لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
من النادر أن تجد مدينة في التاريخ، مهما كانت صغيرة أو منعزلة، لم تحتضن معبدًا أو طقسًا دينيًا. وكأن حضور الدين في حياة الإنسان قديم قدم الوعي ذاته. فمنذ أن بدأ الإنسان يتساءل عن سرّ الموت، وعن مصير أحبائه الراحلين، ومنذ أن نظر إلى السماء وتأمل في النجوم والكواكب والرياح والنار والولادة والغياب، بدأ يبحث عن قوة أكبر منه، قوة يشعر أنها خلف هذا الكون العجيب.. ترعاه وتحميه، وتمنحه شعورًا بالطمأنينة في وجه فوضى الحياة وتقلباتها.
الإنسان، بفطرته الأولى النقية، يحمل توقًا أصيلاً إلى المعنى. وهذا التوق لا يرويه العلم وحده، ولا تسكّنه التكنولوجيا، ولا تفسّره المادة الجامدة. هناك دائمًا سؤال متجاوز، يرافقه في يقظته ومنامه: لماذا نحن هنا؟ ما الغاية؟ من أنا؟ إلى أين المصير؟
في أعماق الإنسان، يسكن ميل دفين نحو التقديس. ميلٌ لم يتعلّمه، بل وُلد معه. تقديس القوة العليا، خالق الحياة، ذلك الذي وراء السماء والكواكب والبحار والمطر والموت والولادة، لا يبدو نتيجة تعليم خارجي، بل أشبه ما يكون بنداء داخلي يستيقظ كلما سكتت ضوضاء الحياة.
من هنا، يمكننا أن نفهم كيف نشأت الأديان في كل حضارة: بعضهم عبد الشمس، وآخرون قدّسوا الكواكب أو أرواح الأسلاف أو الأبقار أو النساء.. لم يكن ذلك خرافةً محضة بقدر ما كان محاولة بشرية لفهم مظاهر القوة التي يرونها حولهم، ولإضفاء النظام على الفوضى.
الدين، بهذا المعنى، ليس مجرد منظومة طقوس وأحكام، بل هو استجابة وجودية عميقة لسؤال العجز والضياع. إنه بحث عن المعنى، عن الأمان، عن العدالة المطلقة التي لا تتحقق في هذه الحياة غالبًا، بل تُرجأ لما بعدها.
تأثير الأديان في تفاصيل الحياة اليومية لا يحتاج إلى برهان: من الزواج والعلاقات الاجتماعية، إلى نظم الاقتصاد والسياسة، إلى مفاهيم الأخلاق والخير والشر. سواء كانت الأديان توحيدية تُؤمن بإله خالق، أو أخلاقية تُؤسِّس للضمير والواجب، فإنها جميعًا شكّلت الإطار الرمزي والثقافي لسلوك الإنسان عبر التاريخ.
حتى اليوم، ما زال كثير من عقود الزواج، والميراث، والتبني، والمواثيق، والقوانين، بل وحتى الأعياد، تحمل في طياتها جذورًا دينية واضحة. وكأن الإنسان، مهما تطور علميًا، لا يزال يحمل في قلبه آثار تلك النار الأولى التي أشعلها السؤال الديني.
تتحد الأديان الإبراهيمية الثلاثة – اليهودية والمسيحية والإسلام – في جوهرها حول التوحيد، الإيمان بالله، وباليوم الآخر، وبمفهوم النبوة والوحي، وتحث على العمل الصالح، وتبشر بالحياة الآخرة كميزان للعدل النهائي. الإسلام، كما جاء في القرآن، يرى أن هذه الأديان تتشارك في الأصل، ويسمّي المؤمنين بها جميعًا بـ"المسلمين" من حيث جوهر الإيمان والتسليم لله.
لكن الإشكال لا يكمن في النصوص الدينية ذاتها، بل في طريقة قراءتنا لها.
ما يثير التوتر بين الدين والحياة الحديثة ليس وجود الدين، بل طريقة فهمه. بين من يتمسك بالحرفية الجامدة للنصوص دون نظر في سياقاتها ومقاصدها، ومن يجنح إلى تأويل متشدد ينكر تحولات الزمن والواقع، تبرز الحاجة الملحّة لإعادة النظر.
الدين ليس قوانين جامدة، بل مبادئ كبرى تنزل على واقع البشر لتمنحه صبغة أخلاقية وإنسانية. فيه ما هو ثابت خالد، كالعدل والرحمة وحرمة الدماء، وفيه ما هو مرن ومتحرك، كالاجتهادات الفقهية والاجتماعية التي تختلف باختلاف البيئات والعهود.
وهنا تبرز الإشكالية الكبرى: كيف نميز بين ما هو قطعي خالد، وما هو اجتهادي زمني؟ كيف نفرّق بين جوهر الدين، وبين تأويلات البشر له؟ هذه الأسئلة ليست ترفًا فكريًا، بل مصيرية.. لأنها تحدد مستقبل التعايش، وحدود التسامح، وإمكانية اندماج الإنسان المتدين في عالم معولم سريع التغير.
بعيدًا عن الصراعات التاريخية والتفسيرات المتشددة، يظل الدين – حين يُفهم في روحه – قوة هائلة لتحرير الإنسان من عبودية المادة، ومن غربة الذات، ومن ضياع المعنى. هو دعوة دائمة للعودة إلى الفطرة، إلى الصدق، إلى الحب، إلى العدالة، إلى المعنى.
وفي زمن تزداد فيه الحيرة، وتُضرب فيه القيم عرض الحائط، ربما آن الأوان أن نعيد النظر في الدين، لا كمجموعة من الطقوس، بل كرافعة إنسانية وأخلاقية وتعليمات عليا، وكمشروع متجدد لفهم الذات والكون والحياة.