لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
فيما مضى، كانت المنطقة العربية مهبطًا للرسالات السماوية، ومنارةً للأنبياء والمصلحين، ومسرحًا للحضارات التي غيّرت وجه التاريخ الإنساني. من هذه الأرض خرج إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، وفيها وُضعت اللبنات الأولى للعدالة والرحمة والتوحيد. غير أن هذه الجغرافيا، التي كانت يومًا مهدًا للروح، تحوّلت في العقود الأخيرة إلى ميدان للغارات الجوية، ومستقرٍ للقواعد العسكرية، ومسرحٍ لصراعات إقليمية ودولية تُدار بالوكالة. هذه المفارقة المأساوية تستدعي وقفة تأمل: كيف انحدرت هذه الأرض من كونها مصدرًا للمعنى إلى مجرد ساحة لفرض الهيمنة؟
لم يكن هذا التحوّل وليد لحظة، بل نتيجة تراكم تاريخي طويل، لعب فيه الاستعمار الخارجي دورًا مركزيًا، لكن الأخطر من ذلك كان في ترسخ أنظمة داخلية تفتقر إلى المشروعية والتماسك الوطني. صحيح أن الاستعمار الغربي قد انسحب عسكريًا في منتصف القرن العشرين، غير أن آثاره البنيوية ظلّت حاضرة بقوة؛ فقد ترك خلفه خرائط مرسومة على الورق لا تعبّر عن هويات ناضجة أو كيانات راسخة، وأسّس لدول ضعيفة تُدار بنخب مرتبطة به ثقافيًا واقتصاديًا أكثر من ارتباطها بشعوبها.
هذه النخب، التي تولت الحكم بعد الاستقلال، فشلت في بناء دولة وطنية حقيقية؛ إذ اختزلت مفهوم الدولة في مؤسسات أمنية تهدف إلى السيطرة لا إلى الخدمة. تم تفريغ السياسة من محتواها التعددي، وتحولت السلطة إلى غنيمة يتنازعها من يملك القوة لا من يمتلك الرؤية. غابت العدالة، وتراجعت التنمية، وسادت البيروقراطية والفساد، وفُقد الرابط العضوي بين الدولة والمجتمع.
في ظل هذا الفراغ، تراجعت الهوية الجامعة، وبرزت الهويات الفرعية: الطائفية، العشائرية، والمناطقية. لم يكن ذلك مجرد عودة إلى الهويات التقليدية، بل انتحار للهوية الوطنية الحديثة التي لم تنجح الأنظمة في بنائها. حين تغيب العدالة، تصبح الطائفة ملاذًا نفسيًا، والجماعة بديلًا عن الوطن، وهو ما أدّى إلى تفكك النسيج الاجتماعي، وتحوّل الدول إلى جزر متنازعة على أرض واحدة.
من جهة أخرى، لم يقم التعليم بدوره كمحرّك للوعي والتقدّم، بل تحوّل إلى أداة للسيطرة الذهنية. فقد تأسست منظومات تعليمية جامدة، تقوم على الحفظ والتلقين لا على التفكير الحر، وتُكرّس الخضوع بدلًا من النقد. هكذا نشأت أجيال متصالحة مع الجهل، ومُنفصلة عن العالم، ومأسورة بإرث غير مفكّك. الإعلام، بدوره، عزّز هذه البنية، فبثّ خطابًا يتراوح بين الترفيه السطحي والدعاية الرسمية، في حين غاب الفكر الجاد والنقاش المفتوح.
ضمن هذا السياق المأزوم، لا يُستغرب أن تتفاقم مظاهر التطرف الديني والسياسي، وأن تصبح المجتمعات العربية بيئة خصبة للعنف باسم المقدس، أو القمع باسم الاستقرار. العلاقة بين القمع والتطرّف علاقة تبادلية، فكلّما ضاق المجال العام واحتُكرت السلطة، بحث الناس عن مخارج بديلة، وغالبًا ما تكون راديكالية. وما إن يظهر التطرّف، حتى تستخدمه الأنظمة لتبرير مزيد من القمع، وهكذا تدور الدائرة.
وتزداد هذه الأزمة تعقيدًا في ظل دخول التكنولوجيا الحديثة إلى فضاءٍ هش، لا يمتلك أدوات وعي تؤهله لاستخدامها كرافعة معرفية. فتحوّلت شبكات التواصل الاجتماعي إلى ساحات للتراشق والتضليل، بدلًا من أن تكون منصات للنقاش الحر والتنوير. صار الرأي العام هشًّا، سريع الانفعال، وقابلًا للاختراق، فيما تراجعت المنابر الفكرية الجادة، وفُقدت القدرة على التمييز بين الرأي والمعلومة، بين الحقيقة والدعاية.
وسط كل ذلك، تُصبح الطائرات الأمريكية رمزًا دالًا على اختلال السيادة وفقدان القرار، فوجودها الكثيف في سماء المنطقة، ومعها القواعد والأساطيل، ليس مجرد تعبير عن توازن عسكري، بل عن انهيار عميق في المشروع السياسي العربي. لم تعد دولنا فاعلة في صنع القرار، بل باتت ساحات للصراع بين اللاعبين الكبار. وما يُراد له أن يبدو “استقرارًا استراتيجيًا” ما هو إلا شكل آخر من أشكال الهيمنة وإدامة التفكك.
إذن، لا يكمن الجواب في لوم الخارج وحده، ولا في جلد الذات فحسب، بل في الاعتراف بأننا أمام مشروع معطّل، وأن مفتاح الخروج من هذا النفق يبدأ من استعادة الوعي قبل استعادة الأرض. لا يمكن بناء أوطان حرة في ظل أنظمة تكره العقل، ولا يمكن تحقيق تنمية في مجتمعات لا تثق بالعلم، ولا تنهض أمة بلا مشروع معرفي يعيد تعريف الإنسان العربي لا كمفعول به في الجغرافيا، بل كفاعل في التاريخ.
إن الحاجة اليوم ماسّة إلى ثورة عقلية ومجتمعية، لا تبحث عن وهم الخلاص السريع، بل تؤمن بإعادة البناء الطويل، الذي يبدأ من التعليم والعدالة والحرية، ويمر بإصلاح العقد الاجتماعي، ويصل إلى بناء سيادة حقيقية على القرار والثروة والمعرفة. عندها فقط، قد تعود هذه الأرض مهبطًا للمعنى، لا مهبطًا للطائرات