترغب بإحالة القضية لحَكم قبلي بشري بدلًا من الذكاء الاصطناعي؟”
احترامًا للعرف والرغبة الشخصية.
وفي الديوان الذي بدأ منه كل شيء، عاد الشيخ محسن، هذه المرة ضيفًا، لا قاضيًا.
قال مبتسمًا وهو ينظر إلى الواجهة الجديدة:
ــ "الحديد فهم أخيرًا أن الراس البشري أذكى أحيانًا."
رد حازم باحترام:
ــ "ونحن فهمنا أن الراس وحده أحيانًا يحتاج دليلًا رقميًا."
وفي أول قضية على “المِيزان 2.0”، قال أحد المشايخ:
ــ "أنا أحب هذا الزر.. الزر الذي يقول: خلّونا نرجع للناس."
الناس بدأت تستخدم النظام من جديد.. بثقة أكثر، وخوف أقل.
الأمهات يشعرن أن هناك من يسمع تعقيدات بيوتهن.
الشيوخ لا يشعرون بأنهم أُقصوا، بل رُحّب بهم.
والذكاء الاصطناعي؟
صار أداة تكامل لا أداة هيمنة.
وفي شاشة لوحة التحكم، ظهر إشعار جديد:
"تم حلّ 10,000 قضية عبر المِيزان"
"98% من المستخدمين فضّلوا النموذج الهجين"
ابتسم حازم، وأغلق الجهاز بهدوء.
فبعض المعارك، لا تُربَح بالانتصار، بل بأن تبقى وسط الطريق.. حيث لا يُلغى أحد.
الفصل الثالث عشر: من قرية يمنية.. إلى منصة أممية
كان حازم جالسًا في أحد مقاهي صنعاء، يراجع بيانات الاستخدام الأسبوعية لـ "المِيزان 2.0"، حين وصله بريد إلكتروني بعنوان بسيط:
"دعوة للمشاركة – لجنة الأمم المتحدة للعدالة المجتمعية"
فتح الرسالة بتوتر، ليقرأ:
"يسرّنا دعوتكم لعرض تجربة "المِيزان" كأحد الابتكارات الرائدة في مجال العدالة الرقمية المجتمعية، ضمن فعاليات تقرير الأمم المتحدة السنوي بعنوان:
Justice for the Margins
المنعقد في جنيف، بحضور ممثلين من أكثر من 40 دولة."
جلس حازم مصدومًا.. ليس من الدعوة، بل من أن القرى التي كانت قبل أشهر تتصارع على جذع شجرة بُن.. أصبحت جزءًا من نقاش عالمي عن مستقبل العدالة في المجتمعات الضعيفة.
في جنيف:
كان المسرح أنيقًا، الإضاءة ناعمة، والجمهور يتكوّن من وزراء، أكاديميين، قضاة، ومبرمجين.
وقف حازم أمامهم، لا بلباس رسمي صارم، بل بثوبه اليمني البسيط، وجنبيته التي لم يتخلَّ عنها.
بدأ عرضه بشريحة واحدة:
صورة ديوان قبلي طيني، يتوسطه جهاز لابتوب، وحوله رجال بعمائم يحدّقون فيه كما يحدّقون في شيخ عجوز.
ثم قال:
"أنا لا أقدّم لكم مشروعًا تقنيًا.. بل مفاوضة طويلة بين الآلة والبشر.
بين ذاكرة العُرف، وطموح المستقبل.
بين حاسوب لا ينام، وقلوب لا تنسى."
ثم عرض كيف أن النسخة الهجينة من المِيزان أصبحت تحقّق:
معدل رضا مجتمعي بنسبة 91%
مساهمة واضحة في تخفيف الضغط على المحاكم المحلية
وتقليل النزاعات القبلية المسلحة في 3 محافظات
سأله أحد الحضور:
"هل تعتقد أن ما نجح في اليمن يمكن نقله لدول أخرى؟"
فأجاب حازم:
"لا يمكن استنساخ المِيزان..
لكن يمكن استنساخ فكرته:
أن العدالة لا يجب أن تأتي من أعلى فقط..
بل أن تبدأ من حيث يقف الناس."
في نهاية المؤتمر، تم اختيار “المِيزان” ضمن أفضل خمس تجارب عدالة مجتمعية في العالم، وعرضت الأمم المتحدة دعمها لترجمة المشروع وإطلاق إصدارات تجريبية في:
مناطق الأمازون البرازيلية
مخيمات اللاجئين السوريين
قرى نائية في نيبال
لكن حازم، حين عاد إلى غرفته في الفندق، كتب في دفتره الصغير:
"العدالة ليست ملفًا للتحميل..
هي روح تُبنى كل يوم، بين الناس.
ولا شيء يعادل أن يشعر رجل بسيط، في قرية منسية، أن صوته يُسمع، وأن مظلمته لها ميزان.. حتى لو كان من سيليكون."
الفصل الأخير: ما بعد المِيزان.. ما قبل الغياب
عاد حازم إلى قريته بهدوء.
لا كاميرات، لا لافتات، ولا حتى أسئلة كثيرة.
كانت الشمس تميل نحو الغروب، وظل الجبال يزحف على البيوت الحجرية القديمة، كما لو أن الوقت نفسه يتذكّر.
وجد الشيخ محسن جالسًا أمام باب ديوانه، بوجه أنهكه الزمن لكنه لا يزال يحمل تلك النظرة الثابتة.
اقترب منه، صافحه، ثم جلس بجواره على الحصير.
قال الشيخ وهو يحدّق في الأفق:
ــ "سمعت إنك رحت جنيف.. ما عاد بقى شيء بعدها، صح؟"
ابتسم حازم وقال:
ــ "بقي شيء واحد.. الأولاد."
ــ "أولاد من؟"
ــ "أولادنا.. اللي في المدارس، اللي ما يعرفوش أن البرمجة مش بس لتصميم ألعاب، وأن العدل مش بس شغل قضاة.. بل ممكن يكون شغلهم."
بعد أسابيع، افتتح حازم مبادرة جديدة:
"مدرسة المِيزان للبرمجة المجتمعية"
ليس مشروعًا ضخمًا، ولا ممولًا من أي جهة.
بل صف صغير، فيه عشرة مراهقين، وأجهزة قديمة تم إصلاحها يدويًا.
كل يوم يُعلّمهم:
كيف يُكتب الكود
كيف تُحل المشكلة
وكيف تفكر مثل إنسان، حتى وأنت تكتب للآلة
وفي أحد الدروس، سأله أحد الفتية:
ــ "أستاذ حازم.. صحيح إنك كنت تقدر تخلّي المِيزان يحكم البلد؟"
ضحك وقال:
ــ "البلد ما يحتاج آلة تحكمه.. يحتاج ناس تفهمه. وأنا بس صنعت أداة.. أما الحكم، فيبدأ من ضميرك."
وفي نهاية الحصة، كتب على اللوح:
"المستقبل لا يُبرمج.. بل يُربّى."
ثم خرج إلى فناء المدرسة، حيث الهواء الجبلي نقي، والأمل أكثر هدوءًا من كل المهرجانات.
مشروع المِيزان لا يزال يعمل في الخلفية، بإدارة فريق شاب.
أما حازم، فقد أصبح مجرد اسم في الهامش.. تمامًا كما أراد.
الخاتمة:
في زمنٍ يظن فيه الناس أن التقنية تقتل الروح..
جاء مشروع "المِيزان" ليقول:
يمكن للآلة أن تُضيء طريقًا.. إذا دلّها الإنسان.
وهكذا انتهت الحكاية..
لكن الموازين لم تنتهِ بعد.