لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
في البدء لم يكن هناك وجع، بل انسيابٌ دافئ يشبه الحلم، كأن الوجود بأكمله سريرٌ من نعاس. كانت الحياة تمضي على إيقاع الغريزة، لا سؤال فيها ولا دهشة، لا معنى ولا حاجة للمعنى. ثم جاء الوعي. لا كضيف مرحّب به، بل كزلزال. لا كنعمة تُطمئن، بل كنقمة تنزع الغشاوة عن العينين، وتضع في اليد مرآة لا ترحم.
الوعي ليس حدثًا عارضًا في سيرة الكائن البشري، بل هو جوهره الحيّ، وشرطه المؤلم. ليس مجرد إدراك للعالم، بل افتضاح للذات أمام ذاتها. إنه ذلك النور الداخلي الذي لا يُمكن إطفاؤه بعد اشتعاله، والذي لا يضيء الأشياء بقدر ما يكشف قبحها أحيانًا، وزيفها كثيرًا، وهشاشتنا في مواجهتها دائمًا.
الوعي بوصفه زلزال داخلية
منذ اللحظة التي يسأل فيها الإنسان "من أنا؟"، تبدأ رحلته في الغربة. الغربة عن الجماعة، عن المألوف، عن السذاجة التي كانت تمنح دفء الطمأنينة. الوعي هو لحظة الانكسار الأولى، حيث لا تعود الأشياء كما كانت، ولا يعود القلب قادراً على التصفيق لما كان يصفق له من قبل. هو تمردٌ صامت، لكنه عميق، لأنّه يُحدث في الداخل انقلابًا لا صوت له، لكنه يهدم المعابد القديمة واحدًا تلو الآخر.
من يرى، لا يستطيع أن يتظاهر بالعمى. ومن عرف، لا يستطيع أن يتورّع عن الألم. فالمعرفة لا تأتي وحدها، بل تحمل معها تبعاتها: العزلة، القلق، الخوف، الشك، وربما الحنين العميق إلى جهلٍ لم نعد نملكه.
الحيوانات تنام ملء جفونها لأن الغريزة تكفيها. الأطفال يضحكون لأنهم لم يعرفوا بعد أن الضحك أحيانًا قناع. أما نحن، فإننا نبتسم ونحن نحمل سؤال الوجود على أكتافنا. نحاول أن نعيش، ونحن نعلم أن الحياة هشة، وأن كل ما نحبّه عابر، وأن الزمن ليس حليفًا لأحد. هذه المعرفة لا تُسعد، لكنها تشرّف، لأنها تجعلنا نعيش لا ككائنات بيولوجية، بل ككائنات واعية — أي مأساوية، بامتياز.
الوعي لا يمنحك مفاتيح السعادة، بل يمنحك مفاتيح السجن — سجن الإدراك، حيث لا يُمكنك خداع نفسك مجددًا. لكنه في الوقت نفسه، يفتح لك باب الحرية. حرية أن تكون صادقًا، حتى ولو كانت الصدق مؤلمًا. حرية أن ترفض، أن تنقد، أن تبني ذاتك من داخل الحطام. حرية أن تخلق، لا لأنك تؤمن بالكمال، بل لأنك تعرف أنه غير موجود.
في مجتمعات تسودها القوالب والتكرار، يصبح الوعي نوعًا من الانشقاق الصامت. أن تكون واعيًا هو أن ترفض أن تعيش كنسخة كربونية، وأن تتحمّل تبعات هذا الرفض: الوحدة، العزلة، وربما التهميش. لكنه أيضًا أن تحب بصدق، أن تتألم بصدق، أن تمشي في طريقك ولو وحدك.
هناك لحظات نشتاق فيها إلى البراءة الأولى، إلى الغفلة النعيمة، إلى لحظةٍ لم نكن نعرف فيها أن الوجود هشّ، وأن الموت قادم، وأن الحب لا يحمي، وأن العدالة فكرة إنسانية أكثر من كونها حقيقة كونية. لكننا لا نعود كما كنا. المعرفة لا تُنسى. والوعي لا يُمحى. هو باب يُفتح من جهة واحدة، وإذا ما دخلته، لن تعود.
نحن لا نحسد الجاهلين لأنهم أذكى، بل لأنهم أقل وجعًا. لكننا لا نستطيع أن نحسدهم بصدق، لأن في داخلنا قناعة دفينة أن هذا الوجع، رغم ثقله، أكثر نبلًا من النعاس الوجودي الذي يعيش فيه البعض دون أن يشعر.
الوعي هو مقام التورط. تورّط في الأسئلة، في الشك، في الرؤية. هو أن تعرف أن لا إجابة مطلقة، ومع ذلك تستمر في طرح الأسئلة. أن تفهم أن المعنى لا يُعطى جاهزًا، بل يُصنع — وأن صناعته وجعٌ يوميّ. أن تُدرك أنك ضعيف، ومتناقض، وهشّ، ورغم ذلك تصرّ على أن تحب، وتكتب، وتغني، وتصنع الجمال من قلب الهاوية.
نحن لا نُجَرَّح بالوعي لأننا فاسدون، بل لأننا بشر. لأنه كلّما اشتدت يقظتنا، ازداد وعينا بأن العالم ليس مصمَّمًا لطمأنينة الإنسان الواعي. لذلك تصبح الكتابة، والموسيقى، والرسم، والفلسفة، أفعال مقاومة، ليست للفراغ فقط، بل لترويض الجرح، للعيش مع الألم دون أن نخونه، ودون أن نخون أنفسنا.
الوعي ليس هدية ناعمة من السماء، بل جرحٌ مفتوح من الوجود ذاته. لكنه الجرح الذي يجعلنا نكتب لاختراع المعنى، نحلم لإعادة بناء الأمل، نحزن لأنّنا نحب، ونحب رغم أنّنا نعرف أن لا شيء يبقى. إنه البرق الذي يمزّق ظلمة الجهل، لكنه لا يعدنا بالدفء، فقط بالرؤية. ومن رأى، صار مسؤولًا عن رؤيته.
فلنحمل هذا الوعي، لا كوصمة، بل كوسام. لأنه يحررنا من الزيف، ويقودنا إلى أنفسنا، حتى وإن لم يكن الطريق معبّدًا. فأن تكون واعيًا، يعني أن تكون حرًا. وأن تكون حرًا، يعني أن تختار الحقيقة، حتى حين تُوجعك.
إبراهيم الهجري