لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
ابراهيم الهجري
هناك علوم تفسّر الواقع، وعلوم أخرى تُعيد تشكيل مفهومنا عن الواقع ذاته. ميكانيك الكم ينتمي للنوع الثاني؛ هو الحافة التي يقف عندها المنطق الكلاسيكي عاجزًا، وتبدأ من عندها التساؤلات الفلسفية العميقة في الظهور. خلال عشرين عامًا قضيتها بين صفحات الكتب العلمية، لم أجد ما هو أكثر غرابة وجاذبية من هذه الظواهر الثلاث التي سأرويها لكم اليوم بلغة ميسّرة، مزيج بين العلم والفلسفة، لنفتح معًا بابًا إلى عالم يبدو وكأنه ينتمي إلى الخيال، رغم أنه حقيقي جدًا.
1. التراكب الكمومي: رقصة الاحتمالات
في عالمنا اليومي، نعتاد على أن الأشياء لها حالة واحدة فقط: المصباح إما مضيء أو مطفأ . لكن ميكانيك الكم يقول لنا إن هناك واقعًا آخر، عالَمًا فيه الجسيمات الصغيرة كالإلكترونات تعيش في أكثر من حالة في نفس اللحظة. لنتخيّل معًا أن لدينا صندوقًا بداخله قطعة نقدية تدور باستمرار، ليست على وجهها ولا على الكتابة، بل تدور في الحالتين معًا حتى نفتح الصندوق لنرصدها فتستقر على حالة واحدة. هذه هي حقيقة التراكب الكمومي.
هذه الفكرة قلبت فهمنا للحقيقة رأسًا على عقب. هل يعني ذلك أن الواقع يتشكل فقط عندما ننظر إليه؟ وهل هناك حقًا "حقيقة واحدة" أم أن كل الاحتمالات تتواجد معًا في ظلال لا ندركها؟
تخيّل كمبيوترًا قادرًا على حل ملايين المسائل في لحظة واحدة وفي نفس الوقت بفضل هذا التراكب، هذا ما يعد به الكمبيوتر الكمومي، أو كاميرا قادرة على تصوير أدق تفاصيل الذرات اعتمادًا على هذه الظاهرة الغريبة.
2. التشابك الكمومي: خيوطٌ غير مرئية تربط الكون
تخيّل أن لديك زوجًا من القفازات، وضعت أحدهما في صندوق وأرسلته إلى الجانب الآخر من العالم. حين تفتح الصندوق الأول وترى قفازًا يمينًا، تدرك فورًا أن الآخر هو الأيسر، حتى لو لم تره بعينك. التشابك الكمومي يشبه هذه القصة، لكنه أغرب بكثير، لأن الحالة لا تكون محددة إلا في اللحظة التي تُراقب فيها أحد الجسيمين، عندها فقط تتحدد حالة الآخر بشكل فوري مهما بعدت المسافة بينهما.
هذا التشابك يتحدى أفكارنا التقليدية عن الزمن والمسافة، ويطرح أسئلة عميقة: هل الكون حقًا منفصل أم أن هناك روابط عميقة غير مرئية تجمع بين كل شيء في هذا العالم؟ وكيف نفسر ذلك مع حدود النسبية حول سرعة الضوء الغير محترمة في هذه الظاهرة؟
:
هذه الظاهرة تُستخدم حاليًا في تأمين الاتصالات بأقصى درجة من السرية، حيث يستحيل اختراق المعلومات دون أن يلاحظ المُرسل والمُستقبِل ذلك على الفور. وهي أساس التشفير الكمومي في اتصالاتنا الحديثة.
3. تأثير المراقب ومبدأ عدم اليقين: الحقيقة الهاربة
تخيّل أنك تحاول مراقبة فراشة جميلة دون إزعاجها . ولكن بمجرد الاقتراب منها، تطير بعيدًا، أو أنك تسير في الظلام لتحدد موقع بلونة التي مجرد ان تلمسها تغير موقعها، في العالم الكمومي، مجرد محاولة رصد جسيم مثل الإلكترون تجعله يغيّر من المعلومات عنه، فإذا حدّدت موقعه بدقة، تفقد إمكانية تحديد سرعته بدقة أيضًا، وهكذا دواليك.
يطرح هذا التساؤل حول حدود المعرفة البشرية: هل بمقدورنا معرفة الحقيقة الكاملة، أم أن محاولتنا لرؤيتها هي ما يغيّرها؟ وهل الحقيقة فعلاً مستقلة عن إدراكنا أم هي نتاج تفاعلنا معها؟
تستخدم هذه المبادئ في تطوير أدوات دقيقة مثل المجاهر الإلكترونية المتقدمة، وأجهزة الاستشعار التي تستطيع كشف التغيرات الدقيقة جدًا في العالم من حولنا، بفضل الفهم العميق لهذا المبدأ الكمومي.
كل واحدة من هذه الظواهر تُذكّرنا بأن الواقع أغرب بكثير من أي خيال. ربما لن نصل أبدًا لفهمٍ كامل لكل شيء، لكن متعة الاستكشاف، والتفكير، والتأمل في هذه الأسرار هو ما يجعلنا بشرًا حقيقيين نتلمس قوانين الكون الذي نعيش في ركن نائي منه . فما رأيك أنت، هل هذه الظواهر هي نهاية الغرابة في الفيزياء، أم أن الكون لا يزال يخفي لنا الكثير من الأسرار التي لم نكتشفها بعد؟