لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
العنصرية الطبقية في اليمن ليست وليدة اليوم، لكنها ما تزال تنبض بقوة في كثير من مفاصل المجتمع، خصوصًا حين يتعلق الأمر بالزواج. ففي كثير من المناطق، ما يزال "القبيلي" يُمنع من الزواج من فئات مهنية مثل "المزاينة" (الحلاقين) أو "الجزارين" أو غيرهم، مهما بلغ الطرف الآخر من الدين، والعلم، والأخلاق.
هذه المشكلة تتجاوز كونها مسألة عرفية إلى كونها جورًا اجتماعيًا متجذرًا يتعارض مع جوهر الإسلام وكرامة الإنسان، ويقوّض إمكانيات بناء مجتمع متماسك.
في هذا المقال، نناقش أسباب الظاهرة، ونسلط الضوء على آثارها السلبية، ثم نقدم مقترحات عملية لمعالجتها.
أولًا: جذور المشكلة
الإرث القبلي المتصلب:
تقوم بعض الأعراف القبلية على تراتبية تُصنّف الناس بحسب المهنة، وليس بحسب قيمتهم الإنسانية. فتصبح "القبيلة" مرجعية الحكم لا الدين ولا العقل.
غياب الدولة وتراجع سلطة القانون:
ضعف حضور الدولة في الريف والقبائل أتاح للأعراف أن تحل محل القانون، فصار "العُرف" هو الفيصل، لا النصوص الشرعية.
العزلة الاجتماعية والتعليمية:
الفئات المصنفة بـ"الطبقات الدنيا" غالبًا ما تعيش في عزلة اجتماعية وتعليمية، مما يعمّق الصور النمطية ويُضعف فرص التغيير.
سوء الفهم الديني:
كثير ممن يمارسون هذا التمييز يستشهدون بأحاديث ضعيفة أو مفاهيم دينية مغلوطة، مثل "تخيّروا لنطفكم فإن العرق دساس"، متجاهلين أن ميزان الإسلام هو التقوى لا النسب.
ثانيًا: الآثار السلبية
تفكك النسيج الاجتماعي:
العنصرية الطبقية تعمّق الانقسام، وتمنع تكافؤ الفرص، وتخلق مجتمعًا مزدوج المعايير.
الحرمان العاطفي والظلم الأسري:
يُحرَم كثير من الشبان والفتيات من الزواج بمن يحبّون أو بمن يناسبهم أخلاقيًا وعلميًا بسبب "اللقب" أو "المهنة".
تهديد للهوية الإسلامية:
الإسلام لم يضع الطبقية معيارًا في الزواج، بل قال ﷺ: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه..." [الترمذي، حسن].
ثالثًا: مقترحات عملية للحل
1. إصلاح الخطاب الديني
يجب أن يتبنى العلماء والدعاة موقفًا واضحًا ضد التمييز الطبقي.
تخصيص خطب الجمعة ودروس المساجد للحديث عن المساواة في الإسلام وأهمية نبذ العصبية الجاهلية.
توضيح أن الأحاديث المستخدمة لتبرير التمييز (كـ "العرق دساس") هي إما ضعيفة أو أُسيء فهمها.
2. تعزيز التعليم التشاركي
تشجيع التعليم المشترك بين أبناء القبائل والمِهَن لتقليص الحواجز النفسية والاجتماعية.
دعم برامج توعية مدرسية وجامعية حول الكرامة الإنسانية والحقوق المتساوية.
3. إنتاج محتوى إعلامي مؤثر
إعداد مسلسلات، أفلام، ومنشورات رقمية تُجسّد قصصًا حقيقية عن ظلم التمييز الطبقي.
إبراز نماذج من زواجات ناجحة بين فئات مختلفة لتفكيك الصورة النمطية.
4. دعم مبادرات زواج عادلة
إنشاء منصات زواج قائمة على الكفاءة الدينية والعلمية، وليس على الانتماء الطبقي.
دعم الأسر التي تكسر الحواجز الطبقية وتشجع الزواج على أساس المساواة.
5. سن تشريعات تحظر التمييز
في حال كانت هناك دولة فاعلة، يجب تقنين قوانين تحرّم التمييز في الزواج وتمنح المواطنين حقوقهم في اختيار شريك حياتهم دون وصاية عرفية.
رابعًا: موقف الشريعة بوضوح
الإسلام جاء ليُحرّر الإنسان من أصنام الجاهلية، ومنها العصبية للقبيلة أو للمهنة.
قال الله تعالى: "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" [الحجرات: 13].
وقال ﷺ: "دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَة" [صحيح مسلم] في ذم العصبية الجاهلية.
الصحابة أنفسهم تزاوجوا من خارج قبائلهم، ومنهم من تزوّج من مولى أو أَمَة، وكان معيارهم الدين والخُلق، لا الأصل ولا النسب.
خاتمة
إن استمرار التمييز الطبقي في الزواج يسيء إلى إنسانية اليمنيين وإلى دينهم في آنٍ معًا.
ولا بد من وقفة شجاعة تبدأ بإعادة النظر في الموروث، وتثبيت القيم الإسلامية الحقيقية، وبناء وعيٍ اجتماعي عادل يحرر الإنسان من قيد اللقب، ويعلي من قيمة الأخلاق والعلم والدين.
فالمجتمع الذي يقيس الناس بأسمائهم لا بعقولهم، وبأنسابهم لا بأعمالهم، هو مجتمع يحكم على نفسه بالجمود والتخلف.
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ }
[سُورَةُ لُقْمَانَ: ٢١]