لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
في عصر تتسارع فيه خطوات الذكاء الاصطناعي، لم يعد السؤال: "أي تخصص أختار؟" مجرد خيار أكاديمي، بل أصبح خيارًا مصيريًا يحدد قدرتك على فهم العالم الجديد وصناعته. المدهش أن أغنى عمالقة التكنولوجيا الذين يقودون هذه الثورة – مثل جِنسن هوانغ (Nvidia)، بافيل دوروف (Telegram)، وإيلون ماسك (Tesla, SpaceX) – أجمعوا على نصيحة واحدة للشباب: اجعلوا الفيزياء والرياضيات أولويتكم.
لكن، لماذا الرياضيات والفيزياء بالذات؟ أليس تعلم البرمجة أو الذكاء الاصطناعي مباشرة أسرع طريق للمستقبل؟
البرمجة قد تعطيك الأدوات، لكن الرياضيات والفيزياء تمنحك العقل الذي يبتكر الأدوات. عندما قال جِنسن هوانغ إنه لو عاد بالزمن لاختار دراسة الفيزياء بدلًا من البرمجة، كان يشير إلى أن من وضعوا اللبنات الأولى للذكاء الاصطناعي لم يكونوا مبرمجين عاديين، بل فيزيائيين يفكرون بطريقة عميقة في الأنظمة، الاحتمالات، والقوانين التي تحكم الواقع.
الفيزياء تعلمك كيف ترى ما وراء الظواهر، والرياضيات تمنحك لغة دقيقة لترجمة تلك الرؤية إلى نماذج قابلة للحوسبة. وهنا يكمن السر: الفيزيائي والرياضي يستطيع أن يفكر بشكل تجريدي ثم يحوّل التجريد إلى تطبيق عملي، بينما المبرمج الذي يفتقر لهذا العمق قد يبقى أسير الأدوات الجاهزة.
من يدرس الرياضيات والفيزياء لا يكتسب معلومات فقط، بل قدرات عقلية تغيّر طريقة تفكيره جذريًا:
التفكير المنطقي المنظم: القدرة على تفكيك أي مشكلة معقدة إلى أجزاء صغيرة وحلها خطوة بخطوة.
التجريد والتعميم: رؤية القوانين خلف التفاصيل، وهو ما تحتاجه في تصميم خوارزميات الذكاء الاصطناعي أو حتى في تحليل أسواق المال.
الإبداع المقيد بالقانون: الفيزياء تدرّبك على إطلاق خيالك، لكن دون أن ينفصل عن قوانين الطبيعة، ما يجعلك مبدعًا واقعيًا.
التحمل والصبر: حل مسائل فيزياء أو برهان رياضي معقد يعلمك الصمود أمام التحديات، وهذه سمة أساسية لرواد الأعمال الناجحين.
قد يتساءل طالب: كيف ستفيدني الفيزياء والرياضيات في حياتي العملية إن لم أصبح عالمًا؟
الجواب أن هذه العلوم تشبه تدريبًا عقليًا يعيد تشكيل طريقة تفكيرك في كل مجال:
في الأعمال والإدارة: ستفكر بمنطق الأنظمة، فتفهم السوق مثل نظام ديناميكي وتعرف كيف تتنبأ بتغيراته.
في الفن والإبداع: ستتعامل مع التوازن، النسب، والإيقاع بعين رياضية تجعل أعمالك أكثر دقة وجمالًا.
في الحياة الشخصية: ستتخذ قراراتك بوعي أكبر، تقيس الاحتمالات وتقيّم المخاطر بشكل منطقي بعيد عن العشوائية.
كم يحزنني حين أرى هاذين التخصصين قد أُغلقا في بعض الجامعات الحكومية نتيجة لعدم الإقبال عليهما من الطلاب، بسبب عدة عوامل لعل أبرزها أن فرص التوظيف بعد التخرج قليلة جدًا. وهذا يعود إلى عدم فهم رجال الأعمال في اليمن لأهمية العقل المتدرّب على حل المشكلات، ولأنهم غالبًا ينظرون إلى أعمالهم بعشوائية أكثر من نظرة تنظيمية. يضاف إلى ذلك افتقار بلادنا إلى المصانع والشركات التي تبحث عن العقول المبتكرة القادرة على ابتكار الحلول، فضلًا عن إهمال الدولة لخريجي هذه التخصصات الصعبة، الأمر الذي يخلق فجوة كبيرة بين ما يحتاجه المستقبل وما يُدرَّس اليوم.
إيلون ماسك يلخص الأمر في عبارته الشهيرة: "Physics with math". لأن الفيزياء تمنحك القدرة على تبسيط أي مشكلة معقدة حتى تصل إلى جذورها، ثم تمنحك الرياضيات الوسيلة لقياسها وبنائها من جديد.
النجاح في التكنولوجيا لا يأتي من معرفة سطحية ببرنامج أو لغة برمجة – تلك تتغير كل بضع سنوات – بل من امتلاك الأساس الفكري الذي يبقى صالحًا مهما تغيرت الأدوات. لذلك، ترى أصحاب المليارات من وادي السيليكون يكررون النصيحة نفسها: ابنوا عقلكم أولًا، الأدوات ستلحق بكم لاحقًا.
الذكاء الاصطناعي، الحوسبة الكمية، الطاقة المتجددة، الفضاء.. كلها ثورات علمية وتقنية تتقاطع في شيء واحد: الرياضيات والفيزياء. الطالب الذي يستثمر وقته اليوم في فهم هذه العلوم، سيكون غدًا ممن يقودون السفينة بدلًا من أن يكونوا مجرد ركاب.
إذا أردت أن تكون مجرد مستخدم للتكنولوجيا فتعلم البرمجة يكفيك، لكن إن أردت أن تكون ممن يصنعون التكنولوجيا ذاتها ويحددون ملامح المستقبل، فطريقك يبدأ من الرياضيات والفيزياء.
كما قال بافيل دوروف: "الرياضيات والفيزياء تمنحانك القدرة على التفكير المنطقي وحل المشكلات". وهذه ليست مهارات أكاديمية فحسب، بل هي مهارات حياة ونجاح، من إدارة مشروع صغير إلى تأسيس إمبراطورية تقنية بمليارات الدولارات.
فكر في الأمر هكذا: تعلم البرمجة يشبه امتلاك سيارة حديثة، بينما تعلم الرياضيات والفيزياء يشبه تعلم هندسة المحرك ذاته. السيارة قد تتغير، لكن من يفهم المحرك هو من يقود المستقبل.