لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
في عالم تتسارع فيه التحولات التقنية والإعلامية، لم تعد وسائل الإعلام والثقافة والوعظ والتوجيه مجرد نوافذ تُطلّ على الواقع، أو مرآة تعكسه كما هو. لقد تجاوزت هذه الأدوات دورها التقليدي، وتحوّلت تدريجيًا إلى آليات صلبة لإعادة تشكيل الإنسان من الداخل؛ أدوات تُطوّع الأذهان وتُهندِس العقول لتكون حاضنة لأفكار مختارة، أُريد لها أن تسود وتتمدد وتُستبطن في الوعي الجمعي دون مقاومة.
فما الذي حدث؟
ولماذا أصبح الإعلام — في كثير من تجلياته — أشبه بمطرقة لا مرآة؟
ولماذا نبدو وكأننا نخضع طواعية، لا لقوة مادية، بل لقوة رمزية ناعمة تتغلغل في عقولنا وتعيد تشكيل وعينا من دون أن نشعر؟
حين نتمعن في الأدوات التي تُسهم في تكوين الوعي — كالمناهج الدراسية، الخطاب الديني، الترفيه، الإعلام، وحتى الإعلانات — ندرك أن أغلبها لم يعد محايدًا ولا بريئًا. فبدل أن تعكس واقعنا، أو تُثري وعينا الحر، أصبحت في كثير من الأحيان تُنتج واقعًا موازيًا، موجهًا، بل مُصممًا بعناية لخلق نمط معين من التفكير والسلوك.
تُصبغ الرسائل الإعلامية والثقافية بجرعات متكررة من التوجيه، حتى وإن جاءت مغلّفة بأقنعة الترفيه أو النصح أو التسلية. شيئًا فشيئًا، يُعاد تشكيل الدماغ البشري ليستوعب تلك الرسائل على أنها "طبيعية" أو "منطقية"، حتى يصبح الفرد قابلًا — نفسيًا وعصبيًا — لقبولها دون مقاومة.
بهذا المعنى، فإننا أمام عملية إعادة تهيئة ذهنية أشبه بما يشهده الحاسوب عند إعادة ضبطه: يتم مسح القديم وزرع الجديد، ولكن من دون وعي المستخدم.
وسط هذا الواقع، يظل العقل البشري هو آخر قلاع الحرية الفردية. إنه "قدس أقداس" الإنسان، ومركز مقاومته الأخيرة أمام التوجيه القسري والتطويع الناعم. ولهذا السبب بالذات، تتكثف الجهود الرمزية والثقافية والإعلامية لاختراقه، لا بقوة السلاح، بل بلغة الصورة، والتكرار، واللغة الناعمة، والنماذج القدوة، والمحتوى "اللطيف".
لهذا، وجب علينا أن نطلق هذا النداء: احموا عقولكم.
لا تسمحوا لأحد أن يقتحمها ويمارس سلطته عليها دون مساءلة.
افحصوا ما يدخل عقولكم قبل أن يستقر في وجدانكم ويصبح جزءًا منكم.
ولعلّ الخطر الأكبر لا يكمن في أنفسنا فقط، بل في أطفالنا.
عقولهم الطرية، النقية، المُتلقية بطبيعتها، هي الأكثر عرضة للقولبة الخفية.
منذ نعومة أظفارهم، يُعرضون لسيلٍ من الرسائل المرئية والمسموعة والمناهج الجاهزة التي تتسلل إلى وعيهم من دون أن تمر على مصافي النقد أو الحذر.
نحن نظن أننا نربيهم، بينما تقوم مئات "المنصات" و"المؤثرين" و"البرامج" بزراعة أفكار كاملة في أعماقهم.
وقد لا ننتبه لما زُرع فيهم إلا حين يكبرون، فنكتشف أننا أمام جيل لا يشبهنا، ولا يشبه ذاته الأصلية.. جيل جرى تشكيله في غفلتنا.
إنّ معركة الإنسان المعاصر لم تعد مع طغيان السلاح، بل مع طغيان المعنى؛ لم تعد مع الأنظمة فقط، بل مع البُنى الرمزية التي تصوغ وعيه كل يوم.
إنّ استرداد عقولنا، وعقول أطفالنا، لا يتم بالصراخ ولا بالانسحاب، بل بالوعي، بالنقد، وبإعادة تشكيل أدوات الثقافة نفسها.
فإما أن نُعيد الإمساك بمطرقة الوعي لنصوغ ذواتنا بحرية، أو نستمر في التشكُّل قسرًا على أيدي أدوات لا نعرف من صنعها ولا ما غايتها.